القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الأربعون 40بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

 

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الأربعون 40بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات





رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الأربعون 40بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



ـ ٤٠ ـ


~ الملاذ الأخير ~


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


مساءًا .. 


كانت نغم لا تزال حبيسة غرفتها منذ انتهاء الزفاف وعودتهم إلى المنزل، حتى أنها اعتذرت عن طعام الغداء، أما فريد، والذي كان يجلس بغرفته على حافة السرير، واضعًا رأسه بين يديه. يشعر وكأنه خرج للتو من معركة لم يخضها بسيف، بل بخفقات قلبه. أنفاس نغم، لمسة يدها، دفء قربها، كلها ما زالت عالقة بذاكرته، تدق على جدران قلبه بعنف.


لكن في الجهة الأخرى، كان صوت عمر حاضرًا في رأسه، 

وهو يعترف له أنه واقعًا في حب نغم، وأن نغم قد تجاوزت حبها له بعد ما كان .. ولكنه كان يشعر أن هذا الأمر بعيد جدا عن الحقيقة، عار عن الصحة تماما.. 


كان مشدوهًا، يحدق في الفراغ، تتناوب داخل رأسه صور نغم وهي تدور بين ذراعيه بخفة كأنها تحلّق في فضاء لا يخص سواهما، كل خطوة تجاهه كانت تنطق بولهٍ مكتوم، وكل التفافة تزيدها اقترابًا منه حتى بدا وكأن المسافة بين قلبيهما قد تلاشت. 


عيناها، اللامعتان بدمعٍ محبوس، لم تفلتاه لحظة، كانت تحاوطه بنظراتها وكأنها تخشى أن يذوب من بين يديها. أما أنفاسها المرتجفة، فقد تساقطت باعترافاتٍ غير منطوقة؛ تقول له إنه الوحيد الذي امتلكها، إنه المستقر الذي بحثت عنه طويلًا. 


قلبها، بكل خفقاته المضطربة، صار أسيرًا بين يديه، يعلن انتماءه له وحده، لا شريك ولا بديل.


وهنا انقبض صدره بسؤال واحد ظلّ يتردّد فيه بإلحاح: "إن لم يكن هذا حبًّا، فما هو إذن؟"

أيمكن أن يكون كل ما رآه وهماً؟ أيمكن أن يكون ما شعر به خداعًا لعينٍ متلهّفة أو قلبٍ عطِش؟ كيف تُنكر الألسن ما تشهد به الأرواح؟


ارتجف قلبه بين المطرقة والسندان: عقل يحاول إقناعه أن يصدّق أخيه، وقلب يثور معلنًا أن نغم لا يمكن أن تمنح تلك النظرات، وذلك الارتباك، وتلك اللهفة لغيره.


فبأيّ منطق يُكذّب ما شهدته عيناه، وما سمعه صدره من خفقات قلبها؟


شعر أن صدره يضيق أكثر فأكثر، وأن الصمت لم يعد ينقذه، بل يقتله ببطء. فنهض واقفًا، كمن انتزع نفسه من قيد ثقيل، وعزم أن يضع النقاط جميعها فوق الحروف. لا جدوى من الهروب، ولا من دفن المشاعر في سراديب القلب؛ فإن كان في ما يحمله الخير، فخير له ولها، وإن كان شرًّا، فلتنزل الصاعقة الآن قبل أن تتحول إلى طوفان لا يُبقي ولا يذر.


غادر الغرفة بخطواتٍ متثاقلة، كأن الأرض تُمسك بقدميه كي لا يخطو. وقف يتلفت حوله بملامح جامدة، لكنه في داخله كان عاصفةً هائجة. لمح نسيم وعمر وجلست بجوارهما چيلان، يضحكون ويتهامسون في زاوية في الحديقة، بينما ارتفعت عينه فجأة نحو الطابق العلوي.. حيث نغم.


هنا اشتعلت النار داخله وأخذ يتحدث إلى نفسه : لو صعدتُ الآن سأجد الحقيقة في عينيها.. سأكسر كل هذه القيود.. لكن، ماذا لو كان عمر محقًا؟ ماذا لو أنني كنت أقرأ الوهم في نظراتها؟ ماذا لو كان قلبي يخدعني؟ 


ازدحمت الأسئلة في رأسه كأصوات متصارعة، كل سؤال يولّد آخر، وكل شك يبتلع يقينه. أحس أن صدره يضيق، كأن جدارًا خفيًا يُطبق عليه، وأن كل لحظة يتردد فيها تُثقل كاهله أكثر.


مد يده نحو الدرابزين، تردّد.. رفع قدمه ليصعد، لكنه تجمّد في مكانه. كان عقله كقاضٍ قاسٍ يرفض أن يمنحه البراءة، يطالبه بالدليل القاطع، بالإجابة النهائية التي لا تقبل شكًا.


ظل واقفًا هناك، ممزقًا بين شوقٍ يجرّه إلى الأعلى، وصوتٍ داخليّ يسحبه إلى الأسفل.


وفجأة، التفت على صوت چيلان التي تحدثت خلفه وهي تخطو نحو السلم :

ـ فريد .. أنا حجزت على طيارة كمان ساعتين ، ممكن بعد إذنك توصلني المطار ؟!


التفت ونظر إليها بهدوء وقال :

ـ ليه مستعجلة ؟!


فابتسمت بخفة وقالت :

ـ ملوش داعي تضييع الوقت أكتر من كده .


تنهد وأومأ، ثم قال :

ـ تمام .. اجهزي وهوصلك حاضر .


أومأت مبتسمة بامتنان، ثم انسلت إلى الطابق الثاني لتتهيأ، بينما هو تراجع بخطواتٍ ثقيلة إلى غرفته، التقط مفاتيح سيارته على عجل، ثم خرج إلى الحديقة. هناك، اخترق أذنيه صخب ضحكات نسيم وعمر، لكنه لم يزد عن تحية مقتضبة، وكأن كلماته تتفلت من بين شفتيه بغير رغبة. واصل طريقه نحو سيارته، جلس خلف المقود، مدّ يده إلى المفتاح، غير أن عينيه انجذبتا بلا وعي نحو النافذة العلوية.


رآها هناك… واقفةً، ذراعاها معقودتان أمام صدرها، كتفها مستند إلى النافذة، تحدّق نحوه بثباتٍ صامت. للحظةٍ خُيّل إليه أن المسافة بينهما تلاشت، وأن كل ما في الكون انحسر في تلك النظرة. فوقف ينظر إليها بنفس الثبات الصامت ، متمنيًا أن يقول لها الكثير والكثير ..


خرجت چيلان بخطوات هادئة، جلست في المقعد الأمامي دون أن تنطق بكلمة، فيما كان هو يدرك تمامًا أن نظرات نغم ستظل مسلطة عليه حتى آخر لحظة، كأنها تلاحقه لتقتحم ما يحاول إخفاءه.


دخل السيارة مضطرًا، أشعل المحرك، وانطلق مبتعدًا. ومع كل متر يقطعه، كان يشعر بثقل النظرة التي تركتها نغم خلف النافذة، تلك النظرة التي التصقت بروحه كوشمٍ لا يُمحى.


أما هي، فقد بقيت عند النافذة تتابع أثر السيارة وهي تتلاشى، تحاول عبثًا أن تسكت الضجيج الذي ثار في صدرها… ذلك الضجيج الذي يفضحها لنفسها قبل أن يفضحها له: قلبها يخفق كما لم يخفق من قبل، وعقلها يصرخ محاولًا أن يكمم ذلك الشعور الذي لا ينبغي أن يُسمع ولا يُعاش.


---------


بينما عمر ونسيم كانا يتابعان رحيل چيلان بصمت، ثم قال عمر :

ـ إيه رأيك في أدائي النهارده ؟ عالي أوي مش كده ؟


نظرت إليه مبتسمةً باستسلام وقالت :

ـ بصراحة عالي لدرجة أن فريد أهو مش طايق يبص في وشنا .


ضحك ضحكةٍ عابثة، وتابع:

ـ شوفتيهم وهما بيرقصوا ؟! كان هاين عليا أقف قدام الناس كلهم وأسقف لهم وأقولله الله أكبر عليك إيه الحلاوة دي..


ضحكت نسيم وهي توميء مؤكدةً حديثه، وقالت:

ـ معاك حق ، لايقين على بعض بشكل مش طبيعي.. 


ثم تنهدت واستطردت :

ـ يا رب بس حد منهم يتكلم قبل ما أتجلط ..


ـ هيتكلموا ، بس لازم نديهم الفرصة إنهم يكونوا لوحدهم .. إيه رأيك نخرج بكرة أنا وانتي الصبح نتمشى يمكن ربنا يبعت الفرج من عنده ويفك عقدة لسانه وينطق !


نظرت إليه وابتسمت، ثم جذبت وجنتيه بين يديها بعبث وهي تقول :

ـ يخواتي على الحلو الصغنن اللي بيفكر ويتعب من أجل سعادة الآخرين .


نزع يدها عن وجنته بحنق وهو ينظر إليها متجهمًا ويقول :

ـ إيه صغنن دي هو انتي شايفاني قاعد قدامك والريالة بتسقط من بؤي ! 


ثم تابع مستعرضًا بثقة :

ـ يا بنتي أنا لو كنت أتجوزت بدري شوية كان زماني عندي عيال طولك كده !


علت ضحكاتها فضحك بدوره ، ثم قال:

ـ تيجي نكلم حسن !! وحشني أوي ابن سالم مرسال.


ابتسمت وأومأت بحماس، فقام عمر بالاتصال به اتصالا مرئيًا ولكنه لم يجب، وبعد قليل قام بالاتصال بهم اتصالا صوتيًا فأجاب عمر مسرعًا :

ـ واحشني يا حبيب أخوك .


على الجانب الآخر ، ابتسم حسن لكون عمر يتقمص ردوده، فقال مبتسما :

ـ وانت كمان واحشني يا برو .. 


ـ بقوللك إيه خلينا نتكلم فيديو كول ، نسيم عاوزة تشوفك كمان .


ليصلهم صوت حسن هادئًا ساكنًا على غير العادة وهو يقول :

ـ مش هينفع دلوقتي معلش أنا مش في البيت، لما أرجع هتصل عليكم .. 


نظر كلا من عمر ونسيم إلى بعضهما البعض بتعجب، ثم قالت نسيم:

ـ حسن.. انت كويس ؟


ما إن سمع صوتها حتى شعر بدمعه المتحجر يكاد ينفلت رغمًا عنه، فهمس باختناق :

ـ الحمد لله أنا كويس ، انتي عاملة إيه ؟ وحشتيني!


ـ أنا كويسة ، انت كمان وحشتني جدا وكان نفسنا نشوفك أنا وعمر ..


جاءت كلماتها البسيطة كبلسم لقلبه ، فابتسم وهو يقول :

ـ انتوا راجعين إمتا ؟ 


ـ يمكن بكرة .. لسه مفيش حاجه واضحة قدامنا ، بس على الأغلب مش هنتأخر يعني ..


أومأ عبر الهاتف، وقال :

ـ تيجوا بالسلامه ان شاء الله ، خلي بالك من نفسك، وانت يا عمر خلي بالك من نسيم ونغم .


فأجابه عمر وهو يحيط نسيم بذراعه بحنان :

ـ متقلقش ، في عينيا من جوه .


ـ يالا أشوفكم على خير .. هبقى أكلمكم بكرة ، مع السلامه.


هكذا أنهى حسن الاتصال مسرعًا، فنظر عمر إلى نسيم وتساءل متعجبًا :

ـ إيه الكروته دي ؟! هو ماله مش على بعضه كده !


ـ مش عارفه ، حاسة من صوته إنه تعبان ومخبي علينا .. 


أومأ عمر مؤكدا وقال :

ـ وأنا كمان عندي نفس الاحساس، يا ترى في إيه ؟


تنهد كلا منهما بحيرة، وظلا ينظران إلى الأفق بشرود، كأنهما يبحثان عن إجابة عالقة بين طيات السماء.

بعد دقائق، التفتت نسيم نحوه وهي تقول:

ـ تعرف.. ؟


لكنها توقفت وابتلعت باقي كلماتها عندما صُدمت برأسه مائلًا للخلف، وعيناه مطبقتان تمامًا، كأن أحدهم ضغط على زر الإيقاف المفاجئ.


ظلت تحدق فيه بذهول للحظات، ثم هزت رأسها ساخرة وقالت بصوت منخفض وهي تحاول إيقاظه : 

ـ عمر .. قوم نام جوه الجو هنا برد ..


ليجيبها وهو مغمض العينين:

ـ اطلعي انتي نامي وأنا شويه وهقوم.


أومأت، ثم نهضت وصعدت إلى الغرفة ، فوجدت نغم لا زالت جالسة خلف نافذة الغرفة، لم تتحدث.. بل اكتفت بتبديل ثيابها والدخول إلى فراشها في صمت .


༺═────────────────═༻


كان سالم ممددًا على سريره في الغرفة الخاصة به بالمشفى، ضوء النيون الأبيض ينعكس على وجهه الشاحب، وعيناه زائغتان كأنهما تبحثان عن شيءٍ بعيد لا يراه غيره. 


الهدوء الموحش خيّم على المكان، لم يقطعه سوى صوت جهاز المراقبة الطبية بنغماته الرتيبة. ورغم ذلك، بدا كأن سالم يسمع أصواتًا أخرى.. همسات متقطعة، وقع خطوات باهتة، وضحكة مألوفة اخترقت أذنيه فشعر بقشعريرة تتسرب في جسده.


فجأة بدأ يرمش بعصبية، يتلفت يمنة ويسرة، ثم ثبت نظره على زاوية الغرفة، وصوته خرج هامسًا مرتجفًا:

ـ مبروك!..


ارتعشت شفتاه، وامتدت يده المرتعشة نحو الظل وكأنه يلمسه، ثم ارتجف صوته وهو يتمتم برجاء:

ـ شفت اللي حصل لي يا مبروك .. أنا اتشليت ! مبقاش ليا عازة خلاص .


بدا له ظل مبروك غاضبًا، فارتجف قلبه وأخذ يتمتم بلسان ثقيل:

ـ زعلان مني ليه يا مبروك؟! معقول تزعل مني وأنا في الحالة دي؟!


اقترب الظل أكثر، وصوته بدا حادًا وهو يقول:

ـ يلا بينا نمشي من هنا يا سالم.


اتسعت عينا سالم، وحدق فيه بفزع وهو يلهث:

ـ لأ.. لسه بدري يا مبروك.. مش دلوقتي، مش دلوقتي!


وفجأة، انفرج الباب على مصراعيه، فتبدد الظل كأنه دخان تبخر في الهواء، واندثر أثر كل ما كان يطارده. التفت سالم ببطء فوقع بصره على وجه مألوف.. امرأة يعرفها. اقتربت بخطوات هادئة، وعلى شفتيها ابتسامة وديعة وهي تقول:

ـ إزيك دلوقتي يا سالم باشا؟


ضيق عينيه يتأملها، وصوته خرج متشككًا:

ـ أنا عارفك.. أيوة.. إنتِ كنتي شغالة عندي. إيه اللي جابك هنا؟


ابتسمت بهدوء، وأجابت بنبرة مطمئنة:

ـ أنا الممرضة المسؤولة عن حالتك، وكنت معاك في البيت. ولما حضرتك تعبت وجيت المستشفى، جيت علشان أفضل جنبك.


هز رأسه ببطء، كأنه يحاول إقناع نفسه:

ـ أيوة.. أنا فاكر.. فاكر كويس.


أومأت بهدوء، ثم بدأت تعطيه أدويته دون تعليق. ولما استدارت لتغادر، كان الباب قد انفتح مجددًا، فدخل الطبيب بخطوات واثقة. تبادل نظرة خاطفة معها، نظرة ثاقبة صامتة كأنها تحمل سرًا خفيًا، ثم تابع تقدمه نحو سالم.


ابتسم الطبيب ابتسامة مطمئنة وقال بصوت هادئ:

ـ أخبارك إيه دلوقتي يا سالم باشا؟


حاول سالم أن يستعيد بعضًا من زهوه القديم، لكن سرعان ما خذلته مرارة الانكسار، فتمتم بإحباط:

ـ زي ما إنت شايف.. مفيش جديد.


ضحك الطبيب ضحكة قصيرة، ولوّح بيده كأنما ينفي كلامه:

ـ بالعكس! مين اللي قالك كده؟! إنت بتتحسن كل يوم عن التاني.


حدق سالم في وجهه متأملًا، متوجسًا من هذا الاطمئنان المبالغ فيه، وقال بنبرة مهزوزة:

ـ إنت بتتكلم بجد؟!


ابتسم الطبيب ابتسامة باردة، عينه لا تحمل نفس دفء صوته، وأجاب بثقة زائفة:

ـ طبعًا.. إنت ما تعرفش قد إيه جسمك بيستجيب للعلاج، محتاج بس صبر.


تراجع سالم قليلًا على الوسادة، وما زالت الريبة تحفر في ملامحه:

ـ بس أنا مش حاسس بأي تحسن.. كل يوم بحس إني أضعف من اللي قبله.


اقترب الطبيب أكثر، ووضع يده على كتف سالم بحركة محسوبة، وقال بلهجة هادئة كمن يُخدّر القلق بداخله:

ـ دي أوهام.. طبيعي جدًا تمر بمرحلة زي دي. صدقني، مجرد أيام وهتشوف الفرق بنفسك.


في تلك اللحظة، التفت سالم بسرعة خاطفة نحو الباب، كأنه ما زال يتوقع أن يرى ظل مبروك عائدًا من جديد. ثم أعاد نظره للطبيب وقال بعينين مرتعشتين:

ـ بس أنا شايف حاجات مش موجودة.. 


ساد الصمت للحظة، نظرة غامضة ارتسمت في عيني الطبيب، قبل أن يبتسم ابتسامة مصطنعة ويقول:

ـ ده تأثير الأدوية يا باشا.. ما تشغلش بالك. ارتاح إنت بس واحنا هنا متكفلين بالباقي.


قالها وانسحب من الغرفة بهدوء، تاركًا خلفه صدى الخطوة الأخيرة يتردد في عقل سالم، وكأنها إشارة خفية إلى أن هناك ما يُخفى عنه عمدًا .


حين غادر الطبيب نهض حسن على الفور واقفًا، وتقدم منه وسأله بلهفة :

ـ إيه الأخبار يا دكتور ؟!


ليجيبه الطبيب بابتسامة مفرطة الثقة، وكأنه يريد أن يطمئنه بلا جدال :

ـ لااا.. الباشا ماشاء الله بيستجيب للعلاج حلو جدا.. الحالة مستقرة بالنسبة للـ Hemodynamics، وoximetry كويسه جدًا، وelectrolytes متوازنة، وده مؤشر إن organ perfusion ماشي كويس. أكيد الضغط slightly labile، بس مع IV fluids وتحريك جرعات الـ vasopressors، الأمور تحت السيطرة. بشكل عام، neurological status ماشي تمام، وده اللي محتاجين نركز عليه دلوقتي. أهم حاجة، بس خلي بالك منه بنفسك، وجودك حواليه بيأثر جدًا على psychological recovery.


ربت على كتفه بابتسامة تبدو ودودة ثم تركه وغادر، بينما وقف حسن يحدق في أثره كالأبله، ثم نفض رأسه وكأنه يحاول إستعادة وعيه من جديد وهو يتمتم :

ـ يخربيتك لساني اتعوج !


زفر نفسًا طويلا ، ثم تقدم نحو غرفة والده، طرق الباب ثم دخل .. نظر بأسى نحو والده الذي يتمدد أمامه بلا حول ولا قوة، ثم رسم ابتسامة بشوشة على محياه وهو يقترب منه قائلا :

ـ بسم الله ماشاء الله.. إيه يا باشا الحلاوة دي .. عليا الطلاق باشا البشوات كلهم .


التفت سالم نحو حسن وأخذ يحدق فيه بنظرات مشوبة بالدهشة والخوف معًا وهو يمعن النظر في ملامحه التي تتقاطع بشكل غريب مع أخيه مبروك.


تعجب حسن تلك النظرة المتعجبة صوبه، واقترب من والده وجلس بجواره واضعًا يدا فوق يده وهو يقول :

ـ عامل إيه يا حج ؟ الدكتور بيطمني عليك وبيقول إنك بتتحسن وقريب إن شاء الله هنمشي من هنا .


ـ إنت إزاي شبهه كده ؟


نظر إليه حسن متعجبًا وقال :

ـ هو مين ؟! الدكتور ؟!!


ـ مبروك !


قطب جبينه بتعجب أشد، وتنحنح وهو يتسائل بقلق :

ـ مبروك مين ؟!


ـ أخويا .. عمك الله يرحمه .


ارتفع حاجبيّ حسن بدهشة، وتساءل :

ـ عمي ؟! 


أومأ سالم مؤكدًا وهو يقول :

ـ أيوة .. كان هنا دلوقتي .


اتسعت عينا حسن وهو يردد بذهول يشوبه الاستنكار :

ـ عمي الله يرحمه كان هنا دلوقتي ؟!! 


تنهد سالم بيأس، ونظر أمامه بحيرة ثم قال:

ـ مش عارف يا حسن ، أنا دماغي مالها مبقتش موزونة ليه ؟! هو أنا خرفت ولا إيه ؟


انقبض قلب حسن وهو يميل نحوه ، التقط كفه وقبله وهو يقول بنبرة جاهد لئلا تبدو منهارة :

ـ اسمالله على مقامك يا باشا .. مين بس اللي خرف ده إنت عقلك يوزن بلد .. أكيد تأثير العلاج بتاع الأعصاب هو اللي عامل اللخبطة دي .


ـ أنا مش عاوز علاج الأعصاب ده تاني.. خليهم يوقفوه، أنا مش متحمل أفضل تايه كده ومش عارف أنا واعي ولا مش واعي.. صاحي ولا نايم… أنا عايز أرجع فايق زي زمان .


أومأ حسن وهو يربت على كفه ويقول :

ـ هيحصل يا باشا .. إن شاء الله هترجع زي الأول وأحسن كمان .. بس الصبر ، مش هينفع نوقف علاج الأعصاب ، بس أكيد تأثيره هيخف شوية بشوية .


زفر سالم زفرةً مستاءة وهز رأسه، فسأله حسن بفضول :

ـ بس إيه حكاية عمي مبروك دي ؟! أنا كان ليا عم اسمه مبروك فعلا ؟


أومأ سالم مؤكدا وقال :

ـ أيوة .. كان غلبان، عقله على أده .. بس في الشكل كأنك نسخة منه .. كان طيب أوي ، وعلشان كان طيب مستحملش ومات مقهور لما أنا اتجوزت ناهد .


ضيق حسن عينيه بارتباك وهو يتسائل :

ـ ناهد أم فريد ؟


أومأ سالم وتابع :

ـ أيوة .. كان بيحبها أوي ، وأبويا حكم إني أنا أتجوزها لأن مبروك من وجهة نظره ميليقش بيها .. ولما أتجوزتها مات مقهور ، وسابني أنا أشيل الذنب ده وأعيش بيه عمري كله .


ـ أخواتي يعرفوا الحكاية دي ؟! 


هز سالم رأسه برفض وقال :

ـ لأ .. في حكايات يا حسن لازم تفضل مدفونة في بير غويط ملوش قرار .. وحكاية مبروك من ضمن الحكايات دي .


تنهد حسن تنهيدة طويلة، خرجت من أعماقه، لم تكن مجرد زفير عابر، بل مرارة متراكمة من تاريخٍ غامض بدأ يُكشف له ببطء. شعر أن صدره قد انقبض، وأنه يقف على حافة هاوية سحيقة لا يرى قاعها.

اسم "مبروك"، عمّه الذي لم يعرف عنه شيئًا من قبل، لم يعد مجرد ذكرى مطموسة، بل بدا له كجرحٍ غائر في جسد العائلة، ظلّ مخفيًّا تحت طبقات الصمت والكتمان.


أطبق جفنيه لحظة، يحاول أن يستوعب ما سمعه، لكن داخله كان صراعًا عنيفًا؛

مرارة من إخفاء والده الكثير من الحقائق عنه وأخوته،

وشرارة فضول تحثه على النبش أعمق،

وخوف من أن كل خطوة نحو الماضي ستقوده إلى متاهة مظلمة لا خلاص منها.


༺═────────────────═༻


في أثينا ..


عاد فريد بسيارته ليجد الهدوء يخيم على المكان ، صف سيارته وترجل منها فإذ به يجد عمر ممددًا على الأريكة أمامه، فتوجه نحوه وهزهُ برفق محاولا إيقاظه وهو يقول :

ـ عمر .. قوم نام في مكانك .


تململ عمر بصمت ، فهزه فريد مجددا وقال بنبرة أعلى :

ـ إنت يبني.. 


فتح عمر عينيه ونظر إلى فريد مبتسما وهو يقول :

ـ انت جيت يا حبيب قلبي ؟


رفع فريد حاجبه بتعجب وهو يردد :

ـ حبيب قلبك ؟! 


وهز رأسه باستسلام وقال:

ـ أيوة جيت ، قوم نام مكانك يلا مش هتعرف تنام هنا .


تململ عمر مجددا وهو يقول :

ـ مش قادر يا فريد .. سيبني أنام هنا بقا وخلاص.. ولا أقوللك ؟ شيلني !


ـ أشيلك !!


ـ شيلني يا فريد ما انت طول عمرك شايلني فيها إيه يعني .. 


وأشار إلى قدمه المصابة وتابع :

ـ مش قادر أمشي والله..


تنهد فريد بنفاذ صبر، ثم انحنى ليحمله، فتعلق عمر بعنقه وهو يبتسم قائلا :

ـ الله أكبر عليك يا حبيب قلبي.


ـ إيه حبيب قلبك دي كمان ؟ 


قالها فريد بحدة وهو يكاد يفقد توازنه من ثقل عمر، ثم أضاف مزمجرًا:

ـ انت بطلت تلعب رياضة ولا إيه ؟


ـ قصدك إني تقيل عليك ولا إيه ؟ 


ـ أبدا .. يظهر أنا اللي كبرت ومفاصلي سابت !


زمجر فريد وهو يجر خطواته بصعوبة، فيما عمر يكتم ضحكاته بصعوبة، دخل به فريد الغرفة، ثم ألقاه فوق السرير وهو يزفر بقوة، فقال عمر ضاحكًا :

ـ ألف شكر يا حبيب قلبي .


رمقه فريد بتعجب وهز رأسه يائسًا من عبثه ورعونته اللتين لا تفارقانه ، ثم التقط منامته ودخل إلى الحمام فيما بقي عمر يحدق في أثره وهو يتمتم ضاحكًا :

ـ ربنا يخليني ليكم وأطلع عينيكم دايما .


بعد أن أنهى فريد حمامه وعاد إلى الغرفة، وجد عمر يغط في النوم بملامح هادئة، كأنه نفس الطفل المشاغب الذي اعتاد افتعال المشكلات واختراع المصائب، وكأن السنين لم تمر عليه أبدا. 


سار إلى الفراش بخطواتٍ متمهلة، ثم تمدد بجواره والتفت يحدق فيه بصمت، ليتدفق داخله شعور قديم يعرفه جيدًا؛ لم يرَ فيه مجرد أخٍ أصغر، بل رأى الطفل الذي كان يحمله على كتفيه يومًا، والرضيع الذي هدأ بكاءه بحضنه، والصغير الذي كان يلهو خلفه متشبثًا بيده.


تسارعت الذكريات أمام عينيه حتى كاد يسمع صدى ضحكاته القديمة، فابتسم بألمٍ خفي. أدرك حينها أن عمر سيظل ابنه مهما كبر، وأنه لن يسمح للحياة أن تنتزع منه هذه المكانة. مهما كلّفه الأمر، حتى لو كان الثمن نفسه وكل ما يملك، فلن يتنازل أبدًا عن كونه أخًا بمثابة أب لعمر، ولكنه يوقن كذلك أنه لن يتنازل عن حب عمره، ولن يسمح أن يضيع من بين يديه كما ضاع منه الكثير .


ظل يتقلب في فراشه، عينيه معلقتان بسقف الغرفة، وأفكاره تتشابك بلا نهاية. كلما حاول أن يقنع نفسه بأن الوقت كفيل بحل كل شيء، كان قلبه يعاوده بالصراخ: لا وقت.. لا مفر.


تثاقلت أنفاسه، وضاق صدره أكثر فأكثر، حتى شعر أن رأسه سينفجر من زحام الأفكار التي لا تهدأ. عندها فقط، مد يده إلى درج المنضدة الصغيرة بجواره، وأخرج شريط الحبوب المنومة. تأملها لحظة وكأنها خلاصه الوحيد، ثم ابتلع حبتين دفعة واحدة دون تردد.


استلقى على ظهره ثانية، مغمض العينين، وهو يستسلم شيئًا فشيئًا لثقل النوم الذي يغمره. وهو يتخيل نفسه كمن يقف عند حافةٍ حادة؛ يمد يده ليحمي أخاه، ويمد الأخرى ليحمي حبيبته، يعلم أن أي تخلٍ عن أحدهما، هو سقوط أبدي له.


--------


في الصباح ..


غادرت نغم الغرفة أخيرًا، لا لشيء سوى لأنها تريد معرفة آخر ما توصلوا إليه بخصوص العودة إلى مصر ، ولكنها لم تجد سوى الصمت يخيم على المكان.


نزلت إلى الطابق السفلي، ومنه إلى الحديقة، لكنها لم تجد لأي منهم أثرًا ، فانقبض قلبها بخوف، ظنًا منها أنهم قد سافروا بدونها .


عادت إلى الداخل، فإذا بها تجد باب غرفة فريد ينفرج، وظهر هو بِطلته الهادئة كالعادة ، وقبل أن ينطق كانت قد سألته باندفاع:

ـ فين نسيم وعمر ؟!


نظر حوله باستغراب، وقال :

ـ هما مش بره ؟


هزت رأسها بنفي وقالت :

ـ لأ مش موجودين ..


فتساءل متعجبًا وهو يتحرك في الأرجاء باحثًا عنهما :

ـ معقول خرجوا ؟


بينما هي كانت تسير خلفه وهي تتساءل:

ـ ممكن يكونوا سافروا ؟


التفت وأجابها بهدوء :

ـ أكيد لأ ..


خرج إلى الحديقة وهي خلفه، تقول :

ـ طيب لو خرجوا ليه مقالوش ؟


ـ مش عارف.. حالا هكلمهم وأفهم منهم ..


عاد إلى الغرفة، وهي تتبعه كالعلقة، دخل غرفته والتقط هاتفه من على الكومود، فوقعت عيناه على ورقة صغيرة مطوية، فتحها فوجد عمر قد كتب فيها بخط يده :

ـ " صباح الفل يا حبيب قلبي ، خرجنا أنا ونسيم نتمشى شوية ومحبيناش نزعجكم ، اقعدوا عاقلين لحد ما نرجع "

كرمش فريد الورقة بين قبضته بانزعاج ولعن تحت أنفاسه طريقة أخيه المستفزة ، ثم نظر إلى نغم وقال :

ـ خرجوا يتمشوا ..


زفرت أنفاسها بضيق، ثم أومأت بصمت، واستدارت لتبتعد، ولكنه استوقفها قائلا :

ـ نغم .. 


توقفت وهي لا تزال توليه ظهرها، فقال وقلبه يرتجف :

ـ إحنا لازم نتكلم ..


أغمضت عينيها وهي تحاول تهدئة ضربات قلبها التي أعلنت ثورانها، ثم تنفست بعمق وقالت :

ـ ملوش داعي..


قطع الطريق نحوها في خطوتين واسعتين، ووقف أمامها ينظر إليها وهو يقول :

ـ لأ له داعي .. مش هسمحلك تتهربي مني تاني .


حاولت أن تشيح بوجهها بعيدًا عن عينيه، لكن نظراته كانت تتسلّل إليها كغزوٍ صامت، تخترق أعماقها وتتوغّل في مكنون روحها، كأنها تبحث عمّا تُخفيه خلف جفونها المرتعشة.. ثم قال :

ـ لازم نتكلم بوضوح .. لو سمحتي !


༺═────────────────═༻


كانت نسيم تسير إلى جوار عمر في أحد المولات التجارية، تطالع بعينيها ملابس الأطفال بفرحة وحماس، وتشتري كل ما تراه مناسبا بلهفة، وبينما بجوارها يسير عمر يمسك بعصاه الطبية في يد، وبالأخرى يحمل كومة أكياس وحقائب بها أغراض نسيم ، فهتف بسخط :

ـ كفاية بقا انتي قضيتي على هدوم ¾ أطفال الكرة الأرضية.. وفي الآخر هتخلفي لنا سحلية رجليها قد البرص الصغير .


نظرت إليه بغيظ وضربته بقبضتها في صدره بغضب وهي تقول بحنق جاد :

ـ متقولش كده على بنتي يا حيوان .


زمجر متألمًا وهو ينظر إليها بحنق مماثل وهو يقول :

ـ انتي أوام عرفتي إنها بنت ؟! إن شاء الله هييجي ولد غتت شبه أبوه علشان اللي بتعمليه فيا ده حرام والمصحف .


التفتت إليه بحدة وأشهرت سبابتها في وجهه بتحذير :

ـ عمر.. عاصم مش غتت ولم نفسك أحسنلك .


وسرعان ما انبعثت ابتسامتها وقد وقعت عيناها على متجر خاص بأغراض للأطفال ، فهتفت وهي تركض بخفة نحوه :

ـ الله .. so cute 


نظر إلي حيث تشير ، ثم نظر إليها وهو يشعر بالاستفزاز ويقول :

ـ إيه دي ؟! 


لتجيبه وهي تضم شفتيها بحماس طفولي :

ـ teether 


ـ بالله عليكي تعيشي عيشة أبوكي وبلاش عوجة لسان اسمها عضاضة .


نظرت إليه وتنهدت بانزعاج وقالت بدلال :

ـ والله أنا عايشة عيشة أبويا ، إنت اللي مش عايش عيشة أبوك يا ذليل يا منبطح .


وتركته ودلفت إلى المتجر بينما هو يسير خلفها مرغمًا وهو يتمتم بائسًا :

ـ ذليل ومنبطح ؟! … أخت فريد مرسال فعلا .


دلفت نسيم المتجر وبدأت تتحدث مع البائعة اليونانية عبر لغة إنجليزية متقنة، فيما يقف عمر خلفها، مستندا إلى المكتب بجانبه، ملتقطا وردة من المزهرية الموضوعة على المكتب، يشم فيها وهو ينظر إلى الفتاة بابتسامة واسعة، بينما الفتاة تنظر إليه وهي تكتم ضحكاتها، فنظرت إليه نسيم وهتفت :

ـ اتلم يا مهزأ ..


لم يبالِ ، فهو على ثقة أنها لن تفهم ما نعتته به أخته، ثم التقط ورقة من فوق المكتب، و دون بها رقمه وكتب بجواره :

ـ I would be very happy if you called me, don't worry I can speak four different languages

" سأكون سعيد إن اتصلتِ، لا تقلقي، أجيد التحدث بأربع لغات مختلفة " .


بعد أن انتهت نسيم من شراء بعض الأغراض التي بدت في نظر عمر مجرد خزعبلات، توجها معًا إلى الكاشير لدفع الحساب. وبينما الفتاة تقوم بفحص المشتريات واحدة تلو الأخرى، كان عمر لا يكف عن الاعتراض والتعقيب بسخرية على كل ما تقع عليه عيناه.


توقف عند مشط صغير، فأمسكه ملوّحًا به في الهواء وقال بجدية مصطنعة:

ـ هو أنا مش فاهمك بصراحة! انتي مستعجلة على المشط ليه ؟! ما يمكن الواد يطلع أقرع زي جده، ساعتها المشط ده هتستعمليه في إيه؟! ولا إنتِ ناوية تصرفي القرشين اللي معاكي على أي حاجة وخلاص؟


كادت نسيم أن تنهار من الضحك من أسلوبه الساخر، فيما تابع هو، ممسكًا قطعة أخرى غريبة الشكل بين يديه، يقلبها بفضول شديد:

ـ طيب وإيه دي كمان؟! جهاز تجسس ده ولا إيه ؟! أحلف لك بأيه إنك مش هتعدي من الكاونتر بالممنوعات دي .


انتزعتها من يده بضيق، وهي تقول بحدة تحاول أن تخفي وراءها ضحكتها:

ـ ممنوعات إيه يا أبو جهل ؟ دي Nasal aspirator يعني شفاط مخاط للبيبي ..


فتسمرت عيناه عليها بدهشة وقال وهو يومئ برأسه:

ـ شفاط مخاط آه .. ربنا يشفيكم يا حبايب قلبي.


ـ بس يا عمر اسكت خالص طالما مش فاهم ، أنا أصلا غلطانة إني خرجت مع واحد جاهل زيك .


كانت قد أنهت دفع حساب المشتريات، فتناول منها الحقائب بلطف فابتسمت وهي تقول :

ـ ميرسي يا حبيبي ، إنت هتكون خالو جميل أوي .


ـ أي خدمة .. كله علشان حبيب خالو هنقول إيه بس .


نظر إلى الفتاة قبل أن يغادر وغمز إليها غمزة ذات مغزى، ثم غادرا سويًا المتجر فقال :

ـ يا ترى إيه الأخبار ؟! أنا خايف نرجع نلاقي حد فيهم مخلص ع التاني ..


ـ لا أنا متفائله إن شاء الله يكونوا بيتكلموا وعاقلين ..


ـ يا رب .. بقوللك إيه ، تعالي أعزمك على الفطار زي بعضه، انتي زي أختي بردو وليكي حق عليا .


رفرفت بأهدابها بدلال وهي تقترب لتقبل خده بقوة فهتف وهو يبتعد عنها :

ـ متبقيش قطاعة أرزاق بقا ، حبكت يعني تبوسيني في الشارع ؟! اللي هتشوفك جنبي هتفكرك مراتي ولا خطيبتي ..


كانا قد وصلا إلى كافتيريا بالمول، فاقتربا من طاولةٍ فسحب لها مقعدا وهو يقول :

ـ اتفضلي يا مدام نسيم هانم سالم باشا مرسال .


لم تفلح في التوقف عن الضحك وهي تنظر إليه وتقول :

ـ شكرا يا عموري.. ربنا ميحرمنيش منك.


ـ إنت تؤمر يا جميل .. قوليلي بقا تحبي تفطري إيه ؟! 


نظرت إليه وابتسمت، ثم قالت :

ـ أحب أفطر على ذوقك النهارده.


فأشار إلى عين تلو الأخرى وقال :

ـ من عينيا الاتنين ، أحلى فطار لبرنسيسة عيلة مرسال .


༺═────────────────═༻


كثيرًا ما كانت تخشى لحظة المواجهة؛ تلك اللحظة التي يسقط فيها كل قناع، وتنكشف أمامه كما هي، بلا دفاع ولا مهرب، أسيرةً لعينين تعرفان من أين يبدأ ضعفها وأين ينتهي.


حاولت الفرار من أمامه، ولكنه اعترض طريقها بخطوة ثابتة، وكأنه يسد آخر منفذٍ للهرب، فارتجفت أنفاسها وتعلقت نظراتها بالأرض، تخشى أن ترفعها فتفضحها عيناها بما تخفيه.


ـ متحاوليش .. مش هتهربي مني زي كل مرة، ومش هأجل اللحظة دي لوقت تاني مهما حصل، أنا عندي كلام كتير عاوز أقوله، وانتي عندك كلام أكتر لازم أسمعه.


ابتلعت ريقها بوجل، ونظرت إليه بحدقتين مهتزتين، وقالت :

ـ حتى لو اتكلمنا مفيش حاجه هتتغير يا فريد .


ارتطم قلبه بجنباته بعنف، وغص حلقه بمرارة، أخذ يحدق فيها بثباتٍ واهٍ، يبحث في ملامحها عن تفسير، عن أي خيط أمل، قبل أن يقول بابتسامة مريرة:

ـ أنا كنت قربت أصدق إنك نسيتي اسمي من كتر ما بتتعمدي تتجاهليني وتهربي مني .


أخفضت عينيها إلى الأرض في انكسار، تتجنب نظرته الحارقة وكأنها تختبئ منها، فسألها بنبرةٍ خافتة لكنها حادة كالنصل :

ـ ليه كل ده ؟


تابع وهو يندفع نحوها ويهتف بأسى دفين :

ـ أنا أذيتك في إيه ؟! 


أطبقت جفنيها بقوة، تهرب من عينيه في يأسٍ عاجز، وقفت أمامه صامتة تتساقط دموعها دون رحمة على وجنتيها المرتجفتين، فهتف بلوعةٍ كادت تخلع قلبه من مكانه:

ـ بتعيطي ليه ؟! أنا مش عايزك تعيطي ! أنا عايزك تتكلمي!! قوليلي أنا أذيتك في إيه علشان تعملي فيا كده !


اهتزت شفتيها، وبالكاد خرج صوتها وهي تقول :

ـ إنت الإنسان الوحيد اللي عمره ما أذاني .


رفع رأسه قليلًا، وقد اتسعت عيناه بدهشة ممتزجة بالوجع، وصوته يتهدج بحرارة:

ـ ولا عمري هقدر أأذيكي.. وانتي عارفة كويس إني أهوَن عليا الموت من إني أشوفك بس بتبكي.. طيب ليه ؟ كل اللي بتعمليه ده ليه يا نغم !!


يعرف في أعماقه أنها لن تتحدث قبل أن تصيبه بالجنون، لذا مسح على رأسه ووجهه بضيقٍ، يحاول أن يستجمع ما تبقى من صبره، وهتف معاتبًا بصوتٍ غليظ لكنه منكسر في داخله:

ـ لما بعدتي المرة الأولى حاولت أقنع نفسي إنك معاكي حق، مع إنك استسهلتي وكان ممكن الموضوع يتحل بالعقل ، كان ممكن تلتمسي لي العذر زي ما أنا دايما بلتمس لك مليون عذر .. لكنك بعدتي وأنا احترمت رغبتك وسافرت، بالرغم من إنك كسرتيني، ووصلتيني لحالة أنا كنت تخطيتها من زمان، لكني بردو كنت عاذرك وبقول ليها حق، لكن المرة دي انتي بعدتي حتى من غير سبب ! احنا كنا خلاص هنتجوز.. انتي متخيلة ! أنا كنت ناوي أسافر كام يوم وراجع على أساس هنتجوز .. لقيتك فجأة بتقولي مش عاوزة أكمل ! من غير أسباب ! من غير حتى ما تفهميني أو تقوليلي سبب واحد مقنع ! سيبتيني لدماغي وانتي عارفة إني أكتر حاجة بكرهها إنك تعملي كده ! صح ولا غلط ؟!


أومأت وهي لا تزال تنظر أرضًا، وهتفت بخزيٍ صادق: :

ـ أنا آسفة .


ـ وأنا مش عايزك تتأسفي يا نغم .. أنا عايزك تقوليلي ليه بعدتي عني ! أنا متأكد إن في سبب، ومن حقي أعرفه ! وهتتكلمي يا نغم حتى لو فضلنا واقفين كده لسنة قدام.


كانت تبحث في أعماقها عن ذرة قوة لتقول له شيئًا يطفئ نيرانه ويشفي جرحه، شيئًا يكون كافيًا وشافيًا له، لكنها كانت تدرك في الوقت ذاته أنه لن يكتفي بأعذارٍ واهية، ولن يقتنع مهما حاولت أن تخفف من وقع الحقيقة، لذا رأت أن الابتعاد بلا أسبابٍ أفضل من أن تُلقي في وجهه كلامًا لا يليق بصدقه وحبه لها، أن تهرب بصمتٍ أقل قسوة من مواجهةٍ ستكسر الاثنين معًا.


همست بصوت مرتجف، متوسلة:

ـ لو سمحت يا فريد متضغطش عليّا ..


قالتها وهي ترفع عينيها برجاءٍ يائس، وما إن همّت أن تخفضهما حتى اصطدمت بنظراته؛ شيء ما في عينيه جعلها تقف مشدودة إليه رغمًا عنها. كانت ترى فيهما انكسارًا وعجزًا لم تره من قبل، وجعلها تكره نفسها أكثر وتلعن ضعفها وقلة حيلتها. ارتجف صوتها وهي تكتم نحيبها بكل ما تبقى فيها من قوة:

ـ أرجوك .. أنا مفيش عندي حاجة أقولهالك .


امتلأت عينا فريد بدمعٍ خائن، وتهدج صدره بضربات يشعر أنها تنذر بالنهاية. أومأ في استسلامٍ مرير، ثم قال بصوتٍ انكسر في منتصفه:

ـ حاضر.. مش هضغط عليكي، بس سؤال واحد عايز أعرف إجابته ..


هزت رأسها في صمتٍ متسائل، فرفع عينيه إليها مستجديًا وكأنه يغرق:

ـ انتي فعلًا بطلتي تحبيني !!


اتسعت عيناها بدهشة، وكأنه صفعها على حين غرة. أخفضت رأسها أرضًا وغرقت في نوبة بكاء عاتية، بينما هو واقف أمامها، عيناه تجولان في ملامحها كالمجنون يبحث عن خلاصٍ أو حتى طوق نجاة صغير. هتف بحيرة وصوتٍ متقطع:

ـ اتكلمي يا نغم وريحيني.. صدقيني أيًا كانت الإجابة أنا هحترمها، بس جاوبيني.. أنا بالنسبة لك إيه ؟! فهميني من فضلك.. أنا مبقتش فاهم حاجة ولا عندي ذرة طاقة أفكر.. انتي بطلتي تحبيني ؟! عايز إجابة !!


رفعت عينيها إليه، فرأته يحاصرها بعينين ضائعتين، تائهتين، يحدق فيها بلوعةٍ تعرف أنها السبب فيها. نطقت باسمه بصوتٍ ضائع :

ـ فريد ..


أومأ منتظرًا، يقرأ حروفها من قبل أن تخرج، يحثها بنظراته أن تبوح له، أن تنطق بالحقيقة مهما كانت. لكنها فجأة، دون أي مقدمات، اندفعت نحوه فجأة، تحت تأثير قوة أكبر من خوفها وصمتها، وعانقته. 


كانت ضلوعها ترتجف كطائر مذعور في يدي صيادٍ رحيم، وصدرها يعلو ويهبط بأنفاسٍ متقطعة، كأنها خرجت للتو من بحرٍ عاصف .


في اللحظة التي لامسته فيها، شعر فريد كأن الزمن توقف؛ الهواء من حوله تجمّد، وأصوات العالم صارت بعيدة كصدى. كان إحساسه بها وهي بين ذراعيه يشبه انسياب ماء بارد على أرض عطشى، يشبه حياة جديدة تتسرب إلى صدره بعد اختناقٍ طويل. حتى قلبه الذي كان يضرب بعنف، بدأ يهدأ قليلًا ويعود إلى رشده،  كأنها تعيد ترتيب فوضاه، وتسكب الطمأنينة في داخله دون أن تنطق بكلمة.


كانت هي الأخرى تشعر أن شيئًا في داخلها ينكسر ويتحرر في الوقت ذاته؛ كل دفاعاتها، كل الجدران التي بنتها بينهما، انهارت في لحظة واحدة. كأنها تسلّم روحها بين ذراعيه، وكأن الحياة بكل ما فيها من صراع وألم تتسرب منهـا إليه، تذوب في حضنه لتستقر داخله.


أحاطها بذراعيه بهدوءٍ مذهول، لم يضغط عليها ولم يبتعد، فقط احتواها بكل ما فيه من قلقٍ وشوق. وللمرة الأولى منذ زمنٍ بعيد شعر أن العالم رغم قسوته لا يزال يحتمل لحظة نقاء كهذه، لحظة لا تحتاج إلى تفسير أو كلمات.


كان يتساءل داخله وهو يمسك بها: أهذه لحظة وداعٍ أم بدايةٍ جديدة؟ أهي انهيارها الأخير أمامه أم اعترافها الصامت بحبها؟ لكنه لم يرد جوابًا، كان يكفيه أن الحياة — بعد أن ظن أنها هجرته — بدأت تتسرب إلى قلبه من جديد عبر ذراعيها، وأنه، ولو للحظة واحدة، صار هو ملاذها.


ـ أنا عمري ما بطلت أحبك ، من يوم ما عرفتك وانت كل حاجة بالنسبة لي، أنا في حياتي كلها محبيتش غيرك ولحد ما أموت هتفضل انت حبي الوحيد.


كانت الكلمات تخرج من فمها مرتجفة لكنها صادقة، تحمل ثقل أيام وليال من الكتمان والوجع، وتنسكب بين يديه كاعتراف طال انتظاره.


هكذا أعطته اعترافًا منطوقًا جعله يغمض عينيه براحةٍ لم يعرف لها مثيل من قبل؛ وكأنه أخيرًا وجد المفتاح الذي يُسكن العاصفة داخله.


 انفرجت قسمات وجهه في هدوء غريب، شفتاه المرتجفتان توقفتا عن الأسئلة، وأنفاسه الثقيلة بدأت تخفّ كأنها كانت محبوسة طوال العمر وخرجت الآن.


شعر وكأن شيئًا ينهار في داخله وآخر يُبنى في اللحظة نفسها؛ كأن الجدران التي حاصر بها قلبه سقطت فجأة، وحلّت محلها دفء كلماتها. لحظتها، لم يعد يسمع شيئًا حوله؛ كل ما شعر به هو صوتها وهو يتردد في رأسه بأجمل كلمات سمعها على مدار سنوات حياته، وكأن العالم كله صار صدىً لهذه الكلمات .


حتى جسده استجاب لهذا الاعتراف، ارتخت كتفاه من ثقل الانتظار، وعينيه المغلقتين ارتسمت فيهما راحة من نوع جديد .


مسح على رأسها بحنانٍ اشتاق أن يبثّه إليها منذ زمن، أصابعه ترتجف وهو يمررها على خصلات شعرها، كأنه يخشى أن تزول من بين يديه. وهمس بصوتٍ منكسرٍ يحمل في طياته كل ما عاناه:

ـ وأنا عمري ما حبيت غيرِك… من يوم ما شفتك وإنتِ بالنسبة لي كل حاجة. أنا بحبك يا نغم… بحبك لآخر ثانية في عمري.


كانت كلماته تتساقط على مسامعها كالمطر، دافئة ومرتجفة في آنٍ واحد، تشبه قلبه وهو يفرغ ما فيه. ارتجفت شفتاها مع كل حرف، وشعرت وكأنها في حضنه تستعيد نفسها قطعةً قطعة، كأن اللحظة بكل صدقها تغسل ما بينهما من خوفٍ وغياب.


ابتعدت عنه رغمًا عنها، وهكذا أفلتها على مضض، كانت أنفاسها متقطعة، وجهها شاحب وعيناها مطفأتين من الإرهاق، تبدو وكأنها وصلت إلى أقصى مراحل الإعياء والإنهاك، فأمسك بيدها برفقٍ فيه رجاء وحزم في الوقت نفسه، وقادها نحو المطبخ.


وقف بها أمام صنبور الماء، وصوته يخرج هادئًا حازمًا في آنٍ واحد وهو يطلب منها أن تغسل وجهها. أطاعته في صمت، والماء يتساقط على وجهها كأنه يخفف عنها ثقل اللحظة، ثم ناولها كوبًا من الماء فشربته على مهل، ويدها ترتعش قليلًا .


لم يترك يدها لحظة، بل أمسك بها بحزمٍ أكبر كأنه يعلن أن هذه اليد لن تفلت منه أبدًا، ثم عاد بها إلى صالة الجلوس. أشار لها بالجلوس وجلس هو أمامها، مسافة صغيرة تفصل بينهما لكنّها مشحونة بكل ما لم يُقال.


حدّق فيها بثباتٍ صادق، وبرز صوته هادئًا لكنه واضح:

ـ حاسة إنك كويسة؟ تقدري تتكلمي دلوقتي؟


ظلّت صامتة للحظة، رأسها مثقل بالأفكار، تتأرجح بين رغبتها في الهروب وخوفها من المواجهة. تفكر في مأساتها القادمة، في معاناة الاعتراف الذي تخشاه منذ زمن. 


لكن بعد هذا الكم الهائل من الحب، من الراحة والسلام الذي غمرها أخيرًا بين يديه، شعرت أن عليها — ولو لمرة واحدة في حياتها — أن تتحلى بالشجاعة، أن تتمسك بفرصتها للنجاة من ظلمات هذه الحياة .


أومأت برأسها بتوجس وقلق، فتنفس هو بعمقٍ وهدوء كأنه يحاول احتواء ارتجافها. مدّ يده والتقط كفها بين كفيه واحتجزه بحنانٍ وإصرار، كإشارةٍ ضمنية وصامتة أنّه لن يفلتها أبدًا مهما قالت، مهما فعلت، ومهما كانت الحقيقة التي تخشاها.


اقترب منها أكثر، عيناه تبحثان في وجهها عن أي صدق يريح قلبه. وصوته هذه المرة جاء أهدأ، لكنه مرتجف من فرط ما يكتمه من ألم:

ـ طيب .. قبل ما تتكلمي في أي حاجة، عايزك تعرفي إن مهما كان اللي هتقوليه مش هيبعدني عنك. أنا بحبك يا نغم.. خليكي واثقة.


رفعت رأسها إليه فجأة، وعيناها تلمعان بالخوف والغيرة والوجع، وانفجر السؤال من شفتيها قبل أن تدرك أنها نطقته:

ـ و سيلين؟!


ظل ينظر إليها للحظة بدهشة، وكأنها فاجأته بما يشغلها. ثم بدأت ابتسامة تتسلل إلى شفتيه حتى تحولت إلى ضحكة كاملة، ضحكة زادت عبوسها وأشعلت حنقها أكثر.. وقال :

ـ نغم انتي هبلة؟!


رمقته بعينين متسعتين يتأرجح فيهما الغضب والصدمة، فتابع بصوت فيه نبرة تأكيد لم يعتدها:

ـ سيلين إيه بجد اللي تغيري منها أو تفكري إني ممكن أحبها؟ هو انتي للدرجة دي مفيش عندك ثقة في حبي ليكي؟! سيلين دي لو أجمل ست في الدنيا عمرها ما هتلفت انتباهي صدقيني.


ثم ربت على كفها وهو يقول بتوكيد، يحسم الأمر:

ـ تأكدي إنك لوحدك في كفة، والعالم كله بما فيه سيلين دي في كفة.


لكنها لم تهدأ، انفجرت هاتفة بغضب مكتوم كان يخنقها:

ـ بس انت حضنتها!!


هتف هو بغضب أكبر، يكاد يقترب من المرارة:

ـ محصلش.. أنا اتفاجئت بيها بتقرب مني بالشكل ده وفورا بعدتها عني بس كان في حد بيراقب من بعيد وفورا لقط الصورة ونشرها وكتب عليها الكلمتين البايخين اللي سيادتك عملتيلي بلوك من كل مكان بسببهم.


أشاحت بوجهها بعيدا محاولة أن تخفي ارتباكها، فأمسك بذقنها بلطفٍ شديد يعيده إليه وهو يقول بنبرة متألمة:

ـ ليه عملتي بلوك؟! كان أسهل نتكلم وتسمعيني لكن انتي اختارتي تصدقي علشان تجمدي قلبك عليا، مش كده؟! كنتي عاوزة تلاقي أي حاجة تثبت لك إنك صح ومعاكي حق تفضلي بعيدة عني، مع إنك عارفة ومتأكدة إنك مش صح .. وعارفة إني من غيرك ببقا تايه وضايع، ومع ذلك قدرتي تفضلي بعيد.


أضاف الأخيرة بعتاب خافت، فنظرت إليه بأسف، وسرعان ما تجمعت الدموع في عينيها من جديد، ولكنه اعتدل في جلسته محاولا أن يبتلع تلك اللوعة ويكمل، وصوته أصبح أهدأ لكنه أكثر عمقًا:

ـ السبب اللي بعدتي علشانه كان مستاهل يا نغم؟ مستاهل إننا نعيش في وجع القلب ده! أنا متأكد إن حالك مكانش أحسن من حالي وواثق من كده.. طيب ليه؟! احكيلي.. جايز لما أعرف السبب أرتاح!


رفرفت بأهدابها، تحاول استجماع شجاعتها وقوتها لتنطق، بينما هو يطالعها بصبر لا نهاية له، نظراته تلاحقها وتطمئنها دون أن يتكلم. شعرت أخيرًا أنها لا بد أن تتوقف عن الهرب، أن تقول ما تحمله، فرفعت رأسها ببطء وهمست:

ـ في آخر يوم شفنا بعض فيه ..


أومأ، ينتظرها أن تتابع. تنهدت تنهيدة طويلة ثقيلة، ثم قالت بصوتٍ أقرب للهمس:

ـ سالم بيه جالي يومها ..


اتسعت عيناه بصدمة، لكنه بقي ساكتًا، فتابعت:

ـ وطلب مني أبعد عنك لأنه كان شايف إني السبب في إن علاقتك بحسن تفضل مهزوزة وإن ممكن حد فيكم يأذي التاني بسببي.


انفرجت شفتاه ليتحدث ولكنه لم يجد ما يقوله، فتنهد تنهيدة متألمة، وصوته يخرج مضغوطًا بالخذلان:

ـ وانتي طبعًا صدقتي ونفذتي المطلوب منك بكل سهولة ..


أسند ظهره إلى المقعد بتعبٍ واضح وتابع بسخريةٍ مُرّة:

ـ بجد برافو ..


رفع يديه ومسح على وجهه بغضب، ثم أسقط رأسه بين كفيه وهو يتابع بعجز لم يعرفه من قبل:

ـ أنا مش عارف هو ليه بيعمل معايا كده! ليه الإصرار ده على إنه يمشي حياتي على هواه هو وكأني عيل صغير؛ هل هو كان خايف على حسن مني؟ ولا خايف عليا منه؟! أنا مبقتش فاهم حاجة.


نظرت إليه بترقب وتوجس وتردد، ثم قالت بعد لحظة خرسٍ طويلة:

ـ مش ده بس السبب اللي خلاني أخاف وأبعد.


رفع رأسه إليها ببطء، ينظر لها بعيون تائهة تبحث عن أي خيط، فأومأت وهي تقول والخزي يلوح في عينيها:

ـ أنا مبعدتش علشان كده بس .. أنا خفت من تهديده فبعدت.


ضيق عينيه وهو ينظر إليها باستفهامٍ مفاجئ، جسده كله يتوتر، ثم قال بصوت منخفض لكن حاد:

ـ هددك إزاي ؟


ارتجف قلبها تحت وطأة السؤال، وكأن الكلمات التي خرجت من شفتيه كانت سيفًا مُسلّطًا على عنقها. تجمّدت في مكانها، عيناها تائهتان تبحثان في الفراغ عن أي مهرب. بلعت ريقها بصعوبة وهي تشعر أن لسانها انعقد بين شفتيها، وأن صدرها يعلو ويهبط في ارتباكٍ يفضح اضطرابها.


لم يحتمل فريد أن يراها بهذا الاضطراب، ملامحها المرتعشة ودموعها التي تلمع على حافة جفونها كانت كافية لأن تمزق قلبه. فمال نحوها قليلًا، وقال بهدوء جعل صوته أكثر دفئًا :

ـ اتكلمي يا حبيبتي متخافيش .. صارحيني يا نغم ، والله أيًا كان اللي هتقوليه مش فارق معايا .


كانت تفرك في يديها بتوتر، والكلمات تتراقص على شفتيها بتوتر، تحاول أن تجد اللحظة التي ستبدأ منها، فأغمضت عينيها بقوة وهي تقول باندفاع:

ـ فريد، أنا … 


أطلقت زفرة طويلة وهي تنظر إليه ، شدت على يده التي تحيط يدها ، فحانت منه نظرة سريعة نحو يدها التي تتمسك به بقوة ، ونظر إليها فقالت :

ـ لما كنت شغالة في الكوافير بتاع فيفي زمان .. 


أومأ منتظرا أن تكمل، ولكنها أحاطت وجهها بكفيها وأجهشت ببكاءٍ عميق وهي تقول بانهزام :

ـ مش قادرة أحكي .. أنا مكسوفة من نفسي أوي .. إنت لو عرفت مش هتبص في وشي تاني ولا أنا هعرف أرفع عيني في عينك أبدا .


وبالرغم من أن القلق بدأ يزحف ببطء نحو قلبه إلا أنه هتف محاولا طمأنتها :

ـ ليه ؟! على أساس إني ملاك وعمري ما غلطت ؟! يا روحي إحنا بشر وكلنا بنغلط ، ومهما كان حجم الغلط ده أو مدى بشاعته بس الأهم إننا نراجع نفسنا ونصلح أخطائنا .


هزت رأسها بأسى، وقالت من بين دموعها :

ـ يا ريت أعرف أصلح الغلط ده ، يا ريت يرجع بيا الزمن مكنتش هعمل كدا أبدا والله .


فأومأ وهو يضغط على يدها أكثر، يغرس في قلبها طمأنينة لا تهتز :

ـ أنا متأكد من كده .. وعارف إنك من جواكي نضيفة جدا وبريئة جدا ، وعارف إنك ضحية الظروف اللي عيشتيها والبيئة اللي اتربيتي فيها ، أنا متفهم جدا صدقيني وواثق إن الغلط اللي ارتكبتيه ده مش هو اللي هيحدد قيمتك عندي .


ـ أنا كنت باخد فلوس من ورا فيفي ! 


قالتها فجأة وكأنها تقذف بحجر في ماء راكد، ثم تجمدت الكلمات في حلقها بعد أن نطقتها، واتسعت عيناها برعب، كأنها ارتكبت الجريمة في هذه اللحظة لا في الماضي.


أفلتت يدها من كفه فجأة، ثم رفعت كفيها لتغطي عينيها، محاولة أن تحتمي بظلامٍ تصطنعه لنفسها، علّها تفلت من تلك النظرات التي كانت متأكدة أنها ستذبحها بلا رحمة.


ارتجف صوتها وهي تتابع بخزيٍ أشد، وكأن كل كلمة تخرج منها تجلدها قبل أن تصل إليه:

 ـ مش فيفي بس.. 


شعر بقلبه يهتز من مكانه لوهلة، ولكنه حاول أن يبدو ثابتًا قدر الإمكان في تلك اللحظة ، لذا عاد وأمسك بيدها من جديد، يبرهن لها أن ما تقوله مهما كان مخزيًا، لكنه لن يكون السبب في أن يتخلى عنها. 


صمتت نغم، وصدرها يجيش بمشاعر متناقضة، والدموع تتساقط بلا توقف، ممزوجة بأنين مكتوم:

ـ كنت محتاجة أوفّر فلوس علاج خالتي…


صمتت، ثم رفعت عينيها المقهورتين نحوه للحظة وتابعت بصوت أشبه بالاعتراف الأخير:

ـ والله ما بقولك كده علشان أبرر اللي عملته… بس دي الحقيقة. أقسم بالله ما كنت بصرف جنيه واحد على نفسي… ولولا إني كنت محتاجة فلوس لعلاج خالتي مكنتش هعمل كده أبدا .. بس مكانش قدامي غير الحل ده .


كانت عيناها ترتجفان، تبحثان في ملامحه عن أي شرارة رفض أو استنكار، لكنها بدلًا من ذلك وجدت نظرة صامتة تتسع بالتعاطف والتسامح أكثر مما تتسع بالدهشة.


ـ فريد إنت مصدقني مش كده ؟!


زفر هو الآخر زفرة ثقيلة، يخفي وراءها الصدمة التي طافت على وجهه لثانية، ثم قال بنبرة منخفضة مطمئنة:

ـ أنا مصدقك يا نغم… ومقدر اللي عديتي بيه.. مش محتاجة تحلفي يا حبيبتي أنا واثق إنك بتقولي الحقيقة.


في تلك اللحظة شعرت وكأن جبلًا ثقيلًا كان جاثمًا فوق صدرها بدأ يتزحزح ببطء، وكأنها للمرة الأولى تجد يدًا تمتد إليها لا لتحاكمها، بل لتنتشلها من قاع خوفها وخجلها. ارتعشت أنفاسها وهي تحدّق في عينيه، فوجدت فيهما مأمنًا لم تعهده من قبل، وطمأنينة جعلت صراعها الداخلي يهدأ شيئًا فشيئًا، فتابعت:

ـ مكنتش اعرف إنها صورتني، غير لما جالي سالم بيه وواجهني بالفيديو ده، وهددني لو مبعدتش عنك هيفضحني.. وأنا وقتها خُفت، مكانش ينفع أسيبه يوريك الفيديو ده، مكانش ينفع أصدمك فيا بالشكل ده.. مكانش عندي الشجاعة اني أواجهك بحقيقتي البشعة، لو أنا مكنتش بعدت عنك أنت كنت هتبعد لما تعرف .


هز رأسه نافيًا وقال :

ـ غلطانة .. عمري ما كنت هبعد حتى لو كنت عرفت أكتر من كده .


ظلّ ينظر إليها طويلاً، وعيناه تمتلئان بمزيجٍ من الأسى والحزن. شعر بمرارةٍ عميقة لأنه تَصوّر كم عانت وحدها وهي تضطر إلى الابتعاد عنه خوفًا من أن ينكشف سرّها، لكنه في الوقت ذاته شعر بالارتياح؛ فقد أدرك أخيرًا أنّها لم تبتعد لأنها كفّت عن حبه، بل لأنها كانت تحمل حِملاً أثقل من طاقتها.


ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة، باهتة لكنها مليئة بالحنان، اقترب منها أكثر، ومسح دموعها بإبهامه برفق، ثم قال بنبرةٍ تفيض بالصدق:

ــ أنا لو هعتب عليكي بعد اللي سمعته فهيكون لسبب واحد بس، انك بعدتي وقررتي تشيلي العبء ده لوحدك، مع إنك كان لازم تكوني واثقة إني هقف جنبك في وش أي حد في الدنيا واستحالة كنت أتخلى عنك .


ارتعشت أنفاسها، وصوتها خرج ضعيفًا متحشرجًا وهي تبرر:

ـ مقدرتش.. وقتها حطني قدام الحقيقة اللي لا أنا ولا انت نقدر ننكرها .. وشفت إنه معاه حق وإني لو بحبك فعلا لازم أبعد عنك .


عقد حاجبيه بدهشة وهو يرمقها منتظرًا، وقال بتساؤل لا يخلو من نفاد الصبر:

ـ وإيه هي الحقيقة دي بقى ؟!


أطرقت برأسها للأسفل، والعار يثقل كاهلها وهي تهمس:

ـ إني مش أنا الزوجة اللي تليق بيك يا فريد ، ولا هينفع أكون أم لولادك في يوم من الأيام.


اتسعت ابتسامته على نحوٍ مفاجئ، وبدت على وجهه ملامح الحلم الذي طالما تمنى تحقيقه، ثم نظر في عينيها نظرة أربكتها وقال بشغف صادق :

ـ تخيلي إن أكتر حاجة بتمناها إنك تكوني أم ولادي فعلا.


اهتزت ملامحها بخجل، وسارعت بإنزال بصرها لتفلت من سطوة عينيه، لكن صوتها خرج جادًا متصلبًا وهي تتمسك بوجهة نظرها :

ـ أبوك معاه حق يا فريد.. أنا مش الإنسانة اللي تستاهلك، أنا معترفة بده، إنت تستاهل واحدة أحسن مني مليون مرة، واحدة من نفس مستواك وتليق بيك و..


قاطعها متنهدًا بانزعاج، وقد ارتسم الضيق جليًا على ملامحه وهو يرفع يده كمن يوقف سيلًا من الكلمات الفارغة:

ـ بس بس.. بطلي هري .


تدلى كتفاها بإحباط، وكأنما انهارت كل مقاومتها الأخيرة، وقالت بنبرة يائسة: 

ـ مش هري يا فريد .. دي الحقيقة.


رفع وجهها براحتيه برفق حتى تلتقي عيناه بعينيها، ثم قال بنبرةٍ حازمةٍ لكن يغمرها الدفء:

ـ لأ مش الحقيقة يا نغم ، مين اللي قاللك أصلا إنك مش هتكوني زوجة مناسبة أو أم كويسة ؟! هو انتي اطلعتي على علم الغيب ؟! وبعدين إيه حكاية مستوايا ومستواكي هو الحب بيتقاس بالمستوى أو بالفلوس؟ طيب ما ممكن الفلوس اللي معايا دي أخسرها كلها في لحظة ! هل وقتها ده هيقلل من حبك ليا ؟! أكيد لأ .


أومأت تؤكد كلامه، فابتسم ابتسامة صغيرة تحاول تهدئة العاصفة التي تدور بداخلها، ثم قال بصوتٍ هادئ لكنه ممتلئ بالعزم:

ـ اسمعيني يا نغم، الكلام اللي هقولهولك ده هقولهولك لآخر مرة… وعايزك تركزي فيه كويس أوي… اتفقنا؟


أومأت مجددًا برأسها بخجلٍ وتوتر، كأنها طفلة صغيرة تنتظر شيئًا حاسمًا. عندها اقترب منها أكثر، رفع يديه وأمسك بكتفيها برفقٍ شديد، وعيناه تسبحان في عينيها بثباتٍ صادقٍ عميق، صوته انخفض حتى صار أقرب للهمس لكن كل كلمة فيه تحمل قوة لا تقبل الجدل:

ـ اوعي تسمحي لحد يتحكم في حياتك تاني يا نغم. أوعي تسمحي لحد يقرر مكانك يكون فين أو يحدد قيمتك من وجهة نظره هو أو بحساباته هو، أوعي تسمحي للخوف أو الكلام اللي بيتقال حواليكي يكسرك أو يبعدك عن اللي بتحبيه .. لازم تكوني انتي الوحيدة المتحكمة في حياتك !


ضغط على كتفيها برفقٍ أكبر وكأنه يريد أن ينقل لها كل قوته في تلك اللحظة:

ـ انتي مش أقل من أي حد يا نغم… مش أقل من أي بنت ولا أي زوجة ولا أي أم في الدنيا. انتي قوية… حتى لو انتي مش شايفة ده دلوقتي، لكن أنا شايفُه فيكي.

انتي لسه صغيرة، وطبيعي جداا جداا إن بنت نشأت في نفس ظروفك وملقتش جنبها حد يوعيها أو يرشدها للصح تغلط الغلط ده، إحنا مش ملايكة وكلنا بنغلط وطول ما احنا عايشين هنفضل نغلط ، مفيش حد معصوم من الخطأ .


تنفّس ببطء ثم أكمل بنبرة أكثر دفئًا:

ـ لازم كمان تعرفي إن اللي بيني وبينك مش خاضع لسيطرة حد ولا حُكم حد. أنا عايزك تبصي لنفسك بعينيّ أنا، مش بعينين الناس. تشوفي نفسك زي ما أنا شايفك..


لمح الأمل يتسلّل إلى عينيها كما لو أن نورًا خافتًا بدأ يتغلب على العتمة التي حبست نفسها فيها طويلا. ارتجفت شفتاها بارتباكٍ طفولي وهي تحاول أن تحبس دموعها، لكن ابتسامة مترقبة، صغيرة ومهزوزة، ارتسمت رغماً عنها على وجهها، كأنها تخاف أن تفرح تمامًا فيختفي كل شيء فجأة.


نظر إليها فريد نظرةً طويلة عميقة، وكل الحنان الذي خبأه لها خرج دفعةً واحدة في صوته حين قال بهدوءٍ دافئ:

ـ شايفك الإنسانة الوحيدة المناسبة ليا… مفيش واحدة على وجه الأرض ينفع تدخل قلبي غيرك.. انتي علاجي يا نغم.


لم تكن كلمة، بل كانت اعترافًا صريحًا بحاجته إليها، بتعلقه بها حدّ النجاة، وبأن قلبها هو وحده القادر على مداواته .


ارتعشت أصابعها للحظة، وارتسم على شفتيها ابتسامٌ مرتجف لم تستطع السيطرة عليه. في تلك اللحظة أدركت أنها بالنسبة له لم تعد مجرد حبيبة، بل أصبحت الملاذ، المرفأ، الشفاء.


ـ اوعي تبعدي تاني ! 


أومأت وهي تحاول درء الابتسامة الواسعة التي اكتسحت وجهها، فتابع :

ـ اوعي تخافي من أي حاجه أو حد وأنا معاكي ، و اوعي تخبي عليا حاجة تانية مهما كانت .


أومأت مجددا ، فجذب رأسها وقبل أعلى رأسها بحب وامتنان، ثم ابتعد، ظل ينظر إليها بصمت قليلا، ثم قال بهدوء :

ـ قوليلي يا نغم . 


هزت رأسها باستفهام وقد ارتسمت على ملامحها علامات الحيرة، فقال بنبرةٍ مترددة يخفي وراءها قلقًا دفينًا: :

ـ عمر اتكلم معاكي في حاجة ؟


قطبت جبينها بتعجب وسألته :

ـ حاجه زي إيه ؟!


ابتلع ريقه بتوترٍ واضح، ثم تمتم وهو يشيح بنظره بعيدًا عنها وكأنه يبحث عن الكلمات المناسبة:

ـ يعني.. أي حاجة ، من الآخر يعني لما كنتوا بتتكلموا كان بيقولك إيه ؟!


تعجبت أكثر من سؤاله، لكن نبرتها بقيت هادئة وهي تشرح الأمر دون تردد:

ـ كلامه كله كان عن إني لازم أواجهك وأصارحك ، ووقت موضوع سيلين والصورة طلب مني اسمعك واديلك فرصة، بصراحة هو حاول كتير علشان يخلينا نتكلم، ولما فقد الأمل قرر هو ونسيم يجيبوني هنا بالطريقة الهبلة دي.


ظل شاردًا يفكر للحظة، ثم رفع نظره إليها فجأة وقال متسائلًا بنبرةٍ مموهة :

ـ يعني مسبقش مثلا إنه لمح لك أي تلميحات إنه بيحب واحدة أو معجب بيها .


لتجيبه بثقة :

ـ لا أنا عارفة إنه بيحب ميرال وصارحها كمان إنه بيحبها وعاوز يتجوزها، وتقريبا مستني لما نرجع مصر عشان ياخد خطوة جد .


هز رأسه بهدوءٍ غامض، بينما عينيه تلمعان بتفكيرٍ عميق، فسألته بفضولٍ لم تستطع كبحه:

ـ انت بتسأل ليه ؟


تنهد ببطء وأجابها بصوتٍ ينم عن حنانٍ وحرصٍ في الوقت ذاته :

ـ عادي يا حبيبتي ، كنت عاوز اعرف بس هو واخد موضوع ميرال بجدية ولا لعب عيال زي كل مرة ، ميرال بنت هادية ومحترمة وأنا مش هسمح له يلعب بيها ، علشان كده كنت حابب أتأكد .


ـ متقلقش، اللي أنا شايفاه من عمر إنه بيحبها بجد وعاوز يتجوزها فعلا.


أومأ برأسه في هدوء، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة وهو يقول بنبرةٍ حاسمة:

ـ أوكي يتجوزها.. بس بعد ما نتجوز، محدش هيتجوز قبلي.


ارتسمت على ملامحها ابتسامة خجولة، وحاولت جاهدة أن تُخفي تلك اللمعة التي اشتعلت في عينيها، لكنها عجزت عن ذلك، خاصة وهو يحدق فيها بولهٍ لا يخفيه، قبل أن يضيف بصوتٍ يفيض إعجابًا بها:

ـ نتجوز الأول، وبعدين كل اللي نفسه في حاجة هساعده يعملها.


تنهدت بعمق، غير قادرة على السيطرة على خفقات قلبها التي بدت وكأنها تحتفل بعرسٍ داخلي، بينما هو لا يزال يطالعها بعينيه المليئتين بالحب ويقول باندفاعٍ صادق:

ـ خلينا نتجوز قبل ما نرجع مصر!


اتسعت عيناها دهشة، ونظرت إليه غير مصدقة وهي ترد بسرعة:

ـ لأ طبعًا..


أمال رأسه بتعجبٍ طفولي وقال بجديةٍ لم تخلُ من الحماسة:

ـ ليه لأ طبعًا ؟! لو على الفرح هعملك أحلى فرح في الدنيا، وكل اللي إنتي عايزاهم يكونوا موجودين هخليهم ييجوا.


هزت رأسها بتوترٍ واضح، وقالت بحزمٍ فيه ارتباك:

ـ مش قبل ما تتكلم مع سالم بيه، ممكن لو أخدنا خطوة زي دي نستفزه فيحاربنا.


تنهد وهو يومئ مؤيدًا ما تقول، فقد كان يعرف تمام المعرفة أن والده لا يقبل بالهزيمة، ولا يحتمل أن يقف أحدٌ في طريقه دون أن يرد الصاع صاعين. كان يدرك أنه لن يكتفي بالغضب فقط، بل سيحول حياتهما إلى ساحة حرب مفتوحة، يستغل فيها كل نفوذه ودهائه ليكسرهما معًا.


أطبق فريد شفتيه بقوة، وعيناه تلمعان بتصميمٍ عنيد، وكأنما يعاهد نفسه في تلك اللحظة، ثم قال بصرامةٍ خافتة:

ـ معاكي حق، لازم أتكلم معاه الأول ، في حاجات كتير لازم أوضحها له ودي هتكون المرة الأخيرة اللي هعمل له اعتبار فيها.. 


تنهدت بأسف وهي تراه يسقط رأسه بضيق، متأمّلًا أصابعها التي ضمها أخيرًا بعد عناءٍ طويل، وكأنّها صارت له الملاذ الأخير. كانت نظراته تتأرجح بين المرارة والإصرار، وصوته خرج متهدّجًا بانهزامٍ ممزوجٍ بتمرّدٍ صامت:

ــ لازم يعرف إنّه مهما حاول يتحكّم في حياتي، أنا هعمل اللي يخلّيني مرتاح وسعيد وبس… مع إنّي عارف إنّ كل ده مش هيفرق معاه أكيد، لكن…


توقّف لحظة، كأنّ الكلمات تخنقه، ثم رفع رأسه ببطء والتقت عيناه بعينيها، فيهما بريق ألمٍ عنيد، وأكمل بصوتٍ منخفض:

ــ لكن لازم أحط النقط على الحروف زي ما بيقولوا .. لأنه لو حاول يخرب حياتي أو يقف في طريقي مرة تانية أنا أكيد مش هقف أتفرج زي كل مرة.


زمت شفتيها بضيق وقالت بخوف :

ـ فريد .. 


ولكنه قاطعها، يعلم جيدا ما ستقوله ، وقال :

ـ متكمليش .. انتي لا كنتي في يوم السبب في مشاكلي معاه، ولا هتكوني طرف أبدا .. من قبل ما أعرفك ومن سنين طويلة وهو بيكسر فيا وبيهدني .. لكن خلاص أنا استكفيت .. أنا مش هفضل طول عمري أبني وهو يهد ، أستحملت كتير وعلى استعداد أستحمل أي حاجه غير إنه يخليني يخسرك .. أنا لو خسرتك مش هتقوملي قومة يا نغم .


في تلك اللحظة، وهي تراه بهذا القدر من الانكسار والحب، شعرت بوخزة حادة في قلبها؛ خزيٌ ثقيل هبط على صدرها حتى كاد يخنق أنفاسها. 


كيف يمكن لرجلٍ يحبها كل هذا الحب، أن يكون هو نفسه الرجل الذي أرهقته، وجعلته يخسر الكثير من أجلها، بينما هو لا يراها عبئًا ولا لعنة، بل دواءً وجسرَ نجاةٍ وملاذًا أخيرًا؟ 


عادت بها ذاكرتها إلى الوراء، إلى أيامٍ كانت تبحث فيها عن نظرة تقدير، أو كلمة طيبة، أو حضنٍ يأويها من قسوة العالم، فلم تجد غير التجاهل والخذلان. وقتها، أقنعت نفسها أن الحب رفاهية لا يليق بأمثالها، وأنها خُلقت لتكون مجرد ظلٍ في حياة الآخرين.


لكن ها هو فريد، يقلب الموازين كلها؛ رجلٌ يمنحها ما لم تتخيله يومًا، حبًا صادقًا يرفعها من قاع الخزي إلى قمة الطمأنينة. كانت تعلم في أعماقها أن هذا الحب الذي يقدمه لها لن يتكرر أبدًا، وأنها مهما عاشت، ومهما قابلت من وجوه وقلوب، فلن تجد حبًا أعظم، ولا إخلاصًا أنقى، ولا صدقًا أعمق.


وحينها عرفت يقينًا خطأها، كأنها كانت تسير طوال عمرها في ممرٍ مظلمٍ طويل، لا ترى فيه إلا العثرات والظلال، حتى جاء هو، فصار نورًا في آخر الطريق.


 لم يكن حبّه مجرد مشاعر عابرة، بل كان مصباحًا يضيء لها العتمة، ومرفأً بعد غرقٍ طويل في بحور الخوف والخذلان. 


شعرت بخزيٍ عميق، كأنها أذنبت في حق قلبٍ لم يعرف غير الإخلاص لها، قلبٍ احتمل وجعها وضعفها، بينما هي كثيرًا ما ترددت وتراجعت.


وأقسمت في داخلها أنها لن تسمح بعد اليوم أن تُطفئ بيدها هذا النور. لن تهرب من دفئه، ولن تحرم نفسها من الأمان الذي يغمرها حين يضم يدها بين يديه. 


لقد فهمت أخيرًا أن هذا الحب ليس نعمة عابرة تُهدَر، بل قدر لا يُعوَّض، وهبة لا تهبها الحياة سوى مرة واحدة، ومن يفرّط فيها كمن يتخلى عن آخر نفسٍ وهو يغرق.


عاهدت نفسها أن تجعل عمرها كله ساحة لإثبات هذا الحب، أن تحوّل أيامها إلى شاهدٍ على وفائها له. لن تكتفي بالوعود، بل ستمنحه حضورًا لا يغيب، ووفاءً لا يخون، وقلبًا يختاره كل يوم وكأنه اليوم الأول. 


رأت فيه وطنها الذي ضاع منها طويلًا، والبيت الذي لم تسكنه روحها من قبل، والمرفأ الذي ستُبحر إليه مهما عصفت العواصف.


كانت تعلم أنها أخطأت، لكنها أيقنت أن الفرصة ما زالت أمامها لتكفّر عن ذلك الخطأ. ومن تلك اللحظة، أدركت أنها أوفر نساء العالم حظّا، فها هي قد وجدت حبّها الأعظم، وأقسمت أن تموت على عهده، بعدما اختارت أخيرًا أن تحيا به وله.


༺═──────────────═༻

#يتبع

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close