رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثالث 3بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثالث 3بقلم سيلا وليد
وكأنها لي الحياة..الجزء الثاني من شظايا قلوب محترقة
الفصل الثالث
أودعت قلبي أمانةً بين يديك، فكيف كسرتَه ورحلت؟
لم يكن قلبي ساحة حرب، بل كان مسكنك، مأواك، حضنك وقت العالم القاسي...
فلماذا كنتَ أنت القسوة حين ضاقت بي الأرض؟
بعد فترة أغلق مصطفى الباب عليه، وخرج متَّجهًا إلى غرفةِ يوسف، دلف للداخل وقام بتعديلِ نومهِ وتخفيضِ درجةِ حرارة المكيف، ثمَّ طبع قبلةً حنونةً على وجهه، واتَّجه للخارج...
ارتفع رنينُ هاتفهِ بالأسفل، هبط متَّجهًا إليه:
-أيوة يافريدة..
-مصطفى..أخيرًا ردِّيت، إنتَ فين الساعة تلاتة الفجر..
-آسف نسيت أتَّصل، أنا عند إلياس.
نهضت من فراشها مفزوعة واختنقَ صوتها:
-ماله إلياس..يوسف كويس؟..
-اهدي حبيبتي، إيه..جيت أطمِّن على ابني وابنه ولَّا مش من حقِّي ياأمِّ إلياس..
هدأ قلبها الذي تقاذفت نبضاتهِ بين الضلوعِ وقالت:
-حقَّك هوَّ حدِّ له حق غيرك، يعني هوَّ كويس؟.
-كويس ونايم هوَّ ويوسف.
-نايم!..ردَّدتها بذهول ثمَّ قالت:
-نايم إزاي وسايبك لوحدك؟..هوَّ الواد هيفضل بارد كدا..
أفلت ضحكة متَّجهًا إلى المطبخ:
-نعمل إيه حظِّنا، المهمِّ نامي وارتاحي، أنا كمان هصلِّي الشفع والوتر وأنام.
-إنتَ بتعمل إيه دلوقتي؟.
-دار بعينهِ بالمطبخ وتساءل:
-عايز أعمل حاجة سخنة، حاسس باحتقان والكلِّ نايم، بس مطبخ ابنك مش عارف فيه حاجة..
- على أساس إنَّك عارف حاجة في مطبخنا..
ضحك بصوتٍ وقال:
-وأعرف ليه هوَّ أنا مش متجوز ستِّ الحسنِ والجمال.
-لا والله..وصل إلى التوابلِ يقرأُ مافوقها، ثمَّ أجابها:
-أه والله..قدَّامي هنا كمون وفلفل أسود..إيه دا فلفل أسود؟!..ودا بيتعمل بيه إيه!..
ضحكت بنعومة عليه ثمَّ قالت:
-حبيبي إنتَ عند التوابل، دي للأكل أكيد مش هتلاقي بينهم حاجة تتشرب، امشي شوية كدا في الجهة التانية هتلاقي كلِّ المشروبات..ماتحاولش تسهر أكتر من كدا، الفجر خلاص على وشك، وكمان صحِّتك اللي حضرتك مش فارقة معاك، نام لو سمحت.
-علشان حبيبي دي حاضر، المهم هاتي غادة وإسلام الصبح وتعالوا نفطر مع بعض.
تنهَّدت وهزَّت رأسها قائلة:
-إن شاءالله..تصبح على خير..
-إنتي من أهله.
بمنزلِ يزن وخاصَّةً بغرفةِ رحيل
كانت تغطُّ بنومها، دفع الباب بقوَّة، فهبَّت من نومها تتلفَّتُ حولها بخوفٍ إلى أن وقعت عيناها على يزن الذي دلف الغرفة..
-إيه..فيه إيه، الولاد مالهم؟!.
قطب جبينهِ واقترب منها:
-مالهم الولاد، هوَّ أنا مدخلشِ أوضة مراتي غير علشان الولاد..
زوت مابين حاجببها تردِّد كلماته، ثمَّ زفرت بسأمٍ تعدلُ خصلاتها المتمرِّدة على وجهها وقالت:
-عايز إيه يايزن، داخل بطريقة اللصوص دي ليه يابني آدم إنت، وإزاي تدخل بالهمجية دي؟!..
-صوتك يامحترمة صوتك عالي ليه، الساعة تلاتة الفجر.
هبَّت من مكانها متناسيةً ماترتديه من منامةٍ صفراء تصلُ مافوقَ الركبة تكشفُ معظم جسدها، اقتربت منه وأصابتهُ بنظراتٍ ناريةٍ تشير إليه بحدَّة:
-اطلع برَّة، وبعد كدا لمَّا تدخل أوضتي تخبَّط على الباب، اعرف الإتيكيت شوية..وفكرة مراتك دي امسحها من دماغك، لأنَّنا خلاص وصلنا لحالة ميؤوس منها، ولو ينفع يايزن أعمل زي أختك صدَّقني هعملها..
انحنى يضع إصبعهِ على شفتيه:
-اشش، صوتك ياروحي، ثمَّ مشَّط نظراتهِ على جسدها بالكامل وقال:
-اللون دا مبحبوش، حدِّ يلبس قميص أصفر وينام بيه يابنتي..وبتتكلِّمي على الإتيكيت..
نظرت إلى نفسها ثمَّ رفعت نظرها إليه، وجدتهُ يلتهمها بنظراتهِ..
دفعتهُ بقوَّة لخارجِ الغرفة:
-اطلع برَّة..إيه البرود دا ياأخي..
لفَّ ذراعيهِ حول جسدها، وهمس بجوارِ أذنها:
-آخر مرَّة هتكلِّم في الموضوع دا، ولادي مش هيتربُّوا بعيد عنِّنا، لا إنتي هتبعدي ولا أنا هبعد ، فخلِّيكي شاطرة كدا، وكوني زوجة مطيعة، بلاش لعبة القطِّ والفار.
-يزن بتوجعني سيب إيدي.
هزَّها وقال:
-لمَّا تسمعي قوانين يزن الشافعي، وأوَّلها بعد كدا تصحي بدري وتجهِّزي الفطار لجوزك، ثانيًا..كلِّ يوم أرجع من الشغل ألاقي الحمَّام جاهز، ثالثًا ودا المهمِّ عندي طبعًا، مفيش إنتي في أوضة وأنا في أوضة، لو إنتي قابلة الوضع دا أنا مش قابله، إنتي مراتي سواء وافقتي ولَّا رفضتي، مراتي ولازم تعملي باللي ربِّنا أمر بيه.
قالها وأبعدها عنه..ملَّست على ذراعها بتأوُّهٍ موضعَ إمساكه، ثمَّ رفعت عيناها إليه:
-إن شاء الله هعمل اللي قولت عليه بالحرفِ الواحد، بس في أحلامك.
أومأ مبتسمًا:
-لا ياروحي وأنا صاحي واللهِ ودلوقتي أوَّل اختبار..هتدخلي تغيَّري القميص دا، وتلبسي لون غيره، وبعد كدا تيجي ورايا على الحمَّام تليِّفيني..
انكمشت ملامحها بجهلٍ عمَّا تلفَّظه، زمَّ شفتيهِ باستخفافٍ من ردَّة فعلها، ثمَّ اقتربَ وقال:
-أكيد مش عارفة تليِّفيني يعني إيه، أه ماالأستاذة بنتِ العمري بيه، على العموم هنزل على نفسي وأعلِّمك أصول التربية الزوجية، تليِّفيني يعني تحمِّيني، عايز أستحمى يعني..
برقت عيناها من حديثه، ممَّا جعله اقتربَ أكثر ولم يعد بينهما سوى أنفاسهم، وآمال حتى مستوى وقوفها وهمسَ أمام شفتيها:
-مش عارفة دي كمان، يعني ناخد شاور مع بعضنا، بس بالترتيب، أنا الأوَّل وإنتي بعدي، بس في نفسِ الوقت، إزاي بقى معرفش، أستاذة الجامعة البريطانية أكيد عندها معلومة في الترتيب..
هزَّة عنيفة أصابت جسدها من تلميحاته، رفعت عينيها إليه وجدتهُ يطالعها بتسلِّي، بل رفع أناملهِ يمرِّرها على عنقها إلى أن وصل فتحةِ قميصها، وهي تنظرُ إليه كالجمادِ الذي لم يشعر بشيء، إلى أن وصل إلى المحظورة، دفعتهُ بقوَّة وصاحت به:
-قليل أدب منحرف..امشي اطلع برَّة.
-قليل أدب..ليه شاقطك من شارع محمد علي، إنتي مراتي..
-يخربيت مراتك دي..قالتها صارخة، إلَّا أنَّه تحرَّك ناحية الحمَّامِ الخاص بها وقال:
-المية والصابون قاطعين عندي، خمس دقايق وألاقيكي جوَّا ..قالها وهو يدندن:
الغزالة رايقة
ما الناس الحلوة سايقة
يا سيدي ياجماله
ماله ضغط كتير عليه
ضربت أقدامها في الأرض وهمست:
-إنسان همجي لوكال، توقف على همسها، ثم التفت إليه
-همجي ولوكال، طيب ياست الفافي
عايز استحم
تمكنت وهي تعقد ذراعيها
-ليه حد قالك عاليا دادة ..تراجع إليها يحك ذقنه
-معنى كدا انك رافضة تساعدي جوزك يامدا
كظمت غيظها وهتفت بشراسة:
-ابعد عني يايزن، واتقي شري، بلاش تخليني أخرج عفاريتي عليك
دنى منها بخطوات سلحفية، واحتجزها بينه وبين الجدار
- هدخل الحمام يارحيل وعلى الله تتأخري ..قالها واستدار متحركًا، فهتفت بغضب:
-الهي يحموك في كنكة يابعيد
تسمرت قدماه، مستديرًا إليها سريعًا
-كنكة..انتي وصلتي للكنكة، بنت العمري بتقول كنكة ..أطلق ضحكة رجولية وغمز إليها
-طب يارب دعوتك تستجاب يابنت العمري، واحنا الاتنين نكون في الكنكة دي
-اااااه..صرخت بها وهي ترفع كفوفها، مع ضحكاته واتجاه للحمام، بينما هي
تراجعت على الفراش وتمدَّدت مبتسمة كلَّما تذكَّرت ماقاله..هزَّت رأسها ووجهها أنار بضحكاتها:
-دا هيجنِّنك ياراحيل..صمتت لحظات واغروقت عيناها بدموعِ الخيبة تهمسُ لنفسها:
-بس بحبُّه ومش قادرة أشيله من قلبي..
تنهيدة صارخة من قلبها قبل جوفها:
-هنفضل في العذاب دا كتير ياربِّي..
-راحيل..صاح بها يزن بعدما فتح جزء من بابِ الحمَّام..
اعتدلت على الفراش ولم ترد عليه:
-يارب صبَّرني أحسن ما أروح فيه في داهية..قالتها ونهضت متَّجهةً إلى غرفةِ أولادها، دلفت للداخل وأغلقت الباب خلفها:
-ماأشوفك هتعمل إيه يابو ليفة..قال أليِّفك..قالتها ضاحكة وتمتمت:
-مجنون وبحبُّه، جتك الهم ياراحيل، عمية..سبتي الرجالة كلَّها ومالقتيش غير دا..
عند يزن خرج من الحمام وهو يطلقُ صفيرًا معتقدًا أنَّها مازالت بالغرفة، دارت عيناهُ بأركانِ الغرفة سريعًا، فخرج يبحثُ عنها ظنًّا أنَّها فعلت ما قالته، ستتركهُ مثل ميرال..
دار بالغرفِ مثل المجنون، إلى أن وصل غرفةِ أولادهِ حاول فتحها ولكنَّها مغلقة..
طرق بهدوء:
-راحيل إنتي جوَّا؟.. كانت تستندُ على البابِ بصمت، تستمعُ إلى صوتهِ الخائف..
ردَّت:
-هنام مع الولاد، وإنتَ اشبع بالأوضة يايزن..قالتها وتحرَّكت إلى فراشِ ابنتها المستغرقة بنومها..
كوَّر قبضتهِ على بابِ الغرفة ثمَّ تراجع:
-ماشي..
باليومِ التالي بالشركة التي تعملُ بها رؤى..جلست في الكافيه الخاص بشركتها في وقت استراحةِ العمل،
وصلت إحدى صديقاتها:
-مستنتيش ليه يابنتي، قولت لك جاية.
نظرت للخارج وأجابتها:
-قولت أستناكي هنا، خلَّصتي الشغل اللي طلبه منِّك طارق؟.
أومأت لها ونهضت قائلة:
-هجيب قهوة أجبلك حاجة؟.
رفعت كوب قهوتها وردَّت:
-بشربها أهو..
بعد فترة سألتها:
-إيه آخر الأخبار عن أختك؟.
هزَّت كتفها للأعلى وقالت:
-مفيش جديد..لسة منعرفشِ حاجة عنها.
مطَّت شفتيها تلفُّ فنجانها ثمَّ رفعتهُ ترتشفُ بعضه:
-مش عارفة أختك دي إزاي تفكَّر تعمل كدا، ربِّنا مديلها كلِّ حاجة.
ابتسامة خفيفة شقَّت ثغرَ رؤى التي أجابتها:
-واللهِ دا اللي قولته..بس طبعًا ميرال عند الكلِّ حالة خاصَّة، أنا بحسدها واللهِ ياتقى، تعرفي جوزها هيموت عليها، رغم إنَّها اللي سبته.
-غبي واللهِ من قلِّة البنات..
ابتعدت بنظرها للخارجِ وهمست بصوتٍ خافت:
-لا مش غبي، دا علشان بيحبَّها ومش شايف غيرها.
-لا والله..قالتها صديقتها التي تُدعى تقى باستهزاء، ثمَّ قالت:
-ليه اللي خلقها مخلقشِ غيرها، سوري يارؤى بس الرجالة كلَّها واحد، يعني لو شافوا اهتمام من أي ستِّ بيريَّلوا عليها، بس همَّ اللي بيعملوا حزنانين.
اتَّجهت رؤى تنظرُ إليها بتساؤل:
-مش كلِّ الرجالة، إنتي متعرفيش إلياس وميرال بيحبُّوا بعض قدِّ إيه..
ارتشفت تقى من بعض قهوتها تهزُّ رأسها باستهزاءٍ ثمَّ أردفت:
-ميرال بتحبُّه أوي..وبدليل سابته هوَّ وابنها، إنتي عبيطة يابنتي..أختك أكيد زهقت ومحبِّتش تكمِّل في العلاقة، علشان كدا هربت، أو رمت نفسها زي ما بتقولي وماتت..
قطبت رؤى جبينها رافضةً حديثها:
-لا مش معاكي، هيَّ بقالها فترة بتتعالج بسبب ظروف إنتي متعرفهاش.
اقتربت تربتُ على كتفِ رؤى باستخفافٍ ثمَّ قالت:
-خلِّيكي هبلة كدا، أنا لو مكانك أنتهز الفرصة، مش دا اللي كنتي هتتجوزيه زمان، لولا اللي حصل..
-الموضوع انتهى وخلاص ياتقى، ودلوقتي إلياس مش بيفكَّر غير في مراته وابنه.
لكزتها بغضب وقالت:
-يابنتي فوقي، مرات مين، أختك ماتت، وحتى لو عايشة مستحيل ترجع تاني، هتفضلي كدا لحدِّ مايخطفوه منِّك، زمان كان فيه حاجز بينكم، دلوقتي مفيش حاجة، واللي فهمته إنِّ الولد مرتبط بيكي ودا أهمِّ حاجة، لازم تلعبي على الحتة دي، ومتنسيش إنِّ إلياس صغير لسة، على ماأظن ماوصلشِ الأربعين، واللهِ أنا أدِّيله تلاتين سنة..
تاهت رؤى بحديثِ صديقتها ثمَّ همست:
-تفتكري ممكن يرجع يتجوز تاني بعد الحبِّ دا كلُّه..لا ماأظنِّش.
تململت بجلوسها ونظراتها قائلة:
-وهوَّ وقت ماكان عايز يتجوزك مكنشِ بيحبَّها، يابنتي أي راجل في الدنيا عايز الدلع والحنان..ومفيش راجل بيحزن على ست، طب واللهِ لو من خاطري لكنت وقَّعته، إنتي مش بتشوفي البنات بتبصِّ عليه إزاي لمَّا بيجي هنا واللهِ إنتي هبلة، وهتفضلي بخيبتك كدا لحدِّ ما يدخل بواحدة عليكم ويقول مراتي..
هزَّت رأسها بعنف وقالت بحدَّة:
-لا مستحيل، مفيش واحدة تقدر تقرَّب منُّه.
هزَّت الأخرى أقدامها تنظرُ إليها باستخفاف:
-دا إنتي واقعة لشوشتك، وجاية تقولي بيحبِّ أختي..جتك نيلة، قومي خلِّينا نروح لأخوكي اللي فوق دا، أهو دا بقى اللي نفسي يوقع في غرامي، بس معرفشِ ماله ياختي شبه ابنِ عمُّه، عيلة هم هتجيبلي التروما..
بمنزلِ أرسلان...
دلفت إلى الغرفة بهدوء، وجلست على طرفِ الفراش تمسِّدُ خصلاتِ شعره بحنان..فتح عينيهِ ببطء، دار بنظرهِ في الغرفة متجنِّبًا عينيها، لكنها ألقت بكفِّها على وجنتهِ وأدارت وجههِ إليها برفق:
- حبيبي، مالك؟ من ساعة ما جيت وإنتَ نايم. ماما صفية كلِّمتك كذا مرَّة، وكمان عمُّو إسحاق.
- أنا واخد إجازة..ممكن تسيبيني أنام شوية؟ ولمَّا أصحى نحكي...
انحنت تقبِّلهُ على خاصرته، ثمَّ عادت تمسِّد شعرهِ برفق:
- خد راحتك، وأنا هتصرَّف لو حد اتَّصل..على قدِّ مافهمت، في حاجة مضايقاك ومش عايز حدِّ يعرف.
قبَّل كفَّها وهمس:
- جهِّزي نفسك..من أوَّل الأسبوع هننقل على كمبوند الشافعي..وعايزك تتعاملي مع الولاد إنُّهم ولاد أرسلان الشافعي...مش عايز حدِّ يقول الجارحي تاني.
- خلاص يعني كدا هننقل؟
أومأ وأغمضَ عينيه، وقال بصوتٍ خفيض:
- كلِّ واحد لازم يرجع لأصله ياغرام. مبقاش ينفع...ولادي لازم يتنسبوا لجدُّهم الحقيقي، وإن شاءالله هنقلهم من المدرسة...بس أوَّل نظبَّط ظروفنا.
- حاضر..بس خلِّينا نأجِّل كلام عن الولاد دلوقتي، مينفعشِ على الطاير كدا، نام وارتاح.
- هيَّ الساعة كام؟
- سبعة..لسه بدري، أنا صحيت علشان أجهَّز الولاد.
ابتسامة حزينة مرَّت على وجهه، أومأ لها بهدوء..نهضت تغلقُ الإضاءة، واتَّجهت إلى غرفِ أولادها..أمَّا هو، فظلَّ يتأمَّل السقف، يدهِ تحت رأسه، دقائق تمرّ كأنَّها دهر، ثمَّ أمسك بهاتفهِ المغلق واتَّصل بأخيه.
عند إلياس..
أنهى صلاةَ الصبح، بعد أن فاتهُ الفجر بسببِ ماحدثَ بالأمس...التقط الهاتف على رنينه، وعيناهُ تتأرجحُ بالقلق:
- أرسلان..خير على الصبح؟!..
- مفيش...صحيت بدري وقلت أصبَّح عليك.
خرج من غرفتهِ ومازال ممسكًا بالهاتف:
- لا بجد؟ حلمت بيَّا ولَّا إيه؟
أجابهُ أرسلان ممتعضًا:
- إلياس، مش عايز تريقة..حسيت إنِّي محتاج أكلِّمك وخلاص.
توقَّف إلياس بعدما شعر بنبرةِ صوتهِ المخنوق:
- إنتَ كويس؟
- آه..كويس الحمدُ لله، زي ماقلتلك، صحيت بدري بس.
قالها مع دخولِ إلياس غرفةِ ابنه يوسف، اقترب من نومه، وانحنى يمسِّدُ على شعره:
-حبيبي اصحى، رفرف بأهدابه، ثمَّ أغلق عينيهِ مرَّةً أخرى..
-يوسف وبعدين، اعتدل فوق فراشهِ للحظات، ثمَّ نهض وتحرَّك ببطءٍ قائلا:
- صباح الخير يابابا.
-صباح الخير حبيبي، يالَّه علشان الباص.
أومأ له واتَّجه إلى حمَّامه، بينما فتح إلياس النوافذ وتحدَّث مجدَّدًا:
- بصحِّي يوسف للمدرسة.
- ليه؟ فين الدادة؟
- محبتشِ حدِّ يعمل له حاجة من بعد ماميرال مشيت، هيَّ عوِّدته على كدا، خفت يدخل في حالة مش كويسة، وأنا مش ناقصني.
- ربِّنا يعينك ياحبيبي..كويس إنَّك ما خلِّتوش يحسِّ بالنقص.
- آه...بس تعِبني، حالته متقلِّبة..كلِّ شوية يسأل عن ميرال، حتى النَّانا مش عايزها تساعده في الهوم وورك..وأنا بحاول أكون هادي، قدِّ ماأقدر.
- معلش..لازم تتحمِّله، لسه طفل.
- سيبك من يوسف..احكيلي، إيه اللي حصل؟
- مفيش والله...قدِّمت استقالتي..وإن شاء الله أوَّل الأسبوع هننقل..بس أزبَّط وضعي، وكنت عايز أشاركك في شركة الأمن.
ضحك إلياس، بخروجِ يوسف يحملُ ملابسه:
- تعال يابابا، كلُّه طمع في شركتي..لا يا حبيبي الشركة دي بتاعتي، وإنتَ عندك النادي العب فيه براحتك.
- بقى كده، طمعت...طمعت ياابنِ فريدة.
سكت لحظة ثمَّ أكمل:
- إلياس...تفتكر هنقدر؟
- أدينا بنحاول..المهمِّ نحاول
ياأرسلان.
اقترب يوسف:
- بابا، عايز أكلِّم عمُّو.
ناولهُ إلياس الهاتف، وهو يداعبُ خصلاته:
- كلِّم يوسف.
- عمُّو، عامل إيه؟ هتيجي إمتى تلعب معايا؟ حضرتك وعدتني..
- عيون عمُّو، إن شاء الله آخر الأسبوع.
- أووف، النهاردة لسه الاتنين.
ضحك أرسلان:
- العب مع باباك لحدِّ ماآجي.
رفع يوسف عينيه:
- بابا دايمًا مشغول..وبيرجع متأخَّر.
سهمًا خرج من عينيهِ نحو صدرِ إلياس، شعر وكأنَّه صوتُ ميرال تتحدَّث على لسانه..أخذ الهاتف منه وأغلقهُ بعد أن قال:
- لو فاضي، عدِّي على الشركة...
ثمَّ التفت إلى يوسف، يسحبُ كفِّه ليغلقَ زِرَّ قميصه:
- عارف إنِّ بابا مقصَّر...بس يوسف كبر، والمفروض يعذر، بابا هيوعدك بيوم إجازة نعمل فيه كلِّ اللي إنتَ تحبُّه.
عانقه يوسف، وقال بصوتهِ الطفولي:
- حبيبي يابابا..أنا آسف.
ضمَّه إلياس بقوَّة، يستنشقُ رائحته، كأنَّه يبحثُ فيها عن أثرٍ من ميرال... اغروقت عيناه، ثمَّ احتضنَ وجهه
وقبَّله على جبينه:
- برافو عليك يابابا، شوف عايز تعمل إيه يوم الخميس، وأنا أكون جاهز.
صفَّق الطفل:
- يعيش بابا حبيبي..
بينما جهَّز إلياس حقيبته، واتَّجه إليه:
-يالَّه علشان لسة مشوار الساندوتشات، نظر الطفل إلى محتوياتِ الحقيبة، ثمَّ صرخ بضجر:
- نسيت الرسمة اللي الميس عايزاها..
وبعدين أنا مش بحبِّ الرسم...وكنت دايمًا أقول لماما كده، بس كانت تخلِّي الموضوع حلو وتحبِّبه ليَّا، عارف يا بابا؟ أنا بحبِّ الإنجليش والماث...بس العربي والرسم لا خالص..بس لمَّا كانت ماما تشرحهم، بحبُّهم علشانها...
طعنةٌ مزَّقت قلبهِ من كلماتِ طفله البسيطة التي فتحت جرحًا أكبر..كأنَّه يسمع من طفلهِ اعترافًا يذكِّره كم كان بعيدًا..كم كان يجهلُ تفاصيله الصغيرة.
اقترب الطفل، وضع كفِّهِ على خدِّ والدهِ الشارد:
- بابا، حضرتك رحت فين؟ أنا عايز الساندويتشات...وياريت المرَّة دي ما يبقاش الأكل بيقع منُّه..
أومأ له ومازال شاردًا بحديثه، هبط للأسفل..خرجت الخادمة على هبوطه:
-حضَّرت اللانش بوكس بتاع البيه الصغيَّر ياباشا
اتَّجه بنظره إلى طفلهِ الذي مطَّ شفتيه وأردف:
-أمري لله أهي أحسن من ساندوتشاتك يابابا..داعبهُ بابتسامةٍ حزينةٍ ثمَّ أشار إليها:
-هاتيله كوباية اللبن..توقَّف عن الحديثِ بنزولِ مصطفى، التفت إليه إلياس:
-بابا حضرتك بت هنا؟!.
ركض يوسف إليه:
-جدُّو حبيبي عندنا..انحنى مصطفى وحمل يوسف قائلًا:
-إنتَ بتاكل إيه يالا، تقلت كدا ليه؟.
نظر الطفل إلى جدِّهِ متذمرًا:
-أنا اللي كبرت ياجدُّو، وحضرتك عجِّزت ومش قادر تشلني، نزِّلني حدِّ قالَّك شلني..
قهقه مصطفى عليه وتحرَّك به إلى طاولةِ الطعام، ملقيًا تحيَّةَ الصباح:
-صباح الخير ياإلياس
رفع نظرهِ إلى الخادمة وقال:
-جهِّزي الفطار، ومتنسيش أكل سيادةِ اللوا..
أومأت له وتحرَّكت بعدما قالت:
-تحت أمرك ياباشا، جذب المقعد وجلس بمقابلةِ والده:
-فكَّرت حضرتك مشيت..
اتَّجه إليه بنظراته:
-ليه يابنِ مصطفى أنا ليَّا في البيت دا أكتر منَّك، ومتنساش حفيدي كمان..
ابتسم إلياس بحنان وهزَّ رأسه:
-طبعًا ياسيادةِ اللوا، حد يقدر يقول غير كدا.
قاطعهم صوتُ غادة:
-واللهِ لولا قالولي إنِّنا جايين نفطر مع الأنتيم بتاعي ماكنت صحيت من النوم، بس كلُّه فدا اليو حبيبي..
-حبيبتي يادودي..انحنت تقبِّلُ رأسه:
-يالَّه بعد ماكنَّا بناخد أحضان ببلاش بقينا نبوس الشعر..
دفعها إسلام الذي هوى بجسدهِ على المقعد:
-ليه بتحسِّسوني إنِّنا جايين نفطر مع رئيس الجمهورية، وحالة الطوارئ اللي ماما عملتها دي من الفجر، طيب أنا عايز أنام دلوقتي..نوِّموني..
اتَّجه إلياس إلى مصطفى وتساءل:
-حضرتك اللي طلبت منهم..قالها بدخولِ فريدة والخادمة تحملُ بعض الأشياء، ثمَّ أشارت إليها:
-فضِّي الحاجات دي في أطباق وجهِّزوا السفرة يابنتي.
توقَّف إلياس مستديرًا إلى فريدة:
-صباح الخير ياماما..مكنشِ فيه داعي لتعب حضرتك.
اقتربت ترمقهُ بعتاب ثمَّ تحرَّكت من جوارهِ دون أن تعيرهُ أهمية وقالت:
-أنا بس صعبان عليَّا أخواتك اللي إنتَ وحشتهم، فقولت أطلع أحسن منَّك يابنِ فريدة..
جلس على المقعد يطالعها بحاجبٍ مرفوع ثمَّ قال:
-ليَّا الشرف يامدام فريدة إنِّي هفطر معاكم والله.
حدجتهُ بنظرةٍ تعني الكثير ثمَّ قالت:
-مش علشانك خلِّي بالك، علشان أبوك وأخواتك.
زمَّ شفتيهِ واتَّجه إلى مصطفى قائلًا:
-هوَّ حضرتك ليه مابتعملشِ بالنصايح، قلبت عليَّا علشان بيِّت هنا، ياعم يبقى روح بات عندها..بلاش تغضب عندي.
رفع إسلام رأسهِ من فوق الطاولة يطالعهُ بذهول، ثمَّ فرك عينيهِ لعدَّةِ لحظاتٍ متَّجهًا إلى غادة:
-هوَّ أنا في الواقع ولَّا بحلم يابت ياغادة..الشخص دا إلياس!..
قهقهت غادة تصفعهُ بخفَّة على رأسه، ثمَّ اتَّجهت تعانقُ ذراعَ إلياس:
-لا ياحبيبي في الواقع، أنا والبتِّ ميرو بس اللي كنَّا عارفين أنُّه خفيف الدم..
هنا صمتًا مميتًا بعد نطقها لاسمِ ميرال، لتدور العيونُ جميعًا حول الوجوه، توقَّف يشير إلى طفله:
-تعالَ حبيبي الباص جه..خرج بجوار طفلهِ يشيرُ إلى الأمن:
-خلِّيك مع يوسف لمَّا يركب الباص..بينما بالداخلِ لكز إسلام غادة قائلًا:
-كان لازم تتسحبي من لسانك..أمَّا فريدة توقَّفت وقالت بنبرةٍ مكسورة:
-هشوف البنات جهِّزوا الفطار ولَّا لأ..قالتها هربًا ودموعها تفترشُ طريقها..
-إسلام شوف أخوك فين..
-أومأ لها وتحرَّك للخارج.
بمنزلِ يزن وقفت بالمطبخ تُنهي طعام الإفطار بجوار الخدم..حملت بعضَ الطعامِ على سرفيس وتحرَّكت إلى الخارج وهي تدندنُ مع الأغنية التي تصدحُ بالراديو:
إنتَ تقول وتمشي، وأنا أسهر ما أنامشي
يااللي مابتسهرشي ليلة ياحبيبي
سهرني حبيبي حبك ياحبيبي
بكتب على الليالي اسمك ياحبيبي
حبيتك ياحبيبي من غير ما أسأل سؤال
وحاسهر ياحبيبي مهما طال المطال
أنا بس اللي محيرني وما خلانيش أنام
إزاي أنا أقدر أسهر وإزاي تقدر تنام
وأقوله «حبيبي كلِّ مافيك حبيبي وحلو
صوتك حلو قلبك حلو
وحتى لمَّا تتعبني وأسهر لك سهرك حلو»
-أنا هنا ممشتش، إنتي عمية؟..
-عارف صوتي حلو وأنا على بعضي حلو...
وضعت الطعام بغضبٍ مصطنعٍ واستدارت إليه:
-وبعدهالك بقى..اقترب وحجزها بين ذراعيهِ وطاولةِ الطعام، ثمَّ أبحرَ بعينِهِ على وجهها:
-صباح الخير ياحبيبي.
ارتجف جسدها من قربهِ المهلك، وابتعلت ريقها قائلة:
-يزن ابعد علشان منزعلشِ من بعض.
رفع أناملهِ يرفُّ بها داخل خصلاتها الشقراء وتحدَّث:
-وليه نزعل من بعض، عندي اقتراح، ولَّا بلاش الاقتراح..عندي سؤال يارحيل بس قبل ماتجاوبي لازم تفكَّري كويس، وصدَّقيني فيه حاجات كتيرة هتترتب على الإجابة..
تأرجحت عيناهُ بالحيرة من هدوئها، ناهيك عن يده التي تتحرَّكُ بخصلاتها، ونبرةُ صوتهِ الدافئة..
رفع ذقنها ونظر لداخلِ مقلتيها:
-بغضِّ النظر عن ولادنا، اللي عمري
ماحاولت أحطُّهم في صراع بينَّا، انسي الولاد، وصدَّقيني عمري ماأعمل حاجة ضدِّ مستقبلهم وراحتهم، ولا إنِّي أعمل حاجة تزعلِّك منِّي، خلاص اللي حصل حصل..
طالعتهُ تنتظر باقي حديثه بشقِّ الأنفس..سحب كفَّيها وجلس على الأريكة وأجلسها بجواره:
-راحيل إنتي فعلًا عايزة تطلَّقي، يعني عايزة تبعدي عنِّي؟..ثبَّت وجهها وتعمَّق بعينيها:
-هتقدري تعيشي بعيد عن يزن، لو هتقدري صدَّقيني أنا مش هقدر
وكلامي دا مش بغصبك تكوني معايا، فكَّري وأنا منتظر، ووقت ماتقولي قرَّرتي إيه واللهِ وحياة رحيل عندي هعمل اللي إنتي عايزاه، حتى لو هتاخدي الولاد وتستقرِّي بعيد، المهم تكوني سعيدة ومرتاحة..
قالها واتَّجه إلى طاولةِ الطعام:
-ريحة الأكل حلوة، شوفتي علشان بس دخلتي المطبخ الأكل حلو إزاي..
نهضت واتَّجهت متوقِّفةً أمامه:
-ليه طلبت طلاقي منَّك بليلة يايزن، وياريت تجاوبني بصراحة، علشان إجابتك متوقِّف عليها إجابتي.
عند ميرال..
خرج الطبيب من غرفتهِ يهزُّ رأسهِ بأسف:
-للأسف يانعيمة البنت دخلت غيبوبة..
ضربت نعيمة على صدرها:
-ياحبيبتي..يعني بعد كلِّ اللي حصل معاكي تدخلي في غيبوبة!..رفعت رأسها وتساءلت:
-طيب والجنين ياحمدي، دي لسة مدخلتشِ التامن.
-لحدِّ دلوقتي كويس، مش عارف إيه اللي حيحصل بعد كدا..فيه نزيف داخلي بنحاول توقفه..
اهتزَّت ساقيها فاتَّخذت المقعد ملجأها:
-زي مايكون البنتِ دي مش مكتوب لها السعادة.
جلس بجوارها وقال:
-مش ناوية تقوليلي مين دي يانعيمة..
رمشت عدَّةَ مرَّاتٍ محاولةً السيطرة على الرعشة التي أصابت جسدها من الخوفِ عليها، ثمَّ قالت:
-اللي أعرفه إنَّها متجوزة واحد غني أوي، وكانت عايشة مع ناس على أساس أهلها وطلعوا مش أهلها، حتى اللي كانت متجوزاه، طلع ابنِ عمَّها وأبوها هوَّ اللي قتل عمَّها وشرَّد العيلة، دا اللي حكته..أه وجوزها شغَّال ظابط في أمنِ الدولة..
هبَّ من مكانهِ مذعورًا:
-يانهارك مش معدِّي، إنتي إزاي تصدَّقي الكلام دا، مايمكن بتضحك عليكي، ووراها مصيبة ولَّا قاتلة حد ولَّا هربانة من حاجة..
جذبتهُ من كفَّيهِ وأجلسته:
-اهدى واسمعني، قامت بقصِّ كيفية وصولِ ميرال إليها:
جحظت عيناهُ يطالعها بصدمة:
-يعني إيه؟.
-واللهِ دا كلِّ اللي حصل، وكمان أنس متابع معاها، بس لمَّا جينا هنا قطعت علاجها.
-يعني هيَّ قالت لك كانت بتتعالج نفسي؟.
أومأت له وقالت:
-البنتِ غلبانة أوي، ومكسورة، فكَّرتني بنهلة الله يرحمها، فاكر نهلة ياحمدي؟..
محبتش البتِّ تعمل حاجة في نفسها.
-يعني جوزها مفكَّر إنَّها ميتة؟.
-للأسف دا اللي فهمته منها، علشان بتقول وقعت العربية في النيل.
طيب أنس قالِّك إيه عن حالتها؟.
-إيه..أومأت له واستطردت:
-ممكن تئذي نفسها فعلًا..أكيد إنتَ دكتور وعارف أنُّه مش مجرَّد اكتئاب.
-لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم..
بس برضو لازم جوزها يعرف، إنتي عارفة دا لو عرف إنَّها عايشة ومقولناش ممكن نروح في داهية..
-أنا مستحيل أخون البنت، لحدِّ ماتفوق.
إنتي مجنونة يانعيمة، دي غيبوبة وكمان حامل..
ولو ياحمدي، اللي يوصلَّها لكدا مش ضمنها..
-يخربيت سنينك، بتقولك لوا وظابط أمنِ دولة.
-وإحنا مالنا، هوَّ إحنا كنَّا خاطفنها، دا المفروض يشكرونا كمان.
-برضو يانعيمة.
-مفيش غيره يابنِ عمِّي.
أومأ لها باعتراضٍ ثمَّ قال:
-طيب لو فضلت كدا للولادة، هتعملي إيه؟..فيه بيبي هيجي، يعني عايز إثبات يعني أوراق رسمية.
-وقتها ربِّنا يحلَّها.
نهض وتحرَّك وهو يتمتم:
-أووف..على نشفان دماغك.
مرَّت الشهورُ...
سريعةٌ كلمح البصر على البعض، وثقيلةٌ كجبلٍ جاثم على صدور الآخرين، حتى اكتملت السنة منذ مغادرة ميرال لمنزل السيوفي...
سنةٌ إلا نصفها، كانت هي فيها جثةً تتنفس، معلّقة بين السماء والأرض، في غيبوبةٍ سرقت منها كلّ شيء...حتى صوتها.
في ليلةٍ شتوية، أمطرت السماء كأنّها تبكي معها...
وقفت نعيمة أمام النافذة، تضم ذراعيها إلى صدرها وتحدّق في زخات المطر، ولم تكف شفتاها بالدعاء:
ــ سبحان اللي حبّبني فيكي وعلّق قلبي بيكي يابنتي...
يارب تقوّمي بالسلامة، مش علشاني... علشان بنتك،
خدها من بوقي يارب، أنا قلتها... ما تحرماش منها،
البنت هتعيش يتيمة؟ يتيمة أم وأب؟
اليتِم صعب... كُسر... وحشة مالهاش دوا.
مسحت دمعة سالت رغمًا عنها، ثم استدارت إلى ميرال، التي كانت مسجاة كأنها نائمة في سلامٍ مزيّف... جسد بلا روح، عينان لا تريان، وصدر بالكاد يرتفع.
دلفت هند بخطوات مترددة، هامسة:
ــ ماما؟... هتباتي هنا؟ ولا نروح؟ خالتو اتصلت تسأل.
نظرت نعيمة إلى الصغيرة، شمس، ذات الثلاثة أشهر، ثم أشارت عليها:
ــ هاتيلي شمس، وروحي انتي... سيبيني الليلة هنا.
ــ ليه يا ماما؟ حاسة بحاجة؟
اتّجهت بنظرها إلى ميرال من جديد، ثم تنهدت:
ــ مش عارفة يا بنتي... عندي إحساس جوايا حلو، ربنا يجعله من نصيبها
أومأت هند برأسها واحتضنت شمس، قبل أن تهمس:
ــ أنا في أوضة خالو حمدي، لو احتجتي حاجة ناديني، مش هروح
قبّلت الصغيرة التي كانت تلوّح بيدها في الهواء، لا تدري بما يدور من حولها، ثم خرجت، تُغلق الباب خلفها بهدوء.
حلّ السكون، ولم يبقَ سوى همسات التسبيح من فم نعيمة، بل قلبها الذي لا يتوقف عن الدعاء ناهيك عن صوت المطر، وماادراك ماصوته في جميلة محافظات مصر عروس البحر الابيض المتوسط
بعد عدّة ساعات... انتهت من وردها، قامت وأدّت ركعتي الضحى، جلست أمام سرير ميرال تتأمّلها...
فجأة...ارتجفت أنامل ميرال... حركة خفيفة، بالكاد تُلحظ، حتى ظنّت نعيمة أنّها تتخيّل...
لكنّها لم تكد ترفع بصرها حتى رأت أهداب ميرال ترفرف ببطء... ثم همست بصوتٍ بالكاد خرج:
ــ إلياس...
شهقت نعيمة واندفعت نحوها كأنّ الحياة ردت إليها، ركعت بجوارها، تمسد على خصلاتها، ودموعها تنهمر:
ــ ميرال!! حبيبتي... سمعاني؟! ردي عليا!
فتحت عينيها قليلاً، رمشت عدة مرات متألمة من ضوء الصباح، ثم همست من جديد
-إلياس ...
كادت نعيمة تصرخ من الفرح، لكنها تمالكت نفسها، أمسكت هاتفها المرتجف، واتصلت بابن عمّها، وما إن أجاب ..
-فيه إيه على الصبح؟.
-مروة فاقت ياحمدي.
-مروة مين؟..ابتسمت وهي تطالعها بحنانٍ وقالت:
-مروة اللي كانت في الغيبوبة..قالتها مع فتحِ ميرال لعينيها بالكامل..تدور بالغرفة ثمَّ همست بتقطُّع:
-أنا فين؟!..
انحنت نعيمة، تنظرُ إلى ملامحها باشتياق، ياالله ماذا فعلتي فيَّا أيتها الفتاة حتى تصلُ درجة حبُّكِ لهذه المرحلة..
-إنتي معايا، إيه فكراني؟.
دقَّقت ميرال النظر إليها، وصور سريعة أمامها إلى أن همست:
-أبلة نعيمة.
قبَّلت نعيمة جبينها:
-روح قلب أبلة نعيمة إنتي..حاسَّة بإيه يابنتي؟.
-أنا فين وإيه اللي حصل؟..هنا تذكَّرت ماصار إليها، لتشهقَ تضعُ كفَّيها على بطنها:
-بنتي..بنتي فين؟.
ابتسمت وأجابتها بدخولِ حمدي:
-بنتك زي الفل..دلف حمدي ملقيًا السلام:
-إزيك مدام مروة؟..شوفتي نعيمة بتحبِّك إزاي، صحِّتني من النوم وأنا لسة يادوب بدخل مكتبي بعد عملية طول الليل..
كانت تنظرُ إليه بجهل، فأشارت إليها نعيمة:
-دكتور حمدي المسؤول عن حالتك، وبيكون ابنِ عمِّي كمان.
أومأت برموشها وقالت:
-بنتي فين؟..قالتها بتقطع
اقترب حمدي وقام بفحصها، وبدأ يسألها بعضَ الأسئلة عن الآلام، وحركاتِ رأسها وعيناها بكلِّ الاتِّجاهات..
دلفت هند تحملُ طفلةً تبلغُ من العمرِ ثلاثةُ أشهر.
أشارت نعيمة إلى هند، ثمَّ اقتربت تحملُ الطفلة:
- سمِّي الله، زي القمر شبهك أوي، أنا مشفتش باباها، بس واخدة منِّك كتير
باباها!!. هنا تذكَّرت الياس، رفعت عينيها للطفلة ثمَّ همست بتقطُّع:
-مين دي؟..
جلست نعيمة بجوارها على المقعد وهي تحملُ الطفلة:
-دي بنتك حبيبتي، اتولدت من فترة، إنتي بعد الحادثة دخلتي غيبوبة..
اقترب حمدي منها وقال:
-بعدين يانعيمة، المهمِّ نطمِّن عليها، لازم نعمل إشاعات..
-يعني أنا والدة من فترة؟!. تمتمت بها بصوت مجهد
أومأت نعمية مع نظراتِ ميرال للطفلة التي تضعُ أناملها بفمها..
-دي بنتي؟. يعني بنتي اتولدت من غير ماأحسِّ بيها!..بنتي اتولدت وحيدة!!.
-إخصِ عليكي، أنا رحت فين؟.
رفعت كفَّيها الذي ارتجف وقالت:
-عايزة أحضنها، اعترض حمدي:
-بعدين يامدام لو سمحتي، لازم أطمِّن على راسك بالكامل، وكمان أعصابك مش هتتحمِّل تمسكي حاجة.
أمالتها نعيمة حتى وصلت لأحضانها...
ضمّتها كأنها تحتضن الروح التي عادت من الموت
ــ ضمّيها يا بنتي...
رفعت ميرال يدها المرتجفة، وكأنها ترفع جبلًا، والتفّت ذراعها الهزيلة حول جسد الصغيرة، وما إن استقرت بين أحضانها، حتى انهارت بالبكاء، نشيجٌ مرير خرج من أعماق قلبها المكسور:
ــ آآآه يا حبيبتي... آآآه يا نوري وجنّتي... أمّك رمتك زي أخوكي، من غير ذنب...قالتها وهي تسحب رائحتها كأنها تريد أن تخنق نفسها بها
ارتفع بكاء الصغيرة ..فحملتها نعيمة
نظرت إليها ميرال بعينين تغرقان في الندم، وكأنها تتوسل إلى ابنتها بأن تسامحها على جرمها
أجلستها نعيمة برفق على ساقيها، ومسحت دموعها بيدٍ ترجف من التأثُّر:
ــ بطلي عياط، شوفيها حلوة إزاي
وإنتي مش رميتيها، دا كان غصب عنك... ظروفك هي اللي كانت صعبة
مررت ميرال أصابعها على وجه الصغيرة، تلمس أناملها بعيونًا باكية:
ــ سميتوها إيه؟
-شمس زي ماكنتي بتقولي لي ..
رفعت ميرال عيناها بتساؤل:
-ازاي كتبتيها ومفيش إثبات لأوراق
ترددت نعيمة، ونظرت إلى حمدي وكأنها تطلب المساعدة، ثم همست:
ــ شدّي حالك، ولما تبقي بخير نتكلم
رفعت ميرال وجهها بانكسار:
ــ يعني إيه؟!
زفرت نعيمة بأسى، كأنها تخشى الجرح لكنها مضطرة لفتحه، فتحت فمها للتحدث إلا أن حمدي قال:
ــ كتبتها على اسمي يا مدام ميرال...
كنتي بين الحياة والموت، ومحدّش يعرف حتى اسم جوزك بالكامل...
قلنا لما تفوقي تبقي تغيّري الاسم.
انكمشت ملامح ميرال، كأن طعنة أخرى نُقشت في صدرها، انتزعت الإبر من ذراعها وگانه ألقي عليه تعويذة لتشعل نيران صدرها، حاولت الاعتدال بجسدٍ مهزوم، وصرخت بصوتٍ ضعيف كاد أن يسمع:
ــ لاااا! مستحييييل... دي بنتي!
أنا أمّها... وأبوها عايش!
مستحييييل تتسجّل باسم تاني، ابوها موجود، قالتها انهارت باكية، حاولت نعيمة السيطرة على موجة غضبها
-اهدي يابنتي ...
تنهيدة خرجت من نياط قلبها، لم تحتملها رئتاها، فتداعى جسدها المتعب على الفراش، وزاد صراخها وانهيارها.
وضعت نعيمة الطفلة بين يدي هند على عجل، وأسرعت تمسك بـ ميرال التي بدأت تفقد السيطرة بالكامل على نفسها، بينما حمدي يحاول تهدئتها:
ــ اهدَي يا بنتي، كفاية عليكي اللي حصلك...
لكن ميرال لم تكن ترى ولا تسمع...
كان الكون قد ضاق عليها بما رحُب...
صرخت من أعماقها:
ــ إلياااااااس!
كررتها وكأنها تستدعيه من باطن الأرض، حتى خارت قواها تمامًا، وغابت من جديد بعد إعطائها مهدئًا يُنقذها من نفسها...
ساعات مرت...
والصمت ثقيل، يُخيّم على المكان.
ظلت نعيمة تترقّبها بخوف:
ــ ايه يا حمدي... هي رجعت في غيبوبة تاني؟
بقالها أربع ساعات نايمة!
هزّ رأسه بأسى يمسح وجهه بارهاق:
ــ اللي عرفته مش سهل... وهي حالتها أصلاً مش مستقرة..هروح اكمل شغل واعدي عليكي مرة تانية ..لو حصل حاجة كلميني
-أنا متشكرة ياحمدي جدا، طالبة منك خدمة كمان، عايزة دكتور يتابعها لما تفوق لحد مانرجع القاهرة
ربت على كتفها، وقال
-حاضر يانعيمة، هشوف دكتور، بس لازم يكون ثقة، وتأكدي اخر عملي الوظيفي على ايدك انتي والجميلة دي
لكزته وهتفت
-ليك عين تهزر ياحمدي، وبعدين عينك، انت مشفتش جوزها حلو ازاي، اتلم يابن عمي
انحنى يغمز بطرف عينه:
-افهم من كدا انك غيرانة يابنت عمي
حمدي..فجأة!!
تحرك رمش ميرال ، ثم عيناها... فتحت ببطء، كأنها تعود من عمق ظلام طويل.
هرعت نعيمة إليها، أمسكت بيدها:
ــ حمد الله على السلامة يا روح قلبي... فوقتي تاني، الحمد لله.
نظرت إليهم بعينين شاردتين، ثم همست بتقطّعٍ يخنقه الرجاء:
ــ عايزة... أتّصل بجوزي.
أومأ حمدي وناول نعيمة الهاتف:
ــ فاكرة رقمه؟
دمعة ثقيلة تساقطت من عينيها، وهزّت رأسها بالإيجاب، تحاول تذكّر الرقم، لسانها يبطؤ، عقلها يرتبك، الأرقام تتراقص وتفرّ منها... لكنها أخيرًا جمعته.
-كلِّميه إنتي يانعيمة، بلاش إشعاع حاليًا قريب منها.
أومأت نعيمة ونظراتها على ميرال:
-أقولُّه إيه؟.
-قولي له ميرال عندي وبس..
رنَّة اثنتان ثلاثة..ودقَّاتُ قلبها تتقاذفُ بصدرها إلى أن استمعت الى صوتِ نعيمة:
-إلياس باشا معايا؟..
إلياس السيوفي..همست بها ميرال فقالت نعيمة:
-إلياس السيوفي..
-أنا، مين؟..صمتت باستغراب ثمَّ قالت:
-أنا اللي مدام ميرال عندها.
على الجانبِ الآخر نُطق كلماتٍ جعلت وجهها يتحوَّلُ لشحوبِ الموتى، وعيناها على ميرال التي تراقبُ بلهفة...
كدا فصلين في بعض اهووو، يعني ممكن اقولكم اشوفكم التلات القادم، بس انتوا اكيد حابين الرواية وهشوف اجمل تفاعل عليها
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق