القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الخامس والأربعون 45بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

 

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الخامس والأربعون 45بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات






رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الخامس والأربعون 45بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



 


 



 


ـ ٤٥~ لوحة مشوهة ~



قضت ليلتها تتقلب فوق الفراش كمن يفترش جمراً من أسفله، حاولت أن تغمض عينيها، أن تخدع عقلها بدقائق من راحةٍ زائفة، لكن الأفكار كانت تتسلل إلى رأسها كرياحٍ عاتية تقتلع جذور طمأنينتها من الأرض.


زفرت بعمق، واستدارت على جانبها الأيسر تحدّق فيه، غارقاً في نومٍ هادئٍ لم تره ينعم به من قبل.

تأملت وجهه الساكن، ومرّ في ذهنها شريط الليلة الماضية: لحظة استقباله لها في المطار، اندفاعه نحوها بذراعين مفتوحتين، تلك القُبل التي غمرها بها على فتراتٍ متلاحقة، كأنه كان يعوّض كل لحظة فُقدت بينهما.

قال إنه لم يكن على قيد الحياة في غيابها، وإنها الآن فقط أعادته إليها.


ابتسمت حينها، وصدقته. بادلت كلماته بكلمات أشد تأثيرًا، وعناقه بعناقٍ أحرّ، وقبلاته بشغفٍ لم تُجيده من قبل، أخبرته أن غيابه جعلها غريبةً حتى عن نفسها، وأنها الآن فقط عادت إلى موطنها.


تناست كل ما كان يشغلها، وألقت كل مخاوفها وراء ظهرها، لكنها لم تكن تعرف أن ما ألقته خلف ظهرها سيعود ليطاردها بهذه القسوة… زاحفًا نحوها كظلٍ ثقيلٍ لا ينقشع، يلتف حولها بخيوطٍ من شكٍ لا يرحم.


ماذا ستفعل بكل تلك الهواجس التي تتناوب على رأسها؟


هل تصمت؟ ولماذا؟

أليس من حقها أن تعرف؟ أن تضع النقاط على الحروف قبل أن يتحول الشك إلى سُمٍّ يسري في عروقها ببطء؟

أن تواجهه بدلًا من أن تبتلع خوفها في كل مرة، وتُجبر نفسها على التصديق رغم أن عقلها يصرخ بأن هناك ما يُخفى عنها؟


أغمضت عينيها لثوانٍ، تتأرجح بين رغبتين؛ أن تصرخ في وجهه وتطالبه بالحقيقة، أو أن تكتفي بصمته ودفئه، وتؤجل المواجهة إلى حينٍ آخر... إلى غدٍ لا تعرف إن كان سيأتي أصلًا.


مدّ ذراعه حولها، جذبها إليه من جديد، كأن إحساسه سبق كلماتها، وكأن في حضنه إجابة لا تستطيع أن تثق بها تمامًا، لكنها رغم ذلك لم تبتعد.

فهي تعلم — أو تقنع نفسها — أن الصمت أحيانًا أسهل من الحقيقة، وأن البقاء بين ذراعيه، ولو للحظةٍ واحدةٍ إضافية، أهون من مواجهة قد تنهي كل شيء.


استكانت من جديد، استسلمت لرغبتها في البقاء حبيسة عناقه، كأنها تلتمس في صدره طوق نجاة من كل ما يعصف داخلها. أغمضت عينيها، تسمع خفقات قلبه القريبة منها كأنها تُهدّئ اضطرابها، وتخدعها لحظات الدفء لتظن أن كل شيء بخير، وأن ما بداخلها مجرد أوهام.


شدّ عليها أكثر، كأنه بدوره يخشى أن تبتعد، أن تفلت منه وتتركه غارقًا في ظلامه، فضمّها بصمتٍ يحمل من الرجاء أكثر مما يحمل من الحب.


وضعت يدها فوق بطنها برفقٍ مرتجف، تغمض عينيها للحظة، ودمعة صغيرة تنزلق دون أن تدري.

ماذا لو افترقا؟

ماذا سيكون مصير هذا الكائن الصغير الذي بدأ يُعلن وجوده داخلها؟


فتحت عينيها على مهل، والفراغ أمامها يُخيفها. سؤالٌ تسلل إلى ذهنها كطعنةٍ باردة:

هل من الممكن أن نفترق حقًا؟


لم ترد على نفسها، لأن أي إجابة — أياً كانت — ستؤلمها.

لأن مجرد التفكير في الفقد، ولو كاحتمال بعيد، كان كفيلاً بأن يخل بتوازنها كله.

كيف يمكنها أن تتخيل أيامها دونه، وهي بالكاد تتنفس بوجوده؟


حاولت النهوض ببطء وهي تشعر بالغثيان يسحبها نحو هوة عميقة، لكن صوته جاءها ناعسًا من خلفها، متطلبًا أكثر من اللازم :

ـ خليكي جنبي.


ـ ثواني وراجعة.


غادرت الغرفة مسرعة، هرعت إلى الحمام، وانحنت فوق الحوض، تتقيأ وكأن جسدها يلفظ ثقل روحها.


رفعت رأسها ببطء، نظرت إلى انعكاسها في المرآة، وجهٌ شاحب، عيونٌ منهكة، وشعورٌ بالضياع يتسلل بين أنفاسها.


جمعت شعرها للأعلى وغسلت وجهها بماءٍ بارد، علّه يوقظها من كل هذا الاضطراب الذي ينهشها من الداخل، همست لنفسها بصوتٍ خافتٍ بالكاد يُسمع:

ـ مش هينفع أفضل مخبية... لازم يعرف.


أدركت أن المواجهة صارت قدرها، وأن السر الذي يسكن بطنها لن يظل حبيسًا طويلاً.

فما دام صغيرها قد أعلن تمرده، وبدأ يُظهر حضوره بطريقته، فكل ما تخبئه سيخرج إلى النور، شاءت أم أبت.


رجعت إلى الغرفة بخطواتٍ واهنة، وقفت تنظر إليه وهو يستغرق في نوم عميق، وتذكرت حين أخبرها بالأمس أنه لم يحظى بنومٍ هانئ منذ سافرت، تذكرت حين طلب منها أن تضمه بقوة لكي يغفى سريعا وبعدها استمعت لانتظام أنفاسه كطفل صغير ، ورغما عنها شعرت بالأسى حياله، تعرف أنه مذبذب، بين حبها وبين الثأر لأخيه، تعرف جيدا أنه مهما فعل محق فما خسره لا يمكن تعويضه، ولكن… لن تسمح لنفسها أن تكون طعنة نافذة لأخيها أبدا مهما كانت خسارتها ومهما كان حجم الذي ستفقده .


استسلمت وهي تستلقي إلى جواره من جديد، تقترب منه وكأنها تبحث عن دفءٍ ضاع منها طويلًا. اقترب منها هو الآخر دون أن يفتح عينيه، وكأن الحنين يقوده إليها دون وعي، فمدّ ذراعه يعانق خصرها بقوةٍ يملؤها شوقٌ وامتلاك. عندها، نزعت كفه من على خصرها ببطء، وأخذت تمررها فوق بطنها برفقٍ مفعمٍ بالارتباك والحنان، كأنها تهمس له بصمتٍ ما عجز لسانها عن قوله، وكأنها تُعرّفه بأن هناك شيئًا يتكوّن في داخلها... ويمد بينهما خيطًا جديدًا من الحياة لا تعرف بعد أهو نعمة أم ابتلاء.


استمعت إلى رنين هاتفها، همّت بالنهوض من الفراش، لكنّه مدّ ذراعه بسرعة، وأحاط خصرها بقوة مانعًا إياها، وقال :

ـ خليكي كمان شوية..


ـ بس موبايلي بيرن.


قبَّل كتفها الملاصق لفمه، وهمس بخفوتٍ متعب:

ـ مش مهم.. خليكي معايا أنا بقالي كام يوم ما نمتش.



استجابت له دون نقاش، شيء ما في صوته الهامس جعلها تشعر به كطفلٍ يستجدي الأمان منها، فاستدارت نحوه، وضمت رأسه إلى صدرها في صمت.

ظلّ ساكنًا للحظات، كأنّه يغرق بين أنفاسها، حتى رنّ هاتفه هذه المرة، ففتح عينيه على مضض، وسحب نفسه من بين ذراعيها ببطء، التقط الهاتف، نظر إلى الشاشة دون أن يجيب، ثم وضعه جانبًا وتنهد، قبل أن يعاود احتضانها


دفن وجهه في عنقها، وتمتم بكلماتٍ متقطعة، مبعثرة، لا تحمل من المعنى سوى الاشتياق.

كانت أنفاسه الحارة تتسلل إلى بشرتها كدفءٍ مألوفٍ اشتاقت له، فأغمضت عينيها في استسلامٍ صامتٍ،د .


رفع رأسه نحوها، تطلع في ملامحها للحظاتٍ طويلة، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة كأنها اعتذار غير منطوق، وقال بنبرةٍ واهنة:

ـ وحشتيني.. أكتر مما كنت متخيل.


لم ترد، فقط انزلقت بين ذراعيه، أسندت رأسها إلى صدره، تستمع لنبضه كأنه يعزف اعترافًا لا يحتاج كلمات.


تنهد وهو يقول بخفوتٍ ممزوجٍ بالعِتاب:

ـ أنا كان فين عقلي لما وافقت إنك تسافري وتسيبيني؟


ثم تابع بجدية :

ـ ممنوع تبعدي عني تاني أيًا كان السبب إيه .


أومأت بابتسامةٍ شاحبة، فقال بعد لحظةٍ من التأمل:

ـ إنتِ كويسة؟ حاسس فيكي حاجة متغيرة .


هزّت رأسها نافية:

ـ يمكن علشان بقالي كام يوم عندي أرق ومش عارفة أنام كويس.


ابتسم بتفهم، ثم أمسك يدها وقبّل راحتها بحنانٍ عميق وهو يقول:

ـ وأنا كمان ما كنتش عارف أنام وانتي مش هنا، جربت كل الطرق اللي ممكن تتخيليها.. وبردو فشلت.


نظرت إليه باستغرابٍ خفيف وسألته:

ـ عملت إيه؟


ضحك ضحكة قصيرة وقال وهو يغمزها بعفويةٍ دافئة:

ـ كنت بفضل أشم في هدومك جايز ألاقي ريحتك وأعرف أنام لكن عالفاضي .. انتي بقيتي بالنسبالي إدمان يا نسيم .


ابتسمت بوهن، ثم سألته بفضول :

ـ مين اللي كان بيكلمك دلوقتي ؟


ـ رشيد .


قالها باقتضاب فسألته :

ـ و ليه مردتش عليه ؟ إنت مش ناوي تروح الشركة ؟


ـ والله أنا مكنتش ناوي، بس افتكرت حالا إن في حاجات مهمة وضرورية لازم تخلص علشان كده هروح ساعتين بس وأرجع أخدك ونخرج نتغدا بره .. إيه رأيك ؟


أومأت بموافقة، فاقترب وطبع قبلة خفيفة على وجنتها وقال :

ـ يلا قومي خلينا نفطر .. ولا أقوللك ! خليكي مرتاحة وأنا هعملك الفطار .


ابتسمت رغمًا عنها وقالت :

ـ ميرسي يا حبيبي ..


فغمز مشاكسًا وهو يتجه نحو الباب وقال :

ـ بس متاخديش عليها ها .. !


أومأت بابتسامة فغادر الغرفة، وما إن أغلق الباب خلفه حتى خفتت ابتسامتها وحلّ محلها الوجوم من جديد.

جلست في مكانها للحظات، تنظر إلى هاتفه المسنود على الكومود بجواره، تتردّد أن تمدّ يدها إليه. جزءٌ منها كان يأمرها بأن تفتحه، أن تفتّش داخله، أن تعرف الحقيقة مهما كانت، والآخر كان يهمس في أذنها أن نعيم الجهل أرحم أحيانًا من جحيم المعرفة.


حاولت أن تصرف نظرها عنه، نهضت ببطء واتجهت نحو المرآة، تنظر إلى ملامحها التي بدت أكثر إنهاكًا مما ظنت، ثم تحركت بهدوء، والتقطت هاتفها فإذ بها تجد مكالمة فائتة من فريد، هاتفته على الفور، فأجابها قائلا بهدوء :

ـ صباح الخير يا نسومه .


ـ صباح الخير يا فريد، إيه الأخبار ؟


ـ كله تمام، انتي كويسة ؟


ـ كويسه، الحمد لله .


شيئا ما في صوتها أثار ريبته، وجعله يتسائل متشككًا :

ـ متأكدة ؟


ـ أنا كويسة يا فريد متقلقش والله .


صمت لثوان ثم سألها :

ـ أنا مش عايز أتطفل عليكي ، بس يهمني أعرف.. قلتي لجوزك على الحمل ولا لسه ؟


تنهدت نسيم وهي تمد أناملها المرتجفة، تمسح بها على عنقها بارتباك وهي تجيبه بإيجاز :

ـ لسه .


تنهد فريد بضيق مماثل، ثم قال :

ـ طيب ، ناوية على ايه ؟


ـ مش عارفه.


ـ نسيم .. إنتي مخبية عليا حاجة ؟


أغمضت عينيها في تلك اللحظة، ومررت يدها على وجنتها بتردد، ثم قالت :

ـ لأ..


تنهد مجددا عبر الهاتف، ثم قال ببطء متريثًا :

ـ طيب يا حبيبتي ، مش عاوز أضغط عليكي ، بس هقوللك حاجة واحده ولازم تفكري فيها كويس أوي.. جوزك لازم يعرف بالحمل أيًا كان إيه اللي بينكم دلوقتي ، أنا مش فاهم حاجه بس في إحساس مش مريح ومش مفهوم بالنسبة لي، لكن على العموم .. ده حقه يا نسيم وانتي مش هتكرري الأخطاء اللي احنا لسه بندفع تمنها لحد دلوقتي! عاصم لازم يعرف إنك حامل في أقرب وقت لو سمحتي .. ده مش قرارك لوحدك، ولا حاجه ينفع تستخبى أصلا .


تنهدت نسيم بعمق، وأومأت وكأنه يراها، ثم قالت بصوت مرتجف:

ـ حاضر يا فريد .. هتكلم معاه .


ـ ربنا يقويكي .


ـ يا رب ، انت ناوي على إيه النهارده ؟


زفر فريد نفسًا مهمومًا وقال :

ـ هاخد نغم وهنروح دلوقتي على الڤيلا .. لازم الكل وأولهم هو يعرف إننا كتبنا الكتاب وبنحضر للفرح .. مش عارف بقا الدنيا هتمشي ازاي ، ربنا يستر .


استشعرت القلق الحقيقي في صوته، فقالت بهدوء:

ـ إن شاء الله خير.


ردّ متنهّدًا:

ـ بإذن الله.. قوليلي، شنطتك اللي سيبتيها امبارح ساعة ما جريتي على جوزك، هتعملي فيها إيه؟


ضحكت بخفوت من طريقته وهو يقلّد حماسها بالأمس، ثم قالت:

ـ مفيش فيها حاجة ضرورية، كلها حاجات للبيبي.. بعدين هبقى آخدها.


ـ طيب، زي ما تحبي.. يلا، هسيبك دلوقتي.


ـ ابقى طمني عملت إيه.


صمت للحظة، وكأنه يُخفي توترًا يحيط به، ثم قال:

ـ حاضر.. مع السلامة.


أنهت نسيم المكالمة، وغادرت الغرفة متجهة نحو الحديقة. جلست فوق المقعد بهدوء، وعيناها تتجولان في المكان بشرودٍ ثقيل. كان في داخلها خوف غامض يتسلل كلما فكّرت أن القادم قد يكون أسوأ. شعرت بانقباضٍ دامٍ في صدرها وهي تتخيل أنها من الممكن أن تفقد هذا الأمان الهشّ الذي يحيط بها.



عادت كلمات فريد تتردّد في ذهنها، حين أخبرها بأنها لن تكرر أخطاء الماضي التي لا تزال تلاحقهم حتى اليوم، في إشارة لما فعلته عائشة حين أخفت وجود حسن عن والدهم، وما تبع ذلك.

كانت تدرك أن فريد يشعر بما تمرّ به، وأنه يعلم جيدًا أنها ليست بخير، وتعرف أيضًا أنه لن يتردد في مدّ يده لمساعدتها متى طلبت ذلك...

لكنها كانت مترددة، ممزقة بين حاجتها للاطمئنان وخوفها من الحقيقة.


انتبهت لدخول عاصم إلى الحديقة وهو يحمل صينية الطعام بيده ، وينظر نحوها مبتسمًا وهو يقول :

ـ عملت لك فطار انما إيه .. ملوكي !


نظرت إلى الأطباق التي أعدها بعناية، مرتبة بطريقة تفتح الشهية وتبهج العين، ثم رفعت نظرها إليه بابتسامة دافئة وقالت بلطف:

ـ تسلم إيديك.


جلس أمامها على الكرسي المقابل، وعيناه لا تفارقان وجهها. بدأا يتناولان الطعام في هدوءٍ مريح، وبين الحين والآخر كان يمدّ إليها لقمةٍ بيده، فتتقبلها هي بابتسامة هادئة تخفي معها اضطرابها وشعورها بعدم الراحة .


ثم نظرت إليه بتفحص، وهي تقول :

ـ حفلة كتب الكتاب كانت لذيذة جدا ، ابقى فكرني أوريك الصور اللي اتصورتها على المركب.


مط شفتيه بإعجاب وقال وهو ينظر إليها مبتسما :

ـ أكيد كنتي أحلى واحدة في المكان كله.


ابتسمت بلطف، وقالت :

ـ الحقيقة لأ.. نغم كمان كانت قمر ..


ونظرت إليه بهدوء، ثم أخفضت عينيها وهي تتابع بتمهل :

ـ سيلين كمان كانت حلوة .


قطب جبينه متعجبًا ونظر إليها بفضول متسائلا :

ـ مين سيلين ؟


طالعته بهدوء، ثم قالت وهي تتوغل داخل عينيه تحاول سبر أغواره :

ـ سيلين منظمة حفلات .. هي اللي كانت مسؤولة عن تنظيم حفل افتتاح شركة فريد وجيرالد .


هز رأسه بهدوء متفهمًا ، ثم قال :

ـ سيلين دي اللي كانت مع فريد في الصورة مش كده ؟


كانت نظراتها إليه حذرة، تشوبها ريبةٌ خافتة لا تخطئها العين. حدّقت في ملامحه وكأنها تفتّش عن خيطٍ صغيرٍ من الصدق خلف اتزانه المبالغ فيه، وقالت :

ـ أيوة .. ولحد دلوقتي أنا مش قادرة أفهم إيه اللي يخلي صورة زي دي تاخد الصدى ده كله إلا إذا كان حد متعمد إنها تنتشر وتلفت الانتباه .


ـ قصدك إن موضوع الصورة مدبر يعني ؟


أومأت ببطء، ما زالت عيناها معلقتين بعينيه، تراقب أدق تغيّرات ملامحه كمن يقرأ بين السطور، وقالت بصوتٍ خافتٍ لكنه حاد النغمة:

ـ بالضبط.. مدبّر ومقصود والهدف من وراه كان إن نغم وفريد يبعدوا عن بعض، وده already اللي حصل وقتها .


مط شفتيه بهدوء، وقال بنبرةٍ متراخية :

ـ وليه لأ .. كل شيء وارد .


أومأت ، حدّقت فيه أكثر، تشعر أن كلماته الهادئة تخفي وراءها ما هو أبعد من مجرد رأي عابر، وكأن صوته الهادئ ما هو إلا ستارٌ يخفي ارتباكه.

رفعت نظرها نحوه وقالت بهدوءٍ متوجس:

ـ تفتكر مين ممكن يكون ورا حاجة زي دي ؟


هزّ كتفيه بلا مبالاة، وقال بنبرةٍ توحي بالعجز أكثر من اللامبالاة:

ـ معرفش، محدش يقدر يجزم بحاجة دلوقتي، وبعدين أي حد في منصب أو في دايرة نجاح طبيعي يلاقي ناس بتحاول توقعه أو تشوّه صورته.


حدّقت فيه لثوانٍ طويلة دون أن تنطق، وكأنها تحاول أن تلتقط من نبرته ما خفي من صدقه. ارتسمت على وجهها ابتسامة صغيرة، باردة لا تمتّ للارتياح بصلة، ثم قالت بهدوءٍ يخفي خلفه اضطرابًا واضحًا:

ـ زي ما انت عملت قبل كده .. صح ؟


انعقد حاجباه فجأة، ورمقها بطريقةٍ غاضبة، قبل أن يزفر بحدة ويقول بنبرةٍ امتزج فيها الاستنكار بالضيق:

ـ في إيه يا نسيم على الصبح؟!


ارتفعت نبرته قليلًا وهو يتابع بانفعالٍ واضح:

ـ هو إحنا في إيه ولا في إيه دلوقتي؟!


نظر إليها بنظرةٍ حادة، ثم مال إلى الخلف مستندًا إلى الكرسي في حركةٍ تنمّ عن نفاد صبره، قبل أن يمرر يده بعصبية بين خصلات شعره محاولًا تهدئة نفسه دون جدوى.

توقف عن تناول فطوره، وصمت للحظاتٍ قصيرةٍ يختنق فيها الكلام، بينما ظلت هي تحدق به في هدوءٍ متعمد، صمتها كاشف أكثر من أي سؤال، وكأنها تؤكد لنفسها — من بين كل إشارة وانفعال — أنها لم تكن واهمة في شكوكها نحوه.


نهض من مكانه ببطء، ثم مال نحوها مسندًا كفيه إلى الطاولة، نظر في عينيها بنبرةٍ تجمع بين الضيق والإنهاك، وقال بصوتٍ خافتٍ لكنه حادّ:

ـ الكلام في اللي فات مش هيجيبلك غير وجع الدماغ على فكرة .


ثم اعتدل في وقفته، التقط هاتفه عن الطاولة، وغادر بخطواتٍ سريعةٍ تحمل في طياتها نفاد صبرٍ مكتوم، تاركًا وراءه صمتًا أثقل من أي نقاش.


ظلت مكانها للحظات، تتبعه بعينيها حتى اختفى عن ناظريها، ثم أطلقت زفرةً طويلة امتزج فيها الغضب بالحزن. رفعت يدها لتزيح خصلةً سقطت على وجهها، لكن ارتجاف أصابعها فضح ما تحاول إخفاءه.


أسندت مرفقيها إلى الطاولة، ثم وضعت رأسها بين كفيها، تغالب دمعةً ساخنة كادت تفلت.

كانت تعرف أن كلماته محاولة للهروب لا للتهدئة، وأن ضيقه ليس سوى دليلٍ آخر على أنه يخفي شيئًا عنها.


ظلت صامتة للحظات، تستمع لصدى خطواته يبتعد شيئًا فشيئًا، حتى دوّى صوت الباب وهو يُغلق خلفه، فأطبقت جفنيها بيأسٍ عميق.

في تلك اللحظة فقط، أيقنت أنه غادر غاضبًا منها حقًا، إذ لم يلتفت كعادته ليودّعها ولو بنظرةٍ واحدة.

تنهّدت بصمت، لكن فجأة، داهمها شعورٌ حادّ بالغثيان، قبض على معدتها بعنف، فوضعت يدها على فمها واتجهت مسرعة نحو الحمّام، تتعثر في خطواتها وهي لا تدري إن كانت ستصمد طويلا أم لا.


༺═────────────────═༻


في أرجاء الفيلا المترامية، خرج حسن من غرفته بعد ليلةٍ طاحنةٍ بالأرق، تقلب فيها على فراشه وهو يرزح تحت وطأة التفكير. كان يدرك أن فريد ونغم سيعودان اليوم إلى القاهرة، وأن المواجهة بينهم وبين والده باتت وشيكة، يخشى نتائجها، ويخاف أن تنقلب الأمور إلى ما لا يُحمد عقباه.



وما إن هندم ملابسه وهمّ بالخروج، حتى صادف چيلان تفتح باب غرفتها، تجر خلفها حقيبة كبيرة وهي تتحدث في الهاتف بابتسامةٍ واسعة:

ـ اوكي يا أستاذ منتصر، نتقابل هناك كمان ساعة. مع السلامه…


أنهت المكالمة ثم التفتت لتغلق باب غرفتها بالمفتاح، لتجده واقفًا يطالعها ويحدّق في الحقيبة بتمعن. أدخل يده في جيب سترته الجلدية وقال ساخرًا:

ـ على فين يا شرّاني؟


تقلّبت عيناها بمللٍ ظاهر قبل أن تلتفت نحوه بابتسامةٍ مصطنعةٍ مبالغٍ فيها، وهي تقول بنبرةٍ تحمل مزيجًا من السخرية والتحدي:

ـ ألف مبروك يا أستاذ حسن.. من النهارده مفيش حد هيضايقك ولا يستفزك.. أنا خلاص ماشية ومش هتشوف وشي تاني.


رفع حاجبه متعجبًا، وتطلع إليها في استغرابٍ متعمد قبل أن يجيبها ببرودٍ ساخر:

ـ الله يبارك فيكي، بس مين اللي قالك إن وجودك كان مضايقني ولا مستفزني؟! عادي، موجودة زي مش موجودة.


تظاهرت بالتماسك، متحاملةً على ما بداخلها من غيظٍ مكتوم، وهي تدرك تمامًا أنه يحاول استفزازها عمدًا، لكنها أجابت بثباتٍ متعمد:

ـ طيب كويس والله.. على العموم أشوف وشك بخير.. أو مش مهم أشوف وشك تاني خالص.. فرصة سعيدة.


مدّت يدها تصافحه بتهكمٍ واضح، فحرّك يده من جيبه ببطء وصافحها قائلًا بابتسامةٍ خفيفة:

ـ أنا أسعد والله.


لكن عينيه التقطتا ما لفت انتباهه في معصمها، حيث ارتسم وشمٌ صغير لتاجٍ على جانب رسغها، فرفع يدها قليلًا يتأمل النقش بفضولٍ متلاعب:

ـ إيه ده؟ تاج؟!


ثم أطلق ابتسامة عابثة وهو يضيف:

ـ برنسيسه بقى وكده!


اقترب منها خطوةً صغيرة، وصوته ينساب بنغمةٍ ماكرةٍ تتأرجح بين الجد والعبث:

ـ أنا كمان راسم وشم على فكرة.


وأمال عنقه قليلًا ليُريها وشم العقرب المحفور أسفل جانب رقبته. تفحصته بعينٍ هادئة، ثم قالت مقلدة طريقته في الحديث:

ـ عقرب بقى وكده!


ابتسم وهو يضيق المسافة بينهما، مبحرًا في ملامحها بعينين نصف مغمضتين، ونبرةٍ انخفضت حتى لامست الخداع الناعم:

ـ بس مش سام على فكرة.


هزّت رأسها ببطءٍ كأنها تشكك في صدقه، فتابع مؤكدًا بابتسامةٍ جانبية:

ـ بس مقولتليش يعني.. واخدة عزالك وماشية ليه؟! ويهون عليكي عمر؟


ربّتت على ذراعه بقوةٍ خفيفةٍ فيها تهكم وقالت:

ـ لأ، ماهو البركة فيك بقى.. عمر في أمانتك.. عن إذنك.


استدارت لتغادر، لكنه استوقفها بصوته المتهكم وقد امتزجت كلماته بمرارةٍ دفينة:

ـ بتهربي قبل ما تشوفيهم مع بعض مش كده؟!


توقفت في مكانها للحظة، وقد أدركت تمامًا عمن يتحدث. فقد رأت الصور التي نشرها فريد عبر إنستجرام، كإعلانٍ واضح لعلاقته بـ نغم، ولن تنكر أن تلك الصور كانت الدافع الأكبر وراء قرارها بالرحيل قبل أن يعودا كزوجين إلى هذا المنزل الذي لم يعد يحتمل وجودها بينهم.



استدارت نحوه ببطءٍ ونظرةٍ باردةٍ على وجهها، وقالت باستغرابٍ مصطنع:

ـ وأنا إيه اللي يخليني أهرب؟! إنت فاهم غلط على فكرة.. ولا يفرقوا معايا.


ابتسم وهو يقلد نبرتها قائلاً بسخريةٍ مبطنة:

ـ بجد؟! تصدقي أقنعتيني إنهم فعلًا مش فارقين معاكي بدليل إنك عرفتي إني بتكلم عليهم من غير ما أذكر أسامي.


زفرت بضيقٍ مكتوم وتحركت في شموخٍ متعمد دون أن ترد، لكنّه لحق بها بخطواتٍ هادئةٍ وهو يقول:

ـ بصراحة، الانسحاب من الملعب مش لايق بيكي.. تخيلت إنك أقوى من كده.


أجابت دون أن تلتفت، بصوتٍ متزنٍ يخفي وراءه اضطرابًا واضحًا:

ـ مش انسحاب أبدًا.. أنا كده كده كنت ماشية لأن الجو هنا مبقاش يناسبني إطلاقًا.


اقترب منها قليلًا وقال بنغمةٍ ماكرةٍ خافتةٍ تحمل مزيجًا من السخرية والتلاعب:

ـ هعمل نفسي مصدقك.


توقفت في منتصف الممر، استدارت نحوه ببطءٍ وهي تحدّق فيه بحدةٍ لاذعة وقالت ببرودٍ متعمّد:

ـ مش مهم تصدق.. إنت مين أصلاً علشان تصدق أو لأ؟

ولا علشان تتدخل في حاجة تخصني بالشكل ده؟ هو انت كنت من بقية عيلتي؟


رفع حاجبيه بتصنّع البراءة وأجاب ساخرًا:

ـ أوممممال.. انتي مش أخت أخويا؟ تبقي في مقام أختي.


رمقته بلا اكتراثٍ وهمّت بالرحيل، لكنها توقفت فجأة، التفتت نحوه ورفعت سبابتها نحوه كأنها فوهة مدفع وقالت بانفعالٍ حاد:

ـ لو في حد المفروض ينسحب أو يهرب فأكيد إنت مش أنا!


أجابها ببرودٍ ساخرٍ وكتفيه يرتفعان بلا مبالاة:

ـ وأنا إيه يخليني أهرب؟! عليا تار وأنا معرفش؟


قالت بعينين تلمعان بالسخرية:

ـ اللي يخليك تهرب مثلًا إن أخوك اتجوز البنت اللي إنت بتحبها!


ضحك بخفوتٍ مريرٍ وهو يقول بصرامةٍ هادئة:

ـ كنت.. نغم خلاص بقت مرات أخويا يعني مستحيل أعرف أشوفها غير إنها أختي من هنا ورايح.


قالت بابتسامةٍ متهكمةٍ اتسعت بثقة:

ـ إنت مسكين أوي يا حسن بجد.. بتوهم نفسك بكلام مش حقيقي.


فأجابها بجمودٍ متماسك:

ـ لو كان مش حقيقي مكنتش شهدت بنفسي على عقد جوازهم.


قهقهت ضاحكة بسخريةٍ قاسية وقالت:

ـ مش بقولك مسكين! شهدت بنفسك على عقد جوازهم علشان تثبت لنفسك إنها خلاص مش فارقة معاك.. لكن اللي في قلبك غير.


قال بعزمٍ حادٍ ونبرةٍ واثقةٍ لا تخلو من المرارة:

ـ مش مهم اللي في قلبي.. أنا قادر أحط قلبي تحت رجليا ولا يفرق معايا. الدور والباقي على الناس الجبانة اللي بتهرب من أول مواجهة.


نظرت إليه چيلان نظرةً حادّةً يختلط فيها الاستفزاز بالازدراء، ارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ جانبيةٌ باردة، وكأنها تقول له بصمتٍ لاذع إنها لا تنوي النزول إلى مستواه. حدّقت فيه لثوانٍ قصيرةٍ قبل أن تدير وجهها عنه في هدوءٍ متعمّد، ثم تابعت سيرها بخطًى ثابتةٍ نحو الباب دون أن تمنحه كلمةً واحدة، وكأن صمْتها كان الرد الأقوى على كل ما قاله.



أما هو، فظلّ واقفًا في مكانه يتابعها بنظراتٍ متفحّصة، عيناه معلّقتان بها وهي تبتعد، وكأن في صدره سؤالًا لم يجد له جوابًا بعد.

بقي صامتًا للحظات، يتأمل كلماتها التي ما زالت تتردّد في ذهنه، يشعر بوخزٍ غامضٍ في أعماقه بين الغضب والشكّ والحيرة.


حينها، استمع إلى باب غرفة نادية وهو يُفتح، فاستدار ليراها تغادر غرفتها متجهةً نحو غرفة چيلان، فقال :

ـ للأسف اتأخرتي ..


نظرت إليه باستفهام صامت، فقال:

ـ مشيت خلاص، خدت شنطة هدومها وقالت يا فكيك .


ضيقت عينيها بصظمة وهي تهتف باستنكار :

ـ انت شفتها وهي ماشية ؟!


ـ أكيد شفتها اومال يعني بشم على ضهر إيدي !


تنهدت بغضب مكتوم، بينما هو أخذ ينظر إلى ملامحها الغاضبة متلذذًا وقال :

ـ مش عارف عملتي لهم إيه خليتيهم مش طايقين يقعدوا معاكي في بيت واحد للدرجة دي!


طالعته بإزدراء واضح، وألقت بتهكم :

ـ خليك في حالك .


همت لتتجه نحو غرفتها من جديد لكنه تابع غير آبهًا بانفعالها :

ـ فعلا الأمومة مش بالغنى والفقر، ولا بالمراكز والعلام.. الأمومة محتاجة قلب .. والأم لو قلبها قاسي يبقى يلا السلام..


نظرت إليه مضيقةً عينيها بغضب، وهتفت :

ـ مش فاضل غيرك إنت اللي هتعلمني معنى الأمومة يا بن عيشة الخدامة !!


ضحك ضحكة قصيرة، ثم مسح على جانب عنقه بثبات وقال:

ـ المفروض إن دي كده إهانة يعني ؟! تيجي انتي إيه في عيشة الخدامة ؟! على الأقل هي كانت أم وبتعرف تراعي عيالها، على الأقل كانت حنينه وبتعرف تطبطب وتسند وقت الشدة .. كانت جاهلة يمكن، لكن كانت أم ذكية بالفطرة، تبص في عنيا تعرف أنا مخبي إيه ، كانت فقيرة لكن كانت بتغطي نقص وعجز الدنيا بحنيتها ودفا حضنها.. زرعت فيا الحنية وأول حد كنت حنين عليه كانت هي.. انتي بقا زرعتي في ولادك إيه غير الجفا وقسوة القلب ؟!


رمقته بعينين حادتين ولم تجب، ولكنه استطرد قائلا :

ـ واللي بيزرع جفا بيحصد جفا يا نادية هانم .. متفكريش إنك بعد ده كله هتعملي الأم المثالية وعيالك هيصدقوكي.. العقد فرط من ايديكي خلاص .


صمت يراقب ملامحها الممتعضة بدهشة، ثم أطلق زفيرًا طويلاً، وهزّ رأسه كمن يحاول أن يطرد عن نفسه أثر ما قيل، قبل أن يحسم أمره في لحظةٍ واحدة، ويستدير بخطواتٍ حازمة متجهًا نحو غرفة والده .


دخل إلى غرفة المكتب بخطواتٍ مترددة بعض الشيء، وما إن ولج الباب حتى وقعت عيناه على والده الجالس في مقعده المتحرك، يدور به ببطءٍ حتى استقر في مواجهة المكتب العريض.

رفع سالم نظره نحوه فور دخوله، ابتسم ابتسامة خفيفة، ثم أشار إليه بيده إشارةً واثقة وهو يقول بهدوءٍ يحمل في طيّاته شيئًا من السلطة:

ـ تعالى يا حسن، قرّب عاوزك .




اقترب منه حسن على الفور، وجلس على المقعد المقابل له، فتنهد والده وقال :

ـ اسمعني يا حسن .. انت طبعا شفت اليومين اللي فاتوا حالتي كانت متدهورة ازاي.  أنا خايف أرجع أنسى تاني..


قاطعه حسن قائلا :

ـ لا إن شاء الله مش هيحصل يا باشا.. إحنا خلاص غيرنا الدوا اللي كان ملخبطك واللي حصلك ده مش هيتكرر تاني ..


قاطعه سالم مصرًا، وبعدم يقين قال :

ـ على كل حال.. محدش ضامن إيه اللي ممكن يجرى كمان ساعة .. علشان كده في شوية حاجات لازم تعرفها .


هز حسن رأسه باستفهام، فقال والده :

ـ أرقام الخزن .. الخزنة دي والخزنة اللي فوق في اوضتي .. فيهم كل حاجه تخصنا ..  علشان كده لازم تكون عارفهم علشان لو نسيت تاني تبقى انت فاكر ..


ـ اللي تشوفه يا حاج ..


ـ الخزنة دي رقمها ( 1387 ) يوم تاريخ وفاة عمك مبروك الله يرحمه ، طبعا محدش يعرف بالقصة دي غيرك أساسا علشان كده مستحيل حد يقدر يخمن الرقم .. والخزنة اللي فوق في أوضتي كان رقمها تاريخ تأسيس الشركة لكن غيرته ودلوقتي رقمها ( 1990 ) ودي السنة اللي اشتريت فيها الڤيلا دي .


أومأ حسن موافقًا وتساءل بفضول :

ـ وليه غيرت رقمها ؟ حد عرف الرقم وفتحها ؟!


أومأ سالم مؤكدًا وقال :

ـ بنت نادية .. كانت عاوزة تلبس نغم مصيبة قامت سرقت اللي في الخزنة كله ، بس أنا عرفت ورجعت الحاجة بسرعة .


اتسعت عينا حسن بصدمة لم يستطع إخفاءها، وانفرجت شفتاه ببطء كمن يحاول التأكد مما سمع، ثم عقد حاجبيه بدهشة ممزوجة بالغضب المكبوت، وقال بنبرة مشدوهة:

ـ چيلان؟!


اتكأ للخلف على المقعد وقد ارتسمت على ملامحه علامات استنكار عميق، كأن ذهنه يحاول استيعاب حجم الجُرم الذي أقدمت عليه، ثم مرّر كفّه على فمه في توتر، متنهّدًا ببطء، بينما عينيه ما زالتا معلقتين بوجه والده في انتظار توضيح أكثر.


ـ أيوة .. البنت دي مش سهلة أبدا يا حسن خلي بالك منها، دي وارثة جشع أبوها ومكر أمها في نفس الوقت.. أبوها كان راجل خليجي من أصل بدوي .. اسمه عبد العزيز الهاجري ، اتجوزته نادية وهي صغيرة وسافرت عاشت معاه في دبي.. واللي سمعته من أبويا أيامها إن الجوازة دي كانت صفقة ، بيع وشرا .. كانت صغيرة وحلوة وهو كان كيفه البنات الصغيرة.. إشتراها ودفع فيها فلوس كتير لأبوها ..


وأشار إليها وأضاف باهتمام :

ـ أبوها كان صاحب جدك عبدالعظيم على فكرة.. لكن ظروفهم كانت على القد .. ونادية يعتبر كانت متربية معانا وكانت صاحبة ناهد الله يرحمها الروح بالروح .. حتى بعد ما اتجوزت وسافرت فضلوا على تواصل مع بعض .


واستطرد مكملا حديثه، بينما حسن يستمع إليه بإنصات:

ـ بعد ما اتجوزت نادية وسافرت معاه على دبي اكتشفت إنه شغال في كل حاجه ممنوعة، سلاح، مخدرات، غسيل أموال.. وبلاوي تانية كتيرة ، مكانش في حاجة غلط بتقف قدامه ابدا ، لدرجة إنه كان بيستغل جمالها وصغر سنها وبيخليها تصاحب الرجالة اللي ليه مصالح عندهم وتتودد لهم وتجيب له أخبارهم .




كاد فم حسن يسقط من الدهشة، بينما كان سالم ينساب في حديثه وكأنه عالق بين الحاضر والماضي، كلماته تسقط واحدة تلو الأخرى، وكل كلمة تحمل سرًا لم يُروى من قبل، بينما كل عبارة كانت تفتح أمام حسن أبواب مظلمة لم يكن يعرف أنها موجودة .


ـ المهم..  كانت لبست في بنتين منه .. اللي هم چيلان وچوليا اللي ماتت، ولما بدأت تكبر وهما يكبروا وبقت ترفض أنه يستغلها بالشكل ده بدأت تحصل بينهم مشاكل ويهددها إنه هيلبسها قضية ويسجنها وياخد منها البنتين ، لحد ما تعب فجأة وغار في داهية .. بعدها ظهر أخوه اللي بدأ يطعن في شرفها ونسب البنتين وزور أوراق تثبت إنهم مش بنات أخوه علشان يستولى على كل الثروة اللي سابها عبدالعزيز .


ضيق حسن عينيه بريبة وهو يتسائل :

ـ وفعلا البنتين مش بنات عبدالعزيز ؟


ـ بناته . لما حاول عمهم الطعن في نسبهم عشان يحرمهم من الميراث، كلمتني وطلبت مني المساعدة ، رحت أنا خليت نادر يتكفل بالقضية كلها، وكانت أول خطوة أخدها نادر هي إثبات نسب البنتين رسميًا.. وطلب إجراء تحاليل تثبت إنهم بنات عبدالعزيز وبالفعل التحاليل كلها أثبتت إنهم من صلبه .


تنهد حسن براحةٍ لا يعرف سببها، ولا يعرف لماذا كان من المفترض به أن يقلق أصلا ، ثم سأل والده :

ـ وبعدها طبعا إتجوزتها ؟


أومأ سالم مؤكدا وقال :

ـ للأسف .. كانت غلطة حياتي اللي لحد دلوقتي ندمان عليها .. كان في ايديا الدهب وبصيت للفالصو .. خسرت ناهد بسببها ، كنت معمي ومش عارف أنا عملت كده ليه ؟! بالرغم من إني محاولتش أقرب منها غير مرة واحدة، ودي كانت الليلة المشؤومة اللي حملت فيها في حيلتها .


تنهد حسن وهو يحاول مغالبة دهشته، كان يشعر وكأنه أمام بحر عميق من الأسرار، وكلما غاص فيه أكثر، انكشفت له أسرار جديدة تضاعف دهشته وتعقّد مشاعره.


بينما نظر إليه والده وقال بتحذير :

ـ الكلام ده ممنوع يخرج بينا يا حسن، مفهوم ؟


أومأ حسن بكل تأكيد ، وقال بثقة:

ـ أكيد يا حج، متقلقش .


ـ مش قلقان، بس بأكد عليك .


أومأ حسن مجددا، مع ابتسامة هادئة ، ثم قال :

ـ على العموم سيبك من ده كله ، يلا علشان نفطر وتاخد دواك .


ـ لأ أنا مليش نفس للفطار دلوقتي ، و دوايا أخدته .


ثم مرر يده على ذقنه بهدوء وهو يقول :

ـ حاسس إن دقني طولت أوي ..


نظر حسن حيث يشير وقال مبتسما بمرح :

ـ نقصرها يا باشا مصر .. وبعد ما نقصرها أعمل لك أحلى فوطة سخنه وماسكات ودلع كمان .. ده إحنا خدامينك .


ونهض وهو يقول بعزم :

ـ خلينا نقعد بره في الجنينه في الهوا وأنا هجهز عدة الحلاقة وراجعلك .. وربنا لأخليك عريس الليلة .



ضحك سالم بخفوت، وقال وهو يستدير بمقعده للتحرك نحو باب الغرفة :

ـ مش للدرجة دي .. مش هاخد زمني وزمن غيري يا حسن.


بينما حسن يتبعه نحو الخارج وهو يقول :

ـ يا باشا إنت تعمل اللي إنت عايزُه ومحدش شريكك .


غادرا الغرفة سويًا، ساعد حسن والده حتى خرج إلى الحديقة ، ثم عاد إلى غرفته سريعًا والتقط عدة حلاقته الخاصة وعاد إليه ، ثم جلس على مقعد مقابل له وقال مبتسما :

ـ قوللي بقا يا حجوج .. تحب تحلق بالموس ولا الماكينة؟


ليجيبه سالم متهكمًا :

ـ بالموس بس خلي بالك تطير وداني .


انفجر حسن ضاحكًا وقال :

ـ متخافش ، أنا حلاق بريمو ..


ـ ربنا يستر .


بدأ حسن بترطيب بشرته أولا قبل البدء في الحلاقة، ومن ثم قام بوضع رغوة الحلاقة ، وبدأ بتمرير الشفرة على بشرة والده بهدوء، وهو يشعر في داخله بالامتنان للقدر الذي سمح له أن يعيش لحظة كهذه مع والده .


وبينما يتابع عمله بهدوء، آتاه سؤال والده قائلا :

ـ خلصت ورق الخيول وتصريحاتهم !


ـ أومأ حسن قائلا :

ـ أيوة ..


ـ و ناوي تعمل الافتتاح إمتا ؟!


ـ الحقيقة مش عارف ، بس غالبا مش هشغل نفسي بمواعيد محددة.


ـ إزاي بقا ! هو مش الافتتاح ده له ترتيبات؟ وبعدين لازم تعزم ناس كبار ورجال أعمال ومناصب مهمة ..


ـ لأ أنا هلغي الخطوة دي.. حاسس إن الهيصة دي ملهاش لزمة .


ـ مفيش حاجه ملهاش لزمة ، لازم تعمل افتتاح وحفلة كبيرة كمان، لأن وجود الناس الكبار دي فرصة عظيمة للتعريف بالمشروع، زائد إنه هيخليك تكسب دعم رجال الأعمال، وتبني شبكة علاقات قوية .. ده كمان استثمار في المستقبل وفي نجاح المشروع نفسه.


ـ أنا يعني كنت شايف الظروف الحالية مش سامحة ..


ـ ولا ظروف ولا جوابات.. الافتتاح هيتعمل في وقته وأنا بنفسي هكلم رجال الأعمال المهمين كلهم وأعزمهم .. و أولهم سيادة اللوا حمدان الأسيوطي.. ده راجل تقيل أوي ولازم تكسبه في صفك لأنه هيسهل عليك كتير .


ـ اللي تشوفه يا حاج .. ربنا ميحرمنيش منك .


༺═────────────────═༻


كان فريد قد قطع حوالي ثلثي الطريق نحو الڤيلا، وخلال قيادته لم يتوقف ذهنه عن استرجاع اللحظات التي عاشها هناك، لا سيما اليوم الذي تشاجر فيه مع حسن قبل سفره إلى اليونان.


زفر بضيق، وأشاح بوجهه لينظر من النافذة المجاورة، ثم عاد بعينيه إلى نغم الجالسة إلى جانبه، شاردة هي الأخرى، وهو يدرك ما يدور في خاطرها وما يجعلها غارقة في صمتها.



ألقى نظرة على المرآة الخلفية، حيث كان شقيقه عمر يتحدث إلى ميرال بصوتٍ هامس، وكأن حديثهما لا يصل إلى أحد، ويتبادل الضحكات معها من حين لآخر، مما دفع فريد إلى ابتسامة خافتة رغمًا عنه، وهز رأسه بيأس من عدم اكتراث أخيه الذي يبدو دائمًا في عالمه الموازي الخاص.


مد يده وأمسك بكف نغم، التي التفتت إليه بابتسامة خفيفة. فقال مبتسمًا:

ـ ساكتة ليه؟


هزت رأسها بخفة وأجابت:

ـ مفيش حاجة…


كان يعلم في قرارة نفسه أنها تراوغ، وأن خوفها من المواجهة واضح، لكنه أدرك أيضًا أنه يشعر بخوف أضعاف ما تشعر به، ليس خوفًا من مواجهة والده، بل خوفًا عليها، لأنه يعلم أن والده لن يمرر خبر زواجهما مرور الكرام، وأنه سيحاول جرح كليهما بكل الطرق الممكنة، لأنه يدرك تمامًا أن والده من المستحيل أن يقبل أن يجد نفسه أمام أمر واقع يُفرض عليه دون موافقته.


شعر فريد بثقل هذه الحقيقة على قلبه، فقد تراكمت أمامه العواقب المحتملة لكل خطوة، لكنه كان مصممًا على حماية نغم، مهما بلغت الصعاب. وكل لحظة يقضيها في التفكير تزيده يقينًا بأن المواجهة مع والده ستكون اختبارًا لقوة إرادتهما وحبهما لبعضهما البعض.


توقفت السيارة أمام الڤيلا مباشرةً ، حينها تنهد عمر وقال ممررًا كلماته إلى ميرال :

ـ أنا وصلت أهو، هخلص المعركة دي وأكلمك تاني.. ادعيلي… انتي محترمة ودعوة الناس المحترمة اللي زيك مستجابة.


أنهى الاتصال، ثم ترجل من السيارة، بينما ظل فريد يراقب نغم بهدوء. استدار قليلاً ليواجهها مباشرة، ممسكًا يدها بثقة، وقال:

ـ نغم… قبل ما ننزل من العربية، عايز أقوللك حاجة… إحنا مش عارفين إيه اللي هيحصل لما ندخل، بس عايزك تكوني مستعدة لكل حاجة، ولأي حاجة.


ابتلعت ريقها بوجل وحاولت إخفاء توترها، فأومأت بهدوء، بينما تابع قائلا :

ـ عايزك تعرفي إن مهما كان اللي هيحصل أو هيتقال، أنا بحبك ومش عايز من الدنيا غيرك.


زاد كلامه شعورها بالخوف، حيث كانت تشعر بالرهبة من مواجهة والده، لكنه استمر:

ـ انتي خلاص بقيتي مراتي، سواء برضاه أو غصب عنه، انتي مراتي، وعمري ما هسمح لحد يبعدك عني.


أومأت بثقة ، فتابع:

ـ مش مطلوب منك غير إنك تسنديني… خليكي جنبي، لازم نثبت له إننا أقوى ببعض ومع بعض، ونحبط أي محاولة ممكن يفكر فيها قبل ما يعملها.


هزت رأسها بطاعة، فقال بحرص أكبر:

ـ المرة دي غير كل مرة يا نغم! اتفقنا؟


نزعت كفها من بين قبضته وربتت على يده بحنان:

ـ اتفقنا.


تنفس بعمق، وأومأ قائلاً:

ـ يلا بينا.


ترجلا سويًا من السيارة، ودخلوا الثلاثة إلى الڤيلا بخطوات مترددة. حينها قال عمر:

ـ أنا رجليا مش شايلاني وحاسس إن ركبي بتخبط في بعضها.



ارتسمت على شفتي فريد ابتسامة بائسة:

ـ الحال من بعضه.


دخلوا إلى الڤيلا بخطوات مترددة، وقلوبهم تخفق بشدة، لكن ما صدمهم أكثر مما رأوه أمامهم. هناك، في وسط الغرفة، كان والدهم جالسًا على كرسيه، جسده مشلول لا يتحرك، ووجهه يحمل ملامح القوة المعتادة لكنه هادئ هذه المرة بطريقة غير مألوفة.


تجمدت الأنفاس في صدورهم، وابتعدت الكلمات عن ألسنتهم، بينما تسارعت نبضاتهم في صمت، وامتلأ الجو بثقل الصدمة التي لم يكن أحدًا منهم مستعدًا لها. نظراتهم جميعها تجمعت على الكرسي، على جسد والدهم الراكد، وعلى عينيه التي كانت تنظر إليهم بحزم وصمت، لتشعرهم بعمق ما تغير في الصورة التي عرفوها عن القوة والسيطرة، وتضعهم فجأة أمام واقع لم يكونوا يتوقعونه.


كان كل شيء في هذه اللحظة يصرخ بصمت: الدهشة، الرهبة، والارتباك، وحقيقة أن هذه المواجهة ستكون مختلفة تمامًا عن أي شيء سبق.


نظر كل من فريد وعمر إلى بعضهما، عيونهما تلمع بالصدمة وعدم التصديق، ووجوههما تعكس امتزاج الدهشة بالخوف والحيرة.


تجمدا لوهلة، كأن الزمن توقف من حولهما، بينما كل فكرة عرفوها واعتادوها عن والدهم انهارت في لحظة واحدة.


وعلى الجانب الآخر، يجلس سالم على كرسيه، وعيناه تتجولان عليهما ببطء وهو يشعر في داخله بالضيق يشتد، ممتزجًا بعجز لا فرار منه، اشتدت يده الساكنة بلا وعي حول مقبض الكرسي، كما لو كان يحاول استيعاب حضورهم أمامه بعد كل هذا الوقت. وارتسم على ملامحه مزيج من الحيرة والترقب، ثم نطق بصوتٍ متزن قدر الإمكان:

ـ حمدالله على السلامه ، أخيرا افتكرتوا إن ليكم أب تسألوا عليه .


ثم التفت إلى نغم التي لازالت عيناها معلقة به في ذهول، وقال منفعلا  :

ـ البت دي اللي جابها هنا ايه ؟


تراجعت نغم لا إراديًا خطوة للوراء، ولكن فريد الذي كان ممسكًا بيدها شدد عليه بقوة أكبر لئلا تتراجع أو تهابه، وبينما هو يحاول إيجاد صوته، كان حسن قد نطق بهدوء قائلا :

ـ حمدالله على السلامه .


أومأ فريد بهدوء صامت، ثم نظر إلى والده وقال بسكونٍ غريب :

ـ ألف سلامة على حضرتك .


تبادل سالم معه نظرةٍ صامتة، استطاع فريد فيها أن يستشف مدى القهر الكامن بعينيه والذي سرى نحوه ببطء..


نعم يشعر بالقهر ، فهذه هي المرة الأولى التي يرى والده فيها عاجزًا بهذا الشكل، فاقدًا السيطرة على كل شيء .


ـ وانت يهمك سلامة حضرتي أوي ؟! لو كان يهمك سلامتي مكنتش تجيب البت دي توقفها قدامي بكل برود وكأنك بتتحداني .


ابتلعت نغم ريقها بوجل وشعرت وكأنها ستذوب من فرط الخوف الآن، بينما برودة يد فريد التي انتقلت تلقائيا إلى يدها أشعرتها بمدى ارتباكه هو الآخر .



ثبت سالم ناظريه على يد نغم التي يمسك بها فريد بكل ثقة، وتابع بحدة أعنف:

ـ جاي وجايبها تشمتوا فيا مش كده ؟! وصلك الخبر إني اتشليت قمت لقيتها فرصة تتشفى فيا إنت والسنيورة بتاعتك .. مش كده ؟


كان فريد لا يزال تحت وطأة صدمته، يشعر وكأن عقله مشوشًا ، كأنه فقد القدرة على التركيز والتفكير الواضح. فكل ما يراه أمامه، من جسد والده المشلول إلى الصمت الثقيل الذي يدور بينهما كان يختلط في ذهنه كلوحة مشوهة، تجعل كل فكرة واضحة تتلاشى قبل أن يتمكن من الإمساك بها.


شعر بأن نبضات قلبه تتسارع، وأن الهواء أصبح ثقيلاً على صدره، بينما أحس بثقل المسؤولية يضغط عليه فجأة، فهو لم يواجه من قبل والده بهذا الشكل، ولم يتصور أن يرى الجبروت الذي عرفه دائمًا يتبدد بهذه الصورة الصادمة.


ـ أنا ..


ـ إنت إيه ؟! إنت عمرك ما هتتغير ، هتفضل دايما تدور على الحاجة اللي بتعصبني وتستفزني وتجلطني وتعملها.. قلت لك البنت دي مستحيل تكون من العيلة، رحت جاي وجايبها وحاطط ايديك في ايديها وكأنك بتتحداني وبتقولي إخبط دماغك في الحيط.. مش كده ؟


نظر إليه فريد بهدوء، زفر نفسًا ثقيلا وهتف بقوة :

ـ أنا ونغم كتبنا كتابنا خلاص ..


اتسعت عينا سالم بقدر ما شعر من صدمة، وتساءل مذهولا :

ـ إنت ونغم إيه ؟! كتبتوا الكتاب ؟! اتجوزتها ؟!!!


أومأ فريد مؤكدًا بهدوء وقال متريثًا :

ـ أيوة .. بالظبط .


شعر سالم بغضبه يتفاقم حتى وصل إلى ذروته، شعر بدمه يغلي حتى كادت عروقه تنفجر من شدة الغضب، وهتف بقوة:

ـ الجوازة دي لا يمكن تتم ، على جثتي .. البت دي هتطلقها وحالا يا إما هبقى غضبان عليك ليوم الدين!


قبض فريد بأنامله على يد نغم التي ترتجف بصمت، وقال بقوة وإصرار :

ـ مستحيل .. مهما حصل مش ممكن أطلقها .


ـ هتبرى منك يا فريد !


قالها سالم بصوتٍ أخرس الجميع وجعل أنفاسهم تنحبس في صدورهم، ألجم حتى العصافير على الشجر، بينما رد فريد بهدوء :

ـ مش مشكلة .. مش هطلقها حتى لو على رقبتي .


كانت نغم تشعر في تلك اللحظة وكأن قلبها يوشك على التوقف، يحدث ضجيجًا عاليا جعلها ترغب في أن تنشق الأرض فتختفي حالا .


ـ بتتحداني يا فريد ؟! فاكر إني اتشليت خلاص ومش هقدر أعمل حاجة ؟! أنا وأنا قاعد في مكاني أقدر أهد الدنيا على دماغك ودماغها .


حاولت نغم سحب يدها من يده ..


يا إلهي.. لو أن لها فرصة أن تركض مبتعدة عن كل هذا الرعب الذي تعيشه الآن لفعلت دون النظر للوراء .. ولكن يده هي من تكبلها وتجبرها على الوقوف في موقف كهذا .


ابتلع فريد ريقه في مرارة وقال مجابهًا جبروت أبوه بلا اكتراث:

ـ للأسف عارف إن مهما حصلك مفيش حاجه هتقدر توقفك ، ومع ذلك مش هاممني .. أيًا كان اللي هيحصل أنا مش هسيب نغم ولا هتخلى عنها .



حينها حول سالم عينيه نحو نغم التي سرت البرودة في أطرافها وشحبت معالم وجهها، وقال :

ـ ها يا آنسة نغم .. إيه رأيك في الكلام اللي بيقوله حبيبك الأفندي! مستعدة تواجهيه بحقيقتك الزبالة ولا تنصحيه يرجع عن تهوره ده أحسن ليكم .


جاهدت لإبقاء جسدها تحت السيطرة، فها هو يلمح لما كانت تخشاه، وتعرف جيدا أنه لن يتوانى عن استخدامه ضدها بكل دناءة .


حينها، ظهر الارتباك جليًا على وجه حسن الذي انحنى نحو والده قائلا :

ـ اهدى يا حج دلوقتي وخلينا نكمل كلامنا بعدين.


ولكن سالم بدا وكأنه معزولا عن الواقع، حيث نظر إلى نغم وتابع بحدة:

ـ سكتي ليه ؟! قلبك جمد لما اتجوزك مش كده ؟! يا ترى ضحكتي عليه بإيه خليتيه يتجوزك ويمشي وراكي وهو معمي بالشكل ده .


حينها اندفع فريد خطوة للأمام، تاركا يد نغم ثم رفع سبابته بتحذير في وجه أبيه وقال :

ـ لو سمحت.. أنا مش هقبل أي تلميحات سخيفة في حق نغم ، و يا ريت قبل ما تقول أي كلمة تكون عارف إني مش هقف أتفرج عليك وانت بتغلط فيها ..


ـ هتعمل إيه ؟! هتضربني ؟! والله عال.. ده اللي ناقص أصلا .


ـ أكيد لأ.. لكن أنا جاهز لأي رد يحفظ كرامة الإنسانة اللي بحبها واخترتها ، واللي ملهاش ذنب إنك تحاربها وتكرهها بالشكل ده غير إني بحبها ومصمم أرتبط بيها.


ـ ده اللي هي ضحكت عليك وفهمتهولك مش كده .. فضلت تتمسكن وتعمل فيها بريئة وضحية علشان تتمكن منك وتخليك تكتب عليها ، وهي مية من تحت تبن .


أغمض فريد عينيه بنفاذ صبر وهو يسحب نفسًا يسيطر به على أعصابه، وحين هم بقول شيئا كان حسن قد سبقه ، حين أمسك بيد والده في توسل وقال:

ـ علشان خاطري يا حج بلاش .. الكلام مش هينفع قدام الناس على الملأ كده!


ولكن سالم كان قد خرج عن طور ثباته قائلا :

ـ إيه قولك إن السنيورة اللي عاملة فيها ربة الصون والعفاف دي ايديها طويلة ؟!


ونظر إلى نغم وهتف مضيقًا عيناه بشماتة وقال :

ـ لا مؤاخذه .. حرامية !!


ونظر إلى فريد وقال :

ـ ها.. هتقدر تكمل حياتك مع واحدة حرامية ؟! كانت بتمد ايديها وتسرق ؟! هتعرف تعيش مع واحدة بالأخلاق دي في بيت واحد ؟!


حينها أجابه فريد بدون تردد أو تفكير :

ـ زي ما قدرت أعيش مع واحد قاتل في بيت واحد .. وأظن إن الظروف تجبرك إنك تمد ايديك وتسرق شيء لا يذكر قصاد انك تهدر دم بني آدم بريء شيء تاني خالص !


حينها علت الصدمة وجوه الجميع، خاصةً سالم الذي أخذ يحدق فيه مذهولا، لا يصدق ما سمعه ولا يستسيغه، فيما تابع سالم قائلا :

ـ أيًا كان اللي عملته نغم أنا متفهم أسبابه ودوافعه، وعلى فكرة.. نغم لا خدعتني ولا ضحكت عليا ، أنا عارف كل حاجه ومش فارق معايا ابدا اللي عرفته، اللي عملته نغم أقدر ألتمس له فوق السبعين عذر سبعين تانيين، لكن اللي عملته انت مفيش شيء يبرره ولا يغفره أبدا.. ومع ذلك كلنا ادينا لك فرصة تانية ودفعنا تمن غلطة مش غلطتنا، و أنا أول واحد طول عمري بدفع تمن غلطاتك، فأظن محدش ليه الحق أبدا أيًا كان هو مين إنه يتدخل في حياتي واختياراتي وخصوصا أنت !


رمقه سالم بنظرات ساخطة، وهدر بقسوة :

ـ مش هسمح لك تحط من قدر نفسك وقدر العيلة بإنك ترتبط بواحدة دون زي دي .. حتى لو وصل الأمر إني أبلغ عنها وأسجنها .


ـ لو حاولت تعمل كده أنا أول واحد همنعك .


برز بتلك الكلمات صوت حسن الذي كان يتابع ذلك الحوار القاسي بنفاذ صبر ، وتقدم خطوات، ثم وقف أمام والده وقال بحدة :

ـ أنا مش ممكن أسمح لك تأذي نغم بأي شكل من الأشكال ، دي بنت خالتي وكانت عايشة في مسؤوليتي طول عمرها ، يعني أي حاجه عملتها أنا المسؤول عنها ، أي غلطة غلطتها أنا اللي لازم أتحاسب عليها قبل منها ..


وأشهر سبابته بتحذير وقال بصوتٍ غاضب :

ـ لو فكرت تشوه صورتها بالشكل ده أنا هسلم نفسي للبوليس وهخرجها منها.. لأن أنا اللي أستحق السجن مش هي … 


نظر والده إليه بغضبٍ جهور وقال :

ـ بقا كده ؟! كلكوا بتتحدوني علشان حتة البتاعة اللي متسواش نكلة دي ؟! بتقف في وش أبوك وبتتحداه منك ليه علشانها ؟! أنا قلت من الأول دي شيطانة وهتخرب حياتنا محدش صدقني .


أجابه فريد باندفاع :

ـ نغم مش شيطانة، ويكون في علمك أنا مش هسمحلك تضغط عليا بيها بأي شكل من الأشكال .. مهما حاولت تهددني أو تهددها، أو تبتزني بأي شيء صدقني كلها محاولات فاشلة ، أنا مش هطلق نغم وهتمم جوازي منها في أقرب وقت واللي عندك اعمله .


قالها وسحب يد نغم دون إنذار، وقاد خطواتهما نحو الخارج، بينما صوت والده يصدح في الخلفية قائلا بغضب:

ـ هتطلقها يا فريد ، مش سالم مرسال اللي تخالف أوامره وتتحداه .. هتطلقها بمزاجك أو غصب عنك، حتى لو اضطريت إني أحرمك من الميراث .


لم يجبه فريد، غادر البوابة ممسكًا بيدعدها في صمتٍ غاضب، وما إن وصلا إلى السيارة حتى ترك يد نغم ومد كلتا يداه يمسح بهما على وجهه، محاولا تهدئة ثورته، ثم يقبض على خصلاته وهو يشعر وكأنه على حافة الجنون،

وفجأة.. لفت انتباهه ترنح نغم، أخذ ذراعيها يرتخيان، وجسدها الضئيل يفقد اتزانه ببطء.. إلى أن تهاوت أرضًا… فاقدةً للوعي !!!


༺═──────────────═༻


#يتبع

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close