القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل الخاتمه بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)


رواية غناء الروح الفصل الخاتمه بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)





رواية غناء الروح الفصل الخاتمه بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)



"الخاتمة"


بعد مرور أربعة أشهر...


في أحد أبراج القاهرة الفاخرة التي تطل على النيل مباشرة، وتحديدًا في الطابق الأخير من البرج الذي يملكه رجل الأعمال المعروف زين الجارحي، كان الليل ينسدل بظلاله على الزجاج العريض فينعكس بريق الأضواء على أرضية الرخام اللامعة، داخل الشقة الفخمة التي تفوح منها رائحة الهدوء والترف، تهادت ليليان بخطوات ناعمة متأنية، مرتدية مئزرًا حريريًا بلون الازرق، ينسدل حول جسدها بانسيابية أنثوية متقنة.


وقفت أمام باب مكتب زين، وطرقت الباب بخفة أنثى تعرف قدرها ومكانتها، بينما ما زالت ابتسامتها المشرقة تزين وجهها الذي لم يفقد شيئًا من بريقه رغم مرور السنين، فقالت بنغمة ناعمة فيها شيء من الدلال:


-طلبتني يا زين؟


رفع زين بصره عن الأوراق التي كان منشغلًا بها منذ ساعات، ونظر إليها لبرهة ثم أعاد بصره إلى الملفات التي أمامه وهو يشير بيده نحو ابنه آسر الذي كان يقف على مقربة منه.


كان آسر يجمع ما تبقى من ملفات والده ويضعها في حقيبة سوداء أنيقة، ثم أغلق حاسوبه المحمول بحركة رزينة قبل أن يلتفت نحو والدته بابتسامة دافئة تفيض حبًا واحترامًا، فاقترب منها وقبل يدها برفق ثم جبينها قائلاً بصوت خفيض:


-تعالي يا حبيبتي أنا خلصت خلاص.


ابتسمت له ليليان التي ترى في ابنها امتدادًا لنبضها، ثم همست له بخفة وقد مالت نحوه لتثير غيظ والده الذي بدا وكأنه يتحكم بصعوبة في انفعالاته:


-مش ناوي تاخد اجازة من باباك وشغله يا حبيبي، وتاخد مراتك تفسحها شوية؟


لكن صوت زين قطع سكون الغرفة بحدة مدروسة:


-سيبي آسر يمشي أموره بنفسه يا ليليان وانت يا آسر روح يلا انزل لمراتك.


اكتفى آسر بهزة رأس هادئة فلم يكن يرغب في الدخول في أي نقاش مع والده، ثم أخذ حقيبته ونزل إلى الطابق الذي تقع فيه شقته الخاصة، أسفل شقة والده مباشرة، بينما يسكن أخواه أدهم ومراد في الطوابق الأخرى من البرج نفسه، تنفيذًا لرغبة والدهم في أن يبقوا جميعًا قريبين منه، أما عز فقد آثر أن يعيش في شقة فاخرة قريبة من مشفاه، إذ لم يحتمل فكرة البقاء في دائرة سلطة والده حتى بعد زواجه.


بعد خروج آسر جلست ليليان أمام مكتب زين الوثير، وقد شبكت ساقًا فوق أخرى بحركة أنيقة تنم عن ثقة راسخة، مالت برأسها قليلًا فانحدر خصل من شعرها الحريري الطويل الذي ما زال محتفظًا بكثافته ولونه الداكن، بفضل عنايتها الدقيقة وإصرارها على إخفاء الخيوط البيضاء التي تجرأت يومًا على الظهور بين خصلاته، فقالت بنبرة هادئة امتزجت بالفضول:


-في إيه بقى، طلبتني ليه؟


لم يُجبها زين في الحال، بل سحب من درج مكتبه بطاقة أنيقة ذات تصميم بديع ووضعها أمامها، وقال بابتسامة  رسمت على وجهه الوسيم والذي لم ينجح الزمن في فقدان رونقه وجاذبيته:


-تيجي معايا الفرح ده؟


تجمدت نظراتها عليه للحظة وقد بدا الاستغراب واضحًا في عينيها، فزين طوال عمره لا يميل إلى الحفلات ولا المجاملات الاجتماعية، بل اعتاد أن يرسل أحد أبنائه مكانه إذا دُعي إلى مناسبة ما، أما أن يطلب منها هي مرافقته فذلك ما لم يحدث منذ سنوات طويلة.


تناولت الدعوة بين يديها الرقيقتين، وأخذت تتأملها بإعجاب، فقد أُعدت بعناية لافتة وزُينت بخيوط فضية ناعمة ورسمت عليها حروف الأسماء بخطٍ عربي فخم براق. ولكنها  رغم تأملها لم تتعرف على أصحابها، فرفعت نظرها إليه وقد انعكس الضوء في عينيها، وسألته بنبرة فضولية يغلب عليها الهدوء:


-مفهمتش حاجة مين ده؟


-ركزي في الاسم كويس.


عادت ليليان تنظر إلى الدعوة من جديد، وقد انسدلت خصلات شعرها الكثيفة لتخفي ملامح وجهها المرهق ببريق أنيق لم يبهت بعد، ظلت تحدق في الأحرف المذهبة طويلاً دون أن تُبدي أي رد فعل.


نهض زين من مقعده بخطوات محسوبة، ثم اقترب منها حتى كاد يلامس كتفيها وانحنى بجذعه العلوي ليحيطها بذراعيه من الخلف في حركة تحمل من الحنان بقدر ما تخفي من السلطة، أشار بإصبعه نحو أحد الأسماء المكتوبة على البطاقة، ثم نقر عليه بخفة مرتين وكأنه يريد أن يثبت الكلمة في ذهنها:


-اه ده اخو سليم الشعراوي الجواهر.....


توقفت أنفاسها للحظة ثم رفعت وجهها نحوه ببطء، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة حاولت من خلالها أن تُخفي ذكرياتها عندما قابلته ذات مرة وأثنت على مجوهراته ودعته أنه أفضل جواهرجي في مصر وحينها خصها بنظرة شبه غاضبة ولم تفهم هي وقتها ما سبب تلك النظرة، فقالت بنبرة هادئة ممازحة:


-اسكت احسن، أنا منساش نظرته ليا لما غلطت وقولتله انت احسن جواهرجي في مصر كان ناقص يقتلني بعينيه.


امتعض وجه زين على الفور وانسحب من خلفها ليجلس على الأريكة الواسعة ودعاها لتجلس بالقرب منه، وبالطبع هي لبت دعوته سريعًا، ثم مد ذراعه ليحيط خصرها بنظرة حازمة امتزجت فيها الغيرة بالتحكم:


-اولاً مفيش حد يقدر يبصلك بصة متعجبنيش، ثانيًا أنا قولتلك قبل كده أنا حسيت منه إن الشغلانة دي مش بتاعته بس سبحان الله هو شاطر فيها جدًا.


أمالت ليليان رأسها بخفة وهي تزيح خصلات شعرها عن وجهها، وأجابت بابتسامة وديعة تحمل نغمة المصالحة:


-أنا بهزر، هو شخص كويس للإمانة وذوقه حلو في مجوهراته، وبعدين صحيح هو اخوه ده صاحب الولاد صح؟


هز زين رأسه ببطء وهو يجيبها:


-اه مراد وأدهم هيحضروا معانا أما عز معرفش ظروفه كالعادة..


ولم يكد يُكمل كلماته حتى دوى طرق خفيف على الباب، ثم انفتح فجأة ليدخل عز بخطوات مسرعة سبقت أخاه مراد الذي صاح من خلفه بنبرة ممتزجة بالضيق والتهكم:


-حاسب يا حيوان.


تجاهله عز تمامًا وتقدم نحو والدته أولاً، قبل وجنتيها بحب طفولي واضح ثم قال بصوته المفعم بالدلال والمرح:


-وحشتيني يا روحي، إيه الجمال ده.


رفع زين عينيه نحو السقف وتمتم مستغفرًا وهو يبتعد قليلًا عن ليليان التي ضحكت بخفة واحتضنت ابنها الصغير كما لو كان ما يزال طفلها المدلل:


-وانت كمان وحشتني، كده متجيش امبارح تتطمن عليا؟!


اقترب مراد غاضبًا وأمسك عز من ذراعه ليُبعده قليلًا عن والدته، ثم انحنى ليقبل يدها وجبينها باحترام بالغ، وقال بصوت دافئ يحمل نغمة الاهتمام:


-عاملة إيه دلوقتي يا حبيبتي؟


رفع عز حاجبيه وحدق في مراد بنظرة حادة، ثم قال بلهجة تجمع بين العتب والغرور:


-مقولتليش ليه إن ماما تعبانة يا مراد؟


جلس مراد على المقعد المجاور لوالده، ورفع حاجبه بابتسامةٍ ماكرة موجهة نحو زين الذي بدت على وجهه علامات الانزعاج:


-أبوك اعتبرك من الاشرار وقالنا محدش يقولك أي أخبار عننا طالما قررت تقعد بعيد عنه.


حدجه زين بنظرة صارمة وقال بحنق:


-إيه عنه دي؟! اللي زعلانة هي ليليان أما أنا ولا يفرق معايا يتفلق.


ابتسم عز ابتسامة باهتة، ثم قال بنبرة مرحة كعادته:


-إيه يا زين باشا معاملة جوز الأم دي! اشمعنا أنا من ولادك اللي بتعاملني كده؟


أمسكت ليليان بيده برفق وربتت عليها بحنو أمومي وقالت محاولة تهدئة الأجواء:


-باباك ميقصدش يا عز طبعًا.


لكن زين قطع كلامها ببرود حاد:


-لا اقصد.


ساد الصمت لثوانٍ وبدت ليليان كأنها تحاول إخفاء انزعاجها بابتسامة مصطنعة، بينما كان مراد يراقب الموقف بصمت متأمل واضعًا كفه أسفل ذقنه، ينظر إلى تدليل والدته المبالغ فيه لعز الذي لم يتردد في أن يُلقي رأسه في أحضانها كما كان يفعل طفلًا صغيرًا، فرمقه بنظرة مستنكرة، فما كان من عز إلا أن حرك لسانه بخفة في وجهه ليستفزه أكثر، في حين مال زين نحو زوجته هامسًا بنبرة خافتة حادة:


-ابعدي الحلوف ده عنك حالاً.


لكن ليليان لم تُعره اهتمامًا، بل ضمت عز إلى صدرها أكثر كأنها تتحدى غيرة زوجها أمام الجميع، وفي تلك اللحظة انفتح الباب مجددًا، ودخل أدهم بملامحه العابثة المعتادة، فنهض عز سريعًا بتوتر:


-طيب يلا يا جماعة بالسلامة انتوا دلوقتي!


ولكن أدهم لم يحتمل الاستفزاز، فانقض على أخيه عز بقوة مفاجئة، مستغلًا فارق البنية بينهما، وكبله من ذراعيه وهو يقول بغيظ مكتوم من بين أسنانه:


-فاكرني مش هجيبك، اخدت عربيتي من ورايا ليه يا عز وكمان خبطتها يا بجح.


تجحظت عينا ليليان وهي تتابع المشهد بذهول، ثم قالت بصوت صارم يحمل نبرة الأمومة التي ما عادت تحتمل فوضى المقامة ضد عز:


-عيب كده يا أدهم، باباك قاعد، وليه تمسك اخوك بالشكل ده  هو مجرم ولا إيه، ده دكتور كبير وله وضعه.


تحولت نظرات أدهم إلى والده، فوجد زين يتأمله بهدوء بالغ، ثم قال بابتسامة خبيثة خافتة تسربت منها روح الدعابة التي يخفيها وراء صلابته:


-امسكه واعتبره إرهابي مش مجرم.


شهقت ليليان بصدمة وهي تقول بعتاب مؤلم:


-اخص عليك يا زين، متقولش على عز كده.


لم يستطع مراد تمالك نفسه فقال بضيق مكتوم من تدليل والدته لعز المبالغ فيه:


-ماما الحب ده المفروض يكون ليا أنا الكبير، مش حتة العيل ده.


رفع عز رأسه بعناد وهو يحاول الإفلات من قبضة أدهم الذي كان يُمسك بعنقه، وقال بحدة قاصدًا إثارة استفزازهم:


-والله العيل ده من صغره وانتوا هتموتوا مني ومن حب امكم فيا، بس مهما تعملوا عمركم ما هتعرفوا سر حبنا لبعض.


اقترب مراد من والده هامسًا بينما رفع زين حاجبه بنظرة حذرة فيها شيء من التحدي، فتمتم مراد بمكر:


-الواد ده بيخرف جامد، قوم ارزعه قلمين، او احرمه يجي هنا شهرين.


لكن الباب انفتح فجأة ودخلت ليان وهي تبكي بانهيار جعل الجميع ينتفض في لحظة واحدة، كانت الدموع تُغرق وجهها، وصوت بكائها يملأ الأرجاء، فهب زين واقفًا من مكانه كأن شيئًا في قلبه انكسر فجأة، واتجه نحوها بخطوات سريعة ليضمها إلى صدره:


-في إيه مالك بتعيطي ليه كده؟


انجذب الإخوة جميعًا نحوها، ودخل خلفها آسر الذي كان قد رأى ليان تصعد من شقتها إلى شقة والدها وهي باكية، فصعد خلفها بلا تردد، وقال وهو يلهث من شدة القلق:


-مالك يا ليان، طلعتيني وراكي جري؟


دفنت ليان وجهها في صدر والدها، تبكي بحرقة أوجعت قلب ليليان التي كانت تتابع المشهد بعين دامعة، وكادت تبكي تضامنًا معها، لولا أن التف إخوتها حولها فحجبت الرؤية عنها، فقال مراد بصوت خشن متوتر:


-مالك في إيه بتعيطي ليه كده؟


وأردف عز بقلق واضح:


-مالك يا لينو مين زعلك يا حبيبتي؟


مد عز يده ليمسد شعرها بحنو، لكن زين رمقه بتحذير صامت كعادته، فإن سمح له بتجاوزه له في بعض النقاط، لن يسمح له بالاقتراب من منطقته المحظورة ليان صغيرته الوحيدة.


رفعت وجهها الباكي عن صدر والدها، وقد اختلطت دموعها بأنفاسها المرتجفة، وقالت بصوت متقطع موجع:


-عمر يا بابا زعقلي وقفل في وشي التليفون.


رفع أدهم حاجبيه بدهشة غاضبة وقال وهو يزمجر من بين أسنانه:


-يومه أسود هو بيستعبط ازاي يعمل كده؟!


حدجه زين بنظرة غاضبة محاولًا إسكاته، لكن بدا وكأن ليان قد ألقت تعويذة على إخوتها الشباب، ففقدوا جميعًا اتزانهم وثاروا غضبًا لأجلها، حتى عز الهادئ دومًا قال من بين أسنانه لمراد الذي كان يُخرج هاتفه مسرعًا ليتصل بعمر المسكين:


-كلمه يا مراد هو اتجنن عشان يعاملها كده!!


لكن يد زين كانت الأسرع فاختطف الهاتف من يد ابنه، وقال بصرامة ونبرة حادة تُخفي خلفها الغليان:


-في إيه هو أنا شفاف وماليش وجود وسطكم؟


تنفس آسر بغضب وهو يحاول ضبط نبرته الجامحة قائلًا:


-ما هو بردو مش طبيعي يا بابا يتصرف كده مع ليان وبعدين أنا اختي مابتغلطش أساسًا، يبقى التليفون في وشها ليه؟! مش عامل احترام لوجودنا.


نظر زين نحو ليليان التي كانت تمسح على خصلات شعر ابنتها بحنان وهي تبكي، فخشي أن تتأثر مجددًا كما حدث في الليلة الماضية، فقال بحزم لم يقصده على هذا النحو:


-خدي عيالك واطلعي برة.


رفعت ليليان وجهها نحوه بصدمة فأسرع بالتبرير بخفوت متردد:


-عشان متتعبيش بس يا ليليان.


تجاهلته ليليان ووجهت حديثها لابنتها التي كانت تحاول السيطرة على دموعها، وسألتها بهدوء:


-جوزك عمل كده ليه يا ليان؟


تحدثت ليان من وسط بكائها، وهي لا تزال متشبثةً بأحضان والدها، ذلك الحضن الذي لطالما كان ملجأها الآمن،ىوقالت بنبرة متقطعة حزينة:


-عشان بقوله الولاد طالعين رحلة وعايزة اطلع معاهم، قالي لا بناقشه قالي لا، حاولت اتكلم معاه وشدينا مع بعض وزعق لي جامد وبعدها قولتله أنت لو موافقتش هقول لبابا وهو هيخليني اطلع، قفل في وشي السكة.


حمحم مراد وكان أول من استعاد اتزانه بعدما أدرك تفاهة سبب المشكلة مقارنة بحالة الغضب التي اجتاحتهم جميعًا، كان يتفهم الآن لِمَ فقد صديقه صبره، فطالما كان عمر حليمًا مع ليان يعاملها كجوهرة يخشى خدشها، فقال بنبرة هادئة محاولًا التخفي:


-طيب يا حبيبتي ما هو له يتعصب بردو انتي يعني بتلغي وجوده!


رفع أدهم حاجبيه باعتراض وقال بخشونة لم تخل من الحنق:


-بردو ميقفلش السكة في وشها يا مراد هو بيستعبط ما يستحمل زن مراته، ما أنا مستحمل زن مراتي وابوها قبلها!!


لوى آسر شفتيه بضيق وهو يرمق أخاه بمكر قائلًا:


-يعني لو كاميليا قالتلك هقول لبابا يطلعني رحلة غصب عنك هتستكلها.


رد أدهم بثقة مغرورة:


-اه هسكت...بس مش هسكت لابوها عادي يعني!


زمجرت ليان بغيظ وهي تحدق في آسر المدافع عن زوجها:


-أنا مقولتش غصب عنك يا آسر، متغلطنيش!


ثم نظرت إلى وجوههم واحدًا تلو الآخر، فلمحت على ملامحهم آثار الضيق، فعادت تبكي بحرقة وهي تقول بمرارة:


-اه يعني كلكم غلطتوني ووقفتوا في صف عمر.


تقدم عز منها هذه المرة، ونجح في جذبها من أحضان والدها إلى أحضانه، فعانقها برقة قائلاً بنبرة حنونة مقنعة:


-لا طبعًا محدش مغلطك، بس يعني يا لينو احنا فهمنا ليه اتعصب اكيد كان خايف عليكي وهو من امتى سابك تتحركي لوحدك؟!


دفعت ليان صدره قليلًا وهي تقول بغيظ طفولي:


-يعني انت كده مش واقف معاه بردو، أنا أساسًا ماليش إلا بابا وماما.


اقترب منها مراد وقبل وجنتيها بحنان وهو يقول مداعبًا:


-هكدره في الشغل النهاردة يا حبيبتي ولا يهمك، ولو شوفت حد واقف معاه هكدره هو كمان، المهم إن البرنسس بتاعتنا متزعلش.


كان مراد يتحدث بثقة، خاصة بعدما ترقى مؤخرًا وصار أعلى رتبة من عمر، ثم ابتعد قليلًا وقال بنبرة مبطنة تحمل دهاءً واضحًا:


-أنا شايف بقى نخرج يا شباب نحل عربية أدهم المخبوطة برة ونسيب ليان لبابا وماما عشان يحلوا معاها مشكلتها.


تفهم الإخوة الإشارة فانسحبوا واحدًا تلو الآخر، تنفس زين بعمقٍ وقال بابتسامة خفيفة:


-الوحيد اللي تمر فيه ترتبيتي وبيفهم.


شعر بحركة خفيفة في ذراعيه، فوجد ليان تتحرك مبتعدة عنه لتستقر في أحضان والدتها من جديد، اقترب منها هامسًا، متجاهلًا دموع ابنته التي بدأت تهدأ:


-ابعدها عنك دلوقتي على اللي انتي عملتيه انت وابنك عز قدامي!!


أرسلت ليليان إليه قبلة في الهواء بمرح جعل ملامحه تلين، فتغاضى عن الأمر تمامًا، ثم التفت نحو ليان وقال بنبرةٍ هادئة مفعمة بالحنان الأبوي:


-قولتيلي رحلة إيه دي بقى يا حبيبتي؟


                                          ***


في الخارج كانت الأجواء مشحونة بشرارة تنتظر لحظة الاشتعال، اقترب عز من أدهم بخطوات واثقة، وقد ارتسمت على ملامحه ابتسامة ماكرة تخفي وراءها نوايا المزاح اللاذع أكثر مما تُظهر من الود، وقال برجاء متصنع:


-خلاص بقى يا أدهوم، اوعدك هعملك عمليات انت وعيالك ببلاش...


رمقه أدهم بنظرة باردة لا تخلو من الضيق، بينما ظل يعبث بهاتفه في صمت واضح لا يحمل أي نية للمصالحة، ومع ذلك لم يفقد عز حماسته فاقترب أكثر حتى كاد يلتصق به وقال بخبث أشد:


-طيب ادخلك حماك المستشفى اسبوع عشان اريحك منه؟


عندها ارتسمت على شفتي أدهم ابتسامة جانبية غامضة، ورفع هاتفه إلى أذنه متحدثًا بنبرة تجمع بين السخرية والانتقام:


-دي الحالة الوحيدة اللي هسامحك فيها، بص هتنازلك عن ميراثي وعربياتي وكل ما أملك.


ارتفعت ضحكات مراد الجارحي عاليًا، تلك الضحكة التي تحمل في طياتها شيئًا من الغطرسة والتهكم وقال متعمدًا استفزاز أدهم الذي ظل يستمع إلى رنين الهاتف:


-احلام اليقظة.


لكن ما لبث أن دوى صوت أدهم الخشن في الأجواء، وهو يتحدث عبر الهاتف قائلًا بنفاد صبر:


-إيه يا يزن هو انت عشان عريس هتقرفنا ومتردش؟!


انعقد حاجبا آسر قليلًا وألقى نظرة نحو مراد الذي كان يجلس واضعًا ساقًا فوق الأخرى، يتأمل الموقف بتكبر أثار حفيظة عز فبادله النظرات بازدراء، عندها أجاب مراد بهدوء متعمد:


-يزن الشعراوي.


هز آسر رأسه في هدوء وسأل بنبرة ثابتة:


-اه صاحبكم؟


أومأ مراد إيجابًا بينما تابع الجميع إنصاتهم إلى حديث أدهم الغاضب الذي كان ينفث كلماته كمن يطلق رصاصًا:


-لا بقولك إيه فكك أنا بحب العربية دي، اتصرف وديها لحد من حبايبك يرجعها فبريكة.


ثم أطلق تنهيدة عميقة وهو يرمق عز بنظرة مليئة بالضيق والندم:


-غلطة عمري يا عم لو اطول وانفيه من حياتي هعمل كده!


رفع عز حاجبيه في فخر ساخر مشيرًا إلى نفسه قائلًا بنبرة عالية:


-قصده عليا...


ثم تابع بصوت مرتفع مليء بالتهكم والمرح المصطنع:


-مبروك يا عريس.


أغلق أدهم الاتصال بعصبية وأشار إلى عز بغضب مكتوم قائلاً:


-احسن مسمعكش يا بارد.


لكن عز تجاهله تمامًا ورفع صوته بقوة متعمدًا أن يسمعه الجميع:


-هتروحوا الفرح؟


هز آسر رأسه نفيًا وقال بجديته المعهودة:


-أنا لا.


أشار عز نحو مراد وأدهم معًا بنبرة ساخرة متعالية:


-طبعًا انتوا رايحين؟ 


لم يجبه أحد منهما لكنه واصل غروره قائلاً:


-ماتردوش، هو انتوا كنتوا تعرفوه إلا عن طريقي يا شوية عالم نكرة.


في لحظة خاطفة نهض مراد غاضبًا كبركان انفجر فجأة، واندفع نحو عز بسرعة خاطفة، ممسكًا إياه من عنقه وهو يصرخ بغضبٍ ظاهر:


-مين دول يا يالا  اللي نكرة، ده انت عايش بحسنا.


صرخت ليليان بهلع وهي تندفع ناحيتهما محاولة التفريق بينهما:


-يا خبر ابني...في إيه يا مراد انت اتجننت؟؟


أما أدهم فقد نهض من مكانه بامتعاض واضح، وقال من بين أسنانه بصوت مكتوم يغلي بالحنق:


-أنا هقوم أمشي عشان معاملة الكفار اللي أمك بتعاملها لينا والحيوان ده موجود بتأثر في نفسيتي!


ضحك آسر ضحكة قصيرة وهو يهز رأسه بيأس كمن اعتاد هذه الفوضى، بينما كان أدهم يقترب من أخته ليان، فطبع قبلة حانية على وجنتها وقال بصوت خافت يحمل وعيدًا خفيًا:


-جوزك لو معتذرش النهاردة قوليلي وأنا هرميه من الدور العاشر ولا يهمك.


رفع زين بصره نحو ابنه الذي باتت ملامحه تشبه مراد الألفي إلى حد مدهش فقال بسخرية خفيفة وهو يحيط كتفي ليان بذراعه:


-ماتقعدش كتير مع مراد، انت وصلت لمرحلة خطر!


ابتسم أدهم بسخرية مريرة وهو يجيبه بنبرة تحمل كبتًا داخليًا شديدًا:


-هو اللي فارض نفسه على حياتي، ف لو تكرمت واتدخلت ومنعته عني اكون شاكر لافضالك.


ثم التفت نحو والدته التي كانت تفحص عنق عز بقلق أمومي مبالغ فيه، بينما هو يتمادى في التدلل والتمثيل ليستفز مراد الذي أشار إليه بعلامة التهديد بالقتل، عندها قال أدهم بصوت حاد قاطع:


-يا ريت يا بابا لو تخفي الواد ده من حياتنا، حياتي هتبقى أجمل بكتير.


اكتفى زين من هذا الهراء وقول بنبرة هادئة وهو يتوجه نحو الدرج:


-أنا طالع أنام يا ليليان.


لم ترد ليليان في بادئ الأمر، فقد كانت منشغلة بمحاولة تهدئة مراد الذي ما زال واقفًا مكانه، تنعكس في عينيه شرارة استهجان حاول السيطرة عليها، فارتفعت نبرته قليلًا حادّة هذه المرة وقد نفد صبره:


-ليليان....بقولك أنا طالع أنام!!


انتبهت إليه أخيرًا فنهضت برقيها المعهود، وانسابت خصلات شعرها الكثيفة إلى الخلف وهي تبتسم لأولادها جميعًا قائلة بنعومة دافئة:


-تصبحوا على خير يا ولاد، امشي انت بقى يا عز عشان متتأخرش على كارما.


انتفض عز واقفًا على الفور هاربًا من تحت أنظار مراد الغاضبة، بينما راحت ليليان تتهادى في خطواتها نحو زين، مد الأخير كفه إليها فشبك أصابعها برفق، وصعدا معًا درجات السُلم البسيطة نحو غرفتهما والسكينة تظلل مشيتهما.


ابتسمت ليان لهما بحبّ صادق، وما إن استدارت حتى التقت عيناها بعيني أخيها الأكبر مراد، تقدمت نحوه في هدوء وجلست إلى جواره، ففتح ذراعيه وضمها إليه يسألها بحنو أخوي دافئ:


-بقيتي أحسن؟


رفعت بصرها إليه وابتسمت ابتسامة خجولة، وقالت برقة مفعمة بالامتنان:


-انت مرضتش تنزل شقتك الا لما تطمن عليا؟


قبل مراد جبينها بحب صادق وقال وهو يداعب شعرها بخفة:


-طبعًا هو أنا عندي كام ليان في حياتي!


ضحكت ليان بخفة وربتت على صدره وهي تسند رأسها عليه، تهمس بمزاح.رقيق:


-عمر اللي انت كنت بتدافع عنه جوه، لو شافني قاعدة في حضنك بيلوي بوزه يومين عليا.


ابتسم مراد باستهزاء هادئ وقال بثقة لا تخلو من التحدي:


-يتفلق ميمهنيش.


ثم شد ذراعيه حولها أكثر وكأنه يحميها من العالم بأسره، وسألها بصوت أكثر جدية:


-بابا فهمك إنه مكنش ينفع تكلميه كده؟


أومأت برأسها إيجابًا في صمت، فاكتفى بأن يتنهد قليلًا قبل أن يضيف بنبرة هادئة:


-خلاص أنا هحاسبه على إنه يقفل السكة في وشك.


رفعت ليان بصرها نحوه بسرعة وقالت بهدوء خجل امتزج بالخوف من رد فعله تجاه زوجها:


-لا ما هو باين الخط قطع أو أنا مخدتش بالي، خلاص مش مشكلة.


ربت على ظهرها بحنو ثم ضحك بخفة محببة وهو يمازحها:


-لما انتي خايفة عليه، جاية تشتكيلنا ليه وانتي عارفة احنا مش هنستحمل عليكي الهوا، واحد زي أدهم ده مبيتفاهمش كان ممكن يديله رصاصتين عادي، ولا الحيوان اللي اسمه عز ده جزار ممكن يعمل فيه حاجة في عملية من العمليات اللي بيهددنا بيها ليل ونهار، وميغركيش آسر بهدوءه ده اكتر واحد متهور فينا!


ضحكت ليان بصوت خافت وسألته بمكر رقيق:


-مجبتش سيرتك يعني؟


رفع حاجبيه بثقة مصطنعة وقال متصنعًا الجد:


-لا أنا اعقل واحد فيهم، انتي هتقارنيني بدول؟!


تضاعفت ضحكتها وهي تتشبث بذراعيه أكثر، تستشعر دفئه واطمئنانه الذي اعتادت عليه منذ طفولتها، طالما كان مراد دائمًا الأقرب إلى قلبها والأكثر حنانًا واحتواءً، وإن لم تنكر أن إخوتها جميعًا كانوا يتحولون إلى وحوش إن فكر عمر يومًا في إغضابها، فتمتمت بهدوء وهي تغمض عينيها مطمئنة:


-صح عندك حق.

                                        ****


كانت سيرا تجلس إلى جوار يزن، والعبوس مرسوم على ملامحها كطفلة غاضبة، لم تكف عن التحدث إليه للمرة الألف وقالت برجاء يفيض بالاستعطاف:


-يعني مش هتغير رأيك يا يزون، الفستان هيبقى وحش باللوك ده؟!


رفع يزن عينيه عن هاتفه الذي كان منشغلًا به، يتبادل رسائل غاضبة مع عز الذي لم يتوقف عن توبيخه بعد أن أفشى أمر سرقته لسيارة أدهم، أطلق يزن زفرة قصيرة وقال بلا تردد:


-اه مش هغير رأيي، واللوك ده لو اتعمل مش هطلعك من اوضتك وعادي نلغي الفرح!


رمقته سيرا بغل طفولي ظاهر وقالت متذمرة:


-انت طلعت مستبد اوي يا يزن!! 


مال نحوها مبتسمًا واقترب حتى لامس بأنامله وجنتيها برقةٍ محبة، وقال بنبرة دافئة:


-في أي حاجة تخصك يا سرسورة.


تنهدت سيرا بحزن صادق، وعادت تنظر أمامها بعينين يملؤهما الغيظ والخذلان، فكانت منذ الصغر تحلم بذلك المظهر تحديدًا...شعرها منسدل بانسيابية كأميرات القصص القديمة، تتوجه تاج بسيط من اللؤلؤ، وفستان دانتيل أبيض بأكمام طويلة، كانت ترى في ذلك حلمها الأبيض الكامل، ولكن يزن لم يرَ سوى ما يراه صوابًا.


اقترب منها أكثر وضمها إلى صدره بحنان هادئ، فقد كانا يجلسان وحدهما في معرضه الفخم الذي غمره صمت المساء، قال وهو يمسح على شعرها المغطى بحجاب وردي:


-متجادلنيش في حاجة زي دي، انتي محجبة ينفع تشيلي طرحتك في يوم مهم زي ده؟ المفروض ماتغضبيش ربنا عشان ربنا يباركلنا.


خفضت رأسها وقالت بنبرة حزينة تحمل صدق:


-مقصدش طبعًا، بس أنا كنت عايزة اكون جميلة بالشكل اللي في دماغي.


ابتسم يزن بحنان واضح ثم انحنى وقبل جبينها قبلة طويلة رقيقة، وقال بنغمة مازحة استطاعت أن تنتزع منها ابتسامة رغمًا عنها:


-وانتي كده مش جميلة يعني؟ امال مين وقعني على بوزي وخلاني اتجوز وأنا كنت استحالة اعمل كده.


أشارت إلى نفسها بفخر بريء وقالت بثقة صغيرة:


-أنا.


ضحك يزن بخفة صادقة وربت على رأسها بلطف كما يفعل مع طفلة عنيدة، ثم قال بتنهيدة مزجت بين الجد والمزاح:


ـربنا يستر بس على الفرح... ويعدي اليوم على خير، من غير أي مصايب.


                                            *****


وها هو اليوم المنتظر...ليلة زفاف يزن وسيرا،

امتلأت القاعة على آخرها بالمدعوين من مختلف فئات المجتمع، ووقف سليم يستقبل الحضور بوجه بشوش وبسمة واسعة، وكأنه يزف ولده لا أخاه، كانت سعادته كبيرة إلى حد جعلته حين رأى يزن ببذلته السوداء الرسمية اندفع نحوه ليحتضنه ويقبله على غير عادته.


حتى زيدان دعا جميع زملائه في العمل، ووقف إلى جوار أخيه كظله، ذاك الذي ولحسن الحظ تركته سيرا قليلًا ليتنفس بعيدًا عن صخب الرقص، فهي لم تترك أغنية إلا وشاركته الرقص عليها، بينما هو كالأبله يوافق على كل ما تطلبه فقط من أجل إسعادها.


همس يزن لنفسه في ذهولٍ وهو يضع يده على جبينه:


-أنا بتجوز! أنا اتضحك عليا!!


ظل يرددها بصوت خافت كأنها نبوءة مرعبة، حتى ابتلع كلماته حين لمح زيدان يقترب منه ويسأله بعدم فهم:


-بتقول حاجة يا عريس؟


رد يزن في استسلامٍ ساخر:


-أنا اتخدعت يا زيدان، سليم اخوك سحبني من غير ما احس للي هو عايزه.


ربت زيدان على ظهر أخيه المستاء بنبرة هادئة لم تخلُ من سخرية حاول كتمانها لكنه فشل:


-معلش هي الضربة بتبقى في أولها صعبة، وبعدين انت اللي اتسحلت مع اخت ام اربعة واربعين.


رمقه يزن بنظرة نافذة وقال ساخرًا:


-إيه رأيك لو هربت؟!


اتسعت عينا زيدان في ذهولٍ تام:


-أنت بتقول أيه؟! أنا طول عمري أسمع عن العروسة اللي بتهرب ليلة فرحها بس أول مرة أشوف عريس أهبل عايز يهرب.


تدخل سليم في حديثهما وهو يربت على كتف يزن بفخر ودفء أخوي:


-مبسوط يا يزن؟


ابتسم يزن بمزاح متعب وقال:


-طبعًا مفيش حد مبسوط قدي!


رد سليم بحماس غير متوقع:


-طيب يلا تعالى نرقص مع بعض.


تبادل زيدان ويزن النظرات بدهشة غير مصدقة، فما هذا العرض الغريب؟!

لكن سليم لم يمنحهما فرصة للرفض، إذ أمسك بيد يزن وسحبه نحو ساحة الرقص وسط دهشة الجميع، فقال يزن بعدم استيعاب وهو يتبعه بتردد:


-دي أكيد أحلام العصر!


ثم أضاف وهو يراقب أخاه يرقص بكل خفة:


-لا دي أضغاث شياطين! سليم أخويا يرقص!


وفي زاوية أخرى من القاعة، كانت شمس ترفع هاتفها لتسجل مقطع فيديو خبيث لزوجها، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة شقية، لكن صوت مليكة قاطعها لتسألها باستنكار ودهشة:


-معقولة يا شمس بتصوريهم روحي مع سليم وارقصي معاه.


ردت شمس بسرعة وهي تواصل التصوير بعينين تلمعان مكرًا:


-لا طبعًا، أنا لا يمكن أفوت فرصة عظيمة زي دي.


انعقد حاجبا مليكة متسائلة بفضول حذر:


-أنهي فرصة عظيمة؟!


أجابت شمس بنبرة مفعمة بالدهاء الأنثوي:


-سليم جوزي هيبته ورزانته أهم حاجة عنده مابيسمحش لحد أنه يهزهم ودايمًا بيحافظ على صورته ومكانته، أنا بقى بحب أدمرها.


بدت علامات عدم الفهم على وجه مليكة التي كانت في شهرها الثالث من الحمل، فأردفت شمس بهدوء ونعومة، تزامنًا مع غمزة صغيرة من عينيها:


-بحب أدمرها بيني وبينه، فيديو زي ده هيجننه.


وانطلقت ضحكاتها السعيدة حين وصلت إلى مبتغاها، مشاكسته بطريقة جديدة، فقد كانت تعلم أن سليم سيفقد صوابه حين يرى المقطع، لكن أي جنون ذلك؟! إنه الجنون اللذيذ، المفعم بالحب الناري الذي لا يخلو من الشغف!


تابعت شمس تسجيلها وهي تراقب سيرا تندفع نحو الساحة، ترقص بلا هوادة، بينما يزن يحاول عبثًا تحجيمها، لكنها كانت كالمجنونة تضحك وتتمايل لا تعرف حدودًا للفرح، فاقترب منها ليحيط خصرها من الخلف محاولًا السيطرة على حركتها التي لم تتوقف.


وفي تلك اللحظة، كان زيدان يقهقه ضاحكًا من المشهد، قبل أن تتسع عيناه حين رأى حكمت تدخل ساحة الرقص بثقة مدهشة، مرتدية فستانها الأصفر اللامع، لتجذب سيرا من يد يزن عنوة، وتبدأ بالرقص معها وسط تصفيق صاخبٍ وضحكات متعالية.


أما في الجهة الأخرى من القاعة، فكان نوح يحاول عبثًا إقناع يُسر بأن تأخذ آدم منه ليذهب إلى صديقه يزن، لكن الأخرى كانت متشبثة برأيها كعادتها:


-وسيرا بردو عايزاني، ومش هعرف ارقص....آآ...اقصد اقف بآدم.


زفر نوح بغيظ واضح وقال برجاء مبطن بالنفاد:


-يا يسر كفاية بقى، أنا من وقت ما وصلت وأنا يا شايل آدم يا بدور على لينا، اقعدي بعيالك عايز اقف مع يزن عشان ميزعلش.


نظرت يسر نحو يزن الذي وجد نفسه محاصرًا داخل دائرة من عائلة سيرا، فقد أجبروه على الرقص مجددًا رغم محاولاته الفاشلة للهرب، فهزت كتفيها بلا مبالاة ثم قالت وهي تستعد للانضمام إلى حكمت التي كانت تصفق بحماس:


-هو أصلاً فاضيلك.


ثم تابعت سيرها بخفة نحو ساحة الرقص، بينما بقي نوح واقفًا في مكانه مذهولًا، يحدق في ابنه الذي كان نائمًا بسلام عجيب وسط كل تلك الضوضاء، فاقترب منه بخفة وهمس بدهشة وهو ينحني فوق الطفل:


-انت يا بني نايم كده ازاي؟ طيب قوم عيط؟ مش عايز ترضع؟


لكن الصغير ابتسم في نومه بهدوء، وعاد ليستغرق فيه من جديد، فتنهد نوح مستسلمًا وجلس ينتظر أن تأتي عائلة

يسر ليأخذوا منه آدم قبل أن يفقد صبره تمامًا.


وفي ناحية أخرى كانت نهى تجلس بجانب منال التي كانت تحمل سليم الصغير وتدلله بحب واضح، ثم قالت وهي تضحك بمرح عفوي:


-والله تحسيه لما سمتيه سليم بقى شبهه.


مالت نهى قليلًا مبتعدة عن خالد الذي كان يجلس بجوارها، وقالت بصوت خافت تؤكد حديث زوجة خالها:


-اه أنا حاسة كده بردو!


-يا رب يا نهى تشوفيه زي سليم ويعوض صبرك فيه خير، زي ما ربنا عوضني بسليم واخواته.


وفي المقابل كان سيف يقف إلى جوار سليم يمازحه ويغمز له بخبث واضح قائلًا:


-شاهد سليم الشعراوي بيرقص!


امتقع وجه سليم فورًا وقال بنبرة حادة متحفزة:


-ومين اللي هيشاهد أساسًا، أنا قفلت كاميرا الفيديو بنفسي قبل ما اعمل كده.


رفع سيف حاجبيه معًا وضحك ضحكة عالية، وقال مازحًا قبل أن يهم بالابتعاد:


-لا ما في حد تاني صور، يلا عن إذنك اروح اشوف ليال بتعمل إيه هي والولاد.


تجمد سليم في مكانه وهو يصيح من خلفه بحدة يملؤها الغيظ:


-خد هنا، قولي مين صور، سيف...سيف يا بارد. 


لكن سيف كان قد اختفى وسط الزحام، بينما بقي سليم واقفًا في منتصف القاعة، تتراقص حوله الأضواء وتعلو الموسيقى وهو يهمس بغضبٍ لا يخلو من الندم:


-أنا كنت ليه رقصت أصلاً؟!


                                          *****


بعد مرور ما يقرب ساعة...جلست حكمت إلى جوار والديها وقد أنهكها التعب قليلًا، وهي تُعدل من فستانها الأصفر المزين بفصوص لامعة براقة تخطف الأنظار، أما أدوات التجميل فقد احتلت كل موضع من وجهها، حتى بدا وكأنها لوحة متقنة الصنع.


كانت تراقب المدعوين باهتمام بالغ وابتسامة متملقة لا تفارق شفتيها، ثم مالت نحو والدها تقول بحماس طفولي:


-الفرح حلو اوي يا بابا، ربنا يسعد سيرا يا رب ويهدي سرها.


ابتسم والدها بسعادة وهو يتأمل سيرا التي كانت ترقص مع فاطمة في وسط القاعة بينما كان يزن لا يزال يحاول عبثًا إقناعها بالتوقف لكنها رفضت بعناد واضح.


ولكن انتباهه انصرف فجأة إلى يد حكمت التي شدت على كفه، وهي تشير برأسها نحو الباب بعينين يملؤهما الفضول:


-بابا، هو مين الراجل الواصل ده اللي داخل الفرح هو والناس اللي معاه؟!


حول الأب نظره إلى حيث تشير فإذا بالحفل ينقلب رأسًا على عقب مع دخول الضيوف الجدد،  لاحظ تقدم سليم نحو الرجل يصافحه بحرارة وترحابٍ شديدين، كان رجلًا ذا هيبة ووقار، يختلط الشيب بخصلات شعره الأسود، وعلى وجهه ملامح جاذبية خطيرة تُجبر الأنظار على التوقف عنده، ترافقه سيدة أنيقة في منتصف العمر، تبدو من سيدات المجتمع الوقورات، ينبع منها لطف وابتسامة حانية، وخلفهما يقف شابان قويان عريضا المنكبين، توحي ملامحهما بالصرامة والاعتداد بالنفس والغرور.


قال حسني  وهو يتأملهم بصوت خافت:


-والله يا حكمت ما اعرف، شكله وزير؟!


تألق الحماس في عينيها فورًا، وما إن رأت زيدان يمر بجوارها حتى جذبت ذراعه بعجلة تحت أنظاره المستنكرة وسألته بنبرة يملؤها الفضول:


-مين ده؟ ده وزير إيه الري ولا الصحة ولا شكله الداخلية؟


رمقها زيدان بغيظ وهو يتمتم من بين أسنانه:


-لا ده مش وزير، ده رجل اعمال اسمه زين الجارحي سمعتي عنه؟!


هزت رأسها بلا مبالاة وملامحها تتدلى من فرط البرود بعدما كانت مشتعلة بالفضول:


-لا ولا عمري سمعت عنه في طبق اليوم.


حدجها زيدان باستنكار حاد ثم قال بنبرة متهكمة:


-طبق اليوم إيه؟! ده أهم رجل اعمال واللي معاه دول تبقى مراته و...


فقد الشغف فجأة في حديثه واعتدل بوقفته حين أشار إليه سليم للحضور ومصافحة زين الجارحي وأولاده، لكنه مال بعدها نحو حكمت وهمس لها بصوت خافت يحمل مزيجًا من التحذير والسخرية:


-اللي جنبه دول يبقوا مراد الجارحي بيشتغل في مكان حساس في الدولة، واللي جنبه الناحية تانية أدهم الجارحي ظابط قوات خاصة، لو عايزة أي مصلحة روحي وقوليلهم وهما هيخدموكي على طول.


حدقت حكمت بالرجلين تفكر ثم قالت بتردد تغلبه الحيرة وهي تشير نحو مراد الذي كان يعانق يزن بحرارة:


-يا شيخ يعني لو قولتله على ظابط بيرخم عليا في المرور هيخدمني، ده أنا كنت بفكر اقولك انت.


هز رأسه سريعًا وهو يقول بنبرة مزيفة بالبراءة:


-أنا إيه؟ أنا ظابط غلبان على قدي، بقولك دول اعلى ومناصبهم كبيرة، دول لو عايزين يخفوا حد من الدنيا هيخفوه عادي. 


اتسعت ابتسامتها بحماس وهي تبحث عن صافي زوجها:


-يا سلام ده أنا اروح واضرب معاهم صحوبية ومعرفة واحطهم في جيبي كمان.


ضحك زيدان بخفوت وهو يبتعد عنها قائلاً:


-يا سلام روحي انتي بس ومالكيش دعوة.


ثم تمتم بصوت بالكاد يُسمع وقد رفع عينيه إلى السماء:


-يا رب ياخدوها دي خطر على الامن القومي.


أشار سليم نحو طاولة فاخرة تتوسط القاعة، ودعا الجميع للجلوس، تقدم مراد بخطوات ثابتة، وأزاح المقعد برفق لوالدته ليليان، بينما فعل أدهم الشيء ذاته لوالده زين،

وما إن جلسوا جميعًا حتى رحب بهم سليم بابتسامة واسعة وهو يقول بنبرة ودودة:


-نورت يا زين باشا، الفرح كله نور يا هانم.


ابتسمت له ليليان بهدوء راق، وهزت رأسها بخفة وهي تتأمل العروسين بإعجاب صادق:


-ما شاء الله ربنا يباركلهم، لايقين على بعض.


خصها سليم بابتسامة لطيفة ثم أشار إلى شمس لتتعرف على ليليان، فتبادلا التحية وتبادلت السيدتان كلمات رقيقة، تبعهما زيدان ومليكة في الترحيب، حتى أقبل يزن أخيرًا بعد أن ترك سيرا في ساحة الرقص وقد بدا عليه الإرهاق من محاولاته تهدئتها، فقام باحتضان مراد وأدهم، واللذان لم يفوتا الفرصة لممازحته بكلمات خافتة أثارت حنقه، فرمقهما يزن بخبث ساخر وهمس مازحًا:


-يا عم أنا غلبان، سيبني في حالي، ابعد اخوك عني يا أدهم.


جاءه صوت مألوف من خلفه، نبرته تمزج بين المزاح والإرهاق:


-مين مزعلك يا حبيبي؟


التفت يزن بسرعة ليجد عز قد وصل أخيرًا بعد أن أنهى عملياته في المستشفى، فنهض يعانقه بحماس صادق:


-اتأخرت ليه يا عز؟


-العمليات والله، حياة المرضى يا ابني في ايدي امينة يا بني 


نظرت ليليان إلى عز بفخر ظاهر في عينيها وهي تراه واقفًا ببذلته الرسمية، فلاحظ مراد نظرتها تلك، مال نحوها هامسًا بغيرة مشوبة بالتهديد:


-لو مابطلتيش تدلعي الواد ده ومتدلعنيش زيه هسجنهولك.


رمقته ليليان بنظرة متعالية فيها من العتاب بقدر ما فيها من الأناقة، وقالت بهدوء ثابت:


-ماتقدرش تعملها، مش صح يا زين؟


انتبه زين لذكر اسمه، فكان في تلك اللحظة منشغلًا بسيدة غريبة تدور حول طاولتهم بنظرات بلهاء وحركات غريبة، فالتفت إليها قائلًا بارتباك خفيف:


-نعم يا حبيبتي؟


اقتربت منه ليليان أكثر، وتعلقت بذراعه وهي تهمس له بمرح دافئ:


-مش احنا اتفقنا متخطفش قلبي قدام حد، عشان منتفضحش.


ضحك زين عاليًا وقد غلبه الانسجام معها، بينما كان أدهم في تلك الأثناء يتجادل مع مراد وعز حول أمر ما، فاندفع عز يسأل بدهشة صريحة:


-ليه زين باشا اتنازل وجاب ماما معاه؟


مط أدهم شفتيه ورد ببرود مصطنع:


-تقريبًا عشان خاطر هو بيحب سليم الشعراوي وبيعزه.


لكن سرعان ما تلاشت نبرته الساخرة، واعتلت ملامحه علامات الضيق فزفر قائلًا بنفاد صبر:


-استغفر الله العظيم، يا رب مش عارف اتنفس شوية؟


حول مراد بصره سريعًا نحو الباب، ليجد مراد الألفي يدخل متهاديًا برفقة سارة في فستان أسود أنيق، بعد أن دعاه سليم شخصيًا لسابقة تعارف بينهما بسبب محلات الشعراوي، نهض مراد الجارحي لاستقباله بحرارة حقيقية، واحتضنه قائلًا باهتمام واضح:


-نورت يا حبيبي، تعال اقعد.


بينما أزاح أدهم مقعدًا لسارة لتجلس بجانب ليليان، وسرعان ما انغمستا الاثنتان في حديث لطيف جانبي.


فقال زين لمراد الألفي بنبرة عتاب خفيفة:


-غريبة يعني مقولتليش إنك جاي؟


ابتسم مراد الألفي بوسامته المعتادة وهو يوزع نظره على الحاضرين بعينيه الرماديتين المتوهجتين وقال مازحًا:


-أنا قولت للحيوان ابنك يقولك بس كالعادة مقالش.


نظر نحو أدهم وسأله بسخرية ناعمة:


-امال يا حبيب ابوك مجبتش بنتي معاك ليه؟


تعالت ضحكات عز الساخرة، وهو ينظر باستفزاز إلى أدهم الذي عاد يستغفر في صمت وهو يهز ساقيه بعنف واضح،

ثم التفت إلى زين قائلًا بجدية متوترة:


-والله أنا عامل حساب ليك.


 تدخل مراد بحدة مفاجئة، ورفع إصبعه مهددًا بصوت غليظ يتنافى مع وسامته الهادئة:


-قول لابنك يحترم نفسه عشان مخلهوش يطلق بنتي وأنا أساسًا على تكة.


نهضت ليليان في هدوء متعمد، وجذبت سارة من يدها وهي تقول برقي:


-هنروح التواليت ثواني عن إذنكم.


غادرتا تحت أنظار زين القلقة فما كان من مراد الألفي إلا أن مال نحوه مازحًا بنبرة خفيفة يقلد فيها صوت ليليان الناعم:


-دي رايحة التواليت ثواني وجاية متقلقش كده، تحب تروح معاها؟


ابتسم زين ابتسامة ضيقة ثم تمتم بحدة منخفضة وهو ينظر أمامه:


-بتضايقني في أدهم عادي بعديها، لو في عيالي كلهم عادي، بس ليليان خط أحمر.


أمال مراد رأسه نحوه بمشاكسة شبابية لا تليق بعمره، وسأله ضاحكًا:


-طيب وأنا خط إيه؟


أجابه زين بجفاف ظريف دون أن يحول نظره عن القاعة:


-بنفسجي.


ضحك مراد الألفي بخفة بينما كان زين يعيد ترتيب ملامحه ويتابع أجواء الفرح من حوله في هدوء مراقب، حتى انضم إليهم سليم بعد لحظات فاستأنفوا جميعًا حديثهم الذي امتلأ بمزيج من الدعابة والهيبة العائلية.


                                           *****


خطت ليليان بخطوات ثابتة إلى جانب سارة التي كانت تسير بمحاذاتها مبتسمة في هدوء، بينما كان دوار طفيف يهاجمها على فترات متقطعة، لكنها تجاهلته متصنعة الثبات، وسألت سارة بصوت خافت لا يخلو من التعب:


-يحيى لسه مسافر؟


أومأت سارة برأسها وهي تجيب بنبرة مرهقة يغلبها الضجر:


-اه بيقول اخر رحلة له وهيجي، خليه يجي يلم مراته اللي نايمة ليل ونهار في المستشفى دي وكأن مفيش دكتور غيرها.


*ملحوظة*

(يحيى يبقى ابن مراد الألفي فعلاً في الاجزاء المتعدلة في الرواية الورقي مش ابنه بالتبني، وبيشتغل طيار، عشان سارة مبعدتش عن مراد إلا سنتين)


توقفت سارة للحظة ثم التفتت إلى ليليان بابتسامة ماكرة، وقالت بحماس طفولي لا يناسب عمرها:


-عارفة لقيت إيه برة وانا داخلة؟!


رفعت ليليان حاجبيها بسؤال صامت فتابعت سارة بحماس أكبر:


-درة مشوي، هروح اجيب واحد لغاية ما تخرجي من الحمام ونقعد برة في ناكله.


هزت ليليان رأسها بإعجابٍ وحنين، وقد غمرها طيف الذكريات؛ تذكرت أيام الجامعة وكيف كانتا تتشاركان عشق الذرة المشوية على رصيف الكلية دون أن يعلم زين.

ابتسمت وهي تراها تنطلق بخفة عبر البوابات الأولى للقاعة الكبرى، بينما اتجهت هي نحو دورة المياه بخطوات متثاقلة، والدوار يعود يهاجمها من جديد.


دخلت إلى الداخل فتقدمت نحو المغسلة وفتحت صنبور الماء، تغسل وجهها ببطء محاولة استعادة توازنها، لم تنتبه في البداية إلى نظرات متفحصة تتابعها من بعيد، فقد كانت حكمت تقف على مقربة منها، تراقب ملامحها بإعجاب خفي ممزوج بشيء غريب لا يقرأ بسهولة.


التفتت ليليان أخيرًا حين شعرت بثقل النظرات، لكن الدوار اشتد فجأة، فاختل توازنها وسقطت أرضًا بقوة خافتة، اصطدم جسدها بالرخام البارد فتعالت صرخة حكمت المذعورة وهي تضع كفها على رأسها:


-الحقيني يا ام فهمي، يالهوي يا ولية الحقي.


خرجت أم فهمي من إحدى الكبائن وهي تحاول إنزال فستانها الأسود، وقد ارتسمت على وجهها ملامح فزع واستغراب، وما إن رأت المشهد حتى اندفعت نحو الجسد الممدد على الأرض بينما كانت حكمت ترفع رأس ليليان برعشة وقلق شديدين.


-مين دي يا حكمت؟


سألتها أم فهمي بصوت متوتر، لكن حكمت ردت بشراسة وهي تشير نحو حقيبتها المفتوحة على الأرض:


-هاتي البرفان بتاع يا ولية اخلصي، دول عيلتها ياكلونا لو حصلها حاجة.


ارتبكت أم فهمي وهي ترد بخوف واضح:


-طيب ما نسيبها ونخلع!!


رمقتها حكمت بنظرة نارية وقالت من بين أسنانها بحدة مخيفة:


-يا ولية اخلصي.


مدت أم فهمي يدها المرتعشة وأعطتها زجاجة العطر، فما إن نثرت حكمت رائحته النفاذة قرب أنف ليليان حتى ارتجف جسدها قليلًا، ثم بدأت تفتح عينيها ببطء شديد، تنفست حكمت الصعداء وقالت وهي تمسك بها لتساعدها على الجلوس:


-حمد لله على سلامتك، خلعتينا بوقعتك دي!


أجابت ليليان بصوت ضعيف متقطع.تحاول التقاط أنفاسها:


-أنا أسفة دوخت فجأة ومحستش بنفسي.


حاولت النهوض مجددًا لكن قدميها خانتاها وسرعان ما مالت بجسدها فاقدة التوازن، فسارعت حكمت بإمساكها من جهة، وأم فهمي من الجهة الأخرى، فقالت حكمت بحزم لا يخلو من الذعر:


-لا انتي كده لازم تاكلي حاجة مسكرة عشان تفوقك.


همت ليليان التحدث مجددًا بنبرتها المتثاقلة:


-لا وصلوني لجوزي بس...


قاطعتها حكمت بسرعة وهي تجرها للخارج قسرًا:


-لا جوزك إيه بس، هو احنا مبنفهمش في الأصول ولا أيه؟ 


حاولت ليليان الاعتراض ولكنها كانت ضعيفة للغاية، فاستسلمت لحركتهما وخلال دقائق قليلة كانت السيدتان تخرجان بها من القاعة تمامًا، تتجهان بها إلى مقهى صغير على ناصية الشارع المقابل لمبنى القاعة.

جلستا بها على أحد المقاعد وطلبت حكمت كوبًا من العصير قائلة بنبرةٍ عملية قاسية:


-أنا قولت لازم تاكلي حاجة مسكرة يعني لازم، أصلاً اللي فيكي ده ضعف، هو انتي جوزك مش بيأكلك ولا إيه!!


بينما كانت ليليان تحاول تمالك نفسها، تتشبث بطرف الطاولة وتتمتم بتعب غير مفهوم...


*بعد مرور وقت بسيط*


 كانت سارة قد عادت تحمل في يد ذرة مشوية وفي الأخرى غزل بنات ورديا، تبحث بعينيها المتوترة عن صديقتها التفتت حولها في ردهة القاعة ولم تجدها، فاتجهت إلى دورة المياه لكنها وجدتها خالية.

تجمدت ملامحها للحظة ثم هرعت نحو القاعة مجددًا، عيناها تمسحان المكان بلهفة وذعر، فاقتربت من بعض السيدات تسألهن بارتباك:


-اه شوفت واحدة زي اللي في الصورة دي كانت تعبانة واتنين ستات اخدوها ومشيوا برة القاعة.


تسعت عينا سارة في رعبٍ حقيقي، وسقط من يديها الذرة وغزل البنات، فتبعثر كل شيء على الأرض وهي تندفع راكضة نحو القاعة، تتخبط في الحاضرين بخطوات متسارعة ووجه شاحبٍ، وفي اللحظة نفسها سكنت الأغاني فجأة، وأعلن منسق الحفل عن دخول العروسين للرقص على أنغام رومانسية حالمة...لكن صوت سارة المذعور مزق سكون القاعة وهي تقتحم المكان بعينين دامعتين وصوت مرتجف:


-زيــــن! الحـــق...ليليــــان اتخــــطفت!


نهض زين بفزع شديد وقد شحب وجهه وهو يحدق في سارة التي كانت تبكي بتوتر خانق، تشير بيديها المرتجفتين نحو الخارج تحاول إخراج الكلمات من فمها، لكن صوتها خذلها من شدة الارتباك، جاء صوت مراد الجارحي جهوريا وقاسيًا كالسيف، أفزعها أكثر حين قال بحدة نافذة:


-يعني إيه؟ في إيه؟


اندفع مراد الألفي نحوها بسرعة وأمسك بكتفيها ليُهدئ من روعها، ثم جذبها إليه لتستند إلى صدره وهي تختنق بعبراتها، لكن جسدها تراخى فجأة، وسقطت فوق المقعد تفقد وعيها تمامًا وسط نظرات مذهولة من الجميع.


في لحظة واحدة انقلب الزفاف رأسًا على عقب، ساد الهرج والهمس والركض، وتعالت الأصوات بين من يسأل ومن يتكهن، حتى عم القاعة اضطراب غريب لا يُفسر.


وقفت سيرا إلى جوار يزن تنظر حولها بعدم فهم، ترتسم على ملامحها علامات القلق الممزوج بالدهشة، وسألت بنبرة خافتة لا تخلو من الذهول:


-هو في إيه يا يزن؟


رفع يزن كتفيه بلا مبالاة وهو يتابع المشهد بعينين حائرتين، ثم التفت إلى شمس التي كانت تحمل بين ذراعيها ابنتها قمر الصغيرة وسألها:


-في إيه يا شمس؟


نظرت شمس نحوه بوجه مضطرب وهمست في انفعال مكتوم:


-مرات زين الجارحي بيقولوا اتخطفت.


تجمدت سيرا في مكانها، فتحت فمها بدهشة بالغة، ثم التفتت إلى يزن وهمست بذهول طفولي:


-مين زين الجارحي ده يا يزن؟


نظر إليها يزن للحظة صامتًا، ثم تنفس بعمق وألقى بجملته الساخرة التي كانت كطلقة باردة وسط التوتر المحيط:


-مبروك الفرح باظ يا نحس.


راقب اندفاع زين بالفعل لخارج القاعة يتبعه مرادان الجارحي والألفي وأدهم وعز  في حين بدأ الأمن يُغلق الأبواب ويُراجع الكاميرات وسط فوضى لا توصف...


بعد مرور دقائق..... بدت كأنها دهور كان مراد يحاول جاهدًا إفاقة سارة التي شحب وجهها حتى غدت كأنها بين الحياة والموت، فيما التف حوله أفراد عائلة سيرا متدخلين بآرائهم واقتراحاتهم المزعجة حول الطريقة المثلى لإفاقتها، فازدادت عصبيته كلما حاول أحدهم لمسها أو الاقتراب منا، فكان يدفعهم بنظراتٍ حادة محاولًا السيطرة على الموقف قدر استطاعته.


على مقعد قريب جلس زين منهارًا، ملامحه تفضح ما يعيشه من ضغط نفسيٍ خانق، وقف إلى جواره عز وسليم، وما إن تذكر عز حالة سارة هرع أولًا نحوها يحاول إفاقتها، قبل أن يتوجه بخطوات متوترة إلى غرفة المراقبة حيث كان مراد يجلس أمام الشاشات وبجانبه أدهم، عاقدًا حاجبيه في توتر شديد، دخل عز الغرفة وهو يقول بصوت متقطع من فرط التوتر:


-لسه؟ أبوكوا هيجرالوا حاجة.


رفع مراد وجهه نحو أدهم وعيناه تقدحان شررًا من الغضب، وقال من بين أسنانه وهو يكبح جمرة انفعاله:


-البهايم اللي واقفين برة بيحرسوا عربية ابوك دول، أنا هطلع ***** عشان مياخدوش بالهم.


وفي تلك اللحظة دخل زين يتبعه مراد الألفي ثم لحق بهما سليم ومعه أخواه زيدان ويزن، قال مراد الألفي بوجه متجهم وصوت مشوب بالقلق:


-سارة بتقول إن في واحدة قالتلها إن اتنين ستات هما اللي كانوا بيشدوها برة...


ارتفع صوت العامل المسؤول عن غرفة المراقبة وهو يحاول في تجهيز  فيديو لخروج ليليان مع السيدتين، ثم قال برسمية:


-اهو يا باشا...فعلاً هي مع اتنين ستات، اهم.


اقترب الجميع من الشاشة يحدقون في المشهد بترقبٍ مشوبٍ بالذهول، انعقد حاجبا زين بشدة عندما لمح المرأة صاحبة الفستان الأصفر التي كانت تدور حولهم منذ لحظة دخولهم القاعة، بينما كاد سليم يفقد وعيه وهو يرمق زيدان الذي اتسعت عيناه في صدمة، ثم رفع بصره نحو يزن الذي شعر لوهلة وكأن دلواً من الماء البارد انسكب فوق رأسه، فتجمد في مكانه وخاصةً عندما قال زين بغضبٍ عارم، وقد غلت الدماء في عروقه:


-مين الست دي؟ كانت بتبصلنا من وقت ما جينا؟ 


أجابه يزن وهو يحاول أن يبدو هادئًا رغم الارتباك الذي بدا واضحًا في ملامحه، فحمحم بخشونة قائلاً بابتسامة مقتضبة:


-متقلقش خالص، هي في ايد أمينة، دي تبقى اخت العروسة الكبيرة.


اندفع زيدان قائلاً بتهكم أحمق غير آبه بما قد يثيره من غضب:


-ده المفروض يقلق اكتر على فكرة.


لكزه يزن بقوة في كتفه ليُسكته، إذ كفاهما ما فيهما من إحراج أمام الجميع، لكن عز تقدم بخطوة نحو الشاشة وقال بنبرة يملؤها الغيظ، موجهًا نظرات الاتهام نحو يزن:


-ايوه وهي تمسكها كده ليه؟ وتخرجها برة ليه بردو؟


تدخل أدهم بغضب هو الآخر، مشيرًا نحو الشاشة وقد بدت عليه الحيرة والريبة:


-ومين الست التانية اللي معاها دي؟ 


ثم التفت إلى يزن وهو يزفر بغضب مكبوت وقال:


-هما بيعملوا في أمي إيه يا يزن وواخدينها على فين؟؟


رفع يزن هاتفه بسرعة وهو يقول محاولًا احتواء الموقف:


-هتصل بيها حالاً اهو وانا متأكد انه سوء تفاهم، ابلة حكمت دي نسمة لا يمكن تأذي حد.


لكن نظرات زيدان كانت تقول العكس تمامًا، فغمز سليم على ذراعه في محاولة لتهدئته، مال نحوه زيدان هامسًا بسخرية مريرة:


-مش بعيد تكون خطفتها عشان تساومهم على مخالفة المرور اللي مجننانها.


اختار سليم تجاهله تمامًا، مكتفيًا بالنظر إلى زين الذي بدا على وشك الانفجار كالعاصفة، عيناه تقدحان شررًا وصوته يغلي في صدره قبل أن يخرج.


-متقلقش يا زين باشا، هي هترد دلوقتي وهتطمن على الهانم.


نظر زين للعامل وهو يشير بعصبية مفرطة:


-الكاميرا اللي برة مجبتش هما رايحين من انهي اتجاه؟


قال العامل مجددًا بلهجة آسفة وهو يحاول استعادة صورة أوضح من الكاميرات الخارجية:


-الكاميرا اللي بره للأسف كان فيها عطل من الصبح، ومفيش حاجة باينة غير إنهم خرجوا على الطريق العام، وبعدها الصورة قطعت.


                                           *****


في تلك الأثناء...


 كانت حكمت تجلس في مقهى صغير تحيط به روائح القهوة والفاكهة، حين أغلقت الهاتف في وجه يزن دون رد، ثم التفتت إلى ليليان التي كانت تمسك في يد كوب عصير منعش، وفي اليد الأخرى شطيرة من المربى.


قالت حكمت وقد بدا على ملامحها اهتمام مصطنع يتخلله فضول لا يهدأ:


-وقاعدين في فيلا على كده ولا في قصر؟!


هزت ليليان رأسها بابتسامة صافية تنم عن طيبة فطرية وأجابت ببساطة:


-لا في شقة على النيل.


شهقت حكمت وضربت صدرها براحتيها كمن سمع ما لا يُصدق، ثم قالت وهي تلوّي شفتيها باستهجان واضح:


-يعني جوزك راجل اعمال وفي الآخر تقعدوا في شقة على النيل، هو جوزك بخيل ولا إيه؟!


ثم أضافت بعد لحظة من التفكير، وهي ترفع حاجبيها بدهاء خفي:


-لا استنى أنا عرفت الناس اللي زي جوزك بيعملوا ملايين منين!! من الحرص ده!


اعتدلت ليليان في جلستها وقد بدا في عينيها بريق من الدفاع عن زوجها، وقالت بضحكة خفيفة تخفف حدة الموقف:


-لا فهمتي غلط يا مدام حكمت، زين صاحب البرج كله، وبعدين أنا بيتي كبير اوي مش صغير يعني زي ما انتي فاكرة!


مالت أم فهمي التي كانت تجلس بجانب حكمت، وهمست في أذنها بهدوء لا يخلو من الإعجاب:


-بتقولك صاحب البرج وعلى النيل، ده زمانه بيلم إجارات ياما.


اتسعت عينا حكمت بفضول أكبر، وقد أضاء في ذهنها شغف جديد بالبحث عن التفاصيل، فقالت وهي تميل برأسها نحو ليليان:


-وولادك بقى قاعدين فين؟!


أجابت ليليان بابتسامة دافئة:


-في نفس البرج، بصي انتي لازم تيجي وتشوفيهم وتتعرفي عليهم، لازم ارد جميلك معايا بإنك تسمحيلي اعزمك على الغدا، انتي وام فهمي.


تهللت أسارير أم فهمي لكن حكمت قطعت حماسها سريعًا ببرود متعمد وهي تقول:


-لا ام فهمي جوزها بيخاف عليها، هبقى اجي أنا، المهم وريني صور ولادك، انتي ورتيني صور بنتك القمر بس.


تذكرت ليليان ما كانت تفعله قبل قليل، فأخرجت هاتفها وبدأت تمرر بين الصور واحدة تلو الأخرى، كانت تشرح لحكمت كل شخصية بحماس أم فخورة، بينما فتحت حكمت فمها بانبهار خالص أمام وسامة أبنائها وجمالهم اللافت.


لكن الفضول لم يتركها طويلًا فحين وقعت عينها على صورة مراد الجارحي، انكمشت ملامحها قليلًا وسألت بنبرة تجمع بين الفضول والريبة:


-ابنك بيشتغل فين في الدولة؟!


مالت ليليان نحوها بخفة وقالت بصوت خافت كأنها تبوح بسر ثمين:


-في المخابرات.


ارتدت حكمت إلى الخلف في دهشة حقيقية وصاحت بذعر خفيف وهي تضع يدها على صدرها:


-يا حفيظ، دول مابيسموش على حد.


ضحكت ليليان بخفوت وهي تهز رأسها نافية:


-لا خالص ابني ده بسكوتة، وحنية الدنيا فيه.


لكن صوت الهاتف الذي كان على الطاولة قطع حديثهما، إذ تكررت اتصالات يزن دون انقطاع، فارتبكت حكمت وهي تنظر إلى الشاشة ثم نهضت بسرعة قائلة بقلق ظاهر:


-لا يلا بينا بقى، شكل سيرا اختي عملت مصيبة من مصايبها.


نهضت ليليان معها وهي تقول باهتمام وعطف:


-حرام دي شكلها طيبة اوي.


تمتمت حكمت بغيظ وهي تمسك بيد ليليان في مجاملة خفيفة:


-بس مصيبة من مصايب الزمن، في ناس بتتولد في بوقهم معلقة دهب دي بقى مولودة في بقها معلقة نحس.

                                           ****

فقد زين أعصابه أخيرًا وانفجر توتر الغرفة كبركانٍ خامد أُشعل دفعة واحدة، فدفع أجهزة الحاسوب من أمامه بعنف، تناثرت الأوراق وتبعثرت الملفات على الأرض، ثم اندفع خارج غرفة المراقبة بخطوات غاضبة، غير عابئ بنداءات أبنائه الذين حاولوا عبثًا تهدئته.


تسارعت أنفاسه وهو يشق طريقه نحو بوابة القاعة العملاقة، حتى كاد الباب يرتطم به حين فتحه بعنف، ولكنه ما إن خرج إلى الممر حتى تجمد مكانه للحظة لا تُنسى،

فهناك على بُعد خطوات قليلة، رأى ليليان تسير ببطء بجانب حكمت والسيدة الأخرى، تضحك بخفة وهي تتحدث إليهما، غير مدركة للعاصفة التي خلفتها وراءها.


نادى باسمها بصوت متهدج يحمل كل ما في قلبه من خوف وارتياع:


-ليليان!!


توقفت ليليان في مكانها، اتسعت عيناها دهشة حين رأت ملامحه المشدودة وقلقه الواضح، وقبل أن تنطق بكلمة واحدة كان زين قد اندفع نحوها واحتضنها أمام الجميع في لحظة خاطفة من الانفعال، دون أن يفكر في نظرات المحيطين، ثم أبعدها عنه قليلًا يتفحص وجهها بارتباك كأنما يريد أن يتأكد أنها بخير حقًا.


ابتسمت له بخفوت وربتت على ذراعه بحنان دافئ، وقالت بصوتها الناعم المطمئن:


-اهدى، أنا كويسة، دي حكمت وام فهمي لما لقوني اغمى عليا في التواليت اخدوني ومدام حكمت أصرت عليا تشربني عصير وتأكلني حاجة مسكرة في الكافية، في إيه لكل ده؟


وأشارت نحو الكافيه القريب، فتنفس أولادها الصعداء بعد أن ظنوا الأسوأ، ولكن مراد الألفي لم يستطع كبح غيظه فقال بحدة حاول أن يخففها قدر الإمكان:


-فزعتي سارة بس يا ليليان، وكانت هتموت فيها، فكرنا إنك اتخطفتي!


رفعت حكمت حاجبها الأيمن في كبرياء مصطنع، ثم نظرت إلى مراد بنظرة متعالية وهي تشير نحو نفسها قائلة بسخرية لاذعة:


-وده شكل ناس يا أستاذ تخطف بردو!! كلك نظر ما شاء الله


اتسعت عينا مراد بدهشة من جرأتها، بينما تابعت حكمت هجومها وقد وجهت بصرها نحو سليم هذه المرة وقالت بنبرة تأديبية أنيقة:


-هو انت مش معرفهم انت مناسب مين ولا إيه يا أستاذ سليم!


رفع زيدان بصره إلى السماء وتمتم بصدق خافت:


-يا رب يتقبض عليكي.


حاولت ليليان تهدئة الموقف سريعًا، فابتسمت بخفوت وقالت برقة لبقة:


-لا متزعليش يا حكمت مراد ميقصدش خالص.


ثم التفتت إلى زين الذي كان لا يزال يحاول السيطرة على غضبه، وقالت بلطف زائد:


-زين أنا عزمت حكمت عندنا على الغدا، عشان اللي عملته معايا.


اكتفى زين بإيماءة هادئة وابتسامة مقتضبة تخفي مزيجًا من الإرهاق والتوتر، بينما التفت زيدان نحو سليم هامسًا بغيظ ساخر:


-عملتها ازاي القادرة.


ما أثار انتباه زين في تلك اللحظة أن حكمت جذبت ليليان من ذراعها بخفة مألوفة، وأشارت نحو جمع من الأشخاص الواقفين غير بعيد، وقالت بعفوية صاخبة كعادتها:


-تعالي بقى، اعرفك على عيلتي، انتي مفكرة انتي بس اللي مخلفة كتير أنا أمي غلبتك.


سارت ليليان بجانبها في هدوء يشوبه الحذر، بينما قامت حكمت بتقديمها بكل فخر ومرح:


 -دي صديقتي الجديدة…ليليان الجارحي!


ساد صمت قصير تبعته نظرات دهشة متبادلة بين الحاضرين، ثم تعالت الهمهمات الخافتة كأنهم لا يدرون أكان ما شهدوه قبل قليل مشهدًا من الغضب أم بداية علاقة غريبة بين عائلتين متناقضتين تمامًا!!!


                                  ***


بعد انقضاء تلك الليلة العجيبة، ليلة الزفاف التي لن تُنسى أبدًا، كانت سيرا تقف في دورة المياه تتجهز للخروج إلى يزن الذي ينتظرها في غرفة نومهما، وقفت حائرة أمام ملابسها تتأمل ما تناولته يدها قبل الدخول إلى دورة المياة من أثواب ناعمة حريرية أهدتها لها حكمت، لكنها سرعان ما أبعدتها بضيق خجول، فلم تجد ما يناسبها سوى منامة من الستان ذات أكمام طويلة.


فابتسمت بخجلٍ وهي تهمس لنفسها:


-حلوة اوي، أنا مش هقدر أخرج بالحاجات القليلة الادب دي!


تنفست بعمق وخرجت أخيرًا إلى الغرفة تبحث عنه بعينيها، فلم تجده جالسًا كما توقعت؛ بل رأته مستلقيا فوق الفراش، نائمًا بعمق وهو لا يزال يرتدي قميصه الأبيض وسرواله الأسود، يحتضن وسادة كبيرة بين ذراعيه وكأنه غارق في سبات طويل بعد معركة لا بعد ليلة زفاف!


اقتربت منه بخطوات حذرة وهمست بقلق وحياء:


-يزن انت نمت؟ يزن مش هنصلي؟


لم يُجبها، كان وجهه شاحبًا من الإرهاق أنفاسه هادئة كأنما أنهكته الليلة بطريقتها الخاصة، جلست بجواره بحسرة صغيرة وقالت بصوت خافت طفولي:


-طيب مش هناكل؟، دي أبلة حكمت موصياني ناكل الحمام.


 ظل ساكنًا كأنما نام على وعد بالراحة الأبدية، زفرت سيرا بغيظ خافت وقالت لنفسها وهي تهمهم بسخرية:


-إيه ده؟ طيب كنت خديني مكان المخدة دي؟!


لكنها لم تكمل عبارتها إذ فوجئت به يمد ذراعه فجأة ويجذبها نحوه في حركة خاطفة جعلتها تجد نفسها مكان الوسادة، ثم همس بإرهاق وصوت مبحوح:


-نامي عشان بكرة قدامنا يوم طويل ولازم اكون مصحصحلك.


ارتبكت سيرا من قربه ووجهها يشتعل خجلًا، وقالت وهي تنظر إليه بعيون متسعة:


-ورانا إيه بكرة؟!


فتح عينيه نصف فتحة وابتسم ابتسامة مرهقة وقال:


-ناكل الحمام.


ضحكت بخجل وهي تغمض عينيها لتستسلم معه لنوم هادئ دافئ، تاركين خلفهما رهبة البدايات ولأول مرة شعر يزن بأن قلبه استراح حقًا، كأن وجودها بجانبه كان الهدوء الذي طالما بحث عنه، كانت تلك الليلة بداية ربيع جديد في حياتيهما، ربيع من طمأنينة ودفء وسكينة لا تُقدر بثمن.


                                              ****


بعد مرور شهرين.


جلست سيرا في صالة شقتها، تحدق في التحليل الطبي بين يديها بذهول لا يُصدق، كانت كلمات الطبيب لا تزال ترن في أذنيها، حين أخبرها بما لم تكن تتخيله قط وهي برفقة أختها أبلة حكمت التي أصرت أن ترافقها إلى العيادة بعد أن شكت من آلام في بطنها.


كانت الصدمة مرسومة على وجهها، والدموع تتلألأ في عينيها حين فتح باب الشقة ودخل يزن مسرعًا، يحمل في ملامحه قلقًا صادقًا:


-مالك يا سيرا؟ بيقولوا إنك كنتي تعبانة النهاردة.


رفعت رأسها نحوه بصمت ثم وضعت أمامه ورقة التحليل دون أن تنطق، تناولها بيده وقرأها سريعًا، ثم رفع بصره إليها مبتسمًا في دهشة وسعادة:


-حامل؟


أومأت برأسها بخفوت، قبل أن تهمس من بين دموعها المرتجفة:


-تلاتة.


انعقد حاجباه في دهشة صافية، وقال ببلاهة لا تخلو من الطرافة:


-حامل تلات مرات؟


أبعدت يده عنها بانفعال وغمغمت بسخرية حزينة:


-لا يا يزن، حامل في تلاتة عيال...اتنين في كيس وواحد في كيس.


ظل صامتًا للحظات، يحاول استيعاب ما سمعه ثم قال وهو يحدق فيها بعدم فهم:


-هي الاكياس دي فين؟ في بطنك يعني؟


هتفت باكية وهي تضرب الهواء بكفيها:


-تلاتة ازاي بس؟! هربيهم ازاي، ينفع ارجعهم؟


وقف يزن أمامها مشدوهًا للحظة، ثم ما لبث أن اتسعت ابتسامته وهو يقول بلهفة فيها شيء من الغباء المحبب:


-متقوليش لحد لاحسن اتحسد.


نظرت إليه سيرا بعدم تصديق، ورددت بذهول:


-ها.


أومأ مؤكدًا بجدية مطلقة:


-أنا بتكلم بجد متقوليش لحد عشان متحسدش وأنا مش ناقص، وبالذات زيدان اخويا ده يوديني في داهية بعينيه دي.


جلست سيرا على الأريكة تحتضن بطنها المرتجفة وتتمتم بجنون بين البكاء والضحك:


-هربيهم ازاي؟، تلاتة...تلاتة، رجعوني لبابا وماما، مش عايزة اكمل.


اقترب منها يزن وطبع قبلة رقيقة على وجنتها، ثم جلس إلى جوارها ووضع يده على بطنها بحنان صادق وابتسامة مفعمة بالدهشة والفرح:


-هتنوروا يا حبايب ابوكم، وديني لاخليكوا تتفوا على كل اللي في البيت، بس تيجوا انتوا بس بالسلامة.


ضحكت سيرا بين دموعها، ولم تجد ما تقوله سوى أن تغمض عينيها وتدع قلبها يهدأ قليلاً، فقد كانت تلك اللحظة بداية رحلة جديدة من الفوضى الجميلة، رحلة أمومة غير متوقعة، ومغامرة ستغير حياتهما للأبد.


                  ـــــــــــــــــــــ انتهت أخيرًاـــــــــــ


بدأت في 8/2/2024 🥺

وانتهت في 16/10/2025🔥



دمتم سالمين ولنا لقاء قريب مع قصة جديدة وأبطال جداد وحكاية مختلفة ان شاء الله بحبكم في الله


لمتابعة  الروايه الجديده زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close