القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثامن وخمسون 58بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثامن وخمسون 58بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات




رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثامن وخمسون 58بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات


 


 



محسنين الغرام ٢


٥٨ ـ ~ أمواج هادرة ! ~



في صباح اليوم التالي…


كان حسن قد أنهى ارتداء ملابسه أخيرًا، ثم خرج من غرفته يبحث عن عمر الذي نام ليلته الماضية برفقته في الغرفة، ذهب إلى غرفته يبحث عنه، وما إن فتح الباب حتى وجد الغرفة فارغة، فهبط إلى الحديقة لعلّه يكون هناك، لكنه لم يجده .


لمح والده جالسًا على مقعده المعتاد، شاردًا، يبدو كمن يحمل جبالًا فوق كاهله، فتقدم نحوه ثم قال :

ـ صباح الخير ..


التفت سالم إليه ببطء، وحدّق فيه لحظة قبل أن يجيب بذات الهدوء… لكن بشيء من السخرية المرة: :

ـ صباح الخير، كفارة يا حسن بيه .. ولا أقوللك يا حسن يا عقرب ؟!


وقف حسن واضعًا يديه في جيبي سترته، وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامة باهتة ممزوجة بمرارة مماثلة:

ـ مش فارقة .. الاتنين واحد .


نظر إليه والده بحدة وهتف :

ـ لا الاتنين مش واحد .. و توب حسن العقرب ده لازم تقلعه لأنه مش لايق عليك وعلى علينا .. انت عايز الناس يقولوا على آخر الزمن ابن سالم مرسال بلطجي و حبسجي ؟!


تنهد حسن في مرارة وأشاح بوجهه في شرود وقال :

ـ دي حقيقتي .


والتفت نحوه سريعا وتابع :

ـ ومحدش بيهرب من حقيقته .. وبعدين انت عرفتني وقبلت بيا وأنا حسن العقرب البلطجي الحبسجي .. يعني مفيش حاجه جديدة .


زفر سالم بنفاد صبر، وقد أدرك أن عناد ابنه لن يلين بسهولة، ثم قال مختصرًا:

ـ ما علينا .. فين أخوك ؟ أنا سمعتكم بالليل وانتوا راجعين ومرضيتش أتكلم معاكم وقتها ، لكن دلوقتي لازم نتكلم .


ـ مش عارف عمر فين، يمكن سبقني على المستشفى ، خير ؟؟ في حاجة ؟!!


نظر إليه سالم مطولا ، ثم تنهد وقال :

ـ في جلسة بعد ٣ أيام بخصوص القضية بتاعة الولد .. حاول تتكلم مع عمر بالعقل يمكن يسمع لك، الموضوع لازم يتحل بهدوء ويخلص من غير شوشرة .. مش ناقصين فضايح .


أطلق حسن تنهيدة طويلة، ثم قال باقتضاب :

ـ تمام .


بينما تابع :

ـ سيبك من الموضوع ده وخلينا في المهم .. أخوك عامل إيه دلوقتي ؟


أومأ حسن وهو يقول :

ـ الحمدلله .. خرج من العناية ودلوقتي رايح علشان أشوفه .


رفع سالم حاجبه وقال :

ـ وعمر ؟! مش هيشوفه ويتأسف له ؟!


أغمض حسن عينيه بتعب، وقال :

ـ بلاش دلوقتي ، فريد لسه يا دوب بيشم نفسه وممكن عمر يرمي له دبشتين من بتوعه في الكلام يتعبه بزيادة..


أطرق سالم للحظة، وكأن مشهدًا ما مرّ أمام عينيه، ثم قال بصوت منخفض:

ـ و هي ؟!!


ضيق حسن عينيه وهز رأسه متسائلا:

ـ هي مين ؟!


ـ نغم .


ـ مالها نغم ؟


ـ هي موجودة معاه في المستشفى ؟


أومأ حسن وقال ::

ـ من ساعة ما عرفت الخبر وهي تعبانة وبتحاول تقف على رجليها علشانه .. وصممت تكون هي اللي تفضل معاه امبارح وتخلي بالها منه .


زفر سالم زفرة طويلة، أشاح بعدها بوجهه… وكأن شيئًا في داخله استسلم. التقط حسن ما في نبرة والده من ارتياح خفي فقال مطمئنًا :

ـ اطمن .. محدش في الكون كله حب فريد قد نغم .. ولا فريد حب حد قد ما حبها ..


طالعه والده بنظرة هادئة، كأن شيئًا قد انكسر فيه فجأة فصار يتقبّل الأمر دون مقاومة… يتعامل معه ببساطة غريبة لا تُشبه الرجل الذي كان يومًا يشتعل غضبًا ويتصارع مع أخيه بسبب الفتاة ذاتها.

زفر بصوتٍ منخفض، وكأنه يطوي صفحة قديمة، ثم قال:

ـ وأنت ؟


ابتلع حسن ريقه وقد باغته سؤاله ، وهز رأسه متسائلا :

ـ أنا ايه ؟


ـ مش ناوي تشوف لك واحدة تحبها وتتجوزها ؟! انت مبقيتش صغير !


ضحك حسن ضحكة كاملة وقال :

ـ اشوف واحدة أحبها ؟! يا ريت الحب بالطلب يا باشا مكانش ده بقى حالي !


هز سالم رأسه بجدية وقال متعجبًا:

ـ وليه ميبقاش بالطلب ؟! إذا مكنتش قادر تحب دلوقتي بس أكيد قادر تتجوز .. وبعد الجواز الحب ييجي على مهله .


هزَّ حسن رأسه في صمتٍ متفكّر، ثم مرّر إبهامه على شفتيه وهو يرسم ابتسامة ماكرة تنبض بخفة الظل، قبل أن ينحني قليلًا نحو والده ويسأله بدهاء ساخر:

ـ يعني عايز تقنعني إنك حبيت نادية هانم بعد ما اتجوزتها ؟!


تشنج وجه سالم فورًا، مما جعل حسن ينفجر ضاحكًا، بينما تمتم سالم باستهجان

ـ نادية دي غلطة عمري .. متجوزها تكفير ذنوب .


انبعثت ضحكات حسن رغما عن أن نبرة والده كانت مليئة بالضيق، ثم ربت على كتفه بهدوء وقال بجدية خافتة:

ـ هي غلطة مختلفناش .. بس لو بصينا لنص الكوباية المليان هنلاقي الحسنة الوحيدة اللي في جوازك منها إنها خلفت عمر .


لم يرد سالم، فقط زفر واستسلم لواقع يعرفه جيدًا، ثم قال بصوت منكسر قليلًا: :

ـ خلي بالك منه يا حسن، متسمحش لأمه وأخته يسيطروا عليه .. خليك جنبه وشده ليك بأي طريقة، هو جايز مش بيحبني ولا أنا بقيت عارف أسيطر عليه بس هو بيحبك وبيحب فريد ومهما حصل مش هيبعد عنكم .. متتخلوش عنه هو محتاج لكم .


اقترب حسن، وانحنى أمامه، ثم أمسك يد والده ووضعها بين يديه بحنان وقال بإخلاص صادق:

ـ متقلقش يا حج .. عمر وفريد ونسيم .. أفديهم بروحي .


ارتسمت ابتسامة صغيرة منهكة على شفتي سالم، وربت على كتف حسن وقال بفخر واضح :

ـ انت جدع وابن حلال يا حسن .. يا زين ما ربت عيشة  !


تجمّد حسن في مكانه لوهلة، واتّسعت عيناه على نحو خفيف . لم يكن معتادًا أن يسمع من والده كلمة مديح، والأغرب أن تأتي في سياق ثناء على تربية والدته تحديدًا؛ المرأة التي لم يرَها سالم يومًا إلا مصدرًا للأخطاء والعيوب.



شعر حسن كأن شيئًا ما يتحرك داخل صدره ببطء ودهشة، وربما ارتباكٌ خفيف، بل مسحة من عدم التصديق. حملق في والده لحظة أطول مما ينبغي، محاولًا فهم ما إذا كان الرجل قد قال كلماته بعفوية أم بدافعٍ آخر غامض.


ورغم ثبات ملامحه، إلا أن شيئًا خافتًا عبر وجهه؛ كأن حاجبًا ارتفع دون إرادة، وكأن ابتسامة صغيرة مرت بخفة على طرف شفتيه، لا سخرية فيها هذه المرة، بل استغراب ناعم. بدا حسن وكأنه يسمع صوتًا لم يألفه من قبل يخرج من فم والده جعله يتساءل في داخله: هل هذا هو حقًا والده ؟!


وفي أعماقه، تولّد إحساس غريب، أقرب إلى اهتزاز خفيف في اليقين؛ إحساس بأن ثمة شيئًا غير مفهوم يحدث أمامه، شيء لم يستطع بعد أن يضع يده عليه.


نهض يستعد للمغادرة، وقال :

ـ أنا همشي لأني اتأخرت ، عن إذنك.


أومأ سالم موافقًا ، فاستدار حسن ليغادر ولكن والده استوقفه مرة أخرى حين قال :

ـ نسيم عاملة إيه ؟!


التفت حسن ببطء، نظر إليه بهدوء وقال :

ـ الحمدلله .. خرجت من المستشفى امبارح .


هز سالم رأسه بلا إبداء رد فعل، ثم قال :

ـ كلمها اسأل عليها .. نسيم محتاجانا كلنا جنبها، وجوزها كمان لازم يفهم إنها مش لوحدها علشان يفكر ألف مرة قبل ما يحاول يضايقها .


مط سالم شفتيه بصمت، ثم رفع ناظريه إلى حسن وقال:

ـ أول لما تدخل لأخوك خليني أكلمه .


تنفس حسن بعمق، ثم أومأ موافقًا وتحرك صوب سيارته، استقلها وانطلق متجهًا إلى المشفى .


༺═────────────────═༻


كانت تلك الليلة الأولى التي ينام فيها فريد مرتاح القلب حقًا، كأن الطمأنينة أخيرًا وجدت طريقها إلى صدره بعد أيام طويلة من القلق والاضطراب.


وحين أفاق في الصباح، فتح عينيه ببطء، يتلمّس بيده الجهة التي نامت فيها نغم، فلم يجدها. اعتدل قليلًا، وألقى نظرة شاردة في أنحاء الغرفة، يبحث عنها بنصف وعي.. لكنّه لم يرها.


ولوهلةٍ ظنّ أنّه يحلم أو أنّ ما ناله من دفء الليلة الماضية كان مجرد وهْمٍ لطيف… إلى أن وقعت عيناه عليها.


كانت تقف في زاوية الغرفة، ترتدي إسدال الصلاة، ساكنة كنسمة فجر، ينساب عليها الضوء الخافت المنبعث من النافذة. يديها مرفوعتان، وصوتها لا يكاد يُسمع، لكن الخشوع الذي على ملامحها كان أبلغ من أي صوت؛ كأنها خرجت من حدود العالم كلّه ودخلت في حضرةٍ لا يشاركها فيها أحد.


بُهت فريد للحظة.

لم يتوقع أن يراها هكذا. لم يتوقع أن يستيقظ على مشهد بهذه الطهارة.


فاض قلبه بشيء يشبه الدهشة الممزوجة بامتنان عميق، حتى ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة، دافئة، ابتسامة خرجت منه دون إرادة، كأن قلبه هو الذي ابتسم لا وجهه. شعر بانشراحٍ جميل ينساب داخله، وكأن صدره يتّسع للمرة الأولى منذ زمن طويل.



ختمت صلاتها، ثم أدارت رأسها نحوه. لمحته ينظر إليها بتلك النظرة الوادعة… فخجلت، وانخفضت عيناها قليلًا، ثم اقتربت منه بخطوات هادئة، وعلى ثغرها ابتسامة خجولة تزيدها جمالًا.


جلس فريد مسندًا ظهره إلى الوسادة، وما إن وقفت أمامه حتى ربّت بيده على الفراغ بجانبه على السرير، كدعوة صامتة لأن تجلس إلى جواره، فتقدّمت وجلست بجواره، بينما كانت أنفاسها تتسارع وهي تراه ينظر إليها بتلك الطريقة.


أمّا هو… فقد ظلّ يتأمّلها بصمت، بنظرة حب صافية، كأن كل ما حوله تلاشى ولم يبقَ في الدنيا سواها.


كان ينظر إليها وكأنه يكتشفها من جديد…

يحبّها من جديد…

يشعر نحوها شعورًا لا يعرف ماهيته .


ابتسمت وهي تنظر إليه قائلةً :

ـ صباح الخير .


ـ صباح النور .. إيه الحلاوة دي !


ازدادت ابتسامتها إشراقًا وهي تسأله بلهفة خجولة:

ـ بجد شكلي حلو ؟!


ابتسم وهو يتأملها بعينين ممتلئتين بالدهشة والحب:

ـ زي القمر طبعا ..


ابتسمت وقالت :

ـ شكرا ..


ثم هزّت رأسها في حركةٍ رقيقة، وقالت بدلالٍ خافت :

ـ مش عارفة من غير كلامك الحلو ده كنت هعيش إزاي بصراحة ..


ارتسمت على شفتيه ابتسامة دافئة، ثم قال بصوتٍ منخفض يفيض بالطمأنينة:

ـ نغم.. أنا مبسوط جدا إنك بتصلي ..


تنفّست بعمق وكأن صدرها يتخلص من حملٍ قديم، ثم أومأت قائلة :

ـ أنا كمان مبسوطة إني بقيت أصلي .. ونفسي ألتزم جدا .


مدّ يده وربّت على يدها برفق، وقال بثقة هادئة:

ـ إن شاء الله هتلتزمي .. طالما قلبك صادق ونفسك فعلا تلتزمي وتقربي لربنا أكيد ربنا هيعينك ويثبتك.


ـ إن شاء الله .


واسترسل يحدثها بصدقٍ نابعٍ من أعماقه، كأنما انفتحت له أبواب البوح فجأة فأطلق كلماته بحرية وراحة غير مسبوقة :

ـ أنا كمان حاسس إن اللي حصللي ده كان صَحوة… يعني.. ربنا نجّاني من حاجة كانت ممكن تبقى أسوأ بكتير، وأذن لي بعمر جديد وده خلى جوايا إحساس إني محتاج أبتدي من أول وجديد… لازم أشكر ربنا وأحاول أبقى أحسن ..


أومأت بابتسامة صافية، فتابع :

ـ طبعا أنا حاولت كتير يعني.. بس للأسف الموضوع مش سهل بالنسبة لي إني ألتزم وأكمل فكان دايما بيحصل لي إنتكاسات ..


وتابع آسفًا وهو يدلك جبهته بإرهاق :

ـ الموضوع صعب جدا… خصوصا في وجود الوسواس أوقات كان بيوصل لكونه مستحيل مش بس صعب .


زمت شفتيها، تشعر حياله بالأسى والضيق، ثم ربتت على يده، فإذ به يسند يده فوق يدها ويقول متفرسًا ملامحها الجميلة الهادئة :

ـ شكلك حلو أوي في الحجاب .. يا ريت لو تفضلي كده دايما والله .


تنفّست بعمق، وكأنها تستجمع شجاعتها، ثم قالت:

ـ أنا بفكر في كده فعلا بس حاسة إنه لسه شوية .. يعني .. لسه مترددة .


أومأ محاولًا أن يمدّ لها يد الطمأنينة:

ـ  الموضوع مش مستاهل تردد ، انتي جميلة أوي في الحجاب بجد وأنا حابب تاخدي الخطوة من دلوقتي ..


ثم صمت لحظة، وأطلق تنهيدة هادئة قبل أن يضيف:

ـ لكن .. لو انتي حاسة إنك مترددة لدرجة إنك ممكن تلبسيه وبعدين تتراجعي .. أنا عن نفسي وقتها مش هوافقك في خطوة زي دي ولا انتي هتكوني مرتاحة نفسيًا .. يبقى الأفضل بلاش تستعجلي وخدي وقتك .


أومأت وقد بدا الارتياح واضحًا في ملامحها، ثم قالت:

ـ علشان كده أنا بحاول أتأنى في القرار ده بالذات .. يعني ، مش عايزة إنها تكون لحظة حماس وبعدين تروح ، زائد إن أنا حاسة إن في جوايا حاجات كتير عاوزة أصلحها ..


وتوهجت نظراتها قليلًا وهي تتابع بشرود:

ـ عارف .. حاسة إن جوايا فوضى محتاجة تترتب .. حاسة إن جوايا زحمة ودماغي فيها أفكار كتير داخلة في بعضها .. وكمان بفكر في حاجات كتير عاوزة أعملها بعدين


ثم التفتت إليه من جديد، وتنهدت قبل أن تتمتم:

ـ طبعا أنا مش عارفة أقول إيه اللي أنا حساه بالظبط بس متأكدة إنك فاهمني من غير ما أشرح يعني .


ابتسم بتلك الابتسامة التي تُهدّئ روحها، وأومأ بثقة:

ـ طبعا فاهمك .. أساسًا لو أنا مش هفهمك مين هيفهمك يعني ؟!


بادلتْه ابتسامة صغيرة، فمدّ يده برفق يربّت بها على وجنتها وكأنه يهيئها لكلمات ستستقر في قلبها طويلًا، ثم قال :

ـ انتي بتكبري يا نغومة ..


اتسعت عيناها قليلًا، فتابع بصوتٍ عميقٍ هادئ:

ـ انتي دلوقتي بدأتي مرحلة النضج العقلي يعني نظرتك للأمور كلها من حواليكي هتختلف ، هتعيدي اكتشاف من نفسك من جديد .. هتبدأي تعرفي نفسك وتفهميها وتعرفي انتي عايزة إيه وإيه اللي يليق بيكي وإيه لأ .


ثم ابتسم ابتسامة خفيفة تمسّ قلبها وقال:

ـ يعني نغم اللي قدامي دلوقتي غير اللي عرفتها قبل سنة مثلا !


أومأت تُصدّق كلماته، ثم رفعت نظرها إليه وسألت بخفوتٍ شجّي :

ـ وأكيد أنت بتحب نغم دلوقتي أكتر من نغم قبل سنة مثلا !


ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة، ثم مدّ يده يربّت على كفّها برفق مع كل جملة قالها:

ـ أنا بحب نغم في كل الأحوال ، نغم اللي عرفتها قبل سنة .. ونغم دلوقتي .. ونغم بعدين.. ونغم بعد خمسين سنة .. ولو ربنا عطانا العمر أكتر هفضل أحبك أكتر وأكتر.


ارتجفت الدموع في عينيها تحت وطأة تأثرها الشديد، فقفزت نحو صدره دون تردّد، تطوّقه بذراعيها وتهمس بصوت يغلفه البكاء:

ـ وأنا بحبك من يوم ما شفتك وهفضل أحبك لحد ما أموت .


هزّت كلمتها كيانه كما لو أنها صفعة جاءت من الماضي البعيد…

تجمّد للحظة، واتّسعت عيناه قليلًا بلا إرادة، وكأن ذاكرة قديمة فتحت بابها بعنف. انقبض صدره فجأة، ذلك الانقباض الذي يعرفه جيدًا منذ أن كان طفلًا صغيرًا يقف أمام جثمان أمه وهي ترحل عنه بلا وداع.



ولوهلة شعر وكأنه فقد الهواء، ويده التي كانت تربت على ظهرها تجمّدت قليلًا قبل أن يضمّها أكثر، ثم ابتعد قليلًا وهو يهمس بنبرة تحمل رجاءً مكتومًا:

ــ نغم… ما تقوليش الكلمة دي تاني.


نظر في عينيها بعمق، كأنّه يريد أن يحفر هذا الرجاء في قلبها:

ــ أنا… بخاف لما بتقوليها وبفتكر لحظات مش قادر أتعافى منها لحد دلوقتي .


ثم ضمّها إليه مرة أخرى بقوة أعلى من ذي قبل، كأنّ حضنها وحده هو الشيء القادر على تهدئة الارتعاشة التي سرت في صدره.. واستكانت هي بين ذراعيه ..


لم يفرق عناقهما سوى طرقات متطفلة على باب الغرفة، فابتعدت نغم بهدوء، بعدها انفرج الباب وظهرت الممرضة، فتبدلت ملامح نغم بضيق، ونظرت إلى فريد الذي بادلها ابتسامة رقيقة وربتة يد مطمئنة .


تقدمت الممرضة وهي تحمل في يدها لوحة الملاحظات، اقتربت من السرير وابتسمت بابتسامة مهنية مطمئنة، ثم قالت بصوت منخفض:

ـ صباح الخير يا فريد بيه، هنعمل دلوقتي فحص سريع قبل ما ننقلك على اوضتك الجديدة .


مدّت يدها تضبط أجهزة المراقبة المتصلة به، وتتحقق من القراءات الواحدة تلو الأخرى؛ قياس النبض، ضغط الدم، مستوى الأكسجين، ومعدل التنفس. ثم انحنت قليلًا تفحص موضع القسطرة الوريدية، تتأكد من سلامة الوصلة وعدم وجود أي التهاب أو احمرار.


بعدها التفتت إلى جهاز الأشعة الصدرية الصغير المثبّت على جانب السرير لتتأكد من التقرير الذي صدر فجرًا، ثم أخرجت السماعة من جيبها ووضعتها على صدره في مواضع متفرقة، تستمع لانتظام نبضه وهدوء أنفاسه.


بينما نغم، تقف إلى جواره وهي تشعر بوخزٍ حاد في صدرها، شعور بالغيرة ينهشها وهي تتابع يد الممرضة وهي تتعامل مع فريد ـ المسجي أمامها ـ بأريحية أشعلت غضبها وأضرمت في قلبها النيران.


استقرت عينا فريد فجأة على نغم.

رآها ساكنة، لكن في عينيها شيئًا صغيرًا مُوارًى، فابتسم لها ابتسامة جانبية خفيفة وهو يهز رأسه يائسًا ..

تنفست نغم بارتباك، وأشاحت بوجهها للحظة كي لا يقرأ تلك الغيرة في عينيها أكثر.


تابعت الممرضة عملها وقالت:

ـ الضغط كويس.. والنبض منتظم الحمدلله. هراجع الملف وهبلّغ الدكتور إن حالتك مستقرة وجاهز للنقل.


أومأ فريد سريعًا، بينما شعر بالراحة تتسلل إلى قلبه ببطء.. نظرت إليه الممرضة وقالت :

ـ خمس دقايق والفطار هيوصلك .. عن اذنك .


خرجت الممرضة، فتنفّست نغم بعمق وكأن الهواء عاد إلى صدرها من جديد.


نظر إليها فريد نظرة ماكرة لطيفة وقال بهدوء:

ـ هتاكلي الممرضة بعينيكي .. ده أنا معملتهاش !


احمرّ وجهها على الفور، وهتفت بحدة وهي تشهر سبابتها في وجهه بتحذير قاسي اللهجة :

ـ جرب انت بس تعملها !!



أرجع رأسه للخلف قليلا متجاوبًا مع تهديدها، ثم أخفض ناظريه إلى سبابتها المسلطة إلى وجهه كفوهة مدفع، فارتسمت على شفتيه ابتسامة عابثة، و فورًا قبض على أصبعها بأسنانه فأفلتت ضحكةً عالية على نحوٍ أثار ضحكاته بالمثل، وهز رأسه وهو يتمدد قليلاً ويقول :

ـ متقلقيش .. أنا مفيش واحدة غيرك تملى عيني .


وتابع لما رأى ابتسامتها الوثقة :

ـ وبعدين أنا محترم ومليش في الجو ده .. مش ده كلامِك ؟


ابتسمت ابتسامة ساخرة مقتضبة وهي تقول :

ـ غيرت رأيي .


قطع حديثهما للمرة الثانية دخول ممرضة أخرى تحمل صينية وضع فوقها الفطور ، فنهضت نغم والتقطت منها الصينية وشكرتها فانصرفت، ومن ثم تقدمت نغم نحو فريد، جلست إلى جواره وبدأت بإطعامه بكل حب .


༺═────────────────═༻


استيقظت نسيم من نومها بهدوء، أخذت تنظر حولها فإذا بها ترى عاصم الواقف أمامها يرتدي ملابسه استعدادا للخروج، اعتدلت وهي تجلس مستندة إلى الوسادة خلفها، وقالت بصوتٍ يغلفه النعاس :

ـ صباح الخير ..


نظر إليها وقال بهدوء:

ـ صباح النور ..


ـ انت رايح الشركة ؟!


أومأ مؤكدا والتفت نحوها وهو يرفع يده ويغلق زر معصمه، ويقول :

ـ أيوة .. الأول هروح أطمن على أيمن وبعدين عندي شغل كتير وبعد الشغل هفوت على الدار علشان في اجتماع بالموظفين هناك .. يعني يومي كله مشغول وهرجع متأخر .


تنهدت بهدوء، ثم قالت :

ـ عاصم .. أنا مقدرتش أتكلم معاك بالليل ولا انت كنت في حالة تسمح بالكلام ، بس …


قاطعها عاصم بهدوء وقال :

ـ وما زلت مش قادر أتكلم يا نسيم .. بعدين أفضل ليا أنا وانتي .


اتشحت ملامحها بالضيق قليلا لأنه أسكتها بتلك الطريقة المزعجة، وهزت رأسها ببطء، فإذا به يتقدم منها ويجلس إلى جوارها، مسد ذراعها وهو يقول :

ـ انتي لسه تعبانة والأحسن نأجل أي كلام ممكن يضايقك ..


نظرت إليه بصمت، ثم أومأت، فاقترب منها وطبع قبلةً حانية على جبهتها ثم قال :

ـ الأهم من كل حاجه وأي حاجة إنك تعرفي إني بحبك مهما حصل .


هزت رأسها وكأنها كانت تتوق لكلماته البسيطة تلك، بينما هو أخذ يربت على ظهرها ويقول :

ـ بحبك جداا وبحب ولادنا .. انتوا أغلى حاجة في حياتي وأولى وأهم من أي مخلوق تاني .


عانقته بقوة ، ثم قبّلت وجنته وقالت :

ـ وأنا كمان بحبك .


تنهد وهو يمسح على شعرها ويقول :

ـ أنا همشي .. محتاجة حاجة ؟


هزت رأسها بهدوء أن لا، ثم قالت :

ـ أنا بعد ساعة هروح أشوف فريد ..


أطرق رأسه بهدوء يفكر قليلا ، ثم أومأ بابتسامة هادئة وقال :

ـ مع إنك لازمك راحة وانتي عارفة كده بس تمام .. هخلي السواق ييجي ياخدكم ويوصلكم لحد المستشفى .



ـ شكرا ..


مسد ذراعها وهو يوميء مبتسمًا، ثم نهض، التقط أغراضه وسترته، ثم غادر .


بينما هي نزلت من سريرها ببطء، وغادرت الغرفة، توجهت نحو الغرفة المجاورة حيث نامت زينب، طرقت الباب بهدوء، فانفرج الباب وخرجت زينب التي طالعتها بهدوء وقالت :

ـ صباح الخير يا حبيبتي ..


نظرت إليها نسيم وتنهدت وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها وتقول بابتسامة هادئة :

ـ صباح الخير يا زينب .. نمتي كويس ؟!


أومأت زينب قائلةً بابتسامة :

ـ نمت متقلقيش .. وكلمت نغم حالا قالتلي إن فريد اتنقل على أوضة عادية ونقدر نزوره كمان شويه .


هزت نسيم رأسها بهدوء وقالت :

ـ الحمد لله .. يلا بينا نفطر وبعدين نجهز على ما عاصم يبعتلنا العربية .


لمحت زينب بعض الضيق بصوتها، فتساءلت بهدوء :

ـ نسيم .. انتي اتخانقتي مع جوزك ؟!


هزت نسيم رأسها وهي ترتب خصلاتها بارتباك وتقول :

ـ لا أبدا..


بدا في عيني زينب عدم الاقتناع، فتنهدت نسيم بانهزام وكأنها تعرف أنها لن تفلح في النجاة بكذبتها، كما تعلم أن زينب تفهمها وتعرف دواخلها جيدًا ..


زفرت بتعب وهي تسير خطوات نحو غرفة الجلوس، وارتمت بجسدٍ متهالك على الأريكة فورًا، ثم أسندت رأسها إلى قبضتها، وقالت بعد لحظات :

ـ عاصم مش قادر يوقف حقده ناحية اخواتي يا زينب .. كل لما يهدى وأحس إنه خلاص بقا كويس وهادي ونفسيته أحسن .. يحصل حاجة ترجعنا لورا وتخلي الحقد اللي كان مدفون ده يتجدد من تاني.. ويفضل بعدها يقول لي اخواتك عملوا واخواتك سووا ..


أسقطت رأسها للخلف وهي تنظر نحو نقطةٍ وهمية، وتقول :

ـ وأنا مش عايزة أكمل حياتي بالشكل ده، مش عايزاه يفضل مقتنع ان أخواتي مذنبين زيهم زي أبويا .. مش عايزاه يفضل حاططهم في الخانة دي طول العمر .


ونظرت إلى زينب بعينين امتزجت فيهما دموع الحسرة بالشفقة :

ـ عارفة ان خسارته كبيرة، وعارفه انه معاه حق لان اللي مات ده أخوه، بس دول كمان اخواتي.. مش عايزه افضل طول العمر حاسه اني واقفه في النص ما بين جوزي واخواتي ومضطرة دايما أتحيز لطرف فيهم على حساب الطرف التاني ..


سقطت دمعاتها بحسرة، فتلقفتها زينب بين ذراعيها تضمها بحنان، وتربت عليها داعمةً إياها، ببنما تابعت نسيم وهي تجهش في بكاء مرير :

ـ نفسي حياتي تمشي بشكل طبيعي يا زينب، نفسي أقدر أتكلم معاه عن طفولتي مع اخواتي وعن المواقف اللي بتجمعنا من غير ما اشوف الكره ليهم في عينيه.. نفسي استقبل اخواتي في البيت واعزمهم واقضي معاهم وقت من غير ما اكون حاسه انه متضايق ومش حابب وجودهم ومش عايزهم يدخلوا بيته لأنه من وجهة نظره في بينه وبينهم تار .. نفسي أقدر أتكلم قدامه وأعبر عن حبي لاخواتي من غير ما اكون في نظره خاينه لذكرى حازم الله يرحمه ..


وخارت قواها تمامًا وهي تعانق زينب وتقول:

ـ حاسه اني هفضل طول العمر منبوذة .. خلاص أنا مش هقدر أكون من العيله، لما يكون في مناسبة او اخواتي متجمعين مش هقدر اكون معاهم أنا وجوزي زي أي واحدة ، في فرح فريد هكون لوحدي.. تخيلي أنا بقيت حتى أبسط التفاصيل بفكر فيها وبشيل همها ..


ونظرت إليها وقد علت نبرة بكاءها أكثر، وهي تنتحب بشدة وتقول :

ـ مثلا يوم ولادتي.. مش هيقدروا يتجمعوا كلهم مع بعض.. لا هو هيقبل يكون موجود معاهم في نفس المكان،  ولا هم هيحطوا نفسهم في الموقف ده أصلا لانهم عارفين أنه مش بيحبهم ..


تنهدت زينب وهي تمسد ذراعيها وتقول :

ـ حبيبتي اهدي .. انتي منفعلة ومتوترة بزيادة لأنك حامل والأحداث الكتيرة اللي حصلت مؤخرا دي تعبت لك أعصابك أكتر. سيبيها لله يا نسيم وما تفكريش في حاجه يا بنتي.. الأيام ياما بتداوي صدقيني ومحدش عارف بكره في إيه .. بلاش تفكري في كل حاجه من دلوقتي وسيبي كل حاجه لوقتها علشان صحتك وصحة اللي في بطنك .


تنهدت نسيم بهدوء، وكأن الهواء الذي خرج من صدرها كان يحمل معه كل الثقل الذي طالما ظلّ محبوسًا بداخلها.. بينما تابعت زينب وهي تمسح آثار دمعاتها بيدٍ حنونة، وتقول :

ـ جوزك بيحبك وانتي كمان بتحبيه .. واخواتك انتي عارفاهم كويس .. مستحيل يبعدوا عنك أو تكوني محتاجاهم وما يقفوش جنبك .. انتي غالية عليهم أوي يا حبيبتي ، ومش أنا اللي هقولك .. وبعدين ما تقلقيش من حاجه، سواء فريد أو حسن فهما متفهمين جدا الوضع وعارفين إنك في موقف حساس ما بين جوزك وبينهم ومراعيين ده كويس ..


أومأت نسيم تؤكد صدق حديثها، ثم صمتت لحظة، ونظرت إليها ودموعها تتساقط تباعًا وهي تقول :

ـ لكن هو مش مراعي ده ..


نظرت إليها زينب باستفهام، ثم بدأت تتدارك مقصدها، وعلمت أنها تشير إلى والدها حين استرسلت نسيم :

ـ يعني .. هو خلاص شايفني في صف عدوه .. بالرغم من أنه هو اللي خلق العداوة دي ، لكنه من يوم ما اتجوزت محاولش حتى يكلمني ويطمن عليا ويعرف اخباري ايه .. كأنه بيعاقبني اني اتجوزت عاصم مع انه من جواه كان عايز الجوازة دي تتم علشان مصلحته ، مفكرش يزورني غير مرة واحدة .. وحتى المره دي فضل يحذرني من عاصم ويقول لي إني لازم أتعامل معاه بحذر ..


وشردت قليلا وكأنها تلتقط مشهدًا موجعًا من ذاكرتها وتقول :

ـ مش هكدب عليكي .. برغم من اني كنت عارفة هدفه من الزيارة دي كويس أوي لكني فرحت بيها .. يومها طبطب عليا واداني أمل انه ممكن يقربني منه و يعاملني زي أي أب ما بيعامل بنته خصوصا أنه عارف إني خسرت كتير في حياتي بسببه ..


ثم تنهدت بحسرة وقالت :

ـ لكني طلعت غلطانه.. طلعت غبيه فعلا زي عاصم ما قال ، اللي زي ده عمره ما يعرف يعني ايه حب، ولاده بالنسبة له حاجه زي اي حاجه بيملكها ملهاش قيمة ولا كرامة ..


في تلك اللحظة، كانت زينب جالسة أمامها تنصت بكل كيانها، تستقبل كلمات نسيم بملامح هادئة، لكن قلبها كان يموج بالعاطفة.

كلما تحدثت نسيم عن والدها — غضبها منه، شعورها بالقسوة، اقتناعها أنه أب سيّئ ومُقصّر — كانت كلماتها تسقط على صدر زينب بثِقَل. شعرت برغبة تكاد تخنقها… رغبة في أن تقول الحقيقة ..


تريد أن تقول لها إن والدها ليس كما تتخيله.

إنه الآن أضعف مما تظنه بكثير ..

كانت تتمنى — ولو للحظة — أن يعلم قلب نسيم ذلك، لعل شيئًا يلين بداخلها.

لعل صدعًا من تلك الشروخ التي بينهما يلتئم… ولو قليلًا.

لعلها — حين تعرف — تفكر أن تزوره. أن تنظر إليه بعين مختلفة.

أن ترحمه بدل أن تغضب منه.


ولكنها تقف عاجزةً مثله تمامًا ، توقن في نفسها أن ذلك ليس الوقت المثالي لتخبرها شيئا كهذا .. يكفيها ما عاشته من صدمات متلاحقة كادت تطيح بعقلها .


أما نسيم؛ فشعرت بخفةٍ غريبة، براحةٍ لا تعرف إن كانت نتيجة البكاء أم الفضفضة، لكنها أدركت شيئًا واحدًا بوضوح: هذه أول مرة منذ زمنٍ طويل تشعر فيها أنها تُرى… تُفهَم… ويُلتقط وجعها دون حكمٍ أو لوم.


كانت بحاجة إلى ذلك… إلى شخصٍ محايد لا يلومها ولا يزيد النار اشتعالًا، شخص يحتويها دون أن يُشعرها بأنها عبء.

وزينب… كانت دائمًا هذا الشخص.

الصوت الهادئ، النظرة الصادقة، القلب الذي يتسع لكل أسرارها دون أن يضيق.


مسحت نسيم دموعها برفق، ورفعت رأسها نحو زينب بابتسامة صغيرة منهكة، لكنها مليئة بالامتنان، وقالت :

ـ زينب .. شكرا إنك دايما حاسة بيا وبتطمنيني .. أنا كنت محتاجة أتكلم من زمان وحاسة دلوقتي إني أحسن .


اقتربت زينب خطوة إضافية، رتبت خصلاتها بحنوٍ بالغ، ثم قالت بابتسامة دائمًا ما تعرف مستقرها في قلب نسيم:

ـ ربنا يريح قلبك ويهدي بالك يا حبيبتي ويقومك بالسلامه .


ابتسمت نسيم وهي تمسح دموعها بهدوء وتقول :

ـ يا رب ..


ـ قوليلي بقا .. تحبي تفطري إيه وأنا أعملهولك ، من زمان ما أكلتيش من ايديا .


شردت نسيم قليلا تفكر، ثم قالت وهي تربت على بطنها بحماس :

ـ تعرفي نفسي راحت لإيه ؟!


هزت زينب رأسها بحماس ، فتابعت نسيم :

ـ الفطير اللي كنتي بتعمليه لفريد واحنا صغيرين ..


ابتسمت زينب وهي تعود بذاكرتها عشرون عامًا للوراء، والتمعت عينيها بدموعٍ شاردة، مسحتها سريعًا وقالت بنبرة مضطربة :

ـ فطير بالتمر .


أومأت نسيم بحماس طفولي ، فاتسعت ابتسامة زينب التي نهضت من فورها وهي تتجه صوب المطبخ مباشرةً وتقول :

ـ عمرك ما تقولي نفسي في حاجه أبدا وأنا موجودة ، انتي تؤمري وأنا أنفذ على طول .


نهضت نسيم على الفور ، عانقتها عناقّا دافئا وقالت:

ـ ربنا يخليكي لينا ..


نظرت إليها زينب نظرةً ملؤها الأسى، وأومأت برضا وقالت :

ـ ويخليكم ليا يا حبيبتي .


༺═────────────────═༻


ما إن توقّف حسن بسيارته أمام المستشفى وصفّها جانبًا، حتى ترجّل منها، ليجد عمر واقفًا بجوار سيارته، مسندًا ظهره إليها، شارد النظرات غارقًا في أفكاره.


تقدّم نحوه بخطوات سريعة، وقف أمامه وسأله بصوت خافت :

ـ واقف كده ليه يا عمر ؟!


رفع عمر عينيه إليه وقال بصوت متهدّج:

ـ بصراحة عاوز أشوف فريد وخايف .. مش عارف هرفع عينيا في عينيه ازاي .


تنهد حسن وهو يستند إلى جواره ويقول بنبرة هادئة :

ـ نصيحة مني بلاش يا عمر .


نظر إليه عمر، وانعكس الحزن واضحًا على قسمات وجهه:

ـ مش هاين عليا يا حسن ..


هزّ حسن رأسه بأسى وقال:

ـ عارف .. بس فريد دلوقتي مش حِمل كلام كتير ، ولما يشوفك ممكن يفتكر الهباب اللي قلته يومها ويتعب تاني .. خليه يرتاح يومين ولما حالته تستقر هنتكلم معاه.


ونظر إليه وقال بعتاب :

ـ طبعا أنا بقوللك الكلام ده علشان مصلحتك ومصلحته ، مش علشان أنا عاوز أكون لوحدي في الصورة زي ما انت بتقول .


أطلق عمر زفرة طويلة، وكأنه يلوم نفسه قبل أن يلوم غيره، ثم قال بصدق:

ـ هو انت يعني مش عارف إني تور وبقول أي كلام يا حسن؟! أكيد يعني أنا متأكد إنك مش كده ..


تنهد حسن وصمت، فهو يعرف أن لا جدوى من الحديث الآن .. ووضع يده على كتفه وقال :

ـ اسمعني يا عمر .. لو بتحب أخوك تعالى على نفسك وخد لك ساتر اليومين دول لحد ما يتحسن ويقدر يقف على رجليه من تاني .. فريد مش هيعديها من غير عتاب .. وأي كلام دلوقتي ممكن يتعبه تاني .. يبثى بلاش أحسن .


أخذ يفكر عمر فيما قاله حسن والذي بدا له مقنعًا أكثر من أي وقت مضى ، ثم أومأ وقال:

ـ طيب .. هستنى .


ربت حسن على كتفه وقال مبتسمًا :

ـ حيث كده بقا عايز أستغلك في كام حاجة ..


أومأ عمر على الفور وهو يقول :

ـ عينيا طبعا ..


ـ في اجتماع مع الموردين في المزرعة ولازم حد يكون معاهم ، وأنا مش هينفع أسيب فريد النهارده ، وفي نفس الوقت الاجتماع تأجل أكتر من مرة والموردين بدأوا يشتكوا .. فلو مفيش عندك مانع تروح انت وتخلص الحوار ده .


أومأ عمر موافقًا وقال :

ـ طبعا .. هروح حالا وهتابع معاك بالموبايل علشان لو حبيت أسأل عن حاجة .


وضع حسن يده على كتفه وهو يقول :

ـ ألف شكر يا عموره ..


ربت عمر على كتف حسن سريعًا بابتسامة ممتنة، ثم استقل سيارته وانطلق باتجاه المزرعة. وقف حسن يتابعه بنظره حتى اختفت السيارة عند أول منعطف، بينما الحيرة تتجمع في عينيه؛ لا يعرف من أين يبدأ في انتشال عمر من تهوره، ولا كيف يصنع منه نسخة أكثر اتزانًا وحكمة.


تنهد باستسلام ودفع الخطى نحو بوابة المستشفى. وبينما يعبر، لمحت عيناه رجل الأمن الذي ارتبكت ملامحه فور رؤية حسن وتذكّره لما حدث بالأمس أمام عينيه. التقط حسن ذلك الخوف الواضح، فابتسم رغمًا عنه وهز رأسه ساخرًا وهو يتمتم:

ـ عالم تخاف ما تختشيش.


صعد إلى الطابق الذي نُقل إليه فريد، وسأل الممرضة قبل أن يتجه مباشرةً نحو الغرفة. اقترب وهو يشعر بالحماس يعلو صدره، ثم وقف أمام الباب لحظة، سحب نفسًا عميقًا وطرقه قبل أن يدفعه برفق.


كان فريد يتمدد على السرير نصف جالسّا، فتقدم حسن نحوه وهو يقول بنبرة منفتحة :

ـ بسم الله ماشاء الله .. أيوة كده يا كبير .


بادله فريد ابتسامة هادئة، وحاول أن ينهض ليصافحه، لكن حسن أسرع إليه يمنعه :

ـ خليك زي ما انت ..


وانحنى نحوه يصافحه ويقبّل وجنتيه بمحبة ثم قال :

ـ حمدالله على السلامه يا حبيب أخوك ..


أومأ فريد بهدوء وقال :

ـ الله يسلمك يا حسن .. متشكر .


نظر حسن إلى نغم التي تجلس إلى جوار فريد، وأومأ لها مرحبّا وهو يقول بنبرة مرحة :

ـ نغم هانم ..


ابتسمت وهي تومئ بدورها مرحبةً به وتقول بنفس نبرته المرحة :

ـ حسن بيه ..


ضحك بهدوء، وسحب مقعدًا ليجلس إلى جوار فريد، ثم نظر إليه وقال مبتسمًا :

ـ أخبارك إيه دلوقتي ؟!


ـ الحمدلله.. كله تمام .


هز حسن رأسه مطمئنًا وهو يتأمله، ثم قال بنبرة يغلب عليها العتاب الهادئ:

ـ بقى عشان تعرف غلاوتك عندنا تقوم تخضنا عليك بالشكل ده ؟!


ابتسم فريد وقال :

ـ الحمدلله إنها عدت على خير .. الحقيقة أنا مش عارف لو انت مكنتش معايا وقتها كان ممكن إيه يحصل!


ـ الحمدلله … ألقاها حسن بهدوء، ثم تابع مبتسما:

ـ فيه حد عايز يطمن عليك ..


وأخرج هاتفه من جيبه، ثم استدعى رقم والده، بينما فريد يتابعه بترقب ظنًا منه أنه عمر ..


عندما استمع حسن إلى صوت والده، نظر إلى فريد وهو يقول :

ـ أيوة يا باشا .. قلت لي أخليك تكلم فريد لما أدخل له ، هو معاك أهو …


وأعطى الهاتف إلى فريد الذي ظل ينظر إليه للحظات ثم رفعه إلى أذنه وقال بصوتٍ هاديء :

ـ ألو .. ؟


ـ فريد .. نطقها سالم بلهفة لم يغفل عنها فريد، وتابع :

ـ حمدالله على سلامتك .. طمني عليك، عامل إيه دلوقتي ؟


تعجب فريد تلك اللهفة والنبرة الحانية، وقال :

ـ الله يسلمك .. أنا الحمد لله كويس ، بقيت أحسن .


وابتلع ريقه بهدوء، ثم تساءل :

ـ انت ازي صحتك ؟


جاءه الرد سريعًا، دافئًا على نحو أربكه:

ـ أنا بقيت كويس لما اطمنت عليك وسمعت صوتك !


قطّب فريد جبينه بعفوية، كأنه يحاول استيعاب التحوّل المفاجئ في نبرة ذلك الرجل الذي لم يعرف منه يومًا سوى الصرامة والجفاء. التفت نحو حسن الذي كان يراقبه بابتسامة هادئة، فهزّ رأسه بخفوت وكأنه يتساءل، ثم تنفّس بعمق وقال:

ـ متشكر جدا .. أنا كويس الحمدلله وكلها يومين وأخرج إن شاء الله .


قال سالم بعد لحظة صمت قصيرة:

ـ طيب اسمعني .. بمجرد ما تخرج من المستشفى تيجي على الڤيلا علشان أشوفك .. وتعمل حسابك هتقعد يومين .


لم يُجب فريد مباشرة. حرّك عينيه في اتجاه نغم دون أن يدري، ثم قال:

ـ مع الأسف مش هينفع ..


وأوضح سريعًا:

ـ مش هينفع أسيب نغم لوحدها ..


عمّ الصمت للحظة، ثم جاء صوت سالم أكثر ليونةً من ذي قبل، مستسلِمًا:

ـ طيب .. هاتها معاك .


ارتفعت حاجبا فريد بدهشة ثانية، أعمق من الأولى، ثم قال:

ـ بردو مش هينفع ..


ثم حكّ جانب عنقه بحركة مترددة وأضاف:

ـ على العموم هبقى أجي أشوف حضرتك .. حاضر .


ـ تمام .. خلي بالك من نفسك ولو احتجت أي حاجة كلمني .


مط شفتيه بتعجب شديد، ثم أومأ وقال:

ـ متشكر جدا .. مع السلامه .


ناول الهاتف إلى حسن، وبقي للحظات في شروده العميق، قبل أن يقطع حسن هذا الشرود بابتسامة خفيفة وهو يقول:

ـ شُفت قد إيه كان قلقان عليك؟


أومأ فريد ببطء، وكأن عقله لا يزال يمضغ تلك الكلمات التي لم يألفها من والده قط. ثم قال بصوت هادئ غامض:

ـ شُفت…


لكن صوته حمل ما لم ينطق: دهشة، ارتباك، وربما مسحة خوف من أن يكون هذا التحوّل مؤقتًا… أو بداية شيء لا يعرفه بعد.


أطرق فريد رأسه قليلًا، يراقب حسن وهو يعيد الهاتف إلى جيبه، فإذا بشيء ما يلفت انتباهه في يد الأخير، فهتف على الفور بنبرة قلقة:

ـ مالها إيدك ؟


خفض حسن بصره إلى يده التي بدت عليها آثار واضحة لما اقترفته غضبًا بالأمس، فزفر محاولًا التخفيف من حدّة الأمر وقال بنبرة متصنّعة للمرح:

ـ حاجة بسيطة متشغلش بالك .


غير أن فريد اعتدل قليلًا، ونبرته حملت حدّة وإصرارًا لا يمكن تجاهله :

ـ إيه اللي حصل يا حسن ؟!


تنهد حسن بضيق ثم قال بإيجاز :

ـ بالله عليك متشغلش بالك بحاجة دلوقتي غير صحتك وبس ، وبعدين صدقني حاجة بسيطة، أنا اتعصبت شوية وضربت الحيط .. ده كل اللي حصل .


ضيّق فريد عينيه متفحّصًا، وكأنه غير مقتنع بتاتًا، ثم حوّل بصره نحو نغم وسألها بصرامة :

ـ إيه اللي حصل يا نغم ؟!


طالعته بهدوء وأجابت وهي تمرر يدها على ذراعه وتقول بثبات :

ـ اللي بيقوله حسن هو اللي حصل .


ـ متأكدة ؟


رفعت حاجبها وقالت :

ـ أكيد مش هكدب عليك يعني يا فريد .


زفر محاولًا استيعاب الأمر، لكن شيئًا في صدره ظلّ غير مطمئن، فعاد ينظر إلى حسن ويقول:

ـ عمر السبب مش كده ؟! اكيد اتعصبت عليه ..


أشاح حسن بوجهه قليلًا، محاولًا الهرب من الإجابة، غير أنّ إنقاذه من هذا المأزق جاء عبر طرقات خفيفة على الباب، أعقبتها دخول نسيم تتبعها زينب.


ما إن وقعت عين نسيم على فريد حتى تبلّلت عيناها بالدموع، ثم أسرعت نحوه دون تردّد، تعانقه بقوة وتنتحب بشدة، بينما هو يربت على ظهرها برفق، قائلاً بنبرة حانية:

ـ اهدي يا نسيم أنا كويس قدامك أهو .


تراجعت قليلًا تتفحّص ملامحه بعينين قلقتين، وقالت بصوت مرتجف :

ـ انت كويس ؟


ـ أنا كويس والله ..


مد حسن مقعدًا في اتجاهها وأشار لها لتجلس ، فجلست وهي تشعر بالارهاق، بينما اقتربت زينب من فريد، جلست إلى جواره على السرير ، وعانقته وهي تحاول أن تبدو متماسكةً، وهي تقول :

ـ حمدالله على سلامتك يابني .. يا ريت أنا وانت لأ يا حبيبي .


اتسعت عينا فريد تأثرًا، وبلا تردّد طبع قبلة على رأسها وهو يعانقها بلطف ويقول :

ـ بعد الشر عنك .. ربنا يخليكي لينا .


ثم جلست بجوار نسيم، وكلتاهما تمسحان دموعهما، بينما نظر إليهما فريد بيأس لطيف وقال:

ـ مالكم يا جماعة مكبرين الموضوع ليه ؟! ما أنا قدامكم زي الفل أهو .


ضحكت نغم وهي تمسك بكفه وتقول بنبرة دافئة:

ـ علشان تعرف قد إيه بنحبك .


ابتسم بدوره وأومأ وهو ينظر إلى يدها ويقول :

ـ وأنا بحبك ..


قبل أن يتدارك الأمر على الفور، يشيح بعينيه عن نغم ويقول بسرعة :

ـ أقصد بحبكم كلكم يعني .


تبادلوا الضحكات جميعا بينما هو قد علقت نظراته بنسيم التي بدت شاحبة، مرهقة أكثر من أي وقت مضى، فسألها بقلقٍ بالغ:

ـ نسيم انتي كويسة ؟؟ وشك تعبان وواضح انك مرهقة.


ابتسمت نسيم وهي تحاول طمأنته وتقول :

ـ أنا كويسة الحمدلله متقلقش ..


بينما برز صوت حسن الذي أضاف بمرح :

ـ نسيم هو انتي معرفتيش لسه هتجيبي ولد ولا بنت ؟ اعملي حسابك لو ولد هتسميه حسن أنا بقولك من دلوقتي أهو .


طالعته نسيم بابتسامة واسعة، ثم دارت بعينيها عليهم جميعا وهي تقول بنبرة فرحة :

ـ بما إننا كلنا متجمعين فانا عندي خبر حلو .. أنا حامل في توأم .


لم تكن الفرحة التي رأتها في أعينهم عادية؛

كانت صادقة، حارة، نابضة بالحياة.

انهالت عليها التهاني، والدعوات، بينما كانت هي تشعر بأنها تُحتضن بمحبة لا حدود لها… لحظة نادرة، شعرت فيها أن العالم يربّت على كتفيها ويقول لها أنها ليست وحدها .


طُرِق الباب مرةً أخرى، فالتفتت إليه الأنظار دفعةً واحدة، قبل أن ينفرج ببطء وتطلّ منه چيلان… تقف شامخة كعادتها، رأسها مرفوع، وثباتها يسبق خطوتها، بينما في عينيها بريقٌ هادىء تخالطه غيمةُ أسىٍ عابرة لا يلتقطها إلا من عرفها طويلًا.


وقفت عند العتبة، تتفقد الوجوه سريعًا، ثم قالت بصوتٍ خفيض مهذّب:

— صباح الخير…


لكن عينيها ما لبثتا أن استقرتا على فريد، ترقبه بشيءٍ من التوجس؛ فقد بدا المشهد أمامها عائلةً كاملة ـ لا مكان لها فيها ـ تحيط به، فخرج سؤالها بنبرة رسمية خفيفة:

— ممكن أدخل؟


ابتسم فريد ابتسامة هادئة، وأشار إليها مرحّبًا:

— طبعًا… اتفضّلي.


تقدّمت چيلان خطوة بعد أخرى، تحاول جاهدةً ألا تلتقي نظراتها بنغم التي كانت تتابعها بعينٍ تشتعل غيرة، ولا بحسن الذي ظل واقفًا في صمتٍ ثقيل، يثبت عينيه عليها بجمودٍ لا يُفهم.


وقفت أمام فريد، مدت يدها وصافحته برفق، وقالت بابتسامة دافئة:

— حمدالله على سلامتك يا فريد… كنت واثقة إنك هتقوم منها بالسلامه .


ابتسم بدوره وقال:

— الله يسلمك يا چيجي… متشكر جدا، اتفضّلي اقعدي.


وأشار إلى المقعد الذي كان حسن قد تركه، لكنها هزّت رأسها معتذرة، وقالت بنبرة تحمل اعتذارًا خفيفًا مع قدر من العجلة:

— للأسف مش هقدر… ورايا شغل كتير، بس قلت لازم أطّمن عليك قبل ما أروح الشركة .. هبقى أطمن عليك مرة تانية أكيد بس دلوقتي مضطرة أستأذن .


كان كلامها بسيطًا، لكن حضورها كان كفيلًا بإشعال توترٍ حارق داخل نغم التي شرعت — بلا وعي — تدلك جبهتها بأصابعها، محاولةً إخماد تلك الغيرة التي صعدت في صدرها كشرارةٍ مفاجئة.

مشهد چيلان أمام فريد، بثقتها وهدوئها وأناقتها التي لا تحتاج لجهد، أيقظ فيها ضيقًا خفيًا جعلها تحدق فيها بعينيْن تقولان أضعاف ما يمكن أن يُقال بالكلمات.


ـ متشكر جدا يا چيلان كلك ذوق .. ربنا معاكي .


أومأت چيلان بابتسامة باهتة، تحمل في طيّاتها تهذيبًا أكثر مما تحمل ارتياحًا، ثم قالت بنبرة خفيفة وهي تستدير نحو الباب:

ــ ميرسي … عن إذنكم.


وغادرت الغرفة بخطوات سريعة، تختلط فيها العجلة باضطرابٍ صامت حاولت إخفاءه. وما إن أغلقت الباب خلفها حتى نهض حسن على الفور، ثم خرج خلفها يلحق بخطواتها المتوترة في الممر.


ــ چيلان!


ناداها بصوتٍ واضح، لكنّها لم تلتفت، فعاود النداء، بصوتٍ أكثر استعجالًا:

ــ چيلان… استني!


ظلّت تُسرع، كأن كل خطوة تبعدها عنه وعن اللحظة التي تخشاها. اضطر حسن لزيادة سرعته حتى لحق بها وأوقفها بأن وقف في مسارها مباشرةً، يقطع عليها طريق الهرب.. وقال وهو يلتقط أنفاسه قليلًا:

ــ چيلان… استني .


تراجعت خطوة إلى الخلف، وعقدت ذراعيها أمام صدرها بحركة دفاعية تحمل كل ما بداخلها من غضب، ثم قالت بحدة مكتومة:

ــ عايز إيه؟


نظر إليها للحظة، كأنّه يبحث بين ملامحها عن منفذٍ يدخل منه إلى هدوئها، ثم قال بنبرة حاول جاهدًا أن يجعلها مستقيمة:

ــ عايز أتكلم معاكي… لو ينفع.


هتفت وهي تطالعه بنظرة تُشبه الشرارة:

ــ لأ… ما ينفعش.. وبعدين اتفضل من قدامي، أنا مستعجلة.


تحركت لتتجاوزه، لكنه تحرك معها الخطوة نفسها يمنعها من أن تتجاوزه، ثم قال فجأة، دون تمهيد، ودون ترتيب، فقط بتلقائية :

ــ أنا آسف.



توقفت.

حدقت فيه بنظرة لا تزال غاضبة، لكن شيئًا صغيرًا في تلك النظرة بدأ يلين، وإن لم تفصح عنه. ابتلع حسن ريقه، ورفع حاجبيه قليلًا وهو يتابع بصوت مضطرب:

ــ والله… ما كان قصدي.. وأكيد انتي عارفة… إنك مش المقصودة… بس…


تنهد وهو يهز كتفيه بلا حيلة ويكمل:

ــ أهو اللي حصل .


ازداد الغضب في عينيها توهجًا، وقالت بحدّة مشوبة بألمٍ حاولت كتمانه:

ــ أومال مين اللي كان مقصود؟! عمر؟


وتشنجت ملامحها بضيق ورفض وهي تقول :

ـ ده… ده عذر أقبح من ذنب على فكرة ، لإن مهما كان السبب… مفيش مبرر يخليك تتعامل معاه بالقسوة والهمجية دي.


سكتت لحظة، ثم تابعت وهي تشد على كلماتها:

ــ هو انت فاكر نفسك مين بالظبط؟!


ظلّ حسن واقفًا أمامها، يتلقّى الكلمات كأنها سهام يعرف أنه يستحقّ بعضها. راقب ارتجافة أنفاسها، وارتجاف جفنيها، والغضب المتشبث بملامحها.


ثم… بهدوء مفاجئ، ومدفوعًا بشيء لم يستطع مقاومته…

رفع يده ببطء…

رفع الخصلات التي انسدلت على جانب وجهها، تلك التي حاولت أن تخفي بها أثر الصفعة التي تركها هو نفسه.


ثم مرّر إبهامه برفق على الأثر الذي يعذب ضميره، كأنّه يحاول محو ما لا يُمحى، وقال بصوت خافت، مُثقل بالندم:

ــ متزعليش… حقك عليّا.



ظلت چيلان تراقبه بدهشة… دهشة من جرأته، ومن رقّة كلماته، ومن رقة التصرف التي لم تتوقعه منه مطلقًا .


ارتجفت أنفاسها للحظة، كأن الهواء تعثّر في صدرها.

حرارة خفيفة سرَت تحت جلدها، امتدت من خدّها لحدود رقبتها، ثم هبطت كنبضة دافئة إلى قلبها.


رمشت ببطء… مرة، ومرّتين.

عيناها اتّسعتا ثم ضاقتا، وشفتيها انفلت منهم نفس صغير متوتر لم تنتبه له.

وفي ثوانٍ قليلة تغيّر كل شيء بداخلها:

هدأت مقاومتها، وارتخى كتفها، وصار وجهها أقرب للطمأنينة منه للدهشة.


نظرت إليه… لكن نظرتها كانت تحمل مزيجًا غريبًا من الارتباك والفضول،

وتحمل شيئًا آخر أخطر بكثير: اعترافًا صامتًا بأن تلك اللمسة أثّرت فيها أكثر مما ينبغي.


ولو أن حسن أمعن النظر قليلًا، لكان انتبه إلى أن چيلان ـ ولأول مرة ـ تتجنب عينيه ليس غضبًا، بل خوفًا من أن يُدرك كم أنّ تلك اللمسة الخفيفة هزّت ما ظنّت أنه حصين، وكشفت هشاشاتٍ حاولت طويلًا إخفاءها.


حاولت أن تأخذ نفسًا عميقًا وهي تزيح يده عن وجهها لتستعيد توازنها، ثم تراجعت خطوة إلى الوراء لتستعيد جديتها وتقول:

- ايدك جنبك...


استعاد هو الآخر جديته، ونظر إليها وهو يتنحنح قائلاً:

- لا مؤاخذة...


نظرت إليه بعينيها اللتين تفيضان بالحدة والانزعاج، ثم صاحت بقوة:

- لازم تفهم إنه مفيش مبرر للطريقة اللي بتتعاملوا بيها مع عمر! انت حاولت تضربه، وفريد عملها قبلك...


أخذت نفسًا عميقًا وهي تمرر أصابعها في شعرها بتوتر، ثم أضافت:

- عمر مش طفل، وكونك أخوه الكبير، سواء كنت أنت أو فريد، مش معناه إنكم تتجاوزوا الحدود وتهينوه بالشكل ده!


أومأ برأسه مؤكدًا صحة كلامها، ثم قال:

- معاكي حق... لكن عمر غلطان...


نظرت إليه بحدة مرة أخرى وصاحت:

- وإذا؟! هل أنت ملاك وما بتغلطش أبدًا؟


تنهد بعمق ثم قال:

- أكيد لأ...


تنهدت بدورها، ثم حاولت استعادة هدوئها وهي تقول بصوت أكثر ليونة مما توقعت:

- حسن!


رفع عينيه نحو عينيها وهمهم متسائلاً، وهو يشعر بذبذبات تسري تحت جلده إثر نطقها اسمه بتلك العذوبة .


بينما هي حاولت أن تخفّف حدّة توترها وهي تقف أمامه، فرفعت كتفيها قليلًا كأنها تُثبت عزمها وتقول بصوت هادئ، لكنه يحمل ما يكفي من الحزم:

ـ بما أننا… لأول وأخر مرة هنكون متفقين على حاجة واللي هي مصلحة عمر يبقا خلينا نتكلم بالعقل .


كلمتها الأخيرة سقطت بينهما كفاصل جديد، لا هو شجار… ولا هو هدنة.

نظر إليها حسن طويلًا، كأنّه يُعيد حساباته كلها، وكأنّ تلك النبرة اللينة التي لم يعتدها منها قد أزاحت شيئًا من عناده القديم.

فهتف أخيرًا، بصوت منخفض لا يخلو من اعتراف مبطن:

ـ تمام… سامعك .


رمشت چيلان ببطء، ثم اقتربت نصف خطوة — فقط نصف خطوة — كأنها تحسب المسافة بين الواجب والخطر، بين ما يجب قوله وما قد يفتح أبوابًا أخرى لا تريدها.. وقالت بثبات:

ـ أنا بحاول أساعد عمر بطريقتي .. وانت كمان بتحاول تساعده بطريقتك .. وللأسف هو في موضع ضعف وبيتأثر بكلام أي حد ..


أسندت يدها إلى خصرها للحظة، ثم أومأت وهي تقر بموضوعية :

ـ وجايز إحنا الاتنين بنقدم له النصيحة المناسبة من وجهة نظرنا إحنا .. ووارد جدا تكون مش مناسبة لحياته وظروفه .. يعني إحنا ممكن نضره بدون قصد ..


ثم رفعت ناظريها إليه من جديد ، وهتفت برجاء :

ـ علشان كده لازم نبطل محاولاتنا إننا نأثر عليه ونقنعه بقرار معين .. يعني اللي أقصده إننا نسيبه هو ياخد بقراره بإرادته الحرة وبدون ضغط من حد فينا .. يا ترى كلامي مفهوم ؟!


رفع حاجبه وهتف حانقًا :

ـ لأ مش مفهوم .. أنا غبي مبفهمش .


زمت شفتيها بيأس وهزت رأسها بهدوء وقالت :

ـ أكيد مش قصدي كده .


أومأ باقتضاب ثم قال :

ـ خلصتي كلامك ؟


أومأت بصمت فتنهد ثم قال :

ـ طيب اسمعيني .. لا أنا ولا فريد ممكن نضر عمر أبدا أو نجبره على قرار غلط أو فيه ضرر ليه .. أنا وفريد بنحاول ناخد بايديه للتصرف الصح اللي يخليه يعيش مرتاح وميندمش في يوم من الأيام .


تأملته لحظة، ثم قالت بصوت هادئ، لا تحدٍّ فيه ولا غضب:

ـ ومين اللي قالك إنه لما يعترف بطفل هو مش عاوز يعترف بيه إنه كده هيكون مرتاح ومش هيندم ؟! مين اللي قالك إن ده الحل المناسب ليه وللطفل ؟!

إنت جايب الثقة اللي بتتكلم بيها دي منين ؟!


ارتعشت زاوية فمه ارتعاشة خفيفة؛ ليست ابتسامة، بل شيء يشبه الاعتراف الصامت.. وخفض عينيه ثم قال:

ـ لأني جربت وعارف يعني إيه تعيش وحيد ملكش ضهر في حين إنك ليك عيلة كبيرة ، عارف يعني إيه تضطر تعيش حياة وانت مجبر عليها لأن مفيش قدامك بديل ..


ثم تنهد باقتضاب وقال :

ـ ما علينا ده مش موضوعنا.. قُصر الكلام إننا بنحاول ننقذ الطفل ده من الضياع لأنه ملوش ذنب، وبنحاول ننقذ عمر من اللحظة اللي هيندم فيها بعدين .. علشان كده أنا آسف مش هقدر أعمل بكلامك وأسيبه يختار براحته لأنه دلوقتي زي الغريق اللي قدامه طريقين، طريق طويل لكنه صح، وطريق قصير ومختصر لكن مش صح .. تفتكري لو انتي اللي مكانه وبتغرقي هتختاري أي طريق منهم ؟!


صمت.

وصمتت هي تنتظر إجابته إلى أن قال :

ـ أكيد هتمشي في الطريق المختصر علشان توصلي أسرع بغض النظر عن النهاية .. أهو ده بالظبط اللي بيعمله عمر .. بالرغم من إنه من جواه عارف إنه غلط بس بيحاول يختار الطريق اللي يحس فيه بالأمان من وجهة نظره .. بيحاول يختار الطريق اللي يعفيه من المواجهة ومن إنه ياخد قرارات مش قدها .


لمح في عينيها علامات الاقتناع التي بدأت تتسلل إليها، فتنهّد بهدوء وقال: 

- ماتخافيش على عمر يا چيلان، إحنا آخر ناس ممكن نفكّر نأذيه، صدقيني...


ابتلعت ريقها، ثم أطلقت تنهيدة بائسة أتبعتها بإيماءة صامتة، ثم اقتربت لتتحرك مغادرة المكان. لكنه أوقفها بصوته الذي جاء فجأة: 

- استني... 


التفتت إليه بانزعاج واضح، وسألته بنبرة لا تخلو من نفاد الصبر: 

- إيه تاني؟ 


تعمّقت نظراته في عينيها مباشرة وكأنه يبحث عن شيء ما، ثم قال بثبات يكتنفه التحذير: 

- بلاش تبقي نسخة ثانية من نادية الصواف... 


صدمتها كلماته، فتغيرت ملامح وجهها فورًا واتسعت عيناها من الذهول. شعرت بالدهشة من جرأته الغير المألوفة في الحديث إليها، وهمّت بالرد لكنّه سبقها وعاجلها بكلمات أكثر عمقًا: 

- انتي أحسن منها بكثير... 


توترت ولم تعرف كيف ترد. قامت بابتلاع ريقها مجددًا، ثم ضيقت ما بين حاجبيها وهي تسأله بنبرة حادة تحمل استغرابًا: 

ـ إنت إزاي تتكلم معايا بالشكل ده؟ وتقحم نفسك في تفاصيل خاصة زي دي؟! 


رفع حاجبه بدهشة واضحة أمام حِدّة ردّها وقال ببساطة معهودة: 

- الحق عليا؟ 


عضّت شفتيها بعصبية مكبوتة. ثم تحركت من أمامه كأنما تحاول إنهاء الحديث بلا رجوع، لكن صوته عاد ليستوقفها مرّة أخرى قائلاً: 

- استني... 


استدارت إليه هذه المرّة بانفعال لم تستطع السيطرة عليه، وقد ارتفعت نبرة صوتها تلقائيًا بشكل ملحوظ وهي تقول بصوت مليء بالغضب: 

- عايز إيه؟ لسه عندك نصايح تانية عايز تقولها؟! 


رد بإيماءة بسيطة وهو يتفحص ملامح وجهها التي زادها الانفعال إشراقًا بشكل عجيب جعل نظراته تستسلم للحظات وتتأملها بإعجاب واضح وهو يقول: 

- الحقيقة، مش نصيحة… هو سؤال. 


تنفسّت بيأس ظهر على تقاسيم وجهها وعقدت ذراعيها أمام صدرها بطريقة تنم عن تحدٍ وقالت: 

- خير؟ 


اقترب منها خطوة أخرى، وقد غمرته مزيج من الفضول والانبهار الواضحين. تأمل بعمق زرقة عينيها العميقة التي تشبه أمواجًا هادرة، تلك الزرقة التي طالما غرق فيها كأنه يبحر في بحر لا نهاية له، ثم ابتسم بخفة ورد بسؤال مشاكس: 

- عينيكي دي ولا عدسات لاصقة ؟!



اتسعت عيناها بدهشة واضحة لم تستطع إخفاءها هذه المرة. حدقت فيه مذهولة بسبب سؤاله المربك الذي أطلقه بمكر جعَل دماء الغضب تركض نحو رأسها بقوّة أكبر. ودون أن تنطق كلمة، استدارت وغادرت المكان بخطوات عصبية وكأن الأرض تشتكي من ثِقل وقع حذائها عليها. وصلت إلى المصعد أخيرًا وضغطت الزر بحركة عنيفة تواكب حالة الغضب التي تستعر داخلها.


أثناء انتظارها انفتاح الباب، التفتت نحوه لتجده لا يزال في مكانه، مبتسمًا بتلك الثقة الكاملة التي أثارت حنقها أكثر. وقف مسترخيًا يضع يديه داخل جيبيه وكأن نظراته تبحث عن تأثيره عليها داخل غضبها. تنبّهت فجأة إلى إشارته نحو باب المصعد قائلاً بهدوء أثار دهشتها وحنقها في آن واحد : 

- الباب اتفتح.


وجّهت أنظارها نحو الباب الذي بالفعل قد انفتح أمامها. رمقته بنظرة ملؤها الضيق الذي لم تسعَ حتى لإخفائه. دخلت المصعد على الفور وضغطت الزر ليُغلق خلفها ويفصل بينهما الجدار المعدني الذي شعرت أنها بحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى.


حين وجدت نفسها أخيرًا وحدها، بدأ التوتر يتملكها شيئًا فشيئًا، ينعكس على كل تفاصيل حركاتها. رفعت يديها بشكل غريزي إلى رأسها تداعب خصلات شعرها بعشوائية، لتتركهما فجأة ينزلان سريعًا نحو خصرها، وكأنها تبحث عن دعم داخلي. بدأت تتحرك داخل المصعد جيئة وذهابًا بانزعاج واضح، مشاعر التخبط والتشتت تخيم عليها كما لم تفعل من قبل.


توقفت برهة، لتجد عينيها تلتقطان انعكاس وجهها في المرآة أمامها، بينما سؤال يلحّ في رأسها: ما شأن ذلك البربري؟ وكيف تمكّن من إعادة صياغة شيئًا ما بداخلها لم تكتشفه سوى الآن ؟!


༺═─────────────═༻

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close