رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثاني 2 بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثاني 2 بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثاني 2بقلم سيلا وليد
الفصل الثانى
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"
يا من كنتِ النبض الأول... أصبحتِ الغصة التي لا تزول
ليت الألم زارني في ألف وجه، إلا في وجهكِ...
ليت الرحيل مرّ على بيتي دون أن يأخذكِ..
فكل شيء بعدكِ بارد، جاف، غريب!
غابت شمسي يوم منذ ابتعدتي
ومنذها والليل لا يعرف النوم،
وصوتكِ لا يغيب عن جدراني،
كأنكِ تسكنيني رغم غيابكِ...
كأنكِ غائبة عن عيني، حاضرة في دمي...
أشتاقكِ في كل لحظة ضعف...
أشتاقكِ حين أبكي ولا أجد يدكِ تمسح دمعي..
أشتاقكِ حين أبحثُ عن دفء،
ولا أجد سوى برد الفقد يغلفني...
صرتُ غريب عن نفسي،
أجهل ضحكتي، أكره مرآتي،
فما عدتُ أنا... مذ تركتيني وذهبتِ!
أما زلتِ تذكري قلبي؟
أم نسيتِ أن هناك من لا يزال ينزف من أجلك كل يوم...
يناديكِ بين الصمتِ والدعاء،
ويُقسم أنه لن يسامح الرحيل لأنه أخذكِ دون استئذان؟"
كنت أظنكِ الوطن...
فإذا بكِ المنفى الذي لا نهاية له،
وكنت أظنكِ الأمان...
فإذا بكِ الخوف كله...
عند ميرال وقت الحادث
دقائق مرَّت و "ميرال" مازالت ملقاة على الأرض، تنزفُ بغزارة، تتسلَّلُ دماؤها على الأرض، و كأنَّها تكتبُ بها وصيَّتها الأخيرة.
في الجهةِ الأخرى، كان "حسين" يلفظُ أنفاسهِ الأخيرة بعد اصطدامه بالسيارة، هرولت زوجتهِ نحوه، تصرخُ بجنون:
- حسيييييين!! لاااااااا...اصحى، متسبنيش!.
وصلت "نعيمة" وسط صراخها، ركضت نحو زوجِ أختها تحاولُ إنقاذ
مايمكن إنقاذه، لكنَّه كان قد سلَّم الروح إلى خالقهِ محمَّلًا بذنوبه.
صرخت "نادية" تلطمُ وجنتيها في هيستيريا..وتجمَّع الحشد، حول جثَّةِ "حسين"، وصلت "هند" وهي تصرخُ باكية:
- مامااا...أبلة مروة فين؟ كان بيجري وراها بالسكينة دي!
تجمَّدت "نعيمة" مكانها، تنظرُ حولها بفزعٍ تبحثُ عن "ميرال"، بعدما وجدت السكين الملقاة على بعض خطواتٍ من جثةِ زوج أختها، وقبل أن تهمَّ بالتحرُّك، دوى صراخ ابنتها، وهي تركضُ حافيةَ القدمينِ نحو الشاطئ..
انحنت الصغيرة فوق جسد "ميرال" الملقى، تصرخُ باسمِ والدتها، تبكي والدماء تغمرُ يدها..رفعت رأسها، -الحقي ياماما..أبلة مروة بتموت..هرولت نعيمة بأنفاسٍ متقطِّعة، لتشهقَ على مشهدِ ميرال الغارقِ بدمائها، انحنت بجسدها تصرخُ بأعلى صوتها:
- إسعااااف..حد يلحقني بإسعااااف!
بعد فترة بالمستشفى الحكومي...
خرج الطبيب من غرفة العمليات، وجههِ متجهِّم، يلوُّحُ برأسهِ بأسف:
- للأسف يانعيمة...كان في نزيف دماغي شديد جدًا.
اتَّسعت عيناها بفزع:
- طيب البيبي يادكتور؟ البيبي حصل له حاجة؟
- لا، الحمد لله كويس...إحنا حاولنا نوقف النزيف على قدِّ ما نقدر.. هنستنَّى لمَّا تصحى وبعدين نعمل أشعة ونطمِّن.
تمتمت بقلبٍ منكسر:
- جيب العواقب سليمة يارب...
ربت الطبيب على كتفها وقال:
- إن شاء الله تقوم بالسلامة... ومتخافيش، أنا اتكفِّلت بكلِّ حاجة، لا سين ولا جيم.
رمقتهُ بامتنان:
- ربِّنا يخلِّيك ياحمدي، خلِّي بالك منها، مروة غالية عليَّا أوي ياحمدي...
ابتسم بتلميح:
- طيب مش ناوية تقولي لابنِ عمِّك تبقى مين مروة دي؟
أجابت سريعًا:
- ما قلت لك، بنت واحدة صاحبتي... ماتت من فترة، والبنت كانت برَّة مصر ولسّه راجعة.
أومأ ببطء وقال بنبرةٍ مشاغبة:
- بس حلوة أوي يانعيمة...تعرفي ناس مهمِّين أهو.
نظرت له باستخفاف:
- ليه، حدِّ قال إنِّي قليلة؟ المهم... هروح على دفنة حسين، وإنتَ خلِّي بالك من مروة.
- ليه؟ مش هحضر الدفنة ولَّا إيه؟
-يعني لازم ياحمدي..
ابتسم بخفَّة وهزَّ رأسهِ مجيبًا:
-لازم يابنتِ عمِّي..قاطعهم رنينُ هاتفِ نعيمة..
-ماما أبلة مروة كويسة؟...تساءلت بها هند وهي تبكي..
-أيوة حبيبتي..متخرجيش من البيت ياهند وأنا ساعة وجاية لعندك.
عند إلياس..
استمع إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة ياشريف.
-أيوة ياسيدي، التليفون مبيدِّيش شبكة ياإلياس، بس أنا جبتلك آخر مكالمة..كان على رقمك.
-تمام ياشريف، قالها وأغلقَ الهاتف، ثمَّ دلف إلى مكتبهِ يشيرُ إلى مالك:
-الفريق تحت، عايز أشوف همِّتك، شركتنا جديدة، لازم اسمها يسمَّع، إسحاق باشا بيشكر فيك، أتمنَّى تكون قدِّ المسؤولية..
-إن شاءالله هكون قدِّ المسؤولية وعند حسنِ ظنُّكم.
أشار إليه بالخروج، مكث بمقعدهِ لدقائقَ لم يتحرَّك كأنَّ جسدهِ تصنَّم ولم يعد لديهِ قدرة على الحركة، غيَّمت عيناهُ بالدموع بعدما تذكَّر حياتهِ الماضية، وكيف تحوَّلت إلى جحيم..
مسح على وجههِ بعنف، كاد أن يمزِّقَ جلده، لحظات وهو على هذه الحالة بجسدٍ يغلي كالمرجل، إلى أن رفع هاتفهِ وقام الاتصال بأحدِ الأشخاص:
-هبعتلك رقم عايزك تحطُّه تحت المراقبة.
-تمام يافندم..تراجع بجسدهِ بعدما أرسل الرقم يحدِّثُ نفسه:
-ماأشوف أخرتها معاك يايزن، لو طلع اللي في دماغي صح صدَّقني هوجعك إنتَ وأختك..رغبة جامحة أن يذهب إليه ويفصلَ رأسهِ عن جسده بعدما تذكَّر حديثه:
"هوَّ اختفاء ميرال جنِّنك كدا، بقيت تتخيَّل أيِّ حد بيكلِّمني ميرال؟!..إنتَ محتاج تروح لدكتور يابنِ عمِّي، وبعدين لمَّا إنتَ كنت بتحبَّها أومال ليه قرفتها في عيشتها..قالها يزن وتحرَّك.. بينما ظلَّ إلياس متوقِّفًا بجسدٍ عاجزٍ لم يعد لديه القدرة على النطق.
بفيلا الجارحي..
صمتًا بالغرفة، بعد نطقِ أرسلان لحديثه، ثمَّ جلس أمامهم كالتلميذ المنتظر العقاب، تنهيدة طويلة أخرجتها صفية بكمِّ الألمِ الذي حملتهُ داخلها، ثمَّ أومأت برأسها:
-كنت عارفة إنِّ هيكون للطريق نهاية، بس متوقعتش تكون سريعة كدا..
رفع رأسهِ وشعر بغصَّةٍ مريرةٍ تملأُ جوفهِ من حديثها الذي شطر قلبهِ ثمَّ قال:
-ماما صدَّقيني الحل دا هيكون أحسن للجميع، أنا ضايع بينكم وبينهم ومبقتشِ عارف أراضي مين، في عزِّ ظروف حياتي اللي بتنهار مش عارف أراضيكم، حاولت أوازن بينكم، هيَّ أمِّي اللي ولدتني وأخويا اللي حياته ادمَّرت وإنتي أمِّي اللي ربِّتني وعمِّي اللي روحي فيه، طيب أنا فين والكلِّ بيشدِّ فيَّا، أحسن حل أكون في بيت منفصل ويكون ليَّا كيان، ويامرحب بالجميع، إنَّما أجزَّأ نفسي دا صعب.
نهض فاروق واتَّجه يجلسُ بجواره، يربتُ على ظهرهِ بحنان؛ ثمَّ حاوط أكتافهِ رغم شعورِ احتراقِ قلبهِ من انفصالهِ عنهم وقال:
-حبيبي اعمل اللي يريَّحك، إحنا يابني مش زعلانين، من حقَّك تشوف حياتك، من وقت ماعرفنا حقيقة نسبك وكنَّا منتظرين اللحظة دي، وبلاش تشيِّل نفسك هموم فوق همومك، أنا متأكِّد إنِّي ربِّيت راجل وتربيِّتي فيه حلال، مستحيل هيرمي أمُّه وأبوه، أكيد هيزورنا من وقتِ للتاني.
طالعهُ لبرهةٍ ولمعت عيناهُ ببريقٍ من الدموع وتحدَّث:
-أبدًا يابابا، هتفضل أبويا اللي ربَّاني، وهيَّ هتفضل أمِّي اللي ماأقدرشِ أبعد عنها، الموضوع ومافيه لازم نصحَّح حياتنا بعد اللي حصل، بلال في المدرسة بيقولوا عليه بلال الجارحي، بكرة لمَّا يكبر ويسألني ليه بيقولوا عليَّا كدا يابابا وأنا اسمي مش كدا..عايز أربِّي ولادي على أنُّهم ولاد أرسلان الشافعي، لازم يقتنعوا بكدا..وطول ماأنا هنا لا همَّا هيستوعبوا ولا أنا هقدر أتعايش على إنِّي أرسلان الشافعي.
توقَّفت صفية وقالت:
-هخلِّي البنات يجهِّزوا الغدا، ولَّا كمان مش هتتغدَّى معانا..
نهض من مكانهِ وتوقَّف أمامها:
-خلِّيهم يلمُّوا حاجات الولاد، بعدين موضوع الغدا دا..
انسابت دموعها تغزو وجنتيها تهتفُ بتقطُّع:
-يعني إنتَ ناوي تقطع علاقتك خالص بينا؟!..
يعني إيه يلمُّوا حاجات الولاد؟..
اقتربت خطوة منه وحدجتهُ بنظرةِ عتاب:
-عايز تقطع علاقة بأمَّك وأبوك، طيب ليه، إحنا ذنبنا إيه؟..نهض فاروق بعدما وجد حالة صفية وأردف:
-حبيبي هيَّ بس زعلانة علشان ناوي تبعد مرَّة واحدة، يعني خلِّيها على فترات، يعني اقطع أسبوع أسبوع وبعد كدا شهر وهكذا، إنَّما البعد مرَّة واحدة صعب يابني..إنتَ عارف مالناش غيرك إنتَ وأختك.
سحب كفَّيها وطبع قبلةً فوقهما يمسِّدُ عليهما بحنانٍ وتحدَّث:
-ماما أنا مش هبعد عنِّك حبيبتي، الموضوع ومافيه هنفصل بالبيت بس، أكيد هزورك من فترة للتانية، يعني زي ماكنت بعمل في بيتي كدا، يومين هنا ويومين هناك.
لكزتهُ تصرخ وهتفت بنبرةٍ باكية:
-إنتَ كدَّاب، إنتَ لسة قايل عايز تبعد عن حياة الجارحي، خلاص مش همسك فيك، مادام مش أهمَّك مش همسك فيك..
قاطعهم دخول إسحاق ملقيًا السلام..
استدارت إليهِ سريعًا وأشارت على أرسلان بغضبٍ خرج من كمِّ آلام ماتشعرُ به:
-تعالَ شوف آخرة دلعك، مش دا اللي وعدتني هيفضل في حضني، مش اللي وعدتِّني أنُّه هيفضل ابنِ الجارحي حتى لو كلَّفك حياتك؟..
اغروقت أعينُ أرسلان بالدموعِ من حديثها، فهتف إسحاق بنبرةٍ هادرة:
-صفية اهدي، إيه، لوك، لوك، لوك
إدِّيني فرصة أتكلِّم، رفع عيناهُ إلى فاروق ثمَّ اتَّجه إلى أرسلان:
-دا واحد داخل على الخمسة وتلاتين سنة، إيه..هيفضل في حضنك لحدِّ إمتى، خلاص هوَّ عايز حياته على كيفه ودا حقُّه، وكتَّر خيره أنُّه فضل معاكي بعد اللي حصل، وبعدين هوَّ مش هيقطع العلاقة، مجرَّد عايز يأسِّس حياة لأولاده لبعدين، إيه ياصفية عايزة نسله يكون تبع الجارحي حتى بعد ماعرف الحقيقة، ترضيها على نفسك، هوَّ صح، ومقدرش ألومه، نظر إلى أرسلان وتابع حديثه:
-إنتَ مبقتش صغير، واللي شايفه لحياتك صح اعمله، ومش لازم ترجعلنا، إنتَ راجل وكنت شغَّال في مكان حساس، يعني الكلِّ يمشي يقولَّك آمين من غير مناقشة.
ذُهلت صفية من حديثه:
-دا اللي قدَّرك عليه ربِّنا ياإسحاق!! بدل ماتقولُّه ماطمرش فيك التربية!..
-صفية اتجنِّنتي..صاح بها فاروق، ثمَّ أشار إليها:
-الموضوع انتهى وخلاص، وأنا مع إسحاق، مادام علاقته بينا لسة موجودة خلاص.
صمت فاروق بعدما استمعَ إلى حديثِ أحلام:
-يامربِّي غير ولدك..قالتها أحلام مقتربةً منهم ونظرةُ سخرية تجلَّت بملامحها، توقَّفت بجوار أرسلان ترمقُ إسحاق باستخفاف:
رمقها إسحاق بنظرةٍ قاتلة، عيناهُ تقدحُ شررًا من الغضبِ المكبوت، ثمَّ خطا نحوها ببطءٍ محسوب:
- احترامًا للاسم اللي لسه مكتوب في شهادةِ الميلاد...مش هردِّ عليكي.
استدار ناحية فاروق، وأردفَ بنبرةٍ حاسمة:
- عايز تشوفني؟ بيتي مفتوح، غير كده..البيت دا مبقاش يلزمني.
التفتَ من جديد نحو أحلام، ونطق بصوتٍ خافتٍ لكنَّه مزلزل:
- فيه ذكريات بتخنقني...لو حكيتها، موازين الدنيا هتتقلب.
أنهى كلماتهِ وسحب أرسلان من يده، وغادرا معًا وسط صمتٍ مشحون..
ارتفعت أنفاسُ أحلام بغضب، ثمَّ أشارت إلى فاروق بعينينِ تقدحُ نارًا:
- دا اللي بتقول عليه حيحترمني؟ دا أخوك اللي خايف على زعله؟!..
- ماما، لو سمحتي..أنا هتصرَّف مع إسحاق، وهخلِّيه ييجي يراضيكي كمان.
تحرَّكت إلى المقعد وجلست بعينين تحملُ خليطًا من السخرية والمرارة:
- يبقى قابلني..دا نسخة تانية من أبوه، المهم متبقاش مجنون إنتَ ومراتك البريئة وتسيبوا مالكم لابنِ الحرام دا.
نهضت صفية، رافعةً رأسها بكبرياء:
- أنا طالعة أوضتي يافاروق ولمَّا تخلَّص حوارات الستِّ الوالدة...عرَّفني يجهِّزوا السفرة.
جحظت عينا أحلام، ووقفت من مكانها كمن لسعها لهيب:
- إيه ياصفية؟! دا غيابي أثَّر على مخِّك ونسيتي نفسك؟!
استدارت صفية بكلِّ عنفوانها، ونظرت إلى أحلام باستخفافٍ قاتل:
- يمكن ياحماتي..ما هو حضرتك كنتي في المكان الصح، وأكيد..عديتيني.
هبَّت أحلام تتقدَّمُ نحوها، رافعةً كفَّها لتلطمها، لكن الباب انفتحَ بعنف، ودخل أرسلان كالإعصار:
- عندك..
وصل إليها بخطوةٍ واحدة، عيناهُ تشتعلُ بالجنون، وأشار نحوها بحدَّةٍ أمام فاروق:
- دي أمِّ أرسلان الجارحي...ماتفكَّريش للحظة هسمح لحدِّ يهينها، أنا لسه بحترم وجودك علشان بابا...وبس.
قهقهت أحلام وصفَّقت ببطء، تتلذَّذُ بالاستفزاز:
- شوف مين اللي بيتكلِّم، مبقاش غير ولاد الحرام اللي بيرفعوا راسهم..
في لحظة، احمرَّت عيناهُ كمن اشتعل داخلهِ بركان، وانقضَّ عليها قابضًا على عنقها، وسط صرخاتِ صفية وفاروق..
حاولت صفية دفعه، لكن فاروق صرخ بحدَّة ثمَّ لطمهُ بقوَّةٍ على وجهه، ليسقطَ أرسلان مترنحًا، يدهِ ترتجفُ على وجنتهِ التي تلقَّت الصفعة، وعيناهُ تائهة بين الوجوه..
تقابلت عيناه بعيني أحلام، وجد فيهما شماتة مريرة...لم يقل شيئًا، فقط استدار وغادر..
ركضت صفية خلفهِ تصرخ:
- أرسلااان!
لكنَّه كان قد استقلَّ سيارته، وانطلق بها كمن يهربُ من جرحٍ لا يندمل...أو كمن يسرعُ نحو نهايته...
بالجامعة...
أنهى محاضرته، واتَّجه إلى مكتبه بخطواتٍ هادئة، وماإن اقترب حتى لمحها واقفة أمام الباب، تعقدُ ذراعيها بعتابٍ صامت..
ابتسم واقترب منها:
- إزيك ياملك؟
ردَّت بوجهٍ جامد:
- أهلين، سيادة المعيد اللي ناسي ميعاده..
نظر إلى ساعته، وضرب جبينهِ بخفّّة:
- آسف والله، نسيت، كانت عندي محاضرة واتأخَّرت.
أومأت برأسها دون أن تنبس بكلمة... اقترب منها يداعبُ خصلاتها برفق:
- خلَّصت محاضراتي النهاردة، إيه رأيك نخرج ونتغدَّى سوا؟
رفعت عينيها إليه وقالت:
- النهاردة صعب..عندي إنترفيو في شركة أجنبية الساعة اتنين، ووعدت عمُّو أعدِّي عليه.
زمَّ شفتيهِ باعتراض:
- وأنا آخر من يعلم، ياملك؟!.
ارتجفت نظراتها نحوه:
- إنتَ ماكنتش راسي على شط ياإسلام..كلِّ شوية تطلعلي بحجج، فقلت أرسم خطِّ حياتي، ونشوف آخرتها إيه.
- ملك، هوَّ إنتي بتحبيني؟..سألها فجأة، وصوتهِ يحملُ رجفةَ تردُّدٍ وخوف.
ترقرقت عيناها، ودنت منه تمسكُ بذراعه:
- إنتَ لسه بتسأل ياإسلام؟ مش عارف ولَّا إيه؟
ضمَّ كفَّيها برفق، ثمَّ أردف:
- تعالي ندخل، مينفعشِ نوقف كده والطلبة رايحة جاية.
تحرَّكت بصمتٍ إلى الداخل..وضع أوراقهِ ومفاتيحه، ثمَّ التقط هاتفهِ وأشار إلى الخارج:
- يلَّا، هوصَّلك في طريقي.
هزَّت رأسها بالموافقة، وتحرَّكت بجوارهِ حتى وصلا إلى سيارتها، أشارت إلى السائق:
- الباشمهندس هيوصَّلني، روح إنت.
- حاضر ياهانم.
استدارت إلى سيارةِ إسلام واستقلَّتها، ثمَّ التفتت إليه تسأله:
- هتيجي معايا ولَّا هتوصَّلني وترجع؟
أدار السيارة بعد أن ارتدى نظارته:
- إنتي عايزة إيه؟
همست، ونظراتها تتفحَّصُ ملامحهِ الرجولية:
- عايزاك دايمًا معايا.
كلمة واحدة، أحيت روحه، وجعلتهُ يتوقَّفُ لوهلةٍ يتأمَّلها بعينينِ مترعتينِ بالعشق..مرَّرت أناملها على كفِّه، فسألتهُ بهدوء:
- بتبصِّلي كده ليه؟
رفع يدهِ لوجهها، أزاح خصلةً متمرِّدةً بفعلِ الرياح، اقترب حتى غدت المسافة بينهما شبه معدومة، أغمض عينيهِ يستنشقُ عبيرها، وكأنَّها الحياة ذاتها..
ابتسمت، ليصبح وجهها لوحةً مرسومةً بنظراته، اقتربت منه أكثر، وغرست أناملها في خصلاتِ شعره... لحظاتٍ تاه فيها العقل، وارتفعت دقَّاتُ القلوبِ تعلن عن حالةِ عشقٍ تلامسُ الخطر..
- أنا بحبِّك أوي ياملك...ومش هقدر أعيش من غيرك..قالها بهمسٍ أمام شفتيها، ليغيب العقلَ كاملًا بقبلة، أذابت المسافاتِ والحدود.
ارتفع رنينُ الهاتف، كصفعةٍ أعادتهم إلى الواقع..
انتفض مبتعدًا، وارتجفَ جسده، بينما أنفاسهِ تعلو وتهبط في صراعٍ داخلي..
سكتت خجلًا، وتورَّد وجهها حتى أصبح كالتفاحِ وقت جنيه، أمَّا هو فصاحَ بغضبٍ من نفسه:
- ماكانشِ المفروض ده يحصل، إحنا مش مكتوب كتابنا..حرام، حرام..
قالها وهو يضربُ المقودَ بقبضته، رفعت كفَّيه بين راحتيها:
-إسلام، إهدى...إحنا مخطوبين.
التفت إليها ونظراتهِ تنطقُ بالألم: -خطوبة ياملك...يعني مش مراتي، مش ملكي...هتبقي ملكي لمَّا أكتب عليكي.
ألمٌ ظهر على وجهها قائلة:
بس إحنا هنتجوِّز...مش كده ولَّا إيه؟
أرجع خصلاتهِ للخلف بغضب، ونارًا تأكلهُ من الداخل...كيف سمح لنفسه بالضعفِ أمامها؟! هو يعشقها، نعم، لكن عليه أن يحميها من ذنبهما قبل أن يحميها من العالم.
- إسلام...
شغَّل السيارة وقال بجفاف:
- هوصَّلك، ياملك...وممكن ما نتكلمشِ في حاجة دلوقتي؟
هزَّت رأسها بعناد:
- لأ، لازم نتكلِّم..ليه زعلان أوي كده؟
تأملها بوجع، وقال بصوتٍ مخنوق:
- لو قلتلك المفروض مانكونشِ لوحدنا أصلًا في العربية، هتصدَّقي؟ لو قلتلك حتى إمساكي بإيدك حرام؟ حتى شعرك ده مينفعشِ أشوفه...اتكلِّمنا في ده قبلِ كده، لبستي الحجاب فترة، وقلعتيه، ومش عارف ليه!..
سكت لحظة، ثمَّ أكملَ بصوتٍ مكسور: - حرام ياملك...كلِّ اللي بيحصل بينا حرام.
قاطعهم الهاتفَ مرَّةً أخرى، نظر للشاشة، وظهر اسمُ إلياس:
- "إسلام، لو فاضي عدِّي عليَّا في الشركة ضروري."
- حاضر...قالها وقاد السيارة.
بعد عدَّةِ أيَّام، والحال كما هو..
في فيلا السيوفي، جلست فريدة وسط الحديقة، بين الأزهار التي كانت ميرال تعتني بها يومًا...تتحسَّسُ بيديها أوراقَ الزهور، وكأنَّها تبحثُ بين عطرها عن أنفاسِ الغائبة..
اقتربت منها رؤى بهدوء، ونادت بخفوت:
- ماما فريدة...
رفعت عينيها الذابلتين، وكأنَّهما فقدتا القدرةِ على الحياة:
- أيوه يابنتي...
جلست رؤى إلى جوارها، تطوف بنظرها على الزهور، ثمَّ قالت بنبرةٍ حزينة:
- هتفضلي كده لحدِّ إمتى؟ بقالنا تلات شهور من بعد حادثة ميرال، وحضرتك زي ماإنتي...مش حابة تشوفي دكتور يساعدك؟
لامست فريدة بتنهيدةٍ حارقة زهرة منطفئة، ورغم كونها بأرضٍ خصبة، ويحيطها الجمالُ من كلِّ جانب، تخيَّلت بها حياةُ ميرال فقالت:
ميرال كانت زي الوردة دي..منطفئة بالرغمِ كلِّنا كنَّا حواليها..
همست بها فريدة وكأنَّها تكلِّمُ نفسها، ثمَّ تابعت حديثها المتألِّم..بحاول أقنع قلبي بغياب ميرال...بس مش قادرة.
ربتت رؤى على كفِّها برفق:
- ماما فريدة، هيَّ الحياة كده، يوم ليكي ويوم عليكي...
أومأت فريدة برأسها دون رد، وذهبت ببصرها إلى يوسف وهو يلعبُ بالدرَّاجةِ في طرفِ الحديقة، فسألتها:
- إلياس مرجعشِ من الشغل لسه؟
هزَّت رؤى رأسها نافية:
- كلِّمني من شوية، وقال ممكن يتأخَّر .
استدارت فريدة بكاملِ جسدها نحوها، تغرزُ عيناها في عيني رؤى، ثمَّ سألتها بصوتٍ يحملُ مابين القلقِ والشك:
- مش ناوية ترجعي بيت أخوكي؟
شعرت رؤى بالحرج يتسلَّلُ إلى ملامحها، فأجابت بخفوت:
- حضرتك زهقتي منِّي ولَّا إيه؟
هزَّت فريدة رأسها بسرعة، نافيةً حديثها الموجع:
- لأ ياحبيبتي، مزهقتش منِّك..بس اللي في بالك مينفعش، أختك هترجع.
ارتبكت رؤى، وتلعثمت:
مش فاهمة قصدك ياماما...
فرَّت دمعةٌ ثقيلةٌ على وجنةِ فريدة، وقالت بصوتٍ مخنوق:
- ميرال هترجع...واللهِ لو فيها نفس هترجع، مش هتقدر تعيش بعيد عن جوزها وابنها..
ثمَّ نظرت إليها نظرةً طويلة، ثابتة:
- وإلياس؟ مستحيل يدخَّل ستِّ تانية حياته بعد ميرال..دا فضل لحدِّ ماعدَّى التلاتين علشانها...تفتكري ممكن يخلِّي حدِّ تاني يحلِّ مكانها؟
نهضت رؤى فجأة، وكأنَّ كلماتُ فريدة صفعتها:
- إيه اللي حضرتك بتقولي ده؟ حضرتك فاهمة غلط!..
أشاحت فريدة بوجهها، تهزُّ رأسها ببطء:
يمكن..يمكن أكون فاهمة غلط..بس كان لازم أقولِّك، علشان ماترسميش أحلام مالهاش أساس.
إلياس ابني...وأنا عارفاه كويس..
قاطعهم رنينُ هاتفِ رؤى:
-ابعتي يوسف أنا على البوابة..كانت فريدة تراقبُ حديثهما إلى أن نطقت رؤى:
-حاضر، يوسف..
صاحت بها رؤى تشيرُ إليه ثمَّ التفتت إلى فريدة:
-هوصَّل يوسف لإلياس بعد إذنك.
-برضو مش عايز يدخل؟.
هزَّت كتفها وتحرَّكت متَّجهةً إلى يوسف، بينما ذهبت فريدة بعينيها إلى بوَّابة الفيلا، علَّه يدلف ويطمئنَ عليها ولكن ذهبت أمنياتها بعد خروجِ يوسف وعودةِ رؤى وإغلاقِ البوابة، كأنَّهم أغلقوا عليها الحياة...شعرت بوقوفِ أحدهم خلفها، رفعت عينيها الباكية إليه:
-الدنيا ليِّلت هتفضلي هنا لحدِّ إمتى؟.
رفعت كفَّيها إليه:
-قوِّمني يامصطفى مبقاش فيَّا حيل، ولادي قضوا عليَّا..
انحنى وحاوطَ جسدها يرفعها مع وصولِ رؤى التي قالت:
-أنا كلِّمت طارق وهيعدِّي ياخدني، بعد إذنكم..
رمقها مصطفى بنظرةٍ حادَّة وقال:
-بس أنا مش عايزه يقرَّب من بيتي ولا من ولادي يارؤى، أخوكي على عيني بس برَّة بيتي..
انسدلت دموعها وتحدَّثت بأسف:
-آسفة ياعمُّو، هكلِّمه تاني وأعتذرله.
-استني يارؤى..هتفت بها فريدة وهي تنظر إلى مصطفى بذهول:
-إيه اللي بتقوله دا؟! عايزها تمنع أخوها يجي لها؟..
-دا اللي عندي..قالها وتحرَّك للداخل، بينما اقتربت رؤى تحتضنُ كفَّيها:
-مش زعلانة ياماما، حقُّه ومنقدرشِ نلومه، متنسيش إنِّ طارق السبب في اللي حصل..
ضيَّقت عينيها وتساءلت:
-تقصدي إيه؟..
قصَّت لها ماصار، إلى أن انتهت قائلة:
-والياس طلب منِّنا محدش يقولِّك حاجة علشان متزعليش من عمُّو مصطفى.
استدارت فريدة متحرِّكةً للداخل، حتى وصلت إلى غرفةِ مكتبه، دلفت للداخل تنظر إلى جلوسهِ الموجع..اقتربت حتى جلست بجواره:
-ليه مقولتليش على موضوع غادة وطارق؟..
رفع رأسهِ إليها وصمت لبعض اللحظات ثمَّ قال:
-علشان الموضوع دا السبب في اللي حصل.
-يعني إيه؟..أنا بقيت على الهامش يامصطفى، دلوقتي بتفرَّق الولاد عن بعضهم..
تلألأت عيناهُ بالسحب، وهزَّ رأسهِ بالنفي:
-عمري مافكَّرت في كدا، بس أنا أب وخوفت على بنتي يافريدة.
-والياس ماكانشِ خايف عليها يامصطفى، تفتكر إلياس لو شايف الولد وحش هيجي يقولَّك، دا إلياس
يامصطفى وإنتَ عارفه أكتر منُّه..
هنا ضعُفَ وخارت دموعه، دموعُ رجلٍ قوَّتهِ يهابُ منها الجميع، تراجع بجسدهِ على المقعد:
-أنا حاسس روحي خرجت من جسمي يافريدة بعد ماهو مشي، بحاول أقلم نفسي بس مش قادر..
اعتدل يشيرُ بيدهِ على غرفة المكتب:
-كلِّ ركن هنا لينا ذكريات مع بعض، أشار على صدرهِ وتابع بحديثٍ باكٍ:
-دا ابني البكري يافريدة، ابني والله العظيم ابني ولا عمري في يوم فكَّرت في غير كدا، بس لحظة شيطان وذلِّة لسان هدِّتنا كلِّنا..
ربتت على كتفهِ وانهمرت دموعها بغزارة:
-عارفة ومتأكدة، والله عارفة أنُّه غالي عندك، وهوَّ كمان، بس كان لازم البعد دا علشان متشلوش من بعض.
-أنا مش شايل منُّه..تمتم بها سريعًا، وشعر بانحباسِ أنفاسهِ قائلًا:
-أنا صعبان عليَّا حياته اللي ادمَّرت بسببي، مسح على وجههِ بالكامل يهزُّ رأسهِ بعنف:
-إزاي أنا هاجمته كدا!!.إزاي أغلط الغلط دا!..ابني أنا ومحدِّش يقدر يقول غير كدا، بلساني أنا خرَّجته من حياتي..
-طيب ممكن تهدى، أنا لو عندي شك فيك صدَّقني كنت همشي معاه، أنا متأكدة من حبَّك له.
-وحشني أوي يافريدة، أوي، وعارف عمره ماهيسامحني، وأنا أستاهل لأنُّه مغلطش..بس معرفشِ كان مالي، مجرَّد ماقالِّي بابا فيه عريس لغادة وحبِّيت أعرَّفك، ولمَّا قال طارق الشافعي اتجنِّنت وبدأت أخبَّط بالكلام، واللهِ لو يزن كنت هوافق عليه، المشكلة الواد سوابق ومتربِّي مع راجح ورانيا، صعب عليَّا يافريدة أتقبَّل على بنتي حاجة زي كدا.
احتضنت ذراعهِ ووضعت رأسها فوق كتفه:
-دا قدر ومكتوب يامصطفى، يعني كان حيحصل لميرال كدا من غيرك، بس دي مجرَّد أسباب وتدابير مش أكتر.
اتَّجه برأسهِ إليها ورفع رأسها ينظر بعمقِ عينيها:
-يعني مش زعلانة منِّي؟..تنهَّدت بألمٍ يخترقُ روحها قبل جوارحها ثمَّ قالت:
-منكرشِ زعلانة منَّك ومصدومة فيك، بس دا ميخلنيش أمسح الحلو اللي بينَّا، نهدِّ حياتنا علشان موقف..
احتضن وجهها وطبع قبلةً مطوَّلةً فوق جبينها:
-ربِّنا يبارك لي فيكي يارب، قالها وضمَّها تحت حنانِ ذراعيه، ممَّا جعلها تدفن رأسها بصدره:
-نفسي نرجع زي زمان، تفتكر ميرال لسة عايشة يامصطفى؟.
-أنا مش ساكت، بعتِّ صورها سرِّي للمستشفيات الحكومية اللي في القاهرة عن طريق حد موثوق فيه، ونوَّهنا في الأقسام برضو، واللهِ بدوَّر في كلِّ مكان..المشكلة مش معاها أي حاجة نعرف نوصلَّها بيها.
نهضت بعدما شعرت بألمٍ بصدرها:
-أنا هطلع أنام، دايخة منمتش من إمبارح.
-روحي حبيبتي.
تحرَّكت وحاولت الصمود أمام آلامِ صدرها التي تنخرها بقوَّة، إلى أن وصلت غرفتها، ألقت بجسدها على السرير، ثمَّ مدَّت يدها تسحبُ دواءها، حتى يهدأَ الألم ولو قليلًا..
بالأسفل..ظلَّ جالسًا بمكتبهِ لفترة، عيناه مسمَّرتانِ على تلك الصورة التي تجمعهُ بأولاده، كم كانت السعادة تلمع في عيونهم، وكم بدا وجههِ فخورًا حينها..مرَّر أناملهِ المرتجفة على وجه إلياس، وكأنَّهُ يتحسَّسُ ملامحهِ للمرَّة الأخيرة، لتتحرَّر دمعة ثقيلة سقطت فوق الصورة..آه، كم كانت مؤلمة، كأنَّها تحرقُ روحهِ وتجرِّدهُ من آخر أنفاسِ الكبرياء.
وضع الصورة برفق، ونهض بخطا متثاقلة مترنِّحة، كأنّه يسيرُ فوق جمر، أو يسير بروحٍ بلا جسد..خرج من بيته هائمًا في الشوارعِ دون وجهة، تتقاذفُ أمامه مشاهدَ له ولإلياس، ظلَّ يجوب الشوارعَ لساعات، حتى وقف أمام لافتةٍ ضخمةٍ على أحد المنازلِ كُتبَ عليها: "إلياس الشافعي"...
هناك، عند تلك اللافتة، تهاوت كلُّ حصونه..شهق ببكاءٍ موجع، وكأنَّه فقد ابنه مرَّتين..هل خرج من حياته؟ هل أصبح غريبًا عنه؟ ذاك الطفل الذي كان يحملهُ على كتفيه، ويغرقهُ بحنانه، أيصبحُ الآن محجوبًا عنه باسمٍ جديد وهويَّةٍ جديدة؟.
هزَّ رأسه بعنف، وكأنَّه يطردُ تلك الفكرة القاتلة، مدَّ يدهِ المرتجفة إلى هاتفه، وضغط على الرقم الذي يحفظهُ قلبهِ قبل عقله:
في الداخل، عند إلياس...
كان يجلس في حديقةِ منزله، يطالعُ السماء الملبَّدة بالنجوم..عيناه تتنقَّلان بينها ببطء، كأنَّه يعدَّها، أو يبحثُ عن إجابةٍ بين الأفقِ والصمت...شعور بالاختناق راوده، ذكريات تحاصره، تداهمهُ بلا رحمة..فتح هاتفه، وقلَّب بين الصور..هنا يضحكُ بأحضانها، وهنا يبكي من أجلها، وهنا يحترق بغيابها..
خفض رأسهِ إلى الطاولة، وترك دموعهِ تنهمرُ بصمت..هل أصبح البكاء عادةً يوميَّة مثل الطعام، مثل الهواء؟
هل وصل به الحال إلى هذا الضعف، أين ذهب إلياس المتجمِّدِ المشاعر؟..
أين ذهب ذلك الشخص الذي كان لا يهمُّهُ سوى كبريائه؟..
هل عشقها حطَّمهُ بالفعل؟..
أم محاولتهِ بإقناع نفسه أنَّه ليس ذلك الشخص، بل هو شخص آخر، يجب عليه التأقلم رغمًا عنه..
رنَّ الهاتف..رفع رأسهِ ونظر إلى الشاشة التي أُنيرت برقمِ والده..
انعقد حاجباه..أجاب بصوتٍ مبحوح:
- بابا في حاجة؟!.
صمت مصطفى ولم ينبس سوى بأنفاسه، لحظات حتى أعاد إلياس سؤاله:
- بابا حبيبي مالك؟!
شهقة متقطِّعة، كأنَّها تخرج من صدرٍ مثقوبٍ بالألم ليردف بحروفٍ متقطِّعة
- حضرة اللواء برَّة..هتقابله ولَّا أرجع؟.
ارتجف قلبه وهبَّ من مكانهِ دون أن يشعر، يهرولُ إليه بأقدامٍ حافية، وصرخ برجالِ الأمن:
تستمر القصة أدناه
- افتحوا البوابة بسرعة..
رغم نظراتهم المتفاجئة، بخروجهِ بتلك الطريقة، ولكنَّه لم يهتم..خرج يركض بعينينِ دامعتينِ وقلبٍ ينتفض..دار بعينيهِ إلى أن رأى السيارة المضيئة على بُعد أمتار، ركض نحوها..
- بابا!.
همسها، ثمَّ وقف أمامه، رفع مصطفى عينيهِ الدامعتين وقال:
- بابا...إنتَ شايف إنِّي لسه أبوك
ياإلياس؟
تألَّمَ لرؤيتهِ بذلك الحال، فتح باب السيارة وساعدهُ على الخروج، أشار لأحدِ رجالِ الأمن:
- أمِّنوا العربية.
ثمَّ سار به وهو يحتضنُ ذراعهِ حتى وصلا للداخل.
نظر مصطفى إلى قدميهِ الحافيتين، ثمَّ رفع نظرهِ وقال:
- للدرجة دي مصطفى السيوفي يهمَّك، ياإلياس؟
تراجع إلياس إلى الخلف، متألِّمًا من وقع الكلمات:
- ارتاح يابابا، لو سمحت.
- إنتَ شايفني هلاقي راحتي بعد
مابعدت عنِّي؟ بعد ما قطعت علاقتك بيَّا؟ هونت عليك شهر كامل،
ياإلياس...بقيت أخاف أقول: "ابنِ مصطفى".
- بابا، لو سمحت..أنا مش قادر أشيل أكتر من كدا، أنا موجوع.
اقترب مصطفى فجأة، أمسك وجههِ بقسوة:
- شايف؟ مش قادر تبعد ياابنِ مصطفى..مهما قلت إنَّك مش ابني، بترجعلي غصب عنَّك..لأنَّك منِّي، واللي بينا مش بيتقطع، إنتَ ابنِ مصطفى السيوفي يلا.
- بابا، أرجوك..كفاية، أنا مش ناقص، أنا محتاج حدِّ يسندني، مش يخنقني...
- أنا اللي بخنقك؟!.
صرخ مصطفى، وضرب صدره:
-أنا اللي بخنقك ياإلياس!!.
انهارت حصونه..فبعض الكلمات أثرها يجلدُ الروح، وتصبحُ كصاعقٍ كهربائي.
-مبقاش ينفع، صدَّقني مبقاش ينفع، لا أنا هنسى ولا حضرتك هتنسى.
هزَّ مصطفى رأسهِ وانحنى بجسدهِ يرفعهُ من فوق الأرض:
-إلياس مش متعوِّد منَّك الضعفِ دا، آسف ياحبيبي، آسف علشان كسرتك بالطريقة دي..
أطبق على جفنيه، وتلاشى تنفُّسهِ حتى شعر بأنَّ الغرفةَ تطبقُ على صدره، ليرفع عينيهِ التي ضاعت منها الحياة:
- حضرتك مش غلطان أنا اللي ضيّعت كلِّ حاجة..أنا اللي وقعت وانكسرت، حطَّمت حياتي..أنا محدِّش غيري..
استدار يطالعُ البيت بعينينِ هائمتين:
- دا بيت مين؟ فين الحياة اللي كانت فيه؟!..أنا مش عارف أنا مين...أنا مش عارف أرجع لإلياس السيوفي، ولا قادر أعيش إلياس الشافعي...الشخص
اللي قدَّامك بقايا راجل، بيحاول يكمِّل علشان ابنه، وأخواته...
ثمَّ رفع عينيهِ لوالده، يتكلَّم بصوتٍ متهدِّج:
-منكرشِ كلامك كسر جوَّايا حاجة... بس الحقيقة، أنا اللي كسرت نفسي بالكامل.
قالها، ثمَّ انهار على ركبتيهِ فجأة، كأنَّ الأرضَ سحبت ماتبقَّى من تماسكه... كفَّاهُ على وجهه، وأردف ببكاءِ روحٍ مذبوحة:
-مش متحمِّل أكون إلياس الشافعي، إزاي كنت بضغط عليها، أنا ضعت وضيَّعتها، وابني هيضيع منِّي، حياتي انهارت..مبقتش قادر أعيش بالألم دا..
كلماتٌ صاعقة ارتطمت بوجدانِ مصطفى كالرصاص، فتراجع خطوةً كأنَّها أطاحته، ثمَّ جلس أمامهِ على الأرض، على ركبتيه، مدَّ يديه المرتعشتينِ وأحاط وجههِ بين كفَّيه:
-حبيبي دا قدرنا كلِّنا، فين إيمانك بربِّنا، إزاي واحد عارف ربِّنا ويتكلِّم بطريقتك دي!!.
-تعبان وعايز أرتاح يابابا، بجدِّ تعبان، خدني في حضنك، محتاج حد يطبطب عليَّا
جذبه وضمَّهُ لصدرهِ بقوَّة، لا كضابط، لا كوالد حتى...بل كرجلٍ يتشبَّثُ ببقايا روحه، وطفلهِ الذي صار رجلاً محطَّمًا:
آاااه حارقة أخرجها إلياس:
-دلوقتي بس فهمت يعني إيه تحتاج لحضن يكون دواك.
ربت مصطفى على ظهره وانسابت دموعهِ بصمت، هنا تمنَّى أن تعودَ الأيام إلى ذلك اليوم، لطلب من الله أن يخرسهُ ولم ينطق تلك الكلمات..
ظلَّا على الأرض، حضنٌ صامتٌ، تتساقطُ فيه الدموع دون خجل، والليلُ يكتفي بالمراقبة من بعيد على ذلك المشهدِ الذي هزَّ الوجدان..
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق