القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل الثالث عشر 13بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)

 

رواية غناء الروح الفصل الثالث عشر 13بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)






رواية غناء الروح الفصل الثالث عشر 13بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)


الفصل الثالث عشر.


انتقلت بنظراتها في جميع أرجاء الشقة، تراقبه وهو يدلل أطفاله بحنان بالغ، بعدما قرر بشكل غير معتاد اقتناص إجازة مفاجئة من عمله، أثارت تصرفاته في نفسها دوافع الشك، فانتشر القلق في صدرها كانتشار النار في الهشيم، لكنها ظلت ملتزمة الصمت معه، مكتفية بوضعه تحت المراقبة.


رن اتصال آخر، فابتعد عن ابنته وذهب بعيدًا عنهم، ليجيب بصوت خفيض على غير عادته، احتدت نظراتها وهي تقرر ألا تتحرك من مكانها، مكتفية بمتابعته بعينيها، بينما هو رغم إعطائه ظهره لها، شعر وكأن سهامًا حادة مصوبة نحوه، زفر بخفة، قائلاً بصوت جاد لكنه خافت:


-يعني كويس إني ماجتش النهاردة؟!


أجاب الموظف بتنهيدة قوية:


-طبعًا يا سليم باشا، أنت مالكش في الجو ده، وأنا كنت متأكد إنك لو كنت جيت وشوفت كمية البنات اللي جاية تبص...


حمحم الموظف بحرج مستكملاً:


-اقصد تشوفك، كنت زمانك مخلينا قافلين المحلات كلها!


زفر سليم زفرة قوية، وكانت أسوار ثباته وهدوئه على وشك الانهيار، فتمتم بحقد وضيق:


-الله يخربيتك يا يزن.


ثم تابع قائلاً:


-أنا مش عارف عملت أيه في نفسي!


-يا باشا هو مش حاجة غلط، يعني صورك اللي يزن باشا منزلها عادية خالص بس واضح إن كارزميتك عالية شوية، وبعدين أنا نسيت اقولك نص الصاغة عملت زيك يا باشا، انت الاساس وهما التقليد.


رفع سليم أحد حاجبيه قائلاً بحدة:


-أيه يا بني، أنت بتكلمني كده ليه؟! انت فاكرني فرحان لما الناس تيجي تبص لي هو أنا سلعة في الڤاترينة!


-يا باشا على فكرة ما شاء الله الايرادات عالية جدًا النهاردة في كل المحلات، أنت فاكر انهم بيجوا وبيمشوا، لا ما شاء الله بيشتروا، بس يعني انت ماكنتش هتستحمل حد يبصلك أو يحاول يكلمك.


أخرج سليم تنهيدة ثقيلة من صدره، ثم قال بجدية:


-قولي أول بأول كل حاجة، ولو الصور دي اتمسحت عرفني، وأنا هشوف يزن ممسحهاش ليه! سلام.


أغلق الهاتف واستدار، فتفاجأ بشمس تقف خلفه مباشرة، رسم ابتسامة صغيرة على شفتيه، ثم مد أصابعه ليداعب وجنتيها بلطف:


-واقفة زي المخبرين ليه كده!


-مرحتش الشغل ليه النهاردة؟!


خرج سؤال مباشر من أعماق نبرتها المظلمة، فتجاهل حدة ملامحها وتحرك نحو طفليه وهو يجيب:


-ما قولتلك، حسيت إن أنا مقصر معاكم فقولت اقعد معاكم النهاردة، على فكرة دي تالت مرة تسأليني، هو أنا قعدتي تقيلة لدرجادي على قلبكم؟!


تغاضت عن الإجابة عن قصد، ثم وجهت سؤالًا يحمل في باطنه شكوكًا متوهجة:


-وانت مش واخد بالك إني لغاية دلوقتي مش مقتنعة أصلاً بإجابتك؟!


استدار يرمقها بنظرة استخفاف متعمدة، وسألها بتهاون أشعل فتيل غضبها:


-بجد؟! ماخدتش بالي خالص، المرة الجاية هاخد بالي!


كتمت أنفاسها بصعوبة، وعيناها أفصحتا عما يدور بخلدها من شكوك نحوه، للحظة، شعر بلذة غريبة بسبب شعلة غيرتها، وبدأ عقله يميل إلى حديث أخيه المجنون، حاول إقناع نفسه: لماذا لا يستمتع قليلًا بغيرتها عليه؟ لكنه لم يدرك أن جحيم غيرتها سيدفعه نحو غيابة الجب، متجاهلاً اعتقاده بأن أصعب المعارك التي يخوضها العاشق هي معركة الغيرة، فإن نجا منها، اقتنص من الحب فرصة أخرى. "فكن سطحيًا ولا تقترب من أعماق العشق المظلمة!"


اتخذت شمس من غرفتها مقرًا سريًا، تبحث في هاتفها عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن تلك الصور التي سمعت عنها، لكنها لم تجد شيئًا، زفرت بحنق وتركت لنفسها دقائق طويلة لتختلي بأفكارها علها تجد حلاً لفك شفرة أحاديثه منذ الصباح مع موظفيه.


قررت استخدام هاتف آخر غير هاتفها، فانطلقت تبحث عن مليكة في الطابق السفلي، لكنها لم تجدها، زفرت بضيق، ولم يهدأ عقلها حتى استعانت بهاتف منال، الذي تركته بإهمال في الصالة، بدأت البحث على الإنترنت هنا وهناك، حتى توصلت أخيرًا إلى صفحة جديدة باسم زوجها، تحمل صورًا حديثة له مدونة عليها عبارات موجهة لسوق الذهب مع عناوين لمحلات الشعراوي.


جذب انتباهها الكم الهائل من التعليقات المنبهرة بصور زوجها، حتى إن فتيات عدة شاركن الصور، توسعت عيناها بغضب حين قرأت تعليقًا له يشكر فيه إحدى الفتيات على تعليقها الجميل:

"شكرًا يا جميل"


كشرت عن أنيابها وركضت بسرعة صاروخ نووي نحو شقتها، عندما وصلت، وجدته يداعب قمر وأنس معًا، أبعدتهما عنه، وحملت قمر وطلبت من أنس أن يتبعها دون أن تنطق بكلمة واحدة.


سألها بعدم فهم:


-شمس، واخدة العيال فين؟!


استدارت شمس قبل أن تغادر شقتها ووجهت كلمة واحدة مكتومة بغضب:


-ثانية واحدة وجيالك.


رفع سليم حاجبيه معًا بتعجب من تصرفها، دون أن يدرك حجم ما ينتظره، وفي هذه الأثناء، توجهت شمس مباشرة بأطفالها نحو شقة مليكة، وطرقت الباب، وبعد لحظات، فتحت مليكة الباب ورحبت بها بحفاوة:


-شموسة تعالي، ادخلي.


-لا خدي عيالي شوية وجيالك...


التقطت مليكة الطفلة الصغيرة من يديها وهي ترحب باستضافتهما بحب، ظهر زيدان من خلف الباب قائلًا بابتسامة:


-تعالي ادخلي يا شمس! في حاجة؟!


ردت شمس بنبرة صارمة ودون أن ترتسم أي ابتسامة على ملامحها على غير عادتها:


-لا.


قبل أن تغادر، سألتهما بحرج انبثق وسط توهج مشاعرها:


-هو أنا عطلتكم عن حاجة؟!


سارعت مليكة بقولها:


-لا أبدًا يا حبيبتي، براحتك خالص، سيبيهم معايا اليوم كله، أنا فاضية ولا يهمك.


هزت شمس رأسها عدة مرات تعبيرًا عن الامتنان، قبل أن توجه بصرها نحو زيدان، الذي كان يتولى مداعبة قمر بحب، رمقته بنظرة غاضبة، فرفع زيدان حاجبيه معًا باستنكار، ثم تابع مداعبة الطفلة.


عندما غادرت شمس الشقة، سأل زيدان زوجته بفضول:


-هي شمس مالها؟!


-ماعرفش أنا بردو حاسة إنها متغيرة!


                           ****


في شقة سليم.


كانت المواجهة على وشك الانهيار، حين استفزها سليم قائلاً:


-ما قولتلك أنا ماعرفش حاجة عن الصور دي، أكيد مابكذبش يعني!


ردت بهدوء عكس ما توقعه، وهو يجلس أمامها وكأنه في جلسة اعتراف:


-وتعليقاتك اللي بترد فيها على البنات! دي كمان ماتعرفش عنها حاجة!


وضع ساقًا فوق الأخرى بغروره المعتاد، غير آبهٍ بما يدور في خاطرها من توعد وأمور انتقامية لم تطرق أبدًا ببالها من ناحيته.

"لا تستفز مشاعر أنثى، فأنت لا تتخيل حجم جحيم غيرتها!"


-زي ما أنا ماعرفش حاجة عن الصور، أكيد ماعرفش حاجة عن التعليقات!


تركت مكانها في لمح البصر، واختصرت المسافة بينهما حين انحنت بجذعها العلوي نحوه، مشيرةً نحو صدره، ولهيب أنفاسها يلفح وجهه، بينما نظراته الباردة تراقبها بلا مبالاة:


-انت فاكرني هبلة ولا عبيطة، هو في حد يقدر يعمل كده من غير إذنك وموافقتك.


-لا فيه، يزن.


أجاب ببساطة وصدق، فضيقت عينيها بتهديد، وسؤالها صدح في الأجواء المشحونة من قبلها، بينما ظل هو باردًا ينظر إليها باستمتاع:


-امممم يزن، قولتلي! وأنت بقى راضي عن المهزلة دي؟!


أبعد خصلة من شعرها المتناثر حول وجهها، وكأنه يساندها في ثورتها عليه، ثم سألها بهدوء، والاستنكار يلتف حول صوته:


-مهزلة أيه؟! دي مجرد صور بسيطة في مكتبي يعني!


مدت أصابعها تداعب وجهه في حركة أشعرته بالقلق، لكنه التزم الصمت أمامها، وهي تردد:


-بس متاخدة بزاوية معينة عشان تبين وسامتك والبنات يعجبوا بيك صح؟!


-الموضوع أبسط من كده يا حبيبتي!


قالها بنبرة عاشقة، وهو يبتسم ابتسامة صافية بقدر صفاء مشاعره نحوها، فقالت هي باستهجان قاسٍ:


-حبيبتك!


هز رأسه وجذبها بسرعة لتجلس فوق ساقيه، ثم عد على أصابعه باستمتاع لطيف:


-وقلبي وحياتي وما بحبش غيرها....


أمسكت أصابعه بين قبضتها الصغيرة، وأوقفته عن محاولاته لإلهائها عما تريد الوصول إليه.


-انت بتخوني؟!


-ماقدرش اعمل كده، مفيش غيرك يملى عيني.


رده كان سريعًا لدرجة أدهشتها، فرمشت عدة مرات محاولة استيعاب ما حدث، بعدما فشلت في إدراك حجم التغيير الطارئ عليه:


-سليم أنت متغير اوي! وأنا أعصابي تعبت بجد.


دمعة خانت حاجز عينيها وسقطت فوق وجنتها، مسحتها سريعًا تخفي ضعفها الذي ظهر بوضوح له، وما أغاظها ابتسامته الواسعة، رغم جاذبيتها المفرطة:


-انت بتضحك على أيه؟!


-اسمها انت مبسوط من أيه؟!


رفعت حاجبيها معًا، تجيب بنبرة متحشرجة:


-يا سلام ودي تفرق؟!


-طبعًا، مبسوط عشان شايفك غيرانة عليا، مع أني ماليش أي يد في الحوار ده؟!


كان يردد كلماته بنبرة مغموسة من دورق العشق، وعيناه تضيئان بلمعة فريدة، وكأنه امتلك الدنيا وما فيها، أما ملامحه، فكانت مسترخية، ونظراته تجوب وجهها الجميل، الملون بحمرة طفيفة دومًا تصاحبها حينما تنفعل.


-يعني أنت متفق مع يزن تعملوا الحوار ده عشان اغير عليك يا سليم؟!


كان صوتها مليئًا بالعتاب، فرد بنفي قاطع، وهو يقول بصدق خرج من خشونة قوية التصقت بصوته حين هاجمته بادعاء مثل هذا:


-لا طبعًا، أنا ماليش في الشغل ده أساسًا وانتي عارفة كده، الموضوع كله جه صدفة!


صمتت وتركت له المساحة الكاملة بهدوء تام كي يستكمل حديثه، في داخلها، كانت تسلم بصدق حديثه حينما سرد ما دار في خلده طيلة الأيام السابقة:


-كانت فكرة زي الزفت لما فكرت استعين بيه واشغله شوية فوق شغله بحيث مايفكرش في البنات اصلاً، وماعرفش إنه هيعمل فيا كده، الباشا بيعاندني وفاهم كويس أنا عايز ابعده عن أيه، فحب يعمل عليا صايع ويعلمني الادب عشان ابعد عنه، مايعرفش إن أنا نفسي طويل ومش هتنازل عن إنه يعقل ويتهد.


هزت رأسها بتفهم، ثم نهضت عنه بهدوء دون أن تعقب على حديثه، لكن في داخلها، لم ترضَ بما حدث، فلا زالت أحاسيسها تحترق بنيران الغيرة، ومع ذلك، كتمت كل ذلك بصعوبة داخلها، واكتفت فقط بأنه أخلى مسؤوليته عن هذا العبث!


أما سليم، فقد راقب ابتعادها عنه وصمتها المبالغ فيه، فقرر قطعه بسؤاله الخشن:


-مش مصدقاني؟!


-لا مصدقاك، بس أكيد يعني مش مبسوطة باللي حصل!


قالتها بهدوء، وهي تبعد خصلات شعرها عن وجهها الجامد بتعابير صامتة، وكأنها تضع وشاحًا يخفي أسفله حقيقة ما تتلظى به، اقترب منها، أمسك كفيها، وقبل باطنهما بحب، ثم سألها ببسمة عاشق أنهكه الهوى:


-طيب أيه يرضيكي واعمله!


لانت ملامحها قليلاً، محاولةً أن تثبت حبها له المنسوج بخيوط الثقة والصدق:


-أنا واثقة فيك وعارفة إن قلبك عمره ما يحب غيري، بس يعني تعليقات البنات مش ظريفة وإنك ترد عليهم ده عيب في حقي وبعدين الناس هيتكلموا في حقك....


قاطعها وهو يصحح لها:


-قولتلك مش أنا اللي علقت عليهم، أما بقى منظري فده مايهمنيش عشان مابيفرقش معايا، كلام الناس ده آخر همي، بس طبعًا اللي يفرق معايا، هو أنتي، عشان كده اتضايقت إن يزن عملك بلوك ونزل صوري من الأساس، مكنتش حابب اضايقك لأني كنت عارف أيه اللي هيحصل!


قال آخر جملته بغرور، ثم عاد بظهره يستند على مقعده بعنجهية تليق به وحده، مع ابتسامة تدلت من حافة شفتيه، جعلت عينيها تتوسع بحماقة وهي تنظر إليه غير مصدقة:


-ياااه واثق اوي من نفسك أنت يا سليم!


-طبعًا مش سليم الشعراوي، لازم اكون واثق في نفسي، شكلك مش عارفة قيمة جوزك.


رد بتعالي ممزوج بنبرة تسلية، هزت رأسها وهي تضحك تخبره بحنق انبثق رغمًا عنها من ثوران مشاعرها:


-لا للأسف مكنتش مقدرة حجم وضعك يا سليم باشا، بس تصدق أنا لو منهم مانبهرش بالصور دي، أيه يعني راجل عادي قاعد حاطط رجل على رجل بغرور وبيبص من غير مايبتسم، أيه الوسامة في كده مش فاهمة! بنات مابتفهمش، ماعرفش أيه الانبهار في كده!


ضحك ضحكة ساخرة عقب حديثها، جعلتها تقبض كفها بقوة، لكنها احتفظت بقناع الغموض أمام حصاره لها:


-هو بعيدًا إن أنا شامم ريحة شياط منك، وعينك بتقول عكس كده، ممكن اسألك أيه هو الانبهار من وجهة نظرك، من باب التسلية مش أكتر!


فتحت فمها تحاول إغاظته وإشعال شعلة الغيرة لديه هو أيضًا، لكنه كان أسرع منها حين هددها بنبرة قوية شرسة جعلتها تتراجع عما كانت تقدم عليه:


-وان فكرتي تضايقني وتثبتيلي إنك معجبة بحد غيري، وإن أنا مش استايلك والكلام الفارغ ده، هتزعلي مني جامد يا شمس، عشان انتي عارفة ماعنديش هزار في الحتة دي بالذات.


نهضت تقترب منه في غنج متأصل في طباعها معه، ومالت عليه في دلال تخبره بذكاء أنثوي حاد:


-وأنا كمان ماليش في الجو الرخيص ده، عشان أنت عارف إنك مالي عيني وقلبي يا سولي، هو في حد يبقى متجوز من سليم باشا الشعراوي ويفكر يعجب بحد تاني! رغم أنا زعلانة منك عشان خبيت عليا، واحنا مش متعودين على كده!


ابتسم ابتسامة واسعة وهو يغمرها بقبلات صغيرة فوق صفحات وجهها كتعبير بسيط عما يشعر به من تخبط في مشاعره، وكأنه مراهق استمع لعبارة إعجاب لأول مرة، فقال بصوت خافت دغدغ مشاعرها:


-حقك عليا! بس ماحبتش اشغلك بالتفاهات دي!


ابتسمت بدلال، وهي تمسك بذقنه بطرف أصابعها، تلتحم مع نظراته في ملحمة العشق والهوى:


-خلاص سامحتك يا أحلى سولي، بس ليا طلب صغنن.


-قوليه من غير سولي، بتموعلي نفسي يا شمس.


تجاهلت حديثه عن قصد، وقالت ما كانت تتمناه في الفترة الأخيرة، تقتنص موافقته الحتمية في تلك اللحظة، متأكدة أنه لن يرفض لها طلبًا:


-نفسي اروح سينما يا سولي، ممكن نخرج أنا وانت بس النهاردة؟!


-سينما؟!


تساءل باستنكار ملحوظ، فهزت رأسها تستعطفه، والحزن المصطنع يغمر وجهها ونظراتها التي شابهت نظرات قمر ابنته، داعبت قلبه بلطف، تجاهل كل هذا الضغط، ورد بصرامة:


-لا ماليش في الكلام ده، ماتطلبيش كده مني تاني، ممكن نروح مطعم.


نظرت إليه بوجهٍ عابس وعدستيها يغمرهما التحدي لما تتمناه في تلك الفترة.


                               ****

لم تعلم متى غرقت في نومها لدرجة أنها تقلبت بين كوابيس بشعة، زادت من ظلمة فؤادها المسكين، سرت رجفة في جسدها، وهي تتقلب في فراشها يمنيًا ويسارًا، تبحث عن مأمن من تلك الأحلام القاسية، ولكن برودة جسدها جعلتها تعود تدريجيًا إلى أرض الواقع، ففرقت جفنيها بصعوبة بسبب ما أصابهما من انتفاخ نتيجة بكائها الذي لم ينقطع حتى أثناء نومها.


لكن لماذا يتردد في أذنيها صوته؟ حاولت هز رأسها، تفرض سيطرتها على عقلها في نسيانه ولو لفترة قصيرة، تستعيد بها ذاتها، كي لا تقع أسيرة في قلعته للأبد، مالت نفسها للتحرر والفرار بما تبقى لها من ذاتها، كي تحاول إصلاحه بعيدًا عنه وعن علاقة أيقنت أنها أصبحت مرضية ومزعجة!


-أنا مش ههدى خالص يا حاجة أمل لو سمحتي، أنا عايز مراتي.


التفتت بوجهها بصدمة بالغة نحو باب غرفتها، تحاول جذب أطراف التركيز بعدما انفلتت من يدها، وبعد ثوانٍ، استمعت لصوت والدتها تحذره بنفاد صبر:


-يا نوح اللي أنت بتعمله غلط وماينفعش.


إلى هنا، نهضت بفزع كمَن لسعه عقرب سام، وتوجهت دون دراية بنفسها وبما ترتديه من قميص بيتي قصير يصل لركبتيها بلون زهري، وشعرها مسدل فوق ظهرها بفوضوية بالغة، فتحت باب غرفتها بقوة، غير مصدقة وجوده، فقالت بصدمة:


-نوح؟!


التفت لمصدر الصوت، وتضاربت مشاعره عندما رآها بهذا الشكل الذي خطف أنفاسه لرحلة قصيرة، خرج منها سريعًا حين صدمته بقولها الجامد:


-أنت بتعمل أيه هنا؟!


هنا تحول من سكونه اللحظي واستطاع النجاة من قوقعة غرامه بها، حين قال بجمود مماثل:


-جاي آخدك يا هانم أنتي ولينا عشان ترجعوا بيتكوا، هو أنا مش قولتلك أني مش هطلقك؟!


-بس أنا مابقتش عايزك.


ردت ببساطة قاصدة استفزازه، ففقد أعصابه لدرجة أن صوته صدح بجنون في أرجاء المكان:


-مش بمزاجك، أنا مش لعبة في ايدك، وقت ما تعوزيها تمسكي فيها ولما تزهقي ترميها، فوقي.


اقتربت منه، وهي لا تبالي بهيئته الشرسة إطلاقًا، ما يتردد أمامها هو رؤيته ومعه تلك الحسناء:


-اعتبرني عيلة وغلطت وبصحح غلطي.


كاد أن يمسك رأسها ليهشمه من شدة غضبه، فكور يده بقوة، يحجم غضبه بقدر ما يستطيع، رد بتهديد:


-حلو هتستحملي تبعدي عن بنتك يا هانم؟!


ظهر صوت الحاج فاضل في الأجواء فجأة، ويبدو أنه عاد سريعًا من عمله عندما علم من حارس البناية بمجيء نوح، وذلك وفقًا لتعليمات الحاج فاضل له:


-ماتقدرش تاخد بنتي ولا حفيدتي مني يا نوح، وقولتلك قبل كده أنا اللي هقف في وشك!


ثم استدار نحو ابنته ينهرها بصوت غاضب، يضغط فوق حروف كلماته بكل قسوة، يصفع بها عقل نوح:


-ادخلي استري نفسك، ماتقفيش قدامه كده، ده بقى واحد غريب عنك.


فصاح نوح بتبجح، وهو يشتبك مع نظرات "فاضل" في معركة شرسة:


-غريب مين أنا جوزها!


رمقه فاضل باشمئزاز، وهو يرمي بثقل كلماته في وجهه:


-مايشرفنيش إنك تبقى جوز بنتي.


مال ثغر نوح ببسمة ساخرة مستفزة، وهو يقول بلا مبالاة مقصودة:


-دي مشكلتك مش مشكلتي، أنا مطلقتهاش ولا هطلقها، مراتي وبنتي هاخدهم بالذوق بالعافية هخدهم منك.


أشار "فاضل" إلى الباب، صائحًا بغضب:


-اعلى ما في خيلك اركبه، ويلا من غير مطرود.


ألقى نوح نحوه نظرة تحدٍ، قبل أن يوجه بصره نحو زوجته الواقفة بسكون تام، تغلق عينيها عما يجري، وكأنها ترفض واقعها الأليم!


غادر نوح رافعًا رأسه، والتحدي يتدلى من حافة عينيه التي صوبها لفاضل وزوجته، التي على ما يبدو أن عدم الرضا يلوح في أفق عينيها، فاستمع لصياح فاضل لها بصوت جهور:


-الانسان ده مايدخلش بيتي تاني فاهمة ولا لأ.

                                 ****

استغلت "حسناء" فراغ غرفة نوح في العيادة، ودخلت بحجة تنظيفها وترتيبها سريعًا قبل أن يعود نوح ويبدأ عمله المتراكم مع المرضى بسبب إجازته المفاجئة بالأمس، أخرجت الأعمال السحرية التي سهرت والدتها المشعوذة على إعدادها بإتقان، ووقفت حائرة تتطلع هنا وهناك تبحث عن مكان خفي لتضع الأعمال فيه، حتى وجدته بالفعل وبدأت بوضعها بسرية تامة، متغافلة عن أمر الكاميرات الموضوعة بزاوية معينة في الغرفة.


سمعت صوت نوح بالخارج، فهندمت ثيابها سريعًا لاستقباله وتظاهرت بترتيب المكتب حتى دخل، ألقى نظرة نحوها يغمرها البرود، ثم توجه نحو كرسيه، يفتح حاسوبه والعبوس يحتل وجهه، متحدثًا بنبرة جادة:


-دخلوا أول حالة، واعملوا قهوة سادة.


لمعت عيناها بوميض الاهتمام، وسألته بنبرة رقيقة:


-مالك يا دكتور حاسة انك مش افضل حالاتك.


رفع وجهه يطالعها بنظرة مستفزة وبسمة سمجة، بعد أن وصلت يسر لمبتغاها وكره صنف النساء بأكمله!


-أنا فعلاً في أسوأ حالاتي، فـ مش عايز أي وجع دماغ، وتلاشوني خالص.


رمشت عدة مرات بحرج، ثم قالت بنبرة مصرة على غمرها في بئر الدلال، علها تسرق انتباهه لهيئتها الجميلة وثيابها الأنيقة وعطرها الفج الذي وضعته بكثرة استعدادًا لرؤيته:


-حاضر يا دكتور، أهم حاجة متكونش متضايق، أنا يهمني إنك تكون مرتاح.


ثم توجهت سريعًا إلى الخارج قبل أن تتلقى توبيخًا آخر منه، بعدما اعتقدت أنها نجحت من وجهة نظرها في وضع أساس خطتها للإيقاع به!


                              *****

وقفت فاطمة بجانب سيرا في شارع منطقتهما، تنتظران استكمال مجيء عائلة سيرا بعد أن فاجأتهم بشراء تذاكر للسينما متحججة بأخذ أول مرتب شهري لها مقدمًا وتثبيتها في عملها، تظاهرت أمامهم بحاجتها للاحتفال معهم، وحجزت لهم جميعًا تذاكر عدا والدها ووالدتها اللذين يرفضان تلك الأمور، أما زوج شاهندا أصر على ذهابهم بـ"ميكروباص" يملكه صديقه كي لا يكلف سيرا فوق طاقتها، مكتفيًا بذوقها وترفيهها عليهم.


مالت فاطمة نحو سيرا تهمس بعدم رضا:


-يزن ده هياخد صدمة عمره!


رفعت سيرا أحد حاجبيها باعتراض وهي تقول بخفوت:


-حاسة إنك متعاطفة معاه! انتي من امبارح بتغلطيني من تحت لتحت في أيه؟!


-أيوه عشان عماله تسوحي في الراجل وهو وقف جنبك كتير وآخر مرة انقذني، مرة تشتغليه وتبعتيه على الكافية يتلسع بالساعتين هناك واتحججتي بعيال اختك هما السبب وإنك ماتعرفيش حاجة! لكن المرة دي يا سيرا هتقوليله إيه ده انتي واخدة الفريق القومي كله معاكي!


عقدت سيرا ذراعيها أمامها ترفض ما ترمي إليه صديقتها، مُصرة على رأيها:


-ومحدش قاله يفكرني بنت سهلة وعايز يخرج معايا، وبعدين هو أنا هرمي أهلي عليه، أنا أصلا مش هعبره! بس يتلم وميفكرش يطلب مني كده تاني.


ضحكت فاطمة بسخرية وهي تقول:


-يا خرابي عليكي، عليا يا سيرا، انتي بتشدي وبترخي، من الآخر بتعلقيه بيكي بس بالأدب.


-أنا!


تظاهرت سيرا بالاستنكار وهي تشير نحو نفسها، ثم قالت بنفي كاذب:


-خالص، أنا فعلاً مش عاجبني أنه بيلف ورايا كده، فبديله على دماغه بس.


صدح صوت أبلة "حكمت" في الاجواء وهي تقول بنفاد صبر:


-ما يلا يا سيرا أنتي والفنانة خلينا نوصل بدري.


فهتفت كريمة خلفها بحماس والبسمة تخترق وجهها:


-اه يلا خلينا نشتري فشار...


شهقت أبلة حكمت وهي تقول بتوبيخ حاد:


-فشار أيه، فلوسكم كتيرة ياختي منك ليها، أنا عاملة فشار اهو في أكياس.


-أيه! يا نهار أسود لا يا ابلة عشان خاطري، ماتطلعيش الكيس ده أبدًا، أنا هجبلكم على حسابي فشار!


ضربت أبلة "حكمت" كفيها ببعضيهما وهي تقول بعدم رضا:


-وليه التبذير ده بس..


قاطعتها ابنتها "دهب" وهي تصيح بضيق:


-ما خلاص يا ماما بقى، خلينا نروح وهناك اللي يحصل يحصل بقى، انا زهقت من القعدة، ادخلي يا خالتوا يلا.


دخلت سيرا هي وفاطمة، والقلق ينتشر في صدرها خوفًا من تصرفات أبلة حكمت تحديدًا، داعية الله أن تمر تلك الرحلة البائسة مرور الكرام، نظرت للخلف، فوجدت أخواتها الفتيات وأزواجهن يضحكون بحماس، حولت نظرها لفاطمة وهمست تستنجد بها بلطف:


-فاطمة، أبلة حكمت ماتغبش عن عينك، عشان مانروحش في داهية.


همست فاطمة بنزق:


-ولو شافت يزن ده، اعمل أيه؟!


-لا يالهوي دي مش هتسيبه خالص، اوعي يا فاطمة الزقي فيها عشان خاطري وأنا هتصرف.


قالتها سيرا برجاء خافت، استفز أبلة حكمت التي أطلت برأسها تسألهما بفضول:


-ياختي بتقولوا أيه من الصبح، ما تحكولي يمكن أفيدكم.


تبسمت فاطمة وهي تقول:


-بقنع سيرا ناكل من الفشار اللي أنتي عملتيه يا ابلة.


أخرجت " أبلة حكمت" حقيبة بلاستكية سوداء كبيرة وهي تشير ببسمة كبيرة:


-شوفتي نصاحة اختك!


بلعت سيرا لعابها بصعوبة، والإحراج يغزو وجهها من تصرفات أبلة حكمت البخيلة، مغلقة عينيها بنفاد صبر.


في الصالة الخارجية، وقف يزن جانبًا يبحث عن سيرا بين الجمع المتواجد بإحدى المولات الشهيرة، وبين الثانية والأخرى ينظر في ساعته بعد أن تأخرت قليلاً عن موعدهما المتفق عليه، حتى وجدها أخيرًا تظهر من البوابة الكبيرة لصالة الانتظار ومعها صديقتها، ثم توسعت عيناه تدريجيًا حين وجد أبلة حكمت وبعض الأشخاص الذين لم يتعرف عليهم، وكأنهم في رحلة جماعية بدخولهم المثير للانتباه.


وقف مكانه بصدمة ولم يتحرك، أو بالأحرى فشل في تحديد قراره، حتى تقابلت أعينهما معًا، وجاء الرد من خلال رسالة من قبلها:


" أسفة معايا عيلتي، يا ريت تقدر موقفي، هبقى افهمك بعدين" 


أخرج تنهيدة مثقلة للغاية من صدره، وحسم قراره بعدم التقرب منها الليلة فقط منعًا لإحراجها، نظر للتذاكر بيده بحسرة كبيرة، وها هو يترنح من فوق جبل الأماني ليسقط بقاع الواقع الذي يرفض التآلف بينه وبينها! وكأنه أصيب بتعويذة سحرية أصابته بالتعاسة مع الفتيات، ولكن لا، فهو حظه جيد مع جميع الفتيات، ولكن لِمَ هي تحديدًا يتعثر كالطفل حين يقرر أن يحبو في جنانها؟!


حاول أن يتوارى عن الأنظار ودخل الفيلم بعدما دخلوا جميعًا، يراقبها عن كثب مع عائلتها، ولكنه صُدم بوجود سليم أخيه وشمس معًا في إحدى الجهات، فابتسم بتسلية كبيرة، وترك متابعة الفيلم، وبقي ينتقل بنظراته بين سيرا وعائلتها وسليم الذي يبدو عليه الحنق والاعتراض لوجوده في مثل هذا المكان!


                              ****

بعد ساعتين...


خرج الجميع من صالة السينما، وإلى هذا الحد كان الرضا والراحة يغمران قلب سيرا بعدم تعرض يزن إليها وخطتها تسير كما هي، ولكن ما أثار قلقها هو اختفاؤه عن أنظارها فعلى ما يبدو أنه غادر! فمالت بحماقة تقول:


-الله هو راح فين؟!


-هو مين ده؟!


استمعت لصوت "أبلة حكمت" بجانبها، فارتسمت صدمة بالغة بملامحها وحاولت تجميع شتات نفسها بعد أن ظنت أن التي بجانبها هي فاطمة:


-أقصد...فاطمة فين؟!


تظاهرت بالبحث عنها، فأشارت " أبلة حكمت" بإهمال نحو إحدى الجهات:


-قالتلك أنها رايحة الحمام يا مسطولة.


-اه اه، أنا رايحلها لغاية ما تجمعوا نفسكم.


تركتها سيرا سريعًا وهي تحمد الله أن حماقتها لم تسرق انتباه أبلة حكمت نحوها، وتوجهت لدورة المياه تبحث عن صديقتها حتى وجدتها.

خرجتا معًا للبحث عن الجميع، ولكن اعترض طريقهما شابان حاولا التحدث معهما إلا أنهما تظاهرتا بالتجاهل، حتى تشجع أحد الشابين وأمسك بيد سيرا كي يلفت انتباهها فصاحت به بقوة تبعده عن طريقها، تضربه بحقيبتها عدة ضربات بشراسة، وفي المقابل ساعدتها فاطمة بحقيبتها هي الأخرى حتى أظهر أحدهما آلة حادة صغيرة يستخدمها في الشجار قاصدًا إخافتهما مستغلاً فراغ المكان من الأناس ووجود السيارات  الفارغة في موقف الانتظار!


تراجعت سيرا وفاطمة معًا بخوف، ولكن سيرا هتفت بنبرة غلفتها بقشرة رقيقة من الثبات:


-ابعد أحسنلك.


-وإن مابعدتش يا بطل هتعملي أيه؟!


تلقى الشاب لكمة قوية جاءت من العدم في وجهه اوقعته أرضًا، فتوسعت أعين سيرا بصدمة حتى اطمأن قلبها قليلاً لوجود يزن من العدم: 


- بوفيتك، هعملك بوفتيك يا روح أمك.


قالها يزن بشراسة ضمنية، فتحمست فاطمة وهمست بجانب أذن سيرا التي استشعرت الخوف عليه:


-الهيرو ظهر من العدم.


لم تبتسم سيرا على تعقيب صديقتها، بل صرخت بقوة حين وجدت الشاب الآخر يظهر سكينًا حادًا صغيرًا وبدأت المشاجرة بقوة....

                            **** 

في إحدى الجوانب بمكان الانتظار وتحديدًا داخل سيارة سليم، جلست شمس تدندن بكلمات أغنية تحت أنظار زوجها الحانق وعدم رضاه الواضح، ولكنها تجاهلته حين نجحت في تنفيذ مبتغاها، ففتحت زجاج السيارة من ناحيتها بينما هو بدأ يتحرك بـبطء:


-ما تيجي يا سولي، نقفل اليوم قفلة حلوة وناكل أيس كريم.


فتح فمه يرفض اقتراحها كعادته، فهو يبغض التجمعات والأماكن العامة، يكره أن يكون تحت الأنظار، ولكن صرختها اخترقت أذنه حين قالت:


-سليم، الحق يزن بيتخانق هناك اهو.


__________________

تكملة الرواية من هنااااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات

التنقل السريع