رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الخمسون 50بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الخمسون 50بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ٥٠ ـ~ ساحة حرب
في صباح اليوم التالي ..
استيقظت نسيم لتجد نفسها بين ذراعي عاصم، يحتضنها بقوةٍ أشبه بالتملك، وكأنه يخشى أن تفلت منه أو تضيع بعيدًا عن دفئه. تأملته بعينين يغمرهما الحنو والشفقة، بينما كان يضع كفه فوق بطنها في لمسةٍ حانية، كأنما يخاطب طفلهما المرتقب بصمتٍ مليء بالحب .
أزاحت يده عن بطنها برفقٍ شديد، ثم حاولت النهوض، غير أنه جذبها نحوه من جديد، يطوقها بذراعيه بعناد، فاضطرت إلى الاستسلام لرغبته بضع دقائق أخرى، تستشعر دفء أنفاسه على عنقها وارتجاف أنامله التي لم تزل متشبثة بها .
وبينما كانت تهمس له بهدوء، بدأ هو يستيقظ شيئًا فشيئًا، يفتح عينيه المثقلتين بالنوم، كأنما يعود من حلمٍ جميلٍ لا يريد أن ينتهي.
نظر إليها مبتسمًا، وارتسم على وجهه دفء حقيقي نابع من أعماقه، ثم مال قليلًا نحوها، وقد غمر عينيه حب لا تخطئه نظرة، ومد يده برفق ليمسح على بطنها قائلًا بصوتٍ خافتٍ حنون:
ـ صباح الخير يا روحي.
ابتسمت له في رقةٍ وهي تتسائل بهمسٍ دافئ مع ابتسامة مشاغبة :
ـ تقصدني أنا ولا البيبي ؟
اتسعت ابتسامته، وانحنى يقبّل ثغرها في لمسةٍ تشي بالامتنان. ثم مال نحو بطنها برفقٍ يطبع عليها قبلة خفيفة، وهو يقول بصوتٍ تغمره الدفء والحنية:
ـ انتوا الاتنين روحي وحتة مني..
تجلّت الدموع في عينيها كأنها تشكر القدر على لحظةٍ كهذه، ثم رفعت كفيها لتُحيط وجهه بنعومةٍ، ونظرت إليه بعينين يملؤهما الامتنان وقالت:
ـ ربنا يخليك لينا.
ابتسم وهو يمسح على شعرها بحنان، وقال في صدقٍ دافئ:
ـ ويخليكم ليا يا حبيبتي، يلا قومي اجهزي وخلينا نخرج نفطر على ما ييجي ميعاد الدكتور.
رفعت حاجبيها بقلق وهي تقول:
ـ إنت متأكد إن الدكتورة دي كويسة؟!
ردّ بثقةٍ وطمأنينة، وهو يمرر أصابعه على ذقنه:
ـ متقلقيش يا حبيبتي، أنا سألت أكتر من حد وأكتر من مكان وكلهم قالوا إنها ممتازة جدًا.. إلا لو إنتي في بالك حد معين!
أشاحت بوجهها لتخفي ارتباكها وقالت سريعًا:
ـ لأ وأنا يعني هعرف دكاترة منين يا عاصم! على العموم خلاص اللي تشوفه.
ضحك بخفةٍ وهو يفرك يديه في حركةٍ ملؤها الحماس، وقال:
ـ طيب يلا خلينا نستعجل.. عايز أشوفه بسرعة.
نظرت إليه بحنانٍ وهي تمرر يدها على شعره وتقول :
ـ تشوف إيه بس يا حبيبي، ده لسه صغير جدًا.. يدوب بيتكوّن.
ـ مش مشكلة، يتكوّن على مهله حبيب بابا.
ضحكت بخفةٍ وقالت ممازحة:
ـ ممم.. حبيب بابا؟ وليه متكونش حبيبة بابا؟
قهقه عاصم في بهجةٍ صافية وقال بمشاكسةٍ لذيذة:
ـ يا ستي أي حاجة منك حلوة، هو أنا كنت طايل أصلاً! المهم ييجي بالسلامة وأخده في حضني وأشمه وأفضل أبوس فيه كده … ياه !
أغمض عينيه لحظةً منتشيًا من تخيّل المشهد، ثم فتحهما فجأة ونظر إليها بنظرةٍ عابثةٍ جعلت ضحكتها تتعالى دون إرادة، قبل أن ينقض فوقها بخفةٍ وهو يقول:
ـ ولحد ما ده يحصل.. فأنا مضطر إني أبوسك انت يا جميل ..
وغمرها بقبلاتٍ مجنونة، تتداخل فيها الرغبة بالشغف حتى شعرت بأنفاسها تضيق، وكأن الهواء قد خانها فجأة. ارتبك جسدها بين ذراعيه، وبدت ملامحها شاحبة، قبل أن تندفع على حين غِرّة مبتعدة عنه، تركض نحو الحمّام بخطواتٍ متعثّرة.
وقف مكانه مذهولًا لوهلة، يتأمل انصرافها المفاجئ بعينين متسعتين، قبل أن يتبعها وقد بدأ إدراك غامض يتسرّب إلى ذهنه.
وقف عند باب الحمّام يسمع صوتها وهي تُكابد ألم القيء، فتجمّد في مكانه وقد امتزجت في صدره مشاعر متناقضة من القلق والحنان، ثم أشرق وجهه بابتسامةٍ غامرةٍ بالفخر حين تبيّن له أن ما تعانيه ليس سوى نوبات الوحام الأولى.
اقترب منها بخطواتٍ حذرة، يمد يده إليها في حنوٍ بالغ، وعيناه تفيض بالشفقة والعطف، كأنّه يرى مشهدًا مقدّسًا للحياة وهي تنبض داخلها.. جمع خصلات شعرها بين يديه وثبتها برفق عند أعلى رأسها وهو يسألها بانشغال :
ـ نسيم .. هو ده طبيعي مش كده ؟! أي واحدة حامل بيحصلها كده ولا في حاجه تستدعي إننا نروح المستشفى!!
التفتت نحوه بهدوء، وهزت رأسها برفق وهي تقول :
ـ لأ مش مستاهله .. أنا هبقى كويسة .
وفجأة انحنت مرة أخرى وقد هاجمتها نوبة قيء أخرى، بينما هو ظل واقفًا بجانبها ينتظرها بصبر، وعيناه لا تفارقانها بشفقةٍ ونظراته الحنونة تشملها وهي تغسل وجهها بوهن في محاولة لاستعادة توازنها من جديد .
رفعت رأسها نحوه فكان التعب باديًا على ملامحها، فأسرع إليها وضمّها إلى صدره برفقٍ، يُمسد على شعرها ويهمس بصوتٍ دافئٍ مطمئن:
ـ سلامتك والله .. معلش هانت .
رفعت رأسها إليه في تبرّم وهي تقول بنبرة متعبة:
ـ هانت إيه بس يا عاصم أنا لسه في تاني شهر .. على ما أولد تكون روحي طلعت .
حاول طمأنتها فقال :
ـ ما هو انتي أكيد مش هتفضلي تتوحمي التسع شهور يعني يا نسيم ، أعتقد هي فترة بس في الأول وإن شاء الله الموضوع يخف ..
هزت رأسها باستسلام، بينما هو يمسك بيدها ويقودها نحو السرير بلطف، ثم جلس بجوارها وقال :
ـ أعمل لك حاجة دافية طيب تهدي معدتك ؟
ـ لأ مش عايزة .. أنا لو نمت هبقى كويسة .
ـ طيب والفطار ؟ والدكتورة ؟!
تنهدت قائلة :
ـ وقت تاني بقا يا عاصم .. خليني بس أنام دلوقتي ولما أصحى إن شاء الله نعمل كل اللي انت عايزه .
وقف يطالعها بصمت وهو يراها وقد تمددت في الفراش بالفعل، وسحبت الغطاء فوقها، ونظرت إليه بنصف ابتسامة وهي تقول :
ـ معلش يا حبيبي .. افطر انت وروح شغلك ولما ترجع بالسلامه نشوف حوار الدكتورة ده .
حك مؤخرة رأسه بتفكير وكأنه يقيم الموقف وهو يقول :
ـ ماشي مش مشكلة ، بس أنا كدة مش هبقا مطمن عليكي وأنا في الشغل وانتي تعبانة كدة .. أنا هفضل معاكي النهارده ..
طالعته في تذمر وقالت :
ـ تعبانة مالي مانا كويسة قدامك أهو، وبعدين مش معقول يعني تسيب شغلك وتقعد جنبي من أولها كده .. يلا روح شغلك .. لسه الأيام جاية كتير يا بابا .
لكنه لم يقتنع، فتمدد إلى جوارها وأحاطها بذراعيه لتستريح على صدره، وهو يقول بحزمٍ مفعمٍ بالعطف:
ـ لأ مش هعرف أمشي وأسيبك، كده كده هفضل قلقان ومش هعرف أشتغل .. الأفضل أكون جنبك ومش مشكلة الشغل النهارده .. ممكن يخلص من البيت عادي .
زفرت تنهيدةً صغيرة، وأحاطت خصره بذراعها، ثم أغمضت عينيها قائلة باستسلامٍ رقيق:
ـ طيب اللي تشوفه ..
غير أن ما قطع حديثهما كان رنين هاتف عاصم المفاجئ، فالتفتت إليه نسيم مشيرة إلى الهاتف بابتسامة خفيفة قائلة:
ـ اتفضل... مش هيسيبوك في حالك.
تناول عاصم الهاتف من جواره، وقد عقد حاجبيه بتعجبٍ خافت حتى لا تلاحظ اضطرابه، ثم أجاب بصوتٍ هادئ:
ـ نعم يا أيمن؟
لم تكد تمر لحظات حتى تبدّل ملامحه على نحوٍ طفيف، ونهض على الفور من الفراش قائلاً بلهجةٍ مقتضبة:
ـ طيب... أنا جاي حالًا.
أنهى الاتصال، وأدار وجهه نحو نسيم التي كانت تحدق فيه بقلقٍ ظاهر وسألته:
ـ حصل حاجه؟
تردد لحظة، ابتلع ريقه في وجلٍ خفيف، ثم قال بنبرةٍ حاول جاهدًا أن يكسوها بالهدوء:
ـ مشكلة في الشركة هحلها وراجع.. ارتاحي انتي
وبينما كان يجمع ثيابه على عجل، لم تفارقها نظرات الدهشة والاستغراب، إلى أن غادر الغرفة تاركًا وراءه فراغًا غريبًا.
أما هي، فلم تمكث طويلًا على تساؤلاتها، إذ تسلّل إليها النعاس سريعًا، لتسقط في غفوةٍ عميقةٍ بدت كأنها هروبٌ مؤقت من قلقٍ لم تجد له تفسيرًا.
༺═────────────────═༻
كانت وقفتها في المطبخ تحمل شيئًا من البهجة الطفولية، وهي تتابع الكعكة التي تخبزها بعناية كما يحبها تمامًا، ترقب نضجها وكأنها تنتظر لحظة تحقيق أمنية صغيرة. أرادت أن تفاجئه بها، أن ترى تلك النظرة المميزة في عينيه حين يراها تحمل إليه شيئًا صنعته بيديها.
ولما اقتربت الكعكة من الاكتمال، تركت المطبخ واتجهت إلى غرفتها، تختار ثوبًا بسيطًا وتصفف شعرها بترتيبٍ أنيق استعدادًا للفطور معه. وما إن نضجت الكعكة حتى أخرجتها برفق، حملتها في قالبٍ جميل وخرجت من البيت بخطى متحمّسة يغمرها الشوق.
توقفت أمام بيته، ضغطت زر الجرس تنتظر أن يُفتح الباب، لكن حين انفرج بعد لحظات، اتسعت عيناها دهشةً وهي ترى حسن أمامها!
ارتدت خطوة إلى الخلف، تحدّق فيه بدهشةٍ حائرة وهي تقول:
ـ حسن؟!!
رفع حسن حاجبيه بترددٍ وابتسم ابتسامة مهزوزة، وكأنه هو الآخر لم يتوقع اللقاء، وقال بلطفٍ خافت:
ـ ازيك يا نغم عاملة ايه؟
رمشت مرتين محاولةً استيعاب الموقف، ثم ردّت بسرعةٍ خافتة:
ـ انا الحمد لله كويسه.
أومأ برأسه بهدوء، وصوته يخرج محمّلًا بشيءٍ من التوتر:
ـ الحمدلله.
انخفضت عيناه إلى القالب الذي تحمله بين يديها، فارتسمت على وجهه ابتسامة عفوية، وقال وقد غلبت عليه الذكرى:
ـ يااه .. الكيك بتاعك وحشني والله.
مد يده وتناول منها القالب بحماس ثم رفع رأسه إليها مبتسمًا وقال بعفويةٍ صادقة:
ـ والله أنا مش عارف أقولك إيه غير شكرا لأنك حاسة بينا.. أنا وعمر كنا لسه بنفكر هنفطر إيه.
تجمّدت الكلمات في حلقها، ولم تعرف كيف تُفسّر، فالكعكة التي بين يديه لم تُعدّ له ولا لعمر، بل لفريد وحده، وهي الآن ترى الحماسة في عيني حسن، يرفع القالب إلى أنفه ويستنشق الرائحة بمتعةٍ طفولية وهو يقول:
ـ يخربيت عقلك يا نغم .. ريحتها تفتح النفس ، اوعي تكوني حاطّة فيها بيض !!
رفعت حاجبها في استنكارٍ خفيف وقالت بنبرةٍ حانقة وعنادٍ فطري اعتادته معه :
ـ عشر بيضات.
ضحك وهو يرفع حاجبيه بدهشةٍ مصطنعة، ثم قال مبتسمًا بروحٍ خفيفة:
ـ مش مشكلة ، هاكلها بردو.
وفي تلك اللحظة، وقعت عيناه على فريد وهو يقترب من الباب، فاستدار نحوه بابتسامةٍ ودودة وقال ممازحًا:
ـ يا بختك يا عم فريد .. هتتجوز واحدة بتعمل كيك عالمي.
حدق فريد للحظة عند الباب، عينيه تتنقّلان بين نغم وحسن، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ هادئة تُخفي وراءها اضطرابًا خفيفًا. لم يكن يخطط لشيء، لكنه في تلك اللحظة شعر بدافعٍ داخليٍ عارم، كأن شيئًا في أعماقه يهمس له أن يقترب، أن يعلنها دون كلام، أن يُظهر للجميع ـ ولحسن تحديدًا ـ أن نغم له وحده.
اقترب منها بخطواتٍ بطيئة، وعيناه لا تفارق وجهها الذي أضاءته الدهشة والسعادة في آنٍ واحد.
ابتسمت له بعفويةٍ ودفء، وارتسمت على ملامحها فرحةٌ صافية، فيما قربها هو إليه بهدوء ثم طبع قبلةً رقيقة على جبينها، وهمس بصوتٍ دافئٍ مليء بالعاطفة:
ـ صباح الخير يا حبيبتي.
أشاح حسن بنظره عنهما بهدوءٍ متعمَّد، ثم التفت إلى نغم سريعًا وقال بابتسامةٍ جانحة للمشاغبة:
ـ تسلم إيديكي يا مرات أخويا.. يا ريت كل يوم تعمليلنا كيك، بس المرة الجاية كبّري القالب شوية.
هزت نغم رأسها في تبرم، وارتفع حاجبها في تحدٍّ عفوي، بينما كانت تراقب تلك الابتسامة المستفزة التي اعتادت رؤيتها على وجهه كلما أراد أن يثير حنقها، وما إن ابتعد حتى تحوّلت بنظراتها إلى فريد الذي بدا على ملامحه شيءٌ من الضيق، حاول جاهدًا إخفاءه خلف ابتسامةٍ متزنة وهو يقول بصوتٍ هادئ:
ـ ليه مقولتيش إنك جاية؟
رفعت حاجبها مجددًا وقالت بنبرةٍ تحمل شيئًا من العناد:
ـ هو أنا لازم أستأذن يعني؟
ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة حين رأى ملامح الغضب اللطيف على وجهها، ثم قال وهو يحاول تلطيف الموقف:
ـ لأ مش قصدي كده، بس على الأقل كنت عرفتك إني مش لوحدي، وإن إخواتي عندي.
مطّت شفتيها ببرودٍ واضح، في حركةٍ عفويةٍ لم تقصد بها شيئًا، لكن عينيه تعلّقتا بها على الفور، يتأمل انقباض شفتيها وارتجافهما الخفيف، كأنها تُغريه دون قصد.
رفعت نظرها إليه قائلة بنبرةٍ هادئة لا تخلو من الحدة:
ـ وفيها إيه؟ ما هما إخواتي أنا كمان يعني، وبعدين أنا كده كده مكنتش هقعد معاك أصلًا، كنت جاية أديك الكيك وماشية.
هزّ رأسه بهدوءٍ وقال بصوتٍ دافئٍ مشوبٍ بالامتنان، محاولًا أن يخفي ما ارتسم في عينيه من شغفٍ مباغت:
ـ متشكر جدًا والله.. شكلها حلو جدًا.
غير أنه في داخله، كان متأكدًا أنه لو المكان يسمح، والوقت يسمح، ما كان ليمرّر تلك الحركة البسيطة منها دون ردّ فعلٍ يليق بما أيقظته فيه للحظة.
لكن نغم بدا وكأنها لن تتراجع قبل أن تفقده ثباته، فارتسمت على وجهها ابتسامةٌ ناعمة تعكس شجاعةً طفيفة، وظلت تحدّق فيه برهةٍ صامتة، تتأمل تعابيره الدقيقة، وكأنها تزن ما سيأتي بعد ذلك.
ثم تقدّمت خطوةً واحدة نحوه، حتى صارت على مقربةٍ منه، وعيناها تلمعان بإشارات حبٍ صريح لا تخفيه، وقالت بنبرةٍ هادئة لكنها صادقة:
ـ إنت كمان شكلك حلو جدًا.
اتسعت ابتسامته، وهزّ رأسه في دهشةٍ ممزوجةٍ بالإعجاب، ثم حكّ ذقنه متصنعًا التفكير وهو يشملها بنظرةٍ ثائرةٍ مفعمةٍ بالمشاعر وقال بخفةٍ مازحة:
ـ نغم، إنتي بتعاكسيني؟!
ضحكت بخجلٍ لطيف، وأومأت برأسها مبتسمةً ابتسامةً واسعة وقالت:
ـ لما أعاكسك أنا، أحسن ما واحدة غريبة تعاكسك.
هزّ رأسه بخفةٍ، وبدت على وجهه ملامح السرور وهو يقول بنبرةٍ عميقةٍ يغلب عليها الإعجاب:
ـ ممم... بتوفري لي نوع من أنواع الاكتفاء الذاتي يعني .. !
أومأت بابتسامة فتابع :
ـ والله برافو عليكي .. بحبك لما تبقي واعية وعارفة مصلحتك فين .
ضحكت وأجابته بصدق :
ـ وأنا بحبك دايما وفي كل الأوقات .
طارحها فريد بنظرة صامتة لدقائق قليلة، مستمتعًا بلحظة الهدوء والدفء التي تجمعهما، ثم تنهد وهو يحاول كبح ما اشتعل في قلبه من مشاعر عميقة:
ـ للأسف أنا مبقيتش بعرف أرد على الكلام الحلو ده غير بطريقة واحدة ومش متاحة دلوقتي .. علشان كده يستحسن تتفضلي على بيتك ونكمل كلامنا بعدين .
شعرت بالحرج بعد أن فهمت المغزى من كلماته، وأومأت بهدوء وقالت :
ـ طيب .. هروح أجهز الفطار على ما تيجي خالتي زينب ..
ـ يا بختها زينب والله .. هتفطر من صنع الايدين الحلوة دي ..
وأمسك بيدها وقبلها برفق، فابتسمت وقالت :
ـ هانت إن شاء الله وهتفطر وتتغدا وتتعشا من صنع ايديا كل يوم .
ـ نسأل الله التساهيل علشان أنا جبت أخري بصراحة .
ابتسمت بمشاغبة وقالت وهي تلوح له قائلة :
ـ على العموم أنا همشي واوعى تنسى تقوللي رأيك في الكيك .
نظر خلفه تلقائيا وعاد بنظره إليها وهو يمرر يده على مؤخرة عنقه ويقول :
ـ لو لحقت منها حاجه.. على الأغلب عمر وحسن افترسوها .
ابتسمت وقالت :
ـ بألف هنا .. بكره ان شاء الله لما نتجوز هعمل لك كيك كل يوم ..
ليرد بتلقائية :
ـ بردو ؟
أومأت بابتسامة فتنهد ثم قال:
ـ والله يا نغم ما عارف لما هنتجوز هتعملي إيه ولا إيه بس ماشي .. نتجوز بس الأول وبعدين يحلها ربنا .
ـ إن شاء الله ..
ـ قوليلي صح .. عملتي إيه في اللي اتفقنا عليه ؟ فكرتي زي ما قلت لك ؟
أومأت بموافقة وقالت وهي تحاول إخفاء ابتسامتها المتحمسة :
ـ أيوة .. والحقيقة لقيت إنه مفيش داعي خالص نشتري بيت تاني .. البيتين موجود أهو، أنا حتى كنت بفكر بعد ما نتجوز انت تبيع البيت اللي أنا قاعدة فيه ونستفيد بفلوسه .
ـ لأ مفيش داعي .. ده هيفضل بيتك وانتي حرة تتصرفي فيه زي ما تحبي ، وبعدين خليه احتياطي علشان لو اتخانقنا وحبيتي تعاقبيني وتقعدي لوحدك أهو يبقا بالقرب بدل ما أمشي ألفّ عليكي .. هربانة منك وتعمليها والله .
انبثقت ضحكتها بعفويةٍ رقيقة، كأنها موسيقى ناعمة تسللت إلى قلبه دون استئذان، فراح يحدّق فيها مبتسمًا بحبٍ حقيقي، وقد أصابته ضحكتها بعدوى الفرح. لبث لحظة يراقبها بعينين تملؤهما الود، ثم استعاد جديته فجأة وقال بنبرةٍ دافئة:
ـ طيب مفيش حاجه في البيت حابة تغيريها ؟! أنا بفكر نغير ديكور البيت كله .. إيه رأيك ؟
رمقته نغم بعينين لامعتين وقالت بخفةٍ:
ـ ليه ؟! بالعكس حلو جدا وعاجبني ، إحنا ممكن بس نغير طقم الأنتريه، واوضة النوم كمان لأنها بصراحة كئيبة ومملة .
أومأ بتفكيرٍ هادئ، وكأنه يتخيل ما قالته، ثم قال مبتسمًا بصدق:
ـ معاكي حق فعلا هي لونها كئيب شوية، مع أن تغيير الروتين ده بيعمللي دربكة بس مش مشكلة.. اللي انتي عايزاه وتؤمري بيه يا حبيبتي.
ـ شكرا ..
ابتسم فريد وهو يشير إلى عينيه بحركةٍ لطيفة أربكتها، ثم قال بصوتٍ يفيض عذوبةً:
ـ العفو والله ده احنا عنينا للقمر ..
اتسعت ابتسامتها أكثر، ومالت برأسها قليلًا وهي تقول بدلالٍ واضح:
ـ ربنا يخليك ليا ..
ردّ عليها بعفويةٍ ممزوجةٍ بالحنان:
ـ ويخليك ليا يا جميل يا مقطقط انت ..
وفجأة دوّى صوت عمر من الداخل، قاطعًا اللحظة بنبرةٍ ضاحكة وفمٍ مملوء بالطعام:
" فريد .. يلا يا عم احنا جعانين !! "
تنهد فريد بتظاهرٍ بالتفهم، ورفع حاجبيه ساخرًا قبل أن ينظر إلى نغم قائلًا بابتسامةٍ مستسلمة:
ـ لازم أروح أعمل لهم الفطار بنفسي قبل ما يدخلوا المطبخ ويقلبوا كيانه ..
ابتسمت نغم ابتسامةً صافيةً يملؤها الإعجاب والحنان وقالت بصدق :
ـ ربنا يخليك ليهم يا حبيبي ، انت حنين أوي .
ضحك بخفةٍ وهو يمد يده ليقرص وجنتها برفقٍ ويقول بنغمةٍ دافئة:
ـ ويخليكي ليا يا نغومه .. كان نفسي أقوللك تفطري معانا بس يُفضل تستني زينب ..
ضيقت نغم عينيها بمكرٍ جميل، وارتسمت على وجهها ابتسامةٌ ماكرة وهي تقول بنغمةٍ لاهيةٍ تحمل في طياتها الدلال:
ـ ممم .. هعمل نفسي مقتنعة بكلامك وهروح أستنى زينب وانت اتفضل شوف عيالك اللي مستنيين جوه دول.
راقبها وهو يبتسم في صمت، وقد أدرك أنها فهمت ما يحاول إخفاءه؛ تلك الغيرة الخفية التي حاول التستر عليها ببعض المزاح. ومع ذلك، لم يعلّق، بل اكتفى بأن يتبعها بنظراته وهي تنسحب بخفةٍ أنثوية، تاركةً في الأجواء أثر عطرها وضحكتها التي ما زالت تتردد في أذنيه.
ــــــــــــــــــــ
عاد فريد إلى الداخل بخطواتٍ هادئة وهو يدس يديه في جيبيه، وعلى وجهه ابتسامةٌ رائقة تحمل مزيجًا من الرضا والسكينة. بدا كمن قرّر أن يبدأ يومه بهدوءٍ تام، بعد تلك اللحظات الدافئة التي أمضاها مع نغم. لكنّ الهدوء لم يدم طويلًا.
فما إن دلف غرفة المعيشة حتى تجمّد مكانه تمامًا، واتسعت عيناه بذهولٍ إذ فوجئ بالمشهد العبثي أمامه: عمر وحسن يجلسان إلى المائدة كطفلين، وقد وضعا قالب الكيك في المنتصف، بينما كان حسن يمد شوكته تجاه فم عمر وهو يقول :
ـ والله ما هي راجعة ..
فيُجيبه عمر بفمٍ ممتلئ :
ـ حلو أوي الكيك ده .. وريحته تجنن .
بينما أومأ حسن مؤكدًا وهو يقول :
ـ أووومال .. أحسن حد تاكل من ايديه كيك هي نغم.. مش عشان هي بنت خالتي يعني ، أنا بقول كلمة حق .
تقدّم نحوهما بخطواتٍ بطيئة، كمن يُخفي خلف سكونه عاصفة، فرفع عمر رأسه وأشار إليه وهو يقول بمرحٍ ساذج:
ـ تعالى يا فريد كُل معانا، نغم دي طلعت جامدة بجد..
رمقه فريد بنظرةٍ قاتمةٍ جعلت عمر يتدارك ما قاله سريعًا محاولًا إصلاح الموقف:
ـ أقصد يعني بتعمل كيك جامد.. تعالى دوق.
اقترب فريد ببطء، وجلس على رأس المائدة واضعًا ساعديه متقاطعَين فوقها، ثم أطلق زفرةً هادئة وابتسامةً متوترة، وهو يراقبهما يلتهمان الكعكة بشهيةٍ طفولية لا تليق برجلين في مثل عمريهما، ثم قال بنبرةٍ خافتةٍ تحمل من التهكم أكثر مما تحمل من الهدوء:
ـ أعمل لكم شاي؟
رفع حسن نظره مبتسمًا وقال بلطف:
ـ مش عايزين نتعبك معانا والله.
بينما تمتم عمر بفمٍ محشوٍّ بالكعك:
ـ أنا عايز نسكافية.
رمقه فريد بنظرةٍ حادة، ومرّر يده على جانب عنقه بضيقٍ ظاهر قبل أن يقول بصرامةٍ هادئة:
ـ متتكلمش والأكل في بؤك لو سمحت يا عمر.
ثم أمال رأسه في استنكارٍ وهو يتابع بسخريةٍ خفيفة:
ـ أنا مش عارف الهطل اللي جالك على كبَر ده!
رفع عمر إبهامه مؤيدًا لكلامه بمرحٍ طفولي جعل فريد يزفر بعجزٍ صامت، ثم قال:
ـ على العموم في كذا حاجة عاوز أتكلم معاكم فيها… أول هام.. أنا ونغم خلاص بنجهز نفسنا .. يمكن نعمل الفرح على الخميس مثلا ..
وزفر زفرةً محمّلةً بقلقٍ لا ينطفئ، كأنها محاولة بائسة لإخراج هواجسه من صدره، ثم تمتم وهو يحاول ترتيب فوضى الأفكار في ذهنه:
ـ لو الأمور عدت بسلام يعني .. أنا للأسف مبقيتش عارف أتفائل.
أخذ حسن يبحث عن الكلمات التي تواسي أخاه وتخفّف عنه فقال :
ـ متقلقش يا كبير .. إحنا في ضهرك إن شاء الله ومش هنسمح إن حاجة تحصل تبوظلك اليوم ..
تلقّى فريد الكلام وكأنّه شحنةٍ صغيرة من الطمأنينة، همس بها إلى نفسه قبل أن ينطق ظاهريًا محتفظًا بصدق مخاوفه:
ـ أنا متأكد من كده وواثق إنكم في ضهري دايما .. بس بردو مش عارف مفكرش .. مش عارف أصفي ذهني ، بالي مشغول بكذا حاجة ..
ثم مرّ بيده على وجهه كمن يحاول طرد أفكارٍ تعيث برأسه فسادا، ثم اتخذ قرارًا عمليًا مبطنًا بالانشغال كي يمنح نفسه متنفسًا:
ـ ما علينا .. المهم دلوقتي إني هعمل تعديلات في البيت ، فهضطر آسفًا أطردكم من هنا .
ارتبك عمر قليلا وارتسم على وجهه رفضٌ طريف وهو يقول متدمرًا :
ـ لأ متهزروش .. أنا مش راجع الڤيلا تاني ده أنا يبقا منظري هلهولة أوي قدامهم .
فابتسم حسن بهدوء، وقال :
ـ متقلقش هنتصرف .. كده كده أنا كنت بفكر أشتري بيت هنا .. إيه رأيك يا فريد ؟
ابتسم فريد وقال بترحيب:
ـ حلو جدا .. على الأقل نكون جنب بعض .
تفجّر في صدر عمر حماس مبتهج للمستقبل، فقال:
ـ وأنا كمان هشتري بيت في الكومباوند نتجوز فيه أنا وميرال ..
تنهد فريد بهدوء ثم قال:
ـ طيب .. خليني أتكلم مع مدير الكومباوند وأشوف الدنيا هتمشي إزاي .. أكيد هيكون في discount بما إننا هنشتري بيتين .
ونظر إلى حسن وتابع باهتمام :
ـ تاني هام بقا .. بالنسبة لافتتاح مزرعتك اللي عمال يتأجل ؟! متنساش إن عقود التوريد اللي إنت ماضي عليها دي ممكن يحصل خلافات أو تلاقي نفسك مُطالب بتعويضات بسبب التأجيل .. ده غير إن الحملة الدعائية اللي اتعلمت بتفقد تأثيرها كل ما حصل تأجيل أو مماطلة .. يعني لازم نعجل على قد ما نقدر .
ابتسم حسن وهو يستشعر اهتمام أخيه وحرصه، وأومأ قائلا :
ـ بعد فرحك إنت ونغم إن شاء الله هنعمل الافتتاح على طول .
أومأ فريد موافقا، ثم قال وهو ينظر إلى عمر ويقول :
ـ طيب .. بالنسبة لك بقا يا أستاذ عمر ؟! يعني حضرتك بتسعى لمشروع جواز وعمال تاخد خطوات جد وإنت لسه مفيش عندك شغل أصلا ؟! هتفتح بيت ازاي وإنت مفيش عندك مصدر دخل ؟!! اكيد مش هتفضل تصرف في الفلوس اللي معاك وخلاص ؟!
أومأ حسن مؤكدا وهو يشير إلى فريد ويقول:
ـ أخوك الكبير معاه حق ، المثل بيقول خد من التل يختل .
أومأ فريد موافقا وأكد وجهة نظره بحزمٍ عملي :
ـ بالظبط.. وبعدين انت هتتجوز إنسانة طموحة ومن صغرها بتعتمد على نفسها وبتعرف تجيب فلوس .. فبصراحة منظرك قدامها هيبقى فعلا هلهولة .
انطلقت ضحكات حسن بينما طالعه عمر بحنق ونظر إلى فريد الذي ينتظر رده بصبر وقال :
ـ طيب شوف إنت عاوزني أعمل إيه وأنا هعمله ..
ـ يا حبيبي مش اللي أنا عايزه .. اللي انت تحبه وتشوف نفسك فيه ..
رد عمر معترفًا بعدم يقينه وقال :
ـ ما أنا مش شايف نفسي في حاجه بصراحة .. ممكن لو انتوا اقترحتوا عليا مشروع أعمله أحس إنه مناسبني ووقتها أقتنع .
تنهد فريد بشرود ثم قال :
ـ هو انت يبني مش دارس هندسة ؟! يعني المفروض تشتغل في مجال دراستك ..
هز عمر رأسه رافضًا وقال :
ـ لأ أنا مليش في الجو بتاعكم ده خالص .. أنا عرفت أنا هشتغل إيه ..
نظر إليه كلا من حسن وفريد باستفهام فأعلن عمر بفخرٍ مفاجيء :
ـ هفتح توكيل عربيات .
رفع حسن كفه ليضرب به كف عمر وهو يقول :
ـ كفو يا حبيب أخوك .. عفارم عليك والله بيزنس عال العال .. ولا إيه رأيك يا كبير ؟
نظر إليه فريد بهدوء وتنهد مطولا ثم قال :
ـ معاك حق .. واحد هيفتح توكيل عربيات، والتاني عنده مزرعة خيول ، مش ناقصنا غير موقف تكاتك وبكده يكون لينا بصمة في جميع وسائل النقل القديمة والحديثة.
قهقه كلا من حسن وعمر بينما نظر إليه عمر وقال :
ـ طيب ممكن أعرف ليه حاسك معترض ؟!
بدأ فريد يشرح الأمر فقال :
ـ بصراحة أنا بشوف ان من الأفضل تشتغل فترة في مجال دراستك الأول، لأن ده اللي هيضمن لك وجود مصدر دخل ثابت تقدر تعتمد عليه فيما بعد في تمويل المشروع اللي تحبه ، بس يبقى إلى جانب شغلك في مجال دراستك.. ده من ناحية إنه أفضل ليك ، ومن ناحية تانية أفضل ليا أنا كمان .
نظر إليه عمر باستفهام فقال فريد :
ـ طبعا بعد اللي بيحصل معايا أنا بصراحة مبقيتش قادر أثق في حد.. يعني لما أخلص من شراكة جيرالد ميتهيأليش إني هعرف أدخل شريك مع حد غريب تاني أيًا كان هو مين ، وعليه .. قررت إني هأسس شركتي من تاني ومش هدخل معايا شركا تانيين.. بس كنت عايزكم معايا .
تبادل كلا من حسن وعمر النظرات المستفهمة، فبدأ فريد يشرح لهما قائلا :
ـ إنت يا حسن هتدخل معايا شريك كممول ، وهتاخد نسبة من الأرباح حسب نسبة مساهمتك، وانت يا عمر هتكون معايا في الإدارة والتشغيل.. إيه رأيكم ؟
برزت ابتسامة حسن الذي قال بترحيب:
ـ هي لسه فيها رأي ؟! موافقين طبعا ..
أومأ عمر موافقا كذلك وقال :
ـ أيوة موافقين .. طالما هنكون سوا مفيش مشكلة .
أومأ فريد بهدوء ثم قال مبتسما :
ـ على خيرة الله .. لما أخلص بس من الكام حاجة اللي شاغلين بالي هنبدأ بإذن الله نجهز للموضوع ده ..
ثم نظر إلى عمر وقال :
ـ و ياريت لو خلصت فطارك تروح تجيب زينب لأنها من هنا ورايح هتقعد مع نغم .. ده بعد إذنك طبعا يا حسن .
أومأ حسن بانفتاح وقال :
ـ مفيش مشكلة طبعا.. هنا وهنا واحد ..
هز فريد رأسه بموافقة ثم قال :
ـ عايزين كمان نتكلم معاها ونوصل لحل .. لازم الوالد سالم باشا يعترف بيها ويرد لها حقوقها في أقرب وقت .. اللي بيحصل ده ميرضيش ربنا أبدا .
أومأ كلا من عمر وحسن الذي قال :
ـ معاك حق .. خلينا بس نمشي خطوة خطوة.. نخلص من فرحك وبعدين كل حاجه هتتحل .
فتنهد فريد بحيرة ثم قال :
ـ بإذن الله.. ربنا يقدم اللي فيه الخير .
༺═────────────────═༻
صفّ عاصم سيارته مسرعًا، ثم اندفع إلى داخل المشفى، عينيه تبحثان بلا توقف عن أيمن. وفجأة، وقعت عيناه عليه، واقفًا متخصرًا، يذرع الممر ذهابًا وإيابًا بتوتر واضح. حثّ الخطى نحوه حتى وصل إليه وقال:
ـ في إيه يا أيمن ؟! الولد ماله ؟!
التفت إليه أيمن على الفور، وتنهد بضيق قبل أن يقول:
ـ مش عارفين لسه، لاتويا قالت إنه فجأة بقا لونه كله أزرق ومش بياخد نفسه كويس، الدكتور بيكشف عليه أهو وهيقوللنا.
توجهت أنظار عاصم نحو لاتويا، فرآها جالسة في زاويةٍ بعيدة، رأسها مطأطأ، وكأنها تخفي وجهها عن الجميع. تقدّم نحوها بخطواتٍ متسارعة، ووقف أمامها ثم سألها بالإنجليزية:
ـ لاتويا، ماذا حدث؟
رفعت نظرها إليه بخوفٍ واضح، وابتلعت ريقها بصعوبة، فشعر عاصم باضطرابها وإحساسها العميق بالذنب، مما جعله يتوتر أكثر، واتسعت عيناه قليلًا وهو يقول بتحفز:
ـ هل أنتِ السبب في ما حدث للطفل؟! تكلمي!!
هزت رأسها نافية، والدموع تتلألأ في عينيها وهي تقول:
ـ لا، أنا لست السبب.. لم أقصد ذلك أبدًا..
تجهم وجه عاصم بدهشةٍ واستنكار، لكن قبل أن يتمكن من طرح المزيد من الأسئلة، فُتح باب غرفة الطوارئ وخرج الطبيب بخطواتٍ مسرعة، فتوجه نحوه كلٌّ من عاصم وأيمن بلهفةٍ وقلق. قال عاصم:
ـ خير يا دكتور.. الولد ماله؟
نظر الطبيب خلفه حيث كانت لاتويا ما تزال جالسة في زاويتها، ثم تنهد وقال بهدوءٍ جاد:
ـ الحمد لله، عدّت على خير.. الطفل كان معرض للاختناق بشكلٍ كبير، لكننا سيطرنا على الوضع في الوقت المناسب. أثناء الفحص اتضح وجود حليب متجمع في أنفه، على ما يبدو إن الأم بعد ما رضعته سابته بدون ما تهتم بعملية التجشؤ، وده اللي تسبب في الاختناق.
ثم وجه نظره نحو لاتويا وقال بنبرةٍ حازمة:
ـ واضح إن الأم مش قادرة لسه تراعيه الرعاية الصحيحة. مين فيكم والد الطفل؟
تبادل عاصم وأيمن النظرات لثوانٍ قصيرة، قبل أن يسارع عاصم بالقول:
ـ أيمن هو أبوه.
اتسعت عينا أيمن بدهشةٍ خفيفة، لكنه تمالك نفسه سريعًا، وأجاب الطبيب بثباتٍ مصطنع:
ـ أيوة، أنا أبوه.
رمقه الطبيب بنظرةٍ فاحصةٍ تحمل شيئًا من الشك، ثم قال بنبرةٍ مهنية باردة:
ـ لازم تخلي بالك من الطفل كويس وتتابعه بانتظام، واضح إن الأم عندها نزعة إهمال أو على الأقل لسه مبتدئة ومحتاجة توجيه، فخلي بالك منه كويس لأنه لو قدر الله مكانش إتلحق كان ممكن يموت .
أومأ أيمن موافقًا بصمت، ثم غادر الطبيب تاركًا المكان، ليبقى الصمت الثقيل مسيطرًا بين أيمن وعاصم للحظاتٍ طويلة. وبعد أن حانت لحظة الانفجار، التفت أيمن دون كلمة، متجهًا نحو باب المشفى بخطواتٍ سريعة. أسرع عاصم خلفه، يناديه وهو يحاول استيقافه، لكن أيمن لم يتوقف إلا عندما بلغا المدخل، وهناك استدار نحوه بعينين مشتعلتين غضبًا وقال بحدة:
ـ عايز إيه يا عاصم ؟!
ـ في إيه يا أيمن مالك ؟!
ـ مالي ؟! الولد كان هيموت بسبب الهبلة اللي اسمها لاتويا اللي سايباه ومش سائله عنه .. الولد هيموت وهيبقى ذنبه في رقبتنا يا عاصم .
تنهد عاصم ثم قال :
ـ متكبرش الموضوع يا أيمن، ده وارد يحصل مع أي طفل يعني … وبعدين هي أكيد هتاخد بالها أكتر بعد اللي حصل ..
قاطعه أيمن بنفاذ صبر وهو يقول :
ـ بقولك ايه يا عاصم.. أنا خلاص من اللحظة دي بره عني الليلة دي كلها .
ـ نعم ؟! يعني إيه ؟!
ـ يعني لو الولد ده مراحش لأهله النهارده يا عاصم أنا بنفسي هروح وهقوللهم ..
وقف عاصم لوهلة، يحاول أن يجد موطئ قدم لتهدئة الموقف، وقال بهدوءٍ متكلف :
ـ أيمن ..
ولكن أيمن رد بصوت مشحون بمزيج من الغضب والندم:
ـ أيمن إيه وزفت إيه ؟! اسمعني يا عاصم أنا مشيت معاك
السكة دي من أول لحظة لحد النهارده علشان قلبي كان محروق على صاحب عمري وكنت عاوز أجيب حقه من اللي غدروا بيه بأي طريقة .. وافقتك في حكاية الدوا اللي بتديه لسالم الكلب ده لأنه يستاهل ، وافقتك في حكاية فضيحة الدار، وافقتك في موضوع عمر .. وافقتك إنك تاخد شركات فريد وكنت أنا الأداة اللي نفذت ده ..
وضحك ضحكة قصيرة مبتورة وهو يسخر من سذاجة ما فعل، ويقول :
ـ أنا حتى مش عارف أنا عملت كده إزاي .. ازاي قدرت أخدع شخص وثق فيا السنين دي كلها وكان بيعتبرني أخ ليه ؟! إزاي قدرت أدمر شخص مشوفتش منه غير كل خير ؟!!
رمقه عاصم بحدة وقال :
ـ بس أنا شفت يا أيمن .. فريد وعمر كانوا فين لما ستروا على أبوهم ووافقوه على اللي عمله ؟!
عاد أيمن يهتف بصوتٍ محمل بالمرارة، والإقرار بالذنب:
ـ فريد ملوش ذنب يا عاصم، ولا عمر له ذنب .. ولا الطفل اللي جوه ده له ذنب.. الذنب كله ذنب سالم وانت خلاص انتقمت منه ، ده انت ذليته وموتته بالبطيء، يا أخي يا ريتك كنت سجنته من يومها وخلصنا .. إنما انت عاوز كل حاجه يا عاصم ..
نظر إليه عاصم متفاجئا، فأومأ أيمن مؤكدا وقال :
ـ دي الحقيقة للأسف ، انت عايز تاخد تارك من سالم ، وتسجن السواق بتاعه، وتاخد شركات ابنه ، وتفضح ابنه التاني.. وتتجوز بنته لأنك حبيتها ، وده مش عدل أبدا .. اللي اعرفه إن التار ده بيتاخد مرة واحدة ومن شخص واحد، إنت بقا خدت تارك من كام حد وكام مرة لحد دلوقتي .. !!
وتنهد بإرهاق ونفاذ صبر، ثم قال وقد خط بلسانه حكمًا قاطعًا :
ـ أنا خلاص مش معاك في أي حاجه تانية ، الموضوع بقا واخد منحنى تاني خالص غير اللي احنا عايزينه، ذنبه إيه طفل زي ده أصلا يدخل في دايرة انتقامك ؟ أنا أصلا غلطان إني وافقتك على الهبل ده كله ..
زفر عاصم بضيق، وقال وهو يحاول تهدئته :
ـ طيب اهدى وخلينا نتكلم .
لكن أيمن كان قد بلغ قناعةً نهائيةً، لا يقبل الوساطة، ولا يريد تبريراتٍ أخرى:
ـ مش ههدى ومش هنتكلم يا عاصم .. الولد ده مش هيستنى مع لاتويا ليلة واحدة تانية .. حكاية إنك تستنى ليوم فرح فريد علشان تعمل دربكة وتبوظ الدنيا أنا مش معاك فيها، ومش هسمح لك تعرض الولد للخطر تاني علشان أي هدف في دماغك ، النهارده لازم ابنهم يروح لهم وكفاية أوي كده .. كفاية أصلا صدمتهم لما يعرفوا إن ليهم ابن من واحدة زي دي.. ده سالم مش بعيد يموت فيها !
دارت في رأس عاصم دوائرُ التفكير، وتباينت داخله أمواجُ الشك والتخطيط، بينما أيمن قد حسم أمره بقولٍ لا رجعة فيه: :
ـ النهارده يا عاصم تخلص الحوار ده كله .. ويا ريت كفاية أوي لحد كده .. تارك انت أخدته بما فيه الكفاية، أعتقد الحاجة الوحيدة اللي لازم تشغل نفسك بيها من هنا ورايح هو رد فعل نسيم لما تعرف انك ورا كل مصيبة بتحصل لعيلتها .
وتركه أيمن واستقل سيارته ، وانطلق بها مسرعا، بينما تراجع عاصم مضطرا إلى الداخل، لكي يصطحب لاتويا وطفلها و يغادران المستشفى .
༺═────────────────═༻
مساءا ..
توجه كلا من فريد وعمر وحسن سويًا، يهدفون لشراء وحدتين سكنيتين، واحدة لكل من عمر وحسن، بعد أن اتفقوا مسبقاً على أن يكونوا قريبين من بعضهم داخل الكومباوند.
عند وصولهم، استقبلهم مسؤول المبيعات بابتسامة رسمية، وبدأ يرافقهم في الجولة بين الوحدات المتاحة، مع تقديم تفاصيل عن المساحات والمرافق وأسعار الوحدات.
كان فريد متأنياً في النظر لكل زاوية، يلمس الأثاث ويتفقد التشطيبات، بينما عمر كانت عيناه تبحثان عن مساحات واسعة، أما حسن فكان أكثر استرخاءً، يخطط في ذهنه لمكان مفتوح يسمح له بالاسترخاء والاستمتاع بالمناظر المحيطة .
وبعد نصف ساعة من المقارنة، استقروا على وحدتين، ثم توجهوا بعدها إلى مكتب البيع، حيث جلست لجنة المبيعات لإتمام الإجراءات، وبدأ الحديث عن التعاقد والدفع.
رحب بهم المسؤول ثم قال مبتسماً:
ـ الدفع ممكن يتم نقدي أو عن طريق التحويل البنكي المباشر، أو الكروت البنكية.. كل طرق الدفع متاحة .
ابتسم فريد وأشار إلى عمر الذي أخرج بطاقته البنكية، فبدأت عملية الدفع، ولكن، عند محاولة البنك تأكيد الدفع، جاءهم الرد مفاجئاً حيث نظر إليهم المسؤول وقال:
ـ مش نافع ..
تجمدت أنفاس عمر، وارتجف قليلاً، بينما نظر إليه فريد وحسن بدهشة:
ـ مش نافع إزاي ؟!!
رفع وجهه إليه وهو يقول موضحاً بحذر:
ـ الكارت ده باسمك لكنه مرتبط بحساب الوالد مش كده ؟!
نظر عمر إلى أخويه وكأنه يستغيث بهما، ثم نظر إلى الآخر وقال :
ـ بالظبط .. لكن عامل لي تفويض !
أومأ متفهمّا، ونظر إليه وهو يهز رأسه بأسف ويقول :
ـ للأسف، التفويض اتلغى .
ـ نعم ؟!!
قالها عمر بصدمة وغير تصديق، فزفر الآخر بعجز وقال :
ـ التفويض اتلغى من قِبل صاحب الحساب .. اللي هو والدك .
جلس عمر متكئاً على المكتب، محاولا السيطرة على صدمته، بينما كانت ملامحه توحي بمزيج من الغضب والاندهاش، بينما نظر إليه فريد وهو يقول :
ـ طيب، إيه الحل دلوقتي؟
ـ الحل إما الدفع يكون نقدي أو من حساب حد من حضراتكم .
أومأ فريد وهو يسحب بطاقته البنكية من جزدانه، ويمررها إلى الموظف، بينما نظر إليه عمر وسط تيهه وهو يقول محاولا منعه :
ـ إنت هتعمل إيه ؟!
أشار إليه فريد ليصمت، وقال :
ـ هنتكلم بعدين .
بينما كان الموظف يستكمل إجراءات البيع بدقة ويؤكد صحة عملية الشراء، ثم أعاد البطاقة إلى فريد. في حين بدأ حسن مباشرة في إتمام عملية الدفع الخاصة به. بعد ذلك، شرعوا جميعًا في توقيع العقود وتسلم مفاتيح الوحدات، حتى أنهوا الإجراءات بالكامل وغادروا المكتب حاملين أوراقهم ومفاتيح وحداتهم الجديدة.
ـ هو إيه اللي حصل بالظبط ؟! يعني إيه التفويض اتلغى ؟!
قالها عمر وهو ينظر إلى كلا من فريد وحسن الذي قال :
ـ مش عارف بصراحة .. ما تقوللنا إيه الحكاية يا فريد ؟
تنهد فريد بأسى وهو يمرر يده على جسر أنفه بإرهاق واضح، ويقول :
ـ ـ واضح إن التفويض اتلغى فجأة، ومفيش أي طريقة للتعامل بالكارت اللي مع عمر دلوقتي… لازم نراجع البنك ونتأكد إيه السبب بالظبط.
وبالفعل.. أجرى فريد الاتصال بالبنك، وكان التوتر يعتريه مع كل لحظة تمر. استقبل الموظف المكالمة بصوت رسمي، واستمع إلى المشكلة بالتفصيل، ثم طلب منه التحقق من هويته قبل الشروع في أي إجراء يتعلق بالحساب والتفويض. فبدأ فريد يمرر البيانات الخاصة بعمر للموظف.
وبجانبه، وقف عمر وحسن، كل منهما يراقب الموقف بقلق، يتلهف لمعرفة ما سيحدث، فإذ بهما يلاحظان ملامح فريد التي انقبضت بطريقة أوضحت لهما مدى ضيقه، وما إن أنهى الاتصال مع موظف البنك حتى تسائلا بقلق :
ـ قال لك إيه ؟!
تنهد فريد وهو ينظر إليهما بقلة حيلة ، ثم قال :
ـ قاللي ان التفويض اتلغى بتاريخ أول امبارح .. وبالتالي أي محاولة سحب أو شرا بالكارت هتفشل ..
نظر إليه عمر وتساءل رغم كونه يعرف الإجابة :
ـ ومين اللي لغى التفويض ؟!!
طالعه فريد بأسى وقال بهدوء :
ـ صاحب الحساب .. سالم مرسال.
هز عمر رأسه في لحظة إدراك وأخذت ابتسامته تتسع شيئا فشيئا وهو يهز رأسه ويتحرك بعصبية مفرطة وهو يسترجع تلميحات والده بالأمس وهو يقول :
ـ أه .. عشان كده كان بيقوللي إني شلت من عليه ذنب لما قولتله اني مبقيتش محتاج له .
زفر فريد بضيق، فهو أكثر من يعرف ردود فعل والده وكيف يكون رده الرادع السريع على كل موقف ، ونظر إلى عمر وقال :
ـ و إيه اللي خلاك تقول له كده بس يا عمر .. ما انت عارف إنه بيتلكك أصلا علشان يعمل أي حاجه يحرق دمنا بيها .
التمعت عينا عمر بغضب شديد ، واندفع على الفور نحو السيارة وفتح الباب، ولكن فريد وحسن استوقفاه، وقال فريد :
ـ إنت رايح فين .. ؟!
ـ رايح له .. يا أنا يا هو النهارده .
زفر فريد بنفاذ صبر وقال :
ـ تعالى بس واهدى كده وخلينا نفكر بالعقل .
ـ مفيهاش عقل دي يا فريد .. أنا مش لعبة في ايديه عشان يبيع ويشتري فيا كده ..
هنا اقترح حسن :
ـ طيب خلينا نيجي معاك .. بلاش تروح لوحدك .
أومأ فريد مؤكدا وقال :
ـ حسن معاه حق ..
واتجه صوب مقعد القيادة ، استقل مكانه خلف المقود، وإلى جواره جلس حسن، وبالمقعد الخلفي جلس عمر الذي كان يحدث نفسه طوال الطريق حتى كاد أن يلتهم الجنون رأسه .
༺═────────────────═༻
بعد قليل ..
كان سالم يجلس في الحديقة ، وأمامه يجلس نادر، يتجاذبان أطراف الحديث بهدوء، وأذ بهما يتفاجئان بإسقاطٍ جوي مثير للرهبة ..
حيث دخل ثلاثتهم، فريد، حسن وعمر يشقون الخطى نحو الداخل وفي أعينهم يلتمع الشر ..
نظر إليهم سالم وفي داخله أحس بالفخر وهو يراهم يقبلون عليه بتلك الهيئة، ولا إراديا ارتفع وجهه نحو شرفة غرفة نادية فوجدها كما توقع، تقف وعيناها مثبتة على أولاده الثلاثة مما أشعره بالفخر وجعل صدره ينتفخ زهوًا ، قبل أن يبادر عمر قائلا باندفاع وهو ينظر إلى نادر:
ـ طبعا أُس المصايب لازم يكون حاضر ، ماهو مفيش حاجه بتتم غير عن طريقك .
نظر إليه والده بحدة وقال :
ـ في إيه يا واد انت داخل بصدرك علينا كده ليه ؟!
بينما رمقه عمر بتحفز غاضبا وقال :
ـ أنا مش واد ..
أومأ سالم وهو يريح ظهره لمقعد كرسيه وهو يقول بابتسامة ساخرة:
ـ في إيه يا عمو عمر ؟! حلو كده ؟!
.ـ لأ مش حلو .. ممكن أفهم تقصد ايه باللي عملته ده ؟
نظر إليه والده بمنتهى اللامبالاة وقال:
ـ إيه هو بالظبط ؟!
ـ انت لغيت التفويض اللي كنت عاملهولي ؟!!
أومأ سالم ببساطة وقال :
ـ آه .. بما إنك اكتشفت إن التفويض اتلغى يبقا أكيد كنت رايح تصرف فلوس في الهلس زي كل مرة واتفاجئت ان اليغمة خلصت خلاص .. مش كده ؟
حاول عمر ضبط نفسه بصعوبه، وتنهد وهو يمسح على وجهه بعصبية ويقول :
ـ ممكن اعرف معناه ايه الكلام ده ؟!
ـ معناه واضح .. خلاص مفيش فلوس تاني، الحنفية اتقفلت .
ـ بس ده مش من حقك ..
ليجيبه والده بانفعال مماثل :
ـ مش من حقي ؟! ليه هي الفلوس دي فلوس مين ؟! مش فلوسي أنا وأنا اللي سايبك بقالي سنين تصرف وتتمتع بخيري وتبعزق في الفلوس شمال ويمين على كيفك ولا كأنه مال سايب ..
ـ بس ده حقي .. الفلوس دي أنا ليا حق فيها ..
ـ ياخي جتك كسر حُقك .. انت ليك عين تتكلم يالا انت ؟! عشر سنين وانت واكل شارب نايم بتلبس وتغير عربيتك كل سنة وتضيع فلوس شمال ويمين على البنات والنسوان الشمال اللي شبهك ولا كأنك بتاكل في أتة محلولة .. لا شفتك عملت لك مشروع زي اخواتك، ولا فكرت حتى تشتري لك بيت تتهبب فيه ، عايش لنفسك ولمزاجك وبس .. وجاي دلوقتي تقوللي حقي ؟!
استشاط عمر غضبا ورفع سبابته في وجهه وهو يقول :
ـ أنا مش هسكت .. أقسم بالله ما هسكت ..
ـ عنك ما سكت .. اجري يا حيلة ماما اقعد في حضنها وعيط يمكن تعطف عليك بقرشين .. ماهو انت متعود تعيش عالة على قفا اللي حواليك .. وهتفضل كده طول عمرك .
هنا نفذ صبر فريد الذي قرر أنه لن يلتزم الصمت أكثر من ذلك، وقال :
ـ بعد اذنك يا ريت الحوار يكون أرقى من كده .. احنا مبقيناش عيال صغيرة علشان تكلمنا بالأسلوب ده .. ده أولا
هنا حدجه والده بسخط وهو يقول :
ـ انت كمان جاي تعلمني الحوار يكون ازاي يا سي فريد ؟
بينما تابع فريد من حيث توقف، غير عابئًا برد فعل والده وقال:
ـ ثانيا بقا وده الأهم .. كان المفروض على الأقل تبلغه بحاجة زي كده .. بدل ما يتفاجئ ويتحط في موقف محرج بالشكل ده .
ولكن سالم، قد ثارت ثائرته حينها، وانتفض في مكانه وهو يقول بغضب :
ـ هو أنا هاخد منكم الاذن ولا إيه ؟! أنا أعمل اللي يعجبني وقت ما يعجبني ومحدش له يقوللي أعمل إيه ومعملش ايه .. وبعدين إنت آخر واحد تتكلم .
نظر إليه فريد بتعجب وقال :
ـ أنا ؟!!
ـ أيوة انت .. مانا سيبتهولك تربيه بمعرفتك وتعلمه الصح من الغلط وأديك فشلت وطلع من تحت ايديك صايع وفاشل وملوش لزمة .. يبقى تسيبهولي بقا أربيه بمعرفتي من أول وجديد .. علشان يعرف قيمة النعيم اللي كان عايش فيه بدون حساب ويعرف إن الله حق .
ابتسم فريد ابتسامة ساخرة ، سرعان ما تحولت إلى ضحكة كاملة غلب عليها الحزن وقلة الحيلة وهو يقول :
ـ كالعادة أنا الغلطان والمذنب .. لكن ده مش موضوعنا ، أنا خلاص استكفيت من الكلام ده ومبقاش يهمني ، اللي يهمني دلوقتي إنك ترجع لعمر فلوسه لأنه ناوي يعمل مشروع ويشتري بيت .
ـ كان في وخلص .. خلاص كل سنه وانتوا طيبين .. مفيش فلوس لا دلوقتي ولا بعدين !
أخذ ثلاثتهم يتناقلون النظرات المرتابة، بينما تساءل فريد بحيرة:
ـ يعني إيه ؟!
ـ يعني مفيش فلوس لا حي ولا ميت .. حتى بعد ما أموت مش هتعرفوا تاخدوا من ورايا جنيه .. وفلوسي دي كلها هكتبها للشخص اللي أنا عايزُه ومقتنع بيه فقط لا غير .
هنا شعر عمر وكأنه على وشك أن يفقد عقله، وصرخ في وجهه بحدة وهو يقول :
ـ أهو ده اللي ناقص .. لااا بجد انت زودتها أوي .. أنا هرفع عليك قضية حجر … !!!!
ساد صمتٍ قاتم، صمت جمد كل شيء حولهم، حتى الهواء الذي كان يتنقل بينهم أصبح ثقيلا ومضغوطًا ..
عندما وصل صدى كلمات عمر إلى أذني والده تجمد في مكانه للحظة، وارتفع حاجباه بدهشة وغضب، فتشكل على وجهه مزيج من الاستهزاء والتوتر والخزي، وكأن هذه الكلمات طعنته في مقتل لكنه رفض أن تظهر عليه علامة الارتباك الواضحة.
أمسك بمقعده بقوة، وزفر ببطء، وعيناه تتنقل بين عمر وفريد وكأنما يحاول استيعاب مدى جدية التهديد، بينما قلبه يخفق بسرعة، وهو يطالع عمر الذي بدا وكأنه مقاتل يقف في ساحة حرب دون أن يخشى شيء .
اقترب فريد خطوة من عمر وهمس إليه ليتراجع وقال :
ـ ميصحش كده يا عمر .. خلينا نمشي يلا من هنا ..
ولكن عمر انتفض وثار، فانتزع ذراعه من قبضة أخيه وهو يقول :
ـ لأ مش همشي قبل ما …..
ولكن.. شيئا ما جعله يبتلع كلماته، جعل أنفاسه تنحشر في صدره وهو يرى تلك الشقراء وقد اخترقت حدود الڤيلا وأصبحت أمامه ، تحمل طفلا بين ذراعيها وبجوارها رجلا طويل القامة .. يتقدمان نحوهما بهدوء يسلب الأنفاس..
مما جعل جميع الأنظار التي كانت موجهة نحو عمر تتجه حيث ينظر هو بتركيز، وما إن وقعت عينا فريد عليها حتى تذكرها على الفور، فالتفت تلقائيًا نحو عمر ليجده ينظر إليها في ذهولٍ تام.
فجأة، ظهر الشخص المرافق للاتويا، وجذب انتباه الجميع بصوته الواضح والوقور:
ـ مساء الخير جميعًا.
عم الصمت في المكان، واشتدت النظرات تجاهه، فيما حاول الكل استيعاب حضور هذا الغريب الذي بدا عليه الثقة والسيطرة.
تابع الرجل بجدية:
ـ أنا محامي منتدب من السفارة الإسبانية، ومكلَّف بمرافقة السيدة لاتويا.
أومأ فريد بهدوء وهو يقول :
ـ أهلا وسهلا .. اتفضل .. ؟
فتابع المحامي بهدوء وهو ينقل بصره بين الجميع بثقة، إلى أن توقفت عيناه عند عمر الذي ابتلع ريقه في وجل ، وقال :
ـ لقد أرسلتني السفارة لتبليغكم أن هذه السيدة هي والدة ابنكم، وأنها ترغب في أن يتم الاعتراف بهذا الحق، وأن يُعامل الطفل باعتباره حفيد العائلة وفق ما يقتضيه القانون .
صُعق الجميع للحظة، وكانت الدهشة تعلو وجوههم، بينما شعر عمر بتوتر شديد جعل حبات العرق تتكون فوق جبينه لا إراديا، وعينه لم تفارق المحامي ولا لاتويا، انزلق ريقه بخوف وهو ينظر إليها ويهز رأسه مستفهما.. بينما هي تنظر أمامها بثبات .
أما سالم، فقد انقبض قلبه بشدة عند سماع هذه الكلمات، وكأن الهواء قد سُحب من حوله للحظة
بينما بدا على فريد علامات المفاجأة والارتباك، لكنه حاول أن يحافظ على هدوئه الظاهري وهو يقول بحدة :
ـ حفيد مين بالظبط ؟! وابن مين ؟! انت بتقول إيه ؟!
نظر إليه المحامي بهدوء، وقال :
ـ حفيد عائلة مرسال ، ووالده الأستاذ عمر !!!
༺═───────────────═༻
#يتبع
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق