رواية بين دروب قسوته الفصل الخامس والسادس بقلم
ندا حسن
رواية بين دروب قسوته الفصل الخامس والسادس بقلم
ندا حسن
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_الخامس
#ندا_حسن
"في إنتظار فصل الخريف"
تفوهت بكلماتٍ بسيطة أمام أي أحد تبدو طبيعية ولكن هنا وعند عمها بالأخص لم تكن طبيعية بالمرة، وقف على قدميه وترك مقعدة وأخذت قدميه في الإقتراب منها ببطء وهدوء ووجهه حزين للغاية وكان هذا يظهر بوضوح..
الاستماع إلى كلماته كهذه بالنسبة إليه موت آخر غير الذي تعايش معه، آخر فرد بقيٰ من رائحة شقيقه لن يتركه بهذه السهولة مهما حدث..
وقف أمامها مباشرة ونظر إليها بتلك العينين الباكية دومًا على كل شيء وهتف قائلًا بنبرة ضعيفة مُنهكة:
-ليه يا سلمى
أبصرت مظهره جيدًا ورأت كل ما يجب أن تراه ولكنها كانت مُقررة منذ دخولها إلى هنا لذا عليها التحلي بالقوة إلى النهاية:
-أنا من الأول كنت هسافر يا عمي ويمكن دا السبب اللي قلب حياتنا بالشكل ده
تسائل بعينين ضيقة عليها وحاجبيه معقودان بشدة:
-ولما أنتي عارفه كده لسه بردو عايزة تسافري
ضغطت على يدها التي بقيت خلف ظهرها وتحلت بالصبر والقوة تاركة كل ما كان يُبكيها خلف ظهرها وأردفت:
-أنا ماليش حد هنا.. أهلي ماتوا
أقترب منها باستنكار لحديثها الغريب عنه والذي لأول مرة يستمع إليه منها وهي الابنة المطيعة للجميع في المنزل من بداية قدومها، عنيدة ولكن ليس معهم:
-وإحنا يا سلمى؟ إحنا مش أهلك يا بنتي؟ أنا مش في مكان أبوكي اللي يرحمه
تداركت ما تفوهت به وعلمت أنه كان خاطئ عمها دومًا بمثابة والدها يحبها كابنته ولم يكن يريدها لـ "عامر" لأنه يخاف عليها منه:
-انتوا أهلي وكل حاجه لكن أنا عايزة أمشي.. مش قادرة أقعد هنا
أقترب وأمسك ذراعها وجذبه ناحيته ليبقى كف يدها بين يده يضغط عليه بدعم وراحة قائلًا بنبرة واثقة ولكن مُتسائلة:
-علشان عامر؟
أخفضت عينيها إلى الأرضية وتغيرت نبرتها وأصبحت مهزوزة بعد أن ترقرقت الدموع بعينيها:
-علشان كل حاجه يا عمي
ضغط على يدها أكثر وأعتدل يقف بشموخ ليظهر حديثه جادًا واثقًا وليكن قادر حقًا على فعل ما يتفوه به وهو كذلك ولكن ما وقع عليهم كان صعب للغاية:
-مش هخلي عامر يتعرضلك وهعرف أوقفه عند حده يا سلمى وطالما أنتي مش عايزاه محدش يقدر يغصبك على حاجه لكن بلاش تمشي..
رفعت عينيها المُتجمعة بها الدموع عليه وأردفت بخفوت:
-بس أنا....
قاطعها يذكرها بما لها:
-مابسش يا سلمى.. أنتي ناسية إن ليكي زينا هنا بالظبط في الشركات والبيت وكل حاجه نملكها
عارضت حديثه بهدوء:
-دي مش القصة يا عمي
انتقلت إليه عدوى البكاء ولكنه كان مُختلف عنها، جاهز تمامًا للبكاء وبقوة وقد فعلها تحت أنظارها بعد أن أصبح غير قادر على المواجهة وحده:
-عارف.. بس أنا مش عايزك تمشي.. مبقاش غيرك من ريحتهم بلاش تمشي يابنتي... كده كلكم عايزين تسيبوني لوحدي
ربتت على كتفه بيدها الأخرى ونظرت إليه بملامح حزينة مُعاتبة إياه:
-أنت مش لوحدك، طنط عزة معاك وهدى وعامر
سخر منها عند نطقها باسم ولده، استنكر وجوده من الأساس وقال بجدية يوضح لها ما تعرفه:
-عامر!.. أنتي عارفه إن عامر عمره ما كان قريب مني كان إبن ابوكي وهو الوحيد اللي كان بيقدر عليه من بعدك.. دلوقتي مافيش حد هيقدر عليه
تعرف ذلك وهو كان لا يريد الإقتراب من والده بسب نزاعاتهم الدائمة وكانت هي تحاول معه بكل الطرق ليكون جواره ويستمع إليه، لقد كان الأحب إلى والدها هي:
-قرب منه أنت يا عمي يمكن ربنا يصلح حاله
نظر إليها وهو يمسح بيده دموعه المُنهمره على وجنتيه وأقترب منها مُحتضن إياها باشتياق وحنين لأرواح من فارقوه الذي بها:
-يارب يا بنتي.. مش هتمشي مش كده؟.. خليكي معايا يا سلمى، بلاش تبقي معاهم خليكي معايا أنا
خرجت دمعة حزينة من عينيها بعد أقتراب عمها منها بهذه الطريقة والاستماع إلى صوته المتلهف الراغب لوجودها بكل الطرق، وما كان منها ألا أن توافق على طلبه:
-حاضر يا عمي.. حاضر مش همشي
كانت ستذهب لا محال ولم يكن هنا أي شيء لتبقى له ولكن عمها الطرف الأضعف بين الجميع رغم قوته وجبروته، رغم كل شيء يفعله ويحدث بينهم هو الأضعف الآن بين الجميع.. هو من هزمت عائلته في لمح البصر وأُخذ منه اثنين كانوا له العون والعائلة..
ستبقى لأجله فقط، لأجل أن تسعده برؤية شقيقه بها، ولأجل أن ترى والدها به..
❈-❈-❈
أمسكت بكتاب الله وجلست على الفراش في غرفتها بعيد عن كل شيء وفرغت بعض الوقت لقراءة القرآن الكريم لكي تجد راحتها به، لكي يربط الله على قلبها وتبقى على هذا الوضع صامدة إلى النهاية،..
فهي كلما مرت عليها لحظة وتذكرت بها والديها وشقيقها تبدأ وصلة بكاء مريرة تعكر صفو اليوم والأيام التالية له..
والأمر صعب تقبله، وثقيل نسيانه، ستبقى قوية بأمر الله إن بقيت هكذا، ستحاول دائمًا وأبدًا أن تكون الأقوى بين الجميع لتستقبل العاصفة التالية بحياتها القادمة..
مرة أخرى وفي منتصف النهار وجدت باب غرفتها يُفتح على مصراعيه وبكل عنف قد حدث ذلك ليظهر هو بجسده المتشنج الضخم يدلف إلى الغرفة وأغلق الباب بقوة اهتزت لها الجدران المجاورة له..
دلف يتقدم منها بهمجية وتشنج تحت أنظارها المصدومة من دخوله هذا، وقف على قدميه ثابتًا وحرك يده بتصميم وصوته حاد:
-اسمعي بقى سفر مافيش.. على جثتي يا سلمى فاهمه؟
تركت الكتاب من يدها على الفراش وأعتدلت في جلستها تنظر إليه بعينين ثابتة قوية لم يهزها حديثه بالمرة ولم يحرك بها شعرة واحدة:
-أطلع بره
استفزه أسلوبها البارد الذي يظهر بثقة وكأنها لا تبالي بحديثه وتقول له أفعل ما شئت، أقترب منها بغيظ مُمسكًا بذراعها جاذبًا إياها لتقف أمامه:
-سامعة؟. مافيش سفر حتى لو قلبتي قرد هنا
وضعت يدها الأخرى على كف يده المُمسك بها وازاحته عنها بقوة وحدة عنيفة، ناظرة إلى عينيه مباشرة بعينيها المختفي بريقها وأردفت بعناد وتأكيد على حديثها:
-أنا لو عايزة أمشي حالًا همشي يا عامر وأنت مش هتقدر تعمل حاجه صدقني فبلاش بقى الجو ده
حك جانب لحيته بأظافر يده اليمنى وهو يلوي شفتيه ناظرًا إليها بقوة يردف بنبرة قاسية:
-بلاش الأسلوب الوسـ* ده معايا قولتلك مليون مرة
بقيت على وضعها وهي تنظر إليه وكم كان يروق لها ما تفعله به، ليشعر بأقل من قليل الذي يفعله بها وأكملت بنفس العناد والبرود:
-أنا أتكلم زي ما أنا عايزة وأسلوبي بردو هيبقى زي ما أنا عايزة
أشار إليها بيده وحاول صدقًا أن يكون هادئ ويكمل ما بدأه معها وليكن جوارها في كل وقت ولكنها تغضبه وتخرج أسوأ ما به:
-أنا مقدر اللي أنتي فيه ومش عايز ازعلك
ابتسمت بسخرية واستهزاء ناظرة إليه من الأسفل إلى الأعلى بتقليل منه وأردفت:
-لأ زعلني، بس أنت متقدرش
عاد للخلف خطوة وقال بجدية ونبرة ثابتة محاولة البقاء كما هي أمام حديثها المستفز البارد:
-احترمي نفسك يا سلمى وبلاش عِند.. أنتي عارفه آخرته وحشه
رفعت كتفها للأعلى وأخفضته بلا مبالاة تامة وبعينين بريئة للغاية أظهرت مدى القوة التي بها وهي تُجيب:
-عليك مش عليا
ومرة أخرى توضح له بعد أن جلست على الفـ ـراش في مكانها ناظرة إليه بقوة وثبات، وقد حسمت كلماتها التي ستلقيها عليه وليفهمها كما يريد:
-وعايزة أفهمك حاجه بالمناسبة، أنت مالكش حكم عليا لا في لبس ولا في خروج ولا في كلام ولا سفر ولا أي حاجه.. ومحدش هنا ليه حكم عليا حتى عمي أنا بس هستأذنه في كل حاجه ذوقيًا مني لأنه في مقام بابا الله يرحمه
رفع حاجبيه للأعلى وأردف بلفظ بذيء في وسط حديثه:
-دا أنتي فُجرتي بقى.. طب استني يعدي على موتهم شوية وقت
وهي التي لم تشجع قول الكلمات الدنيئة من قبل أبدًا كررتها كما قالها تحرك رأسها بالايجاب تؤكد أن ما قاله صحيح غير مبالية به:
-فُجرت آه ولسه كمان دي البداية بس
ضيق عينيه وأقترب الخطوة التي ابتعدتها عنه مُتسائلًا بنبرة مستفهمة وعينيه عليها بدقة لتأخذ ردود فعلها وحركات وجهها:
-يعني ايه دي البداية؟
بادلته نظرته المحدقة بها قائلة بابتسامة خبيثة:
-يعني اللي فهمته أيًا كان هو ايه بقى
مسح على وجهه وداخله كان يحاول أن يبقى على ذلك الثبات الذي هو به بعد كل هذا الحديث الذي تفوهت به والذي لو كان في وقت آخر لكان فعل كثير لا يستطيع فعله الآن:
-نقي كلامك
-مش شغلك
ضغط على نفسه كثيرًا وإلى هنا ولم يستطع التكملة بعد نظرتها المرهقة له والتي تدل على أنه أضعف وأبعد من أن يلقي عليها أوامر، لذا عليه أن يوضح لها بعض الأمور..
أقترب في لحظة خاطفة مُمسكًا بذراعها جاذبًا إياها إليه مرة أخرى ولكن هذه المرة ثنى ذراعها خلف ظهرها وأدارها بيده لتواجهه بظهرها مقتربًا من جانب وجهها يهتف بقوة:
-لأ شغلي.. أنتي مفكرة نفسك ايه؟. أنتي ضعيفة أضعف ما يكون واخده بالك
تألمت بقوة بسبب قبضته عليها، إلى اليوم وبعد أسبوعين وأكثر تبقى آثار الحادث عليها، صاحت بقوة متألمة:
-سيب دراعي
لم يبالي بما تقوله مثلها يرد إليها أفعالها التي تلقيها عليه وهتف في أذنها وهو على مقربة كبيرة منها بجدية وثبات:
-أنتي مهما روحتي ولا جيتي بتاعتي، مراتي غصب عنك.. فاهمة
تركت ألام يدها القابض عليها وعادت رأسها للخلف لتقترب منه أكثر وعقبت على حديثه بتأكيد واثق حاد وكأنه تحول من أمير وفتى أحلام إلى جني يود خنقها:
-لو آخر راجل على وش الأرض مش هتجوزك يا عامر
أكمل على حديثها الغير مُهتم به بالمرة ولا يعطي له أي أساس وكأنه لم يستمع إليه، وقال بفحيح بأذنها وهو يضغط على ذراعها ليؤلمها أكثر:
-الكلام ده مش هياكل معايا، أنا هسيبك بمزاجي، سنة، اتنين، انشلا حتى عشرة المهم في الآخر خليكي عارفه مش هتروحي غير ليا
عاندته مرة أخرى وصرخت بقوة قائلة:
-مش هيحصل
وكأن حبه إليها توصل إلى مرحلة الجنون حقًا، منذ الصغر يحبها وهي تبادلة وكلما قال نتزوج وأقترب ميعاد الزواج تختلق شيء ليؤجل، بعد كل ما حدث بحياته وبعد أن تركت أثرها على أنها زوجته وله لن يتركها مهما حدث:
-أنا بحبك ومجنون بحبك ومش هسيبك إلا بموتي، مش بموتك لأ بموتي أنا في الحالة دي بس تقدري تكوني حرة وتشوفي غيري
أغمضت عينيها للحظة بعد كلماته التي تجعلها تشعر بالخوف والرهبة منه، وما يستطيع فعله كثير ولكنها تكذب على نفسها وعليه وتظهر القوة الهشة بداخلها:
-أنت بتكرهني فيك أكتر
ضغط على كلماته هذه المرة موضحًا إياها وهو يدرك جيدًا أنها مازالت تحبه:
-كدابة، بتحبيني وهتفضلي تحبيني لآخر يوم في عمرك.. اللي بينا مش قليل علشان يتنسي بالسرعة دي
عقبت على كلماته الغبية التي توقعها دائمًا مُردفة بقوة وكأن ما تقوله حدث بالفعل وقد تناست كل شيء كان بينهم بيوم من الأيام:
-اللي بينا نسيته في لحظة زي ما أهلي راحوا في لحظة بسببك
ضغط على ذراعها بيده بقوة كبيرة مُتعمدًا ليؤلمها أكثر من السابق وصاح في أذنها بقوة نافيًا ما تقول:
-مش بسببي.. مش بسببي أفهمي
أغمضت عينيها بقوة تعتصرهما بسبب الألم الذي يعصف بذراعها وصاحت تاركة كل ما تحدثوا به:
-سيب دراعي
لم يستمع إليها ولم يعطي لحديثها أهمية وضغط على ذراعها أكثر كما يضغط على حديثه الآن الذي يخرج من داخله بغضب جُلي بسبب عنادها:
-أفهمي إن عمك مش هيقدر يعمل حاجه معايا أنتي أكتر واحدة عارفه كده وأكتر واحدة عرفاني، أنتي ليا مهما حصل وأنا وأنتي والزمن طويل مافيش طرف تالت بينا يا سلمى
أردفت بنبرة خافتة مُرهقة، ظهر عليها الألم حقًا وتركت ما قاله ولم تعلق عليه كما كانت تفعل:
-دراعي واجعني
تركها دافعًا إياها للأمام بعنف، تقدمت لأ إراديًا بجسدها من الحائط فاستندت بيدها الاثنين عليه حتى لا تصطدم به واستدارت تنظر إليه بذهول وصدمة حقيقة، تمسكت بذراعها الذي ألمها كثيرًا ومازالت عينيها عليه لا تصدق أنه هتف بكل هذا الحديث وفعل معها هكذا!..
تركها في صدمتها تلك ولم يعطي إليها أي ردة فعل على ما تشعر به، بل أبتعد ليخرج من الغرفة ولكنه وقف في منتصف الطريق واستدار إليها قائلًا بجدية:
-أنا عملت كل اللي عليا، قربت منك بكل الطرق ووقفت جنبك في الفترة اللي فاتت مع إني أخدت كلام يسم البدن بس قولت معلش كمل للآخر
احتدت نظرت عينيه عليها وتحولت للون الأسود وأكمل بجدية قاسية عليها مُهددة بذلك الحديث:
-لكن أكتر من كده مافيش ولو فضلتي على وضعك أنا مش هفضل على وضعي لأ أنا هتحول للأسوا ومظنش إنك هتقدري تستحملي ده
ومرة أخرى بنبرة أخرى تمامًا خافتة هادئة معاتبة إياها:
-مكنتش متخيل أن أقرب حد ليا يعمل معايا كده..
فتحت عينيها الواسعة بقوة أكبر مما هي عليه وأبتعدت مقتربة منه خطوة تتحدث بثبات وتأكيد مُشيرة إلى نفسها بقوة:
-أنت هتعيش دور الضحية؟ لأ يا عامر مش هسمحلك أنا اللي اتخانت وأنا اللي اتغفلت واتغدر بيا منك وبسببك خسرت كل حاجه
أجاب بقوة هو الآخر موضحًا لها ما قاله سابقًا ولكنه هذه المرة أضاف شيئًا لم يكن يجب عليه قوله:
-أنا مغدرتش بيكي ولا خونتك أنا كنت شارب وزي زي كل الناس قاعد مع واحدة... مجبتنيش من السرير أنتي علشان تعملي هوليلة ولو جيتي للحق بقى أهلك ماتوا بسبب عنادك أنتي مش بسببي أنا
أشارت إلى نفسها مرة أخرى بذهول وصدمة احتلت كيانها فحديثه يجعلها تفقد كامل عقلها ولا تستطيع التفكير بعده:
-بسببي أنا؟
أكد سؤالها وهو يحرك يده بقوة أمامها يقف شامخًا يهتف بنبرة حادة قاسية عليها:
-آه بسببك أنتي.. أنتي اللي اصريتي تسافري وتبعدي عن الكل مع إني حاولت معاكي كتير مرة في الخفا وعشرين في العلن وأنتي مصممة زي ما تكوني صدقتي
تسائلت بنبرة أصبحت مذهولة غير مُدركة ما الذي يحدث وما الذي يجب أن تقوله وعلى الرغم من أنها تعرف إجابة سؤالها ولكنها تسائلت:
-أفضل معاك بعد كل ده؟
مسح على رأسه بكف يده وأشار بيده بعد أن اخفضها من على رأسه يتسائل بسخرية واستنكار مُتهكم عليها ويُجيب في نفس الوقت على نفسه غير مقدر لما تمر به الآن وسابقًا:
-كل ده اللي هو ايه؟.. علشان كلمت واحدة ولا اتنين؟ كل ده كلام وفي الوقت ده أنتي بتبقى مانعة أي قرب بينا حصل ولا محصلش؟ ولا قصدك إني عصبي حبتين؟ قولي متتكسفيش كل ده اللي هو ايه؟ ماهو مافيش واحد ولا واحدة كاملين
أكملت جملته بنفس الإصرار الذي عليه ولم يحرك حديثه أي عضو بها:
-ولا في واحدة تكمل مع واحد خاين
ابتسم بسخرية وأردف مُجيبًا باستهزاء:
-مع إني مش معتبر دي خيانة بس فيه.. فيه كتير بيكملوا مع خاينين
نظر إليها للحظات دون الحديث، وفي تلك اللحظات تذكر أنها الوحيدة التي كانت تفهمه من نظرة عين، تعلم ما الذي يريده قبل أن يتحدث، تعلم ما الذي يريد الاستماع إليه في كل وقت مُختلف عن الآخر، وعلى الرغم من أنهم الاثنين يتمتعون بصفات لا تطابق مع بعضها إلا أن رابط الحب كان بينهم أقوى من أي شيء..
تفوه بصوت خافت ناظرًا إليها بعينين باهتة حزينة على كل شيء معاتبًا إياها لفراقها له على الرغم من أنها تعلم أنه ليس له غيرها:
-الغريب في الموضوع إنك الوحيدة اللي ليا.. إنك الجزء الحلو وأكتر حد يعرفني وأول حد بجري عليه.. الغريب إنك ببساطة عايزة تسيبيني
لم تصدق حديثه بالمرة، لم تصدق أنه يرى نفسه بريء إلى هذه الدرجة، كيف له أن يكون هكذا؟. كيف له حقًا أن يسلب حقها في الإبتعاد والحزن على ما فعله وينسبه إليه؟..
ابتسمت بسخرية واستنكار قائلة:
-الغريب بجد إنك بجح.. أطلع بره
نظر إليها للحظة فقط ثم فعل ما أرادت وخرج من الغرفة دون التفوه بحرف واحدًا تاركًا إياها وحدها في الداخل تعيد ترتيب كلماته جميعها من جديد..
لتحاول فهم كيف له أن يأخذ دورها ويحزن هو من أفعالها التي لا تعلم ما هي من الأساس، هي كل ما تعمله أنه فعل شيء وهي قابلته برد الفعل له والمناسب لها..
❈-❈-❈
حضرت إليها صديقتها "إيناس" في المنزل كالعادة في الآونة الأخيرة، كانت تتردد عليها كثيرًا بعد ما تعرضت إليه وبقيت وحدها، لم تكن تفعلها سابقًا بل كانت تتقابل معها خارج المنزل في المطاعم والمقاهي لأنها تعلم أن "عامر" لا يطيق النظر إليها وهي تبادله نفس الشيء.. كما يقولون من القلب للقلب..
جلست معها خارج الفيلا في الحديقة بعيدة عن أعينه بعد أن علمت أنه بالداخل، تُرى لما الأسد داخله بقيٰ صامتًا بعد فعلتها!..
على كل حال هذا لا يهم، الآن هي توجد لأجل صديقتها، لأجل أن تقف جوارها في محنتها الصعبة، وتحاول معها أن تتجاوزها وتمر إلى منطقة أخرى غير تلك الحزينة التي وقعت بها وهذا ما كان أمام الجميع.. وما بالداخل سواد لأ حياة بعده..
لا تعلم أن الحزن بقلبها قد حفر مكانه وإن كانت تبتسم وتتظاهر بأن الأمر مضى، لم ولن يمضي فهي لم تخسر شيء ليس له قيمة، ولم تخسر فرد من عائلتها الحبيبة، بل خسرت الجميع كقائد دلف حرب بجيشه كله وخرج هو وحيدًا..
وضعت كف يدها على يد الأخرى تضغط عليها وكأنها تمدها بالدعم راسمة أمامها شعور القلق والأمان بذات الوقت:
-المهم تكوني كويسة يا سلمى
حركت الأخرى رأسها من الأعلى إلى الأسفل باستهزاء هاكمة وهي تقول:
-كويسة آه
ضغطت الأخرى على يدها أكثر مضيقة عينيها عليها ثم أعادت كل الحديث الذي قالته سابقًا كثيرًا من المرات:
-دا قضاء ربنا وقدره أنتي مش محتاجه أننا نفضل نقولك كده، أنتي عارفه كل حاجه وفاهمه ربنا بس بيسبب الأسباب
الإستماع إلى هذا الحديث سهل وقوله سهل، لكن الشعور به أصعب ما يكون، الجميع يكرر هذه الكلمات على مسامعها يظنون أنها لا تدري بالأمر!.. الشعور بالوحدة والألم كثيرًا عليها وتتحمله بصعوبة بالغة والألم داخل قلبها وليس مكان آخر:
-ونعم بالله، أنا راضية.. راضية بقضاء ربنا
ابتسمت إليها "إيناس" بهدوء قائلة بنبرة متعقلة:
-أيوه كده يا حبيبتي
سحبت يدها من عليها ثم نظرت إليها بدقة كبيرة قبل النطق بهذا السؤال الهام لها وبشدة:
-هو محاولش معاكي تاني؟
عادت "سلمى" للخلف تستند على ظهر المقعد، رفعت يدها تزيح خصلات شعرها للخلف صائحة بضيق وانزعاج:
-شيلينا من سيرته بالله عليكي يا إيناس مش ناقصة وجع قلب
تعلم أن الحديث في هذا الأمر يزعج صديقتها ولكنها لن تصمت، تصر على معرفة كل شيء كما كانت معها في السابق، تصر على معرفة ما يدور بينها وبينه، ذلك الأحمق الغبي:
-معلش أنا مقدره اللي أنتي فيه بس أنتي بردو لازم تاخدي قرار في حكايتك معاه.. وبصراحة كده أنا مش فاهمه أنتي إزاي مش هتكملي وتفضلي معاه في نفس البيت
أجابتها الأخرى بقوة موضحة موقفها وقرارها الذي اتخذته أمام الجميع:
-أنا أخدت القرار ومش هكمل معاه وده شيء مفروغ منه أما إني أقعد هنا فأنتي عارفة عمي رفض سفري هروح فين يعني وبعدين ده بيتي بردو
هنا بدأت ملامح وجهها تتغير من الهدوء إلى الضيق ثم في لحظة إلى الشفقة الخالصة، أخفضت وجهها إلى الأرضية ثم بنبرة خافتة وملامح بريئة بدأت بدس السم في حديثها المعسول:
-أنتي عارفه إني مش بعرف اخبي حاجه بس قعدتك هنا مع عامر في نفس البيت غلط.. ده مجنون ومتهور وممكن يعملك أي حاجه علشان توافقي ترجعيله
رفعت عينيها في لحظة خاطفة على ملامح وجه صديقتها، لم تكن تفهم ما الذي تريد أن تتوصل إليه بهذا الحديث، إنها معه منذ زمن بعيد وهي تعرف هذا لما الآن قد يتهور معها؟:
-قصدك ايه؟
رفعت عينيها هي الأخرى تقابلها بقوة وجدية كبيرة ملقية عليها الأكثر من حديثها السابقة الذي ربما يجعلها تبتعد عنه إلى الأبد:
-أنتي فاهمه قصدي عامر مش سهل يا سلمى هو آه ممكن يكون بيحبك بس الحب مش بيضعفه زي بقيت الناس ده قوي طول عمره ومهما كان ايه اللي هو عايزة بيعمله
نفت "سلمى" حديثها بقوة وضيق كبير ظهر على ملامحها، أنها أكثر من يعرفه، تعرف كيف يفكر وكيف يكون، ربما هو قاسي، عنيف، هددها بذلك سابقًا ولكن قلبه لن يجعله يفعل هذا:
-عامر مش كده أبدًا
ضحكت الأخرى بسخرية واستهزاء مُجيبة إياها بقوة وهي تُصر على حديثها الذي من المفترض أن هذا ليس ميعاده:
-أنتي بتكدبي عليا ولا على نفسك.. أنتي كنتي كل يوم في خناقة معاه
تفوت بالكلمات من بين شفتيها بضيق وهي تعود بخصلاتها للخلف مرة أخرى:
-إيناس أقفلي السيرة دي
لوت شفتيها بتهكم وأردفت قائلة بلا مبالاة:
-براحتك بس أنا صاحبتك وكان لازم أحذرك أنتي دلوقتي لوحدك قصاده
نظرت إلى البوابة الداخلية للفيلا عندما شعرت بوجوده، رأته خرج منها يسير في الحديقة متقدمًا من سيارته شامخ ثابت وكأنه لا يهتز أبدًا..
استدار بوجهه في سيره ونظر إليهم وكل منهن كان لها النظرة الخاصة بها، نظرة لحبيبته خاصة جدًا بينهم تحكي الكثير والكثير وداخلها مشاعر مدفونة تريد التحرير ولو توافق هي على ذلك لكان أسعد رجل في الحياة..
ونظرة أخرى إلى عدوة حبيبته وعدوته قبلها، يعلم أنها لا تكنُ الحب إلى "سلمى" ولو بذرة واحدة، يعلم أنها تبغضها كثيرًا وقد حذرها ولكنها توفي إليها بكل الحب القابع داخلها تجاه رابط الصداقة بينهم..
نظرته إليها كانت كريهة بغيضة، عينين حادة قاسية تُلقي عليها السلام من خلال الصمت القابع داخله، ولم يكن سلام عادي بل كان سلام بالشر..
وزعت "سلمى" نظراتها عليهم هم الاثنين، وجدته يبادلها نظرات الكره والغضب وهي الأخرى مثله تمامًا، عينيها قاسية عليه تنظر إليه بحدة ولم تخفضهما كما كانت تفعل دائمًا..
لما يتبادلون هذه النظرات القاسية؟.. لما هي لا تحبه وهو يبادلها نفس الشعور؟..
دلف السيارة وأبعد نظره عنهم ثم خرج من الفيلا بأكملها، عادت هي بنظراتها المُستفهمة إلى "إيناس" وكأنها تتسائل بعينيها عما يدور بينهم ولكن الأخرى قابلتها بسؤال بعيد عن كل شيء وللحق كانت على علم بتساؤلات "سلمى" المرتسمة بعينيها:
-هي فين هدى؟ لسه بردو حابسة نفسها؟
فعلت المثل وتركت كل ما كانت تفكر به على جانب وأجابتها:
-لأ بقت كويسة دلوقتي هي فوق
وقفت على قدميها مقترحة:
-طب تعالي نطلعلها
اومات إليها ووقفت من بعدها هي الأخرى ثم بدأت في السير متجهة إلى داخل الفيلا، السير واحد والإتجاه واحد، العقل هنا به الكثير من البراءة والآخر به الكثير من الخبث
❈-❈-❈
بعد كل ما مر عليهم، وبعد ذلك الوقت الذي حاول الجميع فيه الشفاء مما حدث، لم يتغاضى والده عن حديثه الذي ألقاه عليهم في يوم الحادث، يوم أن وقعت تلك المصيبة الكبيرة على رؤوسهم، قبل خروجه من المنزل قد هدد أنه لن يتركها ترحل مهما كلفه الأمر، لن يتركها تعبر الحدود وتمر إلى بلد أخرى وبدى واثقًا من حديثه للغاية وكأنه مُرتبًا له سابقًا..
لم يتغاضى عن نظرة عينيه ولغة جسده الواضحة المُحددة لموقفها والثابتة على رأيها، لقد ظهر جيدًا في ذلك الوقت كالنمر الهائج الذي خرج عن صمته في غابة الظلم..
والآن قبع الشك داخل قلب والده وهو يتذكر كل حركة صدرت عنه في تلك اللحظات التي مر عليها أيام وليالي، كلما تذكره في ناحية قابلته الناحية الأخرى بشك مميت يود لو يقتله، فلن يرحب بفكرة أن ابنه الوحيد هو من قام بتدبير ذلك الحادث لعمه وعائلته.. فقط لأجل ابنته!..
وقف أمام عيني والده شامخًا، واضعًا يده الاثنين في جيوب بنطاله الكلاسيكي الأنيق الذي يعلوه قميص أبيض يختفي داخل البنطال، رافعًا أكمامه إلى منتصف ذراعيه لتظهر عروق يده البارزة بقوة..
جسده ثابت شامخ أمام نظرات والده وعينيه البُنية تلمع في تلك الإضاءة العالية مثبت أبصاره عليه ولم يتزحزح عنه..
استدعاه والده وقد أتى إلى هنا في مكتبه ليقف أمامه مُنتظر أن يقول ما الذي يريده منه!.. بقيٰ الآخر جالسًا على مقعده خلف مكتبه واحتدت نظراته فقط عند ولوج ابنه عليه غرفة المكتب وقد لاحظ "عامر" ذلك الشيء ولكنه لم يعطيه أدنى إهتمام لانه يعرف طباع والده وصفاته معه..
مسح والده على وجهه بكفي يده الاثنين ثم زفر بقوة ورفع رأسه إلى ابنه ينظر عليه بثبات ليرى تعابير وجهه:
-أنت هددت قبل ما تمشي في اليوم إياه إن سلمى مش هتطلع من البلد مش كده؟
بقيٰ الآخر على وضعه ولم يحاول فهم ما الذي يريده والده من سؤال كهذا قد مر ومضى وأخلف من بعده كثير من النتائج الموجعة للقلوب:
-حصل
أتى سؤال والده هذه المرة حاد قوي واثق، عينيه احتدت أكثر وأكثر عليه وهو يلقي بتلك الكلمات:
-أنت اللي دبرت الحادثة؟
ألمه ضميره لما حدث حقًا، وشعر للحظات أنه كان السبب في ذلك ولكن ليس بهذه الطريقة المُرة!.. أخرج يده من جيوب بنطاله واعتدل في وقفته متقدمًا يسير على قدميه إلى ناحية والده وقد ظهرت ملامح الصدمة والذهول على وجهه:
-أنت بتقول ايه؟
وقف والده على قدميه وأبعد المقعد من خلفه، أبصر ولده بعينين حادة وقاسية ضاغطًا على نفسه أكثر لكي يكمل ما بدأه وليعرف هل لشكه مكان بينهم؟:
-بقول اللي سمعته.. أنت هددت أنها مش هتطلع من البلد وكنت واثق أوي ومشيت وسبتنا، كنت هتوقفها إزاي؟ قولي كنت هتوقفها إزاي إلا بالطريقة دي! الحادثة دي مكنتش صدفة ولا قضاء وقدر الحادثة دي كانت متدبرة راح فيها أخويا ومراته وابنه اللي هو جوز بنتي.. راح فيها عيلتي وأنت السبب
لم يأخد "عامر" الوقت الكافي ليفكر في هذا الحديث القاسي المُعذب لقلبه، بل صرخ بصوتٍ عالٍ في وجهه وهو يتقدم أكثر ليقف أمام المكتب مباشرة وليكن هو الفاصل بينهم:
-أنا مش مستغرب إنك تفكر فيا بالشكل ده، وآه أنا أعمل أي حاجه تخطر على بالك مش هكدب ولا هبرر حتى لو كنت معملتهاش.. لكن تيجي عند عمي اللي هو كان أب ليا قبل منك فده مستحيل، ياسين كان أخويا وعمي أحمد كان أبويا قبلك ومتنساش إن سلمى كانت معاهم في العربية يعني لو عايز أموتهم مش هعمل كده وهي معاهم..
عاد للخلف قليلًا ومازال ناظرًا إليه ولكن بعينين أصبحت ضعيفة مُنكسرة، مهزومة في واقعها، لمعتها أصبحت باهتة للغاية وهزم جسده ومال للأمام منحنيًا عليه، وبصوت أصبح خافتًا أردف:
-كنت متوقع أي حاجه منك... إلا دي
استدار بجسد متشنج ووجه عابس للغاية ليذهب من هنا، لم يكن مُتوقع أبدًا أن والده يفكر به بهذه الطريقة وبهذا الشكل المُغزي، لقد فعل كثير من الأشياء الخاطئة وأزداد في المعصية وأبتعد عن الله وأصبح لا حاكم له من هذه العائلة ولكن أن يقتلهم!.. يقتل عائلته! يقتل عمه الذي كان له الأب الأول! يقتل زوجته وأمه الثانية أم يقتل شقيقه وزوج شقيقته!.. من يقتل منهم! والمضحك حقًا ومثير للسخرية أن حبيبته ومن فعل لأجلها كل هذا كانت معهم!..
ربما كان يريد قتلها هي!.. كيف له أن يكون هكذا؟ كيف له أن يفكر به بهذه الطريقة وكيف استطاع أن يواجهه بهذا الحديث القاسي الذي هشم قلبه..
إلى هذه الدرجة يراه بشع ودنيء! يراه مُجرم! لقد كانت هذه العائلة هي صاحبة السعادة في فيلا مسكونة بالأشباح كوالده، يدفن السعادة بيده!؟..
خرج من الغرفة وهو غاضب وبشدة، قلبه وعقله وكل ما به كان على حافة الهاوية بسبب حديث ليس له أي أساس من الصحة ويالا حظه الرائع في كل مرة..
كانت هناك من تقف خلف الباب بعد أن جذبها الحديث الدائر في الداخل، أخفت نفسها عندما شعرت بخروجه من الغرفة وبقيت صامتة تهبط الدموع من عينيها بغزارة والصمت على ملامحها بينما داخلها براكين ثائرة تنوح بالداخل عن ما فعله..
أيعقل أن يكون هو من قتل عائلتهم! هو من قتل "ياسين"!. لم يشعر بالشفقة لأجل شقيقته!.. لم يشعر بالشفقة لأجلها أبدًا!.. أخذها من زوجها وجعلها أرملة في سن صغير كهذا!..
كل هذا لأجل حبيبته!.. هو المخطئ، هي لم تفعل شيء إلا ما كان عليها فعله منذ الكثير ولكنها كانت تغفر له في كل مرة وتعظم الحب الذي بينهم على حساب نفسها وسعادتها..
هو من كان السبب الرئيسي في كل ذلك!.. هل قتلهم حقًا!.. شك والده به لم يأتي من فراغ مؤكد هناك شيء يعلمه لذا قبع الشك داخله عن أنه من فعلها..
وضعت يدها على شفتيها تكتم بكائها الحاد وآلامها الذي خرجت مرة أخرى بعد أن قاربت على البدء في مرحلة الشفاء من مغادرة الحبيب والمحبوب لها..
❈-❈-❈
"يُتبع"
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_السادس
#ندا_حسن
كانت كل هذه ذكريات مشوهة مر عليها عامين من الزمن، كانت كل هذه ذكريات حزينة للغاية جعلت القلوب ترتعش حزنًا وتبكي انهيارًا وألمًا، من بين هذه الذكريات لحظة أو اثنين تبدو السعادة بها.. كانت أقل من القليل!..
عامين مضوا على تلك المصيبة التي وقعت على عاتقها وأخلفت كل هذه النتائج البشعة التي جعلت الجميع في منزلهم يفقد رفيق وحبيب وشقيق وصديق..
عامين لم ينسوا بهم هذا الألم وتلك المعاناة، عامين كاملين كل يوم تمر عليهم ذكرى من داخلهم لتعود بهم إلى نقطة الصفر.. وبداية السطر..
الآن نحن في أرض الواقع والحدث الأعظم بعد تخطي الجميع لما حدث وعادت الحياة لهم، بعيدًا عن هذه الذكريات القهرية، المُسببة للألم أكثر وأكثر..
تخطت "سلمى" فاجعة موت عائلتها ورحيلهم من الحياة بعد وقت ليس بقصير أبدًا، لم يمر عليها يوم بعد رحيلهم إلى أكثر من ثلاثة أشهر إلا وهي تبكي كل ليلة في غرفتها مُستحضرة نفسها أمامها لتجلدها على فعلتها بعدما قال لها أنها السبب الوحيد في موتهم..
ترى كل يوم نفسها وهي وحيدة بينهم، ترى نفسها وهي تقف أمامه دون سند يحميها وظهر تحتمي به كوالدها وشقيقها، لا تخاف منه ولن تخاف، تعلم أن مهما حدث بينهم هو لن يؤذيها ولكن الوضح صعب للغاية..
كانت مع عائلة كبيرة، أحباب وأصدقاء، سند وعون لها ثم دون أي مقدمات بقيت وحيدة هكذا!.. وحيدة تضل جميع الطرق ولا تعرف أين المُستقر..
أخذت فترة كبيرة لكي تعود كما كانت في السابق "سلمى" ومن يعرفها، ولكن ذلك كان واجهة وقناع مرسوم بدقة عليها والجميع يعرف أنهم مازالوا على وضعهم ولن تعود الحياة أو الوجوه كما كانت..
رسمت الجدية على ملامحها لمن يستحق، وأظهرت الابتسامة لمن تريد وعادت مرة أخرى تلك الفتاة صاحبة المواصفات الغريبة المختلفة مع بعضها مثله ولكن تعرف كيف تكون هذا وذاك في كل وقت وموقف..
بالنسبة إلى "عامر" وحبها له، وبكل فخر وقوة تعترف أنها إلى اليوم تحبه!.. تحبه وتفعل أكثر شيء من الممكن أن يكون خطأ، تهواه، قلبها لا يريد نسيانه!.. عقلها تأمر مع قلبها وبقيٰ عنده ووقف عليه عندما قررت أن ترى غيره.. ليس على القلب سلطان، ليس على القلب سلطان..
إن تحدثت عن حبها له لن يكفي الحديث مهما قالت، لن تكفي المشاعر لوصف ما بينهم وما تشعر به ناحيته، لن يكفي أي شيء عندما تتحدث عنه ولكن تعرف كيف تتحكم في كل ذلك!.. وإلى اليوم لم تعود له ولن تعود وليحترق قلبها وعقلها وروحها إن أرادت هذا.. ليحترق كل شيء، لن تعود لخائن، لقاتل، لن تعود لشخص جعلها طوال الفترة الماضية تفكر كيف كانت السبب في موت عائلتها!.. كان "عامر" بالنسبة إليها يمثل مقولة "ومن الحب ما قتل"
لم يكن مرور عامين على حياته وهي هكذا شيء كبير، كل ما في الأمر أن هناك أشخاص اختفت منها فقط!.. كعمه الداعم الأكبر له، ابن عمه رفيق الطريق وصديق المحن، و.. حبيبته ومن كانت زوجة المستقبل..
بقيٰ على ذلك النزاع مع والده، وكبرت الفجوة بينهم أكثر وأكثر منذ آخر لقاء حدث وتم اتهامه فيه بأنه من قتل عمه وأسرته، للحقيقة لم تكن علاقاته جيدة مع أي أحد سوى والدته، والده لم ولن يحدث هذا، حبيبته وقد ابتعدت منذ لحظة خيانته لها والتي إلى الآن لا يعتبرها خيانة ولن يعتبرها مهما حدث لأنها لم تكن كذلك.. وآخر شخص بقيٰ في هذه العائلة شقيقته، الذي استحقرته أكثر من السابق وابتعدت عنه بطريقة غريبة وكأنها لا تعرفه والحديث بينهم قليل وأقل منه..
لا يهمه أي من هذا، إنه عاد إلى نقطة الصفر حقًا، يعمل، يعود من العمل إلى المنزل يبدل ملابسه ويخرج ليكون متواجد في إحدى الملاهي الليلية كما كان يفعل دائمًا أو يعود من العمل لينام!.. أتجه إلى التدخين المدمر للصحة وادمنه كالكحول وكل ما يحدث في حياته يكتمه داخله ولا يخرجه لأي شخص كان ولا حتى يفكر به!.. الوحيدة التي كانت تستمع إليه في كل وقت وحين تركته وحده وتخلت عنه..
كانت تعلم أنه لا يوجد لديه أحد سواها، لا يثق بسواها، ولا يتحدث مع أحد سواها، كانت له كل شيء، حبيبته ابنته، وزوجته، اعتبرها زوجته حتى من قبل أن يحدث هذا لأنه رأى بها سنده وقوته، ضعفه وحبه وكلما نظر إلى عينيها رأى نفسه بوضوح..
أصبح وحيدًا وكل ما يحدث بحياته ليس له أي قيمة من بعدها، حبه إليها كان حب جنوني، قاتل وسام، وإلى الآن هو كذلك ولم يقل عن السابق ولو ذرة واحدة بل ازداد.. ازداد كثيرًا وأصبح يهواها ويشتهي وجودها معه وبحياته بشدة..
تركه لها العامين الماضيين لا يعني أنه تركها إلى الأبد وتستطيع أن تفعل ما تشاء، أبدًا فهي قد كتبت على اسمه وأصبحت له وملكه ومملكته منذ أول يوم وقعت عينيها عليها وهي على دراية بحبها..
تركها تفعل ما يحلو لها، تبتعد كما تريد وتقترب متى تشاء في النهاية مهما حدث لن تكون لأحد غيره ولن تمر على غيره من الرجال، وإن اضطر لفعلها بالقوة ستحدث، بالخبث ستحدث.. مهما كانت طريقة حصوله عليها سيفعلها.. مهما هبط بمستواه ستكون له ومعه..
لن يضيع ذلك الحب ولن يترك عمره الذي كان معها يسرق بهذه الطريقة، لن يراها مع أحد غيره وقلبه ينبض بحبها.. لن يكن الرجل المسالم الذي يتخلى عن ما هو ملكه ليظهر بصورة جيده وليكن متحضر.. لن يفعلها ولن يكن ذلك الرجل..
هو ذلك العنيف القاسي، الحاد المتهور، وسيبقى هكذا إلى موته، إلى فناء اسمه من الحياة أو إلى عودتها إليه بكامل رغبتها!.. وهذا لن يحدث
في ذلك الوقت وبينما يمر على الجميع بقصص مختلفة عن الماضي، أغلقت شقيقته على قلبها الباب بقفل محكوم وألقت مفتاحه في قاع المحيط كي لا تعرف كيف تفتحه مرة أخرى من بعد حبيب عمرها وزو'جها الراحل "ياسين"..
هناك الكثير من الذئاب الذي حاولت النيل من هذا القلب وهو مغلق وبطرق غير مشروعة ولكنها كانت الاقوى على الرغم من الهشاشة البادية عليها وحافظت على ما تبقى لها منه..
حافظت على أنقى حب وأجمل ذكريات قد تمر على شخص ما في حياته..
ومنذ آخر مرة تقابلت مع شقيقها في موقف لا يُحسد عليه وهي تجتنبه إلى أبعد حد، بعد أن كانت تراه رجل يُصاحب ما يهواه على حساب الجميع رأته رجل منحط هوى إلى قاع مستوى الدنائة.. هبط إلى أسفل من هذا المستوى بكثير..
أضاع كل الاحترام الذي كان باقي له عندها، وأشعل الكـ ـره في قلبها ناحيته، أصبح شقيق فقط، الاسم الذي تحمله هو يحمله أكثر من ذلك لن توجد أن بحث عن "عامر القصاص" في حياة شقيقته..
ولم تكن تعلم أنه برئ وضعيف للغاية، هش كما النساء وقلبه يرق في لحظة ضعف له، لم ترى إلا القسوة والعنف منه ولم تحاول هي أو أي شخص في هذا البيت أن يرى غيرهما.. إلا هي! تعلم كل ما به.. وترى الضعف خلف قسوته لذلك كانت دائمًا "سلمى" هي مفتاح لـ "عامر"...
كما فعل معه والده بالضبط، لم يحاول ولو مرة واحدة أن يكتسبه إلى صفه، كانت العلاقة مع ابنه في البداية ليست كهذه أبدًا، كعلاقته بعمه "أحمد" يحبه ويستمع إليه ويأخذ بنصائحه، ولكن عندما كبر "عامر" وأصبح له وضعه بينهم، تحول إلى شخص آخر يشرب دون حساب ويسهر كما يريد، حاول معه والده ولكنه لم يعود فذهبت بينهم العلاقة إلى طريق لم يحبه أحد منهم وأصبح الجفاء سيدها..
يقف له والده على خطأ واحد ليجعله يرى أن نظرته به بعد تحوله صحيحه وهو لا يحب خوض نقاش معه ويبتعد عن أي شيء يأخذه إلى هذا الطريق..
الشفاء من جروح كهذه تأخذ وقت كبير جدًا للتعافي منها!..لو كان والده بقيٰ معه بحنانه وحاول أكثر من المرات العشر والعشرون لم يكن "عامر" هنا اليوم.. إنه مل من نصيحته بلين وأتجه إلى القوة ونظرية أنا على الصواب وأنت دائمًا خطأ ومن هنا كانت البداية السيئة لهم..
ولم تكن والدته لها أي دخل في كل هذا منذ البداية إلى نهايته، كانت على الوضع الصامت وحركة الايماءة إلى والده والتي تدل على الإيجاب في كل شيء موجود.. له هو فقط
عاد والده إلى وضعه معه كما كان بعد رحيل عمه، الذي كان الوصلة بينهم وعصا النجاة بالنسبة إلى "عامر"، وبقيٰ هو الآخر على وضعه ولم يفكر حتى في التغير لتسير مركبهم سويًا..
❈-❈-❈
وقفت أعلى درجات السلم، تنظر إلى الأسفل إن كانوا أنهوا فطورهم أم لا، ويبدو أنه لا، هبطت الدرج بهدوء وثبات، مرتدية حُلة كلاسيكية بيضاء اللون، تاركة لخصلات شعرها العنان والتي أصبحت قصيرة للغاية عما كانت، لقد تغير مظهرها تمامًا بعد أن بدلت لون خصلاتها من البُنبة المالخطة للذهبي إلى الأسود المختلط مع البُني، وقامت أيضًا بتقصيره عما كان حيث أنه أصبح طوله إلى كتفيها بالضبط، وغيرت قصته التي كانت تجعل الخصلات القصيرة تهبط على جبهتها، الآن يختلف تمامًا وتظهر في صورة امرأة مرموقة بهذه الملابس..
عينيها واسعة كما هي ترسمها بدقة تظهرها فاتنة للغاية، شفتيها مازالت مُكتنزة تبادل وجنتيها الدلال الذي تتمتع به.. ويا له من مغري لشخص يعرفه الجميع..
كانت مُرتدية حذاء أسود لامع ذو كعب عالي يصدر صوت هبوطها على درج السلم وكان هو في الداخل يستمع إليه وينتظر قدومها بينما يقلب في طعامه..
دلفت إلى داخل الغرفة، لتجد عمها كما المعتاد يترأس الطاولة، بجواره على الناحية اليمنى زوجته، وعلى الناحية اليسرى ولده..
ألقت عليهم تحية الصباح أثناء تقدمها إلى مقعدها بجوار زوجة عمها:
-صباح الخير
بادلها عمها وزوجته التحية بابتسامة جميلة من وجوههم الطيبة بالنسبة إليها، وبقيٰ هو صامت كالمعتاد، لا يتحدث ولا يُجيب عليها تحية الصباح ولا حتى أي تحية تلقيها في دخلتها عليهم.. لم تكن هي فقط، بل للجميع هنا يفعل ذلك..
جلست على المقعد جوار والدته وتركت حقيبتها على المقعد الآخر المجاور لها، استدارت تبصرها جيدًا وتحدثت مُتسائلة:
-عامله ايه دلوقتي يا طنط بقيتي كويسه؟
ابتسمت لها الأخرى بعد أن أدارت وجهها إليها مُجيبة بهدوء:
-أيوه يا حبيبتي الحمدلله
تسائلت "سلمى" مرة أخرى عن "هدى" الغير موجودة على غير العادة:
-اومال فين هدى
عقبت على سؤالها والدتها قائلة بجدية:
-هدى فطرت بدري ونزلت الشركة على طول بتقول عندها شغل كتير
أومأت إليها برأسها ثم حركت وجهها إلى الأمام وبدأت في تناول فطورها بهدوء، عينيها كانت تختلس النظرات إليه بين اللحظة والأخرى وفي كل مرة كانت تتقابل مع عينيه التي تنظر إليها بدقة وثبات..
لم يكن مثلها يختلس النظرات منها بل كان ينظر إليها بوضوح رافعًا رأسه وبصره مثبت عليها.. فعادت هي إلى طعامها تاركة ذلك التبجح الذي يتمتع به إليه وبقيت صامتة..
بعد لحظات من هذا الهدوء رفعت رأسها إلى عمها مُردفة بصوت واضح وقوي:
-لو سمحت يا عمي كنت عايزة الشيك اللي هتتبرع بيه للجمعية علشان محتاجينه ضروري
أومأ إليها برأسه قائلًا من بعدها بنبرة جادة:
-حاضر يا سلمى
مرة أخرى تؤكد عليه حديثها بخجل وبعينين ضيقة عليه:
-ممكن النهاردة علشان ألحق اصرفه
لاحظ خجلها منه وهي تطلبه مرة ثانية، ابتسم إليها بود ولين ليجعل ذلك الحرج يبتعد عنها وقال:
-حاضر بعد الفطار هكتبلك الشيك
ابتسمت باتساع وفرحة وهي تشكره ساردة له كم سيكون هذا فارق لهم في الجميعة التي أسستها منذ عام:
-شكرًا جدًا يا عمي، المبلغ ده هيفرق معانا
اغمض عينيه وهو يحرك رأسه للأسفل بحب وحنان يوجهه ناحيتها:
-ربنا يوفقكم يا بنتي
ابتسمت إليه ببشاشة ونظرة رائعة خلابة من عينيها الساحرة ووجهها الفاتن، وعادت مرة أخرى إلى طعامها وعم الصمت مرة أخرى ولكن هاتفها لم يعجبه الوضع فأصدر صوت عالي منه بوصول مكالمة إليها..
أمسكت الحقيبة من على المقعد ثم فتحتها وأخرجت الهاتف منها، كان اسم صديقتها "إيناس" يُنير الشاشة، تركت الحقيبة مكانها ثم أجابت عليها بهدوء:
-أيوه
استمعت إلى حديث الأخرى وهي تنظر أمامها ثم عند قول شيء ما من قِبلها وضعت إصبع يدها على زر خفض الصوت وتلقائيًا عينيها ذهبت عليه خوفًا من أن يكون استمع إلى ما قالته..
لم يلاحظ هو بل كان ينظر إلى طعامه بشرود، تنفست الصعداء ثم أنهت المكالمة معها دون توضيح أي شيء مما تحدثوا به..
وضعت الهاتف مكانه مرة أخرى في الحقيبة وما كادت أن تقف على قدميها لتهم بالرحيل إلا أنها استمعت إلى صوت عمها الحاد القوي:
-كنت فين امبارح
واستمعت مرة أخرى إلى أجابت "عامر" التي خرجت من بين شفتيه بقوة ونبرة هجومية:
-هكون فين يعني
أبصرت عمها الذي كرر عليه السؤال مرة أخرى بطريقة أوضح مما سبقت وقد بدى عليه أن هناك شجار وشيك كالعادة بينهم:
-كنت فين امبارح بالليل
ترك عامر فنجان القهوة الذي كان بيده، ابتلع ما وقف بجوفه وهو على علم أن هناك محاضرة ستلقى عليه وربما نهايتها لن تكون جيدة:
-سهران مع صحابي.. فيها حاجه دي كمان
صاح والده بنبرة حادة مُغتاظة وعينيه كعينين الصقر عليه:
-سهران مع صحابك لحد الصبح.. راجع الساعة أربعه الصبح وقايم تشرب تلاته قهوة علشان تعرف تصحصح
أجابه "عامر" بمنتهى الهدوء والذي كان يصاحبه التبجح اللا نهائي بعدما عاد بظهره إلى ظهر المقعد ليستند عليه:
-مادام مقصرتش في شغلي ولا حاجه طلبتها مني يبقى محدش ليه حاجه عندي وأعمل اللي يعجبني
أشار والده "رؤوف" بيده بقوة وهمجية ناحيته صائحًا باهتـ ـياج بسبب اللا مبالاة الموجودة لدى ابنه وأسلوبه الوقح في الحديث:
-لأ مقصر.. مقصر في شغلك وأختك راحت من بدري علشان تكمله، مش واخد بالك إن المجمع السكني هيتسلم النهاردة ولا ايه؟
أكمل بسخرية واستهزاء ناظرًا إليه بقوة شديدة:
-شكل الخمرة لحست مُخك
رفع "عامر" عينيه عليه للحظة ثم أخفضهما على الطاولة، مسح بإصبعه طرف أنفه الشامخ في وجهه ومرة أخرى عاد بنظرة إلى والده وهتف ببرود:
-تمام ايه المطلوب دلوقتي؟
صدح صوت والده بعد فترة وكان بها يحاول التماسك والضغط على أعصابه بسبب ذلك الأحمق الذي يجلس أمامه:
-تتعدل وتحترم نفسك، وتتعامل معايا بأدب وتأدي دورك كابن ليا وللبيت ده
بمنتهى التبجح وقلة الاحترام إلى والده، بمنتهى البرود واللا مبالاة لعمر والده ولكل شيء فعله في حياته لأجلهم أجاب بقوة وعنف وكأنه لم يفكر في حديثه هذا قبل أن يقوله:
-لما أنت تأدي دورك كأب ليا وللبيت ده هبقى أعمل كده
لحظات صمت مرت على الجميع، هو نظر إلى الطاولة بعد كلماته التي ألقاها عليه وسعر لوهلة أنه أطال الأمر وخرج عن يده، بينما كان والده في حالة صدمة تامة.. بقيٰ ناظرًا إليه ولم يهبط بعينه من على وجهه وملامحه، لم يكن يتوقع أنه من الممكن في يوم من الأيام يصل هنا!..
لم يكون دنيء إلى هذه الدرجة ومنحط ببراعة، لم يكن خائن وعنيف، لم يكن قاسي ومتهور فقط لقد كان ابن عاص أيضًا
نظرت إلى والدته التي وجدتها تبصره بصدمة تامة كوالده الذي لم ينطق بحرف من بعدها، وقفت على قدميها سريعًا وذهبت لتقف جوار عمها الجالس على المقعد ووضعت يدها الاثنين على كتفيه تحتضنه صائحة بعنف له:
-أنت إزاي تكلم عمي كده؟
رفع وجهه إليها ينظر إلى ملامحها الشرسة التي ستقاتله الآن لأجل عمها الذي أخذت صفه منذ أن تركته، تبجح بها هي الأخرى وقال بصوت حاد:
-وأنتي مالك أصلًا؟
أجابته بنبرة قوية حادة مثله بالضبط وعينيها على عينيه البُنية ولم تخشى هذه المرة الضعف أمامه، بل كانت القوة في محلها بعد كلماته القاسية:
-مالي ونص.. عمي هو أبو البيت ده وعموده غصب عن عنيك... هو كده فعلًا مش مشكلتنا إنك شايف غير كده وماشي على خط غير خطنا
ابتسم بسخرية واستهزاء بحديثها، ثم نظر إلى عينيها بعمق وكأنها تناست كل ما كان يعاني منه، تناست كل مخاوفه تجاه والده والذي كان يعترف إليها بها دومًا، تناست كل شيء ووقفت أمامه الآن تسخر مما يشعر به:
-أنتي اللي بتقولي كده
أومأت برأسها بجدية ومازالت تتابع حديثها معه بحدة، وتغاضت عن تلك النظرة وذلك الحديث الخفي خلف ضحكته الساخرة:
-آه أنا اللي بقول كده.. وبطل بجاحة وأتكلم معاه بأسلوب كويس وبعدين ماهو عنده حق هتابع شغلك وحياتك إزاي وأنت كل يوم راجع الصبح
أجابها ببرود مرة أخرى ولا مبالاة حقيقية:
-شيء مايخصكيش
نفت حديثه وهي تبتعد عن عمها مقتربة منه لتوضح له أنها لها مثلما له بالضبط في كل هذا:
-لأ يخصني.. ده شغلي وشغل بابا وياسين اللي تعبوا عليه كتير لحد ما بقى كده
وقف هو الآخر على قدميه وأجاب بعنف وقوة وهو يبصرها جيدًا مُشيرًا بيده بحركات هوجاء تصدر عنه وقد خرج عن هدوءه وذلك البرود الذي كان يرسمه على ملامحه:
-لو قلبك واكلك عليه أوي كده روحي أنتي اشتغلي بدل الجمعية اللي واكله حياتك دي.. أعملي زي هدى أخدت مكان ياسين روحي خدي مكان أبوكي
عاندت حديثه وراق لها ذلك، أن تجعله يشتعل من الداخل بقولها أنه لا يخصه أي شيء تفعله بحياتها:
-شيء مايخصكش أشتغل ماشتغلش مش بتاعتك دي
كاد أن يُجيب عليها بعد أن قاربت دماءه على الغليان بسبب حديثها في أكثر شيء يجعله يغضب، وهو أن يكون بعيد عن حياتها ويتركها تفعل ما يحلو لها، وهذا لن يحدث..
أردف والده أخذًا منه فرصة الرد عليها، مُهددًا إياه بجدية شديدة وحديث سيحدث حقًا إن لم يعد عن أفعاله:
-قسمًا برب العباد إن ما اتعدلت يا عامر لأ أنت ابني ولا أعرفك ولا تكون داخل البيت ده من أساسه وانسى إن ليك أهل ولا حتى ميراث بعد موتي
أبعدت عينيها إلى عمها الذي صدمها حديثه للغاية!.. يستطيع فعلها حقًا وهذا الأحمق لن يعود عما يفعل بسهولة ولن يستمع إلى حديث والده وبالأخص إن كان بهذه الطريقة، ابتلعت ما وقف بحلقها خوفًا من أن تسوء الأمور أكثر من هذا ويفعل عمها ما قاله
نظر "عامر" أمامه وأبعد نظره عنه لتقع عينيه على والدته التي أشارت له بعينيها بقوة لكي يعود عما يفعل ويعتذر من والده وبادرت هي بأول شيء لكي يفعلها:
-هدي نفسك يا رؤوف عامر مايقصدش
لكنه ألقى حديثها عرض الحائط وأشار بيده بهمجية وعنف بحت ثم استدار بقوة ناظرًا بعينيه التي تحولت إلى اللون الأسود الحالك إلى حبيبته الغبية، بادلها النظرات الحادة العنيفة ثم خرج من الغرفة تاركًا إياهم يشتعلون منه ومن أفعاله..
جلست "سلمى" سريعًا على مقعده ونظرت إلى عمها بهدوء وجدية بنفس الوقت ثم خرج الحديث من شفتيها بلين ورقة:
-متزعلش منه يا عمي أنت عارفه غبي وبيقول أي كلام بس قلبه طيب وهو مايقصدش
نظر إليها عمها وابتسم من زاوية فهمه، على الرغم من كل ما فعله بها، وعلى الرغم من أنها تظهر إليه الجدية الشديدة ولا تعطيه فرصة للحديث حتى إلا أنها مازالت تدافع عنه أمام الجميع وتحاول أن تصلح كل خطأ يفعله..
أومأ إليها بهدوء وابتسامه قائلًا:
-عارف يا سلمى... عارف
❈-❈-❈
كانت جالسة على مقعد من مقاعد الطاولة الصغيرة، حيث أنها تتسع لشخصين فقط في مطعم من المطاعم المرموقة، ذات الرونق الرائع والمظهر الخلاب، ابتسمت بصفاء وهدوء وبهذا الوجه البشوش إلى شاب أمامها يجلس مقابلًا لها، خصلاته سوداء وعينيه كذلك، أنفه حاد، شفتيه رفيعة، لحيته نابته وكذلك شاربه، يبدو وسيم كمثل "عامر" بالضبط..
يعلو ثغرة ابتسامة عريضة يبادلها إياها في وسط الحديث الدائر بينهم ولكن عينيه داخلها شيء يعبر عن آخر غير تلك الابتسامة
سردت بجدية وهي تضع كوب عصير المانجا على الطاولة ناظرة إليه بجدية:
-أخدت الشيك من عمي وصرفته وتم الموضوع الحمدلله
ابتسم إليها بود وترك هو الآخر فنجان القهوة الخاص به على الطاولة وعقب على حديثها:
-كويس وإن شاء الله خير متقلقيش
تنهدت بهدوء ووضعت يدها الاثنين على الطاولة تستند عليها وهي تبصره بجدية مُكملة حديثها توضح له كيفية الأمور:
-مش قلقانة بس عايزة الدنيا ترجع تمشي زي الأول إحنا لو مكنش المبلغ ده مكناش هنعرف نمشي أمورنا
ترك ما تتحدث عنه لأنه لا يهمه من الأساس وأتجه بالحديث إلى طريق آخر يريده ويهواه كما يهوى تحقيق مراده معها:
-هتسهري معايا بكرة
لوت شفتيها المُكتنزة أمام عيناه السوداء البراقة قائلة:
-موعدكش
ضيق عينيه عليها بجدية يتسائل بجدية:
-ليه؟ إيناس هتكون معانا
ابتلعت ما وقف بحلقها ثم قالت له بتوتر ما حدث آخر مرة في المنزل بسبب خروجها المُستمر ليلًا بدون داعي، ولم تكن تريد أن يتكرر ذلك مرة أخرى:
-مش القصة يا هشام بس أنت عارف بقالي فترة بخرج بالليل وعامر عمل حوار آخر مرة واتخانق هو وعمي بسببي
زفر بضيق وعصبية وأعاد ظهره للخلف مُبتعدًا عنها وتغيرت ملامح وجهه مئة وثمانون درجة على ذكر "عامر":
-يادي عامر هو إحنا مش هنخلص منه بقى
ضيقت ما بين حاجبيها وعينيها عليه مستفهمه ما المقصود من حديثه:
-يعني ايه نخلص منه
صاح بصوتٍ مُتعصب وغاضب بسبب ما تفعله معه دائمًا، تعطي لـ "عامر" الأهمية الكبرى بحياتها، حتى أنه الأهم منه وإلى الآن لم يفعل ما يريد بسبب وجوده وبسبب غبائها:
-يعني نخلص منه يا سلمى... كل حاجه خايفة من عامر وعامله حساب لعامر.. دا أنتي حتى مأجلة خطوبتنا علشان خاطر عامر
تفوهت بحدة بعدما تضايقت من حديثه الذي يظهرها ضعيفه وتخاف بشدة منه:
-أنا مش خايفة منه على فكرة أنا بس مش عايزة مشاكل في البيت بسببي
وقفت عينيه على عينيها بدقة وعمق وقد فعلت ما أراد بحديثها ليحاصرها بذلك السؤال:
-ومال الخطوبة بالمشاكل يا سلمى
وجدها ارتبكت عندما تحول الحديث إلى نقطة تهرب منها دائمًا رأى كل الارتباك على ملامحها والتوتر قد ظهر بوضوح ولن تستطيع أن تُجيب عليه فأكمل هو مرة أخرى:
-ردي عليا عرفيني! ولا أنتي خايفة على مشاعره؟
تنفست بقوة أمامه مُغمضة عينيها تعتصرهما ثم فتحتهما ونظرت إليه بجدية حادة لتجعله يصمت عن ذلك الحديث الذي يقوم بتفتيح جروحها التي أغلقت عليها قبل أن تُشفى:
-هشام! بلاش الكلام ده لو سمحت أنت عارف اللي كان بيني وبينه انتهى من زمان أوي وإحنا دلوقتي ولاد عم لا أكتر ولا أقل
تسائل مرة أخرى بضيق وانزعاج واضح منها وداخه يسب الساعة التي وقع فيها بذلك المأزق:
-اومال مأجلة الخطوبة ليه؟ مش قولتي علشان عامر
حقًا تخاف على مشاعره، ومشاعرها هي الأخرى، إلى الآن تحبه ولا تتقبل وجود أي رجل في حياتها سوى هو وعلى الرغم من ذلك هي أيضًا ترفضه.. ترفضه بكل الطرق والمقاييس ولن توافق على عودتها إليه مهما حدث.. فحتى بعد كل ما حدث مازال على وضعه ولم يتغير.. كل ما تفعله أنها تحاول الخروج عنه إلى غيره، تحاول أن تتقبل "هشام" في كل مرة وتنظر إليه على أنه شريك حياتها..
اختلقت سببًا واقعي وسيحدث حقًا إن تقدم لخطبتها، فهذا "هشام الصاوي" ولد "رفعت الصاوي" وابن عم "إيناس الصاوي"، لن تتم الموافقة بتلك السهولة من عمها ولن تحصل عليها أبدًا من "عامر":
-آه يعني مهو بردو عمي مش هيوافق بسهولة.. انتوا أكبر منافسين ليه وباباك كمان مش هيوافق بسهولة
أقترب للأمام مُمسكًا بيدها الموضوعة على الطاولة بشغف وعينيه تتحرك على ملامح وجهها:
-لأ مالكيش دعوة بأبويا أنا.. المهم أنتي، لازم تشوفيلنا حل علشان نخلص إحنا بقالنا سنة مع بعض لو كانت خطوبة كانت خلصت ولسه كمان لما يوافقوا هنضطر نعمل خطوبة قدامهم وأنا بصراحة تعبت ومش مستحمل أكتر من كده
أطالت النظر عليه واستمعت إلى حديثه ثم قالت:
-مش مستحمل ايه؟
رسم على ملامح وجهه الضيق، ثم الحنان والشغف، الحب والاشتياق، كل ذلك في لحظة واحدة لكي يظهر إليها حديثه يخرج من القلب وما داخله:
-إنك تكوني بعيدة عني يا سلمى.. أنا عايزك مراتي.. عايزك جنبي وليا مش اسيبك تباتي هناك في بيت معرفش بيحصل فيه ايه لأ وكمان اللي اسمه زفت ده معاكي
جذبت يدها بقوة من أسفل يده الموضوعة على الطاولة وعادت للخلف بجسدها بينما عينيها مُتسعة عليه بقوة ولم تصمت حيث أنها تفوهت بحدة:
-هشام أنت بدأت تقول كلام غلط وهنزعل من بعض، ايه ده اللي بيت معرفش بيحصل فيه ايه؟ يعني ايه كلامك وماله عامر قاعد معايا في نفس البيت فين الأزمة
لقد أخطأ في التعبير، وعليه تصليح الأمر لتسير كما يريد، ارتسم الحزن على ملامحه وأردف بهدوء وحنين شغف يقوده إليها:
-مقصدش بس قدري اللي أنا فيه أنا راجـ ـل بحب ومن حقي اغير عليكي
وجدها كما هي لم تُجيب عليه بل تنظر إليه وتستمع إلى حديثه وكأنها في داخلها تعيد ترتيب الأمور مرة أخرى، ولكنه لن يعطيها هذه الفرصة:
-متزعليش من كلامي أنا آسف.. ده يوضحلك قد ايه بحبك يا حبيبتي
أومأت إليه برأسها وصمتت عن الحديث وقلبها ثائر داخلها، ينعتها بأفظع الكلمات، كيف لها أن تستمر عام كامل في ذلك الضغط الذي وضعت نفسها به، كيف لها أن تكون على علم أنها تحبه ولا تريد غيره وتغصب نفسها على تقبل آخر ليصبح شريك حياتها؟
استمعت إلى صوته الحاني يهتف بابتسامة عريضة على وجهه الوسيم:
-وعلشان متزعليش بجد أنا كنت عاملك مفاجأة هتفرحك أوي
تسائلت بجدية واستفهام:
-مفاجأة! مفاجأة ايه؟
مد قدمه للأمام قليلًا ثم مد يده اليمنى إلى جيب بنطاله وأخرج منه ورقة صغيرة مطوية، قدمها إليها بنفس تلك الابتسامة:
-دي المفاجأة
أمسكت بالورقة وفتحتها لتقرأ ما بها وقد كان شيك يحتوي على مبلغ كبير منه، رفعت نظرها إليه وعينيها تتسائل قبل شفتيها التي تحركت بجدية:
-دا شيك بنص مليون
أكمل هو على حديثها موضحًا إنه للجمعية الخاصة بها، ليجعلها تسعد وتتناسى ما الذي كان يتحدث به معها إلى مرة أخرى سيخرج كل ما في قلبه وقلبها وسيفعل ما يحلو له:
-للجمعية.. تبرع من شركة الصاوي ياستي
-بجد؟
أومأ إليها برأسه وأردف مُعقبًا:
-آه والله بجد
قدمت يدها إليه وأمسكت يده تضغط عليها بقوة تعبر له عن امتنانها إليه بعد ذلك المبلغ الذي قدمه إليها:
-شكرًا بجد يا هشام.. مش عارفه أقولك ايه
تعمق في النظر إلى عينيها وأخرج صوته بنبرة رخيمة شغفوة مُطالبًا بالمزيد منها:
-متقوليش حاجه غير بحبك... نفسي اسمعها منك
سحبت يدها مرة أخرى ونظرت إليه بجدية شديدة، ابتلعت ما وقف بجوفها، لو يعرف أنها لو تستطع قولها لفعلت ولكنها لا تستطيع قولها إلا لشخص واحد فقط، ليته يعود عما يفعل:
-كل حاجه في وقتها أحسن
أومأ إليها مُبتسمًا وأجاب بهدوء تاركًا لها الفرصة لتفعل ما تشاء:
-ماشي وأنا هستنى لوقتها
❈-❈-❈
عادت إلى الفيلا قبل أن تغمر السماء النجوم وقمرها يسطع في مكانه، تجنبًا لأي حديث قد يصدر من "عامر" ناحيتها ثم بعد ذلك يتشاجر مع والده، وهي لا تريد هذا، دلفت بسيارتها إلى الداخل وبقيت بها قليلًا، عقلها يدور معها حول أفكاره عن الذي من المفترض أن يحدث بينها وبين "هشام"
إنه شاب مجتهد للغاية وطموح، يحبها ويريد الزو'اج منها، وسيم ومقبول بالنسبة إليها وله كل المواصفات التي تريدها أي فتاة للزواج، تعرفه منذ عام مضى تطورت العلاقة بينهم إلى أنه أراد الزواج منها وهي بكامل الغباء لم تمانع بل وافقت ولكنها أجلت الفكرة قليلًا..
بعد كل هذا هي لا تحبه.. لا تريده، إنه من الممكن أن يكون صديق، شقيق، أي شيء غير أنه يأخذ مكان "عامر" في قلبها وحياتها، لا تستطيع النظر إلى رجل على هذا الأساس، لقد ترك "عامر" كل صفاته داخلها، ترك حبه وهوسه بها، ترك جنونه وحنانه عليها، وإلى اليوم لا تستطيع رؤية غيره..
ما الذي ستفعله مع "هشام" كيف ستتقبل أن يكون في موضع "عامر" وكيف من الأساس ستجعله يأتي ليطلبها!.. هناك مئة سؤال في رأسها جميعهم يريدون إجابة وهي لا تمتلك ولا إجابة واحدة منهم..
تنهدت بضيق ثم أخذت المفتاح من السيارة وأخذت حقيبتها وهمت بالنزول منها عندما رأته يحاول أن يصف سيارته جوارها هو الآخر، هبطت منها وفتحت الحقيبة لتضع بها المفتاح ولكنها عندما وضعته لم تجد الهاتف بها..
بحثت عنه في تلك الحقيبة الصغيرة لم تجده فأخذت المفتاح مرة أخرى وعادت للسيارة تحت أنظاره داخل سيارته، فتحتها ثم دلفت مرة أخرى ووجدت الهاتف بها، أخذته وعادت مرة أخرى لتغلقها ثم تقدمت تسير إلى الداخل مجاهدة بقوة مع عينيها ألا تنظر إليه..
يالا الألم الذي يشعر به داخل قلبه، يتلوى على جمر مشتعل، يحترق كل لحظة يراها بها، بعد كل ذلك الحب والانتظار تتركه بهذه الطريقة! يكن كالغريب بالنسبة إليها ولا تريد النظر إليه حتى، لا تريد الحديث معه ولا التقدم منه خطوة بعد أن كان لها الحياة وما فيها.. الألم الذي بداخله يكاد أن يقتله كلما رآها هكذا.. يشتهي قربها بشدة.. يشتهي وجودها بحياته كما السابق..
الآن يتركها تفعل ما تريد ولكن في النهاية لن تكون لغيره، لن تكن إلا زوجته وفي مرقده..
خرج من السيارة هو الآخر وسار خلفها للداخل، في طريقة لفت نظرة ورقة بيضاء نظيفة على الأرضية على غير العادة، ربما وقعت منها.. انخفض إلى الأسفل أخذها بين يده ثم وقف شامخًا مرة أخرى وفتحها بفضول ليرى ما محتواها وقد كان صادمًا للغاية بالنسبة إليه..
اشتعل قلبه أكثر وسارت النيران به تتدفق في الأوردة، احتدت مسكته على الورقة ونظرة عينيه تحولت مئة وثمانون درجة، أخذ صدره يرتفع وينخفض بعنف وقوة كبيرة نتيجة لغضبه العارم الذي وُجد بعد نظرته ورؤيته لمحتوى هذه الورقة الصغيرة..
من أين تعرف "هشام الصاوي"؟ وما الذي أخذه منها مقابل هذا المبلغ؟..
نظر إلى البعيد ليراها تقف أمام بوابة الفيلا وتهم بالدخول لتختفي من أمامه وتحتمي في من بالداخل ولكنه لم يتركها تفعل ذلك وصرخ بكل صوته مناديًا باسمها بعصبية وغضب..
انتفضت عندما استمعت إلى صوته على حين غرة وشعرت بالخوف للحظة، ثم تذكرت أنها لم تفعل شيء فأخذت نفس عميق واستدارت تنظر إليه بجدية.. رأته يتقدم منها بعصبية وطريقة همجية وأتت عينيها على الورقة بيده ولكنها لم تكن تعلم أنه الشيك الذي أخذته من "هشام"..
وقف أمامها وهتف بنبرة حادة قاسية وملامح جادة مُخيفة وعينيه عليها بدقة عالية:
-تعرفي هشام الصاوي منين؟
أنهى تلك الجملة الصغيرة رافعًا الشيك أمام عينيها، اتسعت عينيها أكثر مما هي عليه، شعرت بالذعر الشديد والتوتر انتهابها خوفًا من أن يعلم بعلاقتها معه، إن علم بذلك لن يمر الأمر مرور الكرام عليها أبدًا مهما كان يحدث بينهم ومهما كانت تظهر إليه القوة والا مبالاة فسيبقى هو "عامر" الذي تعرفه وستبقى هي "سلمى" خاصته التي لن يجعل أي شخص مهما كان من هو يقترب منها..
❈-❈-❈
دلف "هشام" إلى مكتب والده في فيلا "الصاوي"، التي لم تكن تقل أبدًا في الجمال والروعة أي شيء عن فيلا "القصاص"، ألقى عليه التحية وجلس بهدوء على المقعد المقابل له..
نظر إليه والده بجدية، ولم تكن تلك الحدة المرتسمة على ملامحه سوى الخوف الشديد لأي أحد آخر ينظر إليه.. عينيه حادة سوداء كابنه وأكثر، تجاعيد وجهه تحمل القسوة والغضب وكأنه غاضب من نفسه قبل أي أحد.. شفتيه مزمومة بطريقة غريبة وكل هذا ما هو إلا وصف بسيط يعبر عن جديته..
تسائل بجدية شديدة وقوة ونبرته حادة:
-ها عملت ايه
أجابه ابنه بجدية هو الآخر مثله وتحولت ملامحه إلى الضيق الشديد وربما أن يكون عندما دلف إلى هنا ظهرت ملامح وجهه الحقيقية كوالده:
-لسه يا بابا
وقف والده على قدميه بعد أن نفذ صبره ووصل إلى حافة الهاوية، لقد انتظر الكثير وما حدث معه لم يكن إلا تدبير القدر وعليه هو أن يغير ذلك.. ولم يكن إلا عن طريق ابنه المعتوه الذي لم يفعل أي شيء إلى الآن معها، صرخ بقوة بصوت حاد وقد ثار عليه بعد الاستماع إلى حديثه المُهلك للأعصاب:
-كل شوية لسه يا بابا لسه يا بابا.. البت دي لازم تموت وتحصل اللي قبلها
❈-❈-❈
"يُتبع"
متنسووووش تفااااااااعل
تكملة الرواية بعد قليل
تعليقات
إرسال تعليق