رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل التاسع وخمسون 59بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل التاسع وخمسون 59بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل التاسع وخمسون 59بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
٥٩ ـ ~ ضربة قاضية
ـ فريد .. تعرف زينب عملت لي إيه النهارده على الفطار ؟!
نظر إليها فريد بانتباه وأومأ مستفهمًا، فإذ بها تجيبه بصوتٍ شجيّ:
ـ فطيرة بالتمر .
ارتفع حاجباه بدهشة هادئة، لكن شيئًا أعمق من الدهشة مرَّ في عينيه… ظلّ صامتًا لحظة عاد فيها بذاكرته إلى الوراء، ثم تنفّس ببطء ..
لم يكن ذكر ذلك الأمر أمرًا عاديًا، بل كان كالمفتاح الذي فتح صندوقًا قديمًا في ذاكرته، صندوقًا تفوح منه رائحة دافئة كان يعشقها ويلوذ بها.
ارتسم على وجهه ابتسام خافت… ابتسامة شخص لم يعد يعرف إن كان سعيدًا أم منكسرًا.
وانخفضت نظراته للحظة، كأنه يتتبع بخياله خطوات أمه وهي تقف بالمطبخ ـ وبمساعدة زينب ـ تُعد بيديها الدافئتين شيئًا مميزًا يحبه أولادها
شعر فريد بريقه ينزلق دون وعي، كأنه بالفعل يتذوّق ذلك الطعم الذي فقد حلاوته منذ زمن بعيد..
ومعه فقد طعم الطفولة…
طعم الأمان…
طعم السكينة والطمأنينة..
ارتفعت عيناه نحو نغم ببطء، رمقها وفيهما لمعة شجن صافية، وقال بصوت منخفض كأنه يحكي سرًّا:
ـ كانت أمي دايمًا بتعملها عشاني أنا ونسيم ..
والتفت نحو نسيم بابتسامة حانية فوجدها تومئ بحزن وقد تجمعت الدموع في عينيها، فمد يده وأطبق على كفها داعمًا إياها بصمت، وقال وهو ينظر تجاه زينب بعتبٍ زائف :
ـ مش شايفة إنها خيانة عظمى يا زينب ؟! يعني مش قادرة تصبري لحد ما أخرج من المستشفى ؟!
ابتسمت زينب ابتسامة متأثرة، ومدت يدها تزيح بها دمعات هادئة لفحت وجنتها للتو، وقالت :
ـ من عنيا يا حبيبي .. تخرج إنت بس بالسلامة وأنا هعملك اللى انت عايزه ..
ونظرت إلى نغم وتابعت مبتسمة:
ـ بالمرة نغم تتعلم تعملها عشان لما تتجوزوا تبقا تعملها لك.
التفت فريد إلى نغم مبتسمًا بأسلوب يحمل حسرة مفتعلة:
ـ بس إحنا نتجوز ومش عايز حاجة تانية.
انفجرت نسيم وزينب في الضحك، بينما نغم أشاحت بنظرها في تردد بعدما لمحَت ملمحًا مراوغًا في عينَي فريد الذي استعاد فريد جديته على الفور، ووجه كلامه نحو زينب قائلاً:
ـ واضح إنك مقصّرة مع نغم بشكل كبير يا زينب.
رفعت زينب حاجبيها باهتمام، وانتظرت إجابته بصمت، ليجيب سريعًا:
ـ كنتِ قايلة إنك هتخليها بطة بلدي، ولحد دلوقتي ده ما حصلش… لسة كتكوتة زي ما هي !
حدّقت زينب في وجه نغم بنظرة ممتلئة باللوم، ورفعت إصبعها نحوها في حركة حادة تشبه توبيخ الأمهات، وقالت :
ـ ما هي لو بتسمع الكلام وبتاكل كان الحال بقى غير الحال، على الأقل مش كل شوية تقع من طولها ويغمى عليها .. دي من يوم ما انت دخلت المستشفى وهي تعبانة ..
في تلك اللحظة، التفت فريد إلى نغم بسرعة، وقد ارتسم الذهول على وجهه. كانت عبارتها الأخيرة كفيلة بأن تفجّر داخله قلقًا لم يستطع إخفاءه، فنطقت ملامحه بالانزعاج ذاته الذي حمله صوته حين قال بحدة:
ـ كل شوية يغمى عليها !!
كانت نغم تجلس أمامهما بملامح شاحبة، تتلقى الكلام بصمتٍ مستسلم، بينما زينب لا تزال تكرر عتابها وهي تشير إلى حالة نغم وتقول :
ـ أيوة .. من أول ما سمعت الخبر أغمى عليها ولولا حسن ربنا يبارك فيه هو اللي جه جري وجابها عالمستشفى مكنتش هعرف أتصرف وأنا لوحدي ..
صُعق فريد لوهلة، وتبدّلت ملامحه على نحوٍ واضح؛ شدّ فكيه بتوتر لم يستطع التحكم فيه، وانعكست في عينيه تلك الصدمة الخافتة التي لم يتوقع أن يشعر بها. وبينما كان يستمع لحديث زينب، جملة واحدة فقط هي ما شقّت طريقها إلى عقله بقوة جارحة: حسن قد حمل نغم بين ذراعيه… حملها مغشيًا عليها، ثم وضعها في السيارة، ثم عاد ليحملها مرة أخرى إلى داخل المستشفى.
ذلك المشهد الذي لم يره بعينه رأى تفاصيله في خيالُه بوضوحٍ مؤلم؛ صورة ظلّت تتردد في رأسه، تخنق أنفاسه وتثير غيرة تضرب أعماقه ضربًا موجعًا. شردت نظراته لثوانٍ قليلة، بدا خلالها وكأنه يحارب شيئًا في داخله، ثم حاول أن يستعيد اتزانه ويجمع ملامحه من جديد.
أما نغم، التي كانت ترمقه بنظرة منهكة لكنها واعية، لم يغب عنها ما دار في داخله، وكأنها قرأت أفكاره قبل أن يُخفيها. أطرقت برأسها وأشاحت بوجهها محاولة قطع الخيط المشدود بينهما، وقالت بصوت خافت لكي تتخلص من هذا الموقف :
ـ اللي حصل حصل يا خالتي خلينا في دلوقتي ..
أطلق فريد زفرة ثقيلة محاولًا جاهداً أن يخفي الضيق الذي بدأ يتسلل إلى ملامحه، لكن اللحظة لم تُمهله كثيرًا؛ إذ دوّى طرقٌ خفيف على الباب جعلهم جميعًا يلتفتون في وقت واحد، معتقدين أن حسن قد عاد بعد أن غادر خلف چيلان. غير أن الطارق لم يكن حسن… بل شخص لم يخطر ببال أحد منهم.
تقدّمت زينب نحو الباب وفتحته، لتجدها واقفة أمامها، تحمل في ملامحها خليطًا واضحًا من التوتر والارتباك، تعبث بحجابها في محاولة فاشلة لضبطه، بينما ترتسم على شفتيها ابتسامة باهتة مرتبكة وهي تتساءل:
ـ دي أوضة فريد بيه؟!
هزّت زينب رأسها وأفسحت لها الطريق لتدخل. وما إن خطت خطوة واحدة داخل الغرفة حتى ارتفع صوت نغم بدهشة لم تستطع إخفاءها:
ـ ميرال!!
قفزت نغم من مقعدها لتستقبلها، واحتضنتها بحرارة شابها توتر واضح. تبادلت معها كلمات سريعة، بينما وجّهت ميرال نظرتها نحو فريد وهتفت بنبرة تعاطف صادق لا لبس فيه:
ـ حمدالله على سلامتك يا مستر فريد .. لما عرفنا الخبر كلنا زعلنا علشان حضرتك ..
ابتسم لها فريد بامتنان وقال بهدوءه المعهود:
ـ متشكر يا ميرال .. اتفضلي اقعدي.
جلست ميرال متحفظة، تكاد تختبئ خلف هدوئها. التفتت سريعًا نحو نسيم وتبادلا تحية مقتضبة، ثم عادت بنظرها إلى نغم وقالت:
ـ أنا كلمت نغم كتير ولما مردتش عليا قررت إني أجي بنفسي أطمن على حضرتك .. وكمان الولاد كلهم بيبعتوا لك السلام وبيقولوا لك ألف سلامة عليك .
أومأ فريد وهو يبتسم بامتنان حقيقي:
ـ الله يسلمهم ويسلمك .. متشكر جدا يا ميرال كلك ذوق.
ساد الصمت المكان للحظة، تبادل الجميع خلالها نظرات متوترة امتزج فيها الفضول مع الحذر، إلى أن قطعت ميرال السكون بصوت منخفض لكنه مباشر، وهي تسأل:
ـ هو فين عمر؟
توترت نظرات الجميع على نحوٍ محسوس؛ فالسؤال كان متوقعًا منذ اللحظة التي دخلت فيها ميرال، وكأنهم كانوا ينتظرون توقيته فقط. أما فريد، فقد ثبت بصره عليها لثوانٍ، يدرك تمامًا المغزى الحقيقي خلف سؤالها، ويقدّر صراحتها التي لم تحاول إخفاءها. ومع ذلك، لم يكن يملك إجابة واضحة يمكن أن يمنحها إياها.
هو لا يريد مراوغتها… فهي بطبيعتها لا تراوغ. لكن في المقابل، لم يكن مستعدًا ليكشف لها الحقيقة كاملة في تلك اللحظة، لا بهذه السرعة، ولا أمام هذا الجمع. لذلك اتخذ قرارًا مؤسفًا، لكنه بدا له الحل الوحيد: أن يجتزئ من الحقيقة جزءًا صغيرًا… ذلك الجزء الذي يمكن قوله دون أن يفتح الأبواب التي لا تزال مغلقة.
تنهد ثم قال :
ـ أنا وعمر حصل بينا خلاف يا ميرال علشان كده هو مش موجود ..
رفعت حاجبيها بقليل من الدهشة ثم قالت:
ـ أنا مش عارفة إيه اللي حصل بالظبط بس أكيد في سبب تاني ، عمر متغير بقاله فترة ومش بيرد عليا وأنا كمان بطلت أتصل بيه وسيباه براحته .. لكن يهمني أكيد أطمن عليه .
لم يعرف ماذا يقول لها… الصمت كان أهون من أن يجرحها، وأثقل من أن يمدّ لها يدًا لا يملك أن يمدّها.
رآها أمامه نقية… أصفى من أن تُلوثها خيبات عمر أو تهوّكاته، وأصدق من أن تُترك تتخبط وسط تلك الدوامة وحدها.
وشعر — للحظة — بالشفقة تتسلل إلى صدره، لكنه كتمها بسرعة…
فهو، مهما اعترض على تصرفات عمر، لا يحق له أن يفتح بابًا ليس بابه، ولا أن يكشف لها ما هو حق لأخيه أن يقوله أو يسكت عنه.
ظل واقفًا أمامها عاجزًا…
يريد أن يطمئنها ولا يستطيع،
ويريد أن يكون صريحًا ولا يجرؤ،
ويريد أن ينصفها دون أن يخون أخاه.
فاكتفى بأن خفض عينيه قليلًا، ثم رفعهما إليها بنبرة هادئة وقال :
ـ أوعدك إني هتكلم معاه و..
ولكنها قاطعته وهي ترسم ابتسامة أبية على شفتيها وتقول :
ـ لا لا .. من فضلك بلاش تعمل كده ، هو لو عايز يتكلم معايا أكيد هيتكلم من غير توجيه من حد .
ونهضت وهي تقول بابتسامة مضطربة :
ـ على العموم عمر مش موضوعنا أصلا ، أنا جيت بس عشان اطمن على حضرتك لأنك عارف أنا بعزك إزاي وبعتبرك أخ كبير ليا .
أومأ فريد مؤكدًا صدق حديثها ثم قال :
ـ ربنا يعزك يا ميرال .. مش عارف أشكرك ازاي والله إنك جاية بنفسك تطمنى عليا ، متشكر جدا .
ـ العفو يا مستر فريد .. ربنا يتم شفاك على خير إن شاء الله .
ونظرت إليهم بابتسامة حاولت أن تبدو ثابتة، وقالت :
ـ عن إذنكم .
ودعتها نغم إلى حيث باب الغرفة، مدت يدها وربتت على ذراعها وهي تقول بنبرة آسفة :
ـ أنا آسفة يا ميرال إني مقدرتش أرد عليكي، كنت تعبانة والله ومخدتش بالي من التليفون خالص.
ابتسمت ميرال ابتسامة صافية، ثم قالت :
ـ ولا يهمك يا نغم ، على العموم سلامتك ألف سلامة ربنا يطمنا عليكي انتي ومستر فريد إن شاء الله.
أومأت نغم لها بابتسامة مطمئنة، فيما غادرت ميرال الردهة وهي مثقلة بشعورٍ حادّ من الضيق، إذ لم ترَ عمر كما كانت تأمل. صحيح أنها جاءت لتطمئن على فريد، لكنها في قرارة نفسها كانت تتمنى رؤيته ولو للحظة… وغيابه لم يُشعرها بالخذلان فحسب، بل أكد لها أن الأمر أكبر من مجرد خلاف عابر بينه وبين أخيه.
وبينما كانت تستعد لمغادرة الطابق، توقفت فجأة؛ إذ تقدّمت نحوها امرأة ذات حضور لا يُخطئه أحد: جبروت في ملامحها، وقار راسخ في خطواتها، وهي تسير في الردهة كأن المكان بأكمله يفسح الطريق لها.
لم تنتبه ميرال إلا وقد وجدت نفسها تتحرك نحوها بدافعٍ من الجرأة التي ظنّت أنها مناسبة للموقف، وسألتها بابتسامة واثقة ونبرة هادئة:
ـ حضرتك نادية هانم؟
توقّفت نادية، وحدّقت فيها بهدوء متعالٍ لا يخلو من الغرور، ثم أومأت وهي تمعن النظر فيها بنظرة تمتلئ تفحّصًا واستعلاء:
ــ أيوه… وإنتي مين؟
ابتلعت ميرال ريقها بحذر وقالت:
ــ أنا ميرال.
على الفور، اعتدلت نادية واقفةً كمن يستعد لمعركة، ضاقت عيناها في نظرة فاحصة حادّة، قبل أن تقول ببرودٍ لاذع:
ــ إنتي بقى ميرال؟
أومأت ميرال، وقد بدأت ثقتها تتآكل تحت وطأة تلك النظرات، لكنها حاولت المحافظة على هدوئها فرفعت ابتسامة خفيفة وقالت:
ــ أيوة… أكيد عمر كلّم حضرتك عني.
نظرت إليها نادية نظرة تقييم ازداد ثقلها، ثم قالت بنبرة جافة: ـ
ـ وأكيد هو كمان كلمك عني .
شعرت ميرال بالرهبة تُطبق على صدرها، وأومأت قائلة بنبرة حاولت قدر استطاعتها أن تُبقيها ثابتة:
ـ أكيد .. حضرتك غنية عن التعريف .
رفعت نادية حاجبًا بخيلاء، ثم قالت بنبرة مشبعة بالثقة الزائدة:
ـ ممتاز ، وبما أنه بقى حكالك عني، وبما إني غنية عن التعريف فأكيد انتي عارفة موقفي كويس أوي ..
أخذت ميرال تحدّق فيها تحاول استنباط مقصدها، ثم سألت بهدوء متحفّز:
ـ مش فاهمة حضرتك تقصدي إيه ؟
ارتسمت في عيني نادية ابتسامة ساخرة وقالت ببرود قاتل :
ـ أظن أنك فاهمة كل حاجة .. علشان كده بلاش تتأملي على الفاضي .
شهقت ميرال نفسًا عميقًا لتحفظ ما تبقى من كرامتها، فقد شعرت بالمهانة تخترقها اختراقًا لا يليق بها ولا بقلبها. حاولت الردّ، لكن الكلمات خانتها، فأومأت باقتضاب وقالت متراجعة خطوة:
ـ اللي تشوفيه حضرتك ..
قاطعتها نادية بصوتٍ يحمل قسوة امرأة اعتادت أن يؤخذ كلامها كأمر :
ـ والله اللي حضرتي شيفاه إنك تحلمي على قدك وبلاش ترفعي سقف طموحاتك أوي بالشكل ده، عمر يوم ما يفكر يتجوز مش هيغلط غلطة أخوه أبدا ، وإنما لازم يتجوز واحدة تليق بيه وبإسمه .. مش مجرد واحدة بترسم على فلوسه وطمعانة فيه .
اتسعت عينا ميرال بصدمة كادت تُفقدها توازنها، وهتفت محتجة:
ـ انتي غلطانة يا نادية هانم، أنا لا طمعانة في عمر ولا برسم على فلوسه زي ما حضرتك متخيلة ، حضرتك فاهمة غلط تماما .. أنا حبيت عمر بجد وهو كمان حبني بجد بعيدا عن أي شيء تاني ..
ضحكت نادية ضحكة قصيرة ساخرة، وقالت :
ـ متأكدة إنه حبك بجد ؟!
لم تستوعب ميرال المعنى للحظة، فتابعت نادية ببرود يقطر سمًا :
ـ أنا عن نفسي ماعتقدش .. عمر كان فرحان بالإحساس اللي انتي عيشتيه فيه مش أكتر .. يمكن لأنك نوع مختلف عن البنات اللي عرفهم قلبك ، إنما موضوع إنه حبك بجد ده مش متأكدة منه الصراحة ..
توقفت لحظة، ثم أضافت ببطء أشبه بضربة قاضية:
ـ و ياريت انتي كمان متعلقيش آمالك عليه ..
اهتزت الأرض تحت قدمي ميرال، شعرت أن كبرياءها يتصدع أمام هذه المرأة المتسلطة، لكنها تشبثت بما تبقى من قوتها. رفعت رأسها وقالت بصوت متماسك رغم اهتزازه:
ـ مع احترامي لحضرتك لكن أظن عمر هو صاحب القرار والكلمة الأخيرة في الموضوع ده .
حدّقت فيها نادية بدهشة طفيفة، ولم تُخفِ إعجابًا حذرًا بتمسكها وصمودها حيث لمحت في نبرة ميرال قدرًا من الثقة لم تتوقعه من فتاة في موقفها، لكن تلك الجرأة أشعلت بداخلها نارًا دفينة من الغيظ، فتقدمت خطوة واحدة جعلت المسافة بينهما تضيق، وقالت بنبرة باردة كالثلج:
ـ أكيد طبعا الرأي يرجع لعمر في الموضوع ده ، لكن أظن هو دلوقتي مشغول بمواضيع أهم بكتير منك ومن قصة حبكم الأفلاطوني ..
قطّبت ميرال جبينها بدهشة وهي تشعر أنّها اقتربت أخيرًا من حلّ لغز اختفاء عمر، فسألت بنبرة يختلط فيها القلق بالشك :
ـ مواضيع زي إيه ؟!
مطّت نادية شفتيها بتلاعبٍ مستفز، قبل أن تقول ببرود:
ـ ابنه مثلا !!
اتسعت عينا ميرال كمن تلقّى صفعة، وهتفت غير مصدّقة:
ـ ابنه ؟!!!
أومأت نادية بثقة ممزوجة بالشماتة:
ـ متقوليش أنك لسه متعرفيش!
تقدّمت ميرال خطوة، وقد تجمّدت الكلمات في حلقها:
ـ ماعرفش إيه ؟!! أنا مش فاهمة حاجة !
أطلقت نادية تنهيدة متثاقلة وكأنها تتفضل عليها بالشفقة، ثم قالت:
ـ يبقى لازم تتكلموا وهو يفهمك ويحكيلك .. عن اذنك .
تحرّكت نادية لتتجاوزها، لكن ميرال اعترضت طريقها، وقد تكسّر ثباتها فجأة وهي تقول بصوت مرتعش:
ـ لو سمحتي.. أرجوكي، عمر أصلا مش بيرد بقاله كم يوم، ممكن حضرتك تفهميني إيه الحكاية ؟!
وهوت دمعة على وجنتها بلا مقاومة، قبل أن تتمتم برجاءٍ مذبوح :
ـ يعني إيه ابنه ؟! هو عمر عنده ابن ؟!
تطلّعت نادية إلى عينيها، ولم تجد في توسّلها ما يكفي ليرقّ قلبها، فأومأت بثبات قاسٍ وقالت:
ـ للأسف ده الواقع .. عمر عنده ابن من واحدة أسبانية ومطالب منه يعترف بيه لأنها رافعة قضية إثبات نسب ..
شهقت ميرال شهقة باغتتها، شعرت معها بأن قلبها يهبط في فراغٍ مظلم، وأن الهواء يتسرّب من رئتيها. وانطلقت الكلمات من فمها متقطّعة، لكنها لم تعد تسمع إلا صدى الصدمة.
أما نادية فواصلت كلامها ببرودٍ جارح:
ـ هل تعتقدي إنه حاليا هيكون عنده وقت أو طاقة يفكر في أي حاجه تانية ؟! أنا عن نفسي ماظنش .. علشان كده بقولك بلاش ترفعي سقف طموحاتك أوي وبلاش تثقي في عمر ولا في حبه ليكي .
ثم اتخذت خطوة لتبتعد، لكنها توقّفت لحظة والتفتت إليها قائلة بنبرة ادّعت فيها الحرص:
ـ ده لمصلحتك طبعا .
ومضت نادية بخطوات ثابتة نحو غرفة فريد…
وتركتها تقف كمن فُرِّغت روحُه من جسده، تحدّق في الفراغ بعيونٍ غمرها الذهول، يرتجف بؤبؤاهما من وقع الكلمات التي هوت فوق رأسها كصاعقة.
كانت كلمات نادية ترتد داخل رأسها بلا رحمة، تتكرر، تتضخم، تُلهب صدرها وتنهش يقينها. حاولت أن تلتقط خيطًا واحدًا للمنطق، لكنها وجدت نفسها تُغرق في دوّامة من الشك والخوف والذهول .
هل يُعقَل؟ أيمكن أن يكون لعمر طفل… وامرأةٌ في بلادٍ بعيدةٍ ترفع عليه قضيّة إثبات نسب؟!
ارتجف صدرها للفكرة وحدها، شعرت كأن جدارًا داخليًا تصدّع بضربةٍ واحدة، وانفتحت فيه شقوق واسعة تُدخل إليها ريحًا باردة من الشكّ والخوف.
معنى ذلك…
أن الطفل جاء من علاقةٍ لا تعرف عنها شيئًا… علاقةٍ كانت في الظل، خارج كل ما أخبرها به، وخارج كل ما بنته في خيالها من ثقة وأمان.
معنى ذلك أن الماضي الذي كان يخشاه عمر، ويتجنّب الاقتراب منه، لم يكن مجرد ذكريات موجعة… بل كان ذنبًا ثقيلًا يطارده، ويُعيد تشكيل حياته في الحاضر.
معنى ذلك أن كل كلمة قالها لها لم تكن نابعة فقط من خوفه من فقدانها… بل من خوفه من انكشاف الحقيقة أمامها.
توقّفت أنفاسها للحظة.
إن كان له ابن… فمن أين جاء هذا الطفل؟ ومتى؟ ولماذا لم يخبرها؟
هل كان يخاف من رد فعلها؟
أم أنه كان يحاول أن يؤجل المواجهة إلى أن يجد طريقة يُصلح بها ما لا يمكن إصلاحه؟
تدافعت الأسئلة داخل رأسها كالمطارق، وكل إجابة محتملة كانت تضرب قلبها دون رحمة.
انهار في داخلها شيء صغير… ثم تبعته أشياء أكبر.
رفعت يدها إلى فمها كأنها تُخفي صرخة كادت تفلت، بينما عقلها يرفض التصديق… لكن قلبها كان أجبن من أن يكذّب تمامًا. كانت تبحث بداخلها عن بصيص أمل، بصيص صغير كاذب يهمس لها أن نادية قالت ذلك فقط لتُبعدها عن طريق ابنها… لكن ذلك الأمل كان ضعيفًا، شاحبًا، بالكاد يقوى على الوقوف.
ثم… بدأت الخيوط تتجمع أمام عينيها فجأة.
اختفاء عمر..
حججه المبعثرة…
تعلّقه بها فجأة وكأنما يخشى فقدانها…
رجاؤه المتكرر لها ألا ترحل…
حديثه عن الماضي… عن علاقاته… عن أشياء لم يفصح عنها رغم أنها كانت تتوسل إليه.
كل شيء بدأ يترابط، يتشابك، ينكشف أمامها ببطء قاسٍ…
وارتفع الشك إلى يقين يكاد يختنق في حلقها، يقين مُرّ… يجعل قلبها ينكمش ويذوب الألم في أطرافها.
شعرت بأن الهواء صار أثقل من أن يدخل صدرها، وأن الأرض تهتز تحت قدميها… ثم فجأة بدأت الدموع تهطل، تنهمر بلا مقاومة، بلا صوت، فقط شهقات مكتومة تُشبه انكسارًا يحدث في أعماق روحها.
تحركت… لا تدري كيف.
قدماها تجرّانها بخطوات متعثرة نحو المصعد، ثم إلى أسفل… كانت تبكي ولا ترى شيئًا أمامها، وكلما حاولت أن تكتم صوتها كان الألم يزداد ضراوة.
كانت تتشبث بالجدران كلما اختل توازنها، حتى صارت خطواتها أشبه بفرار مذعور.
وفجأة—
اصطدمت بكتف قوي.
اختل توازنها تمامًا، وكادت تهوي على الأرض لولا أن يدين قويتين أمسكت بها برفق حازم.
سمعت صوتًا رجوليًا قلقًا لا تعرف صاحبه يقول:
ـ انتي كويسة ؟!
لم تستطع الرد.
لم تستطع حتى أن ترفع رأسها.
أومأت فقط… إيماءة ضعيفة، مُنهارة، بينما الدموع تستمر في النزول كأنها تنزف من قلبها لا من عينيها..
حاولت أن تتنفس… حاولت أن تشكر الرجل… لكنها لم تستطع.
فلتت من بين يديه بهدوء مُرتجف، ثم أكملت سيرها وهي تبكي، تمشي وكأنها لا ترى شيئًا أمامها، عيناها مغرورقتان بالدموع حتى لم تعد تميّز أبواب المستشفى من جدرانها.
خرجت…
خرجت إلى الهواء البارد، تبحث عن نسمة تُعيدها إلى الحياة…
لكن كل ما شعرت به هو أن قلبها ترك مكانه ومضى…
مضى مع الحقيقة التي ظلت تخشاها… وأخيرًا أدركت أنها تكاد تكون الحقيقة الكاملة.
ــــــــــــــــــــــــــ
ـ عامل إيه دلوقتي يا فريد ؟!
قالتها نادية وهي تجلس قبالته، تضع ساقًا فوق أخرى بقدرٍ من الكبرياء لا يُخفى، كأنها تعلن حضورها بجرأة مُتعمدة. كانت تدرك تمامًا أن كل من في الغرفة يرمقها بنظرات حادّة، نافرة، تحمل شيئًا من الرفض وربما الكراهية… لكنها لم تُعر أحدًا منهم اهتمامًا. حتى نظرات فريد التي استقبلتها ببرودٍ ممزوج بضيق واضح، لم تُحدث فيها أدنى أثر.
ومع ذلك، فريد ـ على عادته الراسخة ـ ظلّ محتفظًا بتهذيبه المعهود؛ فهو يؤمن بمبدأٍ واحد لا يحيد عنه:
" حُسن تقدير الآخرين ليس بالضرورة دليلاً على المودة، لكنه بالضرورة مرآة لرقي أخلاقك "
رفع عينيه نحوها ببطء، كأنه يجمع ما تبقّى من صبره، ثم قال بنبرة هادئة لا تخلو من الحذر:
ـ بخير الحمدلله .. كله كويس .
كانت كلماته هادئة، لكن نبرته ونظرته الثاقبة كانت تقول أشياء أخرى… أشياء تعرفها نادية جيدًا.
سكنت ابتسامة خفيفة زوايا شفتيها، ابتسامة تحمل مزيجًا من التحدي واللامبالاة، ثم مالت بجسدها قليلًا كأنها تستعد لفتح معركة جديدة، وقالت :
ـ أعتقد والدك كان يتمنى في ظروف زي دي ييجي يشوفك ويطمن عليك بنفسه لكن ظروف مرضه منعته .
هنا تباطأت حركة نسيم للحظة قبل أن ترفع عينيها نحو نادية، كانت ملامحها مشدودة مما يختمر بداخلها من توتر تجاه والدها، فسألتها بنبرة متحفزة :
ـ ظروف مرضه إزاي ؟!
وفي اللحظة نفسها، اتسعت عينا فريد بحدة، إذ التقط نبرة السؤال وفهم تمامًا إلى أين ستقود، فالتفت نحو نادية بنظرة تحذير واضحة يترجاها بها أن تصمت.
لكن نادية، ورغم معرفتها بما يخفيه فريد عن نسيم خشية أن يؤثر الخبر على حالتها، قررت التظاهر بالدهشة والمتابعة ببرود محسوب. أطلقت عبارتها القاسية بلا أي تردد، وكأنها تلقي حجرًا في بحيرة راكدة لتفجر عاصفة.
ـ هو انتي متعرفيش ان والدك اتشل ؟!
تجمدت ملامح نسيم في صدمة، بينما نادية تستمر في أدائها المتصنع، تخفي في عينيها بريق شماتة لا يراه إلا من دقّق النظر. وفي الخلفية، كان فريد يغمض عينيه في يأس، ملامحه تتلوى بين السخط والقهر، يدرك أن تلك القنبلة التي حاول الجميع منع انفجارها انفجرت أخيرًا ..
ظلت نسيم تنظر إلى نادية بغير تصديق بينما نادية تتصنع نظرة متأثرة نادمة، وتقول :
ـ أنا أسفه جدا يا نسيم .. مكنتش أعرف إنهم مخبيين عليكي كل ده ، الموضوع بقاله فترة واعتقدت انك عارفة.
لم تنتظر زينب، فاندفع صوتها الحاد يصفع نادية قبل أن تواصل الأخيرة لعب دور البريئة :
ـ لأ مكانتش تعرف لأنها حامل وكنا مخبيين عليها خايفين تتعب لأن حملها مش مستقر .. لكن سيادتك كتر خيرك قمتي بالواجب وزيادة ..
فتابعت نادية تمثيلها بملامح هادئة وشفاه مطبقة في إيماءة تعاطف مزيف، وكأنها ترتدي قناعًا يعرف الجميع أنه قناع، لكنها رغم ذلك تصر على إكمال المشهد. :
ـ الحقيقة أنا مكنتش أعرف كده .. أنا عارفة إن علاقة عمر ونسيم كويسة جدا فتوقعت أنه حكالها من وقت اللي حصل .
كانت عينا فريد تتحولان تدريجيًا إلى سهام من نار، يحدق في نادية من طرف عينه بنظرات تكفي لردع جيش بأكمله، لكنه مكبَّل بصمته لأنه يعلم أن أي كلمة منه الآن ستزيد الوضع اشتعالًا.
أما نسيم، فقد خرج صوتها المرتعش بالذهول وهي تتوجه إلى فريد، تبحث في عينيه عن تكذيب واحد فقط يعيد إليها توازنها :
ـ الكلام ده صحيح يا فريد ؟!!
حوّل نظراته إليها ببطء، وأومأ بأسف، فهتفت بأسى :
ـ إزاي محدش فيكم يقوللي ؟! هو أنا للدرجة دي مبقيتش محسوبة على العيلة خلاص ؟! كل حاجه بقيتوا بتخبوها عني ؟!
زفر فريد نفسًا عميقًا وقال :
ـ مش صحيح يا نسيم .. إحنا خبينا علشان خايفين عليكي مش علشان مبقيتيش من العيلة !
طالعته بحدة أشد وقالت :
ـ وموضوع عمر خبيتوه عليا بردو علشان خايفين عليا ولا خايفين إني أقول لعاصم وفضايح العيلة تخرج بره ؟!!
حدّق فيها فريد بحدةٍ واضحة حين قالت عبارتها الأخيرة، فاشتدّ خطّ فكه وظهر التغير الحاد في نبرة صوته وهو يردّ عليها بتحذير :
ـ نسيم .. اعقلي كده واعرفي انتي بتقولي إيه وبلاش تخلطي الأمور ببعضها ..
نهضت واقفةً بعنف، كأن الأرض لفظتها من تحت قدميها، وتفجّر في نبرتها غضب مكبوت منذ زمن. كانت أنفاسها متسارعة، وعيناها تلمعان بخيبة ومرارة، وهي تُفرغ ما اختزنته في صدرها من شعور بالإقصاء والوحدة، قبل أن تندفع كلماتها الحادة بلا تردد:
ـ أنا عارفة أنا بقول إيه كويس يا فريد .. انتوا خلاص مبقاش حد منكم مهتم يشاركني أي حاجة بتحصل معاه، مبقيتوش بتعرفوني غير اللي انتوا عايزني أعرفه وبس .. إنما أي حاجة تانية مش مهم.. أعرفها بالصدفه أو حتى معرفهاش مش مهم .. كده ولا كده أنا بقيت في العيلة دي على الهامش .
كانت نغم تراقب ملامح فريد التي راحت تتقلّص توترًا، ورأت قبضته تنقبض وتنبسط في إيقاع مضطرب، الأمر الذي أثار قلقها عليه خشية أن تعود حالته للتدهور مجددًا. حاولت السيطرة على نبرتها، تضبط حدّتها قدر المستطاع لتبدو لينة وهي تهتف:
ـ نسيم اهدي .. الموضوع مش زي ما انتي متخيلة أبدا ، اخواتك لما خبوا عليكي موضوع سالم باشا أو موضوع عمر كانوا خايفين عليكي وعلى الحمل .. مش عشان قاصدين يهمشوكي أبدا ..
اتسعت عينا نسيم في ذهولٍ صادم وهي تقول:
ـ يعني انتي عارفة بموضوع عمر وأنا لأ !!
اصطدمت الكلمات بنغم كصفعة، فارتبكت ملامحها وتلعثمت أفكارها، ولم تعد تدري كيف يمكنها الخروج من المأزق الذي حُوصرت فيه.. فقالت بارتباك :
ـ عرفت بالصدفة ..
كانت نظرات نسيم المتحفزة كافية لتجعل قلبها ينقبض، بينما فريد يحدّق فيها وكأنه يقرأ اعتذارها الصامت عمّا بدر منها دون قصد.
أخذت تتلفّت بين الوجوه المتوترة بعينين تغليان غضبًا، وقد بدا عليها الانفعال وهي تزيح خصلات شعرها بعصبية حادة، قبل أن تثبت نظرتها على فريد وتقول بنبرة يفيض منها الخذلان: ـ
ـ بجد كتر خيرك يا فريد .. أنت آخر واحد كنت أتوقع إنه يخذلني بالشكل ده ..
هز فريد رأسه يائسًا وهو يحاول أن يكون متفهمًا لآخر لحظة، بينما زينب، التي اندفعت نحو نادية وقد اشتعل الغضب في عينيها وهي توجه لها نظرة حادة لم يسبق لها أن تجرأت بها، قبل أن تقول بحدّة مكبوتة انفجرت دفعةً واحدة:
ـ كتر خيرك يا نادية هانم .. شعللتيها حريقة بينهم يارب تكوني مبسوطة دلوقتي .
اتسعت عينا نادية في دهشة حقيقية، ولم تستوعب للحظة أن الكلام موجّه إليها هي تحديدًا، فهتفت باستنكار جارف:
ـ إيه الأسلوب ده يا زينب ؟! إزاي تتجرأي وتتكلمي معايا بالشكل ده ؟! انتي نسيتي نفسك ولا إيه ؟!
عندها انفلت زمام صبر زينب تمامًا، وكأن سنوات طويلة من التحمل والكتمان انكسرت دفعة واحدة، فاندفع صوتها يحمل غيظًا مكبوتًا وصدمة ممتزجة بجرأة غير مألوفة منها:
ـ أنا بردو اللي نسيت نفسي يا نادية يا صواف، صدق اللي قال .. إن كنتوا نسيتوا اللي جرى هاتوا الدفاتر تنقرى !!
حينها نظر إليها فريد وهو يهتف باستنكار حقيقي :
ـ زينب .. إحنا في مستشفى !
واحتد صوته ونفرت عروقه بانزعاج واضح وهو يقول :
ـ مش معقول اللي بتعملوه ده !!
نهضت نادية بانفعال، نظرت إليه وقالت :
ـ مش معقول ليه ؟! ماهي دي أخلاق الخدامين اللي زيها .. !! أكيد مش هستغرب يعني ، أنا دلوقتي بس عرفت ليه سالم طردك بره الڤيلا !! لأنك شرشوحة ومكانك الشارع .
ما إن صاحت نادية بذلك الازدراء الوقح، حتى تجمّد الجميع في صدمة تامة. ارتفع صوتها كطعنة مفاجئة مزّقت ما تبقى من هدوء واهن، فأربكت زينب التي لم تتوقع أن تنحدر نادية إلى هذا الدرك. لكنها لم تترك لها فرصة للتمادي؛ ففريد كان الأسرع في الرد.
التفت إليها فجأة، وكأن غضبه اشتعل دفعة واحدة، وارتفع صوته بنبرة حادة لا تقبل الجدال:
ـ نادية هانم !!!
بدا فريد وكأنه تحوّل في لحظة؛ لم يعد ذلك الرجل الصبور الذي يحاول السيطرة على الأمور بهدوء، بل صار شخصًا لا يتهاون أمام الإهانة أو التجاوز.
وقفت نادية على مضض، واجهته بنظرة متحفزة ظنّت أنها ما زالت قادرة على فرض حضورها، لكن ما إن رفعت عينيها له حتى وجدته يشهر سبابته في وجهها بصرامة مفاجئة، نبرته مشبعة بالتحذير القاطع وهو يقول:
ـ من هنا ورايح كل واحد يلزم حده ويعرف هو بيتكلم مع مين وازاي ..
وأشار فريد نحو زينب، وقد لمحت في عينيه ما ينوي الإفصاح عنه، فهزّت رأسها سريعًا محاولةً ثنيه عمّا سيقول، غير أنه كان قد اتخذ قراره بالفعل. ثابت النظرة، قاطعًا لترددها، قال بصرامة لا تحتمل الجدل:
ـ الڤيلا اللي بتتكلمي عليها دي.. زينب ليها فيها أكتر منك .
تقلّصت ملامح نادية في اندهاش حاد، وكأن الكلمات ضربتها على حين غرّة، بينما واصل فريد نبرته القاطعة التي لا تخلو من الغضب المكبوت :
ـ زينب تبقى أهم منك شخصيا ووجودها في الڤيلا أولى من أي حد تاني ..
ثم حوّل نظره إليها مباشرةً، نظرة تحمل حكمًا نهائيًا لا يقبل المساومة، وهو يضيف:
ـ وتأكدي إن عاجلا أم آجلا كل شيء لازم هيرجع لمساره الصحيح .
وقفت نادية مشدوهة، تتقلّب نظراتها بين الوجوه باحثةً عن أي أثر يشبه صدمتها، عن أي دعمٍ أو تبرير، لكنّها لم تجد سوى نسيم التي كانت بدورها تعقد حاجبيها بدهشة حقيقية. عندها تمتمت نادية بصوت مضطرب، لا تكاد تصدّق أن الكلمات وُجّهت إليها:
ـ قصدك إيه بالكلام ده ؟! يعني إيه زينب تبقى أهم مني! انت سامع إنت بتقو
أومأ بقوة وثبات، وكأن القرار كان يتدفق من داخله دون أدنى تردد، قبل أن يهتف بصوت لا يقبل الجدال:
ـ أكيد سامع .. وواثق من اللي بقوله ، لأن زينب ليها نفس اللي للباشا في الڤيلا ..
تجمدت ملامح نادية، بينما كانت هي تبتلع ريقها ببطء، وكأن الكلمات اصطدمت بجدار لا تستوعبه، تنقل نظراتها بينه وبين زينب التي ارتسم القهر واضحًا على قسماتها، فيما تابع فريد بحزم أشد:
ـ لأنها أخته ! أخت سالم مرسال .. زينب عبدالعظيم مرسال .
في تلك اللحظة، انكسرت زينب كليًا، وانفجرت بالبكاء بحرقة بدت كأنها مخزونة منذ سنوات طويلة، فاندفعت نغم نحوها فورًا، تضمها بكل ما تملك من قوة محاولة احتواءها وتهدئتها.
أما نادية، فوقفت تحدق في فريد بذهول صادم، وكأن الحقيقة التي نطق بها مجرد ادعاء لا يمكن للعقل أن يصدقه، ثم نطقت بارتباك شديد وهي تهتز من وقع المفاجأة :
ـ لأ .. مستحيل .. إنت مش ممكن تكون بتتكلم جد .. مستحيل واحدة دون زي دي تكون ..
همّت أن تنطق كلمة "أخته" لكن الصوت انحبس في حنجرتها؛ وكأن الاعتراف ذاته يرفض أن يمرّ عبر لسانها. رفعت يدها إلى جبينها في ذهول، بينما وضعت الأخرى على خصرها محاولةً استعادة اتزانها، إلا أن رأسها ظل يهتز نفيًا، كأن عقلها يرفض قبول الحقيقة مهما وُضعت أمامها بوضوح:
ـ لأ .. مستحيل .
هتف فريد بإصرار :
ـ بدون غلط لأني مش هسمح لحد يغلط فيها مرة تانية ولو بحرف ، مهما كان الحد ده مين و صفته إيه ..
تنفّس بعمق، وقد هدأت حدة صوته قليلًا، لكنه ظل محتفظًا بما يكفي من الصلابة ليُنهي الحديث دون أن يترك مجالًا للتشكيك:
ـ على العموم لو مش مصدقة.. بسيطة .. اسألي الباشا وهو يأكد لك .
وقفت نادية تحاول لملمة ملامحها المبعثرة، وقد صارت نظراتها مشوشة؛ تبحث عن أي مخرج من بين كلمات فريد التي سُدّت بها كل الطرق.
أما نسيم فكانت ثابتة في مكانها، مندهشة إلى حد التصلّب، تتطلع إلى زينب وكأنها تراها للمرة الأولى:
ـ يعني .. انتي عمتي !!
رفعت زينب نظرها إليها والدمع يعانق أهدابها، وأومأت ببطء خافت، ظنّت ـ لوهلة ـ أن نسيم ستندفع نحوها في حضن يعيد إليها جزءًا من كرامتها المهدرة.. لكن نسيم التفتت مباشرةً إلى فريد، ضاربةً بذلك كل توقع ممكن:
ـ وانت عارف ومخبي عليا ؟! أظن هتقوللي كنا خايفين عليكي بردو !!
زفر فريد زفرة ثقيلة، كأن صدره يقذف بآخر ما تبقّى فيه من صبر، وقال وقد بدأ الإنهاك يطفو على وجهه:
ـ دي الحقيقة ، عايزة تصدقي براحتك، مش عايزة تصدقي بردو براحتك .
ارتفعت حاجبا نسيم بدهشة مشوبة بالغضب، ثم انتقلت نظراتها إلى نغم التي كانت تحتضن زينب بصمت. اتسعت عيناها أكثر وهي تقول بنبرة لم تستطع إخفاء حدّتها:
ـ ونغم كمان كانت عارفة !!!
عندها فقط، فقد فريد آخر خيط يربطه بالهدوء. رفع كفيه بضيق هائل، وكأنه يستدعي الصبر قائلا:
ـ يا الله يا ولي الصابرين ! أنا مش فاهم إيه مشكلتك مع نغم النهارده !
هتفت نسيم بحدة جارحة :
ـ مشكلتي مش مع نغم، مشكلتي إن موضوع عائلي زي ده نغم تعرفه وأنا اللي من العيلة مش عارفاه .. بجد شكرا .
ارتفع حاجبا فريد في دهشة حادة، غير مصدّقّا أن نسيم تجرأت على نغم بتلك الصورة، وكأنه لم يتوقع منها أن تستبعدها من العائلة بهذه الفجاجة، دون أن تضع له أي حساب.
أما نغم، فظلت تحدق في الفراغ للحظة، تشعر بثِقَلٍ يهبط فوق صدرها حتى كاد يخنق أنفاسها. انخفض رأسها قليلًا وهي تحاول منع دمعة شرعت تتجمع في زاوية عينها، ثم رفعت رأسها بإصرار خافت، لتجد فريد لا يزال ثابتًا على ذهوله يحدق في نسيم بصدمة أفقدته معرفة كيفية النطق!
وفي تلك اللحظة، طُرق الباب ودخلت الممرضة ، نظرت إلى فريد وقالت :
ـ بشمهندس فريد .. المتر كريم خلف بره مستني من ربع ساعة في قاعة الانتظار لما عرف إن عندك زيارة ، لكن طلب مني أستأذن من حضرتك لأنه غالباً مستعجل .
أومأ فريد وهو يدلك صدره بتعب ويقول :
ـ خليه يتفضل طبعا ..
أومأت وانصرفت، بينما هو أشار إليهن في تعب ونفاذ صبر قائلا بحدة وهو يشير بكلتا يديه نحو الباب :
ـ يلا اتفضلوا كلكوا بره !
كانت نسيم بالفعل قد التقطت سترتها وحقيبتها، ثم غادرت الغرفة بخطوات سريعة مضطربة.. تلحق بها نادية ، ومن بعدها زينب ونغم التي ظلت ترمقه في شفقة إلى أن غادرت .
نادت زينب على نسيم مرارًا، لكن الأخيرة لم تلتفت لها، بل اندفعت خارجة من الغرفة والغضب يشعل خطاها.
لحقت بها نادية بعد أن التفتت لزينب قائلة ببرود سامّ:
ـ حتى لو قدرتي تخدعيهم كلهم لا يمكن تقدري تخدعيني.. ومهما حصل لازم أكشفك قدامهم وأخليكي ترجعي الشارع اللي جيتي منه .
نظرت إليها زينب وهتفت بلا اكتراث :
ـ اللي عندك اعمليه خلاص زمن الخوف ولّى ، بس لازم تعرفي إني من النهارده مبقيتش زينب بتاعة زمان .. يعني مش هسمح لك تسممي حياتهم وأقف أتفرج .. وأظن انتي عندك اللي تخافي عليه، إنما أنا لأ .
عقدت نادية ذراعيها أمام صدرها وقالت :
ـ قلبك قِوي يا زينب وبقيتي بتهدديني .. !
وقفت زينب في مواجهتها بتحد وقالت :
ـ قلبي لازم يقوى وأقف لك وأنا شايفاكي بتهدي الدنيا وبتحاولي توقعي بين الاخوات ولا فارق معاكي حتى خاطر ابنك لما يعرف إنك وصلتي اخواته للحال ده بسبب خططك الشيطانية..
ثم بابتسامة تهكمية تابعت :
ـ بس هنقول إيه .. إذا كان ابنك نفسه طالع لك ملوش عزيز ولا غالي وهو السبب في حالة أخوه ، يبقا مفيش عليكي لوم .
ضيقت نادية عينيها بغضب وقالت بنبرة مشوبة بالمرارة :
ـ كلكم شايفين عمر غلط طبعا لأنه ابن نادية فلازم يطلع غلطان وزي الزفت ..
أدارت بصرها نحو نغم المتكئة على الحائط بتعب، واستطردت بنبرة حادة جعلت كلماتها تصل مباشرةً لنغم:
ـ مع إنه مغلطش لما قال لأخوه إنه كل واحد حر يختار يعيش حياته بالشكل اللي يريحه ، ولا كدب لما قالله انه زي ما اختار واحدة حرامية واتحدى العالم عشانها، فهو كمان حر يعترف بالولد أو لأ ..
توسعت عينا زينب بدهشة وهي تنظر لنغم التي انغمرت في موجة من الصدمة والانكسار. باتت تشعر بالخزي والعار يغطي قلبها كغيم أسود كثيف. الحزن يثقل كتفيها والضيق يغلق أنفاسها، وأخذت تتساءل بيأس:
إلى متى ستظل تدفع الثمن؟ إلى متى سيظل ماضيها يطاردها كظل لا يغيب؟ أخطاء كانت قد كفّرت عنها مرات ومرات تُطالب بإعادة دفع فاتورتها مرارّا بلا رحمة...
تمسكت بقوة بالمقعد لتمنع جسدها المتهالك من السقوط، بينما نادية انسحبت بعد أن ألقت بالقنبلة التي تركتهما وسط دوامة من الألم.
اقتربت زينب محاولة احتضان نغم لتواسيها، إلا أن الأخيرة انسحبت فجأة وقالت بصوت واهن:
ـ معلش يا خالتي عايزة أشم شوية هوا لوحدي .
ثم ابتعدت بخطوات ثقيلة متجهة نحو باب الخروج. عندما وصلت إلى الفناء الخارجي للمشفى، جلست على أقرب مقعد وأسندت رأسها بين كفيها. انفجرت تبكي بحرقة وهي تتخيل وجه فريد بعدما سمع هذه الكلمات.
هل كان هذا هو الجرح الذي انغرس بداخله حتى انكسرت روحه؟
إن كان الأمر كذلك… فهي السبب إذًا ؟! لأن أخاه عيّره بها أمام الجميع !
أجهشت بالبكاء أكثر وهي تفكر ، ألا نهاية لهذه الحكاية ؟
إلى متى سيظل هذا الظل يطاردها؟ إلى متى سيبقى الجميع يلوّحون لها بخطأ دفعت ثمنه ألف مرة؟
وإلى متى سيظل هو نفسه يدفع الثمن لأنها جزء من حياته؟
وفي تلك اللحظة، تفتّح بداخلها وعي مرّ كطعنة:
لقد كان محقًا حين أصرّ على أن يتزوجها…
لأنه لو لم يرتبط بها رسميًا، لو لم تصبح زوجته، لكانت ستختفي من حياته بلا عودة.
كانت ستهرب لأبعد نقطة في العالم، حيث لا صوت يصلها ولا أثر يدلّ عليها …
ووقتها فقط ستستقيم حياته كما ينبغي.
سيتألم قليلًا، لكنه سيتجاوز، وسيُكمل طريقه مع امرأة أنقى، امرأة بلا خطايا تلاحقها وبلا ندوب تُلاحقه معها.
لكنها زوجته الآن…
وقَدَره المُتعِب…
وحظّه العاثر الذي كُتب عليه أن يعيش معه…
༺═────────────────═༻
كان كريم يجلس على مقعد مجاور للسرير الذي يرقد عليه فريد، يتبادلان الحديث بهدوء فيقول كريم :
ـ الحقيقة أنا حزنت جدا لما عرفت اللي حصل لك .. ووالدي كمان اتأثر جدا وبيتمنى لك الشفا العاجل .
حاول فريد جاهدًا أن يرسم ابتسامة هادئة على ملامحه وقال :
ـ متشكر جدا يا كريم .. دكتور رؤوف كلمني فعلا وسأل عليا، عامةً أنا الحمدلله دلوقتي أحسن بكتير .
ـ الحمدلله .. الحقيقة أنا كنت عايز اسألك على حاجه بس أتمنى أنك متضايقش ، وده حوار جانبي بصفتنا شباب زي بعض يعني بعيدا عن الشغل .
قطب فريد جبينه متعجبًا وقال :
ـ اتفضل اسأل طبعا ..
تنهد كريم ثم حك جانب عنقه بتوتر، وهو يقول :
ـ لما كنت جايلك صادفت بنت في الكوريدور .. هي كانت بتبكي ومنهارة لدرجة انها كانت هتقع وأنا لحقتها، أعتقد انت تعرفها لأن مدام نادية زوجة والدك كانت واقفة معاها قبلها ..
تعجب فريد أكثر، بينما تابع كريم :
ـ طبعا أنا لمحتهم يعني وأنا في الـ reception بسأل على رقم الغرفة بتاعتك .. فضلوا واقفين سوا شوية ، وبعدين البنت مشيت ومدام نادية دخلت الاوضة هنا، وده اللي خلاني أنتظر لأني كنت عارف أن عندك زيارة عائلية .
مط فريد شفتيه بتعجب وهو يحفر داخل جبهته ويحاول إيجاد ما يمكن أن يدله، ثم قال :
ـ الحقيقة مش عارف يا كريم ممكن تكون مين، يعني.. عيلتي كلها كانوا معايا قبل ما انت تدخل وخرجوا قدامك، يعني لو حد منهم أكيد هتعرف .
هز كريم رأسه بهدوء وقال :
ـ لا لا مش منهم .. على العموم خلاص مش مشكلة .
كانت الحيرة بادية على وجه فريد الذي قال :
ـ بس مقولتليش بتسأل ليه على البنت دي بالذات ؟!
وابتسم ابتسامة مشاغبة وقال :
ـ عاجباك ولا إيه ؟!
ابتسم كريم ابتسامة عريضة وقال :
ـ والله مش هخبي عليك هو أنا أول ما شفتها كده حسيت إني اتخطفت !
اتسعت عينا فريد بدهشة خافتة ومط شفتيه في خط مستقيم وقال بإعجاب:
ـ حلو ده .. لأ طالما وصلت للخطف يبقى سيبها عليا وأنا هعرف لك هي مين وهقولك .
ابتسم كريم وقال :
ـ أكون شاكر جدا والله .
أومأ فريد وقال مرحبًا :
ـ ولا تشغل بالك خالص ..
هنا بدأ كريم بمباشرة عمله، حيث أخرج بعض الأوراق وطلب من فريد توقيعها، الذي ما ان انتهى حتى قال :
ـ دلوقتي ايه الخطوة الجاية ؟!
سحب كريم الأوراق وعاد يرتبها داخل الملف وهو يقول بابتسامة عملية :
ـ دلوقتي أنا بكرة هقدم الأوراق دي للمحكمة، ويبدأ التحقيق في القضية بشكل رسمي، يعني في خلال أيام هيتم استدعاء نادر للتحقيق معاه، إنما جيرالد هيتم إخطاره رسميًا إن في طلب ببطلان العقد وبعدها هيتم استدعاؤه للتحقيق معاه هو كمان .. وبعد كده القضية تتنظر ويتم تحديد جلسة بقا ونشوف ..
أومأ فريد بهدوء، ثم قال :
ـ الله المستعان .
ـ إن شاء الله خير ، متقلقش .
أومأ فريد وقال :
ـ و سيلين ؟!
ـ سيلين غالبًا هتاخد من ٦ شهور لسنة سجن وغرامة .
احتدت نظرة فريد وهو يوميء موافقًا ويقول:
ـ مش بطال.. go ahead يا متـر .
ابتسم كريم وربت على كتفه وهو يقول بنبرة مرحة :
ـ متقلقش إنت معاك ثعلب القانون .
ضحك فريد بخفوت، وهو يقول :
ـ مش قلقان أكيد .. ربنا معاك .
نهض كريم وهو يرتب أغراضه استعدادا للرحيل، ثم قال :
ـ أنا مضطر أستأذن لأني مشغول جدا ، ولو في أي جديد هتابعه معاك بالتليفون..
أومأ فريد وهو يمد يده ليصافحه وهو يقول:
ـ في انتظارك.. ربنا معاك.
انصرف كريم وبمجرد أن انفرج الباب ودخلت زينب التي بدا على ملامحها الحزن الشديد ، فهتف فريد على الفور بصبر نافذ :
ـ فين نغم ؟
أجابته زينب والحزن يرتسم في عينيها :
ـ نغم قالتلي إنها عاوزة تشم هوا لوحدها ..
انقبض قلبه على الفور ومد يده في نفس اللحظة نحو هاتفه ليقوم بالاتصال بها وما إن سمع صوتها حتى تنهد براحة وهو يقول :
ـ انتي فين يا نغم ؟
أجابته بنبرة حاولت أن تبدو هادئة وساكنة قدر المستطاع :
ـ أنا تحت .. متخافش مهربتش .
زفر أنفاسًا مثقلة، ثم قال بحدة خافتة :
ـ تحت بتعملي إيه ؟!
أجابته بحنق :
ـ هكون بعمل إيه يعني يا فريد ؟! بشم شوية هوا
تنهد وقال :
ـ طيب متتأخريش علشان وحشتيني .
تنهدت بأسى وقالت باستسلام :
ـ طيب جاية .
وأنهت الاتصال ، بينما هو نظر إلى زينب وهو يقول :
ـ إيه اللي حصل بعد ما خرجتوا ؟!
نظرت إليه زينب بتردد، لم تعرف هل تصارحه أم لا ؟! ولكنه هتف بإصرار :
ـ اتكلمي يا زينب .
همت زينب أن تنطق لكن هاتفه الذي رن منعها، التقط فريد الهاتف وأجاب مكالمة أخيه قائلا :
ـ انت رحت فين يا حسن ؟
ـ معلش يا كبير أنا خرجت أشرب سيجارة وبعدها طرأ لي كام مشوار كده بخصوص المزرعة قلت أخلصهم .. حصل حاجة في غيابي ؟!
تنهد فريد ساخرا وهتف بيأس :
ـ حصل حاجات .. نسيم عرفت كل حاجه تقريبا ..
ـ كل حاجه ازاي ؟!
تنهد فريد بتعب ومرر يده يدلك جبهته بإرهاق وقال :
ـ غالبا هي راحت على الڤيلا يا حسن ..
ـ الڤيلا !!
ـ أيوة .. بعد اللي عرفته أعتقد هتحب تسأله أو تواجهه، روح وراها معلش متسيبهاش لوحدها وخدها وصلها بيتها .
ـ طيب.. طيب متقلقش ..
ـ ماشي ، شوف هيحصل إيه وبلغني .
أنهى فريد الاتصال ونظر إلى زينب ليكمل حديثه، ولكن انفرج الباب ودخلت نغم تطالعه بابتسامة هادئة تحاول بها أن تواري حزنها وضيقها..
ولكنه يعرفها جيدًا… يعرف أن تلك الابتسامة تترك خلفها جرحًا نازفًا، وارتباكًا موجعًا، وشعورًا خانقًا بعدم الاستحقاق. يعرف أنها حين تتألم تصمت، وحين تُهان تنكمش إلى داخلها، وأن أول ما يخطر ببالها دائمًا هو أن تتوارى… أن تختفي.
وما إن وقعت عيناه عليها حتى رفع يده نحوها بإشارة خافتة، كأنما يستدعي روحها قبل جسدها.
اقتربت منه ببطء، تلتهم المسافة بينهما خطوة بعد خطوة، حتى إذا ما باتت أمامه تمامًا، امتدت يده يشدّها إليه دفعة واحدة.
تعانقا بقوة…
بقوة كأن هذا العناق محاولة جديدة لترميم كل ما انهار.
شعر بارتجاف كتفيها، وبأنفاسها الساخنة تتخلل صدره، وبذلك الألم المكتوم الذي تحاول أن تخفيه عنه وعن العالم كله.
شدّ عليها أكثر، حتى كاد يدمج أنفاسها بأنفاسه، وكأن ذراعَيه وحدهما هما الحائط الأخير بينـها وبين العالم الذي يجرحها.
ولمدة طويلة، لم يقدر على النطق… كان فقط يحتضنها
وكأن هذا العناق وحده اعتذار، ووعد، وحماية، ومحاولة مستميتة لإيقاف نزيف قلبها.
حينها غادرت زينب الغرفة، تاركةً خلفها صمتًا يتيح لهما قليلًا من الحرية، شعر فريد بأن الفرصة انفتحت أمامه أخيرًا ليقترب منها… ليُرمّم شيئًا مما كُسر في قلبها.
غمرها بقبلاته، بفيض حارٍ يشبه الرجاء أكثر مما يشبه الحب…
قبَلها وكأنه يحاول أن يمحو عنها كل كلمة سمعتها، وكل إهانة طالتها، وكل جرح لم يستطع حمايتها منه.
وكأنه يعترف، بطريقته، بأنه عجز… وأنه يعتذر، ويعتذر، ويعتذر.
لكن شيئًا ما كان مختلفًا.
جسدها بين ذراعيه كان جامدًا… لا يستجيب له كعادته، لا يقاوم ولا يبادله الاندفاع ذاته.
وحين ابتعد قليلًا ليرى وجهها، صُدم بملامحها…
بعينيها المغمضتين كمن يُسلِّم أمره، وبدموعٍ تتساقط في صمت موجع، كأنها لم تجد حتى قوة البكاء بصوت.
زفر بحزن أثقل صدره، ثم رفع يديه برفقٍ حنون، يمسح خديها النديّين، وملمس دموعها كان كافيا ليشعل داخله وخزًا مريرًا، جعله يقول بصوتٍ يختلط بالضيق:
ـ نغم… متزعليش من نسيم. أكيد ما كانتش تقصد تضايقِك.
لم ترد. نظرت إليه بصمتٍ تعرفه جيدًا؛ صمت لا يحتجّ ولا يستنكر، صمت مُنهك يعلم أن الجدل لا يغيّر شيئًا… سواء كانت نسيم قد قصدت أم لم تقصد، فقد تأذّت بالفعل، ولن يُصلح ذلك أي تبرير.
اكتفت بأن أومأت، ثم ارتمت في حضنه، كأنها تبحث عن ملاذٍ واحدٍ تبقّى لها في هذا العالم.
كانت تحتاج عناقه بشدة… عناق صادق من الرجل الوحيد الذي لم يخذلها قط، الرجل الذي يرمّم ما يكسره الآخرون، ويصلح ما يفسده العالم من حولها.
بين ذراعيه بدت قليلة الحيلة بشكلٍ أشعره بوخزٍ لاذعٍ في داخله… يعرف أنها مجروحة في العمق، وأن كلمة واحدة من نسيم جعلتها تشعر بالوحدة، بالخذلان، بأن الحلم الذي صدّقته يومًا—أن تكون فردًا من العائلة—قد تلاشى في لحظة.
ترجّل بيده فوق شعرها بحنو، وهمس قرب رأسها:
ـ أنا بحبك يا نغم… بحبك من كل قلبي.
ثم ضمّها إليه بقوة، كأنما يخشى أن تنهار لو تركها لحظة واحدة:
ـ انتي روحي… انتي أغلى عندي من النفس اللي بتنفسه.
كانت تدرك أنه يحاول لملمة كسرها، يحاول جمع شتاتها، يحاول أن يكون لها سندًا أمام هذا العالم القاسي. لكنها أيضًا تعرف أن هناك جرحًا ما زال ينزف في قلبها… جرحًا لا يندمل بسهولة.
أحاطت خصره بذراعيها، وأسندت رأسها إلى صدره، بينما دموعها تنساب بصمتٍ يشبه الانكسار.
كانت تتذكر نظرة نادية… كلماتها السامة… الجرح القديم الذي أعادها إلى نقطة الصفر دون رحمة.
كان يحاول تهدئتها، لكنه عاجز عن محو ألمها. رفع وجهها بين كفيه، يتفقد ملامحها بنظراتٍ تفيض بالحب وقال:
ـ مش عايز أشوفك زعلانة بالشكل ده… علشان خاطري.
أنا بستقوّى بيكي وانتي عارفة .
طوّقت عنقه بذراعيها؛ فضمّ خصرها بقوة حتى كاد يغيب كله بين كفيه، وكأن ضلوعها الهشة تذوب تحت وطأة دفئ يديه. حاولت أن تتماسك، أن تكتم شهقتها، لكنها لم تستطع… وانفلتت منها الكلمات بلا قصد، بلا ترتيب:
ـ أنا آسفة.
أخفض ذراعيه ببطء على ظهرها، وأبعد رأسه قليلًا لينظر إليها، حاجباه معقودان بقلق واضح وهو يقول:
ـ آسفة على إيه؟!
ارتجفت شفتاها وهي تبكي بكاءً مُرًّا أثقل صدرها:
ـ أنا عرفت الكلام اللي قاله عمر… وبسببه انت تعبت بالشكل ده.
اتسعت عيناه بدهشة حادة:
ـ عرفتي منين؟!
أغمضت عينيها وكأنها تحاول الهرب من اللحظة، وابتلعت ريقها بصعوبة وكأنه يجرح حلقها، ثم قالت بصوت منكسر:
ـ نادية هانم… رمت كلمتين قدّام زينب علشان تخليني أفهم كل حاجة…
وتابعت بطريقة هادئة وبصوت يملؤه الخزي :
ـ فقالت إن عمر قالّك إنك زي ما اخترت واحدة…
توقّف صوتها فجأة، لم تستطع أن تكمل أو تنطقها، سقط رأسها منكسًا، وانفجرت في بكاء حارّ، ثم هتفت بحشرجة محمّلة بالخزي:
ـ مش هينسوا إني كنت كده أبدًا… وكل ما يحبّوا يوجعوك هيوجعوك بيا.
أنا بقيت نقطة ضعفك يا فريد… وأنا مكنتش أتمنى أبدًا إن بعد كل اللي عملته علشاني أكون عبء عليك بالشكل ده.
لم تسعفه الكلمات، لم يجد جملة واحدة تُناسب حجم الجرح الذي يراه ينهشها أمامه. اقترب منها أكثر، ضمّ وجهها بين كفيه، وطبع فوق كل جفن باكٍ قبلة حانية، كأنه يحاول أن يطفئ النار التي أشعلوها فيها، ثم قال بصوت مرتجف بالعاطفة:
ـ انتي مش عبء عليّا… ولا هتكوني.
انتي نصي التاني يا نغم…
انتي الحاجة الحلوة في حياتي… الحاجة الوحيدة اللي عمري ما ندمت عليها .
زفرت نفسًا مُتعبًا، تشعر وكأن روحها كلها مكدودة، أسندت كفيها على وجنتيه، وهتفت:
ـ أنا السبب في اللي انت فيه دلوقتي ، أنا السبب في كل المتاعب اللي في حياتك يا فريد .. هتفضل طول عمرك تتعاير بيا وبإنك اخترتني .. قبل كده سالم باشا قالها ، ودلوقتي عمر .. ونادية هانم ..
تذكر كيف أهانها والده على مرأى ومسمع من الجميع، ثم كيف جاء الدور على عمر ـ الذي تظنه أخًا ـ ليغرس السكين الأعمق في قلبها ..
واليوم... جاءت نسيم لتقصيها من العائلة أمامه دون خجل… وكأنه لا يكفي كل ما عانته ..
لم يستوعب كيف يتجرأ أحد على مسّ كرامتها، وكيف يقف هو مكتوف اليدين أمام كل ذلك.
صار شعور ثقيل يسحق صدره شيئًا فشيئًا. كأن أحدهم انتزع الهواء من حوله، وتركه يواجه حقيقة كان يخشاها أكثر من أي شيء آخر. أحسّ بسخط مرير يجتاحه، سخط على أخيه، على أبيه، على أخته .. على العالم… وعلى نفسه قبل الجميع.
كان الغضب يتشابك داخله مع إحساس موجع بالعجز؛ فعلى الرغم من كل محاولاته لحمايتها، كانت الإهانات تصل إليها دائمًا، تتسلل من بين أصابعه وكأنه لا يملك على هذا الكون أي سلطة. هزّه الشعور بأنه فشل مجددًا في أن يكون لها سندًا، وأنه مهما حاول، تظل عائلته مصدر ألمٍ لها بدلًا من أن تكون مكانًا آمنًا تحتضنها.
كان يشعر بأن داخله شيئًا ينكسر. خليط من الضيق وقلة الحيلة، ومن شعور دفين بأنه لم يعد قادرًا على حمايتها من بطش عائلته، مهما حاول، ومهما تشبث بها.
ارتخى كتفاها وهوت دموعها بحرقة، ثم أفرغت ما يثقل قلبها قائلة :
ـ ليه الناس مبترحمش ؟! ربنا بيسامح وبيغفر ، ليه هم لأ ؟!
فريد أنا تعبت .. قرفت من نفسي وزهقت من محاولاتي إني أصلح من نفسي وأكون أحسن علشانك وعلشان نفسي وعلشان أشرفك قدام عيلتك .. لكن مش نافع ، حاولت كتير مش نافع ، أنا آسفة .
غطت وجهها بكفيها، ثم انخرطت في بكاء أشد وأعمق، فضمها فريد إليه، إذ إن كان لا بد أن تبكي… فلتبكِ على صدره.
حاول أن يلتقط كلمات تواسيها، يبحث بداخل قلبه عن شيء يخفف عنها، وبعد صمتٍ مرير قال وهو يمسح ذراعها برفق:
ـ نغم .. مش مهم أي حد ، المهم أنا وانتي شايفين بعض ازاي ، أنا شايفك أحسن وأنقى إنسانة في الدنيا ، عارف إنك طيبة وقلبك أبيض وجواكي حلو أوي بس للأسف اللي حواليكي استغلوكي بأبشع الطرق وده مش ذنبك لأنك كنتي صغيرة ومش فاهمة .
أبعد يديها عن وجهها برفق، ثم رفع ذقنها لينظر في عينيها وقال :
ـ متضغطيش على نفسك، انتي بشر مش ملاك.. وهما كمان بشر مش ملايكة.. وكل واحد بيفكر يجرحك عنده غلطات وماضي مهبب بس متداري ..
أسقط رأسه للوراء لحظة، ثم أغمض عينيه وأخذ شهيقًا عميقًا قبل أن يتمتم:
ـ مفيش حد كامل يا نغم، اعرفي كده كويس.. كلنا بنغلط بطرق مختلفة، جايز انتي عملتي حاجة غلط في وقت انتي كنتي ضعيفة ومغلوبة على أمرك فيه .. لكن في غلطات كتير غيرك عملوها بدون مبرر ، الخلاصة .. انتي مش وحشة ، متفضليش تلومي نفسك وتأنبيها كل شوية على ذنب انتي توبتي عنه ..
رفعت رأسها إليه بنظرة تستجدي الطمأنينة، فمرّر إبهاميه أسفل عينيها يمحو آثار الدموع، وقبّل جبينها بدفء وهو يهمس:
ـ انتي محتاجة تقوي وتنشفي شوية.. أوقات بيكون فرض علينا نفضل دايما تحت الضغط علشان كده لازم نسلح نفسنا كويس ونكون مستعدين إننا نواجه، لازم تعرفي حقوقك وتدافعي عن نفسك بنفسك، متستنيش حد يجيبلك حقك، ولا حتى أنا ..
وتابع :
ـ عارف إني بالنسبة لك الأمان والسند وأكيد أنا هفضل طول عمري سندك وأمانك لكن في أوقات هتكوني مضطرة تواجهي بنفسك من غيري ..
ثم أمسك يدها بين يديه بإحكام وقال بنبرة حاسمة وحنونة معًا :
ـ متسمحيش لحد يهينك أو يأذيكي أبدا مرة تانية مهما كان هو مين .. ومتعمليش حساب لحد بيحاول يقلل منك مهما كان هو مين .. اعرفي حدودك… وعرفيها للي قدامك. خلي الناس تفهم إن ليكي كرامة، وإن ليكي شخصية مينفعش حد يتجاهلها .. خدي حقك، وخليكي شرسة وانتي بتدافعي عن نفسك قدام أي حد ، كسري واقلبي الدنيا كلها ولا يهمك .. أنا وراكي .
لم يكد يُتم كلمته الأخيرة، حتى اندفعت نحوه تحت أثر انكسارها وشوقها، وعانقته بقوة لم يعهدها منها قط، وكأنها تتشبث بالحياة ذاتها. تمتمت بصوتٍ مختنق، هارب من أعماقٍ طال كتمانها:
ـ أنا بعشقك.
الكلمة وحدها كانت زلزالًا ضرب كيانه في الصميم…
حطّمت أسواره، هدمت دفاعاته، وخلخلت كل ما ظن أنه قادر على السيطرة عليه.
تعشقه؟
إذن فقد تجاوزت الحب… تجاوزته بمراحل، وهو يعرف ذلك جيدًا. يعرف صدقها، يعرف كيف تُقال تلك الكلمة، يعرف أنها لم تنطق حرفًا واحدًا منها إلا وهي تعنيه كاملًا.
ضمّها إلى صدره بعناق ضارٍ، احتواها كمن يخشى أن تفلت من بين يديه.
ولوهلة، تمنّى لو أن الظروف لم تكن كما هي… لو لم يكونا هنا، في هذا المكان البارد. كان سيمنحها ما يفوق العشق والوله، ما يمحو العالم حوله ولا يُبقي إلا هي.
ومع انسياب أنفاسها التي بدأت تهدأ وتستكين في حضنه، أصدر هو فرمانًا صامتًا بإعادتها إلى بعثرتها…
فأطبق شفتيه على شفتيها في قبلة جائعة لا تعرف التردد.
داهمها شعوره، أغرقها بشوقه، وكأنه يعتذر، يثور، يُعلن ملكيته… كل ذلك في لحظة واحدة. وهي —للمرة الأولى— سلّمته شفتيها طواعية، دون خوف، دون مقاومة… وكأنها كانت تنتظره.
اقترب من أذنها وهمس، والكلمات خرجت منه قبل أن يقدر على كبحها، قبل أن يُدرك حتى أنه قالها:
أنه مُتيّم بها، أنه يحتاج قربها أكتر من أي وقت مضى.
كلماته انسابت إلى قلبها كشرارة حارقة… ألهبتها، أوقفت عقلها، لكن لم تدفعها للتراجع. ربما كانت شجاعة لحظية، وربما كان شيئًا آخر أقوى، أعمق… لم تفهمه، لكنها استسلمت له.
حتى شعرت بيديه المهذبتان اللتان كانتا تحيطان بخصرها في حدود الاحترام، أخذتا تنزلقان بتردد خافت، تبحثان، تكتشفان… كأنهما تعيدان تشكيلها بين يديه.
فجأة سقطت على رأسها الحقيقة.
تراجعت بخطوة حادة، ورفعت عينيها إليه بحدة مرتجفة وهي تهتف:
ـ فريد… إحنا في المستشفى!!
تجمّد لثانية، ثم رفع يده ببطء إلى مؤخرة عنقه، يمرر أصابعه عليها في عصبية مكتومة، بينما اشتعلت نظراته بنيران الغيظ والرغبة معًا وهو يتمتم بحدّة متحسرة:
ـ على أساس إننا برّه المستشفى خاربينها يعني؟!
رمقته بحنق خافت وتحاول أن تستعيد هدوءها وترمم ملامحها التي بعثرها بفعله.
حملت قنينة الماء وارتشفت منها قليلاً، قبل أن تدخل إلى حمام الغرفة لتغسل وجهها بحثاً عن الثبات الذي تهدّم للتو. بعدما انتهت، خرجت من الحمام تتطلع نحوها فوجدته مستلقيًا وقد ألقى رأسه إلى الخلف ومدَّ ذراعيه بجانب جسمه وكأن الإرهاق قد تمكن منه بالكامل. مغمضًا عينيه في محاولة لاستعادة توازنه.
اقتربت منه فإذ به ينظر إليها وقد استعاد جديته سريعًا، ربت على فراغ بجواره على السرير لتجلس، ففعلت، فإذ به يقول بنبرة واثقة :
ـ هاتي تليفوني من جنبك .
ناولته هاتفه بالفعل، فإذ به يحيط كتفها بذراعه، ويقرب فمه من جبهتها ليطبع على جبينها قبلة عميقة .. نظرت إليه وقالت :
ـ هتعمل إيه ؟
أجابها بجدية مفرطة :
ـ هحجز الاوتيل اللي هنعمل فيه الفرح ..
التفتت نحوه فجأة وهتفت بذهول :
ـ فرح وانت خارج من عملية وتعبان بالشكل ده ؟!
رفع حاجبه متعجبًا وهتف بحنق مماثل :
ـ أنا مش تعبان ولا حاجة .. أنا زي الفل الحمدلله.
فتح هاتفه وشرع في تصفح قائمة الفنادق الفاخرة، مستعرضًا التفاصيل بعناية. تنقل بين الصور والتقييمات، يبحث بتركيز عن المكان المثالي الذي سيحتضن حلمه، ويحول يومًا بهذا القدر من الأهمية إلى ذكرى لا تُنسى.
استوقفته صور لفندق فخم ، فأخذ يعرض الصور أمامها وهو يقول مبتسمًا :
ـ إيه رأيك ؟!
كانت حالتها مزيجًا معقدًا من المشاعر المتداخلة، حيث تسللت الرهبة والخوف بكل ثقلهما إلى قلبها مع كل صورة تتابعها للفندق الذي سيحتضن يومها المنتظر. ومع ذلك، لم تستطع تلك الأحاسيس المقلقة أن تحجب النور الذي كان يشع من داخلها، إذ كانت السعادة تنمو بداخلها كغصن أخضر يحمل آمالًا جديدة.
كانت نظراتها إلى الصور تحمل طيفًا من الأحلام التي اقتربت من أن تتحول إلى حقيقة، وكأنها تخطو ببطء ولكن بثقة نحو لحظة طالما انتظرتها.
ـ حلو أوي .
قالتها وهي تنظر إليه بعينين تلمعان بالفرح، لكنها سرعان ما عادت لتكمل بتردد :
ـ بس .. اللي يخلينا نستنى كل ده نصبر يومين لحد ما تبقا كويس .
هز رأسه نافيّا وقال :
ـ متقلقيش عليا، وبعدين أنا خلاص خدت قرار ومش راجع فيه المرة دي، من النهارده مش هعمل اعتبار لأي حاجة .. لا مرض ولا ظروف ولا أي حاجة .. كفاية أوي لحد كده .
شرد لحظة ، ثم نظر بهاتفه من جديد وهو يتابع اجراءات الحجز، ونظر إليها وقال :
ـ يناسبك الاتنين الجاي ؟!
نظرت إليه مصعوقةً، متفاجئةً بتسرعه، وفتحت فمها لتعترض ولكنه قاطعها قائلا :
ـ أنا شايف إنه مناسب ..
ـ الاتنين اللي هو كمان ٣ أيام ؟!
أومأ بجدية مفرطة بينما هي ظلت تنظر إليه وقالت :
ـ طيب على الأقل خليه الخميس يكون فات أسبوع ..
نظر إليها بطرف عينيه وقال محتجًا :
ـ أنا عايزك تلغي يوم الخميس ده من حياتك تماما .. أنا بقيت أخاف أنطق حرف الخاء حتى !
ضحكت بخفوت فتابع :
ـ وبعدين ماله الاتنين ؟! هيقول لأ يعني ؟!
تنهدت وهي تدلك جبهتها بتوتر، ثم قالت :
ـ طيب و عمر ؟!
نظر إليها وقال بحدة خافتة :
ـ ماله ؟!
ـ هنعمل فرحنا وانت متخانق معاه ؟!
أسقط رأسه للخلف مرة أخرى بإرهاق وقال :
ـ ما أنا قلت لك .. مش هعمل اعتبار لأي حاجة المرة دي.. خلاص كفاية عليهم أوي اللي ضحيت بيه علشانهم، هو العمر إيه علشان أسيبه يضيع من ايديا بالشكل ده ؟! الواحد لازم يكون منصف في حق نفسه ولو شوية على الأقل .
تنهدت بشيء من التردد، ولم تجد ما تقوله. بالطبع لن تعارضه، فهو يبدو مصممًا على قراره بإقامة الزفاف، وما من فائدة للجدال الآن.
وفي ذات اللحظة، لا يمكن إنكار أنه على صواب. إلى متى سيظلون يؤجلون سعادتهم ويضعون رغبات الآخرين فوق أحلامهم؟ ألا يحق لهم أن يستمتعوا بلحظات خاصة ينفردون بها، وأن يختبروا إحساس السعادة الذي طالما انتظروه بفارغ الصبر؟
قام بتأكيد حجز اليوم، ومن ثم أتم إجراءات الدفع، ثم نظر إليها وقال مبتسما :
ـ خلاص حجزت ..
وغمز إليها غمزةً عابثة وهو يخفض ناظريه نحو شفتيها ويقول :
ـ الاتنين موعدنا يا جميل يا مقطقط انت .
أشاحت عنه ببطء وهي تحاول هزم ذلك الخوف الذي تسلل إليها، لتمنح فرصة إلى الفرح أن يحل محله .. ومن داخلها تقر أنه قد يكون الآن هو الوقت المناسب ليمنحوا أنفسهم تلك الفرصة التي يستحقونها، ليعيدوا تعريف حياتهم، ويزرعوا فيها بذور الفرح والتجدد. ربما آن الأوان ليبدؤوا فصلاً جديدًا، كالربيع الذي يحمل معه وعدًا بالتجدد والأمل، ولينثروا على أيامهم البهجة والسكينة. لمَ لا يختبرون هم أيضًا طعم الفرح النقي الذي أهملوه طويلاً، ويأخذون نصيبهم الطبيعي من الراحة والسعادة التي لطالما بدت لهم بعيدة المنال؟ الآن هو الوقت، اللحظة المناسبة لهم كي يختاروا أنفسهم دون تأجيل أو تردد.
༺═──────────────═༻
#يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق