القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل الرابع وعشرون 24بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)

التنقل السريع

     

    رواية غناء الروح الفصل الرابع وعشرون 24بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)






    رواية غناء الروح الفصل الرابع وعشرون 24بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)





    رواية غناء الروح الفصل الرابع وعشرون 24بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)


    الفصل الرابع والعشرون


    وصل يزن أمام منزل سيرا بعد أن التزما الصمت، إثر سؤالها الذي أيقظ جراحه القديمة، فغرق في دوامة ذكرياته مع والده، غير أن وجود شخصٍ ما أمام المنزل أيقظه من شروده، وكأنه لمح أخيرًا ما غيّر سيرا، ما جعلها أكثر شراسةً مما كانت عليه سابقًا معه، ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، واستعد لتصفية ذهنه بقليل من العبث.


    لم يُعِر سيرا اهتمامًا حين قالت بصوت خفيض موجوع:


    -شكرًا يا يزن و...


    راقبته لحظاتٍ وهو يطفئ محرك السيارة، ويستعد للنزول، فقالت بسرعة كمن يستدرك أمرًا:


    -مالوش لزوم تنزل، أنا...


    التفت إليها بجانب وجهه، يسألها بعبثٍ وابتسامة غامضة:


    -مش دي حورية؟ لازم أنزل أسلم عليها.


    حاولت إيقافه حين أمسكت بيده فجأة، وقد تغيرت نبرتها من الضعف إلى نبرة متمردة مستفزة:


    -وليه إن شاء الله!! هو إيه اللي لازم!


    تلعثمت قليلًا وهي تحاول إخفاء توترها خلف مظهرٍ هادئ:


    -لا، مقصدش... كل اللي أقصده... إإإ... إنها مش بتطقيك بس! أنا خايفة عليك من الإحراج.


    رفع حاجبًا متصنعًا الدهشة، متعمدًا إغاظة حورية التي كانت تراقب من بعيد، فابتسم بسخرية:


    -وليه ما بتطقنيش؟ هي قالتلك إني عملت فيها حاجة؟ أو أذيتها في حاجة؟


    هزت رأسها نفيًا، وقالت بنبرة ضيق مائلة للحيرة:


    -لا، مقالتليش حاجة، أنا بس بحس بكده.


    غمز بطرف عينيه إليها وهو يشاكسها:


    -دي غيرة دي ولا إيه؟!


    توردت وجنتاها خجلاً فبدت كمَن يبعد عنها تهمة:


    -أنت بتقول إيه!! يلا يلا ننزل.


    نزلا معًا، وكان الضعف ظاهرًا على ملامح سيرا، وقد انكسرت نظراتها وكأنها فقدت طاقتها، أما حورية فكانت واقفة تتوهج كالجمرة، على وشك الانفجار، فقالت بغيظٍ ناريٍ أدهش سيرا وأفقدها رد الفعل:


    -هو أنتي مش شايفاني واقفة؟ المفروض تنزلي على طول، مش تقعدي تتكلمي معاه وكأني مش موجودة!!!


    صمتت سيرا، تتعرقل الكلمات على لسانها، كأنها تُغلق عنها الأبواب، وما زاد الطين بلة أن يزن بدا غير متأثر، لكنه لم يغفل عن رد الإهانة:


    -اهدي يا حورية!! ده مش أسلوب تكلمي بيه صاحبتك وهي أبوها في المستشفى تعبان!!


    نظرت إليه حورية بغضب محتدم، وقد تبخر آخر خيط من صبرها، فردت بحدة مفرطة:


    -وانت مالك أصلاً بتتدخل ليه؟! أما انت غريب!


    ضاقت ملامح سيرا بشيءٍ ما رأته في عيني حورية، وكأنها أدركت ولو للحظة أن فاطمة ربما كانت على حق في وصفها لحورية بأنها شخصية قيادية لا تعرف اللين، لذا تصطدم كثيرًا بمَن لا يذعن لها، انتشلها صوت فاطمة من أفكارها، ظهرت أمامهم بقلقٍ مبعثر وإرهاق ظاهر، وقالت:


    -روحتلك المستشفى أبلة حكمت قالت إنك مشيتي، فجيت وراكي.


    لم تجب سيرا، واكتفت بالنظر إليها بعينين تفيض بالألم، فاقتربت فاطمة غير عابئة بوجود يزن أو حورية، وهمست بخوف حقيقي:


    -مالك يا حبيبتي، انتي تعبانة ولا إيه؟


    -آه يا فاطمة... يا ريت تاخديها وتطلعيها عشان ترتاح.


    قالها يزن وهو يجول بنظره على وجه سيرا المرهق، الحائر، وكأنها فقدت بوصلتها، استجابت فاطمة واحتضنت سيرا من جانبها برفق، وهمست:


    -يلا يا حبيبتي، تعالي نطلع.


    وأخيرًا نطقت سيرا بجملة جاهدت إخراجها من باب الذوق ليس إلا:


    -عن إذنك يا حورية.


    ثم صعدت مع فاطمة، غير عابئة بنظرات حورية التي اشتعلت بنيران الإحراج، بعد أن تُركت واقفة كعابرة سبيل.


    -مالك يا سيرا؟ انتي تعبانة ولا إيه؟!


    قالتها فاطمة بقلق عارم، فأجابتها سيرا بحيرة تامة:


    -حورية متضايقة مني!!


    انعقد حاجبا فاطمة وهي تساعدها على الصعود، وسألتها بدهشة:


    -ليه؟ في حاجة فاتتني؟


    -معرفش... بس حسيت إنها متضايقة إني مسمعتش كلامها وفركشت مع يزن!!


    قالتها سيرا بصوتٍ مائل لعتاب الذات، كأنها تحاول تبرير برود حورية، وعدم اكتراثها بحالتها المنهكة:


    -قصدك يعني هي غيرانة منك؟!


    هزت سيرا رأسها نفيًا، وقالت بنبرة ثقيلة شبه حائرة:


    -لا، أكيد هي بتحب خطيبها، وبردو بتحبني... بس شكل كلامك عنها كان صح.


    تنهدت فاطمة، ثم ربتت فوق كتفها بحنان واضح:


    -سيبك منها خالص، المهم انتي يا حبيبتي.


    توقفا أمام باب الشقة، فقالت سيرا بتنهيدة مثقلة:


    -تعالي ندخل ونتكلم، أنا محتاجة أفضفض.


    "أما بالأسفل"


    فقد بدأ التوهج يزداد شراسة، خصوصًا حين واجهت حورية يزن بقامتها القصيرة، لكن بجرأة نارية:


    -هو أنا مش قولتلك تبعد عن صاحبتي؟!


    احتدت عينا يزن بضيق، انعكس في نبرته الحادة كالسوط:


    -انتي بتكلميني كده ليه؟! إذا كنت أنا متساهل معاكي فعشان خاطر أختك ومليكة مرات زيدان، غير كده لو اتعديتي حدودك هديكي فوق دماغك.


    بدت حورية وكأنها فقدت السيطرة، انفجرت بهجوم حاد:


    -احترم نفسك، انت شكلك نسيت نفسك!


    اشتعل الغضب في عينيه كشرارةٍ لا تُطفأ، وخرجت كلماته كسياط تلسع مشاعرها:


    -انتي اللي نسيتي نفسك، والمفروض تحترمي نفسك ومتتدخليش في أمور غيرك! من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه!


    مالت برأسها بسخرية، تتعمد التقليل من شأنه:


    -ما شاء الله، مثقف أوي!!


    ابتسم ببرود، وخرج تهديده كالسهم من قوس مشدود، يحمل نية صريحة لإشعال فتيل النزاع:


    -ماتحاوليش تقللي من اللي قدامك، عشان انتي ماتعرفنيش، ولا تعرفي آخري إيه... فدايمًا خدي احتياطاتك.


    ورغم أنها كانت على شفا انفجار، لم تكف عن صب الزيت على النار:


    -احتياطات مع واحد بيتسلى بالبنات؟!


    ضحك ضحكة باردة، كانت كصفعةٍ على كرامتها، ورد بكلمات مدببة، متعمدًا استفزازها:


    -مالكيش فيه!! سامعة ولا لأ؟! ولا تحبي أسمعك بطريقتي؟ واه... في حاجة مهمة جدًا، لو ماخدتيش بالك منها، هطربقها فوق دماغك...سيرا خط أحمر! متحاوليش تيجي جنبها، ولا تقولي كلام عني ممكن تتأذي فيه!


    أجابته بنظرات توحي بالاحتقار، فيها من الغضب ما يكفي لإشعال حريق:


    -أنت بتحذرني أبعد عن صاحبتي؟! انت اللي المفروض تبعد! انت عكست الآية يا محترم!


    كان يزن يتلذذ بإثارة غضبها، كمَن يلعب بالنار، لكنه أصر على إيصال رسالة واضحة:


    -المحترم دخل الباب من بيته، واتقدم وخطب، متسلاش بيها، فمش من حقك تقوليلي ابعد عن صاحبتي، لإن...


    قاطعته وهي تكاد تنفجر:


    -لإن إيه؟؟؟ ها انطق وقول؟! نفسي أعرف أخرك؟!


    أصرت على الاستفزاز، فمجرد وجودها أمامه ومحاولاتها حجب سيرا عنه بكل الطرق كان يستفزه كثيرًا، فأراد أن يقطع عليها محاولاتها تلك برد، لعله صريح في ظاهره، ولكن باطنه لم تظهر بعد حقيقته، أو بالأحرى لم يعترف بها لنفسه الحائرة بين مجون إعجاب الفتيات به، وبين حب واضح وصريح يجعله يعترف لصاحبته بأهم اعتراف في تاريخه.


    ولكنه لم يدرك أن مجرد تفوهه بذلك القول علنًا ما هو إلا اعتراف واضح وصريح، وقد صدق عليه قلبه، لذا دفع عقله لتصور حورية مجرد عدو يريده أن يبتعد عن سيرا، فوقف لها بالمرصاد، حتى لو وصل به الأمر إلى فعل ما هو أحمق وجنوني، فالأهم هو سيرا في تلك المرحلة!


    – امممم... نفسك تعرفي آخري؟ تمام أقولك... صاحبتك دي أنا بحبها، ومعجب بيها، ومفيش بنت خلتني أتخلى عن رأيي في الجواز والخطوبة إلا هي، عشان كده دخلت البيت من بابه.


    رفعت حاجبيها باندهاش ساخر، تعقد ذراعيها أمام صدرها:


    – وأنا المفروض أصدقك؟!


    هز كتفيه بلا مبالاة، ورد بهدوء بارد:


    – تصدقي ولا ما تصدقيش، مايهمنيش... أنا عرفتك عشان النار اللي جواكي من ناحيتي تهدى شوية. واه... أنا حقيقي مشفق جدًا على خطيبك، بس اللي متأكد منه إنه عارف يشكمك، عشان كده مكمل معاكي. سلام يا آنسة حورية، وسلامي لأختك، وإن شاء الله أبلغها بنفسي لما أشوفها.


    ثم تركها قبل أن تتفوه بكلمة أخرى قد تدفعه إلى جلب شيء ما وضرب رأسها الأحمق به، مكتفيًا بتهديده المبطن إن أصرت على هدم طريق الوصال بينه وبين سيرا، فلم يحتج إلى كثير من الفطنة ليدرك أن هذا التأثير الطاغي الذي طرأ على علاقته بسيرا، وذلك الشد والجذب المستمر، ما هو إلا نتيجة مباشرة لوجود "حورية"! تلك الأفعى الناطقة باسم حقوق المرأة!!

                                     ***


    بعد مرور عدة ساعات، تململ نوح في نومه على الأريكة، فشعر بآلام موجعة في سائر جسده، لم يدرك سببها إلا عندما نهض وجلس وهو مغمض العينين، ثم فتح نصفها وهو يتثاءب، لكنه سرعان ما صُدم وانتفض بشراسة ينظر حوله، ثم إلى جسد حسناء الغافية فوق مقعد أمامه، والتي على ما يبدو شعرت به، فقالت بصوت رقيق افتعلت فيه القلق:


    -إيه يا دكتور، انت كويس؟!


    -أنا نمت هنا إزاي؟! هي الساعة كام؟ إزاي نمت هنا؟!


    أسئلة انبثقت من جوف عقله المظلم، يخشى أن يكون قد حدث شيء يخالف معتقداته ومبادئه، بعد أن صور له الشيطان أسوأ التخيلات، إلا أنها أراحته عندما أجابت بهدوء:


    -حضرتك مش فاكر إيه اللي حصل؟ ده انت دوخت وتعبت، وجبنالك الدكتور كشف عليك وقال إنك مرهق وتعبان، وكتبلك على أدوية تجيبها.


    ثم أعطته ورقة لطبيب مدون عليها اسم نوح وبعض الأدوية والمهدئات بالفعل، وكان هذا من ضمن مخططها الدنيء، رفع بصره إليها عندما استمع إلى تنهيدتها الثقيلة:


    -الدكتور قال برضو وارد متكنش فاكر، لو انت بتمر بظروف صعبة وضغوط نفسية، ده أنا بحمد ربنا إنك كنت معايا يا دكتور، كل ما أتخيل إنك لو كنت لوحدك كان هيجرالك إيه!


    ابتلع ريقه وهو يجذب هاتفه الموضوع أمامه على الطاولة، ثم سأل بوجوم:


    -حد اتصل عليا؟


    -آه، مدام يسر، بس معرفش ليه لما قولتلها إنك تعبان ومرهق قفلت في وشي السكة، وسوري يعني... شتمتك.


    زفر بغيظ وانفجر بها بحنق شديد:


    -وانتي بتردي ليه يا حسناء طيب؟!


    كانت تتوقع غضبه بعد أن دست سمومها إليه بطريقتها الثعبانية، إلا أنه فاجأها وأعرب عن قلقه من رد فعل زوجته؛ هل لا يزال يحبها؟ أم يتمنى عودتها إليه؟ لذا قررت أن تنفذ خطتها الثانية، فمالت بوجهها إلى الأسفل تصطنع الحزن، وهي تخفض نبرتها التي تلونت بثياب البكاء الزائفة:


    -حقك عليا يا دكتور، مكنتش أعرف إنك هتتضايق مني لما أرد، بس هي اتصلت كتير، خوفت تقولي ليه ماردتش، وخوفت يكون فيه أي خبر عن لينا، حقك عليا، أنا لازم أروح أعتذر للمدام بنفسي.


    -لا لا لا، هي كده كده أكيد لا طايقاني ولا طايقاكي، حصل خير، بس أنا ما بحبش حد يتعدى حدوده معايا بس.


    جزت فوق أسنانها من فرط غيظها، رغم انعكاس تعابير مناقضة على وجهها، فعادت تشد على الحبل المتراخي بينهما بقولها الماكر:


    -خالي كمان اتصل، وقال لي أقولك أبشر، لينا هتبقى في حضنك قريب.


    -بجد؟ وصل لحاجة؟!


    قالها بسعادة كبيرة، فابتسمت إليه، وعيونها لمعت بإعجاب واضح وصريح أثار حفيظته.


    -آه، أنا قولتلك خالي هيقدر يجيبها لك.


    لملم أشياءه وقال وهو يتحرك صوب باب الشقة، وقبل أن يغادر، توقف وشكرها:


    -شكرًا يا حسناء، وقفتك دي أنا عمري ما هنساها، وهتفضل جميلة في رقبتي.


    أمسكت بمقبض الباب وهي تنظر إليه بهيام أفصحت عنه لتوتره:


    -أنا مش عايزة أي حاجة، غير إنك تكون بالك رايق ومبسوط، انت غالي عندي أوي يا دكتور.


    ارتعشت ابتسامته وهو يحاول التهرب منها، ثم غادر مقررًا الاستعداد لشجار لم يكن مستعدًا له، لا نفسيًا ولا حتى بدنيًا!


    أغلقت حسناء باب الشقة، فاستمعت إلى صوت والدتها، التي كانت تقف على أعتاب الردهة الصغيرة تضحك بسخرية وهي تنفث دخانها:


    -الواد ده مش سهل، وهتطلعي خسرانة يا بت بطني.


    زمت حسناء شفتيها بضيق، ونَهَرت والدتها بوجوم:


    -اطلعي منها انتي يا ما، بلاش بوزك بس لحسن تنبري فيها وتبوظي.


    اقتربت والدتها محاولة إقناعها بأسلوبها الجاهل، كما تُقنِع الجهلة وقليلي الدين والوعي:


    -يا بت اسمعيني، خلي الأسياد هما يتصرفوا، بلاش تفكيرك وخططك دي، وقفة إيه ياختي اللي تقفيها معاه؟ وعشان خاطر إيه؟ ياخد باله منك؟ يا عبيطة! ده أنا أقدر أعملك عمل جلب حبيب يجي لك راكع وبيهوهو!


    ضحكت حسناء بسخرية، متعمدة التقليل من والدتها، متباهية بذكائها:


    -يا أما، ما انتي عملتيه ومنفعش يا أختي، وبعدين، أنا لو ما استغلتش فرصة خطف بنته، هستغلها امتى؟ لازم أبين له إني جدعة وبخاف عليه وبحبه، الراجل في أضعف حالاته بيبقى عايز اللي ياخد باله منه ويحتويه يا أما ويحسسه إنه مفيش غيره في الكون كله، خلطة نوح عندي وخلص، أنا بطبخها على نار هادية، اقعدي بقى واتفرجي عليا.


    همست والدتها بشرود قلق، والسخرية تقطر من كلماتها:


    -يا خوفي يا بت بطني، لأقعد واتفرج على خيبتك يا أختي وهي بتتذاع في الفضائيات.


                                  ***


    في اليوم التالي...


    كان نوح يجر قدميه جرًا أمام منزل يسر، يتهيب لحظة مواجهتها، حتى إنه أحضر الورقة التي دون فيها الطبيب خطة علاجه ليبرر بها سبب وجوده في منزلها، رغم أن السبب الحقيقي لم يكن المرض، بل كيف سيُخبرها بالحقيقة، وقد أرسلت له حسناء رسالة صباحًا تُحذره فيها من إخبار أي شخص بشأن خالها، حتى تضمن له الحماية وتتجنب أي أذى قد يُصيبه، وفي الحقيقة، هو يخشى أن يخبر يسر، فتُفشي الأمر لوالدها، فيصل إلى الشرطة، ولا شك أن العواقب حينها ستكون وخيمة.


    تنهد بصمت وهو يطرق باب شقة والد يسر، ففتح له الحاج "فاضل"، وكان نوح يتوقع أن يستقبله الرجل بوابل من الشتائم أو ربما بلكمةٍ غاضبة في وجهه، لكنه فوجئ به كما تركه بالأمس حزينًا، محطمًا، يئن بصمتٍ بسبب اختطاف حفيدته، بل إنه أفسح له الطريق قائلاً بهدوء:


    -تعالى اتفضل يا نوح.


    كتم نوح دهشته بصعوبة ودلف إلى الداخل، عيناه تبحثان بتوتر عن يسر، فقال بصوتٍ مبحوح:


    -هي يسر فين؟


    -جوه في الاوضة.


    حمحم بصوتٍ خشن، ثم استأذن بهدوء، وقلبه يخفق في صدره بخوفٍ خفي، وكأنه اقترف جرمًا عظيمًا، مع أنه لم يُخطئ، بل فقط سلك طريق البحث عن ابنته، فلذة كبده، ولو أن هذا الطريق وعرٌ ومظلم.  لقد أضناه التعب، وأرهقه الخوف، حتى فقد وعيه! الأمر بسيط، فلماذا يشعر وكأنه يحمل على كاهله جبلًا من الهموم؟


    -ممكن أدخلها، اطمن عليها؟


    أومأ الحاج فاضل برأسه دون اعتراض، فهو لا يرغب في الضغط على نوح في هذه المحنة القاسية، ربما تكون هذه الزيارة طوق نجاته من وحل أفكاره السوداوية، ومن الحضيض الذي يُلقي بنفسه فيه كل مرة.


    -اتفضل يا ابني.


    أخذ نوح نفسًا عميقًا، كما لو كان يستعد لركضٍ في سباق ماراثوني، ثم طرق الباب بخفة ودخل، وما إن رأته يسر حتى اعتدلت في جلستها، لكنها لم تنطق بكلمة، واكتفت بالنظر إليه، كأنها تنتظر منه اعترافًا، بدا كطفلٍ صغيرٍ يلجأ إلى والدته ليُقر بأخطاءٍ يراها تافهة، بينما تراها والدته كوارث.


    -عاملة إيه؟!


    لم تُجبه في بادئ الأمر، وظلت صامتةً بتعابير جامدة، وجهها مُتلبس بجمود قاتل، كأن الرحمة فارقته.


    -تمام، وانت؟!


    كلمتان فقط، تحملان إجابةً وسؤالًا، دفعتاه لأن يتهور قائلًا:


    -يسر أنا عارفة إنك متضايقة مني، بس....


    رفعت حاجبيها في دهشة مصطنعة، وسألته بنبرةٍ خالية من الفهم، وكأنها ترسم على ملامحها لوحة من اللا مبالاة:


    -متضايقة منك ليه خير؟ 


    انكمش وجهه بتعجب ممزوج باستنكار، فقد كانت كلمات حسناء بالأمس تؤكد له أن يسر أشبه بكتلةٍ نارية على وشك الانفجار.


    -عشان يعني كنت عند حسناء واتصلتي لقيتيني نايم، بس أنا مكنتش نايم، أنا كنت تعبان وتقريبا دوخت وجبولي دكتور.


    تصنعت التعاطف وردت بقلقٍ زائفٍ أرعبه حقًا، وكأنها تلقي عليه تعويذةً مبطنة:


    -بجد كنت تعبان؟ وانت عامل إيه دلوقتي بخير، ولا اخلي بابا يجبلك دكتور، نطمن عليك أكتر؟


    لأول مرة، كان يتمنى من أعماقه أن يرى يسر الغيورة، الهائجة، تلك التي يرتجف صوتها خوفًا من فقدانه، لم ترُق له هذه النسخة الباردة منها، خالية المشاعر، متقنة التمثيل.


    -رد عليا يا نوح، أجبلك دكتور؟ مع إنك شكلك كويس ومفيش فيك حاجة، أنت متأكد إنك كنت تعبان؟


    قالت ذلك بسخرية خفية دفعت الغضب ليطفو على سطح صوته، فاحتدت نبرته وهو يرد بعنفوان:


    -حاسس بتريقة منك ودي حاجة مش كويسة أبدًا على فكرة، أكيد أنا مش عايز أنام عندها بمزاجي ولا أنا فاضي للتفاهات اللي في دماغك، أنا عندي مصيبة أكبر من كده.


    فاجأه رد فعلها، إذ أمسكت بيده وقالت بنبرةٍ هادئة تحمل في طياتها سخرية واستنكارًا:


    -اهدى يا نوح، متتعصبش كده انت لسه كنت تعبان امبارح ومرهق وحسناء سكرتيرك جابتلك دكتور في بيتها، وصدقني مفيش أي تفاهات أنا حاسة بيك، ومقدرة العجز اللي أنت فيه بسبب لينا، وأكيد يعني عارفة إنك في مصيبة كبيرة وأكيد مش فاضي تروح لسكرتيرك في بيتها إلا إذا كان عشان.....


    توقفت فجأة، ثم ضيقت عينيها وكأنها تُحاول العثور على عذرٍ مقنع له، لكنها مطت شفتيها بأسف، وقالت:


    -للأسف مفيش سبب مقنع، بس العموم أنت في مصيبة كبيرة.....


    ثم رفعت يديها إلى السماء وقالت بتضرعٍ مؤلم:


    -يا رب ترفع عنا مصيبتنا دي ونلاقي بنتنا.


    أنزلت يدها وتنهدت بحزنٍ عميق، قبل أن تجذب الغطاء على جسدها وتقول بصوتٍ خافتٍ جعله مذهولًا:


    -أنا هنام يا نوح شوية، ولو حصل حاجة صحيني.


    ثم أغلقت المصباح القريب منها، لتدفعه بصمتٍ إلى مغادرة الغرفة، بل مغادرة المنزل بأسره، وبالفعل نهض دون أن ينبس ببنت شفة، وغادر المكان يحاول جاهدًا كبح جماح غضبه.


    أما هي فأنزلت الغطاء على وجهها، وأطلقت لنفسها العنان بالبكاء، بكاءً مريرًا حرك كل أوجاعها، بعد أن كبحت مشاعرها وتصرفت بعكس طبيعتها، فقد رأت أن أنسب وسيلة للتعامل مع نوح في هذه المرحلة هو التجاهل والبرود، يكفي ما قضته في الليلة السابقة من صدمةٍ لم تستفق منها بعد.


    بينما نوح، أغلق باب سيارته بعنف، وزفر بغيظ، ولأول مرة لم يكن يعرف إلى أين يتجه؟ وما لبث أن رن هاتفه مجددًا، فإذا بيزن يتصل به للمرة الخامسة، فأجابه بضيق:


    -في إيه يا يزن؟


    -في إيه انت، عمال اتصل بيك من امبارح لغاية ما طهقت ياعم، أنت فين؟


    تنهد نوح بحيرة، ثم قال:


    -معرفش، معرفش أي حاجة حاسس إني هموت.


    -طيب اهدى وقولي انت فين، وأجيلك، واقسم بالله أنا مابنزلش من على ودان زيدان وزمايله وبيشتغلوا متقلقش، أنت عارف زيدان عمره ما هيقصر.


    أغلق نوح عينيه محاولًا تهدئة نفسه، ثم تمتم بصوت خافت:


    -عارف، أنا بس مخنوق شوية، المهم هجيلك في الأجانص.


    -مستنيك.

                                  **** 


    عاد الحاج "حسني" إلى منزله بعد أن تأكد الأطباء من استقرار حالته الصحية، فالتف حوله الجميع، بمن فيهم قاسم وعبود، اللذان قدما اعتذارهما للمرة الألف، واكتفى الجميع بإخفاء ما حدث ليلة الأمس مع فايق ووقاحته، وكأن الأمر لم يكن، في تلك الزاوية البعيدة من الغرفة، جلست سيرا بصمت ثقيل، يكسو ملامحها الجمود، وتنظر إلى الجمع نظرات قلقة أثارت ريبة والدتها ووالدها.


    مالت والدتها عليه تهمس ببعض الكلمات الموجزة، فتنحنح الحاج حسني، ثم قال بنبرة آمرة:


    -يا ريت كلكم تخرجوا وتسيبوني مع سيرا لوحدي.


    تبادل الجميع النظرات مع سيرا في صمت، إلا أنها تجاهلتهم تمامًا، لم تسامح أحدًا منهم على موقفهم بالأمس، ولا على سهام الشك التي وُجهت نحوها دون رحمة، فالجروح التي خلفوها في قلبها لم تندمل بعد، ولا تزال تنزف بصمت.


    ارتفع رنين هاتف حورية فقطعت الصمت، لكنها سارعت إلى إغلاقه دون حتى النظر إلى هوية المتصل، لم ترغب بسماع صوتها.


    انتبهت سيرا لصوت والدها وهو يوجه حديثه إلى حكمت التي كانت تجلس إلى جواره، وقد بدا الضيق واضحًا في نبرته:


    -يا حكمت هو أنا مقولتش كله يخرج، انتي بتعملي إيه هنا؟


    تظاهرت بالألم، وأشارت إلى ساقها وهي تقول:


    -رجلي يا بابا نمّلت فجأة وغلط ادوس عليها، أنا بقى هنام جنبك هنا لغاية ما تفك واقدر امشي عليها، وسع كده يا بابا.


    تأملها والدها باستغراب، فهو يعلم جيدًا أن ادعاءها ليس إلا وسيلة للبقاء، وأن فضولها وحده هو من يدفعها إلى هذا التمثيل الساذج، وقبل أن يعترض، عاجلته بحيلة أخرى، وهي تنقل بصرها بينه وبين سيرا:


    -وبعدين يا بابا أنا سيرا مبتخبيش عليا حاجة خالص، مش كده يا سيرا، وأكيد هي مش هتضايق إن هقعد واسمع انت عايزاها في إيه!


    كان الحاضرون قد أجمعوا، دون أن يُعلنوا ذلك، على بقاء حكمت، لعلهم يسترقون من الحديث ما يُفيدهم، خاصة بعدما تردد على مسامعهم أن سيرا قد أبلغتهم برغبتها في الانفصال عن يزن.


    -لا هتضايق عشان كل اللي احنا فيه بسببك، وأكيد اختك زعلانة ومهمومة دلوقتي عشان خطوبتها اتأجلت بسبب الفضايح اللي حصلت، ذنبها إيه هي في المصايب اللي بتعملوها، حرام عليكم يعني يوم ما الفرحة تدخل بيتي وفرحان من قلبي لاختكم وعريسها تيجوة انتوا وتبوظوا كل حاجة، كسرتوا فرحتي وفرحتها.


    كانت حكمت تستمع لكلماته، وتلقي بنظرات طويلة نحو سيرا، تحاول أن تمرر رسائل مبطنة لم تفُت على سيرا، ثم نطقت بنبرة باكية، خادعة، تحمل مكرًا لم يخفَ على أختها:


    -يعني يا بابا انت بتحملنا ذنب فركشة خطوبة سيرا.


    صرخ الأب مستنكرًا:


    -فركشة إيه؟! إيه الفال الوحش ده يا بنتي، أنا بقول تأخيرها، ماتنبروش انتوا فيها بس، وسيبوها على الله.


    نهضت حكمت بخفة نحو أختها الصامتة، واحتضنتها فجأة، متصنعة الانهيار:


    -حقك عليا يا سيرا، أنا السبب، سامحيني....


    لكنها ما لبثت أن همست في أذنها، بصوت منخفض يحمل تحذيرًا مقنعًا:


    -شوفتي، جالك كلامي بابا عايز يفرح بيكي، عايزة تكسري فرحته يا جاحدة، ده خطوبتك دي الحاجة الوحيدة اللي هتفرحه.


    أمالت سيرا جانب وجهها، ساخرة من تمثيلية شقيقتها ومن منطق هذه العائلة الذي يربط السعادة بخطبة قهرية، رفعت نظرها إلى والدها، فرأته ينظر إليها بحزنٍ صادق، بعيدًا عن كل تلك الضغوط، كانت تدرك أن خطبتها ليزن سترسم البسمة على وجه والدها وستسعده وربما تكون عزاءه الوحيد في أزمته الصحية، ولذلك قررت أن تكبت جراحها من أجل والدها، حتى لو كان الثمن هو الاقتران بعاشق النساء، وقاهر قلوب العذارى، ذلك العابث الذي لا يرى في المرأة إلا كل ما هو جميل!


    دفعت حكمت عنها برفق، وقالت بصوت حاولت جعله طبيعيًا، فيه قليل من المرح الباهت:


    -إيه يا أبلة الدراما دي، أنا ولا زعلانة منك ولا زعلانة من حد، أنا اللي كان مزعلني هو أنك تعبان يا بابا، الاهم عندي هو صحتك يا حبيبي.


    مسحت حكمت وجهها، وقالت بسعادة حاولت كبحها:


    -ياختي اسمالله عليكي عاقلة ورزينة وعارفة مصلحتك، ربنا يفرحنا بيكي يا رب.


    -يا رب يا أبلة يلا أنا هنزل الشغل بقى، سلام.


    قبلت يد والدها، ثم ودعته وخرجت، وبينما كانت تمر بالجميع المتحفزين في الخارج، تجاهلتهم تمامًا، ثم غادرت، وقفوا جميعًا يسألون حكمت بقلق ما الذي دار في الداخل، فأجابتهم بسعادة لا تخلو من شماتة:


    -اطمنوا الأمور بخير وهي مكملة في الخطوبة بس.....


    قالوا جميعًا بصوت واحد:


    -بس إيه؟


    هزت كتفيها بلا مبالاة وقالت بنبرة عابثة:


    -شكلها مش طايقكم، بس أنا لا بتحبني عادي.


    ثم غادرت وهي تتبختر بمشيتها، مستمتعة بنظرات الحقد والضيق التي انهالت عليها، خاصة بعدما نثرت شماتتها بينهم علنًا.


                                   ***

    في جهةٍ أخرى، كان نوح يجلس أمام الطاولة الصغيرة، وقد وضع فنجان القهوة الرابع عليها، بينما أسند رأسه بكلتا يديه، يُحاول أن يحتمل كل ما يحمله من أثقال على كاهله، كان قد سرد على يزن كل همومه حتى استعانته بخال حسناء، مؤكّدًا عليه للمرة الألف ألا يخبر زيدان أو الشرطة.


    قال يزن بنبرة ضيق:


    -يا عم اقسم بالله ما أنا قايل، فهمت وعرفت، المهم لينا ترجعلنا بالسلامة بس.


    همس نوح، وصوته مملوء بالحزن والدعاء:


    -يا رب يا يزن.


    دخل أحد العاملين، يحمل بيده مجموعة من التذاكر وقدمها ليزن:


    -اتفضل يا باشا دول حجز تذاكر لماتشات الأهلي، ودول حجز لماتشات ودية في أندية على مستوى زي ما طلبت.


    هز يزن رأسه شاكرًا، ثم وضع التذاكر في درج مكتبه بعد أن غادر العامل، التفت إليه نوح باستغراب، وقال بنبرة استنكار:


    -من امتى وانت مهتم بالكورة للدرجة دي يا يزن؟


    ابتسم يزن، ورفَع حاجبيه بعبث:


    -لا بقيت مهتم، وبعدين ياعم دول للاتنين حبايبي كده هبقى احكيلك عليهم لما تبقى رايق، عايز بس ازقهم بعيد عن دماغي، وبردو ممكن استخدمهم لأغراض في دماغي.


    سخر نوح وهو يقول:


    -بحجز للكورة وتذاكر لماتشات؟!


    -الكيف بعيد عنك يعمل أكتر من كده.


    قطع رنين هاتف نوح حديثهما، إذ كانت حسناء تتصل أشار نوح ليزن بالصمت ثم أجاب بسرعة:


    -الو ايوه يا حسناء، في أخبار؟


    جاء صوتها متحمسًا، به نبرة انتصار:


    -طبعًا في أخبار وأخبار حلوة كمان وبمليون جنية.

    ___________

    تكملة الرواية من هناااااااا 

    لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

    بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

    متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

    الرواية كامله من هناااااااااا

    مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

    مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


    تعليقات