رواية بين دروب قسوته الفصل الثالث والرابع بقلم ندا حسن
رواية بين دروب قسوته الفصل الثالث والرابع بقلم ندا حسن
"كان الفراق فراق مسافات، الآن أصبح فراق أرواح"
بقيت بنظراتها المصدومة عليه، عينيها الواسعة اتسعت أكثر برفض تام لما تحدث به، بقيت تنظر إلى عينيه بعمق وذهول غريب، تتسأل في نظرتها كيف استطاع أن يهتف بتلك الكلمات؟ كيف هان على قلبه أن يفكر بتلك الفعلة الدنيئة بها، فقط لكي تكون زوجته ومعه سيفعل أي شيء!.. هي بالأساس كانت معه وهو من أضاعها من بين يده.. هو من خان قلبها وروحها معًا..
من يرى نظرتها إليه الآن يعتقد أنه ضربها بنصل حاد غرز داخل قلبها المفتور ألمًا وحده، يرى كم الخذلان الذي تعرضت له على يده.. يرى كل شيء مؤلم لا يستطيع أحد تحمله أبدًا ولكنها تحملت..
نفضت يدها بقسوة ونظرتها نحوه تحمل اشمئزاز وتقزز لأ نهائي ولكنها تسائلت بعتابٍ واضح:
-قدرت تنطقها!.. قدرت تفكر كده بعقلك؟
أطال النظر عليها، على ملامح وجهها التي تزف الصدمة الكاملة إليه، إنه تحدث بكلمات فقط، ولن يتراجع عنها لأنه ليس مُستعد أبدًا لخسارتها، أجابها بنظرة جادة قاسية:
-آه قدرت وهقدر أعملها وأنتي عارفه كده كويس
حركت عينيها ذات اللون الزيتوني عليه، عقلها لا يستوعب أنه يهتف بنبرة جادة هذا الحديث، كيف لشخص عاشق أن يُخيل له فعل ذلك:
-ده مش حب
نفى ما قالته مؤكدًا بقوة أنه يحبها ساردًا عليها كل ما حدث ربما تكون نسيت ما فعلته وما فعله هو، أترى بعد كل ذلك أنه ليس حب؟:
-لأ حب، حب مُميت كمان.. أنتي عارفه إن في بينا قصة من وإحنا عيال بس إحنا كبرنا خلاص جيت أطلبك للجواز قولتي لأ عندي دراسة وجامعة وعملتي فيها الإنسانة الجامعية وأنتي كنتي فاشلة أصلًا عملت نفسي عبيط وقولت مش مهم محصلش حاجه... خلصتي الجامعة وخلاص الحمدلله نيجي نتجوز بقى لأ نعمل خطوبة على أساس مش عارفين بعض مش كده؟..
لم تخفض بصرها من عليه بل كانت تعمق النظر به وبكل حركة بسيطة تصدر منه، تدور بالكلمات الذي يهتف بها داخل عقلها وحقًا إلى الآن لا تستوعب ما الذي يحدث
أكمل مُشيرًا بيده وعينيه عليها بقوة:
-عامر استحمل الهبل اللي بيحصل وقال ماشي يجي معاد الفرح تقوم الهانم مأجلة الفرح قال ايه بيكلم واحدة عليا.. مستنية مني ايه بعد كل العذاب ده.. إني أقولك ماشي يا حبيبتي مش مهم فركش!.. لأ مش فركش يا سلمى أنتي ليا مهما حصل غصب عن عين الكل
تسائلت بذهول غير مصدقة أنه يرى الأمر هكذا؟ ألا يرى كم المعاناة التي تمر بها معه؟:
-أنت واعي للي بتقوله؟
أومأ إليها برأسه بتأكيد مُكملًا بتوضيح أعمى وكأنه يبرر لنفسه ما فعله:
-آه واعي للي بقوله.. ده طيش شباب استحمليه وبعدين غلطة وأنا اعترفت بيها وقولت مش هتحصل تاني
ضغطت على أسنانها بقوة وهي تعقب على كلماته الغير صائبة، يرى نفسه شاب طائش؟. ولو كان هكذا حقًا أليس هناك إمرأة بحياته وهناك عرس يخطط له:
-ده مش طيش شباب ماشي.. أنت راجل كبير وفاهم وواعي لكل اللي بتعمله متقولش طيش شباب
حاول أن يجاريها في حديثها بنظرة ثاقبة وعينين حادة، حرك شفتيه الرفيعة قائلًا بنبرة مُتهكمة:
-ماشي مش طيش شباب.. غلطة راجل كبير وواعي ايه مافيش حد بيغلط؟..
اختلفت نبرتها عن السابق وأصبحت خافتة مُرهقة لأبعد حد ووجهها يقص مع ملامحها للأعمى أنها اكتفت من ذلك:
-كلنا بنغلط.. بس بنتعلم من الغلط أنت بتكرره ولا كأني موجودة، ليه مش مكتفي بيا يا عامر ليه؟
أقترب خطوة بملامح مرهقة انتقلت له هو الآخر بعد الاستماع إلى نبرتها الخافتة الحزينة وأجاب بعمق وتأكيد:
-وديني مكتفي بيكي بس أنا غبي وبضعف قدام الشرب ومن هنا بتبدأ المشاكل
نظرت للبعيد ثم عادت عينيها إليه مرة أخرى غير قادرة على مجابهته لأنه من الأساس لا يترك لها فرصة يحاول باللين والقوة معًا ولكنها مهما حدث لن تعود عن قرارها:
-بس أنا تعبت ومش مستعدة أكمل كده.. أنا مستحملاك من زمان أوي تملك وغيرة، عصبية بسبب ومن غير سبب قسوة الصبح وبالليل حد تاني، أنا تعبت بجد وطاقتي خلصت
وضع كف يده الأيمن على وجنتها المُكتنزة مُردفًا بهدوء ونبرة رخيمة هادئة لعلها تعود عما في رأسها:
-اوعدك هتغير علشانك.. علشان نبني بيت سوا مش ده كلامك
أمسكت بيده وأبعدتها عن وجنتها مُعقبة بضعف شديد أمام رجل أحبته بكل جوارها ويصعب عليها الفراق هكذا في لحظة خاطفة:
-بس ده مش أول وعد أخده منك ومش بتعمل بيه
مرة أخرى يحاول باللين، ضيق عينيه عليها مُردفًا بتأكيد وتلك النبرة الخافتة مازالت موجودة في النقاش بينهم:
-هحاول صدقيني
يأخذها من القوة إلى الضعف ومن اللين إلى الشدة، يتلاعب بها بقسوة شديدة ويفهم الأمر جيدًا وهي تفهمه أكثر من نفسه، ولن تسمح له أن يفعل بها هكذا، ستكون هي الغصة العالقة بحلقه..
تنهدت بضيق وانزعاج اعتبارًا أنها ستستمع لحديثه وتفكر به جيدًا، لحظة وأخرى خلفها ثم أردفت بنبرة جادة بها القليل من اللين والهدوء:
-طب أنا عايزة أسافر أغير جو وهرجع
تهكم داخله بشدة، المعضلة الأكبر بحياتهم أنهم بتفهمون بعضهم جيدًا أكثر من أي شخص آخر وهو الآن يعلم أنها تقول ذلك الحديث فقط ليسمح لها بالخروج من البلدة ثم من بعدها لن يراها مرة أخرى..
رفض بقوة وتأكيد وأكمل بطريقة أخرى تأخذها ناحية السعادة ربما يغريها ما يتحدث به:
-مافيش سفر يا سلمى لو عايزة تغيري جو بصحيح كلها شهر وهاخدك وهنسافر وهيبقى أحلى جو وحاجه متتخيليهاش
تفهمت حديثه الخبيث ونظرته الوقحة الماكرة، تعلم ما الذي يفكر به وما الذي يريده منها أكثر شيء ولم يخجل في أي لحظة ولا حتى الآن بل يقول ما يريد دون حتى التفكير:
-الحاجه دي تخصك أنت وتغير جو ليك مش ليا
أخذ نفسٍ عميق وأخرجه من فمه بوجهها متسائلًا بحدة:
-قصدك ايه
حركت عينيها عليه وأردفت مُجيبة إياه بقوة وحدة مثله بما أن الأمر لا ينجح عندما يمثلون الهدوء على بعضهم:
-اللي فهمته.. وعن اذنك بقى
استدارت ترحل وتتركه ولكنه أمسك بيدها مرة أخرى فنظرت إليه ثانيةً بقوة كبيرة منتظرة منه أي ردة فعل بعد تلك القبضة، ومن هنا هو تحدث بقوة وضراوة بعينين سوداء لامعة قاسية لأبعد حد:
-أنا قولتلك اللي عندي يا سلمى وأنتي فهمتيه كويس أوي.. بلاش شغل العِند ولعب العيال بتاعك ده علشان هيعك عليكي في الآخر ومحدش هيخسر غيرك
بادلته النظرات الحادة المُنبعثة من عيناه ولكنها وللحق الكبير والبالغ.. خائفة، خائفة للغاية مما يقول ويفعل وللأسف الشديد هي تعرفه جيدًا وتعرف ما الذي يستطع فعله دون أن يرف له جفن..
ترك يدها بهدوء وتحرك بعنجهية وثبات عائدًا لسيارته التي ترك بابها مفتوح وخرج منها على عجلة من أمره، بقيت عينيها عليه تنظر بقوة ووضوح عليه مذهولة من كل ما يحدث حولها ومنه هو بالأخص..
رأته وهو داخل السيارة يعبث بأشياء بالداخل ثم خرج منها وأغلق الباب بقوة، رفع عينيه عليها ليراها كما هي تقف في مكانها وعينيها لا تتركه..
ربما صدمت مما تحدث به.. تعرف أنه قاسي عنيد متملك لن يترك حقه بها بهذه السهولة ولكن أيضًا ليس بهذه القوة والضراوة... ليس بهذه القسوة والأفعال الدنيئة..
مر من جوارها ودلف إلى داخل الفيلا دون أن يتحرك عضو بداخله لأي مشاعر أخرى سوى التملك والقوة، الحب في جانب وحده وقد أغلق عليه لأنه موجود في كل الحالات..
عادت هي مرة أخرى إلى مكانها تجر خيباتها خلفها، لم تكن تتوقع بيوم من الأيام أن من احتمت به من الجميع في الخارج والداخل سيمارس قوته عليها..
سيمارس القسوة عليها!. حبيبته من أخذها في أحضانه في كثير من الأوقات مُبتعدًا بها عن البشر!..
تعود إليه؟ وتتناسى كل ما فعله ويفعله وسيفعله، تتناسى أنه خانها لثلاث مرات؟. أم تتناسى قسوته معها وحديثه البغيض الحاد؟ والأهم من كل هذا تتناسى أنه رجل شهواني للغاية!..
أم تصمم على موقفها الرافض له وتبتعد عن هنا قاتلة قلبها المُحب له مرحبة بحياة ليس بها سوى أفكار العقل وقراراته!..
❈-❈-❈
"بعد منتصف الليل"
خرجت من المرحاض بعد أن استحمت مُرتدية منامة بيتية مكونة من بنطال رصاصي اللون وقميص بنصف كم لونه أبيض مخطط بنفس لون البنطال، خصلاتها متناثرة على جانبي وجهها وجبينها من الأمام تغطيه خصلات قصيرة، ظهرت قصيرة أكثر مما هي عليه مختلطة الألوان الرائعة كالأسود والبُني..
ألقت المنشفة على مقعد المرآة وتقدمت تأخذ مرطب الشفاه تضع منه بدلال على شفتيها المُكتنزة، ضمتهم على بعضهم رافعة حاجبيها الاثنين أمام المرآة بطريقة مضحكة..
تركته على المرآة وكادت أن تأخذ مرطب البشرة ولكنها وجدت باب الغرفة يفتح دون إذن الطارق بالدخول، استدارت تنظر على الباب لتراه هو يبتسم بخبث ووقاحة ناظرًا إليها بعمق..
دلف "عامر" إليها بخطوة واحدة وأغلق الباب من خلفه يتقدم منها بطريقة غريبة، ينظر بثبات وعينيه بُنية لامعة بمظهر رائع خلاب يخطف أنفاسها المسلوبة منها من الأساس..
وقف أمامها مباشرة ولم يفصل بينهم شيء، وضع يده الاثنين على خصرها بطريقة وقحة قائلًا بحنين وشغف:
-وحشتيني
عقبت على كلمة الغزل بحدة دامجة بها الدلال والرقة الحانية كالمُعتاد منها:
-بذمة أهلك في حد يدخل كده؟.. أفرض بعمل حاجه خاصة.. الله
ابتسم بخبثٍ وعبث معها غامزًا بعينيه الوقحة الجريئة والتي اعتادت هي عليها:
-ده المطلوب وحياتك
وضعت يدها الاثنين على يده التي تجذب خصرها تقربها إليه أكثر مما هي عليه، ابتسمت بخبثٍ هي الأخرى وحاولت دفعة قائلة:
-طب اوعى كده وأمشي يلا لو حد شافك هنا هتبقى مشكلة
أردف بقوة وثقة وكأن حديثه جاد بالفعل ليس مجرد مزح رافعًا رأسه:
-محدش ليه عندي حاجه مش مراتي
ضحكت بصوتٍ عالٍ بعد رؤيته وهو يردف بتلك الكلمات الواثقة، مع أنه وقح للغاية:
-لا والله وده حصل امتى وإزاي؟
نظر إلى وجهها بالكامل مُمرًا عينيه عليه بقوة يحفره داخل عقله وقد أغرته ضحكتها الجريئة الصاخبة وبقوة، أقترب أكثر ضاغطًا على خصرها بيده القوية يهتف بنبرة خافتة:
-سيبك من امتى وإزاي المهم دلوقتي إن أنتي وحشاني جامد أوي
جذبت يده بقوة وأبعدته عنها ثم سارت مُبتعدة ووقفت أمام الفراش قائلة بدلال وهي تعطيه ظهرها:
-أنت بقى موحشتنيش
استدار معها بكامل جسده ينظر عليها من الخلف من الأسفل إلى الأعلى بعينين جائعة وتتوق لأي فعله تصدر منها:
-يا بت؟
استدارت تنظر إليه نظرة دلال ورقة بالغة وهناك كم من الحب المكون داخل عينيها لا نهاية له:
-آه.. وبعدين أنا أصلًا زعلانة منك جدًا.. مش كان المفروض نتعشى بره النهاردة ايه نسيت؟.. لأ وكمان من امبارح بره البيت ولا كلمتني ثانية حتى
تذكر يوم أمس الشاق، واليوم أيضًا كان كذلك، منذ صباح الأمس وهو في الخارج ولم يعد إلا في هذه اللحظات، عقب على حديثها يسرد ما الذي حدث حتى تغفر له نسيانه لموعدهم الغرامي:
-طب بذمة أهلك أنتي أنا كنت فاضي وقولت لأ؟ تقدري تسألي أخوكي هو عارف أنا كنت بعمل ايه وكان المفروض يبقى معايا بره من امبارح بس أنا بعته علشان هو واحد متجوز لكن أنا واحد غلبان حبيبتي مش عايزة تحن عليا
تسائلت بحنان أم قلبها يرق ناحية طفلها الذي اعتبرته بالفعل جائع منذ أمس بسبب عمله:
-اتعشيت طيب؟
في لحظة خاطفة بعد استماعه لسؤالها الحاني ورؤيته لذلك الحب داخل عينيها الساحرة أقترب منها بخطوة واحدة يقف أمامها كما كان منذ لحظة ويده الاثنين خلف خصرها يهتف بنبرة خبيثة:
-لأ أنا مش جعان أكل أنا جعان نوم.. نـــوم واخده بالك؟
حرك أنفه فوق أنفها بحدة مقتربًا منها أكثر فدفعته بقوة كبيرة في صدره ليعود للخلف وجلست هي على الفراش:
-أبعد كده يا مجنون ويلا بره كده عيب
ضغط على شفتيه بأسنانه بقوة ناظرًا بعمق إلى شفتيها المُكتنزة المغرية للغاية والشهية بالنسبة إلى رجل عاشق مثله:
-أنتي خليتي فيها عيب.. دا في نار قايده جوايا وحياتك
وقفت على قدميها بسرعة تدفعه في صدره مرة أخرى لكي يذهب إلى الخارج ويتركها فحديثه ونظراته خبيثة للغاية:
-طب ياعم الوالع يلا بره بقى
سار معها بخفه وهي تدفعه ولكنه أكمل في مشاكستها بمرح ومزاح لا يُجيد فعله إلا معها:
-هقولك طيب استني
تصنعت الضيق ومن داخلها تود الابتسام والضحك واستمرت في دفعة بخفة للخارج:
-مش عايزاك تقول يلا بره
أردف بصوتٍ خافت متصنع الحزن لأجل ما تفعله وهو الذي ترك كل شيء فقط لأجل رؤية عيناها والتمتع بالنظر إليها:
-بقى كده.. يعنى أنا جاي من بره عليكي وسايب كل اللي ورايا علشانك وفي الآخر تطرديني؟
أومأت إليه بتأكيد وبقوة:
-آه يلا بقى
وقف أمام باب الغرفة وتحدث بحرارة تحرق داخلة بقوة وضراوة:
-ماشي يا بطل بس خليكي فاكرة بقى اللي بتعمليه
فتحت الباب بيدها ودفعته للخارج بالأخرى مُبتسمة بقوة لأجل أفعاله الصبيانية:
-فاكرة يلا أمشي
أعاق غلق الباب برأسه حيث أنه كان في الخارج بجسده وأدخل رأسه إليها يهتف بمرح وعينيه على شفتـ ـيها:
-بوسة طيب!
وجدها صامتة تنظر إليه وصمتها يعبر عن أنها حقًا بدأت في الضجر وبقوة، ابتسم أكثر وأغاظها قائلًا بنظرة من عينيه البُنية البريئة:
-طب حضن بريء
دفعته بقوة للخارج صارخة به بعنف ثم دفعت الباب في وجهه مرة واحدة دون سابق إنذار:
-بره يا عامر
وقفت خلف الباب من بعد غلقه تضحك بصوت عالي صاخب وسعادة كبيرة تجعلها كوردة مُتفتحة في حقل بساتين ليس به إلا الزهور السعيدة، وهي كانت من ضمنهم بفعل حبيب عمرها..
استمع إلى صوت ضحكاتها الصاخب قبل رحيله فاقترب من باب الغرفة مرة أخرى متيقن من أنها تجلس خلف الباب وصاح قائلًا بنبرة لعوب:
-بطل بطل يعني مش أي كلام
ارتسمت الابتسامه الواسعة على ثغرها الوردي، وضعت كف يدها على شفتيها وهي تبتسم بمرح، يا الله كم تحبه!.. قلبها يدق بعنف عند النظر إليه، عينيها تشتاق إلى رؤيته وتلمع عند النظر إلى هيئته الرجولية..
تتوق شفتيها للرد على حديث يصدر منه وتمتع أذنها بالاستماع إلى صوته، كثير من المشاعر والأشياء الصاخبة التي تمر بها في وجوده وكأنه حقيقة سعيدة لا تود زوالها أبدًا..
استفاقت من تلك اللحظات السعيدة جالسة على الفراش بعد أن كانت عينيها غفت، جلست تنظر حولها في الغرفة المظلمة ليس بها إلا ضوء خفيف للغاية مريح للنوم..
ما الذي حدث! كانت نائمة أو كانت تود النوم فجلست على الفراش تتمدد عليه لتخلد للنوم ولكن رأسها وعقلها أخذ يذكرها بكل ما بينهم ويبدو أنها غفت وهي تتذكر تلك الأشياء الماضية!..
لم يكن هذا إلا موقف جمعهم من بين ألاف المواقف الجميلة الرائعة، التي تستخدم الآن كذكريات فقط!..
الآن لو دلف إلى غرفتها لن تكون سعيدة بذلك القدر التي كانت به، لن تشعر بالأمان من الأساس بعد تهديده الواضح والصريح لها..
الآن وغد وبعد غد لن تشعر بالأمان بوجوده معها مهما حدث بينهم، سيكون ذلك من المستحيلات أن تترك له نفسها دون خوف كما السابق سيكون من أصعب ما يكون..
في السابق كان يدلف إلى غرفتها في أي وقت وتذهب معه إلى أي مكان دون خوف، الآن الرهبة تعبث بقلبها بسبب وجوده وتشعر أن نهايتها ستكون على يده إن بقيت على وضعها وذلك القرار الذي اتخذته.. الشعور بالأمان في منزلها أصبح صعب للغاية..
وقفت على قدميها وتقدمت من باب الغرفة ثم أغلقته بالمفتاح من الداخل لتحاول كسب القليل من الراحة في تلك الفترة المرهقة..
عادت مرة أخرى إلى الفراش تجلس عليه بعد أن ذهب النوم بعيد عنها تفكر بأفعاله وحديثه الواثق وكأنه لم يفعل شيء.. هل لأنها صمتت في المرات السابقة وجعلت الأمر يمر أعتاد على ذلك وأعتقد أنها لن تتحدث مهما فعل وستكون موجودة معه..
أعتقد أن حبها له سيجعلها تدوم دون رحيل ولكنها لن تجعل الحب يؤثر عليها بهذه الطريقة مهما كانت مكانته بحياتها، ستحاول الآن أن تحافظ على كرامتها وتعز نفسها أمامه أكثر من ذلك ليتفهم جيدًا أنها إمرأة تستطيع أن تكفي رجل وأن يكتفي بها..
الخطأ منه والخيانة من قِبله وقلبها خائن أكثر منه مهما فعل يريد القرب والرحيل بالنسبة إليه موت
❈-❈-❈
جلست صديقتها "إيناس" جوارها على الفراش تحاول أن تواسيها بكلمات لينة تجعلها تخفف من ضراوة الحزن التي قبعت داخلها منذ أن علمت بما فعله "عامر":
-خلاص يا سلمى يا حبيبتي متعمليش في نفسك كده
رفعت رأسها إليها تنظر بعمق والدموع تسير على وجنتيها المُكتنزة في خطوط ثابتة تردف بحرقة:
-معملش ايه في نفسي؟.. معملش ايه هو اللي أنا فيه ده سهل.. ده عامر
أبعدت "إيناس" بصرها عنها وجعلته إلى الأمام وقالت بقوة وجدية:
-بصراحة بقى أنتي اللي غلطانه.. أنا كتير حذرتك منه وقولتلك خدي بالك عامر مش سهل وبتاع ستات وأنتي عارفه كده كويس
شعرت بأنها تنظر إليها بغرابة وعينيها مثبتة عليها ففعلت المثل واستدارات برأسها وجسدها إليها قائلة بقوة مؤكدة حديثها:
-آه يا سلمي ياما قولتلك عامر مش ليكي
وضعت وجهها بين كفيها الاثنين وأخذت في البكاء بقوة وبصوتٍ عالٍ، قلبها يحترق والنيران لأ تنطفئ بداخله، منذ تلك اللحظة وهي مشتعلة وتعذبها أشد عذاب وهي الآن تزيد البنزين عليها بقولها أنه ليس لها..
لم تعد تستطيع أن تتحمل المكوث هنا في هذا المنزل، لأ تطيق النظر إلى وجهه ولا حتى تذكره، لقد جعلها تخجل من نفسها أمام الجميع وأمام نفسها قبلهم.. لما قد تفعل هذا؟.. لما تحكم على الغرام الذي بينكم بالموت!..
أقتربت منها الأخرى أكثر ووضعت يدها الاثنين على أكتافها تحتضنها قائلة بصوت ناعم يبدو متأثر:
-اهدي يا سلمى متعمليش في نفسك كده
بعد لحظات من المواساة والكلمات الحنونة رفعت رأسها ومسحت على وجهها بقوة تزيل دمعاتها من عليه ثم هتفت بجدية:
-أنا هسافر يا إيناس.. هسافر ومش راجعة دلوقتي أبدًا
يالا الفرحة التي شعرت بها، كل ذلك البكاء التي استمعت إليه وهذه الشفقة التي كانت توزعها عليها لم تجعل قلبها يدق هكذا.. لم يجعل أي شيء قلبها يدق بهذه الطريقة العنيفة الفرحة للغاية بما استمعت إليه ولكنها تحكمت بنفسها قائلة بحزن:
-للأسف ده الحل الوحيد يا سلمى علشان تنسي
أومأت إليها "سلمى" البريئة معها للغاية.. والتي جعلتها الأقرب إليها على الرغم من كلمات "عامر" الدائمة لها عن كونها ليس فتاة صالحة لتكون صديقتها.. والأخرى قد دقت طبول السعادة والفرح داخلها..
الانتقام منه ليس شيء سهل أبدًا، لقد جعلها تشعر بخذلان لا مثيل له، جعلها تبكي ليالي بقهر وحرقة وضياع نفس.. جعلها تتعايش مع مرارة الأيام وحدها بعد الذي فعله معها منذ سنوات..
لقد دمر كل ما كان بها، جعلها أخرى أصبحت لا تعرف نفسها.. وكان عليها الانتقام منه.. الانتقام الشديد الذي استغرقت كثيرًا وصبرت أكثر لكي تقوم به على أكمل وجه ولتكون الضربة القاضية له.. ولم تكن إلا عن طريق روحه "سلمى" وصديقتها الزائفة..
تعلم أنه يفرط من شرب الكحول، ولحسن حظها رأته في ذلك المكان التي لا تحب الذهاب إليه "سلمى"، ورأته في حالة ثمالة لن تتكرر لأنه لا يمثل أكثر من هذا.. ولحسن حظها مرة أخرى كان هذا الوقت المناسب بالتحديد...
جعلت الفتاة تقترب منه للغاية وهي تأخذ اللقطات المناسبة، لم يمنعها عن الإقتراب ولكنه أيضًا لم يقترب.. وفعلت ما كانت تريد فعله.. إنه برئ ولم يفعل شيء.. لم يخونها، ولم يقبل الفتاة.. لم يحتضنها ولم يفعل أي شيء حتى اللمسة لم يفعلها بإرادته هي من كانت تحركه وتفعل ما يحلو لها لتأخذ الأخرى ما تريد وهو الأحمق لا يدري بكل هذا وأصبح أمام نفسه قبل الجميع جاني وقد خانها حقًا ويلوم نفسه لأنه أقترب منها..
نظرت إلى "سلمى" بعينين ثاقبة ونظرة حادة حاقدة، عليها أن تقاسمه العذاب، هي الأخرى مثله عليها أن تنال جزء من الانتقام..
❈-❈-❈
"بعد مرور يومين"
يومين!. كمثل عامين مضوا عليهم في بعد تام..
الإبتعاد عن من تحب وهو أمامك يمثل إليك الموت البطيء، تعرف أنه موت حتمي ولكنه بطيء
منذ آخر مشادة حدثت بينهم جعلته يهتف بحديث بغيض على قلب كل من يسمعه، وعليها هي بالاحتراق، ابتعدت عنه تمامًا تاركه له كامل الحرية في النظر إليها من بعيد كما ستفعل في الأيام القادمة..
تحاول أن تهيأ له ما سيحدث عن قريب، ستكون مُبتعدة عنه كامل الإبتعاد..
بعد أن نامت في منزلها خائفة والذي من المفترض أن يكون هو المكان الوحيد الذي تشعر فيه بالأمان، قررت أنها لن تبقى هنا لمدة طويلة وعلمت أن القرار الصائب حقًا هو الإبتعاد..
إن بقيت واستمعت إلى حديثه ستكون مضطرة إلى الزواج منه رغمًا عنها وهذا لن يحدث، ستدعس قلبها أسفل قدمها بكل قوة لديها حتى يصمت عن الصراخ داخل قفصها الصدري مطالبًا بالعودة إليه..
مضوا اليومين عليها وهي تأخذ جانب وحدها بعيدة عن الجميع وعنه هو بالأخص، تراه يدلف عائدًا من عمله من نافذة غرفتها وهو يراها تنظر إليه يحاول الصعود إليها ليتحدث معها يجد أنها تغلق الباب من الداخل.. يحاول إرسال الرسائل إليها تقرأها ولا تُجيب عليه فلم يفهم ما الذي تفكر به..
عيناها تطالب بالقرب منه وقلبها يطالب بعناق أبدي من قلبه، تشعر بفراغ مُميت وقع في حياتها منذ أن نشب ذلك الشجار المشؤوم بينهم، تبكي كل ليلة بضعف وقلة حيلة لأجل ابتعادها عنه وترك حياتها التي اعتادت عليها لأربعة وعشرون عام..
أن تترك حب عمرها والرجل الوحيد الذي وقعت عينيها عليه منذ الصغر إلى الكبر، تدريجيًا عام بعد عام تكبر وهو يكبر أمامها وبينهم ذلك العشق الأبدي..
تظهر القوة وداخلها هشة ضعيفة من مجرد هواء مار أمامها تميل معه وتترك له حرية اختيار طريقها..
كان يراها هو في الصباح تهبط إلى الأسفل بعد أن يتناول فطوره مع الجميع.. يحاول معها ولكنها ترفض، أبعدته عنها بطريقة بشعة جعلته يفتقد حتى النظر إلى زيتون عينيها، جعلته يفتقد النظر إلى خصلاتها الغريبة ووجها الممتلئ..
جعلت قلبه يشتاق لكل همسة تصدر منها بعد أن كان كل ما بها له ويتمتع به في أي وقت وأي لحظة تخطر على فكره..
جعلته يشتاق إلى لمسة واحدة منها تؤكد له أنها مازالت هنا حبيبته وملكه الوحيد الذي خرج به من حرب كانت خاسرة لا محالة وبها أصبح القائد المشهور بالفوز العظيم..
كم يحبها وكم يشتاق إليها وإلى حديثها، متملك ومغرور، عنيف وقاسي ومتهور وبه كل الصفات الكريهة ولكن هناك صفة واحدة يهوى بها الغفران إلا وهي أنه يحبها إلى الممات..
الجميع بعد الذي حدث باغض الحديث معه حتى عمه الذي كان يأخذ دور والده في حياته، لم يكن هناك أحد يشجعه على فعل شيء سوى عمه وهو من وافق على زواجه من ابنته قبل أي أحد..
على عكس والده الذي رآه أصبح مُتهور بما يكفي وحاول معه أن يعود عما يفعل ولكنه لم يعود فابتعد والده وأصبح يعلم نتائج كل ما يفعله ابنه..
أصبح قاسي بالنسبة إليهم أكثر من السابق، أصبح شخص آخر غير الذي يعرفونه..
دلف من بوابة الفيلا في منتصف اليوم على غير العادة، نظر أمامه ليجد مشهد غريب على عينيه، الجميع في ردهة المنزل، هناك حقائب سفر موضوعة في الطريق، ابنة عمه في أحضان والده تبكي! والحزن مُرتسم على ملامحهم جميعًا..
ستذهب!.. أيعقل ذلك؟
نظروا إليه عند لحظة دخوله، وهي من بينهم، ولم ينظر بعيناه على أي شخص سواها، نظرة خائبة حزينة لكن لن تدوم كثيرًا..
أقترب بهدوء وبخطوات محسوبة، عينيه عليها بقوة، قلبه يدق بعنف داخل قفصه خوفًا مما قد يحدث في ذلك الموقف:
-أنتي ماشية
كانت تبكي وازداد البكاء أكثر برؤيته وسؤاله الذي خرج من بين شفتيه بحزن وضعف ظهر لها وحدها من بين الجميع.. لم تُجيب ولن تُجيب.. الآن تندب حظها الذي اوقعها به وحظها الذي جعله يخونها بتلك السهولة..
أردف بقسوة وتحولت عيناه إلى سواد قاتم معتم إلى أبعد درجة ممكنة:
-مش هتمشي يا سلمى
عاندته مُجيبة بحدة وهي تمسح تلك الدموع المتناثرة على وجنتيها المُكتنزة:
-همشي يا عامر
أقترب منها في خطوة وحيدة واسعة على حين غرة مُمسكًا بذراعيها الاثنين بكفي يده بحدة وقسوة عنيفة صارخًا أمام وجهها:
-مش هيحصل.. على جثتي سامعه ولا لأ
تقدم شقيقها "ياسين" سريعًا منهما وجذبه من ذراعيه الاثنين الذي يُمسك بها دافعًا إياه بعيدًا عنها يهتف بنبرة حادة:
-أنت اتجننت ولا ايه سيبها.. هي قالت مش عايزاك يا عامر خلصنا بلاش نعمل مشاكل وتخرب البيت ده
أبصره بقوة ونفيٰ رافضًا ما قاله مهما كانت نسبة حدوثه عالية، فالأمر الوحيد الهام في تلك اللحظة، أنها سترحل وتتركه وحده!:
-البيت ده هيتخرب لو مشيت وده مش هيحصل.. وبعدين ايه مش عايزاك دي؟ عدا عليها أربعة وعشرين سنة وهي معايا جاية دلوقتي تقول مش عايزاني
هذه المرة استمع إلى صوت شقيقته "هدى" تعنفه بضراوة لأنها قد وضعت نفسها في موضع ابنة عمها ووجدت أن ما حدث لا تتحمله إمرأة:
-وهو اللي أنت عملته شوية.. مافيش واحدة ممكن تستحملك كده يا عامر حاول تفوق لنفسك
اخرسها بصوته الحاد الصارخ في وسط المنزل وعروقه أصبحت بارزة وجسده بالكامل متشنج:
-مالكيش دعوة أنتي
أقتربت منه "سلمى" ناظرة إليه بعينين ضائعة في وسط كل هذا الحديث، مُحبة إلى وجودها معه، تريد البقاء والتمتع بقربه وأحضانه:
-عندها حق أنت مافيش واحدة تستحملك ومش هتلاقي واحدة بعدي يا عامر.. كان قدامك فرص كتير تتغير وأنا معاك لكن ده محصلش بالعكس بتزيد في الغلط وأنا تعبت
ضيق ما بين حاجبيه وعينيه عليها بدقة عالية مُتحدثًا بكلمات تجعلها تبقى لأجله:
-قولتلك خلاص مش هيحصل تاني.. خلاص أنا آسف أموت نفسي.. عايزاني أموت نفسي يا سلمى؟
الموت! هل وصلت معه إلى هنا؟ إلى الموت؟. لم تكن تريد هذا ولن تريده مهما حدث مجرد الاستماع إلى كلمة منه كهذه جعلت قلبها ينتفض داخل أضلعها:
-لأ متموتش نفسك سيبني أمشي
أطال النظر على وجهها دون حديث والجميع بهذه الفيلا يستمع لما يدور بينهم ثم في غفلة منهم شعر أنه يريد أن يسألها:
-أنتي بتحبيني؟
خرجت الدموع من عينيها مرة أخرى، ارتعشت شفتيها الوردية أمام عيناه، وبقى ينظر إليها مُنتظر منها إجابة على سؤاله البسيط ولكنها لم تُجيب:
-جاوبي.. بتحبيني ولا لأ؟
تنهدت بعمق من بين بكائها المُمزق قلبه إلى أشلاء وجعل روحه فانية، واستمع إلى صوتها الرقيق الخافت الخالي من كل شيء سوى حبه:
-بحبك
أقترب أكثر وأمسك بكف يدها بين يده الاثنين مُتناسيًا كل من يقف هنا، لا يهمه أي أحد من بينهم، هي الوحيدة المهمة له:
-اومال ايه يا سلمى... ايه؟ أرجوكي كفاية كده وعد مني هعمل كل اللي أنتي عايزاه
أردفت ببكاء أشتد عليها وضعف انتاب قلبها، كلمة واحدة أخرى من شفتيه ستكون بين أحضانه وتطالب بالزواج الفوري منه:
-أنا أخدت وعود كتير وعلى فكرة بقى الحب مش كل حاجه.. الحب ولا حاجه جنب حاجات تانية
ضغط على يدها من دون أن يلاحظ أحد ذلك ووقف أمامها شامخًا بعد أن نفذ منه كل الحديث الذي من المفترض قوله وهتف هذه المرة بنبرة جادة عائدًا إلى أصله:
-مش هتمشي
أجابت بنفس تلك النبرة الصادرة منه وعينيها لم تتأرجح من على عيناه:
-همشي
دفع يدها الذي كان يُمسكها بقوة صارخًا بوجهها بصوتٍ عالٍ ولم يكن هام بالنسبة إليه وجود أهلها هنا:
-هتخليني اتغابى عليكي بلاش عِند
عادت للخلف خطوة بعد صراخه عليها بهذه الطريقة وأقترب "ياسين" منه بطريقة هجومية واضحة ولكن والده قد سبقه في فعل ذلك..
أبعد ابنته للخلف ووقف أمامه رافعًا رأسه ليكن بنفس طوله حيث أن "عامر" كان الأطول بينهم جميعًا، نظر إليه بقوة وعنف ولأول مرة يفعلها، نظر إليه بعينين تهتف بتهديد صريح إن أقترب من ابنته:
-ايه البجاحه اللي أنت فيها دي... أنت مفكر نفسك مين.. رد عليا مفكر نفسك مين؟.. دي بنتي وأنا اللي وافقت على جوازها منك ودلوقتي حتى لو هي رجعت في كلامها أنا رافض.. سامع
لم يكن متوقعًا من عمه هذا الحديث ولا حتى ردة الفعل هذه، أيعقل أن عمه من وقف جواره طوال حياته الآن يقف أمامه!.. الآن بالتحديد، لما الجميع يريد سرقتها منه؟:
-يا عمي...
قاطعه عن الحديث بحدة صارخًا به يسرد عليه ما حدث وكأنه لا يعرفه.. كأنه ليس معضلة يغفى ويستفيق بها:
-اخرس خالص.. أنت عارف والكل عارف أن أبوك أول واحد عارض جوازك من سلمى وقال إنك غبي والبنت مش هتستحملك وسلمى خالفت كل التوقعات واستحملت كتير بس أنت فعلًا اللي غبي وبنتي غلطت لما فضلت معاك من أول مرة عرفت فيها إنك وسـ*
أغمض "عامر" عينيه بقوة مُستنكرًا كل شيء من حوله، يحاول التماسك أمامهم، يحاول أن يكون شخص عاقل غير متهور كي يعلموا أنه يحاول التغير لأنه معروف في مثل تلك المواقف:
-أنا لما وافقت قولت يا أحمد، عامر طيب وجواه حد كويس هو بس اللي متهور وعصبي حبتين وجو روميو اللي كان عايش فيه مع بنات الكباريهات ده هيبعد عنه لما تبقى سلمى معاه لكن أنت طلعت غبي
كان يتحدث والآخر مازال مغلق عيناه ولكنه فتحمها على وسعيهما عندما استمع إلى حديثه الجاد الواثق منه:
-سلمى هتمشي ابقى وريني هتمنعها إزاي
صرخ بوجه عمه لأول مرة وأمام الجميع أيضّا، رافضًا ما قاله وما سيُقيل بعد ذلك، رافضًا كل شيء بحياته سواها:
-مش هتمشي.. وديني ما هتمشي
استدار ليذهب إلى خارج الفيلا مُقرر فعل شيء ما يجعلها تبقى دون الرحيل، استدار لهم برأسه يهتف مرة أخرى بقوة وصوت عالي صارخ في وسط الفيلا:
-سامعين كلكم.. مش هتطلع من البلد دي
نظرت إليه وهو يبتعد ووجوه الجميع مصدومة مما يفعله وما توصل إليه.. هو المخطئ الوحيد وهو من أضاعها، هو من تسبب في كل ذلك وعليه تحمل النتيجة.. أيعقل أن يفعل الحب كل ذلك؟
لم يتدخل والده مانعًا نفسه عن فعل ذلك بالقوة، لا يريد أن يكبر الأمر بينهم أكثر من ذلك ويعود ليقول أن والده هو من يُعيق زواجه وسعادته..
خرجت "سلمى" ركضًا إلى الخارج بعد لحظات استوعبت بها أنه سيرحل وهي الأخرى سترحل ولا تعلم متى من الممكن أن تراه مرة أخرى..
خرجت إلى البوابة وجدته صعد إلى سيارته وكاد أن يرحل بها، ناداته بصوتٍ عالٍ وهي تركض إليه بعينين باكية:
-عامر.. عامر
وقفت أمام نافذة السيارة ومالت عليه برأسها ولم تكاد أن تتحدث حتى ألقى عليها الكلمات القاسية المودعة إياها:
-ابعدي عن وشي ويلا روحي شوفي أنتي رايحه فين
بنبرة هادئة خافتة قتلت روحه داخله طلبت منه الخروج للحديث معه:
-أنزل لحظة
خرج من السيارة وأغلق الباب بعد الاستماع إلى نبرتها المُرهقة للأعصاب، وقف أمامها شامخًا يهتف بكل ما خطر على عقله أنها تريد الحديث به:
-نعم عايزة ايه.. عايزة تقولي إنك هتمشي وتبعدي عني وفركش للجوازة وفركش لحبي ليكي.. هقولك مش هتسافري يا سلمى
أمسكت وجهه بيدها الاثنين، وضعته بين كفيها بحنان بالغ ونظرة حزينة احتلت ملامح وجهها، بكائها ازداد وتركت قوتها في الداخل وخرجت له مجردة من كل شيء سوى حبه:
-أنا بحبك بس أنت اللي ضيعتني من ايدك.. اتغير عايزة اسمع إنك اتغيرت وأنا هرجع في لحظتها ومش هستنى دقيقة واحدة تعدي عليا وأنا بعيدة عنك
وضع يده الاثنين فوق كفيها على وجهه، وأقترب منها بنظرة عينيه التي تعلقت بأمل جديد بعد حديثها المُمزق لقلبه، قال بحب مُطالبًا منها البقاء فلو ابتعدت روحه إلى الأعلى أفضل من ابتعادها هي:
-طب وليه.. وليه يابنت الحلال ما أنتي أهو خليكي.. خليكي يا سلمى أنتي عارفه إني ماليش غيرك وسطهم.. أنا عايزك
بكت بقوة في تلك اللحظة، وبعد ذلك الحديث منه، كطفل صغير يريد بقاء والدته معه، يريدها هي فقط ولا يريد أي أحد آخر من أفراد العائلة ولكنها مضطرة لفعل ذلك:
-مش هقدر صدقني.. مش هقدر أقعد معاك كأن مفيش حاجه حصلت.. أنا بنام وأقوم على صورتك وأنت في حضنها.. بنام وأقوم على صورتك وأنت بتبوسها.. مش هقدر يا عامر لأ
نظر إلى شفتيها المُكتنزة التي ترتعش بفعل بكائها، علم في تلك اللحظة أنها لن تنصت إليه إذًا سيصمت هو الآخر، أبعد يده من فوق يدها الاثنين واضعًا إياهم على وجنتيها كما فعلت معه وتبادلوا النظرات الصامتة، ثم أقترب منها بهدوء تام واضعًا شفتيه على خاصتها في قبله حانية غريبة..
قبلها كما لو أنه لم يفعلها من قبل، بطريقة بريئة إلى أبعد حد، حانية رقيقة، قبلها إلى أن شعر بأنه عليه الإبتعاد وقد فعل..
أبتعد بشفتيه وبقى على وضعه معها فاستمع إلى صوتها الضائع بعد قبلته الشغوفة الحانية:
-لو عايزني اتغير وهرجع.. ولو فضلت على حالك شرب وسهر وستات مش هرجع أبدًا وهعرف إنك مش عايزني يا عامر
عقب بنفس تلك النبرة الضائعة، نبرة متعطشة للمزيد منها وتتروى لفعل ذلك بالهدوء ولكنه يقتلها:
-لأخر يوم في عمري أنا عايزك وأنتي ليا وبردو مش هتسافري
عاد للخلف وأخفض يدها الاثنين من على وجنتيه دافعًا إياها للخلف بخفه وتروي لتبتعد عن السيارة، ثم نظر إليها نظرة أخيرة لا تنم عن الخير أبدًا ودلف إلى السيارة وأشعل المقود ثم رحل وتركها تقف في مكانها وحيدة.. وحيدة تنتظر تغيره..
البكاء ليس حل في هذه اللحظات، لقد قالت ما عندها وفعل المثل، لقد ودعها بشيء لم تكن تحلم به، وضعت يدها على شفتيها وخرجت الدموع تتهاوى خلف بعضها..
لقد ودعها بقبلة الوداع..
❈-❈-❈
جلست في المقعد الأمامي للسيارة جوار مقعد السائق والذي كان شقيقها "ياسين" وفي المقعد الخلفي جلست والدتها ووالدها..
كانت تستند على نافذة السيارة تنظر إلى الخارج بشرود واضح، لم تكن معهم من الأساس بل كانت تسبح في ذكريات جمعتها بذلك الحبيب الذي تركته..
استمعت إلى صوت شقيقها يناديها بنبرة جادة وكأنها ليست المرة الأولى:
-سلمى
اعتدلت في جلستها ونظرت إليه باستغراب منتظرة منه الحديث فقال بمرح وابتسامه:
-فينك يابنتي بكلمك.. بتفكري في امريكا من دلوقتي
ابتسمت إليه هي الأخرى بهدوء، ابتسامة مصطنعة ذائفة وأجابته قائلة:
-ومفكرش فيها ليه.. دي بلد الدولار يابني
ابتسم أكثر يصيح بقوة وهو ينظر إلى الأمام على الطريق:
-يا ولا
قالت بنبرة حانية وهي تنظر إليه:
-خلي بالك من نفسك ومن هدى
نظر إليها ثم أبعد نظرة سريعًا من عليها ليبقى على الطريق وعقب قائلًا:
-متقلقيش علينا أنتي خلي بالك من نفسك
استدارت إلى والدها تنظر إليه نظرة طويلة، تريد قول الكثير ولكنها بالتوصية عليه، اكتفت به هو وكأنها ترحل عن مولود رضيع ليس له غيرها، ترقرقت الدموع بعينيها وقالت:
-خلي بالك من عامر يا بابا.. أنت عارف إنه مالوش غيرك.. عمي مش زيك وهو مش بيعرف يتعامل معاه بلاش تزعل منه بسبب اللي حصل خليك معاه وفي ضهره
ابتسم إليها بهدوء وقد تفهم أن ابنته لن تبقى هناك طويلًا ستعود راكضه لتبقى مع من يهواه قلبها، أنها حتى لا تستطيع إيقاف التفكير به ولو لحظة ومن المفترض أنها ذاهبة لأنها تبغضة:
-متقلقيش عليه يا سلمى عامر ابني زيكم بالظبط وأنا مش هسيبه
نظر إليها شقيقها بقوة، كيف لها أن تكون هكذا؟ بعد كل ما فعله تفكر به وتريد من الجميع الاعتناء به من بعد رحيلها.. كيف لها أن تكون تلك الفتاة الناضجة الذي أحبته وتحبه ومع ذلك استطاعت أن تأخذ قرار الإبتعاد عنه جاعلة قلبها يفتر من الحزن..
عادت برأسها للخلف بعد أن جعلتها والدتها تطمئن وبعد أن نظرت إلى الأمام من خلال زجاج السيارة صرخت بعنف وقوة كبيرة جاعلة شقيقها ينتبه لتلك الشاحنة:
-حاسب يا ياسين
لم يستطع فعل شيء فقد فات الأوان، أتت عليهم شاحنة كبيرة الحجم بقوة أكبر من اللازم تصادمت معهم وكأن بالفعل سائقها يريد فعل ذلك بهم، دعست السيارة بفعل الشاحنة وانقلبت أكثر من مرة وتلك العائلة الصغيرة بها..
ومن بعد نطقها باسم شقيقها لم تنطق بحرف أخر..
❈-❈-❈
"يُتبع"
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_الرابع
#ندا_حسن
"دام الألم، للمُنتهى"
ورد إلى الجميع ما حدث مع بقية العائلة، عائلة بها شقيق وزوج وحبيبة وأم لولدين.. كان خبر صادم مفزع هلعت له القلوب خوفًا ورهبةً من فقدان أحدهم.. السماء تمطر دمًا والقلوب تدمع من الداخل جاعلة بقية الأعضاء تحزن عليها، والعيون وما بها إلا النزيف كشلال لا يرى مستقر له..
فور أن استمع "رؤوف" هذا الخبر القاتل لقلبه ولبقية عائلته وقع على الأريكة التي كانت خلفه بعد أن ألقى الهاتف من يده التي فقدت أعصابها ولم يستطع أن يفعل أي شيء، فقط ينظر إلى الأمام بصدمة تامة وعيون زائغة مذهولة تود البكاء، لم يتفوه بأي شيء، غير قادر على الحركة أو النطق، لقد شعر بأنه عاجز عن فعل أي شيء ولم يسعفه جسده على ذلك..
مكالمة قاسية للغاية لم تكن بالحسبان، لقد كانت العائلة بالكامل حزينة لما حدث بها ولكن لم تكن تريد هذا الحزن! ومن يهتف من الناحية الأخرى كان يحمل قساوة أكثر من المكالمة نفسها ناطقًا بفقدان شخصين!.. شخصين يا الله من عائلته!.. تُرى من؟.
شقيقه ورفيق دربه!.. ابن أمه وأبيه، والد ابنه وحامله وقت ضعفه وجواره وقت قوته، أم زوجته المرأة طيبة الأصل والروح، كريمة القلب وجميلة اللسان.. أم فقد ابنة شقيقه، "سلمى"! ابنته الثانية وروحه الضائعة حبيبة ولده المتهور، ويالا القهرة إن كان سنده وقوته "ياسين" ابنه الآخر وزوج ابنته..
ومن بعده ابنته الوحيدة تلقت الصدمة بقهر لم تصادفه بحياتها، صدمة! هذه ليست صدمة إنه كابوس وعليها أن تستفيق منه هي ووالدها ولكن فور استيعابها لما حدث أخذت الصراخ السبيل الوحيد لها للتعبير عما تشعر به..
زوجها كان معهم؟. "ياسين"!. حبيبها! من فُقد في هذا الحادث! عمها وزوجته؟ أم ابنة عمها وحبيبتها والنصف الآخر لشقيقها!.. أم نصفها هي! وملاذها وكل ما تملكه في الحياة!.
كل منهم كان يحمل قلبه على يده ويسير به في رواق المشفى مُتقدمًا للاستماع إلى أي حديث غير متوقع بعد الذي استمعوا إليه والقلب خارج مكانه ليتلقى الصدمة ويلقى حتفه..
لم يبقى سواه الذي لم يكن يعلم بشيء، أخبرته والدته بعد أن فقدت السيطرة على زوجها وابنتها وكأنه هو الذي يستطيع أن يسيطر عليهم..
وقع قلبه بين قدميه بعد أن بدأ بالخفق بقوة، ولأول مرة بحياته يشعر بالخوف الشديد، لأول مرة حقًا والرغبة الحارقة لقلبه وجسده في الوصول إليهم ليعرف ما الذي أصابهم.. ليته تركها تذهب!.. ليته تركها تفعل ما يحلوا لها..
ما الذي من الممكن أن يحدث! من الذي تركهم ورحل إلى الأبد لن تكون هي!. مؤكد لن تكون هي حبيبته! روحه وعمره، كيانه وكل ما به، إن حدث لها شيء لن يسامح نفسه إلى الممات..
عند وصوله إلى المشفى ولحظة إدراكه أن عمه وزوجته قد فقدوا من وسط العائلة، اشتد البكاء على عينيه ولم يستطع أن يمنع نفسه من فعلها، لقد كان عمه بمثابة والده.. لا لقد كان والده حقًا ودون أي مقابل.. لقد أخذ دور والده وأعتبره ابنه أكثر من "ياسين" نفسه، لقد كان يقف جواره وفي كل طريق يبدأ السير به يشجعه على التكملة.. لم يكن يستمع لحديث أي شخص سواه.. عمه!..
أبتعد عن الجميع في تلك اللحظات ودلف إلى مرحاض في المشفى بعد أن علم أنها في غرفة العمليات ولكن حالتها على ما استمع إليه ستكون مستقرة ليست كما الجميع، وشقيقها في غرفة العمليات أيضًا ولكن في حالة حرجة، دلف إلى المرحاض وبدأ في البكاء الحاد وكان يلوم نفسه على ما حدث وبقوة..
لما قد يفعل هذا؟ لما لم يتركها ترحل من البداية ويبتعد عن طريقها هو المخطئ الوحيد.. هو من فعل كل هذا وهو من جعل البيت يخرب عليهم مثلما قال ابن عمه..
انحنى على نفسه كجبل أصابه زلزال بقوة كبيرة واشتد البكاء عليه وبصوت نحيب عالي يخبئ وجهه بيده الاثنين متذكرًا عمه الحنون وزوجته..
ماذا سيقول لها عندما تستفيق؟ ماذا سيقول لابن عمه؟ الجميع الآن سيراه المخطئ وهو كذلك.. قلبه لن يرحمه وضميره يقاتله الآن بقوة معترضًا على كل ما حدث من قِبله.. لقد كان قمة في الحقارة والدنائة..
وقف أمام حوض الغسيل بالمرحاض ورفع أكتافه للأعلى ونظر إلى وجهه بالمرآة، حاول أن يتماسك في تلك اللحظات والساعات القادمة فهو سيكون يد العون الوحيدة للجميع..
فتح صنبور المياة وأخذها بين يده الاثنين يلقيها على وجهه بقوة وعنف عله يستفيق مما حدث، ولكن ذلك لن يحدث.. لن يستفيق أحد مما حدث ولن تعود الأمور كما كانت.. الآن ومن هنا بدأ التحول الحتمي في عائلة "القصاص" ستكون الليالي القادمة أسوأ من أسوأ ليالي مرت على دولة كاملة تموت جوعًا وعطشًا في ظل حروب ضارية..
❈-❈-❈
"اليوم التالي"
فتحت عينيها ببطء شديد، وجدت نفسها تنظر إلى سقف غرفة لونه أبيض لحظات تحرك عينيها على السقف ولا ترى أي شيء سوى أنه أبيض، لم تستطع تحريك رقبتها جيدًا، شعرت بألم بها، وصداع داهم رأسها فور أن فتحت عينيها..
رفعت يدها إلى أعلى رأسها بعد أن كرمشت ملامح وجهها بألم شديد يداهمها، هناك شيء على رأسها، خصلاتها ليست أسفل كف يدها بل كان هذا قطن وشاش!.. أدوات طبية!.. رأسها ملتفة بأدوات طبية، حركت كف يدها لأبعد قليلًا لتجد خصلات شعرها أخيرًا..
يدها لا تستطيع تحركها جيدًا أيضًا، أبعدت كف يدها من أعلى رأسها ونظرت بدقة إلى ذراعها لتجده به كدمات كبيرة وبعد المعصم ملتف هو الآخر!..
الذراع الآخر كان حر ربما ولكنه يؤلمها أيضًا، إنه مجبر ليس حر!، جسدها بالكامل يؤلمها وقدمها اليسرى لا تستطيع تحريكها جيدًا!..
أغمضت عينيها لحظة وعادت إلى وضعها التي كانت عليه ثم بدأت الذكريات تأتي إلى عقلها واحدة تلو الأخرى، واحدة من بعدهم ثم تتلوها الأخرى، خانها "عامر"!.. كانت ذاهبة إلى بلد خالها الذي يستقر بها، كان معها والديها وشقيقها ثم حدث ما لم يكن متوقع ولم تراهم من بعدها وها هي هنا!.. أين هم؟..
فتحت عينيها على وسعيهما وفي تلك اللحظة كان الباب يُفتح ودلفت منه "هدى" لتطمئن عليها، نظرت إليها بقوة وهي تراها تتقدم منها ثم دون سابق إنذار أردفت بتساؤل مُتلهف على عائلتها:
-فين بابا وماما.. وياسين؟
أقتربت منها "هدى" ووجها يعبر عن كل شيء حزين، عينيها كما لو أنها وردة دبلت بسبب عدم شربها للماء، ووجها شاحب كشحوب الأموات، وقفت جوار الفراش تبتسم بتصنع يظهر في كل حركة قائلة:
-حمدالله على سلامتك يا حبيبتي
مرة أخرى تفوهت بنفس السؤال السابق التي لم تحصل على إجابة له من ابنة عمها:
-فين بابا وماما وياسين يا هدى
ربتت عليها بهدوء ويدها ترتعش فوق جسدها ثم أردفت بنبرة مترددة خائفة من الحديث التي ستقوله وكم كان الحزن ظاهر عليها:
-موجودين يا حبيبتي متقلقيش
نظرت إليها "سلمى" بعينين تشكك بذلك الحديث، عينيها وشفتيها ولغة جسدها بالكامل تقول غير ذلك:
-هما فين؟
ابتلعت تلك الغصة التي كان بحلقها ثم قالت جزء صغير جدًا من الحقيقة المُدمرة لعائلة بالكامل:
-ياسين في العناية.. محتاج إنه يكون فيها لكن هو كويس وهيقوم بالسلامة إن شاء الله متقلقيش
وكانت هي عقلها منشغل بالجميع، رغم أنها لا تصدق تلك الكلمات وقلبها يتحدث بشيء آخر داخلها ولكنها استكملت متسائلة:
-وبابا وماما؟
كذبت الكذبة الأكبر على الإطلاق، كان من المفترض أن تقول بأنهم الآن أجساد ليس إلا وقد صعدت الأرواح إلى خالقها ولكنها قالت:
-في اوض تانية
لن تنتظر أكثر من هذا، تتسائل وهي تُجيب بحديث كاذب، قالت بجدية وهي تستدير لتذهب حتى أنها لم ترى وجهها:
-أنا هخرج أقول للدكتور إنك فوقتي
لم تعاملها جيدًا، لم تظهر اللهفة عليها لكونها استفاقت من حادث مروع كهذا!. ما بها؟ أهناك شيء حدث وهي لا تعلم! قلبها يقول ذلك ولكنها ستحاول أن تكذبه لا تريد أن تستمع له.. ومن بعدها إلى أخباره الحزينة الموجعة..
وجدت "عامر" يدلف الغرفة بلهفة وشوق كبير يرتسم على وجهه كأنها كانت مع الموتى!.. أليست تلك نفس الملابس الذي كان يرتديها منذ أن كانت ترحل!.. ترى هي هنا منذ متى! اليوم فقط؟ لما وجهه هكذا؟..
عينيه مُنتفخة بشدة، فاقدة بريقها، وجهه منحوت وظاهر عليه الإرهاق التام، ملابسه ليست مهندمة ومظهره بالكامل ليس على ما يرام.. لو الجميع بخير لما هو هكذا! لما عينيه منتفخة
جلس جوارها على الفراش وأمسك بيدها رافعًا إياها إلى فمه بخفه مقبلًا إياها قبلة مطولة للغاية، يبث بها كامل خوفه الذي شعر به منذ أن استمع إلى ما حدث إليهم:
-حمدالله على سلامتك يا حبيبتي
أبصرته بقوة وعينيها تتحرك عليه بغرابة، لن تشعر بالاستغراب بسبب خوفه ولهفته الظاهرة تلك ولكن هناك شيء آخر يربكها..
استمعت إلى صوته الخافت المرهق، الخائف من كل شيء ولأول مرة تستشعر ذلك به:
-سلمى.. أرجوكي متبعديش عني أنا كنت هموت.. والله العظيم كنت حاسس إني هموت.. أنتي روحي
أجابته بضعف شديد والألم برأسها يزداد:
-بعد الشر عليك
تسائل بجدية وعينيه عليها ليطمئن من أنها أصبحت بخير فيكفي من رحلوا:
-أنتي كويسه؟ حاسه بتعب
أردفت لما تشعر به بجسدها وتذكرت أنها من وضعت حزام الأمان بالسيارة وقالت لشقيقها أن يفعل ولكنه لم يعطي للأمر أهمية:
-صداع جامد أوي وجسمي كله بيوجعني... اومال لما أنا حصلي كل ده هما حصلهم ايه.. دا أنا الوحيدة اللي كنت حاطة الحزام
أخفض رأسه إلى أرضية الفراش ومازالت يدها بين كفه العريض، نظرت إليه بغرابة، لما صمت الآن! لما لم يُجيب عليها!.. تسائلت هي:
-بابا فين وماما وياسين
أحمرت عينيه الفاقدة للحياة بسبب ضغطه على نفسه ألا ينصاع خلف رغبة البكاء التي تلح عليه، تفوه بالكلمات بتوتر وارتعشت شفتيه:
-في العناية.. الحمدلله عدت على خير
وجدها تتحرك بألم في الفراش وعينيها عليه بدقة كبيرة لا تصدق الذي يقوله، وجهه وعينيه، جسده هو وشقيقته يقول غير ذلك وقلبها الأحمق هو الآخر يخفق بقوة كبيرة تجعلها تخاف أكثر..
-استني أساعدك
وقف على قدميه وأقترب منها، وضع يده أسفل ذراعيها وعدل من الوسادة خلفها ثم رفعها ببطء لتجلس نصف جلسة على الفراش..
في لحظة وجدوا الباب يفتح بقوة وعلى مصراعيه ووالده يدخل بلهفة شديدة والبكاء يغرق وجهه بالكامل وخلفه شقيقته تنادي عليه أن يعود لغرفته..
لقد انتكس في الأمس ليلًا واضطر أن يكون هو الآخر في غرفة مرضى مثلهم ليعتنوا به، لم يتخطى ما حدث وعند الاستماع إلى أن ابنة شقيقه قد استفاقت أتى ركضًا إليها ليتشبع منها ومن رائحة شقيقه بها..
هتف باسمها بلهفة وحزن وهو يدلف إليها:
-سلمى
نظرت إليه باستغراب شديد، رأته وهو يتقدم منها ركضًا ورأت "عامر" يفسح له الطريق ليقترب منها وقد كان.. أتى إليها وجلس أمامها على الفراش والدموع لا تتوقف عن الخروج من عينيه..
نظرت إليه مطولًا وفعل المثل، لم يتحدث ولم يقترب منها! وزعت بصرها على من معها بالغرفة غيره لترى "هدى" في الخلف تحاول مداراة دموع عينيها وحزن قلبها المرسوم على ملامحها، زوجة عمها التي استدارت وأعطت إليها ظهرها.. و "عامر" الذي وضع يده الاثنين أمام وجهه وأبتعد للخلف لاعنًا لحظة دخول والده.. لم يستطع أن ينتظر قليلًا حتى يهيئ لها الأمر..
نظرت إلى عمها مرة أخرى خرجت الدموع من عينيها بصمت رهيب وبدأ رأسها في تجميع خيوط الفكرة التي تُحكى أمامها!.. أين عائلتها!؟
حركت شفتيها المكتنزة بارتعاش واضح ورهبة ظاهرة بقوة في نبرتها:
-بابا وماما فين يا عمي
لم تجد منه ردًا إلا إنه بدأ في البكاء بصوت مرتفع! لما؟ نظرت إلى "عامر"وتسائلت بنفس تلك النبرة السابقة والخوف الذي يرافقها:
-ياسين فين يا عامر
لم تجد ردًا من أحد منهم والجميع على وضعه، ازداد بكائها المُمزق للقلوب المتجمعة حولها وهتفت مرة أخرى بانين:
-هما فين
أقترب منها "عامر" سريعًا بعد الاستماع إلى نبرتها الباكية ويعلم أن قلبها لن يتحمل هذا أبدًا، وقف جوارها وصاح قائلًا بنبرة محاولًا أن يجعلها جادة:
-ياسين في العناية متقلقيش عليه إن شاء الله هيبقى كويس
رفعت ذراعها بألم ولكنها تريد أن تتعلق بأي شيء يشعرها بالأمان، أمسكت يده ونظرت إليه بعمق متسائلة مرة أخرى:
-بابا وماما فين؟
أخفض رأسه إلى الأرضية ولم يستطع أن يقول شيء، نظرت إليه بقوة مُنتظرة أن يُجيب، مُنتظرة أن يُمحي كل ما خطر على بالها من مظاهرهم، ولكنه أزاد العذاب على قلبها عندما رأت دمعة تفر من عينيه أزالها سريعًا:
-أنت بتعيط؟.. بتعيط يا عامر
"عامر" والبكاء معًا، هذا مُستحيل؟ كيف لعامر أن يبكي ولما ولأي سبب قد يفعل ذلك؟.. حدث شيء لوالديها!.. حتمًا حدث شيء لهم، تسائلت بحدة هذه المرة متحاملة على نفسها:
-هما فين
أقترب منها عمها يجهش بالبكاء المر على قلبه وأحتضنها بخفه مراعيًا ما الذي تمر به ثم هتف في أذنها:
-تعيشي أنتي يا بنتي.. تعيشي أنتي
لم تتحرك!.. لم تبدي أي ردة فعل!.. بقيٰ عمها مُحتضن إياها وهي تنظر إلى الأمام في الفراغ تكرر ما قاله داخل عقلها تحاول أن تستوعبه!.. لن تستوعبه لقد قال أن!... هل يقصد أن والديها توفيا!..
لحظات وأخرى تمر عليهم وعمها محتضن إياها وهي صامتة! لم تفعل أي شيء ولم تبكي حتى بل توقفت عن البكاء.. أقترب منهم "عامر" وجعل والده يبتعد عنها ليرى ما الذي أصابها..
نظرت إليه محركة شفتيها المكتنزة بصوت خافت للغاية غير مصدق قائلة:
-بابا
جلس هو جوارها مُحاولًا أن يخفف عنها الذي تمر به، فنظرت إليه أكثر وقالت بحزن طاغي وقهره حقيقية تمر بها مع مرارة أيامها:
-بابا وماما
حاول مرة أخرى وهو من الأساس عينيه تهدده بفرار الدموع منها، لكنه استمر وهو يربت على كتفيها:
-سلمى ممكن تهدي.. دا أمر ربنا وقضاءه
نظرت إليه مطولًا ودقتت به وهو يحاول أن يجعلها تهدأ، أليس هو من جعلها تذهب وتأخذهم معها إلى المطار؟ أليس هو من كان السبب في كل ذلك:
-أنت السبب
لم تستمع منه إلى أي إجابة وجدت نظرته كما لو أنها تقول أنه يعلم أنه سيوضع في هذا الموقف وسيكون سبب من الأسباب، أكدت حديثها بقوة وهي تنظر إليه:
-لو مكنتش خونتني مكنتش أصريت إني أمشي ومكناش هنا دلوقتي.. مكانوش سابوني
لم تكن تشعر بأي شيء غريب، ما الذي من المفترض أن تشعر به، ألم؟ هو معاها دائمًا ليس جديد، حزن؟ وجد وبكثرة:
-سلمى اهدي
صرخت على حين غرة وفي لحظة طلبه منها الهدوء، صرخة استمعت إليها المشفى بأكملها ومن بها، صرخات تتلوها صرخات أخرى تعبر عن كم القهر والحزن الذي تمر به، تعبر عن كم الألم الذي يرافقها حتى في أسوأ لحظاتها..
تسرد بصرخاتها وحركاتها الهوجاء المسببة لها الألم مرارة الأيام عليها.. تسرد بالبكاء الحاد كم أن القسوة سهل الشعور بها..
صرخات وبكاء، تتلوى أسفل يده الذي تحاول تثبيتها، يحاول أن يقيدها! ألا يكفيه ذلك؟ ألا يكفيه كل هذه المعاناة التي تمر بها!..
لم تهدأ صرخاتها والنداء بإسم والدها ووالدتها، لم يهدأ ذلك العويل إلا عندما سكنت فجأة أسفل يده ولم تعد شاعره بأي شيء من حولها، سحبتها غمامة كان من المفترض أن تدلف بها مُبكرًا ولكنها تأخرت عليها.. والآن هي في مكان آخر..
❈-❈-❈
"بعد يومين"
منذ بضعة أيام كانت عائلة "القصاص" تحضر إلى زفاف أبنائها، أكبر وأفضل زفاف كان سيحدث في البلدة بأكملها ولكن كان للقدر رأي آخر، رأى أن من بين أفراد العائلة جنازات مؤجلة حان موعدها..
إذا تخيلت ما الذي حدث للجميع واحد تلو الآخر من العائلة بعد رحيل اثنين منهم لن تستطيع أن توفي خيالك حقه مهما حدث..
"هدى" ما بين حزنها على عمها وزوجته وابنته الملقية في المشفى لا تبدي أي ردود فعل منذ أن تلقت الصدمة وما بين تمزيق قلبها على زوجها وحبيب عمرها، "ياسين" الذي لم تستطع أن تأخذ قدر كافي منه.. تزوجته منذ ستة أشهر فقط وكان من المفترض أن يتم زفاف شقيقها معهم ولكن "سلمى" اعترضت على هذا وأجلت العرس..
منذ ستة أشهر فقط تبني معه ذكريات سعيدة لتتذكرها في الكبر وهو معها، لم تكن تتخيل أنها ستحتاج لتذكرها الآن وهم في ربيع شبابهم..
لم تجف عينيها من البكاء إلى أن شعرت أنها تأتي بكل ما بها من دموع ولن يتبقى شيء، تبكي بعينيها وقلبها وروحها المأخوذة معه..
وفي تلك اللحظات المُنتظرة تتذكر كم كان رجل حكيم رائع، عاقل وناضج، يحمل من الحنان ما يكفي الجميع وغيرهم، دائمًا كل كلمة له إيجابية ومواقفه مع الجميع سعيدة وفرحه.. حتى في أغلب الأوقات الذي كان شقيقها يزعج شقيقته بها يأخذ الأمر بهدوء ويحاول أن يصلح الأمر بينهم..
لم ترى منه إلا كل طيب وجميل، لم يشعرها يومًا بالحزن ولم يتركها في مرة تنام حزينة منه، لم يتركها وحدها في أصعب الأوقات وأسعدها..
يمر على عقلها كثير من الذكريات معه، سعيدة وفرحه حزينة وسيئة وفي نهايتها تتذكر وجهه وكم كان وسيم مرح محب للحياة معها..
قلبها ينزف ألمًا وحزنًا على وجوده هنا بين الحياة والموت ولا تستطع أن تعرف ما به، ما تستمع إليه أنه في غيبوبة ولا أحد يعلم متى يستفيق منها وها هي بين الوجود والاختفاء، تحاول أن تفهم ما الذي حل عليهم في لحظة خاطفة ليبدل حالهم بهذه الطريقة المُرة
في اليومين الماضيين لم يفعل "عامر" شيء سوى أنه كتم جميع مشاعره في داخله وأظهر رجل جامد التعابير حاد الملامح مع الجميع.... سواها..
كتم كل ما يشعر به من حزن على والده الآخر، وقهر على ما مر بالعائلة بأكملها، كتم مشاعر الألم بعد كل نظرة يلقيها عليها بعينيه البُنية ويرى كم تتألم في صمت ولا تبدي أي أفعال..
بقيٰ جوارها لا يتحرك بعد نوبة الاهتياج الذي صابتها عند معرفة الخبر المحزن إلى قلبها، في الغرفة معها يخرج ليطمئن على ابن عمه ويدلف مرة أخرى ليخبرها بأنه على ما يرام وهذا من أفضل الكذب الذي يلقيه عليها..
سيبقى هذا الوضع ويبقي كل شيء محزن وكل مشاعر مخذية في قلبه ويبقى جوارها هي فقط إلى حين أن تستفيق من تلك الصدمة وتعود مرة أخرى إلى حياتها.. سيكون الأمر صعب ولكنه لن يتركها مهما كلفه الأمر ولن يترك الحزن يتمكن منها أبدًا، سيكرث حياته القادمة من أجلها إلى حين عودتها من جديد لتكون "سلمى" حبيبته..
يدعي كل يوم أن يعود إليها شقيقها ليكون الأمر أخف عليها مما يحدث، لم يأتي اليوم الذي يطمئنهم به طبيب على حالته ولكنه يتأمل أن تحدث مُعجزة ويقف الله معه بعيدًا عن كل معاصيه ويعود شقيقها إليها من جديد..
بينما حالتها لم تكن أفضل منهم بل كانت الأسوأ على الإطلاق، استفاقت مساء اليوم الذي علمت به بموت والديها، وظلت تأخذ أدوية مهدئة لتبقى على وضعها الصامت، لم يكن يعلم أحد أنها ستبقى عليه من دون شيء، لما ستهتاج وتصرخ مرة أخرى؟ هل سيعود والديها أن فعلت ذلك؟..
بقيت في حزنها غائبة، تسبح في قهرها على حياتها الضائعة، تنظر إلى الجميع بعين باهتة تتسائل عن الذي بقيٰ لها من بين عائلتها..
تنظر إليه وتراه مُتلهف عليها، مُشتاق إلى رؤيتها سعيدة، ترى الندم بعينيه كل يوم وكل لحظة تنظر إليه بها، ترى الخوف في عينيه، ترى الحزن في ملامحه مرتسم وكأنه من فعلها..
تستمع إلى صوته الحاد في الخارج ثم يدلف إليها طفل صغير حنون على حبيبته، يبقى جوارها ولا يتركها.. حتى عند وجود صديقتها التي لا يطيق النظر إلى وجهها خصيصًا بعد أن افشت سره لها وكانت هي السبب في كل ما حدث، لم يزعجها وتقبل وجودها معها، تقدر ما يفعله ولكنها مهما حدث يبقى السبب الرئيسي فيما حدث لهم..
يبقى هو من خانها وخان العهد معها، هو من جعلها تُصر على الرحيل بعيد عنه وحبه في قلبها ينبض، هو من أظهر اللا مبالاة وأخفى ندمه بعد فعلته الدنيئة..
لم يظهر ذلك الندم إلا حينما يريد أن يلهيها عما يفعل ويظهر كم هو بريء بتمثيله الرائع عليها..
سيبقى هو من تسبب في فقدان والديها ودمار عائلتها الصغيرة، سيبقى هو السبب الوحيد في تحطيم قلبها وجعله أشلاء صغيرة، سيبقى هو من خان..
كان "عامر" يجلس على المقعد جوار نافذة الغرفة الذي يدلف منها النور، وكأنه يستمد منها أي ضوء يعطيه أمل لحياته، مُنحني على نفسه يضع وجهه بين يده الاثنين يُخفيه مغمضًا عينيه وهي تنام على الفراش كما منذ يومين وإلى الآن على نفس الوضعية..
لحظةً مرت وأخرى مثلها والوضع كما هو عليه كالعادة.. الحديث قليل الصمت أكثر من الكثير، ثم دون سابق إنذار ولحظة عرى للجميع انطلقت صرخة حادة وقاسية في الخارج استمعوا إليها معًا ومن خلفها صوت شقيقته تنادي بإسم زوجها!..
رفع وجهه سريعًا بلهفة وقلق جلي، نظر إليها بعينين مُتسعة وبادلته تلك النظرة للوهلة الأولى وقلبها ينتفض رعبًا..
وقف سريعًا مُتقدمًا من الباب بخطوات واسعة وفتحه ذاهبًا إلى الخارج لينطلق الصوت إليها أكثر وأوضح، ابنة عمها تنادي ببكاد حاد:
-لأ يا ياسين لأ.. متسبنيش يا ياسيــن
مرة أخرى بصراخ اهتز له جدران المشفى بأكملها:
-ياسيـــن
وأخرى بعنف وحرقة قلب مغلوب على أمره، ليس معه أي سبيل سوى الصراخ على الفقيد:
-ياسين راح يا عامر... ياسين راح
صوت زوجة عمها تبكي خارج الغرفة معها بقوة وعنف!.. تحاول أن تهدأ ابنتها الصارخة باهتياج..
عاد إلى الغرفة سريعًا بعد معرفة الخبر وتيقن أنها فهمت كل شيء، وقف أمام باب الغرفة من الداخل ينظر إليها بحزن طاغي على قلبه لو لم تكن ملامحه تحكي ذلك..
بادلته النظرات الصامتة، عينيها تنزف بدلًا عن الدموع دماء، نظراتها نحوه لم يكن يفهم ما هي بالضبط معاتبه وكأنها تقول أنت من فعل ذلك وسلبت مني كل احبائي وعائلتي، ونظرات أخرى حزينة مصدومة لا تعلم ما الذي يحدث لها مصيبة خلف الآخرى وتريد من يقف معاها بها، ونظرات أخرى لم يستطع تفسيرها ولكنها تظهر حرقة قلب بات مقتولًا بعد كثرة المحاولات لاغتياله..
تقسم أنها شعرت برجفة في قلبها لما تشرع بها يومًا، رجفة حادة قاسية مثل كل شيء حولها..
لم تخرج أي صوت ولم تبدي أي رد فعل لكل ما يحدث في وسط ذلك الصراخ الذي تستمع إليه من زوجة شقيقها في الخارج ومعها والدتها وصوت عمها الذي يعلو كل لحظة والآخر يندب الذي يحدث ثم يعود قائلًا "اللهم لا اعتراض"
دلف إليها بقدمين ترتجف ثم جلس أمامها على الفراش وعينيه تنزف الدموع هو الآخر على ابن عمه، أقترب منها وانحنى عليها محتضن إياها محاولًا أن يفعل أي شيء يمدها بالدعم وذلك لن يحدث على الإطلاق..
ولكن كان لها رأي آخر، فور احتضان "عامر" لها بدأت في البكاء الحاد بصوت عالي في أذنه، شاعرة أن قلبها سيتوقف من هذه الصدمة.. ستموت هي الأخرى لا محال.. لم يمر يومان بأكملهم يا الله.. لم يمر يومان على فقدان والديها ليتبعهم شقيقها.. إلى من تركوها هنا!..
إلى من تركوا ابنتهم؟. إلى "عامر"؟ من تسبب في كل ذلك وخان وباع في يوم وليلة!.. إلى من يا الله!..
بكاء حاد من الجميع، حتى هو خرج صوته فقد وضعه في صمت تام منذ بداية الأمر عليهم، عليه الآن الخروج هو الآخر لما لا..
بكى معها في أحضانها وبادلته ذلك بحرقة قلب وقهرة لا نهاية لها، بكت بحزن طاغي وضياع وُجد في حياتها في لحظة واحدة..
ولكن لن يفيد البكاء مهما حدث، لن يفيد..
❈-❈-❈
"بعد مرور أسبوعين"
خرجت من المشفى منذ يومان، وعادت معهم إلى فيلا العائلة، أين العائلة!؟..
لم يكن حال أحد منهم أفضل من الآخر بل كان الجميع في حالة حزن طاغية ولا نهائية، الجميع يتشح بالسواد حتى الخادمتين بالمنزل، الجميع يبكي بقهر كلما مروا على غرفة من غرف أحدهم..
كلما نظروا إلى صوره إليهم، وأكثر من بكى بجوار "سلمى" كانت "هدى" بكيت لأول مرة بحياتها بحرقة مخزية وبروح مفقودة..
ومن هنا معه روح! الجميع فقد روحه بعد هذا الحادث، تحدثت الصفح عنهم كثيرًا وكثيرًا، عائلة "القصاص" تفقد ثلاثة من أفرادها في حادث سير
منعوا التعازي وتأدية ذلك الواجب، لا يريدون أحد حتى خالها الذي كانت ستذهب إليه منعته من القدوم إليها قائلة أنها هي من ستذهب إليه فلا داعي لذلك..
لم تمر ليلة عليها إلى الآن إلا وهي باكية بقهر متذكرة كل لحظة معهم شاعرة بالمرار القادم على حياتها، كيف السبيل للتخلص من كل هذا إلا إذا ذهبت إليهم!..
عقلها لا يمل من كثرة التفكير وقلبها لا يكف عن الشعور بالألم وبين هذا وذاك روحها تموت حرقة لما أصابها..
جلست في حديقة الفيلا بهدوء على المقعد أمام الطاولة، ترتدي بنطال بيتي أسود وتيشرت بنصف كم مثله من نفس اللون، ترفع جميع خصلات شعرها إلى الأعلى دون تمرد أي منهم..
تركت الهاتف على الطاولة بعد أن اكتفت من النظر إلى صور شقيقها ووالديها الذي ملئت المواقع من الأصدقاء والمعارف..
تنهدت بقوة وخرجت دمعة من عينيها فازالتها سريعًا بيدها الحرة قبل أن تبدأ في وصلة أخرى من البكاء، لم يأتي موعدها بعد..
كان يقف في شرفة غرفته يفكر بها تلك التي قاطعته بكل الطرق وابتعدت نهائيًا عنه حتى بالنظرات..
من بعد أن أتوا إلى هنا وهي لا تطيق النظر في وجهه ولا رؤية ملامحه، لا تطيق الحديث معه وتعتبره السبب الأول في حدوث كل ذلك.. من الأساس هو يشعر بالندم لا يريد أحد أن يضغط عليه أكثر من ذلك..
نظر إلى السماء السوداء بعينيه البُنية، أبصر نجومها الذي تشع بالضوء وذلك القمر البعيد، أليست حياته سوداء مثل السماء هذه! وها هي ذلك القمر يبقى النجوم فقط ليعود الأمل..
أخفض رأسه إلى الأسفل ليجدها تجلس على المقعد في حديقة الفيلا، لم يفكر كثيرًا بل استدار وذهب ليهبط إليها..
وفي لحظات كان في الأسفل يقف أمامها ثم لم يطلب منها الإذن بالجلوس وقد فعل ليبقى أمامها، نظر إليها بعمق وطلب بهدوء:
-ممكن أتكلم معاكي شوية
أبصرت ذلك الذي جلس أمامها دون سابق إنذار ووجد من دون أن تلمحه حتى، أظهرت الجمود على ملامحها ووقفت على قدميها مُمسكة بالهاتف الخاص بها:
-لأ مش ممكن.. عن اذنك
أمسك يدها سريعًا بيده وقد ظهر عليه الندم الشديد في هذه اللحظة ليس كالمرات السابقة يمثل عليها لتبقى:
-استني يا سلمى، أرجوكي بلاش كده.. أرجوكي
نفضت يدها الحرة منه فالأخرى بقيت كما هي وجلست أمامها بوجه جامد حاد لا يشجع على الحديث من الأساس:
-نعم عايز تقول ايه
تحامل على نفسه وأقترب منها بجسده للأمام مكرمش ملامح وجهه بعتاب خالص يصبه نوحها:
-عايز أقول إني ماليش ذنب في اللي حصل، ليه محملاني ذنب شيء معملتوش
ضيقت ما بين حاجبيها باستنكار وضجر واضح له، ذمت شفتيها المُكتنزة أمامه تظهر كم هي مذهولة من حديثه ثم أردفت بنبرة حادة ساردة به كل الذي تناساه:
-معملتوش؟!.. معملتوش إزاي؟ مين اللي خاني؟ مين اللي بجح قدام الكل؟ مين اللي وصلني لمرحلة إني مش قادرة أشوفه وعلشان كده عايزة أمشي.. مين اللي خلاني أسافر وأهلي معايا.. مش أنت مش كل دي أسباب لو مكنش كل ده حصل من البداية مكنوش راحوا.. مكنتش أنا بقيت يتيمة الأم والاب ولا كانت أختك بقت أرملة
عاد للخلف مرة أخرى ناظرًا إليها بقوة وبصدمة كبيرة، لما كل هذه القسوة في الحديث! لما قد يتحمل هذا الحديث منها هي بالأخص؟، أردف بلين ونبرة مُنزعجة مُرهقة:
-بلاش القسوة دي... دي أعمار والأعمار بيد الله، ده نصيبهم ومكتوب ليهم كده.. دي بس أسباب
أظهرت إليه الضجر وكم تنفر منه بحديثها ونظرات عينيها وملامح وجهها الرافضة لوجوده معها من الأساس:
-أنا عمري ما هسامحك مهما عملت
أشار إلى نفسه مُكرمش ملامحه بقوة وعينيه البُنية مُثبتة عليها بعد أن انتابه الضعف لمجرد سماع هذه الكلمات منها:
-سلمى أنا بحبك.. بحبك ومقدرش استغنى عنك، صدقيني... وديني وما أعبد وأنتي في العمليات كنت حاسس إني بموت.. والله روحي كانت بتتاخد مني
وقفت على قدميها أمامه ثابتة وملامحها حادة ليست تلك التي كان يعرفها، أردفت بقوة وعينيها مُثبتة عليه بدقة لتوصل إليه كل حرف تود قوله:
-مبقاش ياكل معايا الكلام ده يا عامر.. أنا وأنت طريقنا مش واحد وعمره ما هيكون واحد بعد اللي حصل.. بعد ما أهلي ماتوا
وقف هو الآخر أمامها شامخًا هذه المرة، مُستغرب للغاية مما تقوله وتلقيه عليه، مُستغرب من هذه القسوة الغير محدودة التي تقع في حديثها، تفوه بجدية ضاغطًا على كل حرف يقوله:
-أهلك هما أهلي ولا مش واخده بالك؟.. أبوكي هو أبويا وأكتر كمان وأمك هي أمي وأخوكي يبقى أخويا وصاحبي وجوز اختي. أنتي بتحاولي تدوري على أي حاجه علشان تكملي في بعدك عني
بمنتهى اللا مبالاة ناظرت إليه قائلة:
-قول مهما تقول.. أنا مبقتش طيقاك أصلًا
أشار بأصابعه ناحيتها بعنف وقوة ينفي ما قالته:
-كدابة.. بتحبيني وأنا بحبك
نظرت إليه مطولًا بعينين جادة ليس بها أي أمل للحياة، ثم استدارت وذهبت تُسير من أمامه إلى داخل الفيلا وتركته هو ليبقى مع نفسه بعيد عنها..
❈-❈-❈
"بعد أسبوع آخر"
قد قررت كل شيء بالأمس، وعلمت ما الذي من المُفترض أن تفعله بعد هذه اللحظات التي مرت عليها مع الجميع هنا، لقد فهمت وعلمت إلى أين يوجهها عقلها هذه المرة ولن تعود عما في رأسها حتى ولو كان الموت لها.. وإن كان فهذا سيكون الأفضل على الإطلاق لا تريد حياة ولا تريد زواج ولا تريد "عامر" لا تريد أي شيء مهما كان هو..
وقفت أمام عمها في غرفة مكتبه بملابسها السوداء كالعادة ثم هتفت بقوة وجمود قائلة واضعة يدها الاثنين خلف ظهرها:
-عمي أنا هسافر
❈-❈-❈
"يُتبع"
تكملة الرواية من هناااااااا
تعليقات
إرسال تعليق