رواية شظايا قلوب محترقة الفصل السادس والاربعون 46بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة الفصل السادس والاربعون 46بقلم سيلا وليد
الفصل السادس والأربعون
"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "
"أيُّ حياةٍ تُدعى حياةً بعدكِ؟"
أرددها كمن يُنادي في صحراء موحشة، لا صدى، لا رد، سوى رجع أنيني.
أتظنين أنّ الحياة تمضي كما كانت؟
كلا...
ما عدتُ أتنفس، بل أختنق بذكراكِ.
ما عدتُ أحيا، بل أذوب في غيابكِ قطرةً قطرة.
أقسم لكِ...
لستُ حيًّا منذ ابتعدتِ.
أنا شبحُ رجلٍ سلبه الفقد ملامحه،
أنا قلبٌ هائمٌ بكِ،
يغوص فيكِ من الوريد حتى الوريد،
كغريقٍ يتلذذ بالموت إن كان الغرق في عينيكِ.
يا من امتلكتِ كياني...
يا من تقاسمكِ النبض مع شراييني...
كيف أشرح لكِ أن بعدكِ لم يكن غيابًا،
بل فناء؟
بالمشفى، عند راجح...
رفرف أجفانهِ ببطء، يفتحُ عينيهِ متأوِّهًا..استقرَّ نظره، حتى وقعت عيناهُ على إلياس جالسًا على المقعدِ المجاورِ لفراشه، يرمقهُ بنظراتٍ تخترقُ جسدهِ وتفتكُ روحه..نظراتٌ نارية، مسعورة، تُشعلُ اللهبَ يتمنَّى أن تصلَ إليه وتحرقه..
برقت عيناهُ بدهشةٍ متوجِّسة، وتمتمَ بصوتٍ متقطِّع خرجَ من بين شفتيهِ اليابستين:
إن...تَ بتعمل إيه؟
تراجعَ إلياس بجسدهِ قليلًا، وابتسامةً ساخرةً تجلَّت على وجهه، تدلُّ على استخفافٍ مرير، ثمَّ قال:
- جاي أتبرَّع لك..إيه؟ بلاش أردّ الزيارة؟..دا حتى ياراجل، إحنا ولاد أصول، ومتربيين...
ثمَّ انحنى نحوهِ فجأة، غارسًا نظراتهِ الحادَّة في عينيهِ المتَّسعتين، وهمس بنبرةٍ تشبهُ السُّمَّ الزاحف في العروق:
عارف الحاجة الوحيدة اللي بندم عليها ياراجح من ساعة ماعرفت شخص مقرف زيك؟
توقَّفَ لحظة، كأنَّما يتلذَّذُ بخوفه البائنِ بملامحه، وتابع:
- إنِّي متربِّي..متربِّي أوي، واللي زيك مش عايز المتربيين..
ارتجف جسدُ راجح كمن أصابهُ مس، وعيناهُ ترصدانِ أدقَّ حركةٍ في قسماتِ إلياس، وكأنَّه ينتظر ضربةً مميتةً تخرج في أيِّ لحظة...ثم قال بصوتٍ منكسر، يحمل نبرةَ ذعرٍ خفي:
- إنتَ عايز منِّي إيه ياابنِ جمال؟
لوى إلياس شفتيهِ بازدراء، ولا زالت عيناهُ تشتعلان، فبسط كفيه إلى جيبه وهو يهتف:
-الله...مش قولت جاي أردّ لك الزيارة؟
هلع، وقفز راجح مبتعدًا، يصرخُ كمن رأى الموتَ بعينيه:
- الحقوني! هيقتلني.
قطب إلياس جبينهِ في امتعاض، ثمَّ رفع هاتفهِ مشيرًا به قائلاً:
اهدى ياراجح..هقتلك بالموبايل؟ ليه فيه سمّ بالصاعق؟ ياراجل، بقولَّك جاي أتبرَّع لك، تقوم تقولِّي هقتلك؟ طيب والله...يا رب تموت لو كنت بضحك عليك.
- عايز إيه ياابن السيوفي؟! مش مكفِّيك عمايل أخوك؟!
أطلق إلياس ضحكةً ساخرة، ثمَّ مال برأسهِ قليلًا قائلاً:
- تؤ... تؤ... كده تزعَّلني، وزعلي وحش.. من دقيقة كنت بتقول ياابنِ جمال، ودلوقتي ابنِ السيوفي؟! لا وكمان الأهبل بيقول أخوك...
ثمَّ اقتربَ أكثر، وكلماتهِ تتسلَّلُ إلى أذنِ راجح كالسياط:
-أنا معاك، يوسف جمال الشافعي، شوفت أنا طيب إزاي، علشان لو قلبت لإلياس هخنق الهوا في زورك.
-عارف إنَّك يوسف ابنِ جمال، بس مش أنا السبب في اللي خلَّاك الياس..
تهكَّم راجح وطالعهُ بنظرةٍ ساخرة:
-حلو الإحساس إنَّك تعيش باسمِ غير اسمك..ومتفكَّرش هخاف من تهديدك أنا مش هسيب حقِّي ليك يابنِ جمال، ولا من أخوك..وفين لمَّا تثبت بقى، هفضحك وأقول كلِّ حاجة..
هنا تجمَّد الهواء داخلَ رئتيه، حتى شعر بوجعِ محتدمِ في قلبٍ لا يعرفُ الرحمة.. فتقدَّم إلياس بخطواتهِ الهادئة، الواثقة، والتي تُخفي تحتها بركانًا من الغضب، من كلماتِ راجح الناريةِ التي جعلتهُ لا يهدأ، ثمَّ نظر إلى راجح بنظرةٍ لا تخلو من اشمئزازٍ دفين، كأنَّ عينيه تفرضُ عليه مجرَّد تذكيرٍ بحقيقةِ وجوده..ثمَّ قال بصوتٍ خفيض، لكنَّه يقطرُ تهديدًا:
– وأنا منتظر الفضايح، عايز أعرف هتعمل إيه؟..قالها بعيونٍ تنطقُ من الشرِّ مالا يستطع أحد التحكُّم فيه..
تراجعَ راجح قليلًا، بعدما تسلَّل الذعرُ إلى ملامحه، وهمسَ بضعف:
– إلياس..أنا ماليش دعوة بالِّلي حصل...أنا بقول أيِّ كلام..
ابتسم إلياس باستخفافٍ فاستدارَ بنصفِ جسده، وهتف بنبرةٍ لا مباليةٍ تخفي خلفها طوفانًا من النيَّة المبيَّتة:
– أُمم..أيوة صح، إنتَ بريء وبتقول أيِّ كلام..معذور يعني هتختارني ولَّا تختار نفسك؟ أنا لو مكانك كنت هعمل زيك...
انقبض وجهُ راجح، وقال مستنكرًا:
– تقصد إيه، لا طبعًا هختارك؟!
صمت إلياس ولم يرد عليه، فتساءلَ بنبرةٍ جعلها قوية حتى لايبيِّنَ ضعفه:
-إنتَ عايز إيه ياابنِ جمال؟..مش كفاية أخوك..
ابتسم إلياس..ابتسامةَ وجعٍ ممزوجٍ بالشماتة، وقال ببطءٍ يشعرُ بأنَّ الهواءَ داخلهِ كالسكاكين:
– روحك يا راجح...عايز روحك..ودي هاخدها، بس مش هريَّحك، صدَّقني كلِّ يوم هخطف منَّك جزء من روحك، لحدِّ ما تكره اليوم اللي اتولدت فيه.
اقترب، حتى باتت أنفاسهِ تلفحُ وجهَ راجح، وحاصرهُ بذراعيهِ كأنَّها قيدٌ لا يُكسر..ورغم الألمِ الظاهرِ في عينيه، بل بجسدهِ لما يشعرُ به، ثمَّ تابع بصوتٍ خفيضٍ ولكنَّه أشدُّ وطأة:
– أوعى تفكَّر إنِّ إلياس بينسى ويعدِّي اللي أذاه بكلمة...تخيَّل بقى اللي مدِّ إيده على أمِّي ومراتي.
اهتزَّ جسدُ راجح، من تلميحاتهِ المبطَّنة، فتراجع للخلفِ يزحفُ بجسده، متهرِّبًا:
– إنتَ بتقول إيه؟ تقصد إيه؟!
انتصب إلياس، ومدَّ يدهِ يحكُّ ذقنهِ ينظرُ إلى الأسفلِ ثمَّ بدأ يدورُ حول نفسه، كأنَّه يفكِّر بما سينتويه، يهمسُ لنفسه، يعيدُ كلماتهِ بصوتٍ متهكم:
– تقصد إيه ياإلياس...تقصد إيه؟…
رفع رأسه، وابتسامةٌ ساخرةٌ ترسَّخت على ملامحهٍ كندبةٍ دائمةٍ تشعرهُ بالاشمئزازِ من نفسه ثمَّ قال:
- ولادك اللي رميتهم في كلِّ مكان... حبِّيت آخد تارهم منَّك..وقلت علشان ما يتفاجأوش بعيِّل بعد كام سنة...ما هو النجس له في كلِّ مكان مصيبة.
قطب راجح حاجبهِ في ذهول:
– تقصد إيه؟!..
اقترب إلياس ينظرُ اليه بعينينِ جامدتينِ لا تشتهي الحياة، وقال بهدوءٍ شيطاني:
- أقصد...إنِّ الدكاترة وهمَّا بيستأصلوا الكلية، اتفاجأوا إنِّ عندك شوية حاجات محتاجة تتظبَّط..البروستاتا؟ هلكانة، ياقلبي عليك ياراجح..والمرارة؟ كانت هتنفجر... فكان لازم يتصرَّفوا..عملوا إيه؟ كلِّموني، ماهو أنا ابنِ أخوك الكبير، وأنا...إدِّيتهم الإذن يظبَّطوك.
– إنتَ... قصدك...!!
أومأ برأسه، وضحكةً مستفزة، بعيونٍ تنطقُ بالشرِّ يهزُّ رأسه، ثمَّ تقدَّم حتى صار على بُعدِ نفسٍ واحدٍ منه، وهمس بعبارةٍ سلبت ما تبقَّى له من رجولة:
– مفيش بروستاتا ...قالها غامزا وأكمل -ما بقتشِ راجل ياراجح...علشان يبقى تتشطَّر على الستَّات الحلوة..والِّلي خلقني، لآخد أعضاءك جزء جزء... وعلى الهادي.
صرخ راجح كالمجنون، يهذي باسمِ الممرضة، كأنَّه يتمسَّكُ بقشةٍ وسط بحرِ الهلاك..لكن إلياس أشار بسبَّابتهِ تجاهه، بصمتٍ مميت، ونظراتٍ تفضحُ نيَّته بقتله
– لو نطقت بحرف فيه "أرسلان"، أيِّ حرف من اسمه، صدَّقني، أعضاءك كلَّها مش هتشفي غليلي...واحمد ربِّنا إنَّك وقعت في إيد أرسلان، مش في إيدي.
-المهم نستني اوريك فيديو الموسم ياراجل، ياله والله صعبت عليا، هبعتهولك على الموبايل علشان وقت كدا وكدا يعني، تجيب الفيديو تتذكر ايامك الملاح ..قالها بضحكة صاخبة ورغم أنها ضحكة إلا أنه لم يبتسم بل رمقها شزرا
و استدار قليلًا، ثمَّ عاد بصوتهِ الحاد:
– وابنك..اللي خرَّجته وأنا في المستشفى هرجَّعه، وهيتعدم قدَّامك..الإيد اللي تلمس مراتي؟ أقطعها..أوعى تفكَّرني نسيت...أنا بس برتِّب الأولويات.
أشار للممرضة، دون أن يرفعَ عينيه عن راجح، كأنَّ روحهِ لم تكتفِ بعد..
-خلِّي بالك منُّه، دا غالي عليَّا، وياريت دواه بانتظام، وغيَّري له على الجرح حلو..قالها وتراجع يتحرَّكُ للخارجِ بعدما أغلقَ حلَّته..
توقَّف لدى الباب، واستدارَ برأسه:
-ألف سلامة ياعمِّي..نسيت أدعي لك بالخلف الصالح دا لو قدرت..
قهقهَ غامزًا..شقي يارجوح.
بعد فترةٍ وصل إلى فيلا الجارحي، دلف للداخلِ بهيبتهِ المعتادة، قابلهُ إسحاق مرحبًا به، اقتربَ منه هامسًا:
-كان لازم تعمل نمرة عند راجح؟..
رفع حاجبهِ وكأنَّه مستخفًّا بحديثِ إسحاق ثمَّ أردف:
-مبحبِّش شغلِ المخبرين دا ياإسحاق باشا، أنا مش أرسلان، قالها يهزُّ رأسهِ بابتسامةٍ صفراء ثمَّ خطا لجلوسِ مصطفى وفاروق، وصل إليهم ملقيًا السلامَ يبحثُ بعينيهِ عن أرسلان...
أشار إليهِ مصطفى بمكانِ أرسلان، أومأ وجلس بجوارِ والده، يتجوَّلُ بعينيهِ بالمكانِ إلى أن وقعت على زوجته التي تقفُ بجوارُ إسلام ويزن كطفلةٍ تبلغ من العمرِ عشرَ سنوات، ضحكاتها، نظراتها، حقًّا ستسحقهُ تلك الفتاة..ماذا قال يزن ليجعلها متناسيةً كلَّ آلامها، وتظهرُ بتلك الحالة؟..
ربت مصطفى على ساقهِ ليخرجَ من مراقبتها، ثمَّ التفت لوالدهِ الذي يشيدُ به:
-إلياس طبعًا..هوَّ المتحكِّم الأكبر في كلِّ حاجة، وبعده إسلام.
ابتسمَ فاروق بمحبَّة:
-ربِّنا يباركلك فيه، بس أنا لسة عند رأيي، مجال البيزنس حلو، فكَّر ورد عليَّا..نظر إلى إلياس وأردف:
-فاروق باشا بيقول إيه رأيك تشارك أرسلان في نادي رياضي، هيكون من أقوى الأندية في مصر..
هزَّ رأسهِ بالرفض وأردف:
-لا..ماليش في الشغلِ دا، كفاية شغلي، مبحبش خنقة البيزنس..
ضحكَ مصطفى وقال وهو ينظرُ إلى فاروق:
-قولت لك مصدَّقتش، مالناش في البيزنس..قاطعهم وصولُ أرسلان:
-بابا هطلع أجيب بلال..اعلن بقى عن حفيدك..
توقَّف فاروق واقتربَ منه يضمُّه بحنانٍ أبوي:
-ألف مبروك ياحبيبي يتربَّى في عزَّك..
-ربِّنا يخلِّيك ليا ياحبيبي..قالها ارسلان
بمكان اخر ببعد عنهم عدة أمتار
كانت تجلسُ على بعدِ مسافةٍ بجوار صفية ودينا، ترقرقَ الدمعُ من عينيها، بعدما استمعت إلى حديثهما، فسحبت بصرها مبتعدةً عنهما، تتذكَّرُ زوجها الراحل..
-ناوي تسمِّيه إيه ياجمال؟..قالتها وهي تحاوطُ أحشاءها.
ضمَّ وجهها بين راحتيهِ ثمَّ قبَّل جبينها:
-بينزل باسمه يافريدة، إن شاء الله يجي بالسلامة وبعد كدا نسمِّيه.
وضعت رأسها بأحضانهِ وحاوطت خصره:
-إن شاء الله حبيبي، بس نفسي أسمِّي بلال أوي ياجمال، بحبِّ الاسم دا أوي، من بعد ماعرفت قصِّة مؤذِّن الرسول وأنا صغيرة..
رفع ذقنها يتجوَّلُ بالنظرِ إلى مقلتيها:
-إن شاء الله ياأمِّ يوسف، يجي بلال بالسلامة، ويبقى عندنا يوسف وبلال..
ابتسامةٌ أزهرت وجهها مما زاد بريقُ عيناها لتهمسَ إليه:
-أنا بحبَّك أوي ياجمال، ربِّنا يخلِّيك لينا يارب..انحنى وقبَّل كفَّيها ثمَّ رفع رأسهِ ينظرُ لجمالِ عينيها:
-وجمال بيحبِّك أوي ياسيِّدةَ الكون كلُّه..
دمعةٌ تسلَّلت من عينيها وهي تتذكَّرُ حبيبَ الروحِ الغالي، حتى تسرَّبت على وجنتيها، فأزالتها سريعًا قبل أن ينتبهَ أحدًا إليها..ولكن هناك أعين التقطتها، ليتحرَّك إليها..اقترب ملقيًا تحيَّةَ المساءِ ثمَّ جلس بجوارها، توقَّفت صفية معتذرة:
-هشوف غرام اتأخَّرت ليه، لحقتها دينا:
-وأنا هشوف حمزة..بعد إذنك يامدام فريدة..
أومأت فريدة بصمت، تشعر بغصَّةٍ تمنعُ تنفُّسها..ولكنَّها التفتت إلى إلياس حينما استمعت إلى حديثه:
-بتخبِّي إيه يامدام فريدة...التفتت إليه وعجزت عن كبحِ دموعها..
اقتربَ من رأسها وتابعَ همسه:
-دموعك غالية، بس لو زعل، أمَّا دي لو دموع فرح، فأنا بقولِّك مبروك عليكي أحفادك ياأمِّ يوسف..
ارتجفت شفتاها وانسابت دموعها بغزارةٍ تهمسُ له بشهقات:
-أوَّل مرَّة تقولِّي ياأمِّ يوسف..يايوسف،
قرَّب كفَّيهِ من كفِّها يضمُّه بين راحتيهِ وربتَ عليه:
-الحقيقة مستحيل ننكرها ياماما، مهما حاولنا نبيِّن غير كدا قلوبنا بتوجعنا، بدليل دموعك دي، أنا مش هسألك سببها إيه، بس هقولِّك لولا الِّلي حصل مكناش عرفنا قيمة الِّلي ضاع، وحياة رحمة أبويا اللي مشفتوش، ومعرفشِ ملامحه غير من صورُه، وحياة حرقة قلب ابن اتكوى بظلمِ أبوه وأمُّه لأجبله حقُّه، أه مقدرشِ أرجَّعه، بس حقُّه هيرجع..وزيِّ ماقولنا زمان اللي خلَّف مامتش..
أزالَ دموعها واقتربَ من وجهها:
-كفاية وجع وحزن يامدام فريدة، عندك بدل الراجل أربعة، مش دا كلامك لراجح..
قبَّلت كفِّه الذي وضعهُ على وجنتيها، ليضمَّ رأسها ويطبعُ قبلةً فوقها:
-قومي حفيدك نازل ولازم تستقبليه، وبلاش تنكِّدي على مصطفى لاحظي الراجل بيغير، شوفي عيونه علينا، شكله هيقوم يضربني، مفكَّرني أنا مزعَّلك.
ضحكت مبتعدةً عنه، ثمَّ لكزتهُ بخفَّة:
-هوَّ حرام لو قولت بابا وماما، يابني لسانك مضيَّعك.
جحظت عيناهُ يشيرُ لنفسه:
-أنا ضايع يامدام فريدة، طيب مش هردِّ عليكي..أنا رايح أنكِّد على مراتي اللي مش مبطَّلة ضحك..
قالها ونهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى ميرال..
كانت تواليهِ ظهرها وتتحدَّثُ إلى يزن..
توقَّف بجوارها، ثمَّ لفَّ ذراعيهِ حول خصرها يجذبها إليه قائلًا:
-تعالي عايزك...قالها وهو يومئُ برأسهِ إلى يزن..تحرَّكت معه بعضَ الخطواتِ إلى أن توقَّف بعيدًا عن الأعين:
-واقفة كدا ليه، وفين يوسف؟..
-النانا اخدته ورجعت على البيت، دوشة الحفلة منكدة عليه وهو عايز يجري، مبقاش عايز يقعد في مكان دقايق، طالع لابوه
-رفع حاجبه قائلا:
-ليه أبوه عايز يجري في الحفلة!!.
افلتت ضحكة تلكزه
-انت فاهم اقصد ايه، ماتستهبلش
-لسانك يابنت فريدة طول، وعلشان ايه، معرفش جايبة الثقة دي منين
اقتربت منهُ ورفعت أناملها تتلاعبُ بزرِّ قميصه، وأردفت بدلال:
- من حبي ياحبيبي، وبعدين انا بكذب يعني، أيوة بقالك اسبوع مبتقعدش في مكان ساعة، اومال لو مش عامل عملية، وبعدين اتأخَّرت ليه، دي النصِّ ساعة؟..مش كفاية جيت مع إسلام وماما..
تلفَّت حولهِ ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ نحوها:
-يعني قولتي أدخلُّه من الحتَّة دي علشان ماعقابكيش على ضحكك مع الشحوطة دول..
-إلياس..قالتها بنبرة مثيرة، تجذبه اليها، قبضَ على كفِّها الممسكِ بزرِّ قميصه:
-اعقلي إحنا مش في بيتنا ولا أوضة نومنا، نروح ونشوف الدلع بتاعك دا..
دنت أكثر ورفعت نفسها، ومازالت تتلاعبُ بقميصه، لتهمسَ إليه بصوتها الناعم:
-ليه هوَّ أنا عملت إيه؟..
رفع حاجبهِ ساخرًا ..ولوى شفتيه:
-حبيبتي أنا مش مراهق، اعقلي، ولمِّي الدور، ولو عايزة تلعبي سمعًا وطاعة بس مش دلوقتي..قالها وهو يسحبُ كفَّها يتحرَّكُ إلى الجمع..
أفلتت ضحكةً ناعمةً حتى توقَّف فجأة، ممَّا جعلها تصطدمُ بصدره، حتى كادت أن تسقطَ لتشهقَ بفزع، ابتسم عليها وحاوطَ خصرها يضغطُ عليه، وتلاعبَ بها حينما ضمَّها بقوَّةٍ وانحنى بأنفاسهِ أمام الجميع:
-مالك ياروحي؟..جحظت عيناها تتلفَّتُ حولها:
-إلياس الناس بتبصِّ علينا..ابعد شوية..
نظرَ إليها بتهكُّم ثمَّ قال:
-لمَّا تحبِّي تلعبي يبقى العبي على قدِّك، قولت لك أنا مش مراهق..يالَّه روحي عند ماما، متبعديش عنها، عيوني مرقباكي..
بالأعلى بغرفةِ أرسلان..
توقَّفت أمام المرآةِ لتنهي زينتها، نظرت برضا على طلَّتها، مع دخولهِ إلى الغرفة، دلف بخطواتهِ الهادئة يطلقُ صفيرًا:
-وااااو..ماهذا الجمال غرامي؟!..
"What is this beauty, my love
اقترب منها يخطو بكلِّ ثقة، خطوات تشبهُ شاعرًا يتهادى وسطَ الطبيعة، يكتبُ من وقعِ خطاهِ قصيدةَ حبٍّ لم تكتمل.
كانت تبحثُ بتوتُّرٍ عن شيءٍ داخل درجٍ صغير، لم تلتفت إليه، تحاولُ أن تتجاهلَ وجودهِ لتُبقي شيئًا من تماسكها المُصطنع..
انحنى بجسدهِ خلفها، حتى صار دفءُ أنفاسهِ يلامسُ طرفَ عنقها المغطَّى بالحجاب، دفنَ رأسهِ بعنقها، يتنفَّسُها باشتياقٍ كمن عاد بعد غيابٍ طويل..
نظرت إليه بطرفِ عينها، ثمَّ قالت، بصوتٍ حاولت أن تبقيهِ متماسكًا:
– عايزة أخلص، ابعد عنِّي...
لم يتحرَّك..بل رفع عينيهِ نحو المرآة، يتأمَّلُ صورتهما المنعكسة..كانت تمسكُ بأحمرِ الشفاه، تمرِّرهُ برفقٍ على شفتيها في صمت.
انتظرَ حتى أنهت، ثمَّ أمسكَ بكتفيها وأدار جسدها نحوه، رفعَ ذقنها بيده، وعيناهُ تغرقُ في تفاصيلِ وجهها كأنَّها المرَّةُ الأولى.
- مش حرام أتحرم من العيونِ الحلوة دي؟ قلبك بقى قاسي أوي ياغرامي..
تراجعت بخطوة، وألقت أحمرَ الشفاهِ جانبًا، ثمَّ نظرت إليه بحدَّة:
– هنتأخَّر على الناس.!!
اقتربَ نفسَ الخطوةِ التي ابتعدتها، ثمَّ جذبها من خصرها بقوَّةٍ حتى ارتطمت بصدره، وحدَّقَ في عينيها للحظات، ثمَّ همس بنبرةٍ هادئةٍ لكن صارمة:
- ممكن أعاتبك ونعدِّي الموضوع هزار، بس إنِّك تتجاهلي وجودي؟ لأ، مش هسمح بده..
أنا عدِّيت الأسبوع ده علشان لسه خارجة من الولادة، وده مش معناه إنِّي عاجبني اللي بيحصل، أنا كنت بحاول أكون أرسلان الحبيب..مش أكتر..
دلوقتي هتنزلي معايا، وبعد الحفلة… لينا كلام، لو عاجبك أسلوبي وحياتي، قلبي تحت رجلك،
بس لو هتتمرَّدي، صدَّقيني…ساعتها بيت أبوكي هيكون أولى بيكي..
وأشار بيده نحو المجوهرات الموضوعة على الطاولةِ الصغيرة:
– البسي الحاجات دي..مش معقول تنزلي قدَّام الناس كده..
متنسيش إنِّك مرات أرسلان الجارحي..
عدَّةُ ساعاتٍ وجوٍّ من الألفة والمحبة بحفلةِ الحفيدِ المختلطِ بين العائلتين..تراجعَ إسحاق بعيدًا بعدما استمع إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة...أجابه الرجل
ـايوة ياإسحاق باشا، رانيا الشافعي ماتت فعلًا، دوَّرنا واتأكَّدنا..
ذهب بشرودهِ لنقطةٍ وهمية، وأحداثٍ كثيرة تضربُ عقلهِ حتى انتبه لصوتِ الرجل:
-إسحاق باشا معايا؟..
أه معاك، طيب خلاص خلِّيك على تليفون..قالها وأغلقَ الهاتف، ثمَّ ذهب ببصرهِ إلى إلياس المتوقِّفِ بجوار أرسلان ومصطفى..ظلَّت نظراتهِ عليه لبعضِ الدقائقِ يحدِّثُ نفسه:
-معرفشِ ليه حاسس فيه حاجة ورا الموضوع دا، إزاي رانيا ماتت وهوَّ هادي مع راجح، ياترى يابنِ السيوفي بتخطَّط لإيه إنتَ والداهية الِّلي معاك..
اقتربَ منهما ثمَّ توقَّف بجوارهم:
-نوَّرتوا الحفلة يامصطفى باشا..
رمقهُ أرسلان برفعِ حاجبهِ يغمزُه، ثمَّ اقترب يهمسُ إليه:
-ماتغيَّر الكلمة ياإسحاقو، دا إنتَ قولتها عشروميت مرَّة..
-اخرس يالا..طالعهُ متهكِّمًا يشيرُ إلى نفسه:
-يالا..والحفلة دي ستار على أعمال مشبوهة، عمُّو أنا بقيت أب، وإنتَ جدُّو على فكرة، متفكرشِ نفسك لسة صغير..
ضغطَ على قدمهِ وعيناهُ على إلياس الذي يتحدَّثُ مع مصطفى بكلِّ أريحية، ثمَّ جذبَ أرسلان من جاكيت بذلته:
-رانيا إزاي ماتت يالا؟..
-رانيا مين؟!
قالها بوصولِ ميرال..
-بعد اذنكم، قالتها واقتربت من إلياس، تسحب كفيه قائلة
- النانا كلِّمتني علشان يوسف.
أومأ لها ثمَّ التفتَ إلى فاروق وأرسلان :
-بعد إذنكم إحنا لازم نمشي..ضيَّقَ إسحاق عينيهِ واقتربَ بخطوةٍ من ميرال:
-مدام ميرال نسيت أعزِّيكي، البقاء لله.
قطبَ إلياس جبينهِ عن مايشيرُ إليه، فيما نظر الجميعُ الى إسحاق نظراتٍ مشوبةً بالتساؤل..فهزَّ رأسهِ وهو يتجوّّلُ بعينيهِ على الجميعِ إلى أن سقطت عيناهُ على إلياس وتحدَّث:
-بعزِّيها في مدام رانيا، لسة عارف قريب إنَّها ماتت..
فتح إلياس فاههِ للتحدُّثِ ولكن قاطعتهُ ميرال قائلة:
-معرفشِ حضرتك بتعزِّيتي فيها ليه؟!..
الستِّ دي مفيش رابط بينا، على العموم شكرًا لحضرتك..قالتها واستدارت مغادرةً المكان..فيما اتَّجهَ الجميعُ يرمقُ إسحاق بنظرةٍ توحي بالكثير، اقترب من إلياس وأردفَ بنبرةٍ توحي بشيءٍ ما:
-آسف مقصدشِ أزعَّلها.
-ولا يهمَّك ياباشا..قالها إلياس منسحبًا بعدما تحرَّك يزن خلفها..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ في منزلِ يزن،
جلس بين إخوتهِ يتناولونَ العشاءِ في جوٍّ يغمرهُ الدفء والمودة.
توقَّفت إيمان فجأة، بعدما انتبهت مسامعها طرقٌ خافتٌ على الباب.
دلفَ كريم إلى الداخلِ وهو يغمزُ بعينيه:
– إزيك يامراتي المستقبلية؟
تورَّدت وجنتاها وهمست بخفوت:
– بس ياكريم...
ضحكَ كريم ودخل مُلقيًا السلام:
– عامل إيه ياحمايا العزيز؟
كان يزن قد رفع قطعةَ خبزٍ إلى فمه، يلوكها بهدوءٍ مستفز، غيرَ مكترثٍ لدخوله، ممَّا جعلَ كريم يجذبُ مقعدًا ويجلسُ مقابله، يحدجهُ بنظرةٍ مشتعلة:
– إيه يابني؟ مش بتردِّ السلام؟ وكمان ما بتعزمنيش؟
رفع يزن حاجبًا ساخرًا وهو يراقبهُ يسحبُ صحن الجبنِ ويبدأ في التهامهِ بشراهةٍ أثارت حنقه، فقال بتهكُّم:
– وإنتَ عايز حد يعزم عليك؟ دا إحنا المفروض نعزم على نفسنا في بيتنا وإنتَ معانا!
-لو مش عاجبك قوم، أنا مش غريب.
-لا ياحبيبي ماغريب إلَّا الشيطان، بس الشيطان اتكسف ومشي.
انفجرَ كريم ضاحكًا بصخب، وهو لا يزالُ يلوكُ طعامه، حتى اختنقَ فجأةً وسعلَ بقوَّة...
ضحكَ يزن وأشار إلى إيمان قائلاً:
- الحقي..هيموت!
أسرعت إيمان وأمسكت كوبَ الماء، تمدُّهُ إليه بقلق:
– كريم، اشرب...
دمعت عيناهُ من شدَّةِ السعال، وشعر بالاختناق، فمدَّت إيمان كفَّها تُربتُ على ظهرهِ بلطف.
رمقها يزن بنظرةٍ عابرة، فابتعدت سريعًا واتَّجهت إلى المطبخ:
– هعملكم قهوة...
بعد فترةٍ خرج إلى شرفةِ المنزل، يتناولون القهوة، صمتًا دام بالمكانِ إلى أن قطعهُ يزن:
-مدام زهرة كلِّمتني من فترة..أنصتَ إليه باهتمام..
-بتسألني ليه طلَّقت رحيل، إيه الِّلي حصل خلَّاها تكره حتى اسمي؟.
قالها ثمَّ زفر زفرةً حارقةً كادت تحرقُ صدره..
-يعني إيه مفهمتش؟..
مسح على وجههِ بعنفٍ كاد أن يقتلعَ جلده، ثمَّ تراجعَ بجسدهِ يتَّكئُ على المقعدِ ونيرانٍ داخليةٍ تغلي بأوردتهِ يهزُّ كتفهِ قائلًا:
-بتكرهني، مش عايزة تسمع عنِّي حاجة..بعد ماكنت ناوي أقولَّها كلِّ حاجة، لقيتها بتقولِّي لو ظلمت بنتي يابنِ راجح عمرك ماهتتهنَّى في حياتك، بنتي انطفت بسببك..
ترقرقت عيناهُ بالدموعِ لأوَّلِ مرَّة قائلًا:
-أنا حبِّيتها ياكريم، مش قادر أنساها، عارف ظلمتها معايا، بس واللهِ ماكنت أقصد الِّلي حصل.
-بس إنتَ ماقولتش دا قدَّامها يايزن، إنتَ فهَّمتها إنَّها كوبري لانتقامك، كنت منتظر منها تاخدك في حضنها..
أشعل سيجارةً وبدأ يحرقُ بها كاحتراقِ صدرهِ المشتعل:
-عارف غلطت..بس كنت خايف أضعف وماكمِّلشِ في انتقامي من راجح.
سحبَ كريم نفسًا طويلًا وزفرهُ ببطءٍ مبتعدًا بنظراتهِ عنهُ وأردف:
-الغلط مابيتجزَّأش يايزن، وأيِّ واحدة مكانها كانت عملت كدا، إنتَ قهرتها لأنَّها حبِّتك ووثقت فيك، وأنا قولت لك ترضى أعمل مع إيمان كدا..
صمتَ للحظاتٍ ثمَّ استدار بنظرهِ إليه وتابعَ مستطردًا:
-حاول تنساها وعيش حياتك، وكويس إنُّكم انفصلتوا قبلِ مايحصل بينكم حاجة..أظن فاهم قصدي..
تأرجحت عيناهُ بألمٍ انبثقَ منها وتاهت نظراتهِ مع دمعةٍ شقَّت جفنيه، يهمسُ بصوتٍ ممزوجٍ بغصَّةٍ كالشوك:
-أنا تمِّمت جوازي منها.
صاعقة أصابت جسدَ كريم ليهبَّ فزعًا يطالعهُ بشهقةٍ ولم يشعر بما نطقهُ لسانه:
-غصب عنها؟..اتجنِّنت!..
اخرس، اتجنِّنت ليه حيوان؟..
-مقصدش يايزن، بس إنتَ آخر أيَّامك معاها كنت قاسي، أنا بقول يمكن علشان تضغط عليها تفضل زيِّ ماإنتَ بتقول..
مسح على وجههِ بعنف، ثمَّ توقَّف متَّجهًا إلى السياجِ الحديدي مستندًا عليه مع تنهيداتٍ بوخزاتٍ كأنَّها مسامير تنخرُ بعظامِ صدره:
-أنا مش مرتاح، كريم حاسس بحاجة بتخنقني، مش عارف أسيطر على غضبي، كلِّ ماأفتكر الِّلي حصل بينا معرفشِ لو شوفتها قدَّامي إيه اللي ممكن يحصل..
نهض كريم واقتربَ منه، ربتَ على ظهرهِ بحنانٍ أخوي:
-اهدى، وإن شاء الله الوقت ينسِّيكم الِّلي حصل، اعذرها الموضوع كان صعب عليها، وخاصَّةً بعد ماوثقت فيك.
أومأ قائلًا:
-انسى...المهم أنا كلَّمت المأذون، إن شاء الله على الجمعة تكون رتَّبت مع أهلك، علشان عندي سفرية شغل، وممكن أغيب أسبوعين..
-سفر!..ليه هتسافر فين؟..
-إنجلترا، فيه صفقة..العضو المنتدَب اتَّفق على كلِّ حاجة ولازم نروح نعمل الشراكة دي، هتكون نقلة حلوة جدًا للشركة، أنا كنت أسمع رحيل دايمًا بتشكر في الشركة دي، ومعنى إنَّها توافق على شركتنا يبقى إنجاز للمجموعة.
-وبعد كدا يايزن إيه الِّلي هيحصل، هتفضل مشغَّل الشركات؟..أنا نفسي أدخل دماغك..
- كريم كلِّ حاجة في وقتها حلو ...المهم ظبَّط أمورك، علشان أسافر وأنا مطمِّن على أخواتي، لو مش عارف إنَّك هتزعل من وجود إيمان مع ميرال كنت خلِّتها هناك لحدِّ ماأرجع، وإحنا أجِّلنا كتب الكتاب كام مرَّة، جه الوقت ألمَّك ياأخويا، واعرف إنِّي بعمل معاك واجب.
قهقهَ كريم على مشاكستهِ ثمَّ قال:
-هنردَّها لك إن شاء الله..
بالمشفى عند آدم..
خرج من المشرحة التي تُحجزُ بها جثةً ما، متَّجهًا إلى غرفةِ مكتبه،توقَّف بعدما وجد إسحاق يجلسُ بمكتبهِ يتناولُ قهوته..ألقى تحيَّةَ المساءِ ودلفَ يحيِّيه:
-أهلًا بحضرتك إسحاق باشا.
أهلًا يادكتور..عامل إيه؟..
-كويس الحمدُ لله..صمتًا دام بالغرفة للحظاتٍ إلى أن قطعهُ إسحاق:
-عدِّيت على زين باشا، عرفت أنُّه سافر من يومين إنجلترا مع أخوك مش كدا؟..
أومأ له ثمَّ قال:
-أيوة راح لعمِّتو، فيه حاجة ولَّا إيه؟..
استدارَ بكاملِ جسده بعدما وضعَ فنجانه:
-إنتَ شوفت عمِّتك رانيا لمَّا اندفنت؟..
قطب جبينهِ وكأنَّه لم يعي معنى حديثه، فتساءل:
-مش فاهم حضرتك؟..
-لا فاهم يادكتور، عمِّتك ماتت مقتولة يعني لازم تشريح جثَّة، وطبعًا إنتَ الأولى بكدا..
تراجعَ آدم بعدما فهمَ حديثه، ثمَّ نظر إليه واستطرد:
-لا ياباشا..عمِّتي ماتت في السويس، واتحوِّلت للمشرحة هناك، وأنا مشفتش جثتها، ومقدرشِ أتجاهل تعب زمايلي.
-يعني عايز تفهِّمني مرحتش هناك ولا حضرت الدفنة كمان؟..
لأنِّنا معرفناش إلَّا بعد ماعمُّو راجح دفنها.
هنا وقف إسحاق يغلقُ حلَّتهِ ثمَّ أشار إليهِ بسبَّباته:
-بكرة هيكون طلب فتح المقبرة عندك، وعايز تشريح الجثَّة يادكتور..قالها وتحرَّكَ دون إضافةِ المزيد..
عند إيلين تجلسُ أمامَ التلفاز بذهنٍ شارد، دلفت مريم تحدُّثها ولكنَّها لم تنتبه إليها..جلست بجوارها تمسِّدُ على خصلاتها حتى انتبهت إليها:
-مالك حبيبتي بقالي ساعة بكلِّمك وإنتي مش هنا، الِّلي واخد عقلك..
أطبقت على جفنيها وتراجعت على الأريكةِ متمدِّدةً تضعُ نفسها كالجنين:
-مفيش، تعبانة من الحمل والمذاكرة..
زحفت مريم إلى منامها:
-بقالك فترة متغيَّرة، إنتي متخانقة مع آدم؟..
هزَّت رأسها بالنفي ثمَّ أردفت:
-مفيش غير إنِّي تعبانة..قاطعهم دخولُ آدم ملقيًا السلام ..توقَّفت مريم بعدما ردَّت عليه، فنظر إلى نومِ إيلين مقتربًا منها:
-حبيبتي نايمة كدا ليه، تعبانة؟..
-لا مرهقة بس، ربتت مريم على كتفها وقالت:
-هنزل أعملِّك شوربة خضار، وشِّك دبلان خالص، متنسيش إنِّك حامل لازم تتغذِّي..
"ماليش نفس..."
همست بها إيلين بنبرةٍ واهنة، تتكئُ على الأريكةِ وكأنَّ الأثقالَ تجرُّ قلبها لا جسدها فقط..أشار آدم نحوها برقَّة:
– لو مش هتتعبي يامريم..ياريت طبق شوربة سُخن.
أجابت مريم بحنانٍ سريعٍ وهي تهمُّ بالمغادرة:
– عيوني لليلي الحلوة.
وما إن اختفت من أمامهم، حتى اقتربَ آدم وجلسَ بجانبها، يمرِّرُ أصابعهِ على خصلاتِ شعرها المبعثرةِ بحنو، ثمَّ همس:
– حبيبتي..إنتي كويسة؟
هزَّت رأسها بخفوت، مغلقةً عينيها وكأنَّها تهربُ من عيونه، تمتمت:
– أيوة حبيبي...الأكل جاهز، أخلِّيهم يحضَّروه..معلش، الأيام دي بتاكل من إيد الخدم...
انحنى يقبِّلُ وجنتها، يطبعُ قبلةً رقيقةً تحملُ كلَّ الحنان، ثمَّ همس:
– ولا يهمِّك ياروحي...هقوم آخد شاور، وأخلِّيهم يجهِّزوا السفرة، يمكن نفسك تتفتح تاكلي معايا، لحدِّ مامريم ترجع بالشوربة.
لكنَّها ردَّت وعيناها لا تستطيعُ فتحها:
– ماليش نفس واللهِ ياآدم...
توقَّف، وحدَّق بها ثمَّ قال بحزم:
– خمس دقايق وراجع.
استمعت إلى صوتِ هاتفها، فجذبتهُ تستمعُ إلى صوتِ رؤى:
– أيوة يارؤى، عملتي إيه؟
أجابتها :
– محجوز في المستشفى ياإيلين. عرفنا إنُّه عمل استئصال للكلى... أرسلان ضربه بعد الِّلي حصل لإلياس...
شهقت، ثمَّ سألت بخفوتٍ مخنوق:
– أنهي مستشفى؟
خرجت رؤى إلى الحديقة، ووقفت أمام المسبحِ تُكملُ بصوتٍ خافت:
– بس لو أعرف...
ليه عايزة تعرفي مكانه دلوقتي؟
– بعدين يارؤى...مش قادرة أشرح، مش قادرة أناهد.
– تمام، هبعتلك اسمِ المستشفى، بس أوعي تجيبي سيرتي..كفاية قفشة إلياس معايا.
– تمام...
أغلقت إيلين الهاتف، تترقَّبُ الرسالة، وماإن وصلتها حتى نهضت مسرعة، فتحت خزانتها، ارتدت ملابسها سريعًا..مع خروجِ آدم من الحمَّامِ ليتجمَّدَ مكانه، ونظراتهِ تتبعُ ارتباكها واستعدادها الواضحِ للمغادرة.
فسألها، بصوتٍ يحملُ قلقًا:
– إنتي خارجة...؟
كانت تلفُّ حجابها سريعًا، وهزَّت رأسها:
– آه..افتكرت صاحبتي عملت حادثة الصبح..البنات كلُّهم راحوا، وأنا لأ... هشوفها وأرجعلك بسرعة.
اقتربت، وطبعت قبلةً خاطفةً على وجنته، وهرولت خارجًا، تجذبُ حقيبتها في يدها وذهولُ آدم جعلهُ يقفُ متصنِّمًا
في منزلِ أرسلان...بعد انتهاء الحفل
دلفَ إلى الداخلِ حاملًا طفلهِ بين ذراعيه، خطواتهِ هادئةً كأنَّها تخشى إيقاظَ قلبهِ الصغير، وضعهُ في مهدهِ برقَّة، قبَّله على جبينه، ومرَّرَ أناملهِ فوق رأسهِ كمن يباركهُ بصمتِ حبٍّ أبوي.
عند خروجهِ من الغرفة، التفتَ فوجد مربيَّةَ الطفلِ تقفُ على الباب، نظرَ إليها مشيرًا:
– شغلك هنا علشانه هوَّ وبس..مش عايزك تبعدي عينك عنُّه.
أومأت بطاعة، فانصرفَ متَّجهاً نحو شرفةٍ بالطابقِ العلوي، حيث جلست هي، زوجته، شاردةً بعينيها نحو الفراغ، وكأنَّها تسكنُ في مكانٍ لا يُرى.
اقترب منها بصمت، جلسَ خلفها، واحتواها بذراعيه، يجذبُ جسدها النحيلِ إلى صدره، قبَّل وجنتها، وهمس:
– آسف..عارف إنِّي كنت قاسي معاكي، بس واللهِ مضغوط…إسحاق ضاغطني، وعايزك معايا مش ضدي...
شهقةٌ مكتومةٌ تمزَّقت من صدرها، ثمَّ تهاوت، تبكي بصوتٍ مرتفعٍ كمن انفجرَ بعد صمتٍ طويل، دفنت رأسها بصدره، ضمَّها بقوَّة، وسحبها إلى الأريكة، أراحها في أحضانه، وقام بفكَّ حجابها ببطء، يمرِّرُ أصابعه على شعرها، يتركها تبكي حتى هدأت.
ثمَّ مال، ورفعَ وجهها، تقابلت عيناها بعينيه، بدأ العتابُ الصامت، الحديثُ الذي لا يحتاج كلمات، فقط نظراتٌ محمَّلةٌ بكلِّ مالم يُقال.
اقترب، وقبَّل دموعها، يعتذرُ بقبلاتٍ هامسة، بنبرتهِ الرجوليةِ الخافتة، همس:
– بحبِّك..لدرجةِ الموت.
دفنت رأسها بعنقه، تتنشَّقُ رائحتهِ الرجوليةِ بشوقِ العاشقةِ التي عادت لوطنها، دافئة، هادئة، حتى لامست أنفاسها بشرته، فأخرجها من أحضانهِ بقبلةٍ عاشقة، سرقت أنفاسهما وربطت أرواحهما بوثاقِ العشقِ الأبدي...
بمنزلِ إلياس..
خرجت من المرحاض تجفِّفُ خصلاتها، بينما كان يقفُ في شرفة غرفتهما يتحدَّثُ عبر الهاتف:
– تمام، بكرة هكون عند حضرتك.. وشكرًا لحضرتك ياراكان باشا...
قالها وأغلقَ الهاتف، ثم توقَّف يدخِّنُ بهدوء، وعيناهُ تتجوَّلُ في الحديقةِ بشرود.
وقعت نظراتهِ على رؤى، التي كانت تداعبُ يوسف مع مربيِّتهِ في الأسفل. ارتسمت ابتسامةٌ دافئةٌ على شفتيهِ وهو يرى صغيرهِ يلطمها بيدهِ الصغيرةِ ويضحكُ ضحكاتهِ الطفولية العذبة، بينما تجاوبهُ بحركاتٍ مرحةٍ زادت من ضحكهما معًا.
ألقى سيجارتهِ واستدارَ للداخل..وما إن وقعت عيناهُ على ملكةِ قلبهِ حتى توقَّف الزمان..كانت تقفُ أمام المرآة، تجفِّفُ خصلاتها بالمجفِّفِ الكهربائي، وكتفاها العاريانِ ترتجفُ من أثرِ الماء، ومن حولِ جسدها المنشفة تحاوطُ ضعفًا زادهُ الوجعُ جمالًا.
اقتربَ منها بخطواتٍ هادئة، يرسمها أوَّلًا في قلبهِ ثمَّ يلتقطها ببصره، حتى وقف خلفها تمامًا، ومدَّ يده يسحبُ الجهازَ من كفِّها برقَّة..
ارتجف جسدها حين شعرت بأنفاسهِ تلفحُ عنقها، وعيناهُ مغمضتانِ يدفنُ رأسهِ بين خصلاتها الندية، يهمسُ بصوتهِ الذي يذيبُ الحواس:
– بندم على كلِّ لحظة كنتي فيها بعيد عن حضني...
استدارت إليه، حتى التقت العيون، فحكت نبضاتها مالا تسعهُ الكلمات:
– أنا أموت من غيرك...
وضع أناملهِ على شفتيها يمنعها من الكلام، وقال بنبرةٍ تخترقُ القلب:
– بعد الشرِّ عليكي...أنا الِّلي خلاص، حياتي بقت كلمة واحدة: ميرال.
لمست وجنتيهِ بأناملها المرتعشة من فيضِ الشعور:
– أنا ربِّنا بيحبِّني أوي ياإلياس...
حياتي عاملة زيِّ السحر، الِّلي يفكَّر فيها يقول دي قصَّة خيالية...
من أوِّل لحظة حبيتَك فيها، لمَّا عرفت حياتي وأصلي، الِّلي حتى لو حدِّ قال يتخيَّل، مستحيل يتوقَّع...
هقولُّهم حاجات كتير، بس إنِّي أطلع بنت عمَّك...وإن أمِّي مش أمِّي..دا اللي مستحيل أصدَّقه...
قاطعها بوضعِ إبهامهِ على شفتيها في حنوٍّ صامت:
– إنتي مش بنتِ عمِّي...
إنتي بنتِ قلبي...
الِّلي بيوجعني أوي لمَّا أشوف دموعها...
اقتربَ منها أكثر، ودفنَ رأسهِ في صدرها كطفلٍ وجدَ ملاذه:
– عايز أبعد عن كلِّ حاجة...
مكان مفيهوش غير إنتي وبس...
عايز أخطفك ونبعد، نسيب الدنيا ورا ضهرنا...
حاوطت خصرهِ بذراعيها، وقلبهِ ينبضُ تحت أناملها:
– وأنا موافقة تخطفني...
حتى لو هنكون تحت الأرض...
المهم أكون معاك..وفي حضنك...
-لدرجة دي بتثقي فيا، ومش خايفة مني ..
تاهت في عينيه تنطق بحروف مغلفة بالعشق ونبض القلب:
-أنا بثق في حبيبي، اللي مهما حاول يبين للناس قساوته، عارفة هنا فيه نبض ضعيف، بيحس، بيفرح ، بيزعل، مهما حاول يعمل حروب مع نفسه
مررت أناملها على وجهه بالكامل:
-لو هتأذي منك بس أكون جوا حضنك أنا موافقة، بس في نفس الوقت متأكدة انك مستحيل تأذيني، لأن عايش ليا وبس..رفعت كفيه ووضعت موضع قلبها
-تفتكر حد يأذي قلبه ...
هنا...فقد كلَّ مالهُ علاقة بالتوقُّفِ عن نثرِ عشقهِ الطاغي، بكلِّ مكانٍ تمرُّ به شفتيه...
ليسحبها إلى عالمٍ لا تسكنهُ إلَّا سيِّدةَ قلبه، وسيِّدةَ نساءِ الكونِ في عينيه...مع كلماته التي جعلتها قديسة لعشقه الضاري
بعد أسبوعٍ وخاصَّةً في إنجلترا..
خرج من الشركةِ بعدما تمَّ التوقيع على صفقتهِ الرابحة، خرج معه الرجلِ صاحبَ الشركةِ متَّجهًا إلى أحد المطاعمِ المشهورةِ بتلك البلدة، دلف بكلِّ فخرٍ واعتزازٍ لايتملَّكهُ غرور مثل ما تتملَّكهُ الثقة، جلس لبعضِ الدقائقِ يتحدَّثُ مع الرجل في بعض أعماله، إلى أن توقَّفَ عن الحديثِ وهو يراها كالجنيَّةِ التي خرجت من البحر، تتحرَّكُ بجوارِ أحدهم وابتسامتها تنيرُ وجهها، هبَّ من مكانهِ سريعًا واتَّجهَ إلى المكانِ الذي تتَّجهُ إليه..
بالقاهرة
خرج من عمله متجها إلى المكان الذي يحجز به رانيا، مع تحركات راجح خلفه يراقبه، يهمس لنفسه
-استحملتك كتير، وجيت على نفسي، علشان ابوك، بس اللي يحاول يموتني افعصه يابن جمال
وصل إلياس إلى حي الألفي ..كان بانتظاره ياسين على بوابة الحي، ترجل من سيارته وتحرك بجوار الحدائق التي تحاوط منازلهم إلى أن توقف مع حديث ياسين
-راكان باشا في الطريق..اسف مقدرش اسلمها لحد مايوصل بالسلامة
لوى فمه بابتسامة ساخرة فقال:
-راكان باشا ...اممم ، طيب بانتظاره
قطب ياسين جبينه من حديثه المبطن
-مش فاهم دا تنمر ولا ..قاطعه إلياس رافعا كفيه
-لا سمح الله..بس بيعجبني عقله، يعني لسة قافل من دقايق معاه، وبعت اللوكيشن، مستغرب الرد
قطع حديثهما وصول جواد
-اهلا يابني ..واقف كدا ليه ياسين ..مش بدخل ضيفك لسه
حمحم ياسين، قائلا بنبرة ثابتة حتى لا يكشف أمرهم والده
-لا يابابا، دا صديق حضرة المستشار راكان البنداري، هو جاي هنا علشان ..قاطعهم وصول راكان ينزل من سيارته متوجها إليهما
بمنزل ارسلان
خرج بسيارته متجهًا إلى النادي الخاص به، إلا أن قاطعه أحدهم بسيارة تعركل طريقه، ترجل من سيارته بحذر، ليجد سلاحًا يوضع برأسه..ابتسم بتهكم
-انت عبيط يابني، ايه شغل الافلام الابيض والاسود دي
قطب الرجل جبينه
-تقصد ايه امشي من غير ولا كلمة..لحظة واحدة امال بجسده ليخطف سلاحًا ابيض صغير الحجم من حذائه، وقام بذبحه دون أن يرف له جفن، مع وصول اسحاق بإطلاق طلقات نارية للآخرين ليهربوا، اتجه إلى ارسلان سريعًا، نفض كفيه يمسحها من الدماء
-دبحته زي الفرخة، الله يخربيتك
-ماهو اللي اهبل، بقاله ساعتين واقف قدام بيتي بيراقبني، عبيط،
لكمه اسحاق بخفة ضاحكًا
-وحياة ربنا هتجلطني
-انت لسة ماتجلتطش ..توقف مرة واحدة
-طبعا لو سألتك عرفت ازاي هتقولي شغل، فأنا مش هسأل
-شاطر..اركب عربيتك وحصلني
-لا مش ماشي معاك تاني، وانا من طريق وانت من طريق، مش انت عدوي دلوقتي
-دماغي وجعاني، اركب عربيتك وحصلني، دا لو عايز تنقذ اخوك اللي مخبي رانيا الميتة في حي الألفي مع راكان البنداري..اكمل ولا
-يعني ايه
-يعني تركب ولسانك جوا بوقك، أما التاني صبركوا عليا، تموتوا الست وهي عائشة
-ست ...قالها ارسلان ساخرًا
-طب اركب يااسحاق ..انا جاي على بالي اشوف الست ..نظر إلى الجثة
-هتسيبه كدا ..
صعد إلى سيارته وقال
-جايين في الطريق، واركب ولم نفسك وبلاش تعاندني، اسمك دلوقتي اول اسم في كشف المرحومين
-طيب ماتنساش تزرني بقرص يااسحاق..قالها وهو يصعد سيارته، ثم رفع هاتفه وقام بإرسال رسالة إلى إلياس ..ثم قاد السيارة وتحرك خلف اسحاق
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق