رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الرابع والأربعون 44بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الرابع والأربعون 44بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ٤٤ ـ
~ راجعين يا هوى ! ~
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد ليلةٍ كانت بالنسبة إلى نغم الأجمل في عمرها، ليلةٍ نامت فيها قريرةَ العين لأول مرة، مطمئنةَ القلب، ساكنةَ الروح، كأن العالم كله قد اجتمع بين ذراعيها.
وحين تسللت خيوط الصباح إلى الغرفة، فتحت عينيها بشوقٍ طفوليٍّ صادق، تبحث عنه بعينيها كما يبحث الظمآن عن نبعٍ خفيٍّ في الصحراء.
تلهفت لرؤيته، لنيل جرعةٍ جديدة من حنانه الدافئ، ذلك الحنان الذي كان يغمرها دون قيدٍ أو شرط، دون حسابٍ أو تردد.
وقفت أمام المرآة تستعد ليوم جديد، ارتدت فستانًا بلون البنفسج الناعم يلامس بشرتها برقة، وتركت خصلات شعرها المموجة تنساب بحرية فوق كتفيها وظهرها .
ابتسمت لنفسها ابتسامة صغيرة قبل أن تغادر الغرفة بخطواتٍ هادئة، ونزلت الدرج بخفةٍ إلى الطابق السفلي، وهناك لمحته جالسًا على الأريكة المقابلة للنافذة الزجاجية الكبيرة.
كان يوليها ظهره، منغمسًا في حاسوبه الشخصي، تغمره أنوار الصباح المتسللة من خلف الزجاج، فبدت ملامحه هادئة ووقورة كما المعتاد .
اقتربت نغم منه في هدوء، وبدون أن تنبس بكلمة مالت من خلفه، وطَبعت على خده قبلةً دافئةً مباغتةً جعلته يلتفت إليها بدهشةٍ ممزوجةٍ بابتسامةٍ واسعة، ثم جذب يدها بلطف لتجلس إلى جواره، وقال بنغمةٍ مرحةٍ وهو يتأمل وجهها:
ـ إيه الصباح الجميل ده يا نغومه؟
ضحكت بخجلٍ وردّت وهي ترفع حاجبيها مازحة:
ـ إنت اللي جميل على فكرة.
اقترب منها أكثر وهمس بعينين يملؤهما العشق:
ـ مش حقيقي على فكره... انتي اللي جميلة وخطفتي قلبي بجمالك لما شفتك امبارح.
تنفست نغم بعمقٍ خجول، قبل أن يضيف بابتسامة دافئة:
ـ اومال يوم ما تلبسي فستان الفرح هتعملي فيّا إيه بس؟
عندها اتسعت ابتسامتها أكثر، وغمر الخجل وجهها حتى غطّته بكفيها كطفلةٍ صغيرةٍ لا تعرف كيف تُخفي سعادتها.
فضحك بخفة وهو يبعد يديها عن وجهها ويقول مازحًا :
ـ خلاص متتكسفيش .. قوليلي بقا .. عندك مانع أخطفك النهارده في مشوار ساعتين تلاته كده قبل ما نرجع ؟
ـ إحنا خلاص راجعين ؟
تساءلت بانهمام، فأومأ بجدية وهو يشير نحو الحاسوب ويقول بنبرة تخلو من الحماس:
ـ أيوة خلاص حجزت ، الرحلة الساعه ٩ يعني معانا وقت نلف شوية قبل ما نسافر .
تنهدت ثم أومأت برأسها في استسلامٍ رقيق وهي تقول بهدوء:
ـ طيب... زي ما تحب.
ابتسم بخفة، وزمّ شفتيه متعجبًا بإعجابٍ لا يخلو من المزاح، وهو يهز رأسه قائلاً :
ـ يا سلام! ده إيه العقل والرزانة دي كلها ؟!
وتابع وهو ينظر إليها بعينين تفيض دفئًا وإعجابًا، وقال بنغمة مازحة رقيقة:
ـ تعرفي لو فضلتي شطورة كده وبتسمعي الكلام من غير عناد هحبك أوي .
فرفعت حاجبها بتحدٍّ خفيف وقالت وهي تبتسم بمكر:
ـ ولو لأ ؟!
ليجيبها مستسلِمًا بابتسامة دافئة:
ـ هحبك أكتر .
اتسعت ابتسامتها على نحوٍ أربكه وأسر قلبه في آنٍ واحد، فتوقف لوهلة يتأملها كما لو كان يراها لأول مرة، عيناه تتوغلان في عينيها باحثتين عن سرٍّ خفيٍّ لا يعرف كنهه، عن تلك الجاذبية التي تشده إليها كل مرة كأنها السحر ذاته.
فإذ به يمد يده برفق، يزيح خصلةً تمردت على جبينها، وقال بصوتٍ خافتٍ مشوبٍ بالدهشة:
ـ كل مرة بشوفك فيها بحس إني بلاقي نفسي من جديد… وكإني كنت تايه طول عمري لحد ما شُفتك.
أخفضت عينيها وأخذت تعبث بأصابعها بتوتر، كأنها تحاول إخفاء ارتباكها عن نظراته المتعمقة، بينما هو يتابع بصوتٍ دافئ يفيض صدقًا :
ـ متتصوريش قد إيه وجودك غير فيا حاجات كتير يا نغم… بقيت بشوف الدنيا بلون تاني، كل حاجة حواليا بقت ليها معنى من وقت ما دخلتي حياتي.
فأجابته بنبرة مرتجفة تحمل في طياتها جرحًا طال تجاهله من قبلها، والآن حان وقت الاعتراف به :
ـ إنت اللي غيرت حياتي يا فريد .. أنا كنت واحدة تانيه قبل ما أعرفك، كان عندي دايما إحساس إني عايشه حياة مش شبهي، بعمل حاجات مش عايزاها، كنت حاسة إني تايهة و بدوّر على بر الأمان..
رفعت عينيها لتنظر إليه وتابعت وفي صوتها غصة لا يمكن إغفالها :
ـ كنت عايشة طول الوقت خايفة، حاسة إني لوحدي.. بالرغم من إن خالتي كانت حنينة جدا عليا وبتحبني.. بس أوقات كنت بخاف حتى أعترض على أبسط الأمور علشان متزعلش مني .. أفتكر إني عمري مثلا ما قلت إن الأكل ده مش عاجبني ، أو الهدوم دي مش عجباني، حتى يوم ما قالوا لي مش هتروحي المدرسة تاني حسيت إنه عادي ! هو أنا يعني كنت هبقى دكتورة مثلا ؟! اكيد لأ.
وعادت تنظر أمامها في شرودٍ من جديد وتابعت :
ـ كان عندي احساس إني دايما لازم أقبل باللي بيتقدملي سواء عاجبني أو لأ .. كنت دايما بقول لنفسي كتر خيرها إنها مربياني ومخليه بالها مني.. كنت بسعى اني أخليها مبسوطة مني دايما ، كنت بحاول أرضيها حتى لو على حساب راحتي ..
أغمضت عينيها تحاول درء دمعة كادت لتعلن عن نفسها، وتابعت :
ـ وأنا صغيرة .. كنت دايما بخاف أغلط أو أزعلهم مني يطردوني وملاقيش حد أروح له .. بالرغم من إنها كانت حنينه عليا جدا والله وعمرها ما زعلتني.. بس كنت خايفه طول الوقت وعاوزة أثبت لها إني أستحق إنها تحبني وتعاملني كويس .
ونظرت إليه وتسائلت بصوتٍ مرتجف :
ـ فاهمني ؟
أومأ فريد مؤكدًا، وأطلق تنهيدة مثقلة وكأن كل هموم نغم التي حملتها سنواتًا طويلة تتردد في صدره. كان يفهم تمامًا ما مرت به: محاولاتها الدائمة لإرضاء الآخرين، شعورها بالوحدة رغم الحنان الذي تلقته، خوفها من التعبير عن رغباتها، وإحساسها بأن حياتها لم تكن ملكًا لها أبدًا.
كانت هذه المعرفة تعكس تعاطفه العميق وفهمه النفسي لها، حيث أدرك أن محاولتها لإرضاء الآخرين دائمًا كانت مجرد محاولة لإيجاد شعور بالأمان، وأن حاجتها للقبول كانت نابعة من نقص في الاستقلالية العاطفية التي حرمها منها الماضي.
أمسك بيدها برفق، ومرر أصابعه عليها وكأن كل لمسة تهدئ قلبها وتمنحه إشارات صامتة أنها ليست وحدها. لم تكن هذه اللمسة مجرد حنان، بل طمأنة عميقة، تعكس وعيه بمسؤولية حمايتها، ورغبته في أن يكون الملاذ الذي لم تجده من قبل.
امتدت ذراعه عبر الأريكة من خلفها، محيطًا كتفيها بذراعه، بينما هي تابعت :
ـ حتى لما كان بيحصل بيني وبين حسن مشكلة .. كنت من جوايا حاسه إنه مهما كان مين الغلطان هتاخد صف حسن لأنه ابنها، بالرغم من إن ده كان غلط.. أوقات كتير كانت بتقف جنبي وبتتخانق معاه علشاني.. لكن كنت من غير قصد حاسه إني مهما كنت قريبة منها هفضل بردو وحيدة ومليش حد.
تنهد وهو يشعر بالأسى حيالها، ثم مد أنامله برفق ليُمسك بتلك الدموع التي حاولت الانزلاق على وجنتيها، ويقول :
ـ بس انتي دلوقتي خلاص مبقيتيش وحيدة ، أنا معاكي.
أخذت تهز رأسها بخفة، كأنها تُطمئن نفسها وتؤكد لنفسها أن ما تشعر به حقيقي، بينما هو تابع بنبرة دافئة ومليئة بالثبات:
ـ عمرك ما هتحسي إنك وحيدة تاني أبداً.. أنا هفضل دايمًا جنبك، ومش هسيبك لحظة، مهما حصل.
ارتجف قلب نغم حين نطق كلماته، شعرت بدفء غريب يملأ صدرها، كأن كل الخوف والوحدة التي حملتها لسنوات بدأت تتلاشى. كل نظرة منه، كل لمسة صامتة، كانت تؤكد لها أن هناك من سيحميها، من سيقف بجانبها مهما كانت الظروف.
تنفست ببطء، وهي تستشعر معنى جديد للحياة، معنى لم تعرفه من قبل: الأمان الحقيقي والثقة المطلقة بشخص واحد فقط، مهما عصفت بها الرياح سيكون داعمًا ومخلصًا لها.
كانت تتمنى لو تُفصح له عن حب يفيض به قلبها، أن تمنحه اعترافًا جديدًا لم يُقال بعد، أن تضع قلبها بين كفّيه مطمئنةً أنه في يدٍ أمينة، لكنّ الكلمات خانتها.
كأنها أدركت في لحظة أن بعض المشاعر لا تُقال، لأنها حين تخرج تفقد قدسيتها وبريقها.
فمدّت ذراعيها نحوه تعانقه بقوة، كأنها تُلقي إليه بكل ما عجز لسانها عن قوله، وبكل ما خبّأته داخل صدرها من خوفٍ ووحدةٍ ذات يوم.
تلقاها بين ذراعيه برحابة قلب عاشقٍ طال انتظاره، شدّها إليه، راغبًا في جعلها قريبةً منه حدّ التماهي، كأن اقترابها هو وحده الكفيل بإسكات ضجيج الشوق الذي أربك صدره.
أراد أن يحتفظ بها هناك، في ذلك الفراغ الضيق بين قلبه وقلبها، حيث لا شيء سوى أنفاسهما المتشابكة، وارتجاف صمتهما الذي قال كل ما عجزت عنه الكلمات.
ـ فريد ..
همهم متسائلا وهو يحتجزها بين ذراعيه، فأجابته بعاطفةٍ صادقة وهي تتشبث به كمن يتمسك بطوق نجاة :
ـ متسيبنيش أبدا ..
أومأ وهو يمسح على ظهرها بحنانٍ يغمر قلبها ويخلق داخلها شعورا لا إراديا بالانتماء إليه، وقال:
ـ مش هسيبك أبدا .
ـ حتى لو أنا قلت لك .. اوعى تسمع كلامي .
ضحك بخفة وهو يبعدها عنه لينظر إليها قائلا بنبرة تجمع بين المزاح والجدية :
ـ لأ من الناحية دي اطمني ، لو سمعتك بتقوليها تاني هكسر لك دماغك .
هزت رأسها بابتسامة واسعة وأردفت:
ـ وأنا موافقة .
ثم تلعثمت قليلًا، كأن الكلمات تتزاحم عند طرف لسانها تبحث عن شجاعةٍ للخروج، وتراقصت الحروف على شفتيها المرتجفتين، فعرف من نظرة عينيها أن هناك شيئًا تريد قوله، شيئًا خرج من القلب ويخشى أن يُقال.
مال نحوها قليلًا، وبرز صوته خافتٌ دافئ كنسمةٍ تطمئنها:
ـ عايزة تقولي إيه يا نغم؟ أنا سامعك.
نظرت إليه بخجلٍ حاولت إخفاءه بابتسامةٍ واهنة، ثم قالت بصوتٍ خافتٍ :
ـ نفسي أوي نتجوز ويبقى عندنا ولاد كتير .
وتابعت بصوتٍ خافتٍ ينساب كحلمٍ قديم، وعينيها معلقتان بنقطةٍ بعيدة أمامها، كأنها ترى المشهد يتكوّن هناك على مرأى من خيالها :
ـ نفسي يبقى عندي عيلة خاصة بيا .. أكون أنا المسؤولة عنها ، يكونوا من لحمي ودمي ..
ثم التفتت إليه ببطء، تغمر نظراتها سكينة ودفء، وقالت بنبرةٍ يغلفها الرجاء :
ـ إنت فاهمني مش كده ؟
فاجأه قولها بقدر ما غمره بالدفء، كأنها فتحت نافذة صغيرة على حلمٍ كان يخفيه هو الآخر في أعماقه، يخاف الإفصاح عنه قبل الأوان.
تسمرت عيناه عليها للحظة، يتأمل ملامحها المضيئة بذلك البرق الطفولي حين تتكلم عن المستقبل، ثم ابتسم ابتسامة هادئة، امتزج فيها الحب باليقين، وأومأ وهو يقول مبتسما ابتسامة مفعمة بالحب:
ـ طبعا فاهمك، وفاهمك كويس أوي، لأن دي أمنية حياتي أنا كمان .
تلألأت عيناها ببريقٍ جديد، وانفرجت شفتاها عن ابتسامة حالمة، كأنها رأت في خيالها صورةً تلامس قلبها..
رفعت عينيها لتقابل عينيه، فإذ به يبتسم لها تلك الابتسامة التي تُربك قلبها كل مرة، ابتسامة دافئة تحمل بين ثناياها وعدًا بالأمان، وهمسًا خافتًا بالحب.
ثم مال نحوها، وطبع قبلة على خدها جعلت وجنتيها تتوردان في خجلٍ عذب.
قبلةٍ عميقة، لم يمنع نفسه خلالها من الانغماس في دفء أنفاسها، كأنما أراد أن يسرق من بين شهيقها بعضًا من روحه، وأن يحتفظ برائحتها لتسكن صدره إلى الأبد.
كانت لحظة امتزج فيها الشوق بالدهشة، والرغبة بالسكينة، حتى لم يعد يميّز إن كان يحتضنها بشفتيه أم يذوب فيها بكل كيانه.
بينما ارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة، غابت عن وعيها لوهلةٍ، كأنها انسحبت من الدنيا بأسرها إلى عالمٍ ضيق لا يسكنه سواهما.
دفء أنفاسه لامس بشرتها بخفةٍ جعلت أناملها ترتجف.
خفق قلبها بعنفٍ لم تألفه من قبل، وكأن كل المشاعر التي كانت حبيسة الانتظار قررت أخيرًا أن تُولد دفعةً واحدة.
رفعت رأسها ببطء، بعينين تائهتين بين الخجل والتوق، لتلتقي بنظراته التي أسرتها برفقٍ مهيب، كأنها قيدٌ من حريرٍ لا يُقاوَم.
في تلك اللحظة، تمنّت لو يتوقف الزمن، أن يبقى قريبًا هكذا، يبدّد خوفها بصمته، ويمنحها يقينًا بأن للحب وجهًا آمنًا يمكن الاحتماء به دون خشيةٍ من الانكسار.
ولكنه حمحم بخفوت وهو يحاول استعادة أنفاسه التي بعثرتها تلك اللحظة، ثم ابتعد عنها قليلًا وكأنه يخشى أن يذوب أكثر في سحرها.
مرّر أصابعه بين خصلات شعرها بحنوّ، ثم أمسك بيدها بين كفّيه، ونظر إليها بعينين امتلأتا دفئًا وارتباكًا وهو يقول بصوتٍ خافتٍ يحمل شوقًا مكبوتًا:
ـ لازم نعمل فرحنا قريب .. اللي بيحصل ده حرام والله .
نظرت إليه باستفهام، لم تعِ تمامًا ما كان يقصده، فأطلق تنهيدة طويلة وهو يمرر يده على عنقه ومؤخرة رأسه، ونظره لا يفارق وجهها، كأنه يبحث عن الكلمات التي تعجز عن التعبير عمّا في داخله.
ودّ لو يقولها صريحةً: حرام هذا البُعد، وهذا الصبر القاسي، وهذا الشوق الذي ينهشني كل ليلة وأنا مضطرّ أن أكتمه لئلا أطفئ بهذا القرب قداسة الحب التي صنعتها بيدي.
ربت على ظهرها بحنو، ثم قال :
ـ عندك مانع لو عملنا الفرح آخر الشهر ده ؟!
نظرت إليه متعجبةً وقالت :
ـ آخر الشهر اللي هو بعد أسبوعين ؟!!
أومأ مؤكدًا وقال :
ـ أصلا أسبوعين كتير بس لازم أرتب شوية حاجات في مصر الأول علشان لما نتجوز إن شاء الله ناوي أجيبك ونرجع هنا تاني نقعد فترة .
ابتسمت وتنهدت بعمق ثم أومأت بحماس تحاول لجمه، وقالت :
ـ ماشي .. موافقة .
ابتسم بدوره، وقد لمعت عيناه بذلك البريق الدافئ، ثم قال بصوتٍ تغمره السعادة:
ـ اتفقنا يا نغومه.. عاوزك بقا تفكري كده على مهلك وتجهزي كل طلباتك وكل تخيلاتك عن اليوم وتبلغيني بيها علشان ألحق أخطط لها من دلوقتي.. لازم اليوم كله يكون بناءً على طلباتك، وكل تفصيلة فيه تكون من اختيارك انتي .
ضحكت بخفة، تميل برأسها نحوه كطفلةٍ تستسلم لفرحتها، بينما هو يتأملها بصمتٍ مشوب بالامتنان، كأن وجودها وحده وعدٌ صادق بأن الأيام القادمة ستحمل له كل ما انتظره طويلًا.
ـ هقوم أجهز وراجعلك .
ابتسمت في صمت وأومأت بحماس، فمدّ يده يجذب وجنتها برفق بين إصبعيه قبل أن ينهض متجهًا إلى غرفته. وما إن أمسك بمقبض الباب وفتحه، حتى وجد نفسه وجهًا لوجه مع عمر، الذي كان يستعد للخروج في تلك اللحظة.
ـ صباح الخير يا نجف بَنّور يا سيد العرسان .
قالها عمر ثم اقترب وطبع قبلة سريعة على خدّ فريد، محدثًا صوتًا مرتفعًا جعل الأخير يتراجع خطوة إلى الوراء بتأفف، ناظرًا إليه بنظرة ممتعضة وهو يقول:
ـ بس بقا يبني هو إنت مشبعتش تلزيق في حسن جاي تقرفني ؟
نظر إليه عمر بدهشة، وقال بنبرة تجمع بين المزاح والاستغراب :
ـ بصبح عليك يا عم مالك ؟ وبعدين دي بوسة أخويه يعني مفيهاش حاجه.
ـ صبح عليا من غير بوس .. من بعيد لبعيد.. أنا مش عارف بس العادة الزفت دي جبتها منين!
رفع عمر حاجبيه متعجبا وقال باعتراض :
ـ عادة زفت ؟! هو التعبير عن الحب والمشاعر الصادقة والأحاسيس النبيلة بقا عادة زفت ؟! هو إحنا ليه كعيلة مفيش عندنا ثقافة البوس بجد ؟! ليه ماتربيناش إننا نقوم الصبح نحضن بعض ونبوس بعض ونعبر عن مشاعرنا لبعض ؟! طب ده حتى في دراسة علمية حديثة أثبتت إن البوس ده شيء صحي جدا بيفرز هرمون السعادة ويقوي الجهاز المناعي !
نظر إليه فريد وهو يهز رأسه يائسا ، متقدما نحو الخزانة يلتقط منها سروالا من الجينز وقال متهكمًا :
ـ نفسي مره أشوفلك دراسة علمية واحدة مفيدة ! كل الدراسات اللي بتعملها شمال !
وقف عمر متخصرًا بيديه وهو يهتف بجدية زائفة :
ـ مش ذنبي إنك جاهل وسطحي ودراساتك كلها في الهندسة !
ـ أنا جاهل وسطحي يا سفيه !
قالها فريد بانفعال وهو يرمي السروال نحوه بعصبية، فتلقّفه عمر بخفة وهو يبتسم قائلا :
ـ حلوة أوي درجة الچينز دي بدور عليها من زمان ..
وألقى إليه قبلة طائرة وهو يتابع :
ـ ألف شكر يا حبيب أخوك ، هو محتاج يتقصر شوية نسبةً لفرق الطول يعني بس مش مشكلة .. هدية مقبولة يا حبيبي.
زفر فريد بنفاذ صبر وأشار إليه قائلا :
ـ اطلع بره يا عمر ..
أومأ والتفت ليغادر ولكنه عاد ينظر إليه من جديد ويقول:
ـ طب مفيش بقا كام تيشرتايه حلوة تكون ريحتك فيهم ؟
ليجيبه الآخر ساخرا :
ـ وانت عايز ريحتي فيهم ليه ؟ ناوي تعمل لي عمل ؟!
ضحك عمر وهو يستند بمرفقه إلى باب الغرفة ويقول :
ـ ترا والله دمك خفيف .. بس لأ مش ناوي أعملك عمل، أقصد من ريحتك يعني .. تذكار منك .
زفر فريد وهو يمسح على وجهه بنفاذ صبر قائلا :
ـ الدولاب كله تحت أمرك يا عمر بس اتفضل بقا خليني أخلص لأني مستعجل ..
غمزه عمر بخبث وهو يقول مازحًا:
ـ باين عليك خارج مع نغم، صح؟ أيوة يا عم عيــــش، عيش وكُل عيش، إلحق نفسك قبل ما نرجع لسالم مرسال ويطلع البلا الأزرق على جتتنا!
ضحك فريد رغمًا عنه، وأشاح بوجهه جانبًا يكمل ما بدأه، بينما ألقى عمر السروال على الفراش وغادر الغرفة تاركًا خلفه صدى كلماتٍ تبدو ساخرة ولكنها أقرب للحقيقة منها للمزاح .
༺═────────────────═༻
بعد قليل …
كانت الشمس تتسلّل بخجلٍ من بين غيومٍ وديعة، والمدينة تستيقظ على أنغامٍ هادئةٍ تشبه نبض الحياة الأولى. جلست نغم إلى جوار فريد داخل السيارة، تحدق عبر النافذة في ملامح الطريق من حولها وهي توثق الرحلة منذ بدايتها عبر كاميرا هاتفها .
نظر فريد إليها مبتسما وقال :
ـ لو كنت أعرف انك هتكوني مهتمة بتوثيق اليوم كده كنت جبت لك كاميرا ..
نظرت إليه وهي تصوب كاميرا هاتفها نحوه، وقالت بخفة ظل تقلد إحدى المقاطع الدارجة :
ـ فريد ..
همهم متسائلا وهو ينقل بصره بينها وبين الطريق أمامه، فقالت :
ـ بتحبني ؟
أومأ بكل جدية وقال :
ـ بموت فيكي يا روحي ..
ـ قوللي طبعا يا حياتي ..
ضحك بخفوت وهو يجيبها طائعًا :
ـ طبعا يا حياتي ..
فعادت تسأله مرةً أخرى :
ـ بتحبني ؟
ـ طبعا يا حياتي..
ـ قوللي وبقولها يوماتي ..
ضحك وهو يهز رأسه مستسلمًا لجنونها وردد بجدية وهو يمسح على جانب عنقه :
ـ وبقولها يوماتي..
ـ يلا بص قدامك بقى بدل ما ندخل في العمود.
قالتها بجدية والتفتت بالهاتف تتابع الطريق من حولها، حيث كانت السيارة تشق طريقها صعودا نحو الهضبة ؛ فسألته :
ـ إحنا دلوقتي رايحين فين ؟
فأجابها وهو يتابع الطريق باهتمام بالغ:
ـ دلوقتي رايحين الأكروبوليس، التلة اللي فوق دي.. فيها أهم أثر في أثينا، واللي هو معبد البارثينون، وده من أقدم وأجمل المعابد في التاريخ .
نظرت إليه باهتمام وقالت:
ـ ده زي معبد الكرنك عندنا مش كده ؟
أومأ مؤكدًا وقال :
ـ والله برافو عليكي .. البارثينون كان المركز الديني الأكبر في أثينا ومكرّس للإلهة أثينا.. والكرنك بردو كان المركز الديني الأعظم في مصر القديمة ومكرّس للإله آمون رع.
نظرت إليه بانتباه وتسائلت :
ـ هي أثينا اتسمت على إسم واحدة ست ؟!
أومأ ضاحكا وقال :
ـ أيوه، "أثينا" كانت إلهة الحكمة عند اليونانيين القدامى..
وتابع شارحًا :
الأسطورة بتقول إن كان في زمان منافسة بين الإله "بوسيدون" (إله البحر) و"أثينا" (إلهة الحكمة) على مين اللي هيسمّوا المدينة باسمه؛ فقرروا يعملوا مسابقة وكل واحد منهم يقدم هدية لسكان المدينة، والناس يختاروا الهدية الأفضل.
"بوسيدون" ضرب رمحه في الأرض وطلع منها نبع ماء مالح…… و "أثينا" زرعت شجرة زيتون، اللي كانت رمز للحياة والسلام والرخاء؛ علشان كده الناس اختاروا هدية "أثينا" لأنها أكثر نفعًا ليهم، ومن يومها اتسمت المدينة باسمها .
رددت نغم بفخر :
ـ سبحان الله، حتى في الأساطير الستات دايما بتفهم عن الرجالة.
نظر إليها ورفع حاجبًا بتعجب ممزوج بابتسامة جانبية وقال:
ـ مقبولة منك يا ست هانم .
انفلتت ضحكتها على نحوٍ أضحكه، ثم سكتت لحظة وهي تتأمل الطريق المتعرج بين الصخور القديمة وأشجار الزيتون ..
كانت الشمس في كبد السماء حين توقّفت السيارة عند أسفل الهضبة، بالتحديد نحو الطريق المؤدي إلى حي " بلاكا " فنظر إليها فريد وقال مشيرًا نحو الممرات الحجرية المتعرجة والمقاهي الصغيرة التي تصطف على جانبي الطريق، وقال:
ـ تعالي نفطر الأول وبعدين نطلع .
سارا سويًا، حيث كان الطريق محاطًا بمبانٍ قديمة بألوان فاتحة، تتعانق واجهاتها مع الزهور المتسلقة على الجدران، فيما تتخللها أبواب خشبية ونوافذ صغيرة تعكس عبق الماضي.
أخذت أصوات خطوات المارة وموسيقى الحانات والمقاهي الصغيرة تتسلل إلى مسامعهما بجرأة، فتملأ الجو بحيوية، بينما يلوح من بعيد منظر التلال المكسوة بأشجار الزيتون، وكأن الحي يهمس بحكاياته التاريخية لكل من يمر به.
كانت نغم ترفع كاميرا هاتفها بين الحين والآخر، تلتقط الصور للأزقة الضيقة والجدران المزينة بالجداريات، بينما فريد يتابع الطريق مبتسمًا، مستمتعًا بالمناظر المتناغمة من حوله .
توقفا عند أحد المقاهي الصغيرة على جانب أحد الأزقة المرصوفة بالحصى، حيث تنتشر الطاولات الخشبية في الهواء الطلق وتعلوها مظلات بيضاء خفيفة تحمي من أشعة الشمس. رائحة القهوة اليونانية الطازجة والمعجنات الساخنة امتلأت في المكان، فيما تنساب موسيقى هادئة من داخل المقهى.
جلسا على طاولة تطل على الزقاق، وطلبا إفطارًا يونانيًا تقليديًا: الزبادي مع العسل والمكسرات، والخبز الطازج مع الجبن والأعشاب، وبعض الفواكه الموسمية.
بدأا بتناول فطورهما باستمتاع، بينما كانت أعينهما تتتبع العازف المسن الذي اجتمع حوله عدد من رواد المقهى، فلاحظ فريد إعجاب نغم بعزفه، إذ كانت تبتسم وهي تنظر نحوه بتركيز واندهاش.
أشار إليه فريد، فتقدم العازف نحوه، وطلب منه فريد أن يهدي نغم لحنًا رومانسيًا… تساءل العازف عن هويتهما، وما إن عرف أنهما مصريان حتى رحب بهما بحرارة، وأعلن بابتسامة ناطقًا باليونانية :
ـ سأهدي زوجتك أغنية مميزة جدًا، هذه الأغنية أهداها شاب يوناني لحبيبته المصرية التي أسرت قلبه.
مط فريد شفتيه بإعجاب، ونظر إلى نغم قائلا :
ـ بيقولك هيغني لك أغنية غناها شاب يوناني لحبيبته المصرية ..
تبادلت معه النظرات المليئة بالاعجاب، وبدأ العازف يتغنى وهو يعزف على العود ويقول باليونانية :
ـ عزيزتي المصرية ، ما أجمل تلك العينان !
أوقدتِ شعلة في الوجدان .
آه يا حبيبي، آه يا لالالي .
شفاهك تقطر عسلًا .
بقبلة تغيرت حياتي .
آه .. يا المصرية .. آه يا لالالي.
بعيونك الساحرة يا جميلتي المصرية .
صرتُ كالمجنون، لم أعد أتحمل !
نظر إليها فريد مبتسمًا وهو يميل نحوها يمعن النظر داخل عينيها ويقول ويقوم بترجمة كلمات الأغنية بلغةٍ خاصة :
ـ بيقولها عينيكي حلوين جدا يا حبيبتي المصرية .. والله معاه حق ، انتي عينيكي حلوين فعلا .
رفرفت نغم بأهدابها في دلالٍ وابتسامة جعلتها تبدو فاتنة بحق، بينما تابع فريد قائلا :
ـ بيقولها كمان إنتي حركتي جوايا شعور قوي جدا عامل زي النار .
استمع إلى المقطع الذي تلاه ونظر إليها مبتسمًا بمكر وقال :
ـ بيقولها كمان شفايفك بتنقط عسل ..
وأشاح بوجهه وهو يتمتم بتذمر زائف:
ـ استغفر الله العظيم يارب إيه الانحلال والانفلات الأخلاقي ده.
التفت متصنعًا الجدية، تاركًا إياها تموج في موجة من الخجل قبل أن يلتفت مجددا ويضيف:
ـ بيقول لها انتي غيرتي حياتي كلها بقُبلة واحدة ..
قالها والتفت إلى شفتي نغم بلا وعي، مسترجعًا في ذهنه تلك القبلة الأولى التي بالفعل قلبت حياته رأسًا على عقب وغيرت كل شيء. شعور بالدفء اجتاح قلبه وقتها، وكأن كل ثانية يقضيها معها الآن كانت امتدادًا لذلك الشعور الذي وُلد داخله منذ أول لقاء جمعهما، وفي أعماقه، لم يتوقف شغفه ورغبته في استعادة ذلك الشعور، كان يتوق لتلك اللحظة الخاصة التي تجمعهما بعيدًا عن أعين الآخرين، لحظة يمكنه فيها أن يشعر بحرية قلبه، ويعيد لنفسه دفء تلك القبلة التي أثبتت له بعد يأسٍ أن ذلك الرابض في يساره لا يزال بخير.
أشعرتها نبرته بعدم الراحة، فمالت نحوه لكي يسمعها وحده، وقالت بشك :
ـ بذمتك دي كلمات الأغنية فعلا ولا إنت بتخُم !
ابتسم وقال
ـ والله كلمات الأغنية لو مش مصدقاني ممكن أجيبلك الترجمة دلوقتي حالا على goggle تشوفيها بنفسك .
تراجعت تستقيم بظهرها وهي تنظر إليه قائلة :
ـ لأ خلاص مصدقاك .
عندما انتهى العازف من عزف الأغنية، مد فريد يدَه إلى المحفظة وأعطاه مبلغًا سخياً، تعبيرًا عن امتنانه العميق على اللحظة التي صنعها لهما، ولإسعاد نغم بطريقة لا تُنسى.
ابتسم العازف وشكرهما، ثم نهض مبتعدًا، بينما كان فريد يشعر بسعادة غامرة وهو يراقب تأثر نغم بتلك اللحظات البسيطة .
أكملا فطورهما، فأخرج هاتفه وقام بالاتصال بعمر الذي أجابه على الفور قائلا :
ـ أهلا باللورد فريد فخر صناعة عائلات مرسال .
ضحك فريد بهدوء وقال ممازحًا :
ـ متشكر يا بشمهندس عمر ، كلك ذوق.
ـ إيه الأخبار ؟
ـ كله تمام ، انت إيه الأخبار عندك؟ فطرتوا ولا لسه ؟
ـ والله نسيم لسه نايمة وأنا مش عارف أعمل حاجه ، أديني مستني بقا لما تنزل تعمل الفطار .
ـ وعلى إيه تتعب البنت وهي تعبانة أصلا ! على العموم أنا هطلب لكم الفطار شوية ويوصلك ..
ـ ألف شكر يا برو ..
ـ خلي بالك من نسيم ، ولو حبت خدها واخرجوا اتمشوا شوية على ما ييجي ميعاد الطيارة ٩ بالليل .
ـ ماشي .. يلا أسيبك بقا تطلب الفطار علشان ميتأخرش .. بس بقولك ايه اوعى تخليهم يجيبوا فطيرة السبانخ دي تاني علشان تقيلة على معدتي.
ـ حاضر ..
ـ استنى.. اطلب لي بوغاتسا بالجبنة وخليهم يكتروا ها..
ـ حاضر يا عمر .. أي أوامر تانية ؟
ـ ربنا يستر طريقك .. مع السلامة.
أنهى فريد الاتصال ضاحكًا، وقام بطلب الفطور الذي اختاره عمر عبر أحد التطبيقات، ثم جلس مع نغم يستمتع بما تبقى من وجبتهما، بين حديث خفيف وضحكات متقطعة، حتى أنهيا فطورهما. بعدها، غادرا حي بلاكا، متجهين نحو الأكروبوليس، ومن هناك تابعا صعودهما على الأقدام بين أفواج الزوّار.
الهواء كان دافئًا يحمل عبق التاريخ، بينما نغم مأخوذةً بما تراه أمامها؛ أعمدة شاهقة نُحتت من الرخام الأبيض، تتلألأ تحت الضوء كأنها تحكي قصص القرون الماضية.
أمسك فريد بيدها جيدًا وهما يتقدمان خطوة للأمام، بينما هي تتابع المكان من حولها وهي تتمتم بإنبهار :
ـ شيء مدهش !
أومأ مؤكدًا وأشار إليها مبتسمًا:
ـ شيء مدهش فعلًا.. كل حجر هنا محطوط بحساب، كل زاوية معمولة بدقة وإتقان بالرغم من إن وقتها مكانش في أي معدات حديثة .. الحضارة اليونانية القديمة شيء عظيم بصراحة .
ثم صمت لحظة وأكمل وهو يبتسم:
ـ بس برضو، مهما شُفت من عظَمة الحضارات، تفضل الحضارة المصرية ليها مكانة تانية خالص.. إحنا أول ناس حطّينا معنى للهندسة والمعمار، الأهرامات لحد النهارده محدش قدر يفهم سرّها.
وتابع وهو يحيط كتفيها بذراعه بتملك :
ـ لما نتجوز إن شاء الله لازم ناخد جولة ما بين الأقصر وأسوان علشان تشوفي العظمة اللي بجد .
فركت يديها بحماسٍ عاجل وقالت:
ـ وليه نستنى ما نروح بعد ما نرجع علطول.
ـ للأسف مش هينفع لأن زيارة زي دي مش هتنفع صد رد، هنحتاج ننزل في اوتيل كام يوم .
أومأت بتفهم وقالت :
ـ ماشي .. والأهرامات كمان ..
أومأ طائعًا بابتسامة:
ـ والأهرامات كمان ، انتي تؤمري يا حبيبي .
شردت قليلا فسألها :
ـ سرحانة في ايه ؟
هتفت بحنقٍ طفولي فاجئهُ :
ـ افتكرت لما كنت في خامسة ابتدائي وكان المفروض أروح رحلة للأهرامات تبع المدرسة بس حسن منه لله مرضيش .
وزفرت وكأنها ما زالت طفلة بعمر العاشرة، فأخذ فريد يحدق بها محتارًا، متأرجحًا بين الضحك والحزن، مدركًا أن تلك اللحظة تكشف له عمق البراءة التي لم تفقدها رغم ما مرت به، وأن كل حلم بسيط لم تحققه لا زال يحمل أثرًا طويلًا في قلبها، أثر يريد هو أن يمحوه بحضوره ودفء حبه.
مسح على ذراعها برفق وهو يقول موجهًا إياها بحنان :
ـ بلاش تفكري في الماضي علشان تقدري تستمتعي بالحاضر وتخططي كويس للمستقبل .. ارمي اللي فات كله ورا ضهرك وفكري في اللي جاي وبس ..
ونظر إليها بعينين تلمعان بالحب والحرص، شاعرًا بقسوة كل اللحظات التي فقدت فيها البهجة التي تستحقها، فبدا له أن كل ثانية معه فرصة ليعوضها عن أي شعور بالحرمان أو الحزن. ثم تابع بصوتٍ دافئ ومفعم بالعزم:
ـ وأنا أوعدك هعمل كل اللي أقدر عليه وزيادة، علشان أعوضك عن كل حاجة كان نفسك تعيشيها ومعرفتيش.
شبكت أصابعها بأصابعه وأهدته ابتسامة ممتنة وقالت:
ـ ربنا ميحرمنيش منك ، إنت أحن إنسان في الدنيا .
قربها إليها بخفة وقبّل أعلى رأسها بصمت، ثم قال :
ـ يلا خلينا ندخل نستكشف المكان من جوه ونشوف عامل إزاي .
ــــــــــــــــــــــــــ
وصل فريد ونغم إلى إحدى قاعات المتحف الصغيرة داخل الأكروبوليس، حيث كان تمثال "كيوبيد" الروماني يقف متألقًا على قاعدة حجرية منخفضة. أضاء الضوء الطبيعي القادم من النوافذ العالية منحوتاته الرقيقة، فأبرز تفاصيل جسده الصغير، وجناحيه النحيفين، وسهمه الذي لا يزال متجهًا للأعلى كرمز للحب الأبدي.
وقفت نغم مذهولة، عينها تتجول بين الانحناءات الرشيقة والملامح البرّاقة، مد فريد يده، ولمس الزجاج الواقي برفق، ثم ابتسم قائلاً :
ـ شوفتي ده؟ ده "كيوبيد" ، إله الحب عند الرومان ، إبن "فينوس" إلهة الجمال .. و "مارس" إله الحرب .
وتابع :
ـ كيوبيد ده يا ستي أي حد بيصيبه سهمه لازم يقع في الحب فورا .
هزت رأسها بدهشة فأومأ وهو يقول :
ـ الأسطورة بتقول إن كيوبيد ده كان بيملك سهام مختلفة، منها الذهبي والنحاسي، يقال إنه السهم الذهبي بيخلي اللي يتصاب بيه يحب أي حد يقابله من أول نظرة، أما السهم النحاسي فبيخلي اللي يتصاب بيه يكره أي حد يقابله و بردو من أول نظرة ..
نظرت نغم نحو التمثال بتعجب ، بينما أحاط فريد خصرها بيدٍ وهو يتابع :
ـ لحد ما في يوم اتولدت بنت جميلة جدا جدا جدا… إسمها نغم … !
التفتت نغم إليه فجأة ضاحكةً فضحك بدوره، ثم تابع :
ـ البنت كان اسمها " سايكيه " ومن شدة جمال البنت دي الناس كانوا بيعبدوها أكتر من " فينوس " اللي هي مين ؟
ـ اللي هي أم كيوبيد ..
أومأ مبتسمًا وقال :
ـ برافو عليكي..
فتابعت بحماس :
ـ متقولش إنها لما عرفت غارت لأنها أجمل منها !!
أومأ مؤكدًا وقال:
ـ ده فعلا اللي حصل، "فينوس" لما عرفت حست بالغيرة منها وبعتت ابنها "كيوبيد" علشان يرمي على "سايكيه" سهم يخليها تقع في حب أسوأ إنسان .. لكن اللي حصل إن "كيوبيد" نفسه وقع في حبها وبقي مجنون بيها .
زمت نغم شفتيها وهي تهتف بانفعال حقيقي :
ـ يستاهل علشان يبقى يسمع كلام أمه "فينوس" الحرباية .
ضحك فريد عاليًا ثم تابع وقال :
ـ وبعد ما وقع كيوبيد في حب سايكيه، الأحداث اتدهورت شوية بسبب غيرة أمه اللي كانت شايفة جمال سايكيه بيهدد مكانتها، فبدأت تحاول تعقد العلاقة بين الاثنين، وفرضت عليها مجموعة من الاختبارات الصعبة جدًا، اللي كان من الصعب على أي حد عادي ينجح فيها.. لكن سايكيه واجهت كل التحديات بشجاعة وصبر، وكل مرة كانت بتثبت قد إيه قلبها نقي وإيمانها بالحب قوي.
وكيوبيد، برغم كونه إله الحب قدر يحميها ويقف جنبها بدون ما يخضع قدام غضب أمه، ومع كل اختبار، زاد تعلقه بيها وحبه ليها.
وفي النهاية، بعد كل الصعوبات اللي مروا بيها حبهم انتصر وأثبت أنه أقوى من الغيرة والحقد، وفينوس اضطرت تعترف إن سايكيه تستحق حب ابنها .
فسألته باهتمام :
ـ وبعدها اتجوزوا ؟!
فأومأ متصنعًا الجدية وهو يجيبها :
ـ أيوة ، اتجوزوا وخلفوا كيوبيد وسايكيه صغيرين، طبعا حصل شوية مناوشات يسموها سايكيه على اسم أمها ولا فينوس على اسم جدتها لكن كيوبيد كان راجل مالي مركزه وقدر يسميها زي ما هم عايزين.
انفجرت نغم ضاحكة، ومدت يدها لتضرب كفها بكفه فضحك بدوره، بينما هي قالت بهمس :
ـ أقوللك حاجة ؟
هز رأسه وهو ينظر إليها باسمًا، ثم دس يديه بجيبي سرواله وقال بسعة صدر:
ـ قولي حاجات ..
ـ أنا حاسة أن كيوبيد وسايكيه دول شبهي أنا وانت.. والست الحرباية اللي اسمها فينوس اللي مش سايباهم في حالهم دي.. متزعلش مني يعني …
أخفت جانب وجهها بكفها وهي تستطرد بصوتٍ خفيض:
ـ شبه سالم بيه .
حاول فريد كبح ضحكته وهو يشير إليها قائلا محاولا الالتزام بالجدية :
ـ قدامي يا نغم ..
اتسعت ابتسامتها قليلا ثم علقت يدها بيده وهما يسيران إلى جانب بعضهما البعض فقالت:
ـ على فكرة إنت كان ممكن تكون مدرس تاريخ شاطر جدا ..
نظر إليها مبتسما بطرف عينه وتساءل :
ـ فعلا ؟
فأجابته بثقة :
ـ فعلا جدا .. أسلوبك بسيط وسهل، اللي يسمعك يقول انك دارس تاريخ!
ـ ولا دارس ولا حاجة.. كل الحكاية إني بقرأ كتير والقراءة خلتني عرفت وفهمت قصص وحكايات مكنتش أعرفها قبل كده.
ونظر إليها وقال :
ـ الإنسان يا نغم مهما كانت بداياته بسيطة أو محدودة، بالقراءة ممكن يوسع مداركه، يفهم الناس والتاريخ والحياة، ويقدر يكوّن رأيه الخاص كمان .. علشان كده عاوزك تقرأي كتير جدا .. انتي لو قرأتي كل يوم صفحة واحدة من كتاب صدقيني هتستفيدي كتير جدا وشخصيتك هتتطور بسرعة .
أومأت بحماس شديد فتابع مبتسمًا :
ـ عاوزين كمان نكمل الخطوة اللي بدأناها زمان ووقفت للأسف .. لازم تكملي تعليمك ويبقى معاكي شهادة .. انتي شطورة ودماغك نضيفة جدا وواثق إنك محتاجة بس شوية تركيز وظروف ممهدة وانتي هتنجحي وهتبقي حاجة جامدة جدا … وإن شاء الله هيحصل .
أيدت حديثه بابتسامة وقالت بنبرة منفرجة :
ـ بعد الفرح إن شاء الله نشوف الموضوع ده ..
ـ إن شاء الله.
سارت إلى جواره، يتفقدان معًا المعبد بكل تفاصيله، يتوقفان بين الحين والآخر ليتأملوا الأعمدة والمنحوتات، وكل زاوية تحكي قصة من زمنٍ بعيد. ومع تقدمهما، وصلا إلى الإطلالة التي تكشف المدينة بأكملها، حيث امتدت البيوت والممرات القديمة تحت أقدامهما، والسماء الزرقاء تعانق أفق المدينة، فشعرا وكأنهما يقفان على عتبة التاريخ نفسه، مستمتعين بعظمة المكان وروعة المشهد الذي يغمر القلب بالدهشة والإعجاب.
وبينما كانت نغم شاردة تنظر حولها بانبهار، كان هو شاردًا فيها يحدق فيها بنفس الانبهار ؛ لا يصدق أنها وأخيرًا أصبحت زوجته ولم يبقَ على موعد زفافهما سوى أيام قليلة، كان قلبه يفيض بمزيج من الفرح والدهشة، كأن كل شيء من حوله صار أكثر وضوحًا ولمعانًا لمجرد أن نغم كانت بقربه.
فلطالما راودته أسطورة "كيوبيد" … واليوم، وهو بجانب نغم، شعر بأنه منذ اللحظة التي لمحت فيها عينيها عينيه قد أطلق كيوبيد سهمه؛ فوقع أسيرًا لهاتين العينين.
كل ما حوله اكتسب ألوانًا جديدة، وكل نبضة في قلبه صارت توقيعًا لها وحدها، كأنها "سايكيه" التي منحها القدر له، وهو "كيوبيد" المجنون بحبها.
ومهما حاول العالم أن يفرق بينهما، ظل هذا السهم يربطهما بخيوط من شغف وحنان، يجعل حبه ينمو مع كل لحظة تمضي.
وجود نغم بجانبه لم يكن مجرد حب، بل كان دفء القلب، وملاذ الروح، واحتواءً لكل خوف وقلق.
كل يوم معها كان يتحوّل إلى أسطورة جديدة، فهي دائمًا أميرته وملهمته، وساكنة قلبه إلى الأبد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد قليل، غادرا معًا الأكروبوليس بعد أن استكشفا كل جزء منه والتقطا العديد من الصور. سارا في أحد الممرّات التي تشبه سوقًا شعبيًّا، يضمُّ العديد من المحلات والبازارات. فتوقّفا عند محل يبيع التماثيل المصنوعة من الرخام والجرانيت، فالتفت فريد إليها وقال:
ـ توثيقًا للزيارة دي خليني أجيبلك تمثال كيوبيد وسايكيه..
قام بشراء تمثال صغير من الرخام الأبيض يصوّر صبيًا صغيرًا بأجنحة رقيقة، يقترب برقة من فتاة جميلة ترتدي ثوبًا خفيفًا متدفقًا، تنظر إليه بعاطفة وفضول. يلتقيان باليدين في لحظة رومانسية، وتبرز التفاصيل انسيابية الأجساد، طيات الثوب، وتموجات الشعر، ما يجعل التمثال ينبض بالحياة وكأنّه لحظة حب أسطورية مجمدة.
ونظر إلى قطعة رخامية أخرى، تُمثل ملاك يحمل طفله بين ذراعيه فابتسم وهو ينظر إليها فقالت :
ـ ده لنسيم مش كده ؟
أومأ مبتسمًا وقام بشراءه كذلك، ثم أخذ يبحث بعينيه عن شيئا ما يناسب عمر، فوقعت عيناه على تمثال صغير يحمل قبعة مهرج في يد، والأخرى يحمل بها قلبًا صغيرًا
فابتسم فريد وهو يلتقطه ويحدق فيه متخيلا رد فعل عمر عند رؤيته .
بعد ذلك، وأثناء تفحصه للتماثيل الأخرى، وقع نظره على تمثال برونزي أكبر حجمًا، يصور حصانًا رائعًا في حركة ركض متألقة، وعضلاته ممشوقة بوضوح.
أخذ يحدق في التمثال بتردد، ثم استسلم أخيرا وهو يمد يده نحوه ويضمه إلى باقة مشترياته .
وفجأة، فوجئ بنغم وهي تحمل بين يديها كومة من الأطباق المزركشة والملونة، بعضها مصنوع من الخزف، وبعضها مطبوع بألوان هادئة ونقوش أثرية دقيقة. نظر إليها فريد باستغراب، وقال:
ـ إيه ده يا نغم ؟
نظرت إليه نغم بابتسامة واسعة وقالت بحماس :
ـ الأطباق دي حلوة أوي وأشكالهم مميزة .. هبقى أحطهم في المطبخ .
ضحك ضحكة كاملة بدون توقف، ثم هز رأسه مستسلما وقال :
ـ والله انتوا البنات دماغكم في حته تانية .. في عالم موازي حرفيا .
ضحكت بدورها فإذ به يشير خلفها وهو يقول :
ـ طقم الفناجين ده حلو على فكره إزاي مخدتيش بالك منه .
نظرت إليه واتسعت ابتسامتها وهي تزم شفتيها بلطفٍ يلائمها ويقول :
ـ مش عايزة أتقل عليك بصراحة .
ليجيبها متصنعًا الجدية وهو يقول :
ـ يا خبر .. تقلي براحتك يا نغم هانم أنا تحت أمرك والله .. ده انتي لو عاوزاني أشتري لك البازار كله والله ما يغلى عليكي .
تنهدت بعمق وهي تمنحه ابتسامة متألقة وتقول :
ـ حيث كده بقا في طقم معالق دهبي جوا هموت عليه .. ثواني هجيبه وجايه .
ابتسم فريد ابتسامة هادئة ودافئة وهو يراقب نغم وهي تتنقل بين الأغراض المنزلية، تلتقط واحدة تلو الأخرى بحماسٍ وفرح. كان وجهها يلمع بسعادة طفولية، وعيناها تنبضان بالحماس والحب للمستقبل الذي يخططان له معًا. شعر فريد بدفء قلبه يزداد كلما رأى الفرح في ملامحها، وكيف أن كل حركة صغيرة لها كانت تعكس تفكيرها فيه واهتمامها بمكانهما المشترك.
بدا له المشهد كله وكأنه لحظة ساحرة من حياتهما، تملؤها البساطة والسعادة، وفكر في كم هو محظوظ بوجود نغم إلى جانبه، حاملة الأحلام والفرح بين يديها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد مغادرتهم البازار اتجهوا نحو سيارتهم ليضعوا بها الأغراض، فنظرت إليه نغم وقالت وقد عاد إليها عبوسها من جديد :
ـ خلاص كده راجعين ؟
نظر إليها مبتسما، ومد يده يحيط وجنتيها بين كفيه وهو ينظر إليها بافتتانٍ ويغني لها بصوتٍ مهيب :
ـ راجعين يا هوى راجعيـــن .
يا زهرة المساكين .
راجعين يا هوى
على دار الهوى
على نار الهوى
راجعيـــــــــــــن .
رفعت كفيها وتشبثت بكفيه اللذان يحيطان وجهها بدفء، بينما هو تابع وهو ينظر داخل عينيها متغنيًا بوله:
ـ مغرور يا هوى، يا هوى مغرور
يا حبيبي يا وردة على سور
نحنا العاشقين على طول عاشقين
وانتم بليالينا عايشيـــــــــن .
التمعت عيناها وارتجف قلبها متأثرةً بفيض جارف من المشاعر التي ملأت قلبها بالدفء والسكينة، أحست حينها كما لو كانت تملك العالم كله بين يديها بدون مبالغة .
قربها إليه وهو لا يزال يحيط وجنتيها بين كفيه، وترك على جبينها قبلةً عميقة بث فيها كل حبه وشغفه بها .
ثم ابتعد، ونظر إليها بهدوء وقال :
ـ قبل ما نرجع في محطة أخيرة لازم نروحها .. مغامرة من نوع تاني .. بس عاوزة قلب جامد .
ورفع حاجبه قليلا وقال :
ـ قلبك جامد ؟
أومأت وهي تنظر إليه بثقة عالية وتقول :
ـ جامد جدا .
ـ متأكدة ؟
ـ طبعا .
هز رأسه وهو يقول :
ـ هنشوف … يلا بينا .
انطلقا بالسيارة حتى إذا ما اقتربوا نحو محطة التلفريك فبدأت الأبراج والمقاعد المعلقة تظهر أمامهم، معلنة عن المغامرة القادمة.
ترجلا سويًا وعينا فريد لا تبارح وجه نغم الذي بدأ يتلون بالدهشة والخوف، فنظرت إليه بصدمة وقالت :
ـ متقولش إننا هنركب البتاع اللي فوق ده !
أومأ بهدوء وقال :
ـ ده اللي هيحصل فعلا .
هزت سبابتها برفض متتابع وهي تقول بإصرار:
ـ مستحيل ..
أظهر بعض التحدي وهو يقول مستفزًا إياها :
ـ على أساس إن قلبك جامد جدا ؟
ـ ده قبل ما أعرف إنت تقصد إيه .
ـ قبل أو بعد مش هتفرق، انتي قلتي كلمة خلاص ومينفعش ترجعي فيها .
نظرت للأعلى مرة أخرى، ثم نظرت إليه وأردفت بقوة :
ـ لأ .. متحاولش .
أشار برأسه لتتقدم وهو يمسك بيدها بحزم ويقول :
ـ يلا يا نغم .
نظرت إليه برجاء وهتفت:
ـ فريد …
ـ يلا يا نغم وجمدي قلبك .. ما أنا معاكي أهو خايفة من إيه !
تنهدت بخوف وتردد وهي تنظر إلى العربات المعلقة في الهواء فانقبض قلبها، نظرت إليه مجددا ولكنه طالعها بإصرار لا يقبل المناقشة فاستسلمت وسارت برفقته نحو باب الصعود إلى التلفريك.
تنهدت نغم بخوف، لكن فريد أمسك يدها بلطف، مطمئنًا إياها بابتسامة دافئة، فاستجمعت شجاعتها وتقدمت برفق.
توقفوا عند منطقة إجراءات السلامة، حيث فحص الموظفون أحزمتهم وتأكّدوا من سلامة العربات، وارتدى كلٌ منهما حزام الأمان بعناية. شعرت نغم بقليل من الارتباك، لكن وجود فريد بجانبها، ومراقبته الدقيقة لكل خطوة جعلتها تستسلم وتقبل المغامرة.
بعد انتهاء الفحص، اقتربوا من منصة الركوب الفعلية، حيث بدأت العربات المعلقة تمر بالقرب منهم، ارتجفت نغم قليلاً وهي تنظر إلى الارتفاع، لكن فريد أمسك يدها بحزم، فأحست بالراحة واستجمعت شجاعتها، لتدخل بخفة إلى العربة، بينما ركب فريد بجانبها، وأحاط كتفيها بذراعه يمدها بعض الأمان .
جلسوا بداخل المقصورة الزجاجية حيث سمحت لهم برؤية المدينة من كل جانب. بدأ التلفريك يتحرك ببطء، وارتفعت العربة تدريجيًا عن الأرض، فأحسّت نغم بقليل من الارتجاف، وامتدت يداها لا إراديًا تتشبث بذراع فريد، بدأت العربة بالارتفاع أكثر فأغمضت عينيها وأخذت تنطق الشهادتين وكل ما حفظت من سور القرآن ، بينما هو يطالعها وهو يكتم ضحكاته لئلا يثير غضبها، ولكنها هتفت بحنق:
ـ عارفه إنك بتضحك على فكرة ..
ـ فتحي عينيكي يا جبانة ، خساره تفوتي لحظات زي دي ..
وأخذ يشجعها قائلا :
ـ المنظر من فوق خيال ..
فرّقت بين جفنيها ببطء وما إن رأت الأفق يتسع أمام عينيهما، حتى شهقت وهي تغمض عينيها من جديد وتتشبث بذراعه بقوة أشد، قائلة :
ـ أنا دُخت على فكرة ..
ـ طيب فتّحي عينيكي وبصي لي والدوخة تروح .
هزت رأسها برفض شديد وهي تحاول التغلب على دقات قلبها المتسارعة من فرط الخوف، تعرف أنه ـ وبكل تأكيد ـ تبدو بلهاء للغاية، ولكنها أبقت عينيها مغمضتان إلى أن صعقت فجأة حين أحست بأنفاسه تخترق أنفاسها، وشفتيه تعانقان خاصتها، ناشرًا في أعماقها تيارًا هائلًا من الكهرباء جعل قلبها يخفق بعنف، وعمّت جسدها رجفة مفاجئة لم تستطع كبحها. فتحت عينيها على مصراعيهما، تنظر إليه بدهشة وصدمة، لكنه لم يلتفت لصدمتها؛ إذ فاض به الجوى جاعلّا إياه يضرب بكل عقله وحكمته عرض الحائط .
شعرت بشيء يعتصر قلبها، اجتاحتها رغبة ملحة في الابتعاد، أو الاقتراب أكثر.. لا تدري ، لم يعِ عقلها المشوش آنذاك ما الذي تريده ولا ما يتوجب عليها فعله .. رفعت كفها الواهن لتدفعه بعيدا عنها، ولكنه أمسك بكفها وقرّبه ليستند على موضع قلبه، حيث تُقام هنا حربٍ ضروس، تعلو فيها أصوات الخفقات، وتعلن بشراسة عن اجتياحٍ لا هدنة فيه .
انقطعت أنفاسها، تقلص قلبها داخل صدرها وهدر عاليًا، مستغيثًا، متحولا لكرة من النار ، ثم إلى كتلة من الجليد وسط عاصفة ثلجية .
غمرها بين ساعدين مفتولين، ضمها إلى صدره، إلى قلبه، أفرغ غلّه على شفتيه وثأر منها ببطشٍ ليس بنادم عليه، فلقد أخبرها أن تفتح عينيها، ألا تسبل جفنيها هكذا أمامه فتطيح بما تبقى من ثباته ، ولكنها اعترضت؛ إذًا فلتتحمل نتيجة عنادها.
بدا أنه كان خاضعًا تحت سطوة عشقٍ هوى به من قمة الثبات إلى قاع الضياع، جعله يغمض عينيه بدوره، متلذذًا بتلك اللحظة بنفس قدر ولعهُ بها الذي طال وامتد حتى تجذر في أعمق أعماقه وجعله يفقد اتزانه الذي كان يظنه لا يهزم .
ما أعادهُ إلى وعيه لم يكن سوى شحوب وجنتيها بين كفيه وبرودتهما التي جعلته ينتبه ويفيق ناهضّا من تحت وطأة مشاعره العاصفة .
نظر إليها، فرآها تتنهد ببطء وهي تحاول استعادة أنفاسها من جديد، فأمسك بكلتا يديها، يدلكهما بحنان، ثم يقبلهما على مهل ، بينما هي تشيح بوجهها عنه وهي تحاول استيعاب ذلك الطوفان الذي اجتاح قلبها للتو، ثم سحبت نفسًا عميقًا وزفرته على مهل، بينما هو يربت على وجنتها بلطفٍ وهو يردد :
ـ نغم ..
التفتت إليه ببطء، فهتف واثقًا :
ـ انتي حياتي ..
كانت تحاول تهدئة ذلك الثائر بين جنبات صدرها، فجاءها قوله متوغلا نحو أبعد نقطة في روحها:
ـ متزعليش مني.. أوعدك مش هتتكرر تاني قبل ما نتجوز .
أومأت بتمهل ، ثم نظرت إليه وحاولت رسم ابتسامة هادئة على شفتيها، بينما هو نظر حوله وقال مبتسما :
ـ إحنا خلاص وصلنا .
نظرت من حولها متفاجئةً بالعربة تتوقف عند المحطة النهائية ، وبعد توقفها فتح الموظف المسؤول الباب من الخارج ، ومن ثم نزل فريد، ومد يده يلتقط كفها بحرص، ثم نظر كلاهما للأمام، وإذا بهما يقفان أمام تل الكافتيوس الشامخ، يغمره ضوء الشمس الذهبي، وتتناثر عليه الأشجار الصغيرة والمسارات الحجرية القديمة .
استنشقا سويًا الهواء النقي، وأمعنا النظر في المسار المؤدي إلى القمة. بدأ فريد يشير إلى الطريق، وقال بنبرة حماسية:
ـ اللي قدامنا ده يا ستي اسمه تل الكافتيوس ، وفي ناس زمان كانوا بيسموه تل الذئاب لأن الديابه كانت منتشره هنا بأعداد مهولة … يلا بينا نطلع ونشوف المنظر من فوق..
التفتت نغم إليه بابتسامة وجمعت شجاعتها بعد تجربة التلفريك المليئة بالإثارة. بدأ الاثنان يمشيان بخطوات متزامنة على الدرب المرصوف بالحجارة الصغيرة، متجاوزين الأشجار والنباتات المتناثرة، وكل خطوة تقرّبهما من القمة أكثر.
خلال الصعود، كانت نغم تلمح المدينة تتسع أمام عينيها، وتستمتع بالمناظر التي لم ترها من قبل، بينما فريد يغمر كفها بيده ويشير بين الحين والآخر إلى التفاصيل التي تزين الطريق قائلا :
ـ بصي .. اللي هناك ده معبد زيوس الأولمبي، واللي بعيد هناك ده معبد البارثينون اللي كنا فيه .. ولو بصيتي من ناحية الشرق هتلاقي الحديقة الوطنية .. الإطلالة من هنا كاشفة أثينا بالكامل .
وأخيرًا، وصلا إلى قمة التل، حيث تمتد أمامهما منطقة صغيرة مخصصة للزوار مع مطعم مطل على المدينة. دخلوا المطعم، واستقروا عند طاولة تطل على منظر بانورامي ساحر. جلسوا متجهين إلى بعضهم البعض، والمدينة الممتدة تحت قدميهم تبدو ساحرة من الأعلى.
طلبا غداءً يونانيًا تقليديًا، مع أطباق من السلطات الطازجة، الجيروس، الموساكا، دولماداكيا، والطاجن اليوناني، مصحوبة بخبز ساخن وعصائر طبيعية. وبينما كانت الأطباق توضع أمامهما، استرخيا قليلاً بعد التعب من الصعود، واستمتعوا بالمنظر الساحر والطعام معًا .
بدأا بتناول الطعام بنهم، فتوقفت نغم عند طبق الدولماداكيا ونظرت إلى فريد متعجبةً وهي تقول :
ـ ده ورق عنب !!!
أومأ مؤكدًا وهو يتناول منه بتلذذ ويقول :
ـ بالظبط.. وتبقي شاطرة لو عرفتي الموساكا دي إيه عندنا في مصر .
تناولت ملعقة من طبق الموساكا الذي أشار إليه، ونظرت إليه بتعحب أشد وقالت :
ـ دي مسقعة !!!
أومأ ضاحكا وقال :
ـ بالظبط ، اليونانيين واخدين مننا أكلات مصرية كتير على فكرة ومحرفينها .. يعني الدولماداكيا دي اللي هي الدولمة العراقية بس مدلعينها شوية .
مطت شفتيها بتعجب، وقالت:
ـ سرقة عيني عينك يعني.
ـ للأسف ..
أكملا طعامهما وهما يتبادلان الحديث عن ثقافات الطعام المختلفة عبر مختلف بلدان العالم، ثم أنهيا طعامهما وتناولا بعده كوبين من الشاي بنكهة الزهور البرية المجففة، كمشروب يوناني أساسي .. وبعد التقاط العديد من الصور ومقاطع الفيديو للمكان الذي بدا ساحرا كلما غابت عنه الشمس، فكان لزامًا عليهما أن يعودا أدراجهما ليتجها إلى المطار.
نظر إليها فريد مبتسما وقال :
ـ اليوم خلص .
مطت شفتيها بعبوسٍ مرح، فضحك وهو يقول :
ـ متضايقيش نفسك.. الأوقات الحلوة كلها جاية بعدين إن شاء الله ، وبعدين ما احنا اتفقنا.. بعد ما نعمل الفرح هنيجي نقعد هنا فترة.
أومأت بابتسامة وقالت :
ـ إن شاء الله.
عادا نحو السيارة ، استقل كلا منهما مقعده بهدوء ، ثم أدار فريد المحرك منطلقا في طريقه نحو المنزل .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعد ساعة تقريبًا ..
كانا قد وصلا إلى المنزل ، استعدوا سريعا وانطلقوا في طريقهم على الفور نحو المطار .
وبعد وصولهم إلى المطار، شرعوا جميعًا في إتمام إجراءات السفر، من تسجيل الأمتعة، مرورًا بتفتيش الأمن، وصولًا إلى استلام بطاقات الصعود إلى الطائرة. كل خطوة تمّت بانضباط وهدوء، وسط أجواء من الترقب والانتظار .
اتخذوا أماكنهم في الطائرة، حيث جلس كل من عمر ونسيم بجانب بعضهما البعض، وفريد ونغم أيضًا متجاورين. ثم أُغلِقت أبواب الطائرة، وبدأت المحركات تصدر همهمتها المعتادة، بينما ارتفعت الطائرة ببطء عن المدرج، معلنةً عن انتهاء رحلة كانت هي الأجمل في حياة نغم وفريد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد مرور نحو ثلاث ساعات ..
وصلت الطائرة إلى مطار القاهرة.. فقال فريد وهو يتقدم برفقتهم مغادرين الصالة نحو الخارج:
ـ حمدالله على السلامه يا جماعه .. كانت رحلة سعيدة جدا والله وإن شاء الله تتكرر قريب .
بينما هتف عمر بحماس :
ـ يا حبيبة قلبي يا مصر ..
ضحكوا سويًا وهما يتقدمان نحو السيارة حيث ينتظرهم السائق الخاص بوالدهم بعد أن هاتفه فريد ورتب معه لينتظرهم ..
لكن فجأة، أشار فريد إلى نسيم عبر مدد بصره، وعندما رفعت نظرها تتبعه، فصُعقت من المفاجأة: حيث كان عاصم واقفًا، مستندا إلى سيارته يتطلع نحوها بلهفة ..
حينها لم تتمهل، لم تفكر مرتين، أطلقت ساقيها للريح وركضت نحوه بلهفةٍ لا تنطفئ ، فإ به يركض نحوها بدوره قاطعًا عليها المسافة ليلتقيا في نقطةٍ مشتركة ، حينها تلقاها بين ذراعيه بشوقٍ جارف، رفعها عن الأرض وهو يضمها بقوة ويهمس ملتاعًا :
ـ وحشتيني يا روحي .. وحشتيني يا نسيم.
ـ انت كمان وحشتني أوي يا حبيبي ..
أخفضها بهدوء، وأخذ ينظر إلى ملامحها بغير تصديق ، ثم غمر وجهها بكفيه وأخذ يقبل وجنتيها بنهمٍ وشوق ثم ضمها إليه من جديد وهو يشعر وكأن النبض الذي توقف عن قلبه قد عاد إليه من جديد .
على بعد خطوات .. توقف كلا من فريد وعمر ونغم يتابعونهم بهدوء ..
فتنهد فريد بارتياح داخلي وقد شعر بصدق محة عاصم لها، وأشار إليهم قائلا :
ـ يلا بينا احنا ..
لوح بيده إلى نسيم فلوحت إليهم بدورها ، واستقلت السيارة رفقة عاصم ، بينما استقل كلا من فريد ونغم وعمر السياره التي انطلقت في طريقها تغادر أرض المطار .
نظر عمر إلي فريد وقال :
ـ أنا جاي معاك .. مش هرجع على الڤيلا الليلة .
أومأ فريد بهدوء، وتبادل نظرة سريعة مع نغم ثم قال :
ـ تمام .. كده كده أنا ونغم رايحين الڤيلا الصبح .. مش كده يا نغم ؟
أومأت بتوجس حاولت إخفاءه خلف ابتسامة هادئة، فبادلها ابتسامة هادئة بدوره وشرد يفكر في الطريق أمامه بعد غياب ظنه لن ينتهي أبدا .
༺═──────────────═༻
#يتبع
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق