القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثاني وخمسون 52بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

 رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثاني وخمسون 52بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات





رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثاني وخمسون 52بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



 


 



ـ ٥٢ ~ مرآة مكسورة !! ~



انقضت ليلته وهو يتنقّل بلا هدوء من غرفةٍ إلى أخرى؛ من غرفة النوم، حيث ضوئها الخافت يتلاعب بالظلال على الجدران، فيزيد رأسه ازدحامًا، كأن الضجيج في داخله يرتطم بتلك الظلال ويعود إليه مضاعفًا. إلى غرفة المعيشة، والتي زاده اتساعها شعورًا بالوحدة.


صوت عقارب الساعة كان يثقب الصمت بثوانٍ متتالية، وكل ثانيةٍ منها تُذكّره بما يحاول نسيانه.


هل حقًا هو السبب؟!

أيعقل أن يكون هو فعلًا الجذر الخفيّ لكل ما يحدث؟!


راحت كلمات والده تتردد في رأسه كصدى لا يهدأ، كلماتٌ انغرست في داخله كسهامٍ مسنونة حين أخبره أنه السبب… أنه من أضاع عمر، لأنه حمل مسؤولية لا تليق به ولأنه عجز عن أن يكون له مثالا يحتذى به .


لم يكفّ عن محاكمة نفسه بلا رحمة.

أخذ يفتش في تفاصيل الماضي، ينبشها كما يُنبش القبر القديم، يبحث عن موضع الخطأ… أين أخطأ؟ ومتى ترك يد عمر تنفلت من قبضته؟ وكيف سمح للفوضى أن تتسرب إلى حياة شقيقه الأصغر حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن؟


تناهشته فكرة واحدة كوحش جائع: هل ضياع عمر هو حقًا خطيئته؟

هل كان يجب أن يكون أشدّ، أرسخ، أكثر قسوة أو أكثر حنانًا؟

هل كان عليه أن يتحمل الدور الذي فرضه القدر عليه — دور الأب والأخ والسند — دون تذمر، ودون أن يغفل لحظة واحدة؟


كان يشعر أن ذنوبه كلها قد عادت لتطرق بابه في وقت واحد، وأن عمر هو مرآته المكسورة، وأن كل شرخٍ فيها إنما هو امتدادٌ لإهمالٍ اقترفه أو ضعفٍ سكن قلبه.


مرّر أصابعه في شعره بحدة، دار حول الأريكة بلا هدف، ثم مال على الطاولة ورفع رأسه سريعًا، كأن كل ركن من أركان البيت يتآمر على إبقائه يقظًا.


لم يجد مهربًا إلا القاعة الرياضية ، تلك الغرفة التي هجرها منذ زمن.


فتح بابها ودلف، وقف هناك لوهلة، كأنه يواجه نسخة منه كان قد تركها خلفه، هنا فقط شعر أنه يستطيع أن يفرغ شيئًا من ذلك الصخب الذي يعتمل داخله.


بدأ بالركض… ركض بعنف، باندفاعٍ غاضب، كأن خطواته هي الطريقة الوحيدة لإخماد النار التي تأكل صدره. انتقل بعدها لرفع الأثقال، ثم إلى تمارين لا يعرف حتى لماذا يؤديها، فقط ليتوقف عقله لحظة.


لكن عقله لم يصمت. الضجيج ظل يلاحقه، يطارد أنفاسه، يكتم صدره أكثر وأكثر. ضربات قلبه أخذت تتسارع حتى أحس بها تهز جسده كله، وحرارة غريبة تصعد إلى وجهه، ثم ذلك الوخز المألوف… الوخز الذي صار زائرًا يوميًّا لا يفارقه.


توقف فجأة، وضع يده على صدره، يتنفس بصعوبة وكأنه يبتلع الهواء ابتلاعًا. شدّة الألم جعلته ينحني قليلًا، يحاول أن يسيطر على نفسه، لكن الإحساس كان أقوى وأعمق من كل مرة.


جلس على طرف المقعد الحديدي، يحني رأسه بين يديه، يدرك أن ما يتملّكه لم يعد مجرد توتر… وإنما شيء أكبر، وأخطر، يصرّ على أن يلفت نظره بالقوة.


لذا قرر ألا يتجاهله أكثر، متخذًا قرارًا حاسمًا بأنه لن يتهرب هذه المرة، لن يدفن رأسه في انشغالاتٍ زائفة أو يختبئ خلف قوته المعتادة.


نهض ببطء، يسند يده إلى ركبته كأنما يحمل فوق كتفيه أثقالًا لا تُرى، ثم سحب نفسًا عميقًا وهو يقاوم الألم في صدره، ثم سار نحو الباب بخطوات متثاقلة. كان جسده يئن من الإرهاق، وملابسه الرياضية تلتصق بجلده المبتلّ بالعرق. مدّ يده إلى المنشفة المعلّقة قرب المرآة، مسح بها وجهه بعجلة، محاولةً منه أن يلتقط أنفاسه ويبدو طبيعيًا… ولو قليلًا.


لكنَّ الصمت لم يدم طويلًا.


رنّ جرس الباب فجأة.


شرد للحظة قبل أن يتحرك خارج القاعة متجهًا نحو الردهة. مرّ في طريقه على المرآة الكبيرة، فانتبه لمظهره المرهق لكن لم يجد وقتًا ليهتم. مدّ يده نحو مقبض الباب، وسرعة دقّات قلبه جعلته يشعر بالمزيد من اللهاث، لكنّه أجبر نفسه على تجاهله.


فتح الباب…. وتجمّد في مكانه.


لم يكن عمر. ولم يكن حسن كما توقع ..


كانت نغم.


وقفَت أمامه تُدخل كفّيها في جيبي سترتها الخفيفة، تنظر إليه بقلق واضح وعيناها تتفحّصان ملامحه المرهقة، قبل أن تقول بتحفّزٍ مرتبك:

ـ صباح الخير ..


تنهد قليلًا، وكأنه يستجمع نفسه، ثم أجابها بلا حماس:

ـ صباح النور ..


ـ انت كويس ؟!!


سألته وهي تحدق فيه بقلقٍ بالغ، فمسح جانب عنقه بالمنشفة، محاولًا إخفاء تعبه، وقال:

ـ كويس الحمدلله ..


لكن نظرتها المشكّكة لم تتزحزح، كانت تتأمل جبينه المتجعد وحاجبيه المقطبين وأنفاسه التي تتلاحق كمن خرج من معركة ضارية، فتقدمت خطوة نحوه وقالت باهتمامٍ أشد:

ـ إنت كل مرة بتقوللي نفس الكلام ، لكن انت مش كويس وواضح جدا انك تعبان .


لم يجد مفرًّا من الاعتراف، فزفر نفسًا عميقًا ثم أومأ باستسلام:

ـ معاكي حق ، أنا حاسس إني مش متظبط فعلا عشان كده هروح لدكتور النهارده بس لما أخلص المشاوير اللي ورايا الأول .


ـ هاجي معاك .


رفع حاجبه بدهشة، وقد باغتته بساطتها في طرح الأمر، وقال:

ـ تيجي معايا فين ؟!


ـ عند الدكتور !


قالتها بلهجة واقعية وكأن الأمر بديهي، فارتسمت على شفتيه ابتسامة رغم تصلّب ملامحه، وقال ساخرًا بخفة:

ـ تيجي معايا عند الدكتور تعملي إيه ؟! هو أنا رايح الملاهي ؟ لما أروح وأشوف هيقوللي إيه هبقا أطمنك إن شاء الله ، وبعدين أكيد الموضوع بسيط يعني هو كل الحكاية شوية إجهاد مش أكتر .


تجهم وجهها قليلًا، واقتربت منه خطوة إضافية، وفي لحظة بدت وكأنها عاجزة عن كتمان قلقها، ففاجأته بسؤال خارج سياق الحديث:

ـ هو إنت لسه متضايق مني ولا حاجه ؟!!


لم يتمالك نفسه من الضحك، ضحكة قصيرة متوترة، ثم قال متهكمًا بمرارة:

ـ استغفر الله ، هو انتي عملتي حاجة تضايقني أصلا ؟!


صمتت للحظة، ثم تراجعت خطوة وهي تهز كتفيها بخفة مترددة:

ـ المفروض انه لأ .


أومأ وكأنه كان يتوقع ردّها، وارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ خفيفة… ابتسامة رجلٍ يحاول تهدئة ما يضطرب داخله أكثر من كونها علامة رضا، ثم قال بهدوء:

ـ طيب ..


تقدّمت خطوة وهي تقول بنبرة تجمع بين الاستنكار والجرح:

ـ طيب لما انت مش مضايق مني ، ليه مش راضي تاخدني معاك ؟!


أجابها بنبرة واقعية جافة قليلًا:

ـ ملوش علاقه أصلا ، سواء متضايق منك أو لأ فده ملوش علاقة بإني مش عايزك تيجي معايا عند الدكتور .


قطّبت حاجبيها وكأنها أمسكت طرف الخيط:

ـ يعني انت مضايق مني أهو !!


خرج منه تنهدٌ متعب، ثم هز رأسه ببطء وقال بجديّة واضحة:

ـ مضايق من نفسي أكتر لأني ضغطتك بالشكل ده وخليتك تواجهي حاجه مش مستعدة ليها .. كان مفروض أعمل control على نفسي أكتر من كده بس ..


توقّف لحظة، وكأنه ينتزع اعترافًا من داخله، ثم زفر زفرة ثقيلة خرجت من الأعماق قبل أن يكمل:

ـ مش عارف… بس مبقِتش بعرف أسيطر على نفسي وانتي قدامي بصراحة .. علشان كده أفضل حل فعلا متجيش هنا تاني لحد ما نعمل الفرح .


رأى شرارة ضيقٍ تومض في عينيها، فطمس ابتسامةً حاولت الصعود إلى شفتيه، حتى قالت بضيقٍ واضح:

ـ يعني انت شايف إني المفروض ماجيش تاني ؟!


أومأ بثقة متعمدة، وقال بنبرة اختارها ليزيد غضبها عمدًا:

ـ أنا شايف إننا نقضيها تليفونات بقا من هنا ورايح علشان نفضل في الأمان .. بدل ما تيجي وأزودها تاني معاكي وتتقمصي وأنا اليومين دول مش حِمل قمص من بتاعك أبدا .


تجمدت ملامحها… فهو لم يعتد أن يكلمها بهذه القسوة الصريحة، لم يعتد أن يدفعها بهذا الشكل. كان دائمًا حنونًا، رقيقًا، محسوب الكلمات معها… فماذا جرى له؟!

لماذا يتحدث الآن بهذه الحريّة، وكأنه لا يخشى جرحها، ولا يعبأ بانكسارها؟!


أومأت بصمت، تكفي لمعة الانكسار التي لمعت في عينيها لتقول كل شيء. ثم أشاحت عنه وقالت بهدوءٍ متماسك:

ـ على العموم أنا كنت جاية علشان خالتي زينب قالتلي أقوللك تفطر معانا ..


رفع يده يحك جبينه بإرهاق، وقال بتنهيدة ثقيلة:

ـ لأ مش هقدر دلوقتي ، أنا يا دوب أخد شاور وأخرج لأن يومي كله مشغول النهارده .


كادت تسأله بماذا؟ لكنها ابتلعت السؤال، وأومأت بهدوء متحفظ، ثم استدارت مبتعدة.

لكنّه استوقفها، فنادَى اسمها.


توقفت، وشعور صغير بالرضا تسلل إلى قلبها… كانت شبه متيقّنة أنه سيتراجع في اللحظة الأخيرة، كما يفعل دائمًا. التفتت نحوَه محاوِلة إخفاء ابتسامة خفيفة… لكنه عاجلها قائلًا:

ـ اعتذري لزينب بالنيابة عني من فضلك .


تغير وجهها في لحظة، تجهمًا وحنقًا ورفضًا صريحًا:

ـ مش هعتذر لحد .. اعتذر لها بنفسك .


ثم استدارت مبتعدة باندفاعٍ وسخطٍ يميّزانها دائمًا، بينما بقي هو واقفًا عند الباب، يراقبها وهي تبتعد… والابتسامة الواسعة لا تزال ترتسم على شفتيه، لأنه نجح — وببراعة — في استفزازها تمامًا كما أراد.


تنهد وهو يغلق الباب ويعود للداخل، كان يشعر بالذنب، مدركًا أنه رغم حبه الكبير لها وحرصه على مشاعرها، اضطر لأن يلجأ إلى هذا الأسلوب القاسي قليلًا ليبعدها عنه مؤقتًا.

كانت كلماته الحادة وسيلته غريبة ومؤلمة، للحفاظ على مسافة بينهما، حتى لا يغمره قربها ويضعفه .


كما أنه تعمد فعل ذلك لكي لا تُصر على الذهاب رفقته للطبيب، لأنه يعلم أن حضوره معها في تلك اللحظة، بكل انكساره وارتباكه، سيجعلها تشعر بالقلق والخوف، فاختار أن يبعدها بطريقة ملتوية، أن يطلق الكلمات الحادة التي تحمل في ظاهرها استهزاءً، وفي باطنها رغبةً في حمايتها.


شعوره بالتناقض هذا، بين ما يريده قلبه وما يفرضه خوفه، كان يمزّقه بصمتٍ مؤلم؛

يريدها قربه، يريد أن يطمئن إليها، أن يحتوي قلقها ويمدّ يده لها كما اعتاد… لكنه في الوقت ذاته يخشى أن يقترب، يخشى أن تفلت منه لحظة واحدة لا يستطيع فيها السيطرة على نفسه، فيفضح كل ما يخفيه، كل ما يتآكله من الداخل، كل هشاشةٍ حاول دفنها لسنوات.


كان يعلم أن نغم، لو رأت ضعفه على حقيقته، ستشاركه الألم بلا تردد… لكنها في عينيه ما زالت تلك الفتاة التي يستحق قلبها رجلًا ثابتًا، قويًا، واضح الخطى.


أما هو… فكان يستيقظ كل يوم مُثقلًا بشعور العجز تجاه من حوله، وتجاه المسؤوليات، وتجاه خوفٍ دائم بأن يفقد كل ما يحب.


لذلك اختار أن يدفعها بعيدًا قليلًا، رغم أن كل خلية فيه كانت تصرخ ليلحق بها ويخبرها ألا تذهب.. ومن ثم يعانقها عناقًا يليق بحجم حبه لها ..


وبمجرد أن اختفت صورتها عن نظره، اختفى معها آخر دفاع كان يحاول التشبث به.


أغلق عينيه لثانية واحدة — فقط ثانية — لكن تلك الثانية كانت كافية ليعترف لنفسه :

أنه لم يعد قادرًا على احتمال نفسه بدونها… وأن يومه بدون عناقها لا بد أنه سيكون طويلا جدا … !!!!


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ


بعد أن انتهى من أخذ حمامٍ دافئ، خرج بخطوات بطيئة، يجرّ جسده كأن الماء لم يغسل عنه شيئًا مما يثقل قلبه. وقف أمام المرآة لحظة، قطرات الماء تتساقط من شعره، وعيناه تفضحان تعبًا لم ينجح في إخفائه.


رفع يده يمسح ضباب المرآة، فتبدّى له انعكاس رجلٍ لا يشبه الصورة التي يحاول دائمًا أن يظهر بها… رجل يحمل ملامح صراعٍ لم يعد قادرًا على الهروب منه.


تنفّس بعمق، شدّ المنشفة حول كتفيه، ثم اتجه نحو غرفة النوم بخطواتٍ تائهة، وقف أمام الخزانة ينتقي طقمًا يليق بمقابلة رجل قانون له وضعه مثل كريم خلف.


حاول أن يبدو متماسكًا قدر المستطاع. مرّر أصابعه على أكمام القميص الأبيض، ثم التقط سترةً داكنة منحته شكل الرجل الواثق، حتى لو كان كل ما فيه يهتزّ من الداخل.


ارتدى ملابسه ببطء، وكأنه يجهّز درعًا لا بدّ منه، لا ليواجه كريم فحسب… بل ليواجه الحقيقة. ربط رابطة العنق بإحكام أكثر من اللازم، ثم توقف لحظة، ينظر إلى نفسه في المرآة، مصطنعًا صلابة لا يشعر بها .


التقط مفاتيحه ومحفظته، ثم خرج، يحاول أن يترك خلفه ذلك الثقل. فتح الباب وسار نحو سيارته بخطوات محسوبة، خطوات رجلٍ يريد أن يبدو واثقًا مهما كانت الحرب دائرة داخله. استقل السيارة بهدوء، أغلق الباب، وضغط على زر التشغيل… دون أن ينتبه للحقيقة التي كانت تشتعل على بُعد خطوات منه.


هناك، خلف نافذة المنزل المجاور، كانت نغم — تقف ساكنةً كتمثال مشروخ، تكاد تأكل أصابعها من الغيظ وهي تراه يخرج في أبهى حالاته، بكامل أناقته، بنظرةٍ مركّزة لا تشبه الرجل المرهق الذي رأته قبل قليل .


راقبته حتى ابتعدت سيارته عن أنظارها تمامًا، ثم أطبقت أصابعها على حافة الستارة بقوة، وهمست من بين أسنانها:

ـ طيب يا فريد ..


ابتعدت عن النافذة وهي تشعر بالدماء تفور داخلها من شدة الغيظ، قبل أن تهوي بجسدها فوق الأريكة كأن البؤس ألقى بثقله عليها دفعةً واحدة. وفي تلك اللحظة، خرجت زينب من المطبخ وهي تحمل آخر أطباق الفطور، ثم التفتت إليها بابتسامتها الحنونة قائلة:

ـ يلا يا نغومه .. الفطار جاهز يا ماما .


اضطرت نغم للنهوض، وتقدّمت نحو المائدة بخطوات مثقلة، ثم رمقت الأطباق المتنوعة أمامها بنظرة متعجبة قبل أن تقول:

ـ ليه عملتي كل ده ؟! وليه رفضتي أساعدك ؟!


ـ يا حبيبتي انتي عروسة ولازم تتغذي كويس وترتاحي عشان يوم الفرح تبقي مرتاحة ووشك منور كده .


زفرت نغم بعمق بينما مدت يدها للطعام، وكأن الكلمات خرجت رغمًا عنها:

ـ عروسة ؟! شكله كده مش هيحصل .


عقدت زينب حاجبيها بضيق وهتفت فورًا:

ـ أعوذ بالله .. متقوليش كده واتفائلي بالخير .. ربنا يفرحك يا حبيبتي ويكتبلك السعادة انتي وفريد .


كانت نغم ما تزال تحمل بقايا الغضب في عينيها، وهو ما لمحته زينب بوضوح فسألتها بقلق:

ـ قوليلي يا حبيبتي .. انتوا اتخانقتوا ولا حاجة ؟!


رفعت نغم رأسها، وانطلق الغيظ في صوتها قبل أن يتوقف فجأة:

ـ كل ده علشان …


لكنها قطعت الجملة في منتصفها، كما لو أنها اصطدمت بجدار داخلها يمنعها من البوح. ابتلعت ما تبقى من الكلمات، واستسلم وجهها لشحوب صامت وهي تهمس:

ـ حاجة تافهة .


أدركت زينب على الفور أنها لا تريد الخوض في التفاصيل — تفاصيل ربما تخصها وحدها — فاحترمت حدودها بصمت محب، ثم قالت بنبرة هادئة تخفف عن قلبها:

ـ معلش يا حبيبتي طولي بالك .. فريد اليومين دول أكيد مضغوط ووراه مسؤوليات كتيره ربنا يعينه ، هو أكيد محتاج منك تقفي جنبه وتتفهمي حالته وتحاولي تهوني عليه .


اكتفت نغم بإيماءة صغيرة تعبر عن تفهمها، ثم عادت لتكمل طعامها بصمت، وقد انطفأت الفورة الأولى من غضبها وبقي مكانها قلق لا تعرف له ملامح.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كان فريد يقود سيارته في صمتٍ ثقيل، صمت يشبه كتلة حجر تسند صدره وتضغط عليه بلا رحمة. الطريق يمتد أمامه، لكنه لا يراه كما يجب؛ عيناه معلّقتان بالفراغ أكثر مما هما معلّقتان بالطريق من أمامه.


يده على المقود ثابتة، لكنها متوترة، وأصابعه تنقبض وتنفرج كأنها تبحث عن مخرج لا يعرفه.


كلما حاول أن يلتقط أنفاسه شعر بأن صدره يضيّق عليه، وأن ثِقَلًا غير مرئي يجثم على قلبه. تذكّر نظرة نغم عنه وهي تبتعد… وكيف اضطر إلى صدّها رغم أن كل ما فيه كان يريد العكس..

ورغم أنه يدرك تمام الإدراك أنها — في قرارة نفسها — كانت تتوق إلى عناقٍ منه، حتى لو ادّعت العكس، وحتى لو ارتبكت بالأمس تحت وطأة مشاعره المفاجِئة… إلا أنّ عناقه بات جزءًا أساسيًا من طمأنينتها، ركنًا ثابتًا لروحها، وكأنه الهواء الذي تتنفّسه حين يضيق العالم من حولها.


رفع فريد يده عن المقود ببطء، وكأنها تزن أطنانًا، ثم التقط هاتفه من المقعد المجاور. حدّق في الشاشة طويلًا… الاسم الذي يعرفه عن ظهر قلب يلمع أمامه، اسمهـا هي.

تردّد… وكاد يضغط زر الاتصال، لكن تراجع، فغيّر مساره في اللحظة الأخيرة واتصل بحسن بدلًا منها.


ثوانٍ مرّت قبل أن يأتيه صوت حسن، متعبًا، متهدّج الأنفاس، وكأن الكون كله جثم فوق صدره:

ـ أيوة يا فريد ..


ابتلع فريد ريقه وقال محاولًا أن يبدو ثابتًا:

ـ صباح الخير يا حسن .. إيه الأخبار عندك ؟!


على الطرف الآخر، زفر حسن زفرة طويلة، بينما عيناه تتفحصان عمر الجالس أمامه… نظراته زائغة، يتأمل الفراغ كمن خرج للتو من صدمة هزّت أعماقه، كتفاه منحنية، ويداه متشابكتان بإحكام فوق ركبتيه، كأنه يحاول التشبث بأي شيء لئلا ينهار.


قال حسن بنبرة أنهكها القلق:

ـ عمر مش كويس.. قاعد قدامي بس كأنه مش هنا.. مش عارف أخرّجه من الحالة دي إزاي .


تنهد فريد وهو يشعر بالضيق، ثم أسند مرفقه على زجاج السيارة وقال :

ـ قوللي انتوا فين دلوقتي ؟


ـ زي ما احنا .


أوقف فريد السيارة فجأة، وهتف بغير تصديق :

ـ معقول !! قاعدين في الكافيه من امبارح ؟!


أومأ حسن بضيق وقال بأسى:

ـ أيوة .. عمر مش راضي يتحرك من مكانه، لا راضي ييجي عندك ولا يرجع الڤيلا.. بيقول مش هيمشي من هنا غير على المعمل ساعة ما تظهر النتيجة .


صمت فريد لحظة، ثم تنهد وهو يضغط على جبهته بإصبعيه، وقال :

ـ طيب يا حسن ، أنا عندي دلوقتي مقابلة مع كريم هخلصها بسرعة وجاي لكم .


ـ تمام.. ربنا معاك .


ـ خلي بالك من عمر .. اطلب له حاجة ياكلها ولا يشربها بدل ما يقع من طوله .


ـ تمام متقلقش .. مع السلامة .


أنهى فريد الاتصال وهو يزفر بإرهاق، وأعاد الهاتف إلى جيب سترته، لكن… لم تمر ثانيتان حتى أحس بالقلق يجذبه من الداخل كما لو أن خيطًا خفيًا يشدّ صدره بقوة.


مدّ يده إلى جيب سترته مرة أخرى.

تحسّس الهاتف… ثم أخرجه.

فتح الشاشة.

أغلقها.

أعاد الهاتف إلى جيبه.

ثم أخرجه مرة ثانية وكأنه يشك أنه أغلقه بشكل صحيح.


ازدادت أنفاسه تلاحقًا، ومرّر يده على شعره بعصبية.

ثم أغلق عينيه لحظة، محاولًا تجميع شتات أنفاسه،

قبل أن يفتحها على اتساعهما… ويدير المحرك،

وينطلق بسرعة أكبر من المعتاد،

وكأنه يحاول الهروب من رأسه… أكثر مما يهرب من الطريق.


ـــــــــــــــــــــــــــ


بعد ساعة تقريبًا كان قد بلغ مكتب كريم.

توقّف أمام المبنى، وأطفأ المحرك ببطء… لكن يده بقيت على المفتاح لثوانٍ، وكأنه غير قادر على تركه.

نفَسٌ ثقيل خرج منه قبل أن يجبر نفسه على النزول من السيارة.


خطى داخل المبنى بخطوات ثابتة من الخارج…

لكن من الداخل كان يشعر أن قدميه هشتان، كأنهما لا تحملانه جيدًا.


استقبلته السكرتيرة فور دخوله، قبل أن يصل حتى إلى باب مكتب كريم.

رفعت رأسها من فوق شاشة الكمبيوتر، وابتسمت ابتسامة صغيرة مهذّبة، وقالت :

ــ أهلًا يا بشمهندس فريد… اتفضّل، الأستاذ كريم منتظرك.


هزّ رأسه بلا كلمة، لكن الخطوات التي أخذها نحوها كانت بطيئة… محسوبة…


مدت يدها لتضغط زر الاتصال الداخلي:

ــ أستاذ كريم… الأستاذ فريد وصل.


صدح صوت كريم من السماعة:

ــ خليه يدخل يا سارة.


دلف فريد بعد أن أخذ نفسًا ملأ به رئتيه.. فكان المكتب الواسع يغرق في سكونٍ رخيم .


نهض كريم مرحبًا به، ثم دعاه للجلوس فجلس فريد على المقعد المقابل لمكتب كريم، ظهره مستقيم كعادته، لكن عينيه كانتا تحملان توترًا لم ينجح في إخفائه.


بعد أن تبادلا الحديث الجانبي وتفقد كلٌّ منهما أحوال الآخر، وقدمت لهما سارة قدحين من القهوة، غادرت بهدوء تاركة المكتب يغرق في صمتٍ مهذب يليق بطبيعة اللقاء.


أخذ كريم يطالع الأوراق بتركيز.. ذلك المستشار القانوني الدولي الذي اشتهر بثباته وعمق نظرته، ثم رفع رأسه عن الأوراق المصفوفة أمامه، وحدق في فريد نظرة طويلة فاحصة… نظرة رجلٍ يلتقط تفاصيل كل شيء حوله؛ حيث بدت عيناه ثابتتين، هادئتين، لكنهما تحملان اهتمامًا حقيقيًا بما يراه أمامه.. فقال بجدية:

ـ طبعا أنا راجعت الملف كله أكتر من مرة… لكن قبل ما أقولك هنعمل إيه، عاوزك تجاوبني.. إنت متأكد إن جيرالد اللي وراه هو والدك ؟


شدّ فريد أصابع يديه بقوة، وكأنها الطريقة الوحيدة ليمنع ارتجافه من الظهور، ثم أومأ آسفًا وهو يقول بنبرة مكتومة يغلفها الضيق والانشغال:

ـ للأسف… دي حقيقة. تأكدت بطريقةٍ ما.


رفع كريم حاجبه قليلًا، ثم أومأ ببطء كأنه يرتّب خيوط الصورة في ذهنه، وقال بنبرة هادئة لكنها تحمل صراحة لا تعرف المجاملة:

ـ طيب… على العموم أنا عملت بحث عن جيرالد ده واتضح إنه اتسجن قبل كده ست شهور على ذمة قضية تزوير مستندات وخرج منها بكفالة، غير إنه ماعندوش أي سجل استثماري ولا نشاط تجاري في أوروبا… الراجل ده شغله كلّه نصب وعمولات.

وتقريبًا نادر، محامي العيلة هو اللي كان بيغطي على القضايا دي كلها.. وهو بردو اللي قدملك جيرالد بالشكل اللي إنت كنت محتاجه في الوقت اللي كنت فيه شبه خسران كل حاجة ..


أومأ فريد بأسف مؤكدًا واقعية حديث كريم الذي تابع وهو يسحب ملفًا من أمامه ويضعه على المكتب بينهما:

ـ يعني باختصار… إنت وقعت في شبكة معمولة بإتقان،


ثم تنهد وقال وهو يقلب صفحة في العقد:

ـ العقد اللي بينك وبين جيرالد شكله قانوني… لكن فيه ثغرات…


أومأ فريد متأملًا ليستمع لما سيقوله كريم؛ فأغلق كريم الملف ودفعه للأمام قليلاً، ثم مال بجذعه وقال بثقة:

ـ اسمع يا فريد… إنت عندك طريقتين للخروج من الورطة دي..


رفع فريد حاجبه كمن يتمسك بأمل أخير، وقال :

ـ الأولى ؟!


أشار كريم بأصابعه وكأنه يرتب الحلول أمامه:

ـ إننا نعمل “Due Diligence Review” بأثر رجعي على العقد… يعني مراجعة قانونية كاملة لإثبات إن جيرالد قدم بيانات مضللة. ولو ثبت التضليل، العقد يُعتبر باطل تلقائيًا… وبكده تخرج منه بدون ما تتحمل أي مسؤولية.


فريد، وقد بدأ الأمل يعود لصوته:

ـ وساعتها مايبقاش ليه عندي حاجة؟


ـ ولا مليم… بالعكس، يبقى هو اللي مُطالب بتعويض.. لأن اللي عمله ده تدليس ، والتدليس بيبطل العقد، زائد انه تسبب لك في إضرار مادي ومعنوي مُتعمَد وده يُلزمه بالتعويض ..


ثم أكمل كريم:

ـ بس دي طريقة بطيئة… وهتفتح باب صراع قانوني ممكن يطول شهور.


أومأ فريد ببطء، ثم قال:

ـ والتانية؟


ابتسم كريم ابتسامة خفيفة وقال بنبرة أكثر حدة:

ـ الثانية أسرع… وأضمن.

إحنا هنستخدم حاجة اسمها “شرط الإخلال الائتماني”.

بند صغير في العقد بيقول إن الشريك مُلزَم بالكشف عن أي سوابق أو معلومات تمس سمعته أو خلفيته القانونية.


رفع فريد رأسه فجأة:

ـ وجيرالد عنده قضايا نصب قديمة.


ـ بالضبط…


أجاب كريم بثقة وهو يطرق بأصابعه على الملف، وتابع:

ـ وعدم إبلاغك بالقضايا دي يُعد إخلال صريح بالعقد.

وساعتها.. يتم فسخ العقد فورًا ومن غير ما تتحمل أي خسارة.


سكت لحظات ثم أضاف بصوت أعمق:

ـ وده كمان يمنع والدك ومحاميه من الضغط عليك بأي شكل من الأشكال لأن الشراكة هتبطل من أساسها… يعني قانونيًا مفيهاش ثغرة.


مرت لحظة صمت، أغمض فريد عينيه وتنفس بعمق، قال بصوت متحشرج قليلاً:

ـ الحمدلله .. كنت فاكر مفيش مخرج.


ضحك كريم بخفة:

ـ لأ متقلقش .. ربنا ميرضاش بالظلم أبدا .


أومأ فريد مؤكدا، ونظر إليه بثبات:

ـ طيب مفروض نبدأ امتى؟


رد كريم وهو يسحب الأوراق ويعيد ترتيبها:

ـ من دلوقتي.. أول حاجة هنرفع قضية ببطلان العقد وده هيطلعك من المشكلة كلها نضيف زي ما بنقول، يعني بدون أي خساير .. وهنرفع كمان دعوى تعويض عن الأضرار المادية والمعنوية اللي تعرضت لها.


ثم تنهد وتابع :

ـ القضية هتتوجه ضد جيرالد بصفته الموقع على العقد، ونادر المحامي لأن في حالتك دي إنت قدرت تثبت إنه بيتلاعب مهنيًا بالموكلين بتوعه ..


ثم صمت لحظة وتابع بهدوء شديد:

ـ وعلى فكرة .. انت تقدر كمان تقاضي والدك وتطالبه بتعويض لأنه هو المحرض الرئيسي ورا جيرالد ..


شرد فريد للحظة، كان صامتًا، وعيناه تحدقان في الملف أمامه دون أن يرى شيئًا. رغم أن الكلام الذي سمعه من كريم كان يُفترض أن يملأ قلبه بالارتياح والطمأنينة، إلا أن شعورًا آخر استحوذ عليه: شعور بالرفض والاحتقان الداخلي.


رفع رأسه ببطء، وقال بنبرة حادة تكاد تخفي تمزقه الداخلي:

ـ لأ… مش هقدر أعمل كده.


كانت كلماته واضحة ومليئة بالقرار الداخلي، لكنه لم يكن غضبًا عشوائيًا، بل شعورًا بالمسؤولية تجاه عائلته وكرامته، وإحساسًا بأن اللجوء إلى القضاء ورد اعتباره من والدِه ورفع دعوى ضده حتى وإن كان حقًا قانونيًا، لن يُشعره بالرضا، بل سيزيده ثقلًا داخليًا ويكسر شيئًا فيه.


تنهد مرة أخرى، يداه مشدودتان على الطاولة، وعيناه تتفحصان الورق أمامه بلا رغبة في قراءة التفاصيل، بينما داخله حربٌ بين الرغبة في حماية حقوقه وبين رفضه للانتقام من والده، كأن قلبه يصر على ألا يتحول القانون إلى سيف يقطع رابطة الدم بينهما .


تنهد طويلًا، والهدوء يعود لملامحه شيئًا فشيئًا، لكنه ظل صامتًا، غير مستعد بعد لاتخاذ أي خطوة ضد والده، مؤكدًا لنفسه أنه سيخرج من تلك الورطة بأمان دون الاضطرار إلى مقاضاته، ودون أن يسمح لغضبه أن يقوده إلى خوض حرب باردة ضده.


أومأ كريم بدوره بتفهم، دون أن يحاول دفعه أو إقناعه… فالقرار كان واضحًا أنه قرار رجلٍ جُرح، لكنه ما زال يحتفظ بقدر من الوفاء يمنعه من ضرب والده في مقتل.. ثم تنهد وقال :

ـ خلاص… نعتبر القضية بيننا وبين جيرالد ونادر بس. والباقي نزبطه بالمستندات. وإنت اطمن… إحنا هنطلع من الموضوع ده واقفين على رجلينا متقلقش ..


وزفر زفرةً سريعة، ثم مال قليلا للأمام، وصوته يكسوه ثباتًا وحكمة :

ـ أما بقا بالنسبة لسيلين .. فانت كنت قلت لي إنه تم استخدامها كأداة لإثارة البلبلة حوالين اسمك وإلحاق الضرر الأدبي والمجتمعي بيك، فانا شايف إن من حقك تاخد ضدها إجراء وتطالبها بتعويض بس نثبت الأول إنها كانت على علم باللي بيحصل وإنها مشتركة معاهم ووقتها يعتبر الي هي عملته تشهير صريح ومن حقك وقتها تطالب بتعويض كبير كمان .


ثم سكت لحظة وأضاف بنبرة أكثر واقعية:

ـ لكن… خلّيني أكون صريحًا معاك.

الأفضل إننا نبدأ الخطوة دي بعد ما نخلص من فسخ الشراكة ونضمن خروجك قانونيًا نظيف مية في المية.


تنفس فريد بعمق، وعاد يسند ظهره للمقعد، وقال بنبرة امتزج فيها الضيق بالعقلانية:

ـ أنا شايف إنها أقل من إني أضيّع وقتي وطاقتي عليها.. لكن ، لازم بردو تعرف مين هو فريد مرسال وقادر يعمل إيه .. لعلها تكون عبرة لغيرها أو لأي حد يفكر يتصرف نفس تصرفها ده مرة تانية .


هز كريم رأسه بتفهم وقال :

ـ بالظبط .. ده حقك ولازم كل حد شارك في اللي حصلك يتحاسب .


أومأ فريد مؤيدًا، وقال :

ـ ربنا يقدم اللي فيه الخير إن شاء الله .. نخلص بس من المشكلة دي وبعدين نفكر في الجاي .


ثم نهض، ومد يده نحو كريم يصافحه وهو يشعر وكأن كتلة الحجر الجاثمة على صدره بدأت تتفتت.

ـ مش عارف أشكرك إزاي بجد ..


صافحه كريم بثقة وقال:

ـ متشكرنيش أنا لسه معملتش حاجة، خلي الشكر لبعدين لما تقف على رجليك من تاني وتأسس شركتك الجديدة هنا في مصر وأوعدك وقتها هخلص لك الاجراءات كلها بدون أتعاب.. جدعنة مني .


ضحك فريد ضحكةً هادئة، وأومأ مؤكدًا وقال :

ـ أكيد بإذن الله .. على كل حال أنا سعيد بمعرفتك بعيدا عن الشغل.. أنا من زمان كنت مهتم أتعرف عليك بصفتك ابن الدكتور رؤوف قبل كل شيء .


بادله كريم بابتسامة عريضة وهو يهز يده بحفاوة ويقول:

ـ وأنا أسعد صدقني .. وإن شاء الله تكون معرفتنا فيها الخير للجميع .


انسحب فريد ثم غادر المكتب ومنه إلى المبنى، ثم استقل سيارته، وما إن استقر فوق مقعده، خلف المقود.. حتى أطلق زفرةً طويلة وهو يحرك ربطة عنقه قليلا وقد شعر بقليل من الراحة بدأت تنفذ إلى قلبه المضطرب .


ضغط زر التشغيل ومن ثم انطلق متجهًا نحو المقهى الذي ينتظر به كلا من حسن وعمر .


༺═────────────────═༻


كان عاصم جالسًا في مكتبه، وحده تمامًا، إلا من ذلك الصمت الذي يزداد ثقلًا كلما دار بكرسيه يمينًا ويسارًا. أصابعه تضرب على طرف المكتب بلا وعي، وركبته تهتز ببطء، وعيناه شاردتان في نقطة لا يراها أحد سواه… وكأنه يبحث داخل رأسه عن زرّ يوقف هذا الصراع المحتدم.


كان يشعر أنه محاصر بين خيارين، وكل خيار فيه جزء منه يُقطع.


استند بكوعه على المكتب، ووضع يده على جبينه، وأغمض عينيه لبرهة…

ومن بين هذا التشويش كله، ظهرت صورتها.


نسيم.


ظهرت كأنها ضوء صغير في غرفة مكتومة.

تذكّر نظرتها له هذا الصباح وهي تودعه قبل أن يغادر المنزل، تلك النظرة التي كانت أكبر من أي كلمة… تلك النظرة التي جعلته يشعر — للمرة الأولى — أنه العالم كله بالنسبة لامرأة.


كانت تنظر إليه وكأنها تستند عليه دون خوف.

وكأنها وجدت أمانها فيه…

وكأنها مكتفية به وحده.


تذكّر ارتجافة صوتها…حين أخبرته وهي تكاد تختنق من شدّة شغفها: أنها تعشقه بالقدر الذي يجعلها قادرة على أن تُلقي بروحها في النار لو طلب منها…

وأنها تهواه حدّ الهلاك، حدّ الذوبان، حدّ الجنون الذي لا شفاء منه…

وأنه — وحده — مالك قلبها، سيّده، ومأمنها الأخير، والباب الذي تعود إليه مهما ابتعدت.


تذكّر يديه المرتعشتين وهي تضعهما فوق بطنها…

وتذكّر كيف أحسّ، للحظة، أن كل شيء أخيرًا يقوده إلى شيء يشبه الحياة التي حلم بها:

أب… لابن منها.


مجرد الفكرة أشعلت قلبه.

جعلته يبتسم رغم مرارته.

فكرة أن الطفل جزء منهما… خليط من ألمهما، وخوفهما، وحبٍ ولد من رحم المعاناة التي عاصراها سويًا .


لكن تلك الدقائق الدافئة، ذلك الحنين، لم يصمد طويلًا أمام الواقع الذي يطوقه؛ أنه لازال معلقًا بطرف خيط يربطه بثأر لم يكتمل .


فتح عينيه من جديد، وزفر زفرة ثقيلة، كمن يسقط حملًا فوق صدره بدل أن يزيحه.

توقف الكرسي عن الدوران، وكأن جسده اتخذ القرار الذي ظل عقله يهرب منه.


الانسحاب… هو الآن ملزم بإنهاء كل شيء، ملزم بالاكتفاء لما توصل إليه ..


ليس لأنه يري أنه كافيًا، بل لأنه يخشى أن يتمادى فيخسرها…

يخشى أن يصبح الطفل القادم شاهدًا على حياة ملغّمة لا تستحقها نسيم.. ولا يستحقها حبهما .


مدّ يده إلى الهاتف بصعوبة، وصوته حين رفع السماعة كان متعبًا منغلقلا مما يوحي بعدم رغبته في إتمام الأمر، واتصل على الممرضة أحلام.


رنّ الهاتف مرة… مرتين… ثم ردّت بصوت لطيف، خافت، اعتادت أن تخاطبه به:

ـ أيوه يا عاصم بيه؟ تحت أمرك.


ابتلع ريقه.

حاول أن يتكلم… أن ينتزع الكلمات من صدره انتزاعًا ولكنه فشل.

أخذ نفسًا أعمق….ثم خرج صوته متحشرجًا، خافتًا، لكنه حاسم:

ـ النهارده توقفي كل حاجه وتمشي من الفيلا.



قالها وكأنه يقطع آخر خيط يربطه بما يريد، ويترك نفسه واقفًا وحيدًا في مواجهة ما لا يعرف إن كان صوابًا أم جريمة جديدة يرتكبها ضد قلبه.


ـ إزاي حضرتك ؟! احنا لسه كنت المفروض إني هبدأ أدي له الدوا تاني من بكرة زي ما حضرتك قلت.


عاجلها حيث قال بغضب جهور، فخرج صوته أعمق مما ينبغي، أشد مما قصد :

ـ سمعتيني ؟!!! وقفي كل حاجه والنهارده تمشي وبمجرد ما تمشي بقية حسابك هيوصلك وتاخدي بعضك وترجعي بلدكم .. ممنوع تفضلي في القاهرة .


تلعثمت أحلام، محاولة فهم الانقلاب المفاجئ:

ـ طيب وسالم باشا ؟ أقولله إيه وأبرر إنسحابي إزاي ؟!


أجاب بحدة من يحاول أن يغلق كل الأبواب خلفه كي لا يتراجع:

ـ أنا هتصرف وهخلي الدكتور جمال يكلمه بنفسه ويفهمه إن وجودك مبقاش له داعي .. بس زي ما قلت لك، هتسيبي القاهرة تماما ولو حصل وجدت أي ظروف ووصلوا لك ممنوع تجيبي سيرتي بحرف .. انتي سامعة ؟


تنهّدت أحلام بخضوع من يعرف أن لا فائدة من الجدال، ثم قالت بصوت خافتٍ مطواع:

ـ أمرك حضرتك…. اللي تشوفه.


أنهت الاتصال بيد ترتجف قليلًا، وأغلقت الهاتف ببطء، وأخفضته بهدوء.


خطت خطوة إلى الوراء تستعد للمغادرة، ثم استدارت لتتجه نحو الباب، لكنها تجمّدت في مكانها.


عيناها اتسعتا في ذهولٍ فوري، وقلبها كاد يسقط من بين ضلوعها.


كانت هي تقف أمامها.


واقفة عند حافة الممر، ساكنة كتمثال، تتأمل أحلام بوجهٍ لا يوحي بشيء… لا غضب، لا دهشة، لا رحمة.


فقط نظرة واحدة… كانت كافية كي تُسكت أنفاس أحلام وتحبسها في صدرها.


༺═────────────────═༻


علشان خاطري بقى كلميه يا خالتي… من فضلك.


قالتها نغم وهي تقترب من زينب بتوسل طفولي، فرفعت زينب حاجبيها بدهشة وهي تجيبها:

ـ يا بنتي ما انتي كلمتيه الصبح قالِّك مشغول، أنا هكلمه أقول له إيه؟!


ـ اسأليه هييجي على الغدا ولا لأ..


رمقتها زينب بنظرة ماكرة وقالت:

ـ طيب ما تكلميه انتي..


ـ لأ.. بيفضل يقول لي بطّلي زن، ولو كلمته دلوقتي أبقى بثبت له إني زنانة فعلًا..


هزّت زينب رأسها بسخرية لطيفة وهي تقول:

― لأ وانتي الشهادة لله مش زنانة خالص.


عقدت نغم حاجبيها بتجهم، فقهقهت زينب بخفة قبل أن تقول:

ـ طيب خلاص متزعليش.. هاتي التليفون بتاعي من جنبك وأنا هكلمه.


مدّت نغم الهاتف لها، فأجرَت زينب الاتصال. لم تمضِ سوى ثوانٍ حتى جاءها صوته الرخيم:

ـ نعم يا زينب؟



ـ فريد.. إزيك يا حبيبي؟


ـ أنا الحمد لله بخير.. إزي حالِك؟


ـ أنا كويسة طول ما انتوا بخير يا حبيبي..


التفتت زينب بسرعة إلى نغم التي كانت تلوّح لها بيديها في استعجال واضح لتدخل في الموضوع، فقالت:

ـ أنا كنت بكلمك أقولّك تتغدى معانا النهارده بما إنك مكنتش فاضي وقت الفطار.. إيه رأيك؟


تنهد فريد قائلًا:

ـ مش هعرف يا زينب معلش، أنا يومي كله مشغول وقلت لنغم الكلام ده.. يبقى ليه الزن؟!


تفاجأت زينب بأنه التقط الفكرة فورًا وأدرك أن اتصالها لم يكن إلا بضغطٍ من نغم، فاتسعت عيناها قليلًا بدهشة ممزوجة بالامتعاض الخفيف من موقفها. التفتت نحو نغم التي كانت تتابعها بعينين متوترتين، تتحسس ملامح زينب كأنها تقرأ منها الحكم الصادر بحقها. 


تنهدت زينب وهي تشعر بوخزة خفيفة من الحرج، ثم قالت بصوت حاولت أن تجعله مطمئنًا:

ـ طيب.. اللي يريحك يبني.. ربنا معاك.


جاءها صوته السريع المتلهف للدعاء:

ـ يارب.. ادعي لنا.


ارتسمت على وجهها ابتسامة دافئة خرجت من أعماق قلبها وهي ترد:

ـ داعية لكم دايمًا والله.


وكأنها تراه أمامها وهو يومئ، قبل أن يتنهد بنبرة أثقلها التعب وقال:

ـ بقولك يا زينب.


ـ اتفضل يا حبيبي..


ـ بوسيهالي.


قالها وكأنه يسلّم نفسه لعجزه، لشوقه وعشقه، فاتسعت ابتسامة زينب رغماً عنها وهي تحاول السيطرة على وجهها أمام نغم، وقالت بثبات:

ـ من عنيا.


أنهى فريد الاتصال في تلك اللحظة، ثم صفّ سيارته بعد أن وصل إلى المقهى، وترجّل منها على عجَل.


أما زينب، فالتفتت إلى نغم بابتسامة خفيفة، فبادرتها نغم بلهفة:

ـ قالِّك هييجي؟!!


هزّت زينب رأسها نفيًا، فورًا انطفأت ابتسامة نغم، لكن زينب أسرعت تربّت على ذراعها وهي تقول:

ـ بس قال لي أوصلك دي.


ثم اقتربت منها برفق وطبعَت قبلة حانية على وجنتها، مما جعل نغم تلتفت إليها في ذهول، فقهقهت زينب وهي تقلب كفيها متعجبةً وهي تقول:

ـ والله انتوا الاتنين مجانين .. ربنا يهديكم .


اتسعت ابتسامة نغم وهي تتلمس موضع قبلة زينب بغير تصديق، رمشت ببطء.. وكأن الكلمات احتاجت وقتًا لتصل إلى عقلها، ثم رفعت عينيها إلى زينب وقالت :

ـ هو قاللك تبوسيني ؟!


أومأت زينب وهي تكتم ضحكاتها، فانفلتت من نغم ضحكة عالية، صادقة وعفوية، ثم ارتجفت شفتاها قليلاً، وأحست بدفء خفيف يملأ صدرها، كحالها دومًا في حضرته .


༺═────────────────═༻


خرج عاصم من الشركة بخطوات ثقيلة، خطوات رجلٍ يشبه من تخلى عن جزء من نفسه وخططه وأحلامه..



قاد سيارته بلا وعي تقريبًا، كأن الطريق يعرفه ويحمله إلى حيث يجب أن يكون.

لم ينتبه لنفسه إلا عندما وجد السيارة تتوقف تلقائيًا أمام المقابر.


ترجّل ببطء…

ومشى بين الصفوف الصامتة، حتى وقف أخيرًا أمام قبر حازم. تجمد في مكانه…

ثم هوت ركبتاه على الأرض بجواره دون تفكير.


مدّ يده يتحسس اسم أخيه المنقوش على الحجر، وكأن اللمس قد يعيده للحياة.

ثم انحنى برأسه فوق القبر، وارتجف صدره ارتجافة واحدة… قبل أن ينفجر بالبكاء.


بكاء مكتوم… عميق…

بكاء رجل لم يُسمح له يومًا أن ينهار، فانهار دفعة واحدة.


ـ حازم… سامحني… أنا آسف .


خرج صوته مبحوحًا، متقطعًا، كأن كل كلمة تشق حلقه شقًا.


ـ سامحني أرجوك أنا طلعت جبان.. وأناني .. أنا متخيلتش أبدا إني ممكن أفضّل حد عليك ، بس أنا مش قادر أخسرها ولا أخسر ابني اللي جاي ، يمكن في البداية الموضوع كان سهل بالنسبة لي وكنت مصمم أكمل للآخر لحد ما أقضي على سالم وأموتّه بالبطيء، بس لما فكرت وحسيت إني احتمال أخسر نسيم خفت..


مسح دموعه بظهر يده وهو يهز رأسه بعنف، كأنه يعاقب نفسه على الاعتراف.

ـ أنا بحب نسيم أوي يا حازم .. بحبها وخايف أخسرها، مش هقدر أعيش من غيرها، أنا آسف .. آسف إني اخترت حياتي وسِبت حقك.


ابتلع ريقه بصعوبة، وعيناه لا تزالان معلقتين بالحجر الصامت.

ـ أنا حاسس إني بخونك، حاسس إني مش قد الوعد اللي وعدتك بيه لما قلت لك إني هجيبلك حقك من اللي غدروا بيك.. بس غصب عني ، أنا من غير نسيم ولا حاجة .


وضع كفه كاملًا فوق القبر، وهتف بلوعةٍ وهو يشعر بكامل قواه وقد خارت :

ـ أنا مش قادر أقولها يا حازم .. بس أنا تعبت ونفسي أعيش .. جايز اللي عملته فيهم مش كفاية لكن مش نافع أكمل.. لو كملت هخسر نسيم للأبد، وأنا لو نسيم راحت مني يبقى الموت أرحم لي.


تساقطت دموعه بلا هوادة، وكان يشعر أنها أول مرة يصل لهذا الحدّ منذ وفاة أخيه، وكأن كل ما حُبس داخله سنوات يخرج الآن بلا رحمة.


ثم مال بجبهته على الحجر، وبقي هكذا… ساكن الجسد، منطفئ الروح..


ثم وقف أخيرًا، وقد بدا كأنه شيخ عجوز لا رجلًا في أوج قوته، واستدار ليمضي، وجسده مثقل… لكن قلبه لأول مرة منذ زمنٍ طويل يطلب النجاة لا الانتقام.


༺═────────────────═༻


ـ نادية هانم !


قالتها أحلام وهي تزدرد لعابها بخوف، تشعر وكأن الأرض تميد بها، وكأنها على وشك الموت حالا …


اقتربت منها نادية بخطوات بطيئة، واثقة وهادئة، حتى وقفت أمامها، ثم رفعت رأسها قليلًا لتنظر مباشرة في عينيها، وقالت بنبرة منخفضة… ثابتة… تحمل في عمقها تهديدًا مقنَّعًا :

ـ بهدوء ومن غير شوشرة .. احكيلي كل حاجة وإياكي… تكدبي أو تتذاكي عليا لأني مش هرحمك .


ارتجفت أحلام، وأخذت تنظر حولها بريبة، ارتبكت نظراتها وهي تنظر إليها وتقول بتوسل :

ـ أرجوكي متضغطيش عليا.. أنا لو اتكلمت هروح في داهية .


ـ ولو ما اتكلمتيش هتروحي في ستين داهيه ! أنا سمعت كلامك مع عاصم وفهمت حوار الدوا كله .. لكن لازم حالا تقوليلي إيه الحكاية من أولها لآخرها .


انزلق ريقها لا إراديًا، ونظرت إليها بخوف، ثم أسرعت توصد باب الغرفة جيداً وعادت إليها وهي تعبث بأناملها في خوف وتقول :

ـ أرجوكي اوعي تحكي لحد .. سالم باشا واولاده لو عرفوا مش هيرحموني .


أومأت نادية بتأكيد وقالت :

ـ كويس إنك عارفة ، علشان كده انتي مضطرة تحكيلي كل حاجه ومن غير كدب .. يا إما هسلمك بايديا للباشا وولاده وانتي عارفة الباقي !


زرفت أحلام الدموع وقالت بصوتٍ مضطرب :

ـ أنا كنت شغالة لحساب عاصم بيه .. كنت بدي دوا لسالم باشا مكان دوا الضغط.. بيسبب خرف وزهايمر ..


كاد فم نادية أن يسقط أرضًا من فرط دهشتها، وهتفت أخيرا بعد أن وجدت صوتها :

ـ مش ممكن … !!!


أومأت أحلام والرهبة تسري في دمها وتسيطر على أعصابها فتجعلها ككومة مشتعلة من القش .. وقالت:

ـ ده اللي حصل فعلا .. وحالة الباشا كانت تدهورت جدا لحد ما وقفنا الدوا .. ودلوقتي عاصم بيه أمرني إني أمشي من هنا فورا وأوقف كل حاجه .


وقفت نادية، تضع يديها بخصرها وهي تنظر حولها، تحاول استيعاب الأمر، ثم نظرت إليها مضيقةً عينيها وهي تقول:

ـ يعني الحالة اللي هو فيها دي بسبب الدوا ؟!!


أومأت أحلام بإيماءة منكسرة وأطرقت بخزي وهي تقول:

ـ بنسبة كبيرة أيوة ..


ـ عاصم أمرك توقفي الدوا ليه ؟!


ـ مش عارفة .


ـ وليه طلب منك تمشي حالا ؟!


ـ بردو مش عارفة .. عاصم بيه مش بيشرح أسباب .


تنهدت نادية ورفعت يدها تدلك جبهتها وكأنها تُعمق الحفر بداخلها علها تستخلص فكرةً أو طريقةً تستغل بها تلك الفرصة، ثم نظرت إلى الأخرى وقالت :

ـ عاصم كان هيديكي كام ؟!


ابتلعت أحلام ريقها بوجل وقالت :

ـ اتفق معايا على ٢ مليون . أخظت مليون قبل ما أجي هنا ، وقاللي إنه هيحوللي المليون اللي لسه النهارده .


أومأت نادية بتفكر، ثم رفعت ناظريها إليها واللذين كانا في غاية الخبث والسُمّية، وقالت :

ـ اسمعي .. أنا هعمل معاكي deal حلو جدا .. لو وافقتي عليه اعتبري نفسك في أمان ، إنما بقا لو رفضتي فتأكدي إني مش هتردد لحظة وهحكي لسالم باشا عل اللي سمعته وهو حر يتصرف معاكي بالطريقة المناسبة .


اهتز داخلها وصاحت برجاء:

ـ لا أرجوكي بلاش الباشا يعرف ..


ـ يبقا نتفق .. هديكي خمسة مليون جنية حالا مش هقوللك بعد التنفيذ .. لأ .. خمسة مليون كل شهر .


بُهتت أحلام وتجلّت الصدمة في ملامحها، بينما تابعت نادية بصوتٍ حاسم :

ـ مقابل إنك تكملي اللي بدأتيه ..


نظرت إليها أحلام بغير تصديق، وقالت بصوتٍ مرتبك:

ـ تقصدي إني ..


عاجلتها نادية بإيماءة حازمة بلا تردد :

ـ هتحطي الدوا لسالم باشا زي ما كنتي بتعملي .. بس هتزودي الجرعة .. لازم حالته تتدهور بسرعة .


هتفت أحلام باعتراض :

ـ مش ممكن .. بالشكل ده ممكن يموت .


استدارت نادية عنها وهي تشعر وكأنها تحمل في صدرها جمرًا متقدًا، وهتفت بنبرة مشبعة بالحقد والغضب :

ـ متقلقيش .. اللي زي سالم قط بسبع أرواح .. مش هيموت بسهولة .


وأدارت رأسها قليلا تنظر إليها بلامبالاة، وأضافت :

ـ وحتى لو مات .. يبقا ريحنا من شره ووفر علينا وعلى نفسه المشاكل والصراعات دي كلها .


شردت أحلام للحظات، وكأن عقلها انقسم نصفين… نصفٌ يصرخ فيها أن تهرب الآن، ونصفٌ آخر يجرّها إلى الجشع والخوف والتهديد الذي يخنق أنفاسها. ارتجفت أناملها، ومسحت دموعها بظهر يدها وهي تهمس:


ـ بس .. بس عاصم بيه لو عرف مش هيسيبني في حالي.


قهقهت نادية ضحكة قصيرة باردة لا تمتّ للإنسانية بصلة، ثم التفتت إليها ببطء وقالت بنبرة محمّلة بالاحتقار الهادئ:

ـ  تواجهي عاصم لوحده ولا تواجهي سالم وولاده التلاته اللي على أتم الاستعداد يمحوكي من على وش الدنيا لو عرفوا إنك اللي وصلتي أبوهم للحال ده ؟


شهقت أحلام لمجرد التخيل، وحدقت فيها برعب متصاعد، بينما نادية تقترب منها بخطوات ثابتة، حتى أصبحت بينهما أنفاس:

ـ وبعدين… انتي فاكرة إن عاصم هيحميكي لو اتكشفتي؟ ده أول واحد هيبيعك… وهينكر معرفته بيكي... وهتروحي فيها لوحدك .


ارتعشت أحلام أكثر، وشعرت أن قدميها لم تعودا قادرتين على حملها، فتمتمت بصوت مرتجف:

ـ طب… ولو وافقت… الضمان إيه إنك متغدريش بيا بعد ما أنفذ الاتفاق ؟!


أمالت نادية رأسها بثقة قاتلة وقالت:

ـ مفيش ضمانات .. ومفيش عندك رفاهية الاختيار أصلا إذا كنتي توافقي أو ترفضي .. لكن بحسبة بسيطة تقدري تعرفي وتقرري مصلحتك فين ومع مين .


تجمد الهواء حولهما، وكأن الغرفة ضاقت، وكأن الجدران اقتربت لخنق أحلام، التي شعرت بأن القرار يُسحب من بين يديها سحبًا.


أغمضت جفنيها لحظة ثم فتحتهما ببطء، وصوتها يخرج كأنها تعترف بجريمة وهي لم ترتكبها بعد:

ـ أنا موافقة …. !!!!


༺═────────────────═༻


مساءا ..


لم يتبادل الثلاثة أي كلمة طوال الطريق.

كان صوت ضوضاء الطريق هو الشيء الوحيد الذي يملأ الصمت.


عمر .. جلس في المقعد الخلفي، يضم يديه بقوة لدرجة أن مفاصلهما ابيضّت.

فريد .. كان يقود بعينين شاخصتين للأمام، باله شارد وعقله مشغول .

أما حسن، فكان يشيح بنظره بينهما كل دقيقة كمن يحرس قنبلة موقوتة على وشك الانفجار.


بعد دقائق وصلوا إلى المختبر، نزلوا من السيارة بخطوات متثاقلة.. فوقعت أعينهم فورا على لاتويا رفقة محاميها الخاص، تحمل الطفل وتجلس في أحد مقاعد الانتظار .


رفعت لاتويا رأسها فور رؤيتهم.

تجمّدت للحظة، ثم أشاحت عنهم بسرعة وكأن الصدمة أصابتها بالتوتر ..


نظرت إلى عمر تحديدًا، ملامحها تشي بالخوف وهي تراه يطالعها بتوعد صامت.. اقتربت خطوة لا إراديا من محاميها وكأنها تحتمي به، ثم تشبثت جيدًا بصغيرها

وتراجعت خطوة للخلف عندما رأت في عيني عمر غضبًا وغليانًا لم تراهما في بشر من قبل .


سحب فريد أخاه عنوةً لكي يتحرك رفقته، ثم دلفوا إلى الداخل، وجلسوا فوف مقاعد الانتظار بصمت؛ فجاءت الممرضة بنبرة احترافية لتقطع الصمت:

ـ أستاذ فريد … نتيجة تحليل الـDNA جاهزة.


تبادل الثلاثة نظرات سريعة متوترة… ثم تبعوا الممرضة إلى الغرفة الصغيرة المخصصة للتسليم.


وقفت الممرضة أمامهم، تحمل ظرفًا أبيض مختومًا بختم المختبر. مدّت يدها نحو فريد بالظرف .


لكن عمر، بعد لحظة تردد، التقط الظرف من يدها مسرعًا وكأنه لا يطيق الانتظار، وشق الظرف على عجلٍ ثم أخرج الورقة وبدأ بقراءتها .. نظره يعبر السطور دون أن يستوعب.


اتسعت حدقتاه، واختنق صدره للحظة..

رفع يده…

ثم أنزلها…

ثم رفعها من جديد وهو يحاول السيطرة على رجفة أصابعه.


التقط عمر أنفاسًا قصيرة متتالية، ثم… تجمّد.


لم يعد يتنفس.


"The probability of paternity: 99.9%"


دانَ العالم حولهم.


وقف بلا حراك، مشدوهًا، مشلولًا، كأنه تلقّى صاعقة..


خرج صوته خافتًا… متحشرجًا… لا يشبه صوته أبدًا.

ـ ابني !!


لم يشعر بنفسه إلا وهو يتراجع خطوة…

ثم خطوة أخرى…

ثم فجأة …. سقط أرضًا، فاقد الوعي !!!!


༺═─────────────═༻

#يتبع

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close