رواية غناء الروح الفصل الثانى عشر 12بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل الثانى عشر 12بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
الفصل الثاني عشر...
في اليوم التالي..
لا تزال حالة البؤس مسيطرة على منزل "الحاج فاضل"، وانعزال "يسر" مستمر، منغمسة في بؤرة السواد المحيطة بها، ترفض الانصياع لكلمات والدتها أو حتى لمسات صغيرتها "لين"، التي تحاول تخفيف الضغط عنها، بدت كمريضة على فراش الموت، تنتظر مصيرها المحتوم.
أما والدها، فكان يراقب الوضع عن كثب، رافضًا التحدث مع زوجته، معلنًا عصيانه عليها بعدما تفاجأ بأنها كانت على علم بكل شيء، بل إنها هي مَن دفعت ابنتها إلى هذا الفعل المشين بمعتقداتها الساذجة وأفكارها المحدودة عن الحياة والزواج.
راقب زوجته "أمل" وهي تجلس بجانبه بإنهاك، قائلة بضيق ونفاد صبر:
-أنا تعبت البت من الصبح مش راضية تاكل أي حاجة، وزعلانة على أمها وبتعيط، لا حول ولا قوة إلا بالله.
اشتدت ملامح "الحاج فاضل" بقسوة وهو يقول بصوت يملؤه الغل:
-صعبانة عليكي البت وأمها، كانت دماغك فين يا حاجة وانتي بتساعدي بنتك في مصيبة زي دي.
جادلته بنبرة مهزوزة، ترفض الاعتراف بخطئها:
-هو الجواز بقى مصيبة، بنتك كانت بتحبه واتدمرت بجد بعد ما فركشوا الخطوبة يا فاضل، وهو كمان بيحبها، ما هو ماخطبش حد وفضل مستنيها لغاية ما وافقت، وبعدين أنا قولت طيش شباب وهو هينسى اللي عايزه والحياة هاتلهيه بمشاكلها، مكنش في دماغي ده كله.
-مكنش في دماغك تعاسة بنتك يا أمل، أنا كنت بشوف النقص والتعاسة في عينيها وافضل اسأل نفسي البنت دي ناقصها أيه، ماعرفش بقى اللي فيها، والحياة الزفت اللي كانت عايشها بسبب كلام أمها الخايب.
ألقى كافة لومه عليها بشراسة خافتة، كي لا تسمعه حفيدته، خاصةً بعدما رآها تجلس بحزن، تضع كفها أسفل ذقنها، تتابع التلفاز بشرود وكأنها تحمل هموم الدنيا فوق عاتقها لمجرد رؤيتها لوالدتها بهذا الشكل!
-طيب أنا غلط وزفت، قوم لبنتك قولها تفوق شوية لبنتها، البت مقطعة في قلبي.
قالتها بلا مبالاة محاولةً الهروب من حصاره لها، فقد اكتفت بالأمس من شجاره معها وتوبيخه المستمر، نهض، ينصاع لحديثها على مضض، موجهًا وعيدًا شرسًا نحوها:
-أنا هدخلها، بس يمين الله لو اتدخلتي تاني في أي حاجة تخص يسر وجوزها ولا حتى طلاقها ليكون حسابي معاكي عسير يا أمل.
رفعت حاجبيها بصدمة وهي تقول بعدم تصديق:
-أول مرة تهددني يا فاضل؟!
-لما الأمر يوصل للحقارة اللي أنا شوفت جوز بنتك بيكلمها بيها، واعرف التقليل اللي بنتك عملته في نفسها، واعرف إنك موافقة على كل حاجة وكمان بتشجعيها تستمر وفي الآخر هيرجعلها يبقى لا لازم يتحطلك حد.
أجاب بنبرة غليظة، وعيناه تطلق شرارات الغضب، فحاولت الدفاع عن نفسها موضحة حقيقة ما فكرت فيه:
-يا فاضل دي بنتي، هو أنا كنت عايزة أأذيها يعني، أنا ماحبتش تكون مطلقة والدنيا تنهش فيها.
-ده لما يكون أبوها ميت، طالما أنا حي أرزق، الله في سماه اللي يفكر بس يجي ناحيتها هاكله بسناني، ونوح ده أنا كنت بعتبره ابني، بس خلاص أنا هوريه نابي الازرق وهسود عيشته شهريار زمانه.
انطلق، يترك الصالة متوجهًا ببساطة إلى غرفة ابنته، تاركًا خلفه "أمل" مندهشة، وعلامات الصدمة بادية على وجهها، فقد تعرفت لأول مرة على جانب شرس من زوجها.
***
دخل "فاضل" غرفة ابنته، فوجدها تستند بجسدها في نصف جلسة على ظهر الفراش، مغمضة عينيها، ويبدو أن الدموع حفرت أثرًا لها فوق صفحات وجهها الباهت والحزين، مع تورد بسيط في وجنتيها، استغفر ربه قائلاً بحدة:
-رافضة الأكل وقولنا ماشي، طيب بنتك ذنبها أيه؟!
اعتدلت في جلستها على الفور، والحرج يطفو كجثة فوق وجهها:
-هي ليه رافضة الأكل؟!
تساءلت بوجه شاحب، فاغتاظ والدها ورد بنبرة حادة ساخرة:
-عشان أمها بتعيط على الأطلال!
حاولت تحجيم حنقها من سخريته المتعمدة عليها، والدهس أكثر فوق كرامتها:
-أنا مابعيطش على نوح يا بابا، أنا بعيط على نفسي وعلى اللي عملته فيها.
-يا شيخة ما هو واضح، بس على رأيي الست تفيد بأيه يا ندم!
لا زال مصباح السخرية يضيء في وجهها بقوة، فانزعجت رغماً عنها وردت بنفور:
-أنا عارفة أني غلطت لما وافقت على وضع زي ده من الاول بس....
انفجر بها والدها بغضب ومقت:
-لا يا شيخة يكفيني إنك عارفة! والله!، ها طيب وبعدين، بعد ما دمرتي نفسك ومستقبلك وحياتك وحياة بنتك، كان عقلك فين وانتي بتوافقي؟، أيه بتحبيه؟ ملعون أبو الحب اللي يعمل كده فيكي، أنتي لو واحدة أهلك مكرهينها في عيشتها هقول ماشي البت معاها حق، بس لا، ده انتي بنتي الوحيدة اللي ماليش غيرها وموفرلك كل حاجة تحت رجليكي كان ناقصك أيه حنان واحتواء مكنتش حارمك، علمتك وصرفت على تعليمك شيء وشوايات عشان تطلعي مثقفة وواعية لنفسك ويوم ما تختاري....تختاري صح تختاري اللي يليق بيكي وبمكانتك، اللي يقدرك ويشوفك حاجة كبيرة وعالية، لكن للأسف خيبتي ظني فيكي، وسمعتي كلام أمك وصحبتك...
صمت برهة يلتقط بعض ذرات الهواء بعدما حبس أنفاسًا قليلة في صدره، وهو ينفجر كالقنبلة الموقوتة في وجه ابنته الساذجة، فتحت فمها للتحدث، لكنه لم يمهلها فرصة واستكمل بحدة أكثر:
-كان عقلك فين وانتي بتسمعي لأمك وبتوهمك إن جوزك ممكن يعقل ويقتنع بيكي لوحدك، طيب أمك واتصرفت بدافع الأمومة والفطرة ست خبرتها قليلة في الحياة، طيب صاحبتك اللي قعدت تزن عليكي توافقي راحت فين دلوقتي بعد ما دبستك التدبيسة دي تقدري تقوليلي؟!
أجابت بنبرة مبحوحة بها شيء من التيه:
-كل واحدة اتلهت في حياتها.
-البت دي اللي اسمها سمر صح؟!
اكتفت بهز رأسها فقط، وهي تخفض عينيها إحراجًا من أبيها، فصاح الأخير بثورة كالبركان:
-يا بنتي، أنا كام مرة حذرتك من البت دي يا يسر، وقولتلك مش كويسة ونظراتها ليكي مش مريحة، واختياراتها غلط اصلًا في حياتها، هي مش اتجوزت واحد بيصبحها بعلقة وبيمسيها بعلقة وكل شوية بتديله مبررات وبتدافع عنه!
حركت رأسها بصمت والدموع تنهمر فوق وجهها بينما والدها استطرد بغضب:
-ليه مافكرتيش إنها مش عايزكي تبقي أحسن منها واقنعتك بالجوازة المهببة دي عشان تبقي معاقة زيها.
رفعت عينيها بصدمة، فأكد "فاضل" على حديثه بنبرة أشد قسوة:
-مصدومة ليه؟، ما اللي ترضى على نفسها تتضرب من جوزها وتديله مبررات، واللي تقبل بشرط إن جوزها يتجوز عليها زيك، يبقوا شوية معاقيين في تفكيرهم، داهية تقرفكم سديتوا نفسي.
حاولت النهوض خلفه لإيقافه وتبرير موقفها، رغم أنها لم تجد ما ستبرر به بعدما هدم أبيها كل ثوابتها:
-بــــابـــــا استنى...
-بلا بابا بلا زفت يا شيخة.
أشاح والدها بيده باشمئزاز وهو يغادر غرفتها، بل الشقة بأكملها تحت نظرات والدتها المتعجبة، انهارت يسر مجددًا وأطلقت لفراشها فرصة أخرى لاحتوائها، تنفصل من خلاله عن العالم بأسره، وخاصةً ابنتها التي كلما رأتها تتذكر "نوح" بأفعاله المشينة بحقها وكلماته الجارحة لها، وخيانته التي أصبحت مؤكدة.
***
مرت ساعة ثم ساعتان، وهو على نفس الحال ينتظرها كالأخرق، وكل ما بيده هو محاولة الاتصال بها، ولكن هاتفها في كل مرة يعطيه تارة إشارة الإغلاق، وتارة أخرى سوء تغطية، أما عن محادثتهما على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، فكلما أرسل لها رسالة، أجابت بعلامة إعجاب، بدا الأمر لديه غريبًا؛ في بادئ الأمر تعامل مع الوضع بتسلية ومرح، لكنه بدأ يشعر بالضيق لتعمدها سلوك طريق معه غير مفهوم على الإطلاق.
قرر "يزن" إنهاء جلسته الوحيدة، التي لم تحدث إطلاقًا من قبل، والخروج من المقهى الشبابي شبه مكسور الخاطر، همس لنفسه بسخرية:
-طيب ادلع نفسي ازاي طيب وأنا اتقفلت من الصنف كله.
تابع خطواته بشرود تام، والغيظ وصل إلى ذروته بسبب تصرفاتها المتناقضة، تارة تضحك في وجهه وتكون أكثر سلاسة ولينًا معه، وتارة أخرى تبدو مثل صديقتها "حورية" صلبة، لا تلين، وعابسة، وكأنها تراه عدوًا، زفر بحنق من عقله المُصر على دفعه نحو التفكير بها فقط، وكأنه لا يملك أي أمور أخرى للتفكير فيها سواها، أصبحت تحتل عقله كعدو شرس لا تسمح لذهنه بالانشغال سوى بها.
قرر الاتصال بـ"نوح" كي يذهبا سويًا إلى أي مكان يبعده عن التفكير بها، ولكن هاتف نوح المغلق أفسد عليه خطته البائسة، قرر العودة إلى المنزل والجلوس مع عائلته، فيبدو أنهم أفضل حل للخروج من بقعة التفكير بها، التي تتسع تدريجيًا دون شعور منه، منتظرًا الصباح بفارغ الصبر.
****
كان "نوح" في عيادته يجلس وحيدًا فوق أريكة جلدية كبيرة، مغلقًا جميع الأنوار، فالاكتئاب سيطر عليه في ظل الصراعات القائمة داخله التي تزداد شراسة، أصبح منهمكًا وغير قادر على مجابهة ثوران صدره، بصياح مشاعره وحنينه إليها وغضبه منها وتسرعها في محاولة إنهاء زواجهما وكأنه الحل الأمثل لحالة التيبس التي أصابت علاقتهما، ومن ناحية أخرى، كان عقله كالبركان المتأجج بعد تهديد والدها، ومذاق الإهانة المرير يصيب تفكيره بشظايا العناد، مما زاده تشبثًا برغباته التي تلتف حول عنقه كالأفعى السامة.
طرقات مستمرة أخرجته من دوامة تفكيره، فنهض بكسل وفتح الباب بعبوس، تحول إلى اندهاش من وجود والدته أمامه:
-أيه يا بني ده كله نوم!
افسح لها "نوح" المجال للدخول متسائلاً بقلق:
-في أيه يا ماما مين جابك وجاية ليه؟!
-اللي جابني ياسر اخوك وصلني ومستنيني تحت، وجاية عشان اطمن عليك.
همس بتهكم طفيف وحزن دفين يكمن في كلماته:
-ومطلعش معاكي يتطمن عليا ليه! طبعًا مفيش مني مصلحة حاليًا..
تجاهلت حديثه الخافت عن قصد كعادتها، ودخلت في صلب الموضوع:
-أيه يا بني اللي وصل الحال بينكوا أنت ومراتك لكده؟!
قطب ما بين حاجبيه بعدم فهم وهو يتساءل:
-انتي عارفة أيه بالظبط؟!
راوغته والدته بمكر وأردفت بهدوء:
-اللي حصل ما بينكم.
حاول التمسك بحواف خصوصياته وقال ببرود:
-دي مشاكل بسيطة يا ماما ما تحطيش في دماغك.
تبسمت والدته بسخرية وأردفت بنبرة لاذعة:
-اه فعلاً تصدق عشان كده الحاج فاضل جه وبهدلنا وهددنا إنك لو ماطلقتش بنته هيوريك اللي عمرك ما شفته.
توسعت عينيه بصدمة بالغة وهو يقول باعتراض قوي وفج:
-نــــــــــعــــم، الراجل ده اتجنن ولا أيه؟!
حاولت والدته تهدئته وهي تقول:
-اقعد بس يا بني واستهدى بالله، الراجل بردو عنده حق يا بني، دي بنته في الأخر وانت عايز تتجوز عليها بدون أي وجه حق، طبيعي يتصرف كده.
انفجر نوح بغيظ وحقد، لدرجة أن عروق وجهه كانت تنفر بشدة:
-لا طبعًا محدش عنده الحق غيري، أنا ماضربتهاش على ايدها وكنت متفق معاها وهي موافقة، ماتجيش هي ترجع في كلامها، أنا مش عيل قدامها بتنومه.
-هو يا بني في واحدة توافق إن جوزها يتجوز عليها دي لا مؤاخذة كانت بتاخدك على قد عقلك.
الاستنكار انطلق كالسهام الحادة من كلمات والدته وأصاب عقله، الذي ترنح وفقد السيطرة على نفسه، فبدا وكأنه يهذي ولكن بصورة شرسة:
-لا بقى ولا عاش ولا كان اللي تعمل فيا كده، وهتجوز عليها غصب عنها وعن أبوها.
زمت والدته شفتيها بضيق بالغ، وحاولت النبش أكثر داخله ليخرج ما يحاول إخفاءه:
-ما هو بصراحة انت مابتقولش سبب مقنع، هي يسر قصرت في حاجة، لو قصرت قولي وأنا اتكلم معاها مرة واتنين لغاية ما تتعدل معاك، لو ماتعدلتش يبقى تنفذ اللي انت عايزه.
ألزم لسانه الصمت أمام حديث والدته المبطن بأمور عديدة، وحده يعلم دواخلها، لذا لم ينسق خلفها، ولم يعب بزوجته، فقال بنبرة خشنة:
-يسر مفيهاش أي عيب، ده اتفاق ما بينا وقولتلها أنا في يوم من الأيام هنفذه ماتجيش هي وترفض أنا مش لعبة في ايدها، ومن الأخر أنا حُر اعمل اللي أنا عايزه.
-لا يا نوح احنا اهلك بردو ولازم نسألك وتريحنا احنا يهمنا....
-يهمكوا مصلحتكم وبس، خايفين اكون حبيت واحدة تانية وتكوش على كل حاجة وتقفل حنفية الفلوس عنكم، محدش فيكم يهمه مصلحتي ولا حد فيكوا بيفكر فيا، أنا فين؟ بعمل أيه؟، تعبان؟، مرتاح؟ ولا بهبب أيه؟، أنا آخر واحد تفكروا تسألوا عليه، بس أول حد تفكروا فيه لو احتاجتوا فلوس ولا مصلحة، اراهنك لو قولتلهم مثلاً أنا هتجوز على يسر كلهم هيقولوا آمين، محدش هيتعاطف معاها رغم إنكم ماشوفتوش منها إلا كل خير، فكرك مثلاً حد من اخواتي هيفكر يصلح ما بينا لا هما مالهمش دعوة، بس اللي أنا متأكد منه، إنهم باعتينك يا ماما عشان تطمني وتعرفي مين بالظبط اللي هتجوزها مش صح؟!
تساءل مستنكرًا في آخر حديثه الصادم لوالدته، بعدما سلط الضوء على جزء كبير من الحقيقة، فاستكمل دون أن يعطي والدته أحقية الرد:
-حتى أنتي يا ماما جاية عشان صورتك بس قدام الحاج فاضل ومراته، مايهمكيش يسر زي ما أنا شايف في عينك أني مثلاً كنت اعملها واتجوز من غير ما اعرفها صح؟! عارفة أيه المشكلة؟ أني عارف كل واحد فيكم على أيه وبيفكر في أيه!.
ابتلعت والدته غصة بحلقها وهي تنظر إليه بجمود، فلم تجد مبررًا واحدًا للرد على حديثه، بسبب تصرفات أولادها بحقه وحماقتهم بعض الشيء، وأنانيتهم المفرطة بحق أنفسهم، وللأسف، هي أيضًا تحمل عبئًا كبيرًا في اتساع تلك الفجوة بين جميع أولادها.
-طالما أنت شايف كده يا نوح، يبقى خلاص مفيش كلام تاني يتقال، عن أذنك، ربنا يهديلك حالك يا ابني.
وقف جامدًا يستقبل عتابها بصدر رحب بعدما نجح في إفشاء جزء بسيط مما يكمن في صدره من ندبات موجعة له طيلة حياته، لقد سأم من دور ماكينة السحب، فهو إنسان ويحمل مشاعر وطاقة، لذا سلط الضوء الأخضر على ما يعانيه منهم:
-ابقي سلميلي عليهم وقوليلهم اشغلوا نفسكم بحياتكم محدش له دعوة أنا بعمل أيه!
وقفت والدته على أعتاب باب العيادة ترمقه بعدم رضا:
-ما تقطع علاقتك بينا أحسن عشان نريحك.
-ماقدرش اعمل كده، وبعدين أنا عندي استعداد اتحمل أكتر من كده عشان خاطرك أنتي، وأنا زي ما أنا موجود لو حد فيهم احتاج حاجة مايترددش.
ابتسمت والدته ساخرة وهي تردف بنبرة حاولت تحجيم الحنق فيها:
-خاطر أيه بقى!، ده أنت دشملت خاطري وخاطر الجيران يا دكتور، مع السلامة.
أغمض عينيه بنفاد صبر، وغضب جامح يجتاح كيانه بأكمله من تصرفات "فاضل"، التي فاقت تصرفات زوجته جنونًا، لكنه يدرك تمامًا أنها مجرد خطوة من والد "يسر" لإثارة البلبلة حوله، ونثر فضائحه بجرأة كي يقدم على الطلاق، ولكن ما فعله زاده عنادًا وتحديًا بالغًا.
***
بإحدى المناطق الشعبية..
راقبت "حسناء" خروج واحد تلو الآخر من المكان المخصص لوالدتها لاستقبال الجيران داخل مقرها، حيث تمارس الشعوذة وتدعي أنها تملك قبيلة كاملة من الجن تفعل لها ما تشاء!
نفد صبر "حسناء"، واضطرت للدخول قبل أن يدخل أحد آخر، وهي تصيح بنزق:
-جرى أيه ياما هو أنا هاخد دور زي الناس المعتوهة دي، بقولك من الصبح عايزاكي.
رفعت والدتها الغطاء المثبت على وجهها، تخفي ملامحها الشيطانية، وصوتها الخشن ينطلق في الأجواء القاتمة من حولهما:
-بقولك أيه يا بت الناس دي هي اللي بتدينا الفلوس عشان نجيب الهم وناكل ياختي.
اقتربت منها "حسناء"، وصوت فحيح يخرج منها يلفح وجه تلك الماكرة:
-اسمعي يا ماما لو ركزتي بس كلامي، ووفرتي كل جهدك تعمليلنا عمل حلو كده من ايدك الاتنين دول، هعرف اوقع واحد سُقع على قلبه فلوس قد كده، ويرحمنا من القرف اللي أحنا فيه ده.
تحمست والدتها، واندلع فتيل المكر في حدقتيها وهي تستمع لـ"حسناء" التي قالت بتروٍ:
-أنا عرفت كل حاجة عن الدكتور اللي بشتغل عنده، هو ومراته خلاص قربوا يتطلقوا، ودي فرصة ياما اتدخل ما بينهم، انتي بكام عمل حلو كده منك احطه في العيادة يمنعه من إنه يرجعلها، وأنا بقى بحلاوتي هشغل عقله وتفكيره واخليه يتعلق بيا.
-طيب قوليلي كده كل حاجة سمعتيها عنه وعرفتيها عن مراته عشان وأنا بعمل العمل اعمله صح وبمزاج، بس اطلعي الاول طردي أي حد برة.
انطلقت "حسناء" تهرول بحماس لتنفيذ أمر والدتها، وداخلها يستعد لدخول الملعب وتغيير مجرى اللعبة في اللحظات الأخيرة، معتقدة أنها ستحظى بالجائزة دون بذل مجهود إضافي، كانت طيلة الأيام السابقة تصوب أهداف أنوثتها وجمالها بكل مهارة وبراعة، ولكن ينقصها فقط الهدف الأخير، ألا وهو الزواج به.
****
في منزل "الشعراوي"...
جلس الجميع في الصالة بعد تناول العشاء، فانشغل "زيدان" و"مليكة" باللعب مع أولاد "سليم"، بينما انفرد "سليم" و"يزن" جانبًا وظلا يتحدثان بخفوت تحت أنظار "شمس" التي تراقب كل شيء بينهما عن كثب.
فمال "يزن" على "سليم" وهمس بحماس مفرط:
-صورتك عاملة قلق يا سليم على السوشيال ميديا، من بكرة مش هتلاحق على الزباين.
ضيق "سليم" عينيه بعدم فهم لحماسه المفرط، فرد بنفس النبرة الخافتة ولكنها مستنكرة:
-هو حد قالك أنا مش لاقي أبيع، اخوك مسيطر على السوق، وبعدين صورتي هتجيب الزباين ليه يعني!
رمقه "يزن" بعدم رضا وهو يقول همسًا:
-خيرًا تعمل شرًا تلقى، ده بدل ما تشكرني على أسلوب الدعاية والاعلان الجديد بتاعي، ومتخافش أنا عملت لشمس مراتك بلوك عشان ماتشفش حاجة.
ارتسمت الصدمة على ملامح "سليم"، لكنه استطاع السيطرة عليها كي لا يجذب الأنظار نحوهما:
-انت اتجننت ازاي تعمل كده؟!
-امال أسيبها تشوف تعليقات الجنس اللطيف على صورك وقد أيه انت خطير وعينك مفيش منها، ماعرفش الصراحة على أيه مع أنها نفس لون عيني عادي يعني، ووسامتك اللي خطر على الكوكب، مع إن أنا بردو مستغرب لأني أحلى منك انت وزيدان بكتير، بس أهو البنات دي دماغهم تعبانة محدش يركزلهم.
كاد "سليم" يصيح بغضب، لكنه ألجم نفسه في اللحظة الأخيرة وهتف بأمر ناري:
-فورًا تمسح صوري فورًا، يا أما....
ابتسم "يزن" بسماجة وقاطعه قائلًا:
-مابقاش ينفع يا أبيه صورتك اتشيرت خلاص، انت بقيت مشهور مش بعيد تطلع مع منى الشاذلي، وتحكيلنا قصة كفاح سليم الشعراوي، دي هتبقى حلقة جنان بس هتبقى تريند لو اخدوني أنا مكانك.
عض "سليم" على أصابعه بقوة وغيظ، محاولاً التحكم بنفسه بشتى الطرق، خطف نظرة إلى "شمس" التي وجدها جالسة بنظرة متوعدة، تحاول كشف جلسة الأسرار بينه وبين أخيه المتهور، استمع بعدها لهمس "يزن" وكلماته التي نجحت في التلاعب بعقله:
-حلو خليها تعرف وتغير، ماتخافش...
نظر إليه "سليم" باستهجان، فأكمل "يزن" كلامه:
-مين منا مابيخافش وخصوصًا لو كان مهدد بالقتل، بس صدقني أكتر أحساس ممتع ممكن تحس بيه وأنت بتشوف مراتك بتولع من الغيرة، ويا سلام لو شميت ريحة الشياط اللي أنا شاممها هتتبسط على الآخر.
-ويا سلام لما نتطلق، انت هتبقى مبسوط أكتر.
قالها "سليم" ساخرًا، فابتسم "يزن" بتهكم وأردف بشقاوة:
-اللعيب الصح اللي يجنن مراته عليه وفي الآخر ميخسرهاش، وبعدين بذمتك مش نفسك تحس مرة إنها بتموت من غيرتها عليك، غير روتينك مش كل مرة انت اللي خانقها، جدد نشاطك.
-يزن أنت آخر واحد ممكن اسمع منه نصيحة، فلم نفسك واسمع الكلام وامسح صوري، أنا على أخر الزمن هبقى مهزئة السوق.
أنهى "سليم" حديثه بعدم رضا، ونهض موجهًا حديثه للجميع:
-أنا طالع تصبحوا على خير.
ترك "شمس" خلفه تنظر إلى أثره بشرود، يتخلله نيران الغيرة التي بدأت تلتهم جزءًا من عقلها، انتقلت بنظراتها إلى "يزن" الذي سارع بتمثيل الإرهاق ونهض قائلًا:
-ياااااه الواحد طول اليوم مرهق وتعبان تصبحوا على خير.
فر هاربًا إلى غرفته، وأغلقها بإحكام بعدما قرأ بوادر "شمس" لحصاره، ابتسم متخيلًا جزءًا من الحصار الذي سيكون فيه "سليم" عندما تصعد "شمس"، وهمس ضاحكًا:
-بيعمل علينا دراكولا وهو معاها سولي.
****
في اليوم التالي...
راقب "يزن" خطوات "سيرا" منذ أن هبطت من الحافلة وسارت بهدوء في الطريق المؤدي إلى البرج، لكنها انحرفت ودخلت إلى محل البقالة الكبير، دخل خلفها، متتبعًا خطواتها بحرص، عازمًا على الانفراد بها بعيدًا عن أعين الناس ليوبخها بعتاب عما فعلته به بالأمس، التفتت هي ناحيته، ترمقه باستنكار متعمد:
-انت شكلك عايز تخطفني صح؟ ماشي بتتسحب ورايا ليه؟!
-والله؟!
قالها باستنكار مماثل، راسمًا على وجهه إمارات العتاب، فردت هي ببرود مقصود وابتسامة مستفزة:
-خير يا أستاذ يزن على الصبح؟
رفع حاجبيه معًا وظل ينظر إليها بصمت، محاولًا كشف الغموض المحيط بها، حركت رأسها بمعنى "ما بك؟" فعقد ذراعيه أمامه وقال بحسم جديد على نبرته معها:
-ممكن اعرف عملتي كده معايا ليه امبارح؟!
رمشت بأهدابها عدة مرات وسألته بعدم فهم، وقد ارتسم فوق ملامحها المشرقة:
-أنا؟! عملت أيه؟!
همس بصوته كي لا يجلب الأنظار إليه وقال باعتراض واضح:
-هتستعبطي صح؟!
رفعت أحد حاجبيها باحتجاج، وانطلق لسانها يشتد بحزم:
-لا بقولك أيه الزم حدودك معايا، أنا مابحبش الطريقة دي في الكلام، هتكلمني كده هسيبك وامشي، لو كان عندك حاجة قولها، ماعندكش يبقى سلام.
كادت تغادر موقعهما، لكنه أمسك بمرفقها سريعًا، فسرت رجفة كهربائية بجسدها جعلتها تنتفض مبتعدة عنه بخطوتين، تنظر إليه بغضب يكمن أسفله ارتباك قوي عقب لمسته لها، بينما هو، بتلقائية شديدة، لم يقصد أي شيء، بادر بالأسف، متغافلًا عن مشاعره التي ثارت بجنون لرؤية الاحمرار الساكن في وجنتيها عقب لمسته البسيطة:
-أنا أسف ماقصدش حاجة، بس يعني أنا اتضايقت لما نتكلم ونتفق إننا نتقابل وماتجيش من غير ما حتى تعتذري، فدا ضايقني و....
قاطعته سريعًا راسمة الصدمة على وجهها:
-أيه حيلك حيلك، أنا عملت كل ده؟!
-امال أنا! أيوه انتي طبعًا، مش أنا كلمتك امبارح على الماسنجر وقولتلك عايز اتكلم معاكي وانتي رديتي؟!
-أنا!
قالتها باستنكار ملحوظ، فاستكمل حديثه بتعجب:
-وقولتلك على مكان الكافية والمعاد وانتي وافقتي..
ظل الاستنكار مترسخًا في ملامحها وصوتها:
-أنا!
-أيوة أنتي!
قالها وهو يسارع بإخراج هاتفه، ثم وضعه أمامها وسأل بنبرة رخيمة يحاول بها إخفاء إحراجه:
-مش ده أنتي؟
نظرت إلى الهاتف لثوانٍ، ثم ابتسمت ابتسامة مهزوزة:
-ده طلعت أنا فعلاً.
حمحمت بحرج مقصود وهي تنظر إليه باستعطاف لما بدر منها بطريقة غير مقصودة:
-بص حاول تفهمني، أنا عندي شياطين كتير في البيت بيمسكوا تليفوني...
استوقفها سائلًا بمزاح لتخفيف حدة الموقف المحرج بينهما:
-دول بردوا اللي بياكلوه الجبنة الرومي من وراكي؟!
ازداد عبوس وجهها وهي تقول:
-انسى الجبنة الرومي دلوقتي، خلينا في كلامنا، هما دول اللي عملوا كده، وبعدين مجاش في بالك ليه برد بـ لايك، ما اتكلم معاك، مجاش في بالك إن في حاجة غلط مثلاً!
مط شفتيه محاولًا إخفاء انزعاجه عندما ظهر بصورة حمقاء أمامها:
-يعني قولت يمكن مكسوفة...ولا انتي مابتتكسفيش؟!
فتحت فمها للرد عليه، لكنه سارع بالضحك مقاطعًا حديثها:
-خلاص بهزر، أيه مابتهزريش؟!
-مابهزرش مع اللي ماعرفهمش!
ردت بحدة لا تزال تسكن طرف لسانها، فقال بنبرة مازحة مصحوبة بابتسامة شقية تخصه وحده:
-طيب ما تتعرفي عليا، عشان ماتبقيش قفوشة كده معايا، أصل أنا جو الكآبة ده ماياكلش معايا، مابستحملوش بيجيلي heart attack على طول.
لانت ملامحها عن قصد وهي تسأله بنبرة رقيقة تركت أثرًا لذيذًا في نفسه:
-أيه ده، أنت عايز تتعرف عليا؟!
التقط "يزن" الفرصة كالصياد الماهر، وغرز أول بذرة في حديثه اللبق:
-طبعًا وعشان كده طلبت اقابلك امبارح بس الله يسامحهم بقى آكلي الجبنة الرومي، ولو يعني ماعندكيش مانع يا ريت نتقابل النهاردة.
نظراتها أربكته، فقد عجز تمامًا عن فك شفراتها، لكنه فوجئ بابتسامة جميلة التصقت بثغرها الخالي من أي مساحيق تجميلية، مما زاد إعجابه بها:
-تمام مفيش مشكلة، ممكن نروح سينما؟
لمَ يشعر وكأن هناك خطبًا ما بسبب سهولة موافقتها؟ على ما يبدو أنها ليست كما تبدو! لكنه رمى بأفكاره السلبية خلفه وبادر بالموافقة السريعة:
-تمام، هحجز تذاكر فيلم كريم عبد العزيز الجديد، وهستناكي الساعة ٨.
رمشت بأهدابها عدة مرات مع ابتسامة ناعمة وصوت يغمره الغنج:
-اوك، اشوفك على خير.
تركته وغادرت، بينما ظل هو ينظر إليها حتى اختفت عن أنظاره، فبالرغم من إخفاقه في المرة الأولى، إلا أنه نجح أخيرًا في مد جسر التعارف بينهما، لم يكن يتوقع أن يحصل على موافقتها بهذه السهولة، وهمس بحماس:
-ما طلعت سهلة اهي امال أنا كنت مستصعبها ليه؟!
أما هي، فسارت في طريقها إلى عملها بابتسامة كبيرة تحتل وجهها، بعدما نجحت في خداعه وإقناعه بأنها لا تعرف شيئًا عن أمر المحادثة، وها هي تحيك له حيلة أخرى ستصعقه حتمًا حين يصطدم بها، نظرت إلى الساعة في يدها، متمنية أن تمر الدقائق بسرعة البرق، ثم قامت بالاتصال بشخص ما، والمكر يحلق في أفق عينيها.
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا
تعليقات
إرسال تعليق