القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السابع وخمسون 57بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات


رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السابع وخمسون 57بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات





رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السابع وخمسون 57بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



  


 



ـ ٥٧ ـ~ هدنة زائفة !




وصل عمر إلى المستشفى، أوقف سيارته على عجل ثم اندفع مباشرة نحو قسم الاستقبال يسأل بلهفة عن رقم غرفة نسيم. وما إن دلّته الموظفة عليها حتى اتجه مسرعًا إلى المصعد، لكنه تجمّد في مكانه حين انفتح الباب وخرج منه نادر.


تلاقت نظراتهما لحظة، ثم قال عمر بحدة :

ـ انت هنا ليه ؟! هي نسيم حالتها حرجة للدرجة دي ؟!


لكن نادر هز رأسه بهدوء وقال :

ـ أنا كنت بطمن على فريد وماشي .


انعقد حاجبا عمر بصدمة متحفزة:

ـ فريد ؟! ماله فريد ؟!


بدت الدهشة على وجه نادر هو الآخر، وقال بنبرة مستغربة:

ـ انت متعرفش إن فريد تعبان وعما عملية في القلب امبارح ؟


تجمد حلق عمر، وكأن الهواء علق داخله رافضًا الخروج. اتسعت عيناه وانسحقت الكلمات تحت وطأة الصدمة، وبقي يحدّق في نادر وكأنه يسمع حديثًا لا علاقة له بالواقع .


ابتلع ريقه بصعوبة، رفع يده ليمررها في شعره وهو يحاول الثبات، ثم قال بصوت مهزوز كأنما يتأكد من أمر مستحيل:

ـ فريد عامل عملية في القلب ؟!!!


أومأ نادر بأسف وقال :

ـ وهو دلوقتي في العناية … !


بهتت ملامح عمر ثانية، وصار يتلفت حوله مثل شخص فقد توازنه. اندفع نحو المصعد، لكنه توقف لحظة، عاد يسأل:

ـ الدور الكام ؟!


ـ مفيش زيارة .. بس تقدر تستنى معاهم في الدور الرابع.


لم ينتظر أن يعرف من " هم " .

لم يطلب منه توضيحًا أكثر، ضغط زر الطابق الرابع بعنف، بينما نادر غادر دون أن يزيد كلمة.


وعندما توقفت الأبواب أخيرًا، خرج عمر مسرعًا، عيناه تتفحصان المكان باضطراب، ليتفاجأ برؤية حسن، چيلان، نغم وزينب … مجتمعين هناك.


هرول إليهم بلا تفكير، وكانت عيناه تتعلقان بحسن الذي كان يمشي في الردهة ذهابًا وإيابًا، يده خلف ظهره، وملامحه مشدودة بقلق واضح.


وفجأة… رفع حسن رأسه، فرأى عمر يركض باتجاههم..

امتقع وجه حسن فور أن رآه، توقفت خطواته الغاضبة في الممر ونظر إلى عمر نظرة طويلة فاحصة، كأنه يقرأ كل ما يختبئ خلف ملامحه المنهارة.


اقترب عمر منهم يتنفس بصعوبة، عيناه زائغتان، وحالته البالية وكأنه خرج من تحت ركام… لم يكن بحاجة لأن ينطق؛ حاله وحده كان كافيًا ليقول إنه على وشك الانهيار.


تحركت چيلان نحوه على الفور، بينما هو وقف أمام حسن مباشرة، وصوته خرج مهزومًا، مختنقًا:

― فريد… عامل عملية بجد؟!


كان السؤال يحمل رجاءً غريبًا… رجاء أن يكون ما سمعه كذبًا، أو سوء فهم، أو مبالغة عابرة.


لكن حسن لم يكن في حالة تسمح بأي تلطيف.

وقف أمامه، كتفاه مشدودتان، وصدره يعلو ويهبط من ضيق الغضب والقلق معًا، ثم قال بصوت خافت حاد:

ـ بتسأل ليه ؟! يفرق معاك فريد ؟! خايف عليه أوي ؟!



اهتزت حدقتا عمر وكأن أحدهم صفعه فجأة، ومضى يلتفت حوله بارتباك، يبحث عن أي مخرج من تلك الحقيقة التي لم ينفِها أخيه، والتي سقطت عليه كالصاعقة.


لكن حسن لم يمنحه فرصة ليلتقط أنفاسه؛ اقترب خطوة أخرى حتى صار بينهما شبر واحد فقط، وقال بنبرة متماسكة تخفي تحتها بركانًا مشتعلًا:

ـ خد بعضك وامشي يا عمر .. وجودك دلوقتي ملوش لزمة .


تصلّب وجه عمر، ارتعشت حدقتاه، وقال بصوت مضطرب كأنه يُنتزع من صدره انتزاعًا:

ـ مش همشي يا حسن غير لما أشوف أخويا !


رفع حسن حاجبيه ببطء، نظرة قاتمة سقطت فوق عمر كالسياط، ثم قال في استهجان مرير :

ـ أخوك !! دلوقتي بس عرفت انه أخوك ؟! وكان فين الحب والأخوة دول وانت واقف قدامه امبارح وبتقولله اللي قلته ؟!


تحرك عمر ليقف بجوار الباب، يكابر رغم أن ركبتيه بالكاد تحملانه، وهتف بحرارة يائسة:

ــ أيًا كان اللي حصل بس ده ميمنعش إنه أخويا وهفضل هنا لحد ما أطمن عليه .


خطا حسن نحوه خطوة جعلت عمر يتراجع غريزيًا للخلف، وقال بنبرة منخفضة لكنها تحمل تهديدًا صريحًا:

ــ لو ممشيتش دلوقتي… هخليك تمشي غصب عنك.. لما تبقى راجل وتعرف ازاي تتكلم مع أخوك الكبير وقتها أسمح لك تشوفه .. قبل كده لأ .


نظر إليه عمر بحدة، وهتف بتحدٍ :

ـ مش همشي يا حسن واللي عندك اعمله ..


ثم دار حول نفسه وهو يقول بارتباك بالغ :

ـ ولا إنت عايزني أمشي عشان تفضل انت بس اللي جنب فريد ولما يفوق يلاقيك انت اللي قدامه !!!


تصلّبت ملامح حسن، واشتعل شيءٌ قديم في عينيه… شيء وحشي، بدائي، كأن رجلاً آخر خرج من تحت جلده— “حسن العقرب” الذي ظن أنه قد شيّعهُ منذ زمن، لكنه كان ينتظر لحظة غضب واحدة ليعود.


دفعه حسن من كتفه دفعة أولى، قوية بما يكفي لتهز جسده، ثم لم ينتظر أن يستعيد عمر توازنه، بل تقدّم خطوة أخرى وانقضّ عليه كعاصفةٍ أفلتت من قيودها. أمسكه من ياقة قميصه، وجذبه نحوه بقسوة حتى التصقت وجوههما، وقال من بين أسنانه المحتشدة بالغضب المكبوت:

ـ أنا زهقت منك.. انت زودتها أوي!!!


حاول عمر أن يثبت قدميه، أن يستجمع ما تبقّى له من قوة، لكن قبضة حسن كانت أشد من أن تُقاوم.


اندفعت زينب نحو حسن بخطوات مترددة، وقفت بينهما وهي تصرخ:

ـ بس يا حسن! مش وقته اللي بتعملوه ده .


حاولت أن تمسك بذراعه، فتراجع ذراع حسن عنها كالسوط، لم يشعر بها حتى، وكأن الغضب غطّى عينيه عن العالم.


دفع عمر ثانيةً، وهذه المرة ارتطم ظهره بالجدار، وارتجّ جسده من أثر الاصطدام وهو يقول :

ـ انت حتى بعد اللي حصل والحالة اللي فيها أخوك بسببك .. مش هاين عليك تعترف بغلطك وبتقاوح !!


بينما اندفع عمر نحوه بتحفز، وهتف غاضبًا :

ـ هو انتوا ليه مصممين تشيلوني الذنب دايما وتحسسوني إني السبب في كل حاجه بتحصل ؟! ليه دايمًا عمر هو اللي غلطان وزي الزفت !


هنا اندفعت چيلان فجأة بينهما، جسدها النحيل يحاول أن يشكّل حاجزًا بين جبلين يتصادمان، لكن وجودها كان — في عين حسن — مجرّد عقبة صغيرة أمام غضب هادر. حاول دفعها برفق أولًا، ثم بقوّة حين أصرت على الوقوف بينهما، يتحرك بعصبية جامحة، يزيح كل من يقف بطريقه محاولا الوصول لعمر، وهو يهتف بانفعال:

ـ لأن دي الحقيقة اللي انت مش راضي تكبر وتخليك راجل وتعترف بيها .


ضاق صدر عمر أكثر، وارتجفت كتفاه غضبًا وكان يحاول جاهدًا ألا ينفجر، لكنه تقدّم نحوه خطوةً حادة وقال بصرامةٍ قاتلة:

ـ دي حياتي وأنا حر فيها .. محدش فيكم وصي عليا، أنا مش صغير وعارف مصلحتي فين بالظبط .. انت اخر واحد يحق له يتكلم معايا في الموضوع ده .


حدّق حسن في عمر بذهولٍ ممزوج بمرارةٍ لا تحتمل، ثم استدار نحوه فجأة وكأن شيئًا انفجر داخله. ارتفعت يده بعنف، والغضب المتأجّج في عينيه يُلقي ظلًّا ثقيلًا فوق ملامحه… يدٌ مشدودة، جاهزة لصفعةٍ قاسية طالما كبحها، وها هي تكاد تنهال الآن على وجه أخيه.


لكن حسن لم يرَ شيئًا أمامه.

لم ينتبه للخطوة السريعة التي جعلت چيلان تندفع بينهما بعفويةٍ متهوّرة، لا تفكر، لا تتردد، فقط تحاول أن تحمي أخاها ..


وفي اللحظة التالية— سقطت يد حسن بكل قوتها.

لكنها لم تقع على وجه عمر… بل ارتطمت بوجه چيلان.


صوت الصفعة دوّى في الردهة وترك صداه..

ارتدّ رأس جيلان إلى الجانب، واهتز جسدها النحيل بقوة، وتجمّدت قدماها لحظة، ثم تراجعت خطوة صغيرة، ويدها ترتفع ببطء نحو خدها الذي اشتعل وهجًا تحت أثر الصفعة …


حدّق حسن فيها مصعوقًا… عيناه اتسعتا، وأنفاسه انحبست في صدره، وكأنه شهد للتو جريمة ارتكبها شخص آخر، لا هو.


انطفأ السخط في ملامحه دفعة واحدة… وارتسم مكانه ذهولٌ حادّ، جعل نظراته تهتزّ كمن استيقظ من كابوس ليفاجأ بأنه كان هو صانعه.


خفض يده ببطء شديد… كأنه لا يعرف لمن تنتمي هذه اليد، وكأنه استيقظ فجأة من غضب أعمى.. ونظر إلى چيلان التي لا زالت تنحي وجهها جانبا، بينما كانت تلمس وجنتها التي احمرّت بشدة، وعيناها متسعتان من هول ما حدث.


اندفع عمر فجأة كما لو أُطلقت في عروقه شرارة كهرباء.. لحظة واحدة فقط كانت كافية ليتحوّل من حالة الانهيار والذنب إلى موجة غضب هادرة.


رأى جيلان تتراجع للوراء والصدمة تعصف بملامحها، ورأى كفّ حسن المرفوعة تهبط عليها بدلًا منه… ومعها سقط آخر ما تبقّى من صبره.


لم يفكر. لم يلتقط أنفاسه.

وثب نحو حسن دفعة واحدة، أمسكه من تلابيبه بقوةٍ لم يتوقعها أحد، حتى هو نفسه، واقترب منه حدّ أن أنفاسهما اصطدمت ببعض.


هزّه عمر بعنف، كأنما يريد أن يقتلع منه الفعل الذي ارتكبه، وصاح بصوتٍ عاصف من الغضب والذهول:

ـ انت اتجننت ولا إيه ؟! إيه اللي انت عملته ده ؟!


كانت يداه ترتجفان وهما تقبضان على قميص حسن، عيناه تقدحان شررًا، ليس فقط غضبًا… بل صدمة، وجزع، وشعور لا يمكن وصفه حين يرى أخته تُضرب أمامه بسببه هو.


لكن حسن…

لم يكن حسن الذي يعرفونه.


بهدوء مروّع، وبقوةٍ أثقل من الجبل، رفع يده وأمسك رسغَي عمر، ونزع قبضته عنه ثم دفعه للخلف بخطوة واحدة أربكته، ثم تقدّم هو إلى الأمام… لا نحو عمر، بل نحو الحائط المقابل.


في تلك اللحظة فقط ظهر الوحش.


ذلك الغضب الذي ظلّ محبوسًا في صدره سنوات، ذلك القهر المُعتّق الذي وجد ثغرةً ليخرج… خرج دفعة واحدة.


رفع قبضته وصفع الحائط بها… مرة.

ثم مرة ثانية…

ثم ثالثة…

ومع كل ضربة كانت أنفاسه تعلو وتزداد خشونة..


ظلّ يضرب الجدار بقبضته كأنه يفرغ أعوامًا من القهر دفعة واحدة. كانت ضرباته عمياء… لا تستهدف الجدار بقدر ما تستهدف كل ما يعتمل داخله من خيبة وغضب وحزن وذنب.


ومع كل ضربة كانت مفاصل يده تتورم أكثر، وجلدها يُشَقّ ويُزهر دمًا قانيًا، لكن حسن لم يشعر بشيء…

ولم يتوقف.


كان كمن خرج عن طوره… وحشًا انفلت من قفصه بعد زمن طويل من الصبر المكبوت.


صرخت زينب لا إراديًا، وضعت كفّيها على فمها وهلعها يسبق صوتها، وهرعت نحوه تحاول إبعاده وتهدئته ..


بينما نغم وقفت بعيدًا، متجمدة في مكانها، عينها تتسعان في كل لحظة أكثر، كمن يشاهد انهيارًا لا يستطيع التدخل لإيقافه… قلبها يهبط ثم يصعد، وكأن كل ضربة يتلقاها الجدار تتلقاها هي في صدرها.


أما عمر—الذي كان قبل ثوانٍ يمسك حسن من تلابيبه—فتراجع خطوة، شهق بصوت مكتوم، لم يفهم للحظة إن كان ذلك الرعب بسبب حسن… أم بسبب نفسه وما آل إليه كل شيء.


توقّف حسن أخيرًا.

يده تنزف بغزارة، يتنفس بقسوة كأن رئتيه صارتا ضيقتين، وصدره يعلو ويهبط في فوضى موجعة.


لم يلتفت… لم يقل كلمة… لم يبرر شيئًا.

فقط استقام واقفًا دون أن ينظر إلى أحد، تقدّم بخطوات ثقيلة، بطيئة، لكنه لم يتردد.


مرّ بجوارهم جميعًا… ومضى.

مضى وكأنه يهرب من نفسه، من غضبه، من يده التي خانته، ومن حزنه، من كل شيء .


اندفع عمر نحو جيلان كالمجنون، وقف أمامها يتفحص وجهها بجنون، عينيه ترتجفان بين الذهول والغضب والندم، وقال بصوت متقطع:

ـ جيلان… إنتِ كويسة؟!


كانت واقفة، جامدة، كأن الصفعة لم تُصب خدَّها بل أصابت شيئًا أعمق بكثير ..

رفعت رأسها ببطء، وبذلَت جهدًا هائلًا لتبدو متماسكة، ثم قالت بنبرة خافتة مُغلقة:

ـ أنا كويسة… متقلقش.


لكن عمر لم يقتنع، اقترب خطوة أخرى، رفع يده يحاول أن يرى أثر الصفعة على خدّها، بعنادٍ يائس:

ـ وريني وشك ..


تصلّبت كتفاها، وتشنّج فكّها، ثم فجأة انفجرت بصوت عالٍ مرتجف، يحمل ألمها قبل غضبها:

ـ خلاص يا عمر قلت لك كويسة ..


كانت الصرخة أشبه بمحاولة دفاعٍ أخيرة عن ما تبقّى لها من كبرياء.


ارتجف جفناها، ليس من الألم البدني… بل من الضيق والغضب..


ابتعدت عنه وتقدمت خطوات، حانت منها التفاتة سريعة نحو نغم التي تقف واجمةً، تطالع ما يحدث كله بذهول صامت.

أصابها الضيق أكثر، وعلى الفور مدّت يدها فجأة تنتزع حقيبتها من المقعد، قبضت عليها بقوة، ثم دون أن تضيف كلمة واحدة…

استدارت بخطوات سريعة، تكاد تتعثر بها من شدة الارتباك، واتجهت إلى المصعد.


ضغطت الزر بعنفٍ مكبوت، وقفت تنتظر، كتفيها يهتزّان من محاولة خنق دموعٍ رفضت أن تمنحها السلطة للخروج.


عندما انغلق الباب خلفها كأنه ختمٌ يعزلها عن العالم، شعرت بأن شيئًا في صدرها ينفجر بلا صوت.

أسندت ظهرها إلى الجدار المعدني البارد، كأنها تبحث عن شيء يشدّها إلى الواقع، شيء يوقف ارتجافها من الداخل. مدت يدها داخل الحقيبة بعصبية، أصابعها ترتجف وهي تفتّش حتى التقطت المرآة الصغيرة، وفتحتها بحدة كمن يواجه حقيقة يخشاها.


وما إن انعكس وجهها داخل الزجاج حتى اتسعت عيناها بصدمة.

هناك… على خدّها، بصمة أصابعه القاسية.

كأنها وُسمت بعلامة تُذكرها بكل ما حاولت أن تبدو قوية أمامه.


تلاحقت أنفاسها، صاعدةً هابطةً، تختنق في صدرها بمرارةٍ لا تعرفها من قبل. شعرت بالغضب… بالمهانة…

إهانة تعرف تمامًا أنها غير مقصودة،

ومع ذلك أصابت كبرياءها في أعمق نقطة ممكنة.


رفعت يدها ببطء، تلمس وجنتها كأنها لا تصدّق أن الأثر حقيقي.

ثم دفعت الخصلات المضطربة فوق خدّها، ترتّبها بإصرار عنيد، تخفي أثر الأصابع الذي ما زال يحرق بشرتها حتى الآن.


أغلقت المرآة، وأعادتها إلى الحقيبة بيدٍ ما تزال ترتجف، لكنها رفعت رأسها بعد ذلك… تحاول لملمة ما تبقى من كبريائها قبل أن يفتح المصعد أبوابه من جديد..


وفي تلك الثواني القصيرة،

كان المصعد أشبه بعلبةٍ مغلقة تحبس داخله قلبًا يشتعل.


لكن ما إن توقف…

حتى بدا كأن زرًا داخليًا قد أُعيد ضبطه.

اعتدلت واقفة، التقطت أنفاسها ببطء،

ومسحت بظاهر كفها أثر الارتجاف عن روحها.


ثم انفتح الباب.


خرجت جيلان كما يعرفها العالم:

برأسها المرفوع، وخطواتها الثابتة،

وشموخ امرأةٍ تعلّم جيدًا أن تلمّ شظاياها وحدها دون أن يراها أحد.



سارت نحو سيارتها بكل اتزان، كأن شيئًا لم يحدث…

وكأن النار التي كانت تشتعل منذ لحظات ليست سوى سرٍّ صغيرٍ خبّأته خلف عينين لا تنكسران.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


أما حسن، فبعد أن غادر حمّام الطابق حيث اضطر إلى غسل يده التي كانت تقطر دمًا، خرج من المشفى وهو يشعر بأن الهواء من حوله يضيق، كأن جدران المكان تطبق عليه من كل جانب.


كان يدرك أن ما فعله ليس إلا الشرارة الأولى، وأن ذلك الوحش الذي انفلت في داخله لم يُروَ بعد، بل يكاد يقتلع صدره من فرط الغضب والغليان.


لم يكن يعرف إلى أين يذهب، لكنه كان متيقنًا أن البقاء هنا سيجعله يرتكب ما هو أفظع. ولذا اندفع نحو بوابة الخروج، راغبًا في الخلو بنفسه وبذلك الغضب الأسود الذي لم يعد قادرًا على كبته.


لكن… قبل أن يخطو خارج البوابة، التقطت عيناه وجهًا مألوفًا، ولم يتوقف إلا عندما استوقفه صاحب ذلك الوجه قائلا بهدوء متحفظ:

ــ أستاذ حسن…


التفت حسن ببطء، نظر إليه بعينين معتمتين، لا تعرفان قرارًا، وهز رأسه تساؤلًا. فقال الآخر بصوت منخفض:

ــ فريد بيه عامل إيه دلوقتي؟


وضع حسن يديه على خاصرته، محاولًا ضبط أنفاسه المتهالكة، ثم مرّر لسانه على شفته بعصبية لم يستطع إخفاءها، قبل أن يجيب باقتضاب:

ــ الحمدلله… إنت مين؟


تلعثم الآخر قليلًا قبل أن يتمالك صوته ويجيبه :

ــ معرفة قديمة… عن إذنك.


وما إن همّ بالابتعاد، حتى قبض حسن على ذراعه بقوة جعلت الرجل يتيبس في مكانه، ثم ضيق حسن عينيه وقال بنبرة تكشف عن يقظة غضب جديدة:

ــ انت كنت موجود يوم الحفلة إياها … مش كده؟!


تأخر ذهنه لحظة، ثم انفتح باب الذاكرة فجأة، فهتف حسن بنبرة حادة متحفزة:

ــ أنت أيمن… مدير أعماله زمان!


أومأ أيمن بصمت، محاولًا أن يبدو ثابتًا رغم ارتجافه أمام ذلك الوجه الذي بدا كأنه يخرج من معركة لكنه لم يتوقع توبيخ حسن حين قال بصوت ممتلئ غيظًا:

ــ وكمان ليك عين تسأل عليه بعد اللي عملته؟


فتح أيمن فمه ليجيب، لكن حسن لم يمنحه الفرصة. اندفعت قبضة حسن إلى وجهه كأنها رصاصة، فتناثر الدم من أنفه فورًا. لم يكد أيمن يستوعب الضربة حتى انهالت عليه أخرى أشد، أطاحت بتوازنه وأسقطته أرضًا.


لم يتردد حسن. انحنى فوقه كالمارد، وأخذ يسدد إلى وجهه وجسده لكمات لا ترحم، كأن كل سنوات الكبت تصب الآن في هذه اللحظة.. لم يكن يرى أيمن… كان يرى غضبًا قديمًا يتجسد أمامه.


اندفع رجال الأمن بسرعة، صارخين به، محاولين إبعاده، لكن حسن بدا كأنه صخرة هوت فوق جسد أيمن؛ لم يتحرك، لم يتراجع، بل استمر في ضربه كأن يده تعمل وحدها دون عقل.


ولم يتوقف… إلا حين خارت قوى أيمن تمامًا، وبات لا يقوى حتى على رفع رأسه.


حينها فقط تراجع حسن قليلًا، وقف لثوانٍ يلهث، صدره يرتفع ويهبط بعنف، عيناه متوهجتان كأنهما لا تزالان تبحثان عن خصم آخر ليفرغ فيه ما تبقى من جنونه.


تمكن رجال الأمن من جذبه بعيدًا، في محاولة سريعة منهم للسيطرة على الموقف  ثم تم اقتياده إلى غرفة الأمن الملحقة بمدخل المستشفى بواسطة اثنين من أفراد الأمن ..


بينما قام أحد أفراد الأمن باستدعاء قسم الطوارئ سريعًا لفحص أيمن الذي كان ممددًا على الأرض فاقدًا للوعي، ثم قاموا بنقله فورًا إلى الداخل حيث قسم الطوارئ.


وبعد أن تم اقتياد حسن إلى غرفة الأمن، تم استدعاء مشرف الأمن الذي بدأ بالتحقيق معه سريعًا قائلا :

ـ اسمك إيه ؟!


نظر إليه حسن بنظرة قاتمة، وأجاب باقتضاب :

ـ حسن ..


ـ تبرر بإيه اللي انت عملته دلوقتي ؟ وإيه سبب الهجوم الوحشي ده ؟!


رفع حسن رأسه وأجابه بحدة :

ـ مفيش أسباب .. جالي مزاج أضربه وضربته !


رمقه الآخر رمقةً متجهمة، ثم هز رأسه باقتضاب، وقال لأحد معاونيه :

ـ سجل الواقعة وبلغ إدارة المستشفى يبلغوا الشرطة .


ونظر إلى حسن متوعدًا إياه بصمت، ثم قال باقتضاب :

ـ ابقا خلي مزاجك ينفعك بقا لما ياخدوك عالقسم ويحققوا معاك .


وأوصى رجال الأمن باحتجازه إلى أن يصل ضابط نقطة الشرطة المجاورة للمشفى ويأخذه إلى القسم للتحقيق ، ثم غادر .


بينما جلس حسن على المقعد المعدني البارد في غرفة الأمن، ويداه ما تزالان ترتجفان ببطء، ليس من الخوف، بل من بقايا الغضب الذي لم ينطفئ بعد. كان صدره يعلو ويهبط كمن يبتلع النار، وعيناه تجولان في المكان بجموحٍ مكبوت، كأنهما تبحثان عن أي شرارة تتيح للوحش داخله أن ينهض من جديد.


لم يبدُ عليه الندم لحظة. بل كان وكأنه يزداد صلابة كلما تذكر وجه أيمن تحت قبضته، وكلما لمح آثار الدم اليابس على مفاصله. ركّل الأرض بضجر، ثم مال برأسه إلى الخلف مغمضًا عينيه، كأنما يحاول حبس الصراع الهائج في صدره.


كان يدرك جيدًا أن رجال الأمن ينتظرون أي إجابة منه تُسجَّل في محضر، لكنه لم يكترث. لم يقل اسمه، لم يفكر حتى في التعريف بنفسه. ففي تلك اللحظة لم يكن “ابن سالم مرسال” ولا وريث أي مكانة… كان فقط حسن؛ رجلًا يوشك أن ينفجر من الداخل.


والحقيقة أن السبب الذي جعله لا يذكر اسمه الحقيقي كان بسيطًا وقاتمًا في آن واحد:

هو لم يرد أن يربط أحد بين هذه اللحظة… وبين عائلته. لم يشأ أن يُستغل اسمه العائلي لا للتهرب ولا لتخفيف الموقف… كان يريد أن يتحمل ما فعل بصفته حسن فقط، وليس بصفته ابن أحد.



وفوق ذلك، كان داخله صوت خافت يقول له إنه لم ينتهِ بعد، وإن ذكر اسمه قد يجر سلسلة من الأسئلة التي هو غير مستعد للإجابة عنها. هو فقط أراد الصمت… والصمت بالنسبة له في تلك اللحظة كان بمثابة سور يحميه من مواجهة شيء أكبر من هذه اللكمات.


فتح عينيه أخيرًا، نظر إلى الحارس الذي يقف عند الباب، وأطلق ضحكة قصيرة ساخرة، أشبه بالنفَس الساخن الذي يخرج من نار تتوهج تحت الرماد.

لم يكن خائفًا من الشرطة، ولا من التحقيق. كان خائفًا فقط من نفسه… من اليد التي لم تستطع التوقف… ومن الغضب الذي لم يجد بعد نهايته.


༺═────────────────═༻


كان عمر جالسًا في ركنٍ بعيد من الردهة، منكفئًا فوق مقعده بعجز، بينما زينب تجول جيئةً وذهابًا ممسكةً بهاتفها، تُجري اتصالًا تلو الآخر بحسن الذي لا يجيب.


التفتت إلى عمر بحيرةٍ مُحبِطة وقالت :

ـ انزل شوف أخوك يا عمر اعمل معروف .


رفع عمر رأسه إليها ببرود، ثم هتف مغتاظا :

ـ بعد اللي عمله ده وعاوزاني أنزل أشوفه ؟! مش شايف حد .


هزت رأسها بيأس ، ثم اتجهت نحو نغم التي تجلس صامتةً واجمة، وقالت وهي تنظر بالهاتف بيأس :

ـ مش بيرد .. كلميه انتي يا نغم يمكن يرد .


نظرت إليها نغم بصمت، ثم أمسكت هاتفها وحاولت الاتصال به مرة بعد مرة ولكنه لم يجب، فنظرت إلى زينب وهزت رأسها أن لا .. فجلست زينب إلى المقعد وتنهدت بنفاذ صبر وهي تقول :

ـ ربنا يستر ويعديها على خير ..


رن هاتف عمر ، فنظر به فإذ به يجدها نسيم، نهض وأجاب الاتصال مسرعا وقال :

ـ أيوة يا نسيم ؟


ـ انت فين يا عمر ؟! قلت إنك جاي ؟


ـ أنا في المستشفى فعلا وجايلك أهو ..


ثم استعمل المصعد ونزل حيث الطابق الموجوده فيه، ذهب إلى غرفتها، طرق الباب ودخل فإذ به يجدها ممددة فوق فراشها بوهن ، وما إن رأته بتلك الحالة حتى انتفضت في مكانها ونظرت إليه بتعجب وقالت :

ـ عمر !! إيه الحالة اللي انت فيها دي ؟!!


سار نحوها بخطوات مثقلة، ثم جلس على المقعد الملاصق للسرير، ألقى بجسده بضيق، وانحنى واضعًا رأسه بين يديه. تابعته هي بنظرة فاحصة متوترة قبل أن تهتف بضيق :

ـ عمر !! رد عليا .. إيه الحالة اللي انت فيها دي ؟! إيه اللي حصل ؟!


رفع رأسه ببطء، حدق أمامه بشرود وعينين حمراوتين، ثم تساءل بيأس :

ـ إيه اللي حصل ؟!! قولي إيه اللي محصلش !! لأن كل حاجه حصلت .


تململت في مكانها بنفاذ صبر ، ثم قالت :

ـ بقوللك إيه أنا مش في حالة تسمح إنك تتعب لي أعصابي أكتر بالألغاز بتاعتك دي.. انطق يبني .. انت اتخانقت مع حد ؟!


أومأ بوجوم وقال :

ـ أيوة .. مع حسن وفريد .


رفعت حاجبيها بصدمة وقالت :

ـ حسن وفريد !!! الاتنين ؟!!!



أومأ بصمت، فهتفت :

ـ والسبب ؟!!


تمدد الشرر في عينيه فجأة، وهتف باختناق :

ـ السبب إنهم عاوزين يمشوا حياتي على مزاجهم ومش مهم أنا عاوز إيه ومقرر إيه ..


رمقته بقلق ممزوج بعدم الفهم، فتساءلت :

ـ مش فاهمة .. هو إيه الحكاية ؟!


نظر إليها وللحظة استوعب أنها لا تعرف أي شيء من الأساس فقال:

ـ أنا ناسي إنك متعرفيش أصلا .


مسحت جبينها بنفاذ صبر وقالت :

ـ معرفش إيه ؟


ظل صامتًا لحظات… قبل أن تتجمع الدموع في عينيه، وتنساب فجأة بلا مقاومة. رفع نظره إليها وقال بصوتٍ خافت :

ـ نسيم .. أنا عندي ابن .


ثبت وجهها بلا تعبير. كأنها سمعت شيئًا لا ينتمي للواقع. هزّت رأسها ببط :

ـ مش فاهمة .


احتد صوته ممتزجًا بنبرة يغلبها العجز :

ـ هو إيه اللي مش مفهوم بقولك عندي ابن .. عندي ولد.


ـ عندك ولد ؟!!


أومأ مؤكدا فهزت رأسها بخفوت وقالت:

ـ عندك ولد ازاي!


زفر بنفاذ صبر ومسح على وجهه بغضب، وقال بحدة :

ـ زي ما انتي هتخلفي ان شاء الله وتبقي أم .. أنا بقيت أب .


حدقت فيه طويلًا… ثم اتسعت عيناها تدريجيًا، إلى أن تحولت دهشتها لابتسامة… ثم انفجرت ضاحكة.


ضحكات عالية غير مصدّقة، بينما هو يجلس في مكانه كمن يتلقى صفعة تلو الأخرى.


انتظر حتى هدأت قليلًا، ثم قال بصوتٍ يائس :

ـ أنا عارف إنك مش مصدقة .. ولا أنا كمان مصدق ، بس ده الواقع للأسف .. لاتويا جت ومعاها بيبي عنده شهرين تقريبا وبتقول انه ابني .


ـ مين لاتويا !!! انت بتقول إيه ؟!!


نظر إليها بضيقٍ لم يستطع إخفاءه، لم يعرف كيف يجيبها… بماذا سيبرّر؟ وكيف يجرؤ أن يفتح هذا الباب العفن من ماضيه أمامها الآن؟!..

ابتلع ريقه على مرارة، ثم تنهد وكأن اعترافًا ثقيلًا يجرّح صدره من الداخل وقال بصوتٍ منخفض متقطع:

ـ لاتويا… مدريد… ليلة رأس السنة… !!


كانت الكلمات تتساقط من فمه مفككة كأنها أحجار يعترف بها رغمًا عنه.

وببطء بدأت تلك الشذرات تتجمّع في رأسها، وتتشكل صورة واضحة لما يحاول الهرب من قوله.


اتسعت عيناها بضيق وبلا تصديق، ثم هتفت بحدة ممزوجة بالذهول:

ـ انت تقصد…


وصمتت فجأة عندما تداركت الأمر بوضوح، بينما هو خفض رأسه ولم يجب.


زمّت شفتيها محاولة استيعاب ما فهمته وقالت :

ـ عمر انت مش بتهزر ..  مش كده ؟!


أومأ عمر بوجوم، كأن رأسه يهبط، ثم يرتفع، ثم يهبط مجددًا… كأنه يعترف بجريمة كاملة.


ـ للأسف مش بهزر .. يا ريت كان الموضوع هزار مكانش كل ده حصل .


قالها بحدة تنفجر من صدره، فارتدّت نسيم للخلف قليلًا، ثم نظرت إليه مطوّلًا، بعينين تحاولان أن تجمعا بين التفهم والشفقة.



ـ طيب… انت متأكد إن الكلام ده حقيقي؟! مش يمكن بتكدب عليك؟! مش يمكن الولد مش منك ؟؟


ضرب بقبضته على فخذيه بعصبية:

ـ للأسف عملنا DNA وثبت أنه مني ..


ـ عملتوا DNA ؟؟؟ يعني الموضوع من فترة ، طيب ليه محدش قاللي ؟!


سكت، ثم استدار يشيح بوجهه عنها كأنه يخجل من نفسه، ثم قال بصوت مخنوق:

ـ هنقولك إيه بس يا نسيم!! هي دي حاجة تتقال ولا تتحكي ؟.


بقيت نسيم مشدوهة، تحاول استيعاب ما يحدث، تحاول فهم هذا الانقلاب المفاجئ الذي هزّ عالمه وعالمهم في لحظة واحدة.


ثم قالت ببطء، بحذر، بعقلانية تحاول الوقوف على أطراف الهاوية:

ـ طيب… وانت ناوي تعمل إيه؟


رفع رأسه إليها بنظرة محطّمة، وقال بصوت يائس:

ـ معرفش… أنا مش قادر حتى أفكر… أنا تايه… مش قادر أستوعب إني عندي ابن ومطلوب مني أعترف بيه ، مش قادر أعمل كده !


للحظة… بقيت تنظر إليه، ترى الولد الصغير الذي انهار داخله، ثم مدّت يدها ومسحت دموعه بإبهامها بحنانٍ ثقيل، وهي تقول:

ـ بس ده الصح يا عمر .. لو فعلا الولد إبنك يبقا لازم تعترف بيه وتاخده تربيه كمان .


هزّ رأسه ببطء، كأن الاعتراف بثقل الحقيقة يضغط على عنقه، بينما هي تجاوزت دهشتها وسألته بنبرة ثابتة:

ـ طيب… حسن وفريد رأيهم إيه في الموضوع ده؟


أجاب بصوت مبحوح:

ـ مصممين إني أعترف بيه طبعًا.


أومأت بتفهّمٍ حذر:

ـ وعلشان كده اتخانقت معاهم؟


تنهد بمرارة ومسح دموعًا تجمّعت عند طرفي عينيه، وقال بصوت مختنق:

ـ أنا مكنتش قاصد… والله مكنتش أقصد أجرحه بالشكل ده… بس هو ضغط عليّا، وانتي عارفاني… لما بتوتر بقول أي حاجة تيجي على بالي.


لم تستوعب بعد مقصد كلامه، لكنها لم تُمنح وقتًا للسؤال، إذ انكسر صوته فجأة، وارتجف كتفاه وهو يفلت اعترافًا موجوعًا:

ـ لو فريد جرالُه حاجة بسببي… أنا مش هسامح نفسي… مش هسامح نفسي أبدًا.


شهقت نسيم بفزع، واندفعت تقول:

ـ ماله فريد؟!


رفع رأسه إليها بدهشة حقيقية، كأنه لم يصدق أنها ما تزال غائبة عن كل ما حدث. نظرت إليه بحدة، وصوتها يرتفع بتوتر متسارع:

ـ بقولك ماله فريد؟! اتكلم يا عمر!


فتح فمه ليشرح، لكن الكلمات علقت في حلقه. تردد، بحث عن طريقة أخف وقعًا ليخبرها، عن صياغة أقل ألمًا… وبينما هو ينظر إليها مترددًا رآها تمسك بهاتفها تنوي الاتصال بفريد، ثم نظرت إليه وقالت وقد لاح الخوف في عينيها :

ـ مش بيرد ..


أسقط رأسه أرضًا وقال بندم عاصف :

ـ فريد تعبان وعامل عملية .


شهقت نسيم بصوت صامت، واتسعت عيناها برعب وهي تضع يدها فوق شفتيها.


واصل هو اعترافه، وصوته يرتجف كمن يعترف بخطيئة لا غفران لها:

ـ يوم ما اتخانقنا تعب وحسن جابه هنا على المستشفى وعمل عملية وهو دلوقتي في العناية .


وضعت نسيم يدها فوق قلبها، وقد غلبها الذعر وهي تقول:

ـ فريد هنا في المستشفى ؟؟


هزّ رأسه ببطء، والندم يغرق ملامحه، بينما هي نزلت من سريرها فورا وهي تستعد للخروج من الغرفة، وهي تقول :

ـ وحسن بيكدب عليا وبيقول إنه مسافر !!


التقطت شالها وألقته فوق كتفيها كمن يحاول أن يستجمع ما تبقى من ثباته، واتجهت نحو الباب بخطواتٍ متوترة، بينما كان عمر يلحق بها بصمتٍ مطبق.


وما إن قبضت على مقبض الباب حتى انفتح فجأة بقوةٍ مفاجِئة، فظهر عاصم واقفًا أمامهما. كان وجهه أشبه بعاصفةٍ مكتومة؛ عيناه تقدحان غضبًا، حاجباه معقودان، وصدره يعلو ويهبط بأنفاسٍ متوترة تُنذر بما لا يُحمد عقباه.


حدّقت إليه نسيم بدهشةٍ مشوبة بالقلق من ملامحه المتجهمة، لكنها لم تكد تنطق حتى قاطعها بنبرةٍ جافة مستنكرة:

ـ رايحة فين ؟


تلعثمت قليلًا، وقد اختلط عليها غضبه بما سمعته لتوّها من عمر، ثم أجابت بصوتٍ مضطرب:

ـ فريد هنا في المستشفى. عمر قاللي إنه عمل عملية.


انتقل بصره ببطء إلى عمر، نظرة ثقيلة جعلت عمر يشدّ على أسنانه غيظًا، ثم عاد إليها يقول ببرودٍ يحمل تهديدًا خفيًا:

ـ بردو رايحة فين ؟


رفعت حاجبيها بدهشة أكبر، وكأنها لا تصدق ما تسمعه:

ـ رايحة أطمن عليه طبعًا!


ـ لا.. انتي تعبانة ولازم ترتاحي ..


ثم أردف بحدةٍ لم يستطع كبحها:

ـ وبعدين ازاي نزلتي من السرير أصلًا؟!


رمقته نظرة حادة، ثم التفتت إلى عمر بامتعاضٍ واضح من طريقة حديثه معها أمامه، قبل أن تقول بصوتٍ منخفض لكنه مشحون:

ـ أنا كويسة يا عاصم وده كلام الدكتور، وبعدين حتى لو تعبانة لازم أشوف فريد.


وهمت بالخروج لكنها تجمدت مكانها عندما اعترض عاصم طريقها بكامل جسده، كأن حضوره وحده كان حاجزًا منيعًا لا يُسمح بتخطيه. رفعت رأسها إليه بعنادٍ واضح، لكن عينَي عاصم كانتا تشتعلان غضبًا لم تستطع تجاهله.


قال بصرامةٍ قاطعة: ـ

ـ قلت لك مينفعش تروحي.


ضاقت عيناها وهي تقول بحدة مكتومة:

ـ وأنا قلت لك لازم أشوف فريد.


اقترب خطوة، صوته أصبح أخفض ولكن أشد قسوة، أكثر تحذيرًا :

ـ نسيــــم !!!


تحرك عمر، أراد التهدئة بينهما وهو يراهما يقفان في مواجهة بعضهما ندًا بند، لكنه كان مرتبكًا، يحكّ مؤخرة رأسه بعصبية ولم يدرِ ماذا يقول.


وقبل أن ينطق، حرك عاصم رأسه نحوه فجأة، وانفجر فيه بصوت هادر:

ـ إنت إزاي تقول لها خبر زي ده وهي تعبانة بالشكل ده أصلا؟! هو انت للدرجة دي مفيش عندك أي إحساس بالمسؤولية ؟!


تستمر القصة أدناه


اتسعت عينا نسيم بدهشة وقالت :

ـ يعني انت كنت عارف ومخبي عليا ؟!


نظر إليها نظرة حادة، وهتف مؤكدا :

ـ أيوة كنت عارف .. محدش فيهم هينفعني لما أخسر ابني بسببهم !! كفاية أوي اللي خسرته من تحت راسهم لحد دلوقتي .


حركت رأسها بعصبية، ونظرت إليه بغضب وهي تهتف بنبرة محذرة كذلك :

ـ عاصم .. متخلطش الأمور ببعضها لو سمحت !


ثم ألقت عليه نظرةٍ مفعمةٍ بالخذلان والانكسار ، وأشاحت بوجهها عنه في غضب


بينما عمر .. ازدادت أنفاسه اضطرابًا مع كل كلمة مشحونة بالغضب بينهما، وأخفض رأسه كأنه أدرك فجأة حجم الخطأ الجسيم الذي ارتكبه، ثم رفع عينيه نحو نسيم وهو يتمتم هامسًا :

ـ نسيم .. بلاش تعملي مشكلة عالفاضي ، كده كده مفيش زيارة غير بعد ما فريد يخرج من العناية ، وقتها كلنا هنقدر نشوفه .


رمقته نسيم بنظرة منكسرة، خطوة واحدة فقط كانت تفصل بينها وبين الانهيار من كثرة الضغط، لكنها تماسكت بقوة، ونظرت إلى عاصم الذي حوّل عينيه الغاضبتين نحو عمر وهو يقول هازئًا :

ـ ولحد ما يخرج فريد من العناية وتقدروا تشوفوه، أظن حسن محتاج لك تكون جنبه دلوقتي .


رفع عمر حاجبيه بذهول وقال :

ـ تقصد إيه؟!


التفت نحو عمر، ثم عاد إليها بعينين داميتين، وقال بصوت خافت يشوبه الغضب:

ـ حسن اتهجم على  أيمن وضربه ضرب موت قدّام بوابة المستشفى!


شهقت نسيم بفزع، وضعت يدها على صدرها كأن الهواء قد انقطع عنها، بينما وقف عمر مصعوقًا، يشعر بأن كل شيء يخرج عن السيطرة أمام عينيه.


هتف عاصم يكمل، والغضب يتصاعد في نبرته: 

ـ اتسبب له في كسر في الأنف والفك ده غير الكدمات والرضوض ..


نظرت إليه نسيم بغير تصديق، وهزت رأسها بذهول، تبادلت هي وعمى نظرات سريعة، قبل أن تهتف متسائلةً بهلع :

ـ وحسن فين دلوقتي ؟


رمقها عاصم بخذلانٍ حاول جاهداً أن يخفيه، ثم قال بصوتٍ منخفضٍ لكنه حاسم: ـ

ـ في القسم طبعا، هيكون فين ؟! في المكان الطبيعي للمجرمين والهمج اللي زيه !!


تركت نسيم رأسها يسقط للحظة، تتلقف الهواء بصعوبة، بينما اندفع عمر ينوي الخروج، ونظر إليها وقال:

ـ نسيم .. أنا لازم أشوف حسن، هجيلك تاني .


غادر مسرعًا، وما إن خرج حتى أسرع يلتقط هاتفه ويقوم بالاتصال بنادر  .


༺═────────────────═༻

جلس نادر مقابل سالم، يتحدثان ولكن سالم لاحظ حالة الوجوم التي تصيبه، فسأله :

ـ انت مخبي عليا حاجة يا نادر ؟! في تطورات في حالة فريد أنا مش عارفها ؟!


ـ لأ أبدا يا باشا .. الحالة مستقرة وزي الفل، حتى بيقولوا هيخرج النهارده من العناية .


ـ اومال مالك ساكت كده ؟!


تستمر القصة أدناه


تنهد نادر بحيرة، ثم قال :

ـ بصراحة يا باشا أنا مكنتش ناوي أقول لك على الأقل لحد ما الظروف دي تعدي..


ـ تقوللي إيه يا نادر اتكلم وخليك دغري ..


ـ فريد كشف اللعبة اللي عملناها عليه مع جيرالد !


قطب سالم حاجبيه بذهول، فأومأ نادر مؤكدًا وقال :

ـ عرفت إزاي ؟!


أطلق نادر زفرةً حارة، ثم قال :

ـ لأنه عمل بلاغ وجالي بيه إنذار رسمي على المكتب ، بيتهمني فيه بالتلاعب بيه قانونيًا ، وقدم بلاغ في جيرالد بيتهمه بالتدليس وبيطالب بإبطال العقود وتعويض مادي .. ده حتى سيلين عاوز يقاضيها وبيطالبها بتعويض .


ابتلع سالم ريقه بتوجس، ثم قال:

ـ من امتى الكلام ده ؟


ـ الإنذار لسه واصلني النهارده ، لكن غالبا هو متحرك من كام يوم .. والمحامي اللي بيتعامل معاه دلوقتي إسمه كريم خلف .. ابن الدكتور رؤوف خلف .


نظر إليه سالم بهدوء وقال:

ـ رؤوف خلف ! ده الدكتور بتاع فريد .


أومأ نادر مؤكدًا ، بينما شرد سالم قليلا وقال :

ـ طيب وفي الحالة دي ممكن نتصرف إزاي ؟! إيه اللى هيحصل !


تنهد نادر تنهيدة محبطة ، ثم قال :

ـ لو ثبت إننا فعلا كنا متفقين مع جيرالد وسيلين ساعتها أقل ما فيها هتحول للتحقيق وممكن أتوقف فترة وممكن جدا أتشطب من النقابة … ده غير إن أكيد في غرامة وتعويض أنا ملزم بيهم .


زفر سالم بضيق، ومرر اصبعيه على جسر أنفه بتعب وحيرة، ثم قال:

ـ متقلقش .. هتتحل .. إحنا نقدر نضغط على جيرالد وسيلين مش كده ؟


ـ والله من ناحية نقدر فاحنا نقدر، بس غالبا فريد واقف على أرض صلبة وشكله كده في حاجة مقوياه ومخلياه بيتحرك بأريحية وهو ضامن النتيجة.


ـ حاجة زي إيه يعني ؟!


تساءل سالم متعجبًا، وقبل أن يجبه نادر حينها رن هاتفه فنظر به وقال متعجبا :

ـ ده عمر !


ـ رد بسرعة .


أجاب الاتصال بهدوء فإذ به يصله صوت عمر مضطربًا يقول :

ـ أيوة يا متر ، حسن اتخانق مع أيمن وضربه، سبب له كسور في الأنف والفك، وهو دلوقتي في القسم وأنا رايح له على هناك ..


حينها نهض نادر مسرعّا وهو يقول :

ـ أنا جاي لك على هناك حالا ..


وأنهى الاتصال ونظر إلى سالم، زم شفتيه بأسف فهتف سالم بحدة نافذة الصبر :

ـ في إيه يا نادر ؟


ـ حسن .. ضرب أيمن اللي كان شغال مع فريد قبل كده وهو دلوقتي في القسم بيتحقق معاه .


ما إن نطق نادر باسم حسن وشرح له ما حدث، حتى تجمّدت ملامح سالم للحظة… لحظة واحدة فقط، كأن عقله يرفض استيعاب مزيد من الكوارث. ثم فجأة انقضّ الغضب عليه كما لو أنه صاعقة.



انتفخت أوداجه، واشتدّ خط الفك لديه حتى بدا كأن عظامه ستتحطم من كثرة الضغط، ثم ضرب كفه على ذراع الكرسي بقوة وهدر صائحًا :

ـ هي ناقصه سي حسن كمان !!! هو ده وقته !!


ربت نادر على كتفه وقال :

ـ متقلقش يا باشا هحلها إن شاء الله.


وهرول نحو الباب، استقل سيارته واتجه نحو قسم الشرطة الموجود به حسن على الفور .


༺═────────────────═༻


في مكتب الضابط…


جلس حسن على المقعد كتفاه متشنّجتان، ووجهه ما زال يحمل بقايا الغضب الوحشي الذي التهمه قبل ساعات. كانت يداه موثوقتين إلى الأمام بالأصفاد، لكن ملامحه لم تحمل ذرة خضوع .


فتح الضابط الملف أمامه، وأخذ ينظر إلى هوية حسن، ثم ينظر إليه متعجبا كيف تتفق تلك الهوية مع هذه الشخصية !

ضرب على المكتب براحته بقوة جعلت الصوت يرتدّ في جدران المكتب، ثم قال بنبرة جادّة صارمة:

ـ بردو مصمم إنك مش هتتكلم ؟! سكوتك ده مش في صالحك على فكرة .


رفع حسن رأسه ببطء، وبعينيه الثابتتين رمقهُ بنظرة جامدة، ثم قال ببرود قاتل:

ـ معنديش حاجة أقولها .


ـ ليه اعتديت بالضرب عليه ؟! إيه اللي بينك وبينه ؟!


أفتر ثغر حسن عن ابتسامة جانبية ساخرة وقال متهكمًا:

ـ كل خير .


تنفس الضابط بعمق، محاولا أن يبدو أهدأ وأكثر تماسكًا وقال :

ـ إنت مفكر عشانك ابن ذوات ومن عيلة كبيرة هتنفد منها ؟!


لم يجب حسن، وظل يطالعه ببرود صامت، فشدّ الضابط على أسنانه، ثم مال نحوه قليلًا وهو يضغط الكلمات بعصبية أشد، كأنه يحاول أن ينتزع الحقيقة من بين شفتي حسن بالقوة، وصوته خرج مشدودًا، متوترًا، يضرب الهواء أمامه كصفعة جديدة:

ـ إيه الدافع ورا إنك تضرب شخص بينك وبينه كل خير زي ما بتقول وتتسبب له في عاهة زي دي ؟! انت مش عارف عقوبة الضرب اللي بيتسبب في إحداث عاهة مستديمة كام سنه ؟!


تجمّد حسن في مكانه، جفّ حلقه فجأة، وتسمرت عيناه في نقطةٍ لا يراها أحد غيره…

وكأن كلمات الضابط سحبت قاع ذاكرته الدامية من تحت قدميه.


عاد يرى نفسه زمان…

في زنزانة انفرادية لم تكن تكفي لجثة، دع عنك جسد رجل في قامته .

عاد يسمع صراخ ذلك الرجل الذي أمسك به من تلابيبه، يسبّه ويشتمه بأمه ثم ينعته بابن الحرام..

تذكر كيف اندفع نحوه وقتها، بلا عقل، بلا رادع…

وكيف رفع السكين بسلاسة وشق بها جانب فمه، حتى انفلق لسانه نصفين دمويين.


وتذكر الآخر…

ذلك الذي حاول مرارًا التقدم لخطبة نغم..

كيف هجم عليه حسن بالاتفاق مع رفاق السوء وجرّه للخلف، ثم قطع منه ما جعله يصرخ أسبوعًا كاملًا ..


ارتجفت أصابعه للحظة… لحظة واحدة فقط ..

مرارة تلك المشاهد الحارقة صعدت إلى حلقه، لكنه ابتلعها كما اعتاد دائمًا…

وعاد الهدوء لملامحه.

ذلك الهدوء المخيف…

الذي يُشبه برودة أطرافه الآن..



رفع رأسه إلى الضابط، وبصوت خافت لكنه ثابت… صلب…

قال ببساطة كأنما يلقّن تلميذًا درسًا:

ــ من تلات لـخمس سنين.


قالها وهو ينظر في عيني الضابط مباشرة، نظرة خالية من أي خوف…

نظرة رجل يعرف العقوبات أكثر مما يعرف اسمه…

رجل ذاق السجن وعرف ظلامه، بل كاد يصبح جزءًا منه.


كانت لحظة صمت ثقيلة…

وكأن شيئًا في نظرة حسن أيقظت داخله إنذارًا بدائيًا بالخطر.. بأن رجلا كهذا ليس من السهل إخضاعه والسيطرة عليه، ثم فجأة ضرب بيده على المكتب وقال وهو يشير إلى العسكري بعصبية مكتومة:

ـ خُده على الحجز لحد ما نقرر هنكمّل معاه إزاي.


وقف حسن ببطء…

ملامحه جامدة… خطواته ثابتة…

ساقهُ العسكري إلى الحجز، ثم فتح الباب الحديدي الذي أحدث صريرًا خشنًا أوقظ في حسن لهيبًا مريرًا ..


وقف حسن على العتبة لحظة يتأمل المكان من أمامه، ثم خطا خطوة تلو الأخرى بهدوء وبخطوات محسوبة


وقف بعض المحتجزين في أماكنهم وكأن في طاقته شيئًا ينذر بالخطر .


كانت خطواته ثابتةً … كتفاه مرسومان بثقة رجل اختبر الزنازين من قبل، وذاق قسوة السجون وما عاد شيء يخيفه.



وقف العسكري يفكّ الأصفاد، ثم خرج وصفق الباب خلفه، فاتجه حسن إلى أحد الجدران، جلس بثبات، ظهره إلى الجدار، وقدماه ممددتان أمامه، يداه على ركبتيه، وكأنه في عطلة مؤقتة .


وبينما كانت العيون تترقّبه بحذرٍ متحفّز، يدرسون ملامحه الصلبة وطريقة دخوله الواثقة التي لا تشبه دخول رجلٍ مكسورٍ أو مذعورٍ كما اعتادوا رؤية الوافدين الجدد… كان حسن يجلس في زاويته، كتفاه منحونتان قليلًا للأمام في وضعية تُشبه الترّصد، يداه متشابكتان بثبات، وأنفاسه هادئة بصورةٍ تُرعب أكثر ممّا تطمئن.


اقترب منه أحد المحتجزين، رجل ضخم، يملك ندبة طويلة تقطع حاجبه إلى منتصف وجنته، مدّ يده بسيجارة في إشارة صامتة للترحيب، وقال بصوتٍ مبحوح:

ـ اسم الكريم إيه يا باشا؟


رفع حسن رأسه ببطء… ببطءٍ يشي بأنّه لا يتفاجأ، ولا يستعجل، ولا يخاف.


التفت إليه نصف التفاتة من دون أن يرفع ظهره عن الحائط، مدّ يده وأخذ السيجارة بأصابع ثابتة، ثم انحنى قليلًا للأمام كي يلتقط النار من القدّاحة التي يشعلها الرجل.


اشتعل طرف السيجارة…

سحب نفسًا عميقًا…

ثم نفثه ببطءٍ شديد، كأنّما يرسم حدود المكان بدخانه، لتتشكل غمامةٌ رمادية كثيفة أمام وجهه.


ساد الصمت لثوانٍ، وكل الأنظار انتقلت من الدخان إلى عينيه اللتين لمع فيهما ذلك البريق المعتم الذي لا يشبه إلّا عيون الضواري.


رفع عينيه إلى الرجل، وصوته يخرج هادئًا، منخفضًا، لكنه يحمل ثقلا شديدا :

ـ حسن…


توقف لحظة… وكأنّه يعيد إحياء شخصٍ كان مدفونًا تحت طبقات طويلة من الهدنة الزائفة، ثم قال ببطءٍ أشد :

ـ حسن العقرب.



༺═────────────────═༻


مساءا ..


كانت نسيم تتحرك في الغرفة جيئةً وذهابًا بعصبية واضحة، قبضتها مشدودة حول هاتفها وهي تحاول الاتصال بعمر للمرة الخامسة دون جدوى. وكلما فشل الاتصال، ازداد اضطراب أنفاسها وتوتر خطواتها.


كان عاصم يراقبها بعينين ضيقتين، والغضب يشتعل في ملامحه. وفجأة، انفجر صائحًا بصوتٍ حادٍّ نافذ الصبر:

ــ اقعدي بقا، انتي مش عارفه إن الحركة الكتير دي غلط عليكي ؟!


رمقته نسيم بطرف عينها، نظرة حادة تحمل غضبًا لا يقلّ عن غضبه، ثم هتفت بنبرة مرتجفة:

ــ لو سمحت يا عاصم متتكلمش معايا نهائي ، أنا مش قادرة أستوعب إنك كنت عارف إن فريد تعبان وعامل عملية وانت مخبّي عليّا؟! كل ده علشان تمنعني أشوفه؟!


ظهرت على وجهه لمحة وجيزة من الألم، إلا أنه أخفاها سريعًا خلف قشرة من اللامبالاة، وقال ببرودٍ متحجّر:

ــ احسبيها زي ما تحسبيها… مش فارقة.


تجمدت الكلمات في حلقها، تراقبه وهو يتجه نحو الباب. وقبل أن يفتحه، صاحت بصوت أعلى من إرادتها:

ــ رايح فين؟!


استدار إليها ببطء، عيناه تقدحان شررًا، وقال بحدة قاسية:

ــ رايح أشوف أيمن اللي كان هيموت على إيد أخوكي.

يظهر إنكم كلكم سفّاحين بالوراثة.


اتسعت عيناها بدهشة وكأنه طعنها، لكن عاصم لم يمهلها لحظة للرد. ظلّ يحدق بها بثباتٍ باردٍ لحظةً طويلة، ثم أمسك بمقبض الباب، فتحه ببطء، وغادر وهو يغلقه خلفه بقوة، متجهّا حيث قسم الطوارئ الذي يتواجد به أيمن .


شقّ عاصم طريقه بخطوات واسعة، وملامحه متخشبة كمن يقاوم ثوران غضبه. وما إن بلغ باب الغرفة الزجاجيّة حتى توقّف لثوانٍ، يرمق الداخل بعينين تضطرمان.


رآه جالسًا على السرير المعدني، نصف ظهره مسنود إلى الوسادة، بينما شاشٌ أبيض يلتفّ حول أنفه، وتورّمٌ واضح يعلو وجنتيه، وزرقة ثقيلة عند محيط عينيه.

فكهُ مربوط برباط ضاغط يقيه الحركة، فيبدو وجهه مصفوعًا بالألم، وصوته مكتومًا، بالكاد يقدر على فتح فمه.


أمامه يقف اثنان من رجال الشرطة، أحدهما يحمل دفتر محضر، والآخر يقف متحفزًا يستمع لردوده القصيرة المتقطعة.


دلف عاصم الغرفة، فإذ به يستمع إلى أحدهما يتساءل بنبرة متشككة:

ـ يعني حضرتك متأكد إنك عاوز تتنازل؟


أومأ أيمن ببطء… ببطءٍ مخجل، وكأنه يُسلم قراره للريح.


كتب الضابط شيئًا في محضره، ثم أغلق الدفتر وقال باقتضاب:

ـ خلاص… بما إنك واخد قرار هنسجّل التنازل، وبكده يتحفظ التحقيق لحد ما نشوف وضع الطرف التاني.


ثم تبادل الرجلان نظرة قصيرة وغادرا الغرفة.


ظلّ عاصم واقفًا مكانه، لا يصدق ما رأى.

اقترب ببطء، وخطواته يثقلها الغليان، ثم هتف بحدة مكتومة:

ـ انت إيه اللي عملته ده يا أيمن؟! انت اتنازلت ؟!!!



لم يرد أيمن… فقط رمقه بعين نصف مغلقة من أثر الضرب.


تقدم عاصم خطوة أخرى حتى صار في مواجهته تماما، فقال بحدة :

ـ ده كان هيقتلك لولا ستر ربنا ! ده كسر لك مناخيرك وفكك وعمل لك عاهة مستديمة !! إنت واعي للي عملته ولا انت مخك اتلحس من كتر الضرب ؟!


حرّك أيمن يده ببطء وكأنه يطلب منه أن يهدأ، ثم قال بصوت مبحوح خرج من بين شفتيه بالكاد:

ـ أنا عارف أنا بعمل إيه كويس يا عاصم ، اللي عمله حسن ده نقطة في بحر اللي استحقه أصلا .


نظر إليه عاصم بذهول فاغرًا فاهه وهو يقول:

ـ نعم ؟! نقطة في بحر اللي تستحقه ازاي يعني ؟! ده حقك يابني !! ازاي تتنازل بعد اللي عمله ده ؟! انت بالشكل ده هتبقا ملطشة لعيال سالم مرسال كلهم لأنك اتنازلت من أول مرة .


خفض أيمن نظره، وكأنه يدفن شيئًا في داخله… ثم قال بصوت خافت، يخرج بين الألم والهزيمة:

ـ ما فريد سبق واتنازل ولحد دلوقتي محاولش يرد على اللي أنا عملته فيه ، اشمعنا أنا اللي مش هتنازل ؟!


رفع عاصم حاجبيه بصدمةٍ صامتة.

توقفت أنفاسه لثوانٍ، وكأن الكلمات هبطت عليه كحجر.


أخذ يقلب كفيه متعجبا، لم يقل شيئًا.. فلم يكن هناك شيء يُقال في هذه اللحظة، فقط رمقه بغضب عاصف، ثم أومأ باقتضاب وسار خارج الغرفة، ثم التفت إليه وهو يقف عند عتبة الباب ويقول :

ـ خليك فاكر إنك هتندم على الخطوة دي وقريب أوي، لأن فريد اللي انت مخدوع فيه ومفكره ملاك هيثبت لك إنه أوسخ من سالم مرسال ذات نفسه .


عاد أدراجه إلى غرفتها، ودفع الباب دون انتظار، لكنه توقف في منتصف خطوته…

الغرفة كانت فارغة.

السرير مرتب، الشال الذي كانت تضعه على كتفيها اختفى.


تجهم وجهه، واتسعت أنفاسه، وبدأت عيناه تبحثان في الأرجاء بقلقٍ متوتر. تقدّم بخطوات سريعة نحو دورة المياه… لا أحد.

عاد ينظر حوله مرة أخرى كأن نسيم ستقفز فجأة من خلفه، لكن الصمت كان هو الوحيد الذي يجيبه.


وُجهه اشتدّ وملامحه انعقدت كمن صُفع بإدراك مفاجئ.

لقد ضربت بحديثه وأمره عرض الحائط، وذهبت لرؤية فريد !


༺═────────────────═༻


وقف عمر ونادر في ساحة قسم الشرطة، كلاهما مشدود الأكتاف، تتراقص أقدامهما بين الانتظار والقلق. الهواء البارد يلتف حولهما، والصمت يخيم على المكان إلا من صوت خطوات دوريات الشرطة البعيدة. كل ثانية كانت تمر ببطء كأنها دقات قلب ثقيلة، تنتظر ظهور حسن بعد الانتهاء من كل الإجراءات.


عمر يقف مشدودًا، عيناه تترقبان كل حركة عند بوابة القسم، يراقب المارة وكل سيارة قد توقفت، قلبه ينبض بسرعة، وكأنه يحاول أن يلتقط أي مؤشر عن حسن.


أما نادر، فوقف بجواره بهدوء، يراقب المشهد بعينين صامتتين، لكن في صمته كانت حدة القلق واضحة، كمن يحاول أن يستوعب ما سيحدث بعد خروج الرجل الذي اعتاد على التخطي فوق كل القوانين والحدود.


يتابع ما يحدث أولا بأول مع سالم عبر الهاتف.


ثم، لمح كلاهما ظلًا بعيدًا يقترب من بوابة القسم، خطوات ثقيلة تصنع صدى مهيبًا على أرض الساحة. وبعدها.. ظهر حسن أخيرًا، وجهه قاتم وعيناه تنم عن هدوء مهيب، يتحرك بثقة وكأنه يتحدى كل ما حوله.


ما إن رآه عمر وقد تخطى بوابة القسم حتى اندفع نحوه بلا تفكير، ركض إليه وارتمى فوقه يعانقه بحرارة، مما فاجأ حسن الذي لم يتوقع تلك المبادرة من عمر بعد ما حدث بالمشفى .


عانقه عمر بدوره وربت على ظهره بابتسامة خافتة، ثم نظر إلى نادر وقال متهكما بابتسامة مريرة :

ـ تعبناك معانا يا متر .. بس مش كنت تسيبني يومين تلاتة أستعيد أيام الشقاوة .. مستعجلين على وجع القلب ليه ؟


زم نادر شفتيه بأسى، وهو يمد يده إلى حسن ويناوله متعلقاته، ويقول :

ـ أوامر سالم باشا يا سيدي .. على العموم حمدالله على السلامة يا حسن، وخف شقاوة شوية لأنها مبقتش تليق بيك ولا بإسم العيلة .


التقط منه حسن أغراضه، ثم التقط على الفور سيجارة من علبة سجائره، أشعلها وبدأ بتدخينها على الفور، وهو ينفث دخانها بعيدا ويقول بلا اكتراث:

ـ سيبها على الله يا متر .


ـ ونعم بالله .. تحب أوصلك بعربيتي ولا هتروح مع عمر ؟


نظر حسن إلى عمر نظرة يختلط فيها العتاب والود، وقال :

ـ عمر موجود أهو .. هنروح على الڤيلا علشان يغير هدومه بدل الحالة اللي هو فيها دي !


رمقه عمر بتعجب وقال :

ـ على أساس إن حالتك هي اللي عدله أوي !


نظر حسن إلى حالته الفوضوية، ملابسه المغطاة بالغبار،  وهز رأسه وقال :

ـ معاك حق .. أصلهم معندهمش تخشيبة فايف استار .


أومأ عمر متفهمًا وقال بنبرة ساخرة :

ـ من غير ما تشرح كتير ، ما أنا مجرب وعارف !


لاحت على شفتي حسن ابتسامة ساخرة وهو يردد بقلة حيلة:

ـ على رأيك .. ما احنا سوابق زي بعض .


ضحك كلاهما ضحكةً مريرة، ساخرة يملؤها الاستياء من واقعهما المخزي، بينما كان نادر يطالعهما بيأس، ثم استأذن منهما وانطلق نحو سيارته ، بينما استقل حسن السيارة رفقة عمر الذي انطلق في طريقه إلى الڤيلا ..


طوال الطريق ظل حسن واجمًا، شاردًا، يسترجع ذلك اليوم الثقيل الذي لم يمر حسب توقعاته أبدا .


ثم تنهد تنهيدة مسموعة، وقال يقر بذنبٍ ثقيل :

ـ أنا مقصدتش ..


التفت عمر نحوه ببطء، ثم أومأ بصمت مطبق، فيما تابع حسن قائلا :

ـ أنا مضايق أوي من نفسي، مكنتش أتمنى يحصل حاجة زي كده أبدا .. ومش عارف هصلح اللي حصل إزاي وهل چيلان هتقبل اعتذاري لو اعتذرت لها ولا لأ ..


تمسك عمر بصمته، لأنه في تلك اللحظة لم يجد ما يقوله، فقط اكتفى بالنظر من نافذته المجاورة، ثم زفر بهدوء وقال :

ـ علشان كده ضربت أيمن ؟! لأنك كنت مضايق من نفسك وقتها !



أومأ حسن وقال :

ـ قدره ونصيبه يطلع قدامي لحظتها، مكنتش شايف قدامي،.كنت حاسس إن جوايا نار مش عارف أطفيها أزاي، لما شفته حسيت إن الفرصة جتلي عشان أفش غليلي فيه ، وفي نفس الوقت افتكرت اللي عمله في فريد .. مكنتش عارف أنا بعمل إيه .


رمقه عمر بعينين مليئتين بالشفقة والحسرة، مع مزيج من الخوف، وعاد ينظر أمامه في صمت، فهو أيضا لم يكن في حال يسمح له بالتعاطي أو الحديث أكثر .


༺═────────────────═༻


كانت نسيم تجلس في وجوم ، تنظر حولها بضيق ثم تعود وتهتف بغضب :

ـ أنا مش قادرة أفهم مهما كان الخلاف بينهم إيه اللي يوصل حسن لأنه يكون عصبي ومتوحش بالشكل ده ! وبعدين ازاي يمنع عمر من انه يستنى معاكم .. واللي مش قادرة أفهمه ولا أستوعبه هو إزاي تخبوا عليا إن فريد تعبان !!


تنهدت زينب وهي تحاول أن تتحل بالصبر، وقالت :

ـ يا حبيبتي احنا كنا خايفين عليكي علشانك حامل .


هتفت نسيم بعصبية :

ـ مش مبرر خالص يا زينب على فكرة .


ونظرت إلى نغم وهتفت بعصبية:

ـ طيب على الأقل انتي يا نغم كنتي تكلميني وتقوليلي بدل ما أفضل على عمايا كده !


أدارت نغم وجهها بصمت، فهي تشعر وحأنها خائرة القوى، لا تملك طاقةً لتتكلم ، بينما قالت زينب محاولةً الدفاع عنها :

ـ نغم كانت تعبانة هي كمان من ساعة ما فريد تعب ولسه النهارده بادئة تقف على رجليها .


تنهدت بنفاذ صبر ، ثم أمسكت هاتفها وعاودت الاتصال بعمر الذي أجابها على الفور :

ـ أيوة يا نسيم ؟


ـ أخيرا .. عملتوا إيه يا عمر ؟


ـ متقلقيش .. حسن خرج الحمدلله وهو دلوقتي معايا ورايحين على الڤيلا .


ـ طيب الحمدلله .. كلنا هنا قلقانين عليكم .


ـ متقلقيش .. احنا هنظبط حالنا كده وهنيجي على المستشفى.


تنهدت بإحباط وقالت :

ـ ملوش داعي .. بيقولوا مفيش زيارة الليلة بردو .. لأنه هيتنقل على غرفة رعاية متوسطة لحد الصبح .. على العموم نغم هتكون معاه مرافق، وزينب هتيجي معايا لأني تعبانة ومحتاجاها معايا .. خليك انت وحسن ارتاحوا وتعالوا بكرة إن شاء الله .


ـ طيب .. هنشوف هنعمل إيه .. مع السلامه .


أنهت الاتصال، حينها تلقت اتصالا آخر من عاصم، فنهضت، ابتعدت خطوات قليلة حتى يتسنى لها الحديث بحرية ، ثم زفرت زفرةً مهمومة، وأجابت قائلة :

ـ أيوة يا عاصم .


ـ يلا علشان ماشيين .. أنا خلصت الإجراءات أهو .


ـ تمام .. بس زينب هتيجي معايا، محتاجاها معايا على الأقل أول كم يوم .


صمت قليلا، توقعت أن يرفض، وانتظرت جوابه القاطع، لكنه فاجأها حين قال باقتضاب :

ـ اللي يريحك .



وأنهى الاتصال فورا، أدركت أنه بالتأكيد غاضب ومنفعل، ولكنها غاضبة ومنفعلة بقدره وأكثر .


أشارت إلى زينب التي استعدت للذهاب معها، وقبل أن تغادر ودعت نغم قائلةً :

ـ خلي بالك من فريد لحد ما نيجي نشوفه بكره ..


أومأت نغم بابتسامة وقالت :

ـ أكيد ، فريد في عنيا .


وعانقتها عناقًا قويًا وقالت :

ـ وانتي كمان خلي بالك من نفسك .


غادرت كلا من نسيم وزينب سويًا، بينما دخلت نغم لتجمع أغراضها من الغرفة، استعدادا للانتقال كمرافق إلى غرفة فريد ..


بعد قليل ..


دلفت إلى غرفته بخطواتٍ حذرة، فوجدته ممدَّدًا فوق السرير، ملامحه أكثر هدوءًا وراحة مما كانت عليه في الساعات الماضية. اقتربت منه وابتسامة دافئة ترتسم على شفتيها، وما إن بلغته حتى جلست بجواره وانحنت لتعانقه، ثم همست قرب أذنه وهي تبتسم ابتسامة واسعة:

ــ حمدالله على السلامة يا حبيبي.


بادلها ابتسامة لينة، تشبه نسمة دافئة تمر على قلب مُنهك، ورفع يده ليمسح على وجنتها بحنان وقال بصوت خفيض:

ــ الله يسلمك يا بابا… انتي كويسة؟


بادلتـه إيماءة هادئة يملؤها الرضا، ثم مدّت يدها تربّت على كفه بحنان وهي تقول :

ـ الحمدلله .. قوللي بقا .. بما إني المرافق بتاعك تقدر تستغلني زي ما انت عايز ..


كانت كلماتها تخرج بنبرة خفيفة مرحة، بينما هي تنظر إليه نظرة مطمئنة، كأن وجوده أمامها سالمًا أعاد إليها أنفاسها من جديد.


وتابعت وهي تميل نحوه قليلًا، بنبرة تحمل مزيجًا من الحنو والاهتمام:

ـ عاوز تاكل حاجة دلوقتي ؟! أجيبلك حاجة تاكلها !!


هز رأسه بهدوء، وكأنه يزن إحساسه بالجوع لأول مرة منذ ساعات، ثم قال:

ـ الحقيقة أيوة..


نظرت إليه بتركيز، تنعقد حاجباها بخفة وهي تسأله بجديّة لا تخلو من استعداد كامل لخدمته:

ـ قوللي عاوز تاكل إيه وأنا أروح أجيبهولك دلوقتي حالا .


تريث لحظة، وكأنه يبحث عن الشيء الذي يشتهيه بالفعل، ثم أشار لها أن تقترب قائلًا بصوت منخفض يوحي بسر يوشك أن يُفصح عنه:

ـ هاتي ودنك طيب وأنا أقولك !


اقتربت منه بانصياع، خطواتها متوجّسة من ملامح الغموض على وجهه، وانحنت نحوه وهي تقطب حاجبيها بتعجب…

لكن قبل أن يكتمل تساؤلها، باغتها بقبلةٍ خاطفة على شفتيها.


تجمدت في مكانها، ورفعت رأسها نحوه بسرعة، نظرتها مشوشة بين الذهول والحنين والارتباك… وبين غضب خافت لأنها ـ كعادته ـ خدعها بحيلة لم تتوقعها.


تراجعت قليلًا وهي تحدق به باضطراب، في حين كان هو يتأملها بابتسامة صغيرة ممتلئة بالمكر، كأنه اكتفى بتلك القبلة كإجابة عن كل أسئلتها.



نظرت إليه بلومٍ خافت، لكن ما إن التقت عيناها بعينيه حتى وجدته يستند إلى الوسادة براحة أكبر، ويبتسم بتلك الابتسامة المراوغة التي يعرف جيدًا كيف تذيب غضبها، وقال بثقة خفيفة الظل:

ـ أنا دلوقتي شبعت .


هزت رأسها بيأسٍ محبّب، وقبل أن ترد، دوّى طرق خفيف على الباب، ثم انفتح لتدخل منه الممرضة.


كانت شابة في منتصف الثلاثينات، قريبة من سن فريد… لكن حضورها وحده كان كافيًا لإشعال شرارة الغيرة في صدر نغم. جسد ممتلئ الأنوثة، وبدلة طبية تحتضن منحنياتها بإفراط، وصدر يوشك أن يعلن التمرد على الأزرار.


توقفت نغم لحظة، عيناها تتفحصانها بغيرتها الفطرية… ثم بسرعة خاطفة انتقلت بنظراتها إلى فريد، تراقبه بحذر ذئب يتأكد من أن فريسته لم تهرب من تحت عينه.


لكن المفاجأة كانت أنها وجدته يراقبها هي، لا الممرضة… ينظر إليها بطرف عينه مبتسمًا، وكأنه يستمتع بمشهد الغيرة الذي قرأه فورًا في ملامحها. حين التقت نظراتهما، اتسعت ابتسامته أكثر، وهز رأسه في صمتٍ تعرف معناه جيدًا: أنه يفهمها جيدًا، ويفهم ما يدور في خلدها الآن وفي كل آن .


توترت نظراتها بتلقائية، محاولة إخفاء ما اشتعل في داخلها… بلا جدوى.


في تلك اللحظة كانت الممرضة قد اقتربت وهي تحمل صينية عليها حساء ساخن، تتحرك بثقة امرأة تعرف تأثيرها… لكن كل حضورها تلاشى أمام لغة العيون بين فريد ونغم، التي لم تكن تحتاج إلى كلمة واحدة لتكشف كل شيء.


انحنت الممرضة لتضع الطاولة الخشبية الصغيرة أمام فريد، ثم وضعت فوقها طبق الحساء بخفّة وهي تقول بنبرة لطيفة:

ـ ده هيكون عشاك الليلة… لسه بنختبر قدرتك على الأكل بعد خروجه من العناية.


وضعت الممرضة الطاولة أمامه ببطءٍ مُتعَمَّد، وانحنت أكثر كثيرًا مما يتطلّبه الأمر، حتى بدا وكأن الرداء الطبي نفسه يعلن التمرّد وهو يكشف عن مفاتنها بوضوحٍ فجّ… كل حركة منها كانت محسوبة، كأنها ترسم دائرة جذب حول فريد.


أما فريد… فكان أهدأ من الماء الراكد ..


أخفض نظراته سريعًا، ثم أشاح جانبًا فقط كي لا يُتَّهَم بتتبّع ما لم يسعَ إليه، يتعامل بأدب صريح يليق به وبنغم، وهو يعرف تمامًا ما تحاول تلك المرأة فعله… لكنّه تجاهل كل رسائل جسدها وكأنها غير موجودة.

ثم قال بلباقة وهو يُومئ لها بسكون:

ـ شكرًا…


لكن الممرضة لم تكتفِ..

استدارت نحوه ثانية، وأمالت رأسها قليلًا بطريقة تحمل أكثر من معنى، ونظرت مباشرةً في عينيه نظرة أطول مما يجب، ثم همست بنعومةٍ مدروسة لا تُخطئها إمرأة :

ـ لو حضرتك محتاج مساعدة… استخدم بس الجرس ده، وهتلاقيني عندك فورًا.


وهنا… اشتعل فتيل غضبها..

قفزت نغم من مكانها بعنف جعل الكرسي يحدث صوتًا على الأرض، وامتزجت في ملامحها كل درجات الغيرة دون أن تحاول إخفاء شيء.




قالت بصوتٍ متماسك ظاهريًا… لكنه يغلي من الداخل:

ـ أكيد مش هيحتاج مساعدة وأنا موجودة…


ثم التفتت إلى فريد بسرعة، ترفع حاجبها بحدة وكأنها تستجوبه:

ـ ولا انت ليك رأي تاني؟


فريد، الذي فوجئ بالهجوم، هتف ببراءة تامة :

ـ هو أنا اتكلمت!!


عادت نغم بنظراتها للممرضة، تلك التي لم تتوقف عن محاولات المراوغة، بينما نغم تتأملها بانتصار مكتوم. ثم قالت بابتسامة ذات معنى:

ـ أهو بيقول مش محتاج مساعدة.


رفعت الممرضة كتفيها متصنّعة اللامبالاة، لكن عينيها قالتا الكثير:

ـ تمام… اللي تشوفه حضرتك… عن إذنك.


وغادرت بخطوات متمايلة..


أما نغم… فاستدارت نحو فريد بسرعة، تلمح ابتسامته المكبوتة التي يحاول أن يدفنها كي لا يزيد النار اشتعالًا.

فصاحت بانفعال محموم:

ـ انت بتضحك ليه؟!


ابتسم فريد وهو يرمقها بنظرة جانبية دافئة يعرف تمامًا تأثيرها عليها:

ـ شكلك حلو أوي وانتي غيرانة .


رفعت حاجبها بتحدٍ، تعاند توترها وتدفن ارتباكها خلف لهجتها الواثقة:

ـ أكيد مش هغير من دي يعني !


مال نحوها قليلًا، وصوته يخرج واثقًا محمّلًا بصدق لا يحتاج برهانًا:

ـ لا من دي ولا من أي واحدة خلقها ربنا، حبيبتي هما اللي مفروض يغيروا منك مش العكس .


لم تستطع منع ابتسامتها من الانفلات رغمًا عنها، ابتسامة صغيرة لكنها قالت كل شيء.

جلست إلى جواره، وفي صوتٍ هادئ يغلب عليه الاطمئنان قالت:

ـ معاك حق ..


مدّت يدها ترتّب الوسادة خلف ظهره بحرص، تحاول جعله أكثر راحة، ثم سألت بنعومة ممزوجة بالاهتمام :

ـ مرتاح كده ؟


أومأ فريد وعيناه تعلّقتا بعينيها مباشرة… تلك المسافة القصيرة بينهما صارت فجأة تضجّ بالتوتر والحنين.

نظر إلى وجهها… ثم انزاحت عيناه ببطء نحو شفتيها، نظرة أخافت قلبها الصغير فأسرعت تتراجع خطوة إلى الخلف وجلست بجواره كمن يفلت من شرك أُعِدّ لها ؛ فابتسم هو بمكرٍ لطيف وغمز لها هامسًا بسخريةٍ دافئة :

ـ يا جبانة .


ابتسمت، وهي تدفع خصلات شعرها خلف أذنها، ثم أمسكت بالمعلقة وقرّبت بها الحساء نحو فمه، واضعة كفّها أسفل الملعقة بشكل طبيعي وفطري. ابتسم هو بدوره وهو يتناول الملعقة ويهمس مبتسمًا:

ـ بقالي تلاتين سنة محدش أكلني ..


وتنهد وهو يقول :

ـ الله يرحمك يا أمي .


لمعت عينيها بحنين حزين، ورددت :

ـ الله يرحمها .


نظر إليها وقال :

ـ تعرفي اني حلمت بيها ؟


وشرد وهو يسترجع ذكريات ذلك المنام وقال :

ـ كان حلم أقرب للواقع ، لأنها جاتلي في المستشفى ، في العناية.. وحضنتني وكانت بتبكي علشاني ، وبعدين سندت راسها على صدري ..


كانت تستمع اليه بحزن وبعينين ممتلئتين بالدموع، فتنهد وتابع وهو ينظر إليها مبتسما :

ـ وبعد ما رفعت راسها لقيتها انتي !! ازاي مش عارف !


ثم استقام قليلًا، مدّ يديه بحذر ليمسك وجنتها بين كفيه، ونظر إليها بابتسامة دافئة ملؤها الحنين وقال:

ـ يمكن لأنك الوحيدة اللي دخلت قلبي بعدها !


لانت ملامحها بين يديه، وابتسمت عيناها وشغتاها فإذ به يقترب منه أكثر، يحيط وجنتيها باحكام، ويقترب ليلتهم شفتيها بشوقٍ نهم.. ثم أسقط جبينه على جبهتها، رأت صدره يهتز وهو يسحب الهواء بجهد، تمامًا كما اعتراها، زارتهما لحظة صمت طويلة، محاطين بصوت أنفاسهما الجامحة غير المقيدة .


وجدها تبتعد فجأة وهي تحمحم محاولةّ استعادة رباطة جأشها من جديد ، وقالت :

ـ فريد .. أنا خايفة عليك تتعب تاني .


أراح ظهره قليلا ونظر إليها مبتسمًا بمشاغبة وقال بهدوء:

ـ متقلقيش .. دي بوسة سطحية مفيش منها ضرر .


ضحكت وهي تهز رأسها بيأس، وعادت تطعمه الحساء من جديد، بينما هو يتسائل:

ـ قوليلي بقا ايه اللي حصل في خلال اليومين دول ؟!


ارتبكت نظراتها قليلا، ثم قالت باقتضاب:

ـ عادي يعني.. محصلش حاجة .


طالعها متفرسًا ملامحها المضطربة، وأومأ وهو يمط شفتيه ويقول:

ـ ممم .. واضح انه محصلش حاجه خالص .


وأطلق تنهيدة متعبة منهكة، فنظرت إلى عينيه برجاء وقالت :

ـ فريد.. علشان خاطري بلاش تفكر غير في نفسك وبس.. أرجوك أنا ما صدقت انك اتحسنت ورجعتلي من تاني.. علشان خاطري فكر فيا أنا .. انا لما بتتعب بموت بالبطيء،


أمسك بيدها وقربها من فمه، ثم طبع قبلة رقيقة على راحة يدها، وقال :

ـ بعد الشر عليكي يا روحي .. متقلقيش عليا ، أنا هبقا كويس بإذن الله .


تناول المنديل الموضوع بجانب الطاولة، ثم مسح فمه ، وقال :

ـ انا الحمد لله شبعت، كفاية كده .


حملت الطاولة، ووضعتها جانبا، ثم عادت لتجلس إلى جواره، وقالت بابتسامة:

ـ نسيم وزينب وحسن .. كلهم كانوا قلقانين عليك وعايزين يشوفوك ..


وتمتمت بخفوت :

ـ وعمر كمان .


امتزجت ملامحه بضيقٍ أليم، فأمسكت بيده بين قبضتها، ونظرت إليه وقالت بابتسامة:

ـ أيا كان اللي حصل بينكم بس هو بيحبك وميقدرش على زعلك أبدا .. وبعدين ما انت عارف عمر يعني يا فريد.. بيطلع يطلع وينزل على مفيش .


تنهد فريد وهو يرمقها بأسى، يعرف أنها لو علمت بما قاله لما كانت لتتفوه بما قالته الآن، شعر بالأسى حيالها، تنهد مطولا ثم أومأ مؤكدا بصمت ..


بدأت هي تناوله أدويته حسب المواعيد المحددة، وهو يطالعها مبتسمًا، راضيًا وفخورًا وهو يراها تهتم به وتتفانى في رعايته بمنتهى الحب هكذا، فنظرت إليه وقالت :

ـ محتاج حاجة تانية أعملها لك ؟


نظر إليها ثم أومأ مؤكدا وقال بهدوء:

ـ عايزك تنامي جنبي .


تجمدت الكلمات في حلقها، واتسعت عيناها بارتباكٍ لم تستطع إخفاءه. شعرت بالدم يفور في وجنتيها، وبقلبها يهبّ هبًّا شديدًا كأنه يبحث عن مخرج من صدرها.

فضيق عينيه قليلا برجاء صامت.. يستدر عطفها بتلاعب يعرف تأثيره عليها.


ابتلعت ريقها بتوتر، ونظرت إلى السرير وهي تحاول التحايل عليه كما يفعل هو دومًا وقالت:

ـ مش هينفع أصلا .. السرير مش هياخدنا احنا الاتنين .


هز رأسه مبتسما بمكر، كاشفًا ذريعتها، وتحرك جانبًا ليفسح لها مجالا لكي تتمدد إلى جواره، ونظر إليها وقال:

ـ اتفضلي.. السرير أهو يساع من الحبايب ألف .


ظلت تنظر إليه بتردد، ثم إلى السرير، ارتجفت أنفاسها.

كل ما فيها كان يتأرجح: عقلها يجرّها للوراء، وقلبها يدفعها نحوه بقوة لا تعرف لها تفسيرًا.. وقالت:

ـ مش هينفع يا فريد ..


ـ نغم .. متبقيش باردة بقا .. أنا مش عايز حاجة غير إني أحضنك وأنام .. وقتها هرتاح وقلبي كمان هيرتاح وهروح في النوم على طول .


تنهدت تنهيدة مطولة، ثم قالت:

ـ ممكن الممرضة تدخل فجأة ، هتقول إيه لو شافتني نايمة جنبك ؟!


رفع حاجبيه متعجبا وقال :

ـ تقول اللي تقوله، انتي مراتي على فكرة .


أومأت وهي ترتب خصلاتها بارتباك وتقول :

ـ أيوة .. بس هي متعرفش إني مراتك ، هي مفكراني خطيبتك .


هز رأسه متهكما وقال :

ـ أوعدك لو دخلت فجأة هطلع لها قسيمة الجواز أوريها لها…


وتابع متصنعًا نبرة مرهقة :

ـ اخلصي بقا متتعبيش قلبي وأنا عامل عملية وتعبان لوحدي.


تنهدت بارتباك، أحسّت بقلبها يرتعش وهي تقف ببطء، بخطوات خفيفة تشبه خطوات من يسير إلى الهاوية،

اقتربت من السرير، وجلست على حافته بخجلٍ ظاهر… لكنه مدّ يده إليها برفقٍ شديد ..


نظرت ليده… ثم لوجهه.

وفجأة سقطت كل مقاومتها، كأن قلبها ألقى رايته البيضاء.


تمدّدت إلى جواره بحذر، متيبّسة قليلًا في اللحظة الأولى… ثم ما لبثت أن شعرت بحرارة جسده قربها، بذلك الأمان الذي كان يشبه حضنًا صامتًا لا يحتاج إلى كلمات.


كان قد مد ذراعه لتتوسده، ثم أحاط خصرها بكفه فأغمضت عينيها، وهي تشعر بقلبها يطرق صدرها طرقًا مرتّبكًا…


كانت تشعر بأنها أقرب إلى السعادة مما ينبغي، وأقرب إلى الخوف مما تتحمّل..


التقط يدها الحانية، قبلها مجددا ثم أسندها على صدره  فهدأ كل شيء.


هدأ ضجيج أفكارها..

هدأت صرخاتها الداخلية..

استكانت روحها..

اطمئن قلبها..

وكأنها وجدت أخيرًا المكان الذي كانت تبحث عنه…

مكانها منه، وبجانبه، وفي قلبه دون أن يقول كلمةً واحدة.


أغمضت عينيها وهي تشعر بالسلام يجتاح قلبها وجميع جوارحها، وبدأت أنفاسها تهدأ تدريجيًا بعد الخوف الذي كان يملؤها. دفء جسده إلى جانبها، وقربه الذي شعرت به في كل لمسة، أعطاها شعورًا غريبًا بالأمان الكامل، كأن العالم كله قد اختزل في هذه اللحظة الصغيرة.


مدّت يدها برفق لتستلقي على كتفه قليلًا، بينما هو يضع ذراعه حولها بحنان..


كل ما كانت تسمعه هو دقات قلبه المتناغمة مع قلبها، وكل ما شعرت به هو دفء حضنه الصامت، الذي يروي الروح قبل الجسد.


༺═──────────────═༻

#يتبع

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close