رواية غناء الروح الفصل الحادى عشر 11بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل الحادى عشر 11بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
الفصل الحادي عشر..
آلامٌ تسري في سائر جسدها، وجدرانُ صدرها تنقبض بشدة، وكأن روحها ستذهب إلى بارئها، عيناها متجمدتان تأبيان البكاء؛ فلم تدرك أكان ذلك من شدة الصدمة أم لأنها وصلت إلى خط النهاية، ممسكة بخيوط الخيانة أخيرًا بعدما كانت مجرد أقاويل ليس إلا!
ابتعدت خطوة لتفسح لها المجال، فرأت جمالها عن قرب، كانت جميلة حقًا، بل إنها أجمل منها! روحها مشعة بالأمل، ووجهها يتراقص بابتسامات يغمرها الدلال، وعيناها تفصحان عن إعجابها به، ربما كان هو أيضًا معجبًا بها، وقد دفعها عقلها إلى توهم ذلك، خاصة بعدما سمعت صوته المتحشرج:
-حسناء ليه جاية في وقت زي ده؟!
صوتها كان ناعمًا جدًا، يحمل كل سُبل الأنوثة المفرطة، وهي تجيب:
-نسيت حاجة تخصني يا دكتور، فقولت آجي أخدها، مكنتش أعرف إن حضرتك بايت النهاردة في العيادة!
كلماتها السامة كانت كخنجر اندفع بقوة إلى فؤادها، فمزقه إربًا، تلك الحسناء تخبرها بطريقة مبطنة بأنها تعلم سر علاقتها بزوجها، وأنها ليست سوى علاقة مهزوزة هشة تحمل صورة منمقة من الخارج، بينما تنطوي من الداخل على صراعات وشقوق يصعب ترميمها!
-طيب ادخلي يا حسناء جيبي اللي انتي عايزاه وبعد كده ماتبقيش تنزلي متأخر من بيتك...استنى لتاني يوم مش هيحصل حاجة!
أغلقت عينيها بوجع وهو يدهس فوق كرامتها أكثر، كان وقع كلماته أمر من العلقم! ربما سابقًا كانت تلجأ إلى الحيل للدفاع عن علاقتهما وبتر أي جذور متفرعة قد تتسبب في فساد هيئتها، لكن الآن، لقد سُحب منها البساط، وفقدت أداتها السحرية في السيطرة على لجام جماحه.
ظلت على نفس وقفتها، صامتة، تغلق عينيها وتصر على إغلاق أذنيها بشتى الطرق، حتى لا تستمع إلى أطراف حديثهما، الذي قد يبدو للبعض عاديًا، لكنه كان بالنسبة لها كوقع حجر ثقيل يسقط على رأسها من مكان عالٍ جدًا.
استفاقت من ثورة مشاعرها على يده الممسكة بيدها، يجذبها خلفه للدخول إلى الشقة، بينما تلك الأفعى تلونت أمامهما ببسمة صافية، مودعة إياهما وهي تتخذ طريقها للمغادرة، أما "نوح" فانتظر ذهابها، ثم قال بصوت مشحون بمشاعر مختلطة:
-في أيه يا يسر، ليه جاية في وقت زي ده؟
جلست ببرود على أقرب مقعد يقابلها، وانتزعت نبرة الضعف من حبالها الصوتية وهي تردف بجمود:
-جاية اتفق معاك على سبب طلاقنا.
بسمة جانبية ساخرة احتلت محياه، وهو يرمقها ببرود مماثل:
-السبب واضح، هنلف وندور ليه؟!
احتقنت ملامحها، ونظرا إليه غير مصدقة:
-أنت عارف كويس أني ماقدرش اقول لبابا إنك عايز تتجوز عليا وإني كنت موافقة على كده من الاول!
تبجح بها متعمدًا:
-ليه هو مش من حقي! بطلب حاجة غريبة مثلاً، ابوكي نفسه لو مش لاقي الراحة مع أمك كان زمان ده قراره.
هبت واقفة، تنفجر فيه بغضب بالغ، وقد برزت عروق كفيها من فرط انفعالها:
-ما تقولش بس مش لاقي الراحة، قول إنك راجل عينك زايغة، ومايملاش عينك غير التراب، أنت من قبل جوازنا وأنت متفق معايا إنك هتتجوز عليا، من قبل ما تشوفني هريحك ولا لا!
-حلو اووي، ما هي سهلة اهو، روحي قولي لبابا حبيبك، أنا للأسف يا بابا غلطت ومكنتش في وعيي وأنا بوافق على خطوبة كان فيها شرط أساسي إن نوح يتجوز عليا، تصدقي أبوكي مش هيزعل خالص لأني كنت واضح وصريح معاكي من الاول، مكدبتش عليكي وضحكت على سيادتك، بالعكس أنا سيبتك لما انتي رفضتي.
اختصرت المسافة بينهما بجنون، وبدأت تضربه على صدره بقبضتيها الضعيفتين وهي تتحدث بنبرة مكتومة غاضبة:
-أنت مابتحسش بحد ليه، مابتفكرش غير في مصلحتك ليه، قلبك ده أيه حجر، أنت جمعت أنانية الدنيا كلها في قلبك.
أوقفها ممسكًا بها بقوة، وبتر أي حديث لها وهو يردد بنبرة مماثلة للقسوة التي تحدثت بها:
-عمري ما كنت أناني، أنا مافكرتش في نفسي غير لما كبرت، يسر من الآخر كده هي مرة واحدة بس هعيشها، يا عيشها زي ما أنا عايز يا ملهاش لزمة.
غرست أظافرها في يده التي أمسكت بها بغل:
-أنت أسوء اختيار ليا، نفسي اغمض عيني وافتحها والاقيك مش في حياتي، نفسي انساك وانسى حياتي معاك.
-انتي عندك شيزوفرينيا، انتي كنتي موافقة على شرطي من الاول، جاية دلوقتي تندبي ليه، أنا ممكن ماطلقكيش واسيبك زي اللي رقصت على السلم، وصورتك الاجتماعية اللي انتي بتحاولي ترسميها لنفسك بردو تتهز ويتقال إن جوزك اتجوز عليكي، مش ده اللي انتي خايفة منه!، خايفة تتكسري قدام الناس، أصل أنا مافرقش معاكي.
-معاش ولا كان اللي يكسر بنتي يا دكتور، وهتطلقها غصب عنك ورجلك فوق رقبتك، أنا مايشرفنيش إنك تبقى جوز بنتي.
صدح صوت "الحاج فاضل"، يهز أرجاء المكان بقسوة وكره، وهو ينظر باشمئزاز إلى "نوح"، الذي بدت على ملامحه آثار الصدمة من وجوده وسماعه لحديثهما، قال "نوح" بنبرة تفتقد إلى اللباقة:
-أنت ماتعرفش حاجة، يا ريت تسمع...
أمسك " فاضل" بابنته بقوة وجذبها نحوه وهو يرد بحسم حاد:
-مايهمنش اسمع كلامك، اللي يهمني بنتي، وورقة طلاقها توصلنا من غير شوشرة.
-وأنا بقى مش هطلقها، وزي ما قولتلها بقولك، هي هتبقى على ذمتي لآخر نفس فيا، وهعمل اللي أنا عايزه وهتجوز عليها، ده حقي وشرع ربنا يا حاج، أيه هتعترض عليه!
-يبقى اشتريت عداوتي يا نوح، وعلى جثتي تكمل مع بنتي لحظة.
سحب "فاضل" ابنته خلفه بقوة، حتى كادت تسقط عدة مرات، لولا يده القوية الممسكة بها، أما "نوح" فقد آخر ذرة من تعقله، واندفع يلقي أي شيء يقابله أرضًا بجنون، وأنفاسه تتسارع بجنون مفرط، وكأنه مصارع فقد صوابه في حلبة المصارعة!
**
"قبل قليل"
كان الحاج "فاضل" يسير خلف ابنته بحذر، بعدما رآها تسير خلسة ليلًا خارج المنزل، ثار عقله بجنون، إذ هاجمه الشك كعدو مباغت يحمل جميع أسلحته الفتاكة التي كادت تفتك باتزانه، كانت دقات قلبه تقرع كطبول الحرب وهو يتابع خطوات ابنته حتى وصلت إلى مقر عيادة زوجها "نوح"، حينها ارتاح قلبه قليلًا، وجلس في سيارته يأخذ أنفاسًا طويلة قبل أن يصعد لفهم ما يدور بينهما.
بعدما خف التوتر قليلاً وسكنت بعض مخاوفه، صعد إلى الطابق الذي تقع فيه عيادة "نوح"، وهناك وجد فتاة لم يعرفها تقف على أعتاب الباب، تسترق السمع إلى شجار محتدم بين ابنته وزوجها، عند ظهوره أمامها، ارتبكت وغادرت بسرعة ولهفة ممزوجة بالخوف.
اقترب خطوة من الباب، ليجد نفسه يسمع ما لم يتمنى سماعه يومًا، ارتجف قلبه بصدمة بالغة، وحين أدرك حديث "نوح" وهو يقلل من شأن ابنته، انفجر غيظه واندفع كأَسدٍ ثائر، يهجم عليه متوعدًا بأشد أنواع الانتقام!
****
ألقى "يزن" بجسده فوق فراشه بإرهاق، بينما كان عقله يدفعه دفعًا للبحث عن "سيرا" على وسائل التواصل الاجتماعي، قرار حاول تجنبه طيلة الأيام الماضية، لكنه أخيرًا أعلن فشله لأول مرة، وترك هيبته وهالته التي كان يحاول فرضها حول نفسه مع الفتيات جانبًا، بدأت أسوار قلعته تنهار تدريجيًا دون أن يشعر.
ابتسم بانتصار حين وجد حسابها، وبدأ يتصفح صفحتها الشخصية، يقرأ منشوراتها بعناية في محاولة لفهم مكنونات شخصيتها، فجأة، قابله منشور ساخر على صفحتها.
"تعرف منين إنك عبيط لما تحكم على شخصيتي من خلال بوستاتي"
حمحم بحرج حين شعر أن المنشور موجه إليه رغم أنه نُشر بتاريخ سابق، وزفر بحنق وهو يهمس لنفسه:
-افهمك ازاي أنا يا شيخة!
دارت عجلة ذهنه بحثًا عن طريقة للتقرب منها دون أن يُظهر أي تقليل من شأنه، فقد كانت ذاته الجامحة لا تزال تحتفظ بصورة الفارس الذي تقع تحت قدميه الفتيات، يتطلعن إلى لفت انتباهه ويتهافتن على الإعجاب به، بينما هو يتمتع بنظراتهن المتلهفة للإيقاع به.
زفر بحيرة بعدما فشل في حسم الجدال القائم داخله، إلا أن اندفاع الباب فجأة جعله ينتفض بغيظ من دخول "زيدان"، فصاح بضيق:
-حلو يعني لما اهزئك؟!
-احترم نفسك يالا أنا أخوك الكبير، وبعدين انت يا بجح جايب الجرأة دي منين؟ بتعمل اللي عايزه وسايق فيها ولا همك حد.
قالها "زيدان" بانفعال وغيظ، وفتح "يزن" فمه لتوبيخه، لكن ظهور "سليم" المباغت لهما جعله يغلق شفتيه على الفور، نظر "سليم" إليهما بصمت طويل قطعه بعد فترة من التوتر التي سيطرت على "يزن":
-في أيه؟ انت عملت حاجة يا يزن؟
كاد "زيدان" أن يرد بحماقة كعادته، لكن "يزن" استبق الحديث وقال بجدية مبالغ فيها:
-لا لا مفيش أي حاجة، أنت عارف زيدان مايهدلوش بال إلا لما يفرغ طاقته في أي حد، فالظاهر مقدرش على مليكة جايلي بقى.
رفع "زيدان" أحد حاجبيه باعتراض واضح، فاقترب منه "يزن" وقبل وجنته بابتسامة تحمل الرجاء، في تناقض مع صوته المداعب:
-مش كده يا زيزو، بس أنا اخوك حبيبك وهستحملك في أي وقت.
كانت نظرات "زيدان" غير الراضية تنمّ عن انفجار قريب، فسارع "يزن" إلى ملء كفة تدليل أخيه ليهدئه، وقال بنبرة مازحة:
-حبيبي يا زيزو يا أحن أخ، اهدى كده وروق بالك، والله الواحد من غيرك مايسواش بصلة!
قرأ "زيدان" الارتباك في عيني أخيه الطائش وقرر ألا يفصح عما حدث صباحًا، رغم نظرات "سليم" المليئة بالشك، والتي حاول بها فهم ما يدور، ومع ذلك، أظهر "سليم" عكس ذلك وقال:
-طيب اقعد يا يزن محتاج اتكلم معاك.
همس يزن بارتباك بسيط:
-استر.
-أحسن، الهي يولع فيك.
قالها "زيدان" بحقد خافت، فحمحم "سليم" بقوة، ليلفت انتباهما:
-أنا مابحبش الأسلوب ده، اللي عنده حاجة يقولها بصوت عالي.
-ها يا سليم عايزاني في أيه؟!
جلس "يزن" مكانه فوق فراشه وعلى الجانب الآخر جلس "زيدان" هو الآخر، أما "سليم" جلس على مقعد جلدي ضخم أمام فراش يزن، واضعًا ساقًا فوق الأخرى بغرور، قبل أن يتحدث بنبرة رخيمة:
-الادارة عندي شايفين إنك ناجح في التسويق وبتخلق أساليب جديدة عشان تجذب زباين للأجانص عندك، فكلموني استعين بيك، تحطلنا خطة نغير بيها أسلوب التسويق للمحلات عندنا.
مرت لحظة من الصمت عليهم، حتى تقابلت نظرات "زيدان" "ويزن" في حالة من الحيرة والارتباك تجاه جدية "سليم" المفرطة، وفجأة، ظهرت على وجه "يزن" ابتسامة عريضة ونظرة شقية، قبل أن يغمز لـ "زيدان" بغرور ويقول:
-أنا مش أي حد بردو، عشان تعرف قيمتي.
تابع حديثه بعنجهية وتعالٍ استفز "سليم":
-أنا كنت عارف أني ملك في الحتة دي، بس مكنتش اعرف أني مسمع لدرجادي.
اغتصب "سليم" بسمة سمجة، وهو يرد بفظاظة:
-هما قالوا بس أنا مش مقتنع بكلامهم، وشايف إن أسلوبك تافه ومفيش فيه أي ابتكار.
-بـــــــــــــــوم، طحن خواطر من الدرجة الأولى.
قالها "زيدان" بتسلية، متابعًا حديثهما باهتمام، مما أشعل فتيل الغيظ لدى "يزن"، لكنه أظهر عكس ذلك بنبرة لا مبالية:
-وجاي تكلمني ليه، أنا أعرف اللي مش مقتنع بحاجة بيرمها البحر، بسيطة ارمي كلامهم ورا ضهرك ولا كأنك سمعت منهم حاجة.
-لا ما أنا بحب ادي فرصة للشباب المبتدأ اللي زيك، واهو اسمع منك واللي يعجبني اعمله واللي مايعجبنيش ارميه في البحر.
فقال "يزن" بابتسامة مستفزة تعكس تسليته:
-بس أنا مش فاضي أفكرلك في حاجة تخص شغلك، أنا عندي هم ما يتلم وشغل لفوق راسي.
ضحك زيدان ضحكات متقطعة ساخرة:
-على يـــــــدي، اسألوني أنا.
بينما جز "يزن" على أسنانه حين شعر بالكلمات المبطنة من أخيه عن أحداث الصباح، رمقه بنظرة تحذيرية، قابلها "زيدان" بنظرة مستنكرة، لكنهما انجذبا لحديث "سليم" الجاد:
-أولاً مسمهاش شغلك، اسمها شغلكم، دي مش محلاتي لوحدي حتى لو أنت استقليت بنفسك في كارير تاني، ثانيًا أنت ملزم تفضي نفسك وتحاول تقنعني زي ما هما بيحاولوا يقنعوني ولا أنت بتستعين بحد في موضوع التسويق ده قول ماتتكسفش.
كتم "زيدان" ضحكته بصعوبة، مؤكدًا لنفسه أنه يكاد يشم رائحة الحريق المتصاعد من غيظ "يزن"، الذي انفجر قائلاً:
-يا سليم مفيش أي ابتكار، هو بيستغل وسامته على كام بوست وكام إعلان والدنيا ماشية معاه.
انفجر "يزن" باستفزاز وقال:
-ما تخليك في شغلك يا حضرة الظابط، ولما هي حاجة تافهه بتنزل صورك ليه وبيجيلك متابعين ليه؟!
رد "زيدان" ببرود:
-تسلية مش أكتر.
أطلق "سليم" تعجبه قائلاً:
-يااااه هي السوشيال ميديا لدرجة دي مهمة، تعرضوا شغلكم، وتنزلوا صوركم!
ضحك يزن بسخرية:
-يا سليم ده أنت قديم جدًا، ده في بلاوي بتحصل على السوشيال ميديا أنت لو عرفتها ممكن يجرالك حاجة! بس عارف عشان أنت اخويا وحبيبي وأنا مرضاش تتوه في العالم ده هساعدك.
هز "سليم" رأسه موافقًا وقال:
- انجز وقصر وقول هتعمل أيه يعني؟!
-شوية خطوات بسيطة بس الاول نصورك كام صورة حلوة في كام محل وسيبي الباقي عليا.
انعقد حاجباه بعدم فهم وسأل:
-هتعمل أيه بصوري؟!
-هيزغلل بيهم عين الزباين.
أردف بها "زيدان" بضحك متهكم، فرمقه يزن بضيق:
-قعدتك مع المجرمين أثرت عليك.
-خليك معايا وهتعمل أيه تاني؟!
استعاد "سليم" انتباههما بجدية، فحاول يزن استكمال حديثه بابتكار أفكار جديدة ليبهر سليم، الذي من الصعب جدًا إرضاؤه:
-هنجيب بنت ايدها حلوة وجذابة نعرض عليها الشغل الموجود ونعمل شوية فيديوهات صغيرة، ويا سلام لو انت ظهرت معاها في الفيديو بكام حركة الدنيا هتولع الدنيا.
قاطعه سليم ساخرًا باندفاع:
-وشمس تولع فينا.
ابتسم "يزن" ساخرًا وهو يراقب أخاه الأكبر، صاحب الشخصية القوية الذي لم يهاب أحدًا أبدًا:
-أنت بتخاف من شمس يا سليم؟ مكنتش اعرف عنك كده.
أخفى "سليم" ارتباكه ببراعة ورد بأسلوب فطن ونبرة صارمة:
-لا طبعًا، في فرق ما بين بخاف منها وبحترمها، أنا بحترم وجودها في حياتي.
حرك "زيدان" رأسه بيأس وسخرية في آنٍ واحد معقبًا على حديث أخيه:
-اقسم بالله أنت متربي عشر مرات، مجتمع النساء هيحبوك اوي، احتمال يعظموك ويعملولك تمثال.
سأله "سليم" بتهديد واضح:
-ليه هو أنت مابتحترمش مليكة مراتك؟!
أجاب "يزن" باستنكار:
-يا سليم هو ده بيحترم حد اصلاً، فكك منه وركز معايا أنت معترض على ايد البنت ليه إنها تعرض الشغل، ده أنا كنت هقولك هنجيب بنات تانية ونصورهم ونزلهم على كل السوشيال ميديا ونعمل حملة كبيرة.
حاول "سليم" إقناعه بطريقة أخرى، محاولًا إبعاد تلك الفكرة الشائكة:
-طيب ما أنا عندي فكرة أحسن، عم فارس ايده صغيرة ممكن نلبسه جوانتي أبيض ونعرض الشغل ونبعد عن الفكرة دي عشان مش مستريحلها.
اعترض "يزن" بقوة، غير راضٍ عما يحاول سليم إقناعه به:
-أيه يا سليم ده، انت لو قاصد تكره الناس فيك مش هتعمل كده، هتجيب البنات أنت ولا أجيبهم أنا على ذوقي.
نظر "سليم" إلى "زيدان" الذي كان يتابع النقاش بصمت، طالبًا رأيه بعينيه، فوجد الأخير يرد بسرعة وبنبرة غير راضية:
-أنا من رأيي تجيبهم انت، عشان ماجيبه هتبقى هباب على دماغنا.
صمت "سليم" قليلاً، ثم حسم رأيه وهو ينهض:
-خلاص هجيب أنا البنات على ذوقي.
شهقة لم يسمعها أحد خرجت من فم "شمس"، التي كانت تبحث عن "سليم"، وحين علمت أنه في غرفة "يزن"، اقتربت لتستمع إلى آخر الحديث، شعرت باقترابه من الباب، فركضت سريعًا نحو شقتها، متجاهلة نداء "مليكة" لها، هرعت إلى دورة المياه القابعة في غرفتها، وأغلقت الباب بإحكام، وضعت يدها فوق رأسها، تحاول استيعاب ما سمعته.
فتيات! أي فتيات سيختارهن على ذوقه؟! أيجب سؤاله، حركت رأسها برفض سريع، نافية تلك الفكرة، فهو ليس من السهل أن يجيبها بما يُرضي فضولها، أم تُراقبه من بعيد وتضعه تحت الأنظار؟
ضربت فكرة الخيانة عقلها كمطرقة حديدية، مما جعلها تهز رأسها بعنف وهي تقول:
-لا سليم لا يمكن يعمل كده، أنا واثقة فيه!
قالتها وكأنها تحاول إخماد ثورة الغيرة التي شعرت بمرارتها لأول مرة، انتبهت على طرقات الباب وصوت "سليم" يناديها، فقالت بصوت متحشرج:
-ايوه، جاية.
نثرت الماء فوق وجهها لتلطيف احمرار وجنتيها من فرط توترها، وما إن خرجت حتى اقترب منها مرددًا بقلق:
-مالك فيكي أيه؟!
-ماعرفش دايخة شوية، هروح اشوف قمر.
أجابته بنبرة تحمل بحة استعجب لها:
-تمام هستناكي، عشان واحشني.
تابعها بعينيه وهي تبتعد سريعًا، ثم وقفت على أعتاب الباب قبل أن تخرج، ممسكة بالمقبض بقوة، وسألته بلهجة تحمل استنكارًا:
-بجد واحشتك؟!
سألها بحذر، محاولًا فهم ما وراء كلماتها:
-أنتي شايفة غير كده؟!
ابتسمت بسمة شائبة وقالت:
-أنا شايفة كل خير.
ألقت كلماتها غير المفهومة بالنسبة له وأغلقت الباب خلفها، وقف مكانه يحاول استيعاب التغيير الطفيف في معاملتها وكأنها تبدلت، لكنه ألقى بالأمر خلف ظهره، معتقدًا أن النساء دائمًا ما تتقلب أمزجتهن.
****
في الأسفل، أرسل "يزن" طلب صداقة إلى "سيرا"، ثم أتبع ذلك برسالة نصية يطلب فيها لقاءها على انفراد، انتظر دقائق قليلة قبل أن يجدها تفتح الرسالة وتجيب بإعجاب على حديثه.
" يا ريت نتقابل بكرة محتاج اتكلم معاكي"
سارع بإرسال رسالة أخرى تحتوي على تفاصيل الموعد والمكان، محددًا وقتًا مناسبًا، فردت هي بإعجاب آخر فقط.
تعجب من طريقتها، لكنه لم يُطِل التفكير، إذ كان الإرهاق قد أخذ منه كل طاقته، مكتفيًا بنجاحه في اتخاذ أول خطوة للتقرب منها.
****
بمنزل " الحاج " فاضل.
اتخذت "يسر" من غرفتها مقرًا تلجأ إليه لتنفجر بالبكاء، سامحة لنفسها بالانهيار من فوق جبل الثبات الذي كانت تتشبث به في الفترة الماضية، تاركة نفسها للرياح العاتية كورقة خريف ذابلة، كانت كلمات والدها الموبخة تتردد في أذنيها، معبرة عن عدم رضاه عن فعلتها التي أقدمت عليها دون وعي أو إدراك لحجم المصائب التي تنتظرها، وأهمها السماح لنفسها بالتقليل من شأنها. تذكرت كلماته الغاضبة:
"للأسف خيبتي ظني فيكي، بعد ما كنت بتباهى إني ربيت بنت عقلها يوزن بلد، طلعتي خايبة ورضيتي تذلي نفسك عشان حد ما يستاهلش".
حاولت كتم بكائها، لكن شهقاتها خرجت متقطعة، وهي تتخبط بلا اتزان بين جدران عقلها الثائر، الذي تمزق بين حديث والدها وكلمات زوجها الموجعة بحقها، وعاطفتها المحترقة بنيران الغيرة، وذهنها الذي يرفض التخلي عن ذكرى سوداء علقت به كوصمة عار، فسمحت لنفسها بالدخول في دوامة ذكرياتها، دون بذل أي جهد للابتعاد عنها كما كانت تفعل سابقًا.
**
كانت "يسر" في أوج سعادتها عندما أنجزت كل إجراءات زواجها من فتى أحلامها "نوح"، ذلك الطبيب الذي اختطف قلبها في رحلة نسجتها بريشة الخيال، وتمنت أن تتزوجه، لم تكن تتوقع أن الحياة سترضخ لأمانيها بهذه السلاسة، حيث تقدم "نوح" لخطبتها، ووافق والدها، خاضا معًا رحلة حب متبادلة حتى قررا تحديد موعد زواجهما.
سارعا في إنهاء بعض الأمور المتعلقة بشقتهما، وخلال ذلك تعرفت "يسر" أكثر على شخصية "نوح"، فازداد هيامها به، وحلق فؤادها في سماء الهوى بسعادة، كطير استعاد جناحيه بعد طول حرمان.
انتهيا من اختيار بعض أثاث منزلهما، وسارا معًا، تتشابك كفاهما بحب، في الطريق المؤدي إلى مقهى عائلي قررا أن يتخذاه مكانًا لفترة استراحة قصيرة.
-كده كل حاجة جاهزة، باقي بس شوية حاجات نظبطها ونختارها ويبقى كله تمام.
ابتسم لها وهز رأسه إيجابًا دون أن يجاريها كعادته في الحديث، مما دفعها لسؤاله بقلق، وهي تجوب بعينيها فوق ملامحه:
-مالك يا نوح، أنت فيك حاجة متغيرة!
خرجت كلماته بصعوبة وهو يجيبها، متجنبًا النظر في عينيها:
-هنوصل الكافية ونتكلم مع بعض.
أجابت بالموافقة وصمتت على مضض، بينما داخلها يثور بفضول شديد حول تغيره المفاجئ، وخصوصًا اليوم تحديدًا.
جلسا معًا على طاولة تبعد قليلاً عن باقي الطاولات، وكأنها مميزة بتصميمها المحيط بهما، مما جعل جلستهما أكثر راحة وخصوصية، كان هو أول من بدأ الحديث، يخبرها بنبرة ثقيلة وعيناه تتجنبان ملاقاة عينيها، خشية من ردة فعلها، لذا تحدث بحذر شديد:
-أنا بقالي مدة عايز اتكلم معاكي في موضوع مهم بس خايف تفهميني غلط.
-أيه الجو اللي كله قلق ده؟! في أيه ادخل في الموضوع على طول؟!
-الموضوع مش بسيط يا يسر زي ما أنتي فاكرة، الموضوع محتاج منك صبر وإنك تدي نفسك فرصة تستوعبي كلامي وتديني فرصتي عشان افهمك باللي أنا عايزه منك واتمنى إنك توافقي عليه.
صمتها كان الرد الوحيد على حديثه، فتنهد تنهيدة ثقيلة، وبدأ يسرد بعشوائية ما يدور داخله:
-انتي عارفة إن حالتنا المادية ماكنتش أحسن حاجة، وعارفة كمان إن أنا اتمرمطت وشقيت لغاية ما عملت لنفسي اسم اقدر اتسند عليه، بس اللي ماتعرفهوش او اللي ماكنتش اعرفه إني وأنا مشغول بتحقيق أحلامي نسيت نفسي، ومشاعري كراجل، أو بمعنى أصح كنت بحرم نفسي من حاجات كتير ممكن اعيشها زي أي شاب في نفس سني عشان اعمل فلوس واكبر نفسي، ولما خلاص اسست حياتي حسيت إنه لا، أنا مش مكتفي ولا عمري هكتفي، يمكن عشان ماسددتش الفراغ اللي جوايا ده من زمان، واحساس إن اكتفي بواحدة عمره ما هيرضيني ولا هيريحني.
-أنا مش فاهمة أي حاجة، وبحاول استوعب بس مش قادرة.
حاول تهذيب كلماته بعناية وهو يخاطبها، بينما التوتر يسيطر على عينيه كضيف ثقيل غير مرحب به:
-يسر بوضوح ومن غير لف ودوران وقبل ما ندخل في الجد، أنا ماقبلش نأسس حياتنا على حاجة مش واضحة، أنا ليا شرط واتمنى إنك توافقي عليه عشان نقدر نكمل حياتنا ببساطة ومن غير أي مشاكل.
شعرت بثقل جاثم على صدرها دون أن تعرف مصدره، فتساءلت بحيرة:
-شرط أيه؟!
-قبل ما نتجوز لازم تكوني عارفة وموافقة إني هتجوز عليكي.
ألقى كلماته كقنبلة سريعة، وكأنه يريد إراحة عقله من كثرة التفكير، مرت ثوانٍ طويلة وهي تنظر إليه بعدم استيعاب، قبل أن تنفجر ضاحكة، وكأنها استمعت إلى مزحة فكاهية، فقال بحزم:
-يسر أنا مابهزرش، يمكن تستغربي جرأتي وطلبي بس أنا بحب الصراحة.
ردت برُعونة وهي ترمقه بنظرات حادة:
-لا دي وقاحة، عمرها ما كانت صراحة، أنت بتتكلم جد ولا أنت بتعمل مقلب فيا، أصل اللي بتطلبه مش منطقي.
تجاهل حدة كلماتها وحاول تبرير موقفه وإقناعها:
-وليه مش منطقي، هو أنا مش من حقي امتع نفسي بالحلال وبعدين أنا بسد فراغ جوايا بشرع ربنا ومابعملش ولا هعمل حاجة حرام، أنا اتحرمت من حاجات كتير، انتي تعرفي أيه احساس إنك تكون معجب ببنت ومش قادر تاخد خطوة وتكلمها وتتعرف عليها لتخاف تعرف بظروفك او انكوا تتقابلوا وماتقدرش تدفع تمن الحاجة اللي هتشربها، فتدفن نفسك وتبص من بعيد على صحابك وهما بيعشوا شبابهم وحياتهم برفاهية اتسحبت منك، وتفضل ناقم على حياتك ومش مبسوط..
ضحكت ساخرة وهي تواجهه بشراسة:
-وخطبتني ليه لما أنت لسه ناقم على حياتك ومش مبسوط؟!
تراجع بجسده للخلف، يخبرها بصدق، بينما ظلت إمارات الاستنكار تحتل وجهها:
-ما دي محاولة مني إن اكافئ نفسي بجزء من اللي بتمناه.
-اه يعني أنا أمنية وبتكافئ نفسك بيها، طيب وأنا ماقدرش أسد الفراغ ده ولا هو انثى واحدة لا تكفي!
استمرت تقسو بواقع كلماتها، تضغط على ضميره الذي حاول التملص منها، متمسكًا بمعتقداته وأمانيه كحل سحري يطيب خاطره الذي تأذى كثيرًا في بداياته:
-أنتي مش قادرة تستوعبي كلامي، هو أنا بقولك هتجوزك وتاني يوم هتجوز عليكي، أنا بعرفك إن في يوم من الأيام لما أحس أني نفسي اعملها هعملها وانتي تكوني موافقة، بسيطة يعني.
اندفعت قذائف التهكم من كلماتها بجنون، تاركة آثارها على وجهها المنفعل:
-وأنا افضل في اختبار وحيرة صح؟ وكأني داخلة على امتحان مش جواز.
حاول تهدئتها بعدما أحس بفقدان السيطرة على مجرى حديثهما، ساعيًا لبث الطمأنينة في قلبها من ناحيته:
-أنا عمري ما هقصر فيكي ولا اعيشك في رعب...
-اللي بتقوله في حد ذاته هو الرعب، أنا حاسة أني قاعدة قدام انسان غريب ماعرفهوش!
زفر بقوة، مرددًا بنبرة مستسلمة تحمل في طياتها حزنًا خاصًا به وحده:
-فعلاً في حاجات كتير عني ماتعرفيهاش يا يسر، بس أنا مريت بظروف صعبة وحاجات كنت اتمنى اعيشها بس المسئولية اللي كانت عليا من أهلي وتحملي لكل أمور حياتنا خلتني زي الانسان الآلي من غير مشاعر، يا يسر أنا وصل بيا الحال قبل ما اخطبك إن لو شوفت واحدة جاية من ارض زراعية متبهدلة وطالع عين أمها هشوفها ملكة جمال، وصلت لمرحلة مش عارف أميز الجمال، كل الستات كانت في عيني حلوة وجميلة.
لكن كلماته لم تؤثر فيها، ولم تنجح في جلب تعاطفها، ظلت على حدتها، لعلها تنجح في إيقاظه من الجنون الذي يحاول الإقدام عليه معها:
-اه محروم يعني؟! طيب لما هو كده، ماسنتش ليه تدور على واحدة بجمالها تخطفك وتخليك مش قادر تبص لغيرها.
-ما انتي خطفتيني...
بترت حديثه بلمحة من الاستياء وعدم الرضا، رغم محاولاته المستمرة لإقناعها:
-انت كداب، انت لو حبتني بجد هسد أي فراغ جواك.
تعمد الاستمرار في تجاهل حدتها، ورد بنبرة صادقة لم تستطع تخطي حاجزها:
-أنتي لو مش سادة الفراغ اللي جوايا مش هتجوزك.
-أنت للأسف يا نوح مش عارف عايز أيه، عايز كل حاجة ومفيش حد بياخد كل حاجة.
أغلق عينيه محاولًا التملص من محاصرتها له، ثم رد ببساطة أدهشتها:
-أنا عارف إن الحياة تنازلات..
نهضت لتنهي جلسة كانت السبب في دهس قلبها وانهيار عقلها، بعدما سمعت ما لم تتوقعه من فتى أحلامها، الذي كان من المفترض أن يكون زوجها المستقبلي:
-لا وتننازل ليه يا دكتور، أنا بختصر عليك أي مسافة وبقولك دبلتك أهي وروح دور على اللي توافق على شروطك وماتتجوزش عليها واحدة بس تتجوز عليها تلاته كمان، لكن أنا لا يمكن اقبل بالوضع المهين ده.
-ممكن اعرف أيه المهين كده؟!
استوقفها سؤاله المبطن بالاستنكار، فأشارت نحوه بغضب بالغ، مجيبة:
-شرطك في حد ذاته إهانة ليا.
احتدت نبرته هو الآخر وسألها بحذر، متمنيًا ألا تجيب بالإجابة التي تكمن في نظراتها الساخطة والمصدومة منه في آن واحد:
-ده آخر كلامك؟!
-طبعًا ومفيش أي كلام بعد اللي أنا قولته.
***
استفاقت على صوت بكاء طفلتها، التي بدت وكأن كابوسًا مزعجًا يهاجم أحلامها الطفولية، احتوتها برفق ولين، بينما دموعها تنهمر على حالها وحال طفلتها، التي كُتب عليها الشقاء وانعدام الأمان في ظل غياب أبيها، الباحث عن أمانيه الطائشة!
اندفع والدها إلى داخل غرفتها، والغضب يرسم بريشته فوق وجهه، حتى بدا شديد الاحمرار، بينما اختلط القهر بنبرته رغم حدتها الواضحة.
-اعملي في حسابك، نوح لو مطلقكيش بالذوق، هخليه يطلقك غصب حتى ولو وصلت إنك تخلعيه أو أأجر بطلجية تضربه ويعلموه الادب، وإن مكنتش عارفة تعمليلك قيمة معاه أنا هعملك.
__________________
قراءة ممتعة ♥️🥀
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا
تعليقات
إرسال تعليق