رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الحادي وخمسون 51بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الحادي وخمسون 51بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
٥١ ـ~ شعور بالغ التعقيد ~
ـ حفيد عائلة مرسال… ووالده الأستاذ عمر !!
تباطأ الزمن للحظة عندما تلفّظ المحامي بتلك الكلمات التي لم ترتِضها أذن عمر الذي أخذ يحدق فيه مذهولا، حيث ارتسمت الدهشة على وجهه وهو ينظر إلى لاتويا التي قابلته بثباتٍ غريب، فيما بقي هو يحدق فيها وفي الطفل على يديها بعينين متسعتين وكأنه يرى شيئًا لا يصدق، ثم انفجرت منه ضحكة مفاجئة - ضحكة حائرة لا تُخفي استنكارًا داخليّا، وكأنها آلية دفاع أمام ذلك الخبر العابث الذي لا يمكن أن يمُت للحقيقة بِصلة .
لم يفهم إن كان ما يسمعه حقيقة أم مزحة ثقيلة، ثم ارتسم على وجهه خليط من السخرية والذهول والرفض، كمن يبحث عن مهرب وسط صدمة لا تُحتمل.
ـ والده الأستاذ عمر مين؟! أنا؟!
قالها وهو يشير إلى نفسه بدهشة واستنكار، فهزّ المحامي رأسه إيجابًا بثقة:
ـ أيوة، أنت.
لم يصدق أذنيه، فرفع صوته بانفعال:
ـ أيوة إيه؟! أنا مش والد حد! إنتوا مجانين ولا إيه؟!
أدار رأسه نحو فريد كأنه يبحث عن عقلٍ وسط هذا الجنون، لكن الأخير كان واقفًا بثبات، يداه معقودتان خلف ظهره، وملامحه جامدة لا تفصح عن شيء، عيناه تتنقلان بين لاتويا والطفل بتمعنٍ، وكأنه يحاول أن يقرأ وجوههم ..
قال عمر بسرعة وهو يشير نحوه بعصبية وكأنه يستغيث به :
ـ فريد! بيقولك أنا والد الطفل! إيه العبط ده!
لكن قبل أن ينبس فريد بكلمة، جاء صوت سالم قاطعًا الموقف كله، جهوريًّا حادًا، يحمل غضبًا مكتومًا:
ـ إيه الكلام الفارغ ده يا أستاذ؟! إنتوا جايين ترموا بلا علينا كده وخلاص؟!
رفع المحامي بصره نحو سالم محاولًا التماسك، لكن فريد تدخّل بهدوءٍ مغاير، صوته كان منخفضًا لكنه يحمل صرامة واضحة، وأشار برأسه نحو الطفل وقال ببطءٍ محسوب:
ـ قبل أي كلام ممكن نفهم على أي أساس بتقول إن الطفل ده ابن عمر؟
تقدّم المحامي خطوة صغيرة للأمام، أخرج من حقيبته ملفًا بني اللون، وقال بنبرة رسمية جافة:
ـ بناءً على المستندات اللي معايا، السيدة لاتويا مارتينيز تقدّمت من خلال السفارة الإسبانية ببلاغ رسمي، بتفيد فيه إن الطفل ده نِتاج علاقة غير شرعية بينها وبين الأستاذ عمر مرسال أثناء وجوده في مدريد من عشر شهور تقريبا ..
سرت همهمة خفيفة بين الواقفين، بينما اتسعت عينا عمر في ذهولٍ أشدّ، وقال بصوت مرتفع يقطعه الغضب:
ـ كدابة !! أنا لا أعرفها ولا عمري شفتها أصلا والولد ده مش ابني ومليش علاقة بيه .
حينها، كانت نادية قد ظهرت في الأرجاء حيث غادرت غرفتها مسرعةً فور أن سمعت الحديث الذي يتناقلونه، وركضت نحو عمر ركضًا، وهي تقول :
ـ إيه التخريف ده، إزاي ده ابنه يعني ؟! مستحيل .. أكيد الانسانة دي عايزة منه فلوس علشان كده بترمي بلاها على ابني ..
واقتربت من عمر، أمسكت بيده بينما هو بدا كمن يتشبث بأي شخص يطمئنه، فأمسك بيديها وهو يقول:
ـ معاكي حق يا ماما .. هو كده فعلا ..
ونظر إلى لاتويا وهتف غاضبًا بالأسبانية :
Sé perfectamente que creas problemas para conseguir dinero, pero nunca lo permitiré.
( أعلم جيدًا أنكِ تفتعلين المشاكل من أجل الحصول على المال، ولكنني لن أسمح بذلك أبدًا )
لكن لاتويا لم تتحرك، نظرتها ظلت ثابتة عليه، لا تحمل ضعفًا ولا ترددًا، فقط هدوء بارد ومُبهم.. في حين نظر إليه المحامي وقال بهدوء وهو يخرج من حقيبته قرصًا مدمجًا صغيرًا، يرفعه أمام الجميع بثباتٍ تام:
ـ للأسف يا أستاذ عمر، الدليل اللي استندت له السيدة لاتويا دليل قوي ومادي… مقطع فيديو موثق بتاريخ اليوم اللي حضرتك كنت متواجد فيه هناك، وبيُظهر بوضوح حدوث علاقة بينكما.. ولو حضراتكم مش مقتنعين ممكن تشوفوه بنفسكم وتتأكدوا ..
هنا اندفع حسن نحوه وهو يلتقط منه القرص ويقول :
ـ نشوف إيه يا عم انت كمان استهدى بالله بس كده.. أكيد في حاجة غلط !
ونظر إلى لاتويا، ثم إلى الطفل الذي كانت تحمله بين ذراعيها، والذي بدت ملامحه الصغيرة نسخة طبق الأصل من عمر مما لا يدع مجالا للشك أو الالتباس، ثم قال :
ـ مليون في المية في حاجة غلط .. !
هنا تقدّم نادر بخطوة للأمام، وقال بهدوءٍ محسوب:
ـ أنا محامي العيلة، ممكن نشوف المستندات؟
ناولها المحامي له دون تردد، فأخذ نادر الملف وبدأ يتصفحه بسرعة، يقرأ التواريخ، الأختام، توقيع السفارة .. ثم نظر إلى سالم الذي ينتظر رده وقال :
ـ للأسف الأوراق فعلا سليمة ..
وفجأة، مدّ فريد يده وانتزع المستندات من بين يدي نادر بعصبيةٍ واضحة، أخذ يتفحصها بعينين مضطربتين، يعيد القراءة مرة بعد أخرى، وكأنه يبحث عن سطرٍ ينفي ما أمامه. ثم رفع نظره نحو أخيه، تنهد بعمق، وهز رأسه ببطء في صمتٍ ثقيل، وكأن تلك الإيماءة وحدها كانت كافية لتقول لعمر ما عجز اللسان عن قوله.
أما عمر فبدا وكأن الصدمة ضربته مجددًا، اقترب منه وخطف الورقة من يده بعنف، حدّق فيها بتركيز، ثم صرخ غاضبًا:
ـ تزوير! دي أوراق مزورة أكيد .. !
سادت لحظة صمتٍ ثقيلة، كان فريد أول من كسرها حين قال بجدية:
ـ لازم تحليل DNA.
ـ تحليل إيه إنت هتعوم على عومهم ؟! بقوللك مستحيل يكون الكلام ده صحيح .. كله من الـ**** دي أنا متأكد إنها جايه ترمي بلاها عليا عايزة تطلع من ورايا بأي مصلحة وخلاص ..
ألقى كلماته وهو يندفع نحو لاتويا بغضب، رافعًا يده ينوي ضربها، ولكن فريد وحسن كانا من قطعا طريقه قبل الوصول إليها، فهتف به فريد بعصبية وهو يدفعه للوراء بقوةٍ غاضبة ويقول:
ـ انت اتجننت ولا إيه ؟! انت هتضربها كمان ؟!
ـ دي واحدة …
عاجله فريد قبل أن يسبّها مجددّا وصاح فيه غاضبّا بانفعال :
ـ انت تخرس خالص وتحط لسانك جوه بؤك .. انت فاهم !!!
ردّ عمر بعصبية :
ـ لأ مش هخرس .. دي جاية تلبسني مصيبة ، بتقوللك ابني ؟! ابني ازاي ومنين ؟! دي هي مرة أصلا اللي شفت وش أمها فيها ! وبعدين أنا إيه اللي يخليني أصدق انه ابني ، أكيد جايباه من أي مصيبة ولا خاطفاه من حد وجايه تلبسني فيه ..
حينها هتف نادر قائلا :
ـ متخافش .. هنعمل تحليل في أكتر من مكان ونشوف..
هزّ سالم رأسه موافقًا بحدة، ثم التفت إلى المحامي وقال:
ـ بالظبط، نعمل التحليل في أكتر من معمل معتمد ونشوف النتيجة… لكن لو طلع الكلام ده كذب، هرفع عليكم قضية تشهير وهطالبكم بتعويض، ومش هرحم حد .
أومأ المحامي بثقة وثبات، ونظر إلى عمر قائلا:
ـ طبعا ده حقكم .. يا ريت بقا دلوقتي يتفضل الأستاذ عمر ويحدد هو عايز يعمل التحليل فين علشان ننهي الإجراءات بسرعة .
حينها نظر سالم إلى نادر وقال :
ـ شوف انت الموضوع ده يا نادر.. عايزك تختار مكان موثوق فيه مهما كانت التكلفة .
أومأ نادر مؤكدًا وهو يقول :
ـ متقلقش يا باشا .
ونهض وهو ينظر إلى عمر ليتقدمه، ومن ثم ذهبت لاتويا رفقة محاميها الخاص، بينما تحرك كلا من فريد وحسن ليذهبا رفقة أخيهم .
بينما ظل سالم جالسًا في مكانه ويداه تتمسكان بالمقعد بتوتر، فإذ به يرى نادية والتي بدا عليها الانهيار تماما، تتهاوى على أقرب مقعد وهي في حالة صدمة واستنكار، وتقول :
ـ مش ممكن، أكيد البنت دي كدابة، مستحيل يكون عمر عنده ابن منها .
حينها طالعها سالم بحنقٍ فائض وهو يقول متهكمًا :
ـ مستحيل ليه ؟! ابنك راجل بالغ مش عيل لسه بتديله الرضعة ..
نظرت إليه بعصبية، وصرخت فيه بغضب :
ـ ممكن أعرف إيه سر البرود ده والهدوء اللي نازل عليك ؟! اللي يشوفك يقول انك فرحان ولا هامّك .. !
نظر سالم أمامه بهدوء، وقال :
ـ عايزاني أعمل إيه يعني ؟! أعمل عزا ولا أفضل أصرخ وألطم ؟! لسه يومين على ما تبان النتيجة أكيد مش هفضل شايل الهم لحد ما تظهر، وبعدين احتمال كبير ميطلعش ابنه .. خلينا نصبر ونشوف .
ـ ده اكيد مش احتمال يا سالم، أنا ابني لا يمكن يكون عنده ابن من الحقيرة دي .. !
رمقها سالم بنظرة جانبية باردة، ثم أدار وجهه عنها ببطء وهو يشبك أصابعه تحت ذقنه متأمّلًا، وقال بنبرة هادئة تخفي وراءها الكثير:
ـ خلينا نستنى النتيجة، وبلاش نسبق الأحداث.
انحنت نادية للأمام، تسند جبهتها إلى كفّيها في انفعالٍ واضح، ثم رفعت رأسها نحوه فجأة، عيناها تلمعان بالغضب والمرارة وهي تقول بصوتٍ يرتجف:
ـ عاوز تحرم ابني من الميراث يا سالم ؟! يعني مش مكفيك الظلم اللي داقوه على إيديك طول العمر، عاوز تظلمهم بعد موتك كمان ؟!
ظلّ سالم صامتًا لوهلة، لم يتحرك فيه شيء سوى أصابعه التي راحت تنقر بخفة على ذقنه، ثم زفر ببطء دون أن ينظر إليها، وقال بنبرة باردة خالية من أي انفعال:
ـ أيّ ظلم؟! أنا مظلمتش حد يا نادية هانم، ابنك اللي مايل ومش فالح في حاجة، لو كان بيفهم كان يأمن مستقبله زي اخواته، لكنه كان مفكر إنه هيعيش في عز ونعيم بدون حساب طول العمر، علشان كده كان لازم يعرف قيمة العز اللي كان عايش فيه .
ثم التفت إليها أخيرًا، نظرته جامدة كأنها حجر، وصوته انخفض لكنه ازداد قسوة:
ـ وبعدين متنسيش إن اللي بيحصل دلوقتي نتيجة دلعك الماسخ ليه، لو كنتي ربيتيه وطلعتيه راجل مظبوط مكانش يبقا ده حالنا، كل واحد فيكم لازم يدفع تمن اللي عمله، خلاص مفيش حاجه هتمر بدون حساب تاني .
طالعته بنفاذ صبر ، ثم تساءلت بمرارة :
ـ طول عمرك شاطر أوي في رمي بلاك على غيرك يا سالم، طول عمرك بتعرف تجيب اللوم على اللي حواليك وتتهمهم بالتقصير في اللي انت فشلت فيه .. محتار تلومني ولا تلوم فريد إننا السبب في اللي وصل له عمر دلوقتي.. ونسيت إن ده كان واجبك إنت أكتر من أي حد، لو عمر طالع فاشل وضايع فانت السبب ، انت اللي عمرك ما حاولت تعامله كأب وابنه أصلا، دايما تقل منه، وتسخر منه، وتتريق عليه، دايما شايف إنه أقل من فريد ولازم يفضل تابع ليه لحد ما خليت الفكرة دي اترسخت في عقله فعلا ومبقاش بيحاول يبني شهصية مستقلة لنفسه، لو عمر طالع فاشل وضايع فده لإنك أبوه يا سالم، أنا قلتها لك قبل كده وهقولهالك تاني… من شابه أباه فما ظالم .
وأشاحت بوجهها في ألم، بينما هو أعاد نظره إلى الفراغ أمامه، ملامحه جامدة كأنها قناع، لا يدل على شيء سوى صقيعٍ داخليٍ يزداد سمكًا كلما اقتربت منه.
أخذت كلماتها تتردد داخله كطعَناتٍ باردة، تصيب كل موضعٍ حاول أن يخفيه خلف قسوة صمته وثبات ملامحه. لم يتحرك، لم يرد، فقط ظلّ جالسًا في مكانه، عيناه معلقتان في البعيد، كأنما يحاول الهروب من صدى صوتها الذي ما زال يخترق أعماقه بلا رحمة.
بدا وكأنه يرى شيئًا من ماضيه يُعاد أمامه بنفس التفاصيل. أحسّ فجأة أن كل الجروح القديمة التي ظنّها اندملت قد انفتحت مرة أخرى، وكأن القدر يعيد نفسه فقط ليؤكد له أن لا أحد بمنأى عن السقوط، ولا أحد أفضل من أحد.
تصلبت أنامله فوق بعضهما، وانقبض فكه دون أن ينبس بكلمة، لكن شيئًا في عينيه كان قد انكسر — لمعة خافتة من وجعٍ قديم، حاول أن يخفيها بابتسامة باهتة سرعان ما تلاشت قبل أن تكتمل… وظل على حاله، ملامحه كتمثالٍ من حجر، لكن قلبه كان يئنّ في الداخل، لا يعترف… ولا يجرؤ أن ينهار.
༺═────────────────═༻
جلس عمر على المقعد المعدني أمام الممرضة، يمدّ ذراعه في صمتٍ بينما تُجهّز هي الإبرة، ووجهه بلا ملامح تقريبًا؛ لا خوف، لا توتر، فقط فراغ مُطبق كأنّه سلّم نفسه للقدر.
كانت عيناه معلّقتين بنقطة على الأرض، لا ينظر لأحد، وكأنه غائب عن المشهد، جسدٌ حاضر وروحٌ تائهة في مكانٍ آخر.
حين انغرست الإبرة في وريده، لم يتحرك، ولم تصدر عنه أدنى أنّة، بالرغم من أنه كان دائمًا يذوب رعبًا لمجرّد رؤية الإبر.
لكن في تلك اللحظة، كان شاردًا إلى حدٍّ أفقده الإحساس بكل شيء، غارقًا في خوفٍ أكبر من الألم ذاته؛ خوفٍ مما ستقوله النتيجة، لا مما تفعله الإبرة.
في الجهة المقابلة من القاعة الزجاجية، وقف حسن وفريد يتبادلان النظرات أكثر مما يتبادلان الكلام.
كان حسن يسير جيئةً وذهابًا، يطوي ذراعيه تارة ويفرك كفّيه تارةً أخرى، وعيناه تتابعان المشهد من خلف الزجاج بتوترٍ مكشوف.
أما فريد فكان أكثر صمتًا، يقف إلى جواره ويده في جيبه، لكنه بدا مضطربًا من الداخل رغم ثبات ملامحه.
قال حسن أخيرًا بصوتٍ خافت:
ــ تفتكر ممكن يطلع الواد ده ابنه فعلا ؟
أجابه فريد وهو يتنهد ببطء:
ــ للأسف دي حقيقة مفيش منها مفر .
نظر إليه حسن بتعجب، وتوقف أمامه يتساءل في استنكار :
ـ إنت جايب الثقة دي منين ؟! دي واحدة شمال وأكيد مقضياها مع كل واحد شوية، إيه اللي مأكد لك بقا إن الواد ده ابن عمر وانها مش جايه ترمي بلاها عليه ؟
زفر فريد زفرة مطولة، ثم نظر إليه بتمهل وقال :
ـ يعني إزاي واحدة جاية وجايبة معاها محامي منتدب من السفارة، وأوراق ومستندات، وجاية تواجه عيلة بحجم عيلتنا، وأكيد هي عارفة عمر ابن مين وعيلته مين وعارفة بردو إننا مش ناس ساذجة ولا أغبيا مثلا علشان نصدقها من غير ما نعمل DNA .. تفتكر هي غبية للدرجة دي علشان تفكر تخدعنا وتدبسنا في ولد مش ابننا ؟! اكيد لا .. هي واثقة ومتأكدة انه ابن عمر و إلا مكانتش تيجي وتواجهنا بمنتهى الثقة والثبات .
ساد صمت قصير بعد كلمات فريد، صمتٌ ثقيل حمل في طيّاته اعترافًا مبطّنًا بالمنطق القاسي الذي لا مفرّ منه.
أطرق حسن رأسه ببطء، كأن الكلمات انغرست داخله كسهامٍ لا تُخطئ موضعها، وارتسمت على وجهه ملامح تفكّرٍ عميقٍ امتزج بالأسى.
زفر هو الآخر زفرة مكتومة، ومرّر يده على وجهه بتعبٍ واضح، ثم رفع عينيه نحو فريد في استسلامٍ صامتٍ لما أدركه للتوّ؛ لقد صدّق، أو بالأحرى لم يعد يملك القدرة على إنكار ما قد يكون الحقيقة.
تثاقل صدره أكثر، وكأن عبئًا جديدًا أُضيف إلى ما ينوء به قلبه أصلًا، وشعر بأن الغمّ يشتدّ عليه شيئًا فشيئًا، وكأن كل ما حوله يزداد ثِقلاً وكآبة.
على الجانب الآخر، كانت الممرضة تضع الشريط اللاصق على ذراع عمر وتقول بلطفٍ آلي:
ــ خلصنا يا فندم. تقدر ترتاح شوية وبعدين تمشي.
نظر إليها وسألها بنبرة خالية من الحياة :
ـ امتى النتيجة هتظهر ؟!
ـ بعد ٢٤ ساعة .
رفع عمر عينيه إليها ثم نهض ببطء، التقط سترته، وخرج من الغرفة بخطواتٍ متثاقلة.
لم ينظر إلى حسن أو فريد حين مرّ بجانبهما، كأن وجودهما لا يعني شيئًا في تلك اللحظة، فقط همس بصوتٍ خفيض قبل أن يواصل طريقه نحو الباب:
ــ النتيجة هتظهر بكرة .
ظلّ حسن وفريد واقفَين مكانهما، يتابعان خُطاه وهو يبتعد، وكلٌّ منهما يشعر أن شيئًا ثقيلًا سيسقط قريبًا، لكن لا أحد يملك أن يوقفه.
أكمل عمر مسيره نحو باب الخروج، خطواته ثقيلة وثقله الداخلي يضغط على صدره، لا يعرف كيف يتصرف أو يفكر. وفجأة، على بعد خطوات قليلة، لمح لاتويا تخرج من غرفة أخرى، الطفل بين ذراعيها، وعيناه مليئتان بالدموع، يبكي بصوت مرتفع يقطع الصمت.
توقف عمر فجأة، كأن صرخات الطفل قد أوقفت الزمن حوله. قلبه انقبض بشدة، وإحساس غريب اجتاحه، خليط من الذهول والقلق والخوف، لحظة صمت ثقيلة، يتردد فيها نفس السؤال: هل هذا فعلاً ابني ؟
ظل واقفًا ينظر إليهما، لا يجرؤ على الاقتراب، بينما الطفل يواصل البكاء، ولاتويا تحاول تهدئته بيدها الرقيقة، لكن تأثير اللحظة كان أعمق مما تتصور. كل شيء من حوله بدا ثقيلا وخانقًا، فأسرع يغادر المختبر مسرعًا، يلحق به كلا من فريد وحسن، ونادر الذي كان في انتظارهم .
ـ بكرة ان شاء الله النتيجة هتظهر ، هاجي أستلمها وأبلغكم .
ولكن فريد رمقه بنظرة حادة، وضغط على ذراعه برفق لكن بحزم، وقال ببرود:
ـ شكرًا يا متر… مش عايزين نتعبك، خلينا إحنا نتولى الموضوع ونتصرف فيه بطريقتنا.
وأشار إلى حسن ليستقل السيارة برفقته ورفقة عمر، ثم تحرك منطلقًا بسيارته سريعا ..
ساد الصمت ثقيلًا حولهم، لم يجرؤ أحد على مقاطعته، وكأن كل واحد منهم استنزف ما تبقى لديه من طاقة للكلام. وفجأة، تخلل الصمت رنين هاتف عمر. انتزع الهاتف من جيبه، وعندما التفت إلى الشاشة، لمع اسم "ميرال" أمامه. ارتسمت على وجهه ضحكة متقطعة، ممزوجة بالدموع، لكنها سرعان ما تبددت، وحل محلها بكاء ثقيل يفيض بالحسرة والوجع.
أغلق الهاتف وأعاده إلى جيبه، لأول مرة يتجاهلها عمدًا، ليس لشيء سوى أنه أدرك أنه لا يملك كلمات ليقولها، فما الذي سيخبرها إياه؟ ماذا يمكن أن يقول في مواجهة ما يشعر به الآن؟ لذا فالصمت أفضل حل .
التفت إليه حسن، مدّ يده وربت على فخذه محاولةً دعمه وتهدئته، بينما كان فريد ينظر من النافذة المجاورة، وعيناه تفيضان بالأسى الذي يعتصر قلبه. في تلك اللحظة، رن هاتفه أيضًا، وعندما نظر إليه، وجد اسم "نغم" يضيء على الشاشة. تنهد ببطء وحوّل الهاتف إلى الوضع الصامت، متجاهلًا مكالمتها مرة، ثم مرتين، قبل أن يرسل لها رسالة كتب فيها أنه لا يستطيع الإجابة الآن وسيعاود الاتصال لاحقًا، علّها تتراجع. ولكنها، كما هي نغم، لم تنتظر ولم تهتم، فواصلت المحاولة وأعادت الاتصال بإصرار، فتنهد وهو يهز رأسه يائسًا وأجابها بنفاد صبر:
ـ نعم يا نغم ؟!
ـ نعم إيه ؟! إنت فين يا فريد من الصبح ؟! وبعدين ليه مش بترد عليا ؟! وليه باعتلي الرسالة دي؟! هو إنت فين بالظبط ؟
تنهد ببطء وهو يلقي نظرة على الطريق من جانبه وقال:
ـ أنا في مشوار دلوقتي وبعدين هكلمك ؟!
ـ مشوار إيه ؟!
ضغط أحرفه بنفاد صبر:
ـ مشوار وخلاص يا نغم .. بعدين هكلمك ؟!
ـ بعدين اللي هو امتا طيب ؟!
صاح منفعلاً بحدة أفزعتها:
ـ وقت ما يكون بقا يا نغم هو ده وقت زن ؟! يلا اتفضلي اقفلي وبـ…
لكنه لم يكد ينهي كلامه حتى اختفى صوتها، فزفر مدركًا أنها أنهت المكالمة بمبادرتها، دون أن تنتظر حتى يُكمل، كعادتها العنيدة، دومًا ما تغضب وتثور كطفلة أفسدها الدلال، فهز رأسه بيأس، متوعدًا إياها في سره، ثم أعاد الهاتف إلى جيبه ونظر إلى حسن وقال :
ـ هنروح فين دلوقتي ؟! على البيت عندي ولا على الڤيلا ولا تحبوا تقعدوا في مكان ؟
حانت من حسن التفاتة سريعة نحو عمر الذي ينظر من نافذته بيأس، وقال بهدوء :
ـ خلينا ناخده أي مكان يمكن يفك شوية ..
أومأ فريد موافقًا، وانحرف بسيارته متجهًا نحو الطريق المؤدي لمقهى فخم يقع على النيل مباشرةً .
༺═────────────────═༻
عاد عاصم إلى المنزل، دخل يجر خطواته بتثاقل وانهزام، حتى إذا ما بلغ غرفة النوم وجد نسيم لا زالت تستلقي في فراشها، مستغرقةً في نومٍ عميق، حينها هرع إليها، يهزها بقوة وهو يقول :
ـ نسيم .. ؟؟
أجفلت فجأة، وفتحت عيناها وهي تنظر إليه بتعجب وتقول :
ـ في إيه يا عاصم ؟! حد يصحي حد بالشكل ده ؟
ـ انتي نايمة من الصبح ؟!!
سألها بقلق، فنظرت إليه بحنق وهي تتقلب في الفراش بوهن وتجيبه بحدة :
ـ وفيها إيه ؟! هو أنا ورايا إيه يعني ؟!
زفر بضيق وهو يجيبها :
ـ أقصد نايمة من الصبح من غير أكل ؟!
اعتدلت قليلا وجلست نصف جلسة، وهي تقول :
ـ لأ شربت عصير .. مش قادرة أكل حاجة .. !
ـ معقولة يا نسيم ؟! عصير بس ازاي يعني ؟! أنا هعملك حاجة تاكليها حالا !
ـ لأ علشان خاطري مش عايزة .. بعدين لو حسيت إني جعانة هاكل .
تنهد ببطء، ثم أومأ وهو يخلع سترته، ثم انحنى نحوها مقبلًا وجنتها، همّ ليضمها إليه ولكنها ابتعدت عنه فجأة وهي تقول بضيق برز واضحًا في صوتها :
ـ عاصم من فضلك غير هدومك الأول ، البرفيوم بتاعك ده قلبلي معدتي ..
أومأ بلطف، وربت على رأسها وهو يتجه نحو الحمام، بينما هي أغمضت عينيها من جديد.
بعد لحظات، بدأت تشم شيئًا يغري حواسها… رائحةً ما تتسلل إلى أنفها، فتداعب معدتها بلطف، فتفتحت عينيها قليلاً، وهي تنظر نحو جنينها، ومسدت بطنها بيدها برفق مع ابتسامة عريضة ارتسمت على شفتيها وهي تحادثه بلطفٍ قائلة :
ـ يا ترى حبيبي نفسه في إيه ؟! ممم .. نِفسك في بابايا ؟! حاضر .. هنقول لبابا وهو يتصرف .
ثم ضحكت ضحكةً خافتة وهي تنظر لبطنها بابتسامة دافئة، وفي عينيها لمعة فرح، وكأنها تسمع رده الخيالي، وتشعر بقربه بشكلٍ غريب ومطمئن.
غادر عاصم الحمام، فرآها تحيط بطنها الصغير بيديها، وتتحدث إليه بخفوت، فاقترب منها مبتسمًا، واستلقى إلى جوارها، ثم انحنى قليلا وطبع قبلة عميقة فوق بطنها، وقال وهو ينظر إليها ويمرر يده على خصلاتها بحنان :
ـ ممكن أعرف بتتكلموا في إيه من غيري ؟
اقتربت منه، وأسندت رأسها على صدره وهي تقول :
ـ شكلي كده بدأت أتوحم خلاص .. نفسي في بابايا .
ـ بابايا !!
أومأت بابتسامة فهمهم مستمتعا، ثم قال :
ـ طيب والعمل ؟! هنجيبها منين دلوقتي ؟
رفعت كتفيها بلا اكتراث وهي تقول :
ـ مش عارفة ، اتصرف انت بقا !
ـ ممم .. معتقدش هلاقي بابايا دلوقتي ، مينفعش نمشيها تين شوكي ؟
ابتعدت عنه ونظرت إليه بحدة وهي تقول :
ـ تين شوكي ازاي يعني ؟! بقوللك عايزة بابايا يا عاصم تقوللي نمشيها تين شوكي ؟! هو بمزاجي يعني ؟!
ـ طيب خلاص يا حبيبتي اهدي .. الموضوع مش مستاهل عصبية .
والتقط هاتفه، استدعى رقم رشيد، وأخذ ينظر إليه بتردد، ثم قام بالاتصال به، وما إن أجابه رشيد حتى قال عاصم مدعيًا الجدية :
ـ بقوللك يا رشيد .. متعرفش ألاقي فين بابايا دلوقتي ؟!
ليجيبه رشيد متذمرًا بصوتٍ ناعس :
ـ يا عم أنا اشعرفني أبوك فين دلوقتي ؟! انت مصحيني أدور لك على أبوك ؟! مين معايا أصلا ؟!
واتخذ منه الأمر لحظات، نظر فيها بهاتفه ثم استوعب أن من يهاتفه هو عاصم، فتنحنح وقال بنبرة جادة :
ـ عاصم ؟! معلش يا بوص أنا كنت نايم بس ومش مركز .. بتقول إنت عايز ايه ؟
ولكن عاصم ضحك بخفوت وهو يقول :
ـ لأ خلاص روح كمل نوم يا رشيد أنا آسف إني أزعجتك .
ـ تمام يا بوص تصبح على خير .
أنهى عاصم الاتصال، ونظر إليها وإلى ملامحها المحبطة، وتقويسة شفتيها الحانقة، فاقترب منها وقبّلهما سريعًا وهو يمسح على وجنتها بظهر كفه قائلا بحنان :
ـ متضايقيش نفسك، هنلاقي إن شاء الله .
أخذ يقلب في هاتفه، يبحث عبر المتاجر الإلكترونية والأسواق المتخصصة إلى أن وجدها فلاحت ابتسامة عريضة على شفتيه وهو يهتف متحمسًا :
ـ موجودة على أمازون ..
حينها تنهدت براحة وارتخى كتفيها المشدودان في تأهب وراحت تهتف وكأنما عثرت على كنزٍ ثمين :
ـ الحمد لله .
والتفتت نحوه مرة أخرى، تخبره باهتمام :
ـ اطلب لنا بقا كمية علشان أنا حاسة إني نفسي فيها أوي .
أومأ وهو يقول مبتسما :
ـ من عينيا الاتنين ..
وقام بتأكيد الطلب، ثم نظر إليها، ومال نحوها يغمرها بذراعيه، يقربها نحوه حتى باتا متلاصقين، ثم منح جبينها قبلةً مغموسةً بالعاطفة، ثم قال:
ـ انتي تؤمري يا حبيبتي وأنا عليا أنفذ .. !
عانقته بقوة وقالت بعفويةٍ مطلقة :
ـ ربنا يخليك لينا ..
توقف عاصم للحظة، شعر بدفء كلماتها يغمر قلبه، وشعور بالسكينة يتسلل إلى صدره، نظر إليها وعينيه تلمعان بمزيج من القلق والعاطفة.
اقترب منها، أرخت رأسها بوهن، فمال نحوها، يطالعها بنظراتٍ يسيطر عليها الوله، العشق الخالص والنهم الذي لا يتوقف عند حد، تفاقمت مشاعره المختلفة عدا الشعور بالسلام، أيُ سلام هذا الذي يساوره وهي تستلقي بجواره كفاكهة مكتملة النضج، تُغويه بدون قصد، تفتنه بدون وعي، تغمره برقة حضورها وتثير في قلبه شوقًا لا يُقاوم، كأن كل لحظة بقربها حكاية تُروى، وكل نظرة منها وعد صامت بلحظات لن تُعوض.
وبينما هو يجابه خضم هذه الأشواق.. فجأة، وجدها تبتعد عنه، تنظر إليه بشك، فهز رأسه متسائلا، فإذ بها تقرّب أنفها منه مجددًا، تبحث فيه عن رائحة مزعجة أثارت لعابها، ثم ابتعدت مجددا وهي تقول:
ـ إنت رشيت برفيوم تاني ؟
هز رأسه نافيًا، فقالت بانزعاج واضح :
ـ يبقا أكيد استعملت الـ shower gel اللي بريحة الرمان !!
ليجيبها وكأنما ينفي عن نفسه تهمة شنعاء كادت لتلتصق به :
ـ والله لأ ..
بينما هي سألته من جديد وهي تبتعد عنه بازدراء :
ـ أومال إيه الريحة دي بس !!
ـ مالها ريحتي ؟!
قالها وهو يقرب أنفه من ملابسه، وينظر إليها من جديد متعجبًا ..
ـ ريحتك رمان يا عاصم ومضايقاني .. أرجوك خد شاور تاني !
ـ رمان إيه بس ؟! وبعدين ما أنا لسه واخد شاور يا نسيم ..
ـ تاني يا عاصم إيه المشكله!
ـ يا حبيبتي كده هاخد برد .. تعالي بس الله يهديكي دول شكلهم هيبقوا تسع شهور ما يعلم بيهم الا ربنا .
تأففت بضيقٍ لاذع وهي تضع كفيها أمامها تمنعه من الاقتراب وهي تقول :
ـ عاصم أرجوك بقا ..
ـ أرجوكي انتي يا نسيم متطلعيش عيني أنا مش ناقص.
نظرت إليه بحدة مباغتة ، ثم هتفت بانفعال غير مبرر :
ـ عاصم أنا مش بهزر، الريحة دي خانقاني .. يا إما تاخد شاور تاني يا إما هقوم انام في الاوضة التانية !
مرر يده على ذقنه وجانب عنقه محاولا كبح جماح ضيقه، وهو ينظر إليها متحليًا بالصبر وهو يقول :
ـ وعلى إيه يا حبيبتي ، الطيب أحسن .
ونهض متجهًا نحو الحمام من جديد ، أخذ حمامّا سريعًا حرص فيه على أن يغسل جسده بعناية فائقة لئلا تنفر منه من جديد ، وعاد إليها ليجدها تجلس فوق السرير، تمسك بهاتفها باهتمام وتقرأ منه شيئا، وما إن رأته يتقدم منها حتى بدأت تُلقي على مسامعه ما تقرأه :
ـ أنا عملت search لقيت مكتوب إن الموضوع له علاقة بالفيرمونات.
كان هو قد استلقى جوارها من جديد، مسكًا بذراعها يقبله غير عابئّا بما تقوله، بينما هي تنظر إليه بتعجب وهي تقول :
ـ عاصم انت سامعني ؟!
أومأ وهو ينظر إليها ، يمد يده ليحيط بها وجهها وهو يقول مؤكدًا :
ـ طبعا يا حياتي..
رفعت حاجبها بتحدٍ وقالت :
ـ طيب أنا كنت بقول إيه دلوقتي ؟!
اقترب منها يطبع قبلة عتيقة فوق كتفها وهو يقول :
ـ قلتي إن السبب في الهرمونات ..
ـ هرمونات إيه ؟! أنا قلت فيرمونات على فكرة ..
ـ يا حبيبتي ماهو واحد يا نسيم .. يعني بذمتك ده وقت نتناقش فيه هي هرمونات ولا فيرمونات !
زفرت نفسًا عميقًا، ونزعت ذراعها الذي يمسكه بكلتا يديه كقطعة حلوى يتلذذ بها، ثم هتفت بحنق لم تستطع السيطرة عليه :
ـ يعني إيه ده مش وقت نقاش ؟! هو أنا للدرجة دي كلامي بقا تقيل على قلبك ؟!
نظر إليها مصدومّا، مصعوقًا، متعجبًا تلك الرجفة في صوتها، والدموع التي ملأت عينيها، ثم ابتلع ريقه محاولا تهدئة أعصابه المرتبكة، وقربها إليه وهو يقول بحنان:
ـ لأ يا حبيبي متقوليش كده .. خلاص اتكلمي أنا سامعك ..
زفرت نفسًا متوترًا، ثم قالت بهدوء:
ـ لأ خلاص مش عايزة أتكلم ، أنا هنام ..
أخذ يتابعها وهي تنزلق في الفراش وتستعد للنوم فعلا وقد تبدل مزاجها بين لحظة وأخرى، فتنهد ببطء وهو يميل نحوها ويمرر يده على خصلاتها بلطف، ويقول :
ـ طيب خلاص نامي.. تصبحي على خير .
ولكنها رمقته من جديد وهتفت باعتراض :
ـ طبعا انت ما صدقت !
أخذ يهز رأسه يائسا، متعجبًا، ونظر إليها بحيرة وهو يقول :
ـ أنا مش عارف أرضيكي إزاي والله .. هم الحوامل كلهم بيكونوا عصبيين كده ولا انتي بس ؟
ـ والله ؟ أنا بس ليه بقا ان شاء الله ؟! حامل في تنين مثلا ؟! ما أكيد كل الحوامل كده يعني .
أمسك بيدها، قبّلها في رفق وقال :
ـ طيب متضايقيش نفسك ، معلش متزعليش مني ..
أومأت بهدوء، وما أن استمعت إلى صوت جرس الباب حتى اتسعت ابتسامتها مرة أخرى بحماس وهي تقول :
ـ أكيد البابايا وصلت .
ـ حمدالله على السلامه والله ..
قالها وهو ينهض مسرعًا، متجهًا نحو الباب لاستلام الطرد، ثم عاد إليها حاملاً صندوقًا كرتونيًا بين يديه، يهزه أمامها بحماس ويبتسم قائلاً:
ـ هتاكلي منها دلوقتي ولا هتنامي؟
نهضت من الفراش مسرعةً، وهرولت نحوه، التقطت الصندوق من يديه ودخلت به إلى المطبخ، بينما قلبها ينبض بسرعة من الحماس وهي تفتحه، ثم تخرج منها حبة من البابايا وتقوم بقطعها على الفور، ثم وقفت تتناولها مغمضةً عينيها باستمتاع وتلذذ، بينما هو يقف بجوارها يراقبها مبتسمًا، يمرر يده على خصلاتها بحنان وهو يراها تلتهم حبة تلو الأخرى، فنظر إليها وقال :
ـ نسيم .. كفاية كده يا حبيبي .
نظرت إليه بضيق، وقالت بتبرّم :
ـ جرى إيه يا عاصم أنت هتعد عليا ولا إيه ؟!
ـ لا يا حبيبتي بألف هنا والله بس أنا خايف تعمللك حساسية أو حاجة !
هزت رأسها بغير اكتراث وهي تقول :
ـ لأ متقلقش .. أعتقد إنها مش بتسبب حساسية .
ـ طيب .. ربنا يستر .
بعد دقائق، توقفت عن الأكل، تنهدت وهي تنظر إليه بتعب ثم قالت :
ـ أنا خلاص جبت أخري .
أومأ وهو ينظر إلى الصندوق الفارغ أمامه ويقول :
ـ والصندوق خلص كمان .
أومأت وهي تمسح فمها بظهر كفها وتقول :
ـ في واحدة لسه هبقا أكلها بكره بقا ..
أومأ موافقا وهو يقول :
ـ أنا بفكر أزرعها أهو يبقا عندنا مخزون دايم .. أصل إحنا لو مشينا بالمعدل ده كده كل يوم صندوق بابايا ب 5 آلاف جنيه في تلت شهور الوحم يعني بنتكلم في حسبة 450 ألف جنية ..
وأضاف وهو يهز رأسه ساخرًا :
ـ ده أنا بالشكل ده محتاج أبيع كليتي عشان أجيبلك بابايا بس..
التفتت نحوه بحدة جعلت ابتسامته تتلاشى، ثم قال محاولًا احتواء غضبها :
ـ بهزر والله ..
دخلت إلى الحمام، غسلت وجهها ويديها وعادت إلى الغرفة، استقلت على السرير وهي تتحسس بطنها براحة، وعلى ثغرها ابتسامة متألقة، استلقى بجوارها وأخذ يمرر أنامله على وجنتها برفق وهو يقول مبتسمًا :
ـ مبسوطة ؟
أومأت وهي تقول :
ـ جدا ..
ابتسم وهو يهز رأسه متعجبا ويقول :.
ـ واضح إن البابايا تأثيرها قوي ..
ضحكت بخفوت، وأومأت، فابتسم ابتسامة نادرة، ثم جذبها إليه بحنان أكبر، فأراحت رأسها على كتفه، تستمد من دفئه سكونًا افتقدته طويلًا، وفي داخلها موجة من الندم تعصف بقلبها. أدركت في تلك اللحظة كم كانت مخطئة حين أخفت عنه حملها، وكم كانت محرومة من حضنه ودعمه، ومن ذلك الإحساس الغامر بالأمان الذي يتسلل إليها الآن وهي بين ذراعيه.
ولم تدرك نفسها إلا وقد أغمضت عينيها، تغالب التعب، تغرق في نومًا هادئًا راح يبتلعها ببطء..
بينما ظلّ هو يحتضنها بصمتٍ مفعمٍ بالعطف، يشعر أن قلبه قد امتلأ بها كما لم يحدث من قبل..
أخذ يستمع إلى نَفَسِها المتأنّي المنتظم كما لو كان لحنًا يردّ له شيئًا من الطمأنينة التي افتقدها طويلاً.
مع كل شهيق وزفيرٍ منها كان يلحظ ثقلًا غريبًا ينسحب عنه رويدًا رويدًا؛ فخبر الحمل — ذلك العوض الصغير غير المنتظر — مرّ كلمسةٍ رقيقةٍ على قلبٍ أنهكته الخسارة والوجع، فكان كبلسمٍ لجراحٍ لم يجد لها دواءً.
جلس يفكّر ببطءٍ وبعمق. يتذكر ذلك الجدال الحاد مع أيمن، لم تتبدّل أحاسيسه بين لحظةٍ وأخرى؛ فالغضب ما زال يتأجج في صدره، وشعور القهر لا يزال يحفر آثاره، لكن شيئًا ما أجبره على إعادة ترتيب أفكاره وإعادة تقييم أولوياته.
تسلّل إليه إحساسٌ بالمسؤولية يختلط بغضبه؛ صار واضحًا أن ثأره صار الآن مقترنًا بقيود لم يكن مستعدًا لها.
كان مذبذبًا، مشتتّا، كيف يواصل طريق الانتقام وقد بات بينه وبين نسيم رابطٌ جديد سيجعله يفكر في كل خطوة يخطوها ألف مرة !
وعلى الجانب الآخر… كيف له أن يتخلى عن خطةٍ نسجها طوال ليالٍ طويلة، وهو الذي أنهكه الانتظار والتدبير؟ كيف يترك اللحظة التي طالما تاق إليها، اللحظة التي سيتلذذ فيها بطعم هزيمتهم، ويستمد منها طاقته حين يراهم ضعفاء منكسرين، تتناقل الألسن أخبارهم ويصبحون مادةً للقيل والقال؟
وبعد طول حيرةٍ وتفكيرٍ عميق، اتخذ قراره أخيرًا ـ دون أن يتيقن من صحته ـ أن ينسحب.
كان القرار ثقيلاً على قلبه، يملؤه شعور بالخزي من نفسه، بالقهر لأنه لم يحقق غايته، وبالعار لأنه لم يتمكن من الثأر لأخيه كما كان يخطط. ومع ذلك، كان شيء واحد يدفعه للتماسك: رغبته في الحفاظ على ما وصل إليه، الحفاظ على ما أنعم الله عليه به، زوجة عاشقة، وطفل في الطريق إليهم .
رغبة في الحفاظ على دفء البيت ، على حياة لم يرد أن يضيعها بسبب الانتقام.
أدرك أنه مضطر لأخذ نصيحة أيمن بعين الاعتبار، أن يوقف هذا الانتقام الذي لم يتخيل يومًا أنه سيكون محدودًا، وأن ينسحب آسفًا، وهو يحمل ثقل عدم القدرة على إتمام ما بدأه .
في تلك اللحظة، مدت نسيم يدها بلا وعي، ووضعتها برفق فوق قلبه المضطرب، كأنها تشعر به وتحاول أن تواسيه بصمت، وتشاطره شعورًا لا يُقال بالكلمات.
التقط كفها وقبلها ثم أسنده على وجنته، وتزحزح للأسفل قليلا وغمرها بقوة، ثم أغمض عينيه محاولا الاستغراق في النوم، ولكن شيئا ما ظل يعصف به وبفكره، يملأ ذهنه بالهواجس والمخاوف، يمنعه من الراحة، وكأنه لا يستطيع الهروب من ثقل ما يدور بداخله.
༺═────────────────═༻
جلس الثلاثة في صمتٍ ثقيل، كلٌّ منهم غارق في دوامة أفكاره، لا يجرؤ على كسر الصمت الذي خيّم عليهم كستارٍ من الرصاص.
كان عمر يجلس شارداً، يطالع شاشة هاتفه التي لا تكف عن الوميض باسم "ميرال"، بينما يجلس أمامه حسن وفريد، يتبادلان النظرات القلقة نحوه، يقرآن في وجهه مزيجًا من الضياع والخوف والإنكار.
قال حسن بعد ترددٍ قصير:
ـ مش هترد عليها يا عمر؟!
رفع عمر عينيه المرهقتين، ثم أعاد بصره إلى الهاتف وقال بصوتٍ يائس:
ـ هرد عليها أقولها إيه؟!
زفر حسن بضيقٍ واضح وقال محاولًا تهدئته:
ـ يا بني انت ليه بتسبق الأحداث؟ احنا لسه مش عارفين نتيجة التحليل هتكون إيه! وبعدين أياً كانت بقى النتيجة ما انت لازم تكلمها.
هزّ عمر رأسه بعنادٍ ورفض قائلاً:
ـ مش هكلمها دلوقتي إلا لما أتأكد إنه مش ابني الأول.
تبادل فريد وحسن نظرة صامتة، ثم زفر فريد ببطء، حاول أن يبتلع غضبه ويكتم انفعاله، لكنه فشل في النهاية، فمال بجسده نحو عمر قائلاً بنبرةٍ حادةٍ تفيض بالتحفز:
ـ وافرض طلع ابنك، هتعمل إيه؟!
رفع عمر إليه نظرةً دامعةً محتقنة، وقال بجمودٍ موجع:
ـ مش هعمل.. هخليها تاخده وترجع مطرح ما جت.
اتسعت عينا فريد ذهولًا، وقال مصعوقًا:
ـ وانت فكرك إنها جت مصر وعملت كل ده علشان في النهاية تاخده وترجع إسبانيا تاني؟!! تبقى عبيط ومش فاهم حاجة!
قال عمر بحدةٍ جافةٍ كأنها درعٌ دفاعي:
ـ لا، أنا فاهم كويس أوي إنها عايزة فلوس.. تاخد الفلوس اللي هي عايزاها وتغور بابنها من هنا، مش عايز أشوفها تاني.
مرر فريد كفه على وجهه بضيقٍ مكتوم، ثم قال بعصبيةٍ مكتومةٍ كمن يحاول السيطرة على ثورانٍ داخله:
ـ بس ده مش ابنها لوحدها.. ده ابنك إنت كمان.. وأكيد محدش هيسمح لك تتخلى عن الولد وترميه، وأنا أول واحد هقف لك.
قهقه عمر بسخريةٍ متوترةٍ وقال:
ـ خلاص، ابقى خده ربيه انت.. ولا أقولك؟ إنت ليك في مواضيع دور الأيتام والرعاية والحوارات دي، ابقى وديه أي دار منهم.
تبدل وجه فريد، اشتعلت ملامحه بالغضب، فالتفت نحوه بعنفٍ، وصاح غير عابئٍ بالمكان ولا بالعيون الموجهة إليهم:
ـ انت اتجننت؟! عايز تحط ابنك في دار رعاية؟!
اشتدّ صوته أكثر، فالتفتت بعض الرؤوس نحوهما، لكن عمر ردّ بانفعالٍ أشدّ، وبرز صوته يرتجف بين الغضب والإنكار:
ـ مش ابني يا عم.. هو بالعافية ولا إيه؟! ولا إنتوا عايزين تلبسوني الولد بأي طريقة وخلاص؟!
أطلق فريد زفرةً غاضبةً حادة، ثم قال ساخرًا بمرارةٍ موجعة:
ـ أيوة إحنا عايزين نلبسك الولد بأي طريقة، وإحنا برضو اللي قلنا لك روح اتسرمح مع البنات واتهبّب على عينك معاهم وارجع عيط!
ـ خلاص يا جماعه استهدوا بالله كده مالكم سخنتوا على بعض كده ليه .. الناس بتتفرج علينا .
نظر فريد إلى حسن ولوّح بيديه في عصبية ممزوجة بعدم الاكتراث وهو يقول :
ـ بلا ناس بلا زفت بقا، ده بني آدم يحرق الدم.
ظلّ عمر يهزّ ساقه بعصبيةٍ، عيناه تائهتان، ثم قال بحدةٍ مكتومةٍ تنزف وجعًا وتمرّدًا:
ـ على فكرة محدش له الحق يحاسبني على أيًّا كان اللي عملته، إنتوا مش ملايكة يعني، ومفيش حد فيكم ملاك، كلكم بتغلطوا.. فبلاش نزايد على بعض.
ابتسم فريد ابتسامةً ساخرةً مشوبة بالأسى، وهزّ رأسه ببطء وقال:
ـ أنا مقولتش إننا ملايكة والله، بس غلط عن غلط أكيد يفرق، وبعدين أيًّا كان الغلط اللي عملناه فخليك متأكد إن مفيش حد مش بيدفع تمن أخطائه، لأن ده الطبيعي، ولا انت كنت مفكر إنك هتلف وتدور وتعمل اللي في نفسك من غير ما تدفع الضريبة في الآخر؟!
ـ ماشي وأنا مقولتش إني مش هدفع تمن غلطتي ، أنا موافق تاخد مني الفلوس اللي هي عايزاها وتمشي ترجع على بلدها ..
حدجه فريد بسخط وقال متهكمًا :
ـ اتنيل .. على أساس إن حيلتك حاجة تديها لها .. ولا إنت فاكر إن الباشا هيدفع لها علشان تمشي ويصهين على الموضوع ؟! تبقا غلطان .
ـ حتى لو هو خد مني كل الفلوس ورفض يدفع لها ، ماما هتدفع لها .
ارتفع حاجبا فريد بدهشة ممزوجة بالاحتقار، ثم مال نحوه قليلًا وقال بصوت خافت يحمل نبرة ازدراء واضحة:
ـ ماما ؟! مستني أمك تشيلك من مصيبة أنت اللي عملتها بإيدك؟!
ثم اعتدل في جلسته وضرب كفًا بكف وهو يتمتم بمرارة:
ـ يا خسارة.. كنت فاكر إنك هتبقى راجل وتتحمل مسؤولية أفعالك .
أطرق عمر رأسه للحظات، بينما فريد ظل يرمقه بعيون متقدة، هز رأسه بأسى وهو يشيح بوجهه بعيدًا، وقال:
ـ أنا خلاص مفيش عندي حاجة أقولها أكتر من كده .. أنا ماشي ..
ونهض وهو يجمع أغراضه من فوق الطاولة، وينظر إليهما ويقول :
ـ هتيجوا معايا ؟؟
أجابه عمر :
ـ لا أنا مش راجع البيت دلوقتي .
فنظر إليه حسن وقال :
ـ خلاص روح انت وأنا هفضل معاه ولما نحب نروح هكلم حسين يجيب العربية .
أومأ فريد موافقا وقال وهو يرمي عمر بنظرة بائسة :
ـ عقّل أخوك يا حسن ..
ثم تركهما واستقل سيارته وعاد بها إلى البيت .
ــــــــــــــــــــــــــــ
ما إن أوقف سيارته أمام المنزل وترجّل منها، حتى فوجئ بنغم تخرج مسرعة من باب بيتها، يبدو أنها كانت تنتظره، إذ اندفعت نحوه بخطواتٍ متحفزة تنوي أن تُعاتبه أو تُبدي استياءها من تجاهله، غير أنها ما إن رأت ملامحه المرهقة وملامح الضيق المرتسمة على وجهه، حتى خفّ اندفاعها فجأة، وتبدّل في عينيها الغضب إلى قلقٍ صادق، فتوقفت أمامه وسألته بصوتٍ حذر:
ـ انت كويس؟
أومأ فريد بتعب، وزفر طويلًا قبل أن يجيب بصوت خافت:
ـ أنا كويس، متقلقيش.
اتجه إلى باب المنزل ودخله، بينما تبعته نغم بخطوات حذرة، تتأمله بعينين تملؤهما الحيرة والاهتمام، وقالت مترددة:
ـ باين عليك إن في حاجة مضايقاك!!
التفت إليها بنظرة متعبة وقال بتهكم مرير:
ـ حاجة؟!
ثم خلع سترته وألقاها بإهمال على الأريكة، وتهاوى بجسده فوقها كمن أُثقل بهمٍّ عظيم، أسند رأسه للخلف وأغلق عينيه لبرهة، ثم رفع يده يدلك جبينه بتعب ظاهر. جلست نغم إلى جواره في حذر، تتابع ملامحه بعطف، ثم قالت برفقٍ واهتمام:
ـ مالك يا فريد؟
بقي فريد صامتًا للحظة، عينيه شاردتان في الفراغ، قبل أن يهز رأسه ببطء ويقول بصوتٍ تعبق فيه الحيرة:
ـ أنا مش عارف أخرتها إيه.. وإيه اللي بيحصل معانا بالظبط!!
انحنى للأمام وأسند وجهه بين كفيه في إنهاكٍ واضح، فاقتربت منه نغم أكثر، تربت على ظهره برفقٍ حانٍ وهي تسأله بقلقٍ متزايد:
ـ طيب ينفع تقوللي حصل إيه تاني؟! ظهر جديد في موضوع جيرالد؟
هز رأسه نافياً دون أن يرفع نظره، وقال بنبرة مثقلة بالضيق:
ـ لأ.. موضوع جيرالد ده طلع تافه أصلًا مقارنة بالورطة اللي إحنا فيها.
قطبت حاجبيها في ارتباكٍ واضح، فرفع رأسه نحوها بترددٍ ظاهر، وكأنه يختار كلماته بعناية، ثم قال أخيرًا بصوت منخفض:
ـ في واحدة أسبانية جت النهارده الفيلا ومعاها طفل عنده شهر تقريبًا.. بتقول إنه ابن عمر.
اتسعت عيناها بدهشةٍ مذهولة، ورفعت يديها لتكمم شهقةً كادت تنفلت من بين شفتيها، وهي تسأله بغير تصديق:
ـ ابن عمر ازاي يعني !!
رد بحدةٍ متوترة :
ـ هيكون ابن عمر إزاي يعني يا نغم .. !
تلعثمت قليلا، ثم قالت بصوتٍ متوتر، حائر :
ـ طيب فاهمة.. ماشي.. وبعدين ؟
تنهد بعمق، ومرر يده على مؤخرة عنقه وهو يشعر بألم شديد يفتك برأسه ولكنه يحاول تجاهله، ثم قال بنبرة مرهقة غلب عليها التوتر :
ـ ولا قبلين .. عملنا تحليل DNA ومستنيين النتيجة .
أخذت تنظر إليه في صمتٍ متردد، تحدق في ملامحه التي أنهكها التفكير، بينما عقلها يحاول استيعاب وقع ما سمعته لتوّه، بدت الكلمات تتزاحم في صدرها لكنها تخشى أن تنطق بشيء يزيد توتره، ومع ذلك سألت بخفوتٍ حذر:
ـ طيب وعمر؟ أقصد يعني هو عامل إيه دلوقتي؟ رد فعله كان عامل إزاي؟
أجابها بعد لحظة صمتٍ ثقيلة، وهو يمرر كفه على وجهه بتعبٍ واضح، ونبرة صوته تفيض بالضيق والإنهاك:
ـ أكيد مصدوم وعايش حالة من الاستنكار، بس للأسف هو مجبر يواجه المشكلة دي.. ربنا يعديها على خير بقى.
تابعته بنظراتٍ قلقة، تراه يحدق في الفراغ أمامه، يسند رأسه إلى قبضته كأنما يحمل على عاتقه ثقل الدنيا بأكملها، فاقتربت منه بهدوء، مدت يدها لتربت على كتفه في محاولةٍ لتهدئته وقالت بصوتٍ دافئٍ مطمئن:
ـ طيب معلش، حاول تهدي نفسك.. بلاش تاخد كل حاجة على أعصابك.
رفع رأسه إليها فجأة، وفي عينيه مزيج من القلق والغضب المكبوت، نبرة صوته حملت ارتباكًا داخليًا وهو يقول بانفعالٍ مكتوم:
ـ إزاي بس يا نغم؟! إنتي مش مستوعبة حجم الكارثة دي!! الموضوع ده مش هيعدي بالساهل للأسف.
نظرت إليه بعطفٍ ممزوجٍ بالحذر، ثم قالت بنبرةٍ تحاول أن تبقيها واقعية رغم اضطرابها:
ـ طيب يا حبيبي، وانت في إيدك إيه بس تعمله؟ المفروض كل واحد يتحمل نتيجة غلطه يعني، وبعدين عمر مش صغير.
تراجع في جلسته قليلًا، تنفس بعمق كمن يحاول السيطرة على غضبه، ثم تمتم بصوتٍ قاتم يفيض بالحزن:
ـ عمر بالنسبة لي مهما كبر هيفضل صغير يا نغم.. وفي موقف زي ده بالذات مش هينفع منقفش جنبه.
ثم أسند ظهره إلى الأريكة، وأغمض عينيه بإنهاكٍ ظاهر، وزفر زفرة طويلة طرد معها كل خيبته واستسلامه، قبل أن يقول بصوتٍ متعب:
ـ أهو أنا بحاول أشد شوية، وحسن يرخي شوية، لما نشوف آخرتها.. ربنا يعديها على خير.
زمت شفتيها بأسى، وقد انعكست على ملامحها لمحة حزنٍ خافتة، ثم قالت بصوتٍ منخفضٍ يمتلئ بالشفقة:
ـ ربنا يعينك، إن شاء الله كله هيعدي .
أومأ ببطء، دون أن يرفع عينيه، بينما ما زالت نظراته معلقة في الفراغ كأنه يبحث بين العدم عن مخرجٍ لا وجود له، ثم قال بصوتٍ متعبٍ أجش:
ـ نفسي أصدق إن كل حاجة هتعدي، بس المرة دي حاسس إن اللي جاي مش خير .. مبقيتش قادر أتفائل ولا أبطل تفكير إن بكرة في مصيبة جديدة هتحصل .
مدت يدها برفق فوق يده المضمومة، ضغطت عليها بحنانٍ صادق وهي تهمس:
ـ كله هيعدي إن شاء الله متقلقش .. أنا عارفة إنك بتمر بفترة صعبة أوي بس إنت مريت بأصعب منها وعدت ..
رفع نظره نحوها أخيرًا، بعينين زجاجيتين منهكتين، ارتسم على شفتيه ابتسامةٍ بائسة، باهتة وهو يقول:
ـ على رأيك .. الواحد خلاص من كتر الصدمات المفروض يكون جتته نحست .. الله المستعان .
لم تعرف كيف تواسيه، فتنهدت ببطء وقالت:
ـ تحب أعمل لك حاجة تاكلها أو تشربها طيب؟
نظر إليها بهدوء، ثم هز رأسه بالنفي، رفع يدها التي كانت تمسك بيده وقبّلها بخفة، وأجاب مبتسمًا:
ـ شكرًا يا روحي..
أومأت بابتسامة مترددة، ثم نهضت قائلة:
ـ طيب أنا همشي وأنت ارتاح.
رفع عيناه إليها، كأنما يطلب منها دعمًا خفيًا، فابتسمت بارتباك، وأومأ هو بإرهاق. بدأت تتحرك مبتعدة، لكنه ناداها فجأة:
ـ نغم..
التفتت إليه بدهشة، فوجدته يشير إليها مادًا ذراعيه، فعادت إليه على الفور. انحنت قليلاً لتعانقه كما طلب، فاحتضنها بكل قوته، ثم أرخاها برفق لتجلس بجانبه وهو لا يزال متشبثًا بها بعناق دافئ. بعد لحظة، أبعدها قليلاً، أمسك بذقنها برفق، وأمال رأسه نحوها، ثم أخفض شفتيه قليلا وأطبقهما فوق شفتيها بصمت في قبلةٍ خاطفة، ثم ابتعد عنها وأخذ ينظر إليها وهي تسند قبضتها المضمومة فوق صدره باستسلام.
حينها هرب زفير مهتز من بين شفتيها، بصعوبة تنفست.. بصعوبة بقيت على قيد الحياة حتى قبّلها مرةً أخرى، حينها ارتخت أصابع قبضتها المشدودة، ورفعت أناملها بلا وعيٍ وأسندتها على جانب عنقه، راقتهُ لمستها كثيرا وحررت داخله شعورًا بالغ التعقيد، فقرر مكافئتها بقبلةٍ أخرى فوق صدغها وهو يضغط على خصرها، يلتصق بها أكثر، ويسرق أنفاسها، ثم انتقلت شفتاه إلى وجنتها ، تاركًا هواءّا دافئًا وجذابًا فوقها .
توقفت شفتاه قُرب جفنيها اللذان لا يزالان مغلقان، حافظ عليهما هناك لوهلة، ليست قبلة. بل لمسة خفيفة كريشة، لمسة عذبة جدا، رقيقة لدرجة جعلتها ترغب في البكاء .
استمر هبوطًا على وجهها، توقف عند أنفها يلمسها لمسته الناعمة، ثم قبل وجنتها اليمنى، ووجنتها اليسرى، ذقنها، طبع قبلاته الناعمة عند كل مكان توقف عنده ، عبث بأنفاسها .
حاجة نقية وجامحة نبضت عبر جسدها مع كل قبلة، جعلتها تتراجع فورا وتفتح عينيها كمن صُعق على حين غفلة، فاستقبلتها صورة رجل يوشك على فقدان السيطرة على نفسه.
أخذت تنظر إليه وقد باعد بين جفنيه مدهوشّا بابتعادها المفاجيء، نظراته غائمة بالحاجة نفسها التي اجتاحتها، نظر إليها متعجبًا نظراتها المملوءة بالاتهام، ومن ثم انفجارها في نوبة بكاء عاتية جعلته ينظر إليها مذهولا وهو يحاول استعادة أنفاسه المسلوبة وهو يقول :
ـ نغم ؟؟؟ انتي بتعيطي ليه ؟
نظرت إليه بعينين محتقنتين، غاضبتين وهي تقول :
ـ لأنك زودتها أوي !!
أومأ مغلوبًا على أمره وهو يمرر يده على جانب ومؤخرة عنقه، ثم أسقط وجهه بإرهاق بين يديه وقال :
ـ معاكي حق .. متزعليش .
نظرت إليه بحدة وهتفت :
ـ والله ؟!!
رفع وجهه ببطء، وهو يلتفت إليها بنظرات تقطر تعبّا وضيق وقال بانفعال :
ـ اومال عايزاني أقوللك إيه يعني يا نغم ؟! بقوللك متزعليش .. عاوزة إيه تاني ؟!
ـ أنا مش جاية هنا تاني يا فريد .. !
ـ براحتك يا نغم .. الي يريحك اعمليه .
رمقته بخيبة أمل، فأخذ يقلب كفيه متعجبًا، وهو يصيح منفعلا بحدة:
ـ لا إله إلا الله .. اومال انتي عاوزاني أقوللك إيه يا بنت الحلال ؟! هو مين السبب في اللي إحنا فيه ده أصلا ؟! مش انتي ؟!
ـ أنا ؟!!
تساءلت بذهول، فأومأ بحدة وقال بعصبيةٍ مفرطة :
ـ أومال أنا ؟!! هو أنا مش كنت بتحايل عليكي نعمل فرحنا في أثينا ونخلص ؟! مش قولتلك أنا عارف اللي مستنيني في مصر شكله إيه ؟! مش فهمتك كل حاجه ومع ذلك صممتي تركبي دماغك وقلتيلي نرجع مصر الأول .. واديكي رجعتي مصر، خليكي قاعدة جنبي بقا لما يحلها ربنا .
ـ أيوة بس أنا مكنتش أعرف إن كل المصايب دي هتحصل !!
ـ بس أنا كنت عارف .. كنت عارف وقلت لك نتجوز وكلهم كانوا معانا هناك، لكن لأن سيادتك جبانة ومترددة رفضتي .. واهو زي ما انتي شايفة، كل ما أقول هنعمل الفرح تطلع لنا مشكلة من تحت الأرض .. وفوق كل المشاكل دي حضرتك مقموصة وعاملالي حوار كمان .. قال يعني أنا ناقص حوارات .
ألقى كلماته الأخيرة وهو ينهض ويتركها في مكانها، ثم توقف والتفت نحوها من جديد وهو يشير نحو الباب ويقول :
ـ اتفضلي يا نغم مع السلامة علشان أنا تعبان ومحتاج أنام .. روحي خدي خالتك زينب في حضنك ونامي .
بينما هي ظلت في مكانها تتبعه وهو يدلف غرفته، فمدت أناملها تمسح دموعها بهدوء، ثم نهضت واتجهت نحو الباب، ظلت واقفة في مكانها تنتظره أن يتراجع ويرمقها بنظرة راضية، أو ابتسامة دافئة تطيب خاطرها قبل أن تغادر، ولكنه لم يفعل، ففتحت الباب وغادرت بهدوء .
ما أن أغلقته خلفها حتى تنهد فريد بغضب جعله يقبض على خصلاته بيأس وهو يحاول ترتيب تلك الضجة اللعينة في قلبه، يحاول السيطرة على تلك الطبول المقروعة في أركان رأسه، يحاول الفكاك من تحت تأثير لمستها العفوية على عنقه، من تأثير رائحة أنفاسها المُسكرة، ليجد في النهاية حلًا واحدّا .. سيلًا باردًا من الماء هو فقط ما يمكنه أن يستعيد توازنه من جديد .. !!!
༺═───────────────═༻
#يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق