القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الخامس عشر 15بقلم سيلا وليد  


رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الخامس عشر  15بقلم سيلا وليد   






رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الخامس عشر  15بقلم سيلا وليد   



 الفصل الخامس عشر 


"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "


كم هو موجِعٌ أن يقف المرءُ أمام مَن ربّاه قلبًا قبل اليد، فيراه يتصدّع بين حقيقةٍ تُثقل صدره، وأمٍّ أخرى تناظر المشهد بصمتٍ يخنق الكلام.


كأن الأرواح جميعها تُساق إلى محكمةٍ بلا قاضٍ، والدمع هو الشاهد الوحيد على ما ضاع وما لم يُقل.


وحين يرحل الجسد عن الدنيا، لا يفكّر القلب في الدم ولا في الأسماء، بل يتذكّر الحنان الذي أسنده، واليد التي مسحت دمعه.


فالموت يجرّدنا من المقارنات، ويتركنا نتشبّث فقط بما أبقى الأثر في الروح… وإن جاء الفقد، فلن يسأل المرء: "أهذه أمّي أم تلك؟"


في اليومِ التالي لوفاة صفية، كان جالسًا في ركن الغرفة، وبين يديه مصحفه الذي لم يفارقه منذ أن أسلمت الروح الطاهرة إلى بارئها..يقرأ بعينينِ تسبح بين آياته، وصدره يعلو ويهبط بأنفاسٍ متقطِّعة من الحزن، وكأنَّ كلَّ حرف يذكِّره بها أكثر..لم يعد يملك سوى البكاء عليها، وشعور العجز الذي ينهش قلبه.. 


دلفت غرام بخطواتٍ متردِّدة، وجلست بجواره، ثمَّ مدَّت يدها تربت على كتفه برفق، وأردفت بصوتٍ متهدِّج:


- أرسلان..


أغلق مصحفه ببطء وصدَّق، نظر إليها بصمتٍ ثقيل كصخرةٍ جاثمةٍ على صدره.

حبيبي، أخرج برَّة شوية..الولاد مش مبطَّلين عياط.


أطرق رأسه، وتحدَّث بصوتٍ خرج مبحوحًا:


غرام...مش قادر أتكلِّم، ولا ليَّا نفس أعمل أي حاجة.


احتوت كفَّيه بين راحتيها، وطالعته بعينينِ تتوسَّله:


إيه رأيك نخرج نروح أي مكان، تيجي نروح الحُسين؟.


هزَّ رأسه بالنفي، وقال بوجهٍ شاحب الملامح:


- لا..مش عايز، سبيني شوية لو سمحتي.


طيب..إنتَ مأكلتش بقالك يومين، إيه رأيك أجهِّزلك حاجة خفيفة؟


لم يجب، رفع ذراعيه ووضع المصحف في مكانه بعناية، ثم نهض بخطواتٍ متثاقلة..


أنا خارج، خلِّي بالك من نفسك والولاد.


أمسكته سريعًا، وتكوَّرت عينيها بالدموع:


رايح فين، حبيبي؟!


انحنى يقبِّل جبينها، صوته بالكاد يُسمع:


رايح أشوفها..."


قالها بصوتٍ يختنق وتقطع بالحروف، ثمَّ استدار يمضي إلى المكان الذي لا عودة منه..


وصل بعد قليل، توقَّف أمام القبر، كأنَّ الأرض كلَّها توقَّفت معه، هنا انفجرت عينيه بالدموع حتى غامت الرؤية أمامه..سقط جاثيًا على ركبتيه، يضغط صدره بيده وكأنَّ الألم يحفر داخله.


جلس أمام القبر، صامتًا، يحدِّق في ترابه بعينينِ متورمتين، ودقَّات قلبه تصرخ بلا صوت..دقائق مرَّت عليه ببطءٍ قاتل، كأنَّها سنوات عمره التي بدأت تنهش روحه دون رحمة..تمنَّى أن يفتح قبرها ويضمُّها لصدره، ولكن كيف؟.. 

كيف يفعل ذلك، وهذه الحقيقة الوحيدة التي كلَّنا سنلتقي بها، هنا لايوجد فرق بين غني وفقير، متعلِّم وجاهل، بين طفلٍ وعجوز..كلَّنا سواسية..نعم عزيزي القارئ..


أمام هذا الصمت الأبدي، الذي يقف عند الحقيقة الوحيدة في دنيا الوهم..ألا وهو القبر..هذا الباب الذي نعبره جميعًا ولا نرجع منه أبدًا، بيت الغربة الذي لا جدران تحميه ولا أبواب تُغلق، حفرة ضيِّقة لا يسكنها سواك وعملك، حيث تتساوى الملوك والعبيد، وتذوب الألقاب، ويسقط كلُّ ماكان يومًا يُشعرك بالسلطة والقوَّة، ولا يبقى لك سوى ما قدَّمته يداك.. رهبة القبر ليست في ظلامه وحده، بل في صمته الذي يسألك بلا صوت، ماذا جئتَ به؟


أخيرًا خرج صوته، متهدِّجًا، مثقلاً بآلامٍ تجثو فوق صدره كثقلِ جبال:


آسف..آسف ياماما..بعدت عنِّك في آخر أيامك، والله لو كنت عارف، ماكنت فارقتك لحظة واحدة...ليه ماقلتيش إنِّك تعبانة؟ ليه خبِّيتي عنِّي؟


مدَّ يده ليمسح التراب برفق، وكأنَّه يربت على كتفها في العالم الآخر، وتابع بصوتٍ مختنقٍ من جديد:


إيه اللي حصل؟.احكي لابنك..مش أنا ابنك ياماما، وحشتيني أوي، قولي لي إزاي هتحمِّل فكرة إنِّك مابقتيش موجودة؟.. 


تدفَّقت دموعه كالسيل، انحنى برأسه حتى لامس قبرها، ورفع ذراعيه يحتضن القبر، يتمنى أن يحتضن جسدها وقال بصوتٍ مرتجف  يقطع صدره:


زعلانة منِّي؟..عارف إنِّك زعلانة، 

بس أنا كنت عايز أخلِّيكي معزَّزة مكرَّمة..مفكرتش إنِّك هتضيعي قبل مااشبع منك وتاخدي حقِّك..بس وحياة كلِّ وجع عليكي، لأجبلك حقِّك من أحلام..

رغم إنَّها قدمتلي أحسن هدية، بس هاخد حقِّك، نامي وارتاحي ياستِّ الكل..صمت ولم يقو على النهوض، كيف يتركها وحيدة هنا، أطبق على جفنيه رافضًا تركها، شعر بنخر عظامه


ضغط على صدره وهو يهمس بحشرجة مميتة

- قلبي وجعني ومش قادر أتنفِّس..مش قادر أتنفِّس في الدنيا من غيرك، إزاي أنا ضعيف كدا!.


بقي هكذا لوقت، ينظر صامتًا للقبر وكأنَّه يحتضنها للمرَّةِ الأخيرة..وضع رأسه على القبر، ومرَّر كفيه، حتى غفا بمكانه لا يشعر بما يدور حوله..


بعد قليل، وصلت فريدة وإلياس إلى المقابر، كانت فريدة قد مرَّت على بيته أوَّلًا، ومن خلال كلمات غرام علمت بوجوده هنا.


خطت بخطواتٍ متسارعة، عيناها تبحث عنه بلهفة، توقّّفت فجأة، تشير نحو إلياس:


هوَّ فين..مش هنا..مش دا القبر؟..


دارت أعينهم في المكان، حتى خرج مسؤول المقابر، فاقترب إلياس يسأله:


فين صاحب العربية اللي هناك دي؟.


أشار الرجل إلى قبر صفية، فاتَّجه إلياس نحو والدته، يطوِّق أكتافها ليقودها إليه وقال:


قدَّام..مش دا القبر؟


وصلوا بعد دقائق معدودة، دفع إلياس الباب؛ ليقف مذهولًا ينظر إلى فريدة التي انفجرت بالبكاء لرؤية وليدها غارقًا في حزنه بجوار القبر..تركت ذراع إلياس وتحرَّكت نحوه بخطواتٍ مرتعشة، صوتها يختنق بالدموع:


اسم الله عليك ياروحي...


اقتربت منه، هاتفة:


تعال شوف أخوك ماله، ياإلياس..


جثا إلياس على ركبتيه بجواره، رفع رأس أخيه برفق، يهزُّه محاولًا إفاقته:


أرسلان، فوق ياحبيبي.

فتح عينيه ينظر حوله بتيه، وكأنَّه تناسى ماصار له..

ساعده إلياس على النهوض وهو مازال تحت الصدمة، هل هو غفا بجوار القبر دون أن يشعر؟!.

مسَّدت فريدة على خصلاته بحنان: 

-كدا تقلقني عليك، هونت عليك توجع قلبي كدا يابني؟. 

هنا فقد كلَّ الشعور، ولم يتبقَ سوى إحساس الفقد ليهمس ببكاء:

-آسف..متزعليش منِّي، هيَّ كانت..هيَّ كانت، ظلَّ يتمتم بها إلى أن سحبته لأحضانها وبكت، وكأنَّها لم تبك من قبل..شهقات مرتفعة.. 

-أنا إزاي ضعيف كدا ياماما، قوليلي أعمل إيه علشان أتقبِّل إنِّي مش هشوفها تاني؟!. 


احتضنت وجهه وبكت على بكائه: 

-كدا ياأرسلان، كدا تعمل زي العيال، أومال لو مش راجل ياحبيبي، ينفع نعترض على ربِّنا!..أنا بجد مصدومة فيك..

قبَّل كفَّيها ونظر إليها: 

-أنا اللي ودِّتها هناك ياماما. 

-مفيش حاجة اسمها إنتَ اللي ودِّتها، دا عمرها وقدرها ياحبيبي لازم نرضى بالقضاء والقدر، أومال لو مش صفية الله يرحمها مربياك على الحلال والحرام..هيَّ دلوقتي بتتعذِّب من كلماتك دي.

-خلاص ياماما مش وقته ولا مكانه..أردف بها إلياس لأنَّه يشعر بكمِّ الألم الذي يطبق فوق صدر أرسلان.. 

أشار إليهم بالتحرُّك: 

-يالَّه الدنيا هتليِّل وكمان غرام زمانها قلقانة عليك. 


حاوطته فريدة وأشارت إلى إلياس: 

-روح إنتَ ياحبيبي وأنا هرجع مع أرسلان.

اتَّجه بنظرةٍ متردِّدة إلى أرسلان وقال برفض:

-لا بلاش يسوق بحالته دي، هنرجع مع بعض وأبعت حد ياخد عربيته.

-لا..أنا كويس. 

-إنتَ تمشي وتسكت وبس، مش شايف نفسك عامل أزاي؟.مش هينفع تسوق كدا وكمان الستِّ فريدة عايزة ترجع معاك..هرجع بيكم مش ناقص خوف عليكم.. 

أومأ بصمت فهو بحالةٍ لايريد الجدال.. 

جلس بجوار فريدة التي سحبته لأحضانه تمسد بحنان على خصلاته، وعيناه تنظر بضياع للخارج:

-هي مكنش ليها غيري ياماما، انتي كان عندك إلياس ابنك، مش هقول ميرال، بس ابنك طول السنين دي كلها قدامك حتى لو مكنتيش تعرفي، بس عيشتي معاه الأمومة، لكن هي مكنش عندها غيري، حياتها كلها ارسلان وبس، ولما ملك مامتها ماتت مكنتش بتقدر تقربلها بسبب احلام اللعينة، تقولها ابنك عندك، حاولت تبعد ملك عنها، فكانت تقولي، اه زعلانة على ملك بس ربنا عوضني بيك، دا قبل مااعرف انها مش امي

رفع رأسه ينظر بأعين فريدة الباكية 

-عارف انك هتزعلي مني، بس انا معرفتش حنان غير معاها، حياتي كلها كانت في امي صفية..تلاتين سنة وكل الحب والحنان لارسلان بس

ولما ظهرتي خافت تتحرم مني، وعدتها مش هبعد عنها، وكان كل كلمة بسيطة تزعل وتقولي ماهو بقى ليك ام تانية


محبتش اكسر بخاطرها ، عارف انتي زعلانة، بس انا حياتي كلها كانت معاها هي ..دي وقفت لجوزها علشاني، اخترتني انا وتركت حياة عاشتها مع جوزها علشان ارسلان، وفي الاخر انا وديتها للموت 

احتضنت وجهه وازالت دموعه، وقالت بصوت مبحوح:

-مش زعلانة منك ياحبيبي، لأنك ابن حلال، وعملت بأصلك وتربيتك، ادعي لها ياارسلان، هي مش محتاجة غير دعواتك

وضع رأسه على كتفه وصمت بعدما شعر باختناق أنفاسه 


بمنزل يزن.. 

دلفت رحيل بقهوته وجدته مكبًّا على جهازه، وضعت القهوة وجلست بمقابلته: 

-كلِّمت إلياس يايزن؟.

أومأ لها وهو يتابع عمله، تنهَّدت وقالت:

-إنتَ فعلًا عايز تدخَّلها مستشفى المجانين يايزن، إنتَ مقتنع بدا؟.

-لا طبعًا..استدار بكرسيه إليها:

-بصِّي يارحيل مهما عملت رؤى فهيَّ أختي، ومينفعش أتخلَّى عنها، فتحت فاهها لتتحدَّث، ولكنَّه أشار إليها بالتوقُّف: 

-رؤى مرضها حقد، عيونها على اللي في إيد غيرها، غير أنَّها مستكترة على ميرال حياتها، يعني دي أختي، عقلها المريض صوَّرلها لو ميرال اختفت من حياتها هتكون ملكها، وخصوصًا إنَّها تعرَّضت لتاخد المكان دا، الغلط مش على رؤى بس، إلياس كمان غلط، فتح لها الباب من الأوَّل ودي رسمت خيالات..سواء مرضيَّة أو سليمة، في الأوَّل والآخر هيَّ عايزة تاخد الحياة دي..طبعًا رانيا عرفت نقطة ضعف رؤى ولعبت على الحتَّة دي، علشان كدا الراجل استخدمها صح.


بس اللي أعرفه إنِّ إلياس مش هيسامح.

-ميسامحش، حقُّه، بس دي بنت، ومستحيل ارميها في الشارع، ترضيها على جوزك، ومهما عملت هتفضل أختي، وزي مابخاف على ميرال لازم أحميها من نفسها، وكمان أحمي إلياس من غضبه.

-بس هيَّ مش محتاجة مستشفى يايزن.

-عندك حق، هيَّ فعلًا محتاجة تفوق من الحقد والغضب، ماهو لو إلياس حبسها وعذَّبها هيستفاد إيه، بالعكس كرهها وحقدها هيزيد، إنَّما لو اختلطت بالناس المريضة بعقولها ممكن تفوق وتعرف قدِّ إيه إنَّها كانت عايشة في نعمة. 

هزَّت رحيل رأسها باعتراض: 

-مش موافقة، ولا قادرة أقتنع.

-بس أنا مقتنع وعارف هعمل أيه، وميرال عارفة وموافقة. 

زفرت أنفاسها بيأس وأشارت إلى قهوته:

-اشرب القهوة لمَّا أروح أشوف الولاد،  آسر كان مقموص عايز ينزل النادي. 

ارتشف قهوته ونهض من مكانه: 

-هشوف أرسلان لمَّا تراجعي مع الولاد، عايز أرجع نقعد مع بعض شوية. 

اقتربت منه وأردفت بارتباك: 

-عايزة أشوف إلياس عمل إيه في قضيِّة الشركة بتاعة مختار زفت دا.

-لا، أنا هعدِّي عليه وأسأله، وأشوف ميرال كمان. 


في منزل طارق، كان واقفًا أمام نافذته يتأمَّل الحديقة بصمت؛ ارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة حين تذكَّر حديثها بمكتبه منذ عدَّة أيَّامٍ بعدما طلب مقابلتها:


طارق، أنا مش قادرة أشوف نفسي مع حد غيرك..اتخطبت تلات مرَّات، وحقيقي تعبت، بابا كلِّ يوم سين وجيم، وعيون ماما فريدة كلَّها اتِّهامات، الفترة اللي فاتت إلياس كان مشغول بميرال، مرعوبة من فكرة إنُّه يعرف ولَّا إسلام، هيبقى شكلي وحش.


نهض من مقعده واتَّجه إليها بخطواتٍ هادئة، انحنى أمامها يمسح دموعها براحتيه: 


وأنا كمان تعبت من نظرات الاتِّهام دي ياغادة…قولي، مطلوب منِّي إيه أعمله عشان أريَّحك؟


نهضت من مكانها، حدَّقت في عينيه برجاءٍ:


حاول مع بابا تاني..يمكن يوافق، خايفة من الغلط اللي عملناه.


هزَّ رأسه بأسى، وأجاب بصوتٍ منخفضٍ:


مرِّتين ورفض ياغادة، عايزة تكسَّريني؟


صاحت بغضبٍ يائس:


لو بتحبِّني، اتصرَّف..شوف أنا بعمل إيه، وإنتَ واقف سلبي..إيه يعني لو جرَّبت تاني؟


اقترب منها، واحتوى وجهها بين كفَّيه بثباتٍ يشوبه قلق:


أوعدك هحاول…بس عندي اقتراح نجرَّبه..يمكن باباكي يزعل شوية، بس في الآخر هنكون مع بعض.


في اليوم التالي..

وصل إلياس إلى المنزل الذي تقيم فيه رؤى وصديقتها تقى..أشار إلى مالك:


ارجع…واعمل اللي قلت لك عليه.


طيب، مختار هتزوره؟


أكيد..عنوان المستشفى فين؟


تمتم مالك بالعنوان، فاكتفى إلياس بابتسامةٍ قصيرة وأشار إليه بالذهاب.


طرق الباب مرارًا الى أن فتحت تقى، تجمَّد جسدها المرتعش وهي تحدِّق في قامته المهيبة..


فين رؤى؟


أشارت بصمتٍ نحو الداخل، فدلف بخطواتٍ باردة، عيناه تمسح المكان  كالصقر.


خرجت رؤى تحمل قهوتها، تهتف: 

-تقى، ولكنَّها صمتت بعدما وقعت عينيها عليه، تجمَّدت في مكانها، وسقط فنجان القهوة من يدها، وتمتمت باسمه بصوتٍ مبحوح:


إلياس..


ابتسم بسخريَّةٍ مخيفة، واقترب خطوةً وهو يقول ببرودٍ متوحِّش:


إيه ياحيوانة، فاكرة هتعرفي تتخبِّي منِّي؟


إلياس، والله أنا بس..


لم يُمهلها وقت، في لحظةٍ واحدة قبض على شعرها بعنفٍ مروِّع، يجرُّها كدميةٍ، ثمَّ دفعها بقسوةٍ على الأرض.


من إمتى وانتي حيَّة كدا يابت؟ دا أنا لمِّيتك من الشارع، ويكون جزاتي كدا؟


ارتفع بكاءها وهي تتوسَّل:


اسمعني بس ياإلياس..


لفَّ خصلاتها على كفِّه، جذبها بقسوة حتى شعرت أنَّ فروة رأسها ستُقتلع، اقترب منها بصوتٍ غليظٍ كالرعد:


ليه، ليه تعملي كدا..يوسف ماصعبش عليكي ياحيوانة؟


صرخت بألمٍ هستيري تحاول فكَّ قبضته:


والنبي ياإلياس…


لكنَّه لم يسمع سوى صرخاتها التي أشعلت وحشيَّته أكثر، دار بها في المكان كأنَّه يذيب غضبه في جسدها النحيل:


عارفة أنا عايز أعمل فيكي إيه؟ عايز أدوَّقك كلِّ أنواع العذاب، أقسم بربِّي لأدوَّقك أنواع العذاب كلَّها يارؤى..

هخلِّيكي تدوقي اللي هيَّ داقته أضعاف مضاعفة، لو مش دفنتك في قبر حيَّة كدا، وعرَّفتك إنِّ الله حق..

-دا كلُّه ليه..واحدة ماشكرتش ربِّنا على حياتها، ليه هيَّ اللي الكلِّ بيجري وراها، حتى إنتَ ياباشا، وقَّعتك على وشَّك وداست على رجولتك وبرضو على قلبك زي العسل.. 

حدجته بنظرةٍ ناريَّة وتابعت سمومها: 

-شوف مين اللي واقف بيدافع عنها، مش دي اللي المفروض تموِّتها، خلِّتك أضحوكة ياإلياس باشا، بس طبعًا مش قادر تعترف بكدا، فقولت ترجَّع رجولتك من البنتِ الغلبانة، أمَّا..بتر حديثها بعدما لطمها لطمةً كالصاعقة، طرحتها أرضًا باكيةً بصوتٍ متحشرج، انحنى نحوها، وشياطين الإنس والجنِّ تدقُّ كناقوسٍ بعقله حتى كاد أن يفقده ويطرحها قتيلة، تحوَّلت عينيه للهيبٍ مستعر وهو ينظر إليها بغضبٍ جحيميّ، يطبق على عنقها كي يقطع أنفاسها، لكن ثانيةً واحدة كانت الفاصلة ليرتفع رنين هاتفه، يدفعها بقدمه كمرضٍ معدي، وهمس بفحيح:

-لا مش هريَّحك وأموِّتك بسهولة، ولكن ارتفع الرنين مرَّةً أخرى، ليسحب هاتفه صارخًا: 


إيه اللي حصل يامالك؟


أستاذة غادة..في شقِّة (…) مع طارق.


مرَّت أيام العزاء ثقيلةً كالجبال على صدره، كلَّ نفسٍ يلتقطه يُنتزع من روحه انتزاعًا..كان بعيدًا عن الدنيا، بعيدًا عن كلِّ مايدبُّ فيها من حياة، لا يسمع سوى صوتها ينساب في أذنيه، ضحكاتها، كلماتها، حتى صمتها…


طرقاتٍ خفيفة دوت على باب غرفته، لكنَّه لم يحرِّك ساكنًا، كأنَّه لا يريد أن يسمع..دلف إلياس إلى الداخل، وقف يراقبه لحظةً طويلة، ثم تقدَّم بخطواتٍ متردِّدة وجلس إلى جواره.. مدَّ يده يسحب صورة صفية من بين أنامله المرتجفة، وجمع ببطءٍ بعضًا من ملابسها وحليَّها في صندوقٍ صغير، ثمَّ أغلق الصندوق، هنا شعر أرسلان بأنَّه أغلق معها صفحة حياته كاملة.


أشار إلياس إلى بلال الواقف على عتبة الغرفة يراقب بصمتٍ مهيب:

– خد ياحبيبي..إدِّي الحاجات دي لمامتك.


لكنَّه خطف الصندوق من يده بعنف، وأردف بصوتٍ يتهدَّج بغضبٍ مكلوم:

– لا!.محدِّش هياخدهم..أنا أولى بيهم.


لم يستسلم إلياس، رفع الصندوق مجدَّدًا يحاول تهدئته ونظر إلى بلال:

– حبيبي، اسمع الكلام..


في تلك اللحظة وصل يوسف، اقترب من والده، فأشار له إلياس أن يساعد بلال في حمل الأشياء، بينما عينا أرسلان تتابع حركاتهم كأنَّهم يسحبوا حياته مرَّةً أخرى..التفت إلى صوت إلياس الذي قال بحدَّةٍ ممزوجةٍ بالحزن:

– وبعدين، هتفضل كدا لحدِّ إمتى؟ لمَّا إنتَ تعمل كدا..أومال سبت إيه لملك؟


رفع أرسلان رأسه:

– ملك ماكنتش بنتها..أنا بس اللي ابنها.


ابتسم إلياس بسخريةٍ مُرَّة، وهزَّ رأسه:

– أممم..وإيه تاني ياراجل ياكبير، هوَّ فيه حد عاقل ومؤمن يعمل اللي إنتَ عامله دا؟ دا لو طفل مايعملش كدا!.


تراجع بجسده للخلف، وأغلق عينيه ليستريح من ثقل الدنيا كلَّها:

– سبني لوحدي..مش عايز أسمع صوت حد..روح بيتك، جاي عندي ليه؟..


-أرسلان، ليه بتعمل كدا؟. 

فتح عينيه وقال:

-أنا السبب في موتها، هيَّ كانت عايزة تفضل معايا بس أنا اللي ودِّتها للموت.. 

-إنتَ مصدَّق اللي بتقوله دا، فين إيمانك بربِّنا، هوَّ فيه حد بيموت قبل عمره، قوم يالَّا تعال معايا، شوف بنت عمَّك المجنونة عاملة إيه.. 

تمدَّد على الفراش يهزُّ رأسه: 

-لا مش عايز، قوم وسبني في حالي. 

نهض إلياس واستدار إليه، ثم سحبه: 

-قوم مش هسيبك، يالَّه علشان نتغدَّى مع بعض، وعايز أقولَّك حاجة مهمَّة..

-إلياس سبني بقولَّك. 

-قوم وبطَّل مناهدة، لاحظ أنا قاعد مع ميرال ويزن في مكان واحد. 

-ماله يزن عمل إيه، مشفتوش من يوم العزاء.

أوقفه وقال:

-تعال وهحكي لك..تحرَّك معه بصعوبة إلى الخارج..قابلته غرام وهي تحمل قهوة إلياس..أشار إليها: 

-لا ، هاتي الولاد..ميرال عاملة غدا.

-كلِّمتني..قالتها غرام وعيناها على أرسلان.. 

التفت إليها وقال: 

-هاتي الولاد عند إلياس ولو عايزة أوصَّلك عند باباكي.

اقتربت منه بعدما تركهم إلياس: 

-إنتَ عامل إيه دلوقتي؟. 

-كويس، اجهزي علشان أوصَّلك. 

-لا..أنا كلِّمت زياد هيعدِّي عليَّا بعد الشغل..أمسكت كفيه

-قلبي وجعني عليك وعاجزة 

سحب رأسها وتكورت الدموع بعينيه

-متعمليش حاجة...!!

-طيب ممكن تقوى علشاني أنا ..صمت ينظر إليها ثم هز رأسه

-بحاول صدقيني..قالها وتحرَّك للخارج، بينما هي ظلت تراقبه إلى أن اختفى.. 


بعد فترة.. 


ظلَّ بجواره إلى أن غفا، انحنى يلثم جبينه ومسَّد على خصلاته بحنان، ثمَّ رفع نظره إلى زوجته: 

-فيه حاجة؟. 

-أوَّل مرَّة أشوف فيك إلياس الأخ. 

حاوط كتفها وخرج حتى لا يزعجه بالضجيج ثمَّ أردف:

-بلال وضي فين؟. 

أشارت للأعلى قائلة:

-في أوضة يوسف فوق، وغرام نزلت تشوف باباها حالته متأخَّرة..

أومأ بتفهُّم ومضى إلى الخارج وهو يتمتم:

-المصايب لمَّا تيجي بتيجي مرَّة واحدة..اقتربت منه تربت على كتفه:

-طيب اطلع ارتاح شوية، وأنا هنا هفضل جنبه لو احتاج حاجة.. 

-لا والله..يعني أنا أنام فوق ومراتي تحت بتواسي أخويا!.. 

-أديك قولت أخوك متنساش إنُّه ابنِ عمِّي، مش واحد من الشارع، أنا غلطانة خلِّيك لمَّا توقع من طولك..قالتها وتحرَّكت للأعلى، بينما هو مسح على وجهه يستغفر ربِّه:

-غبية..

سمعتك على فكرة..ابتسم رغمًا عنه ثمَّ هوى على الأريكة بجسدٍ منهك..توقَّفت واستدارت تبحث عنه، اتَّجهت نحوه مرَّةً أخرى، كان مستندًا بجسده إلى الأريكة مغلق العينين.. 

جثت على ركبتيها أمامه: 

-حبيبي قوم ارتاح 


مش قادر أسيبه لوحده، صعبان عليّا… أنا عشت يعني إيه فقدان حد بتحبه صعب أوي، حتى لو كنت طفل، يمكن ما لحقتش أتعلق زيّه، بس الوجع… الوجع مابيروحش.


اقتربت وجلست بجواره، ولمع عيناها بالدموع وهي تقول:


بس عندكوا ماما فريدة… إنتوا نسيتوا ولا إيه، عارفة أرسلان متعلق بيها أوي، بس أمه الحقيقية لسه حسها في الدنيا موجود…


مدّ يده بحنان، يملس على شعرها وقال:


تقدري تبعدي عن ماما فريدة؟


هزّت رأسها سريعًا، وتلألأت الدموع كالنجوم بعينيها:


أموت… مقدرش، دي كل حياتي. كانت أمنيتي الوحيدة أرجع بس علشان أقولها سامحيني…


ارتجف صوتها بالبكاء، حتى تحول إلى شهقات متقطّعة. احتواها إلياس بين ذراعيه، يسحبها إلى احضانه:


شفتي.. اهو أرسلان كدا… طنط صفية الله يرحمها كانت له كل حاجة. أيوه عارف إن ليه أم تانية، بس عمره كله في حضن الست دي… تستاهل الحزن ده كله.


صمتت قليلًا، ثم نظرت إليه بعينين دامعتين:


طيب وانت، يا إلياس… ليه بحسّك لسه بتعامل ماما فريدة على إنها مرات بابا مصطفى، مش أكتر


ابتسم ساخرًا، وضع ذقنه فوق رأسها وقال ببرودٍ مصطنع:


مين قال كدا؟ أنا أصلاً ما كنتش بعاملها زمان على إنها مرات أبوي، علشان دلوقتي أغيّر وأتعامل كدا.


لكزته بيدها غاضبة:


أومال؟ لو مكنش قدّامي، بتضحك على مين يا ظالم يا مفتري…


رمقها بنظرة متوعّدة، وأشار إلى صدره:


ضربتيني، واتهمتيني بظالم ومفتري بصي… لو ما رجعتيش حالًا تتأسفي، هتشوفي الظالم المفتري هيعمل إيه.


ضيّقت عينيها، تحدّق فيه بصمت لثوانٍ، ثم اقتربت منه، طبعت قبلة خاطفة قرب شفتيه، وهمست بخبث:

-آسفة… كدا كويس؟


رفع حاجبه يلتقط نظراتها الماكرة، زمّ شفتيه مصطنعًا الجدية:


هعمل عبيط وأصدّقك.


قهقهت وهي تدفن رأسها في صدره:


حبيبي الذكي…

-حبك بورص ياختي 

رفعت رأسها إليه وغمزت:

-يعني انت بورص


ضغط على خصرها فجأة، وارتفعت ضحكتها تكتمها في صدره، تراجع بجسده  على المقعد بتعبٍ ظاهر، عينيه تغمضان ببطء، ومازالت بين ذراعيه تحتضنانها.


مرّت أصابعها على ملامحه المرهقة، همست وهي تحاول النهوض:


خلاص… هو نايم. بقالك كام يوم ما نمتش، لازم ترتاح…


مدّ يده في وهن، تمسّك بها قليلًا:


طيب… ارجعي شوية بس.


قطبت جبينها بتساؤل..ولكنَّه لم يتح لها الفرصة ليتمدَّد فوق الأريكة ويتَّخذ ساقها وسادة..ابتسمت وملَّست على شعره بحنان: 

-طيب  هتنام كدا نام.. 

-أه هنام ماتقوميش بس، انحنت وطبعا  قبلةً على خاصَّته سريعًا تملِّس على وجهه:

-مش هسيبك عمري..أغلق عينيه مبتسمًا ولكن اعتدل سريعًا بعد سماع صوت فريدة بالخارج: 

-ماما جت، أكيد جاية تطَّمن على أرسلان..نهضت من مكانها تؤكِّد حديثه وتحرَّكت للخارج.. 


بالأعلى، جلست ضي في الشرفة تحدِّق في الحديقة بنظراتٍ تائهة، بينما كانت شمس بجوارها تحادثها، لكن ضي لم تلتفت، كأنَّها بعيدة في عالمٍ آخر.


في الداخل، كان يوسف أمام جهازه يتابع بعض ألعابه بصمت، فيما جلس بلال بجواره، مسندًا ذقنه إلى كفِّه، شاردًا في اللَّاشيء..قاطع هذا السكون صوت شمس بنفادِ صبر:


– وبعدين ياضي، أنا هسيبك، زهقت من العياط ده كلُّه.


قالتها الصغيرة ونهضت إلى الداخل، ليتحرَّك بلال نحو ضي، سحبها إليه بحنانٍ وطوَّق جسدها الصغير بين ذراعيه، وأردف بصوتٍ متوسِّل:

– بطَّلي عياط بقى..علشان خاطري.


لكنَّها انهارت بين أحضانه، تبكي بحرقة:

– مش هشوف تيتا تاني يابلال..هيَّ خلاص راحت عند ربِّنا.


ملَّس بلال على شعرها بحنان، يحاول أن يحبس دموعه:

– مش ماما قالت ندعي لها..هيَّ محتاجة دعاءنا دلوقتي.


هزَّت رأسها وسط بكائها:

– أنا عايزة أروح عندها..أنام في حضنها..تحكي لي قصص زي زمان.


هنا توقَّف يوسف عن اللعب، نهض واقترب منهم، ثمَّ جلس بجوار بلال بصمت، لحظة وأردف بصوتٍ هادئ، يخفي خلفه وجع السنين:


– مش عارف هتفهمي كلامي ياضي ولَّا لأ..بس خبر الموت أصعب حاجة في الدنيا.


رفعت عينيها إليه، تبكي في صمت، وهو يتابع بصوتٍ مبحوح:

– لمَّا خالتو قالت لي ماما ماتت، كنت صغير..ماكنتش فاهم يعني إيه موت.. كلِّ يوم كان بيروح منِّي إحساس بالحاجة الحلوة في الدنيا، خصوصًا إنِّ بابا كان في الشغل طول الوقت.. عارفين كنت بعمل إيه؟ أجيب فيديوهات وأبحث يعني إيه موت..


ابتلع ريقه، وعيناه على الفراغ:

– فهمت إنِّ الموت..يعني فراق..وجع.. اشتياق..حاجة خلاص مش موجودة.


رمش بعينيه المبلَّلتين، يتابع:

– بس على الأقل، لو ليها قبر، بتعرفي تزوريه..تدعي لها..تفضفضي معاها، زي ما عمُّو بيعمل كل يوم.


صمت لحظة، ثمَّ أضاف بصوتٍ أثقل:

– بس أنا..ماما ماتت ومافيش قبر أزوره..لمَّا كنت أشتاق لها، أجيب صورها وأتكلِّم معاها..وكلِّ ماأسمع أصحابي بيروحوا لجَدَّاتهم، أسأل خالتو فين قبر ماما؟ كانت تقول ماتت بعيد، مش عايزاك تزورها.


خفض نظره إلى ضي وقال:

– عمرك شفتيني بعيَّط قدَّامك وأقولِّك ماما وحشتني؟..لأنِّي خلاص عرفت إنَّها مش هترجع..عايزك إنتي كمان تعرفي إنِّ تيتا صفية مش هترجع.


بكت ضي وهمست بصوتٍ متهدِّج:

– بس مامتك رجعت..


أغمض يوسف عينيه بألم:

– أيوه، علشان ماما ماماتتش..لكن تيتا صفية في القبر دلوقتي..ومهما تبكي مش هترجع، ادعي لها وخلاص.


في تلك اللحظة دلفت ميرال تحمل طبق التشيز كيك بابتسامة:

– حبايبي..عملت لكم تشيز كيك، يلَّا 

ياضي، مامي بتقول بتحبِّيها.


هزَّت ضي رأسها بالرفض:

– مش عايزة.


تقدَّم يوسف نحو ميرال، يحاول التخفيف من توتُّر اللحظة:

– أنا ابنك وبموت فيها..سيبك منها، دي نكدية.


داعبته ميرال بحنان:

– فيه حد يواسي كده؟.


ضحك يوسف بسخرية مُرَّة:

– ماكفاية مواساة، أنا تعبت، دا حتى شمس هربت منها.

خرج بلال بعد حديث يوسف، نظرت ميرال إليه بعدم رضا:

- ينفع كدا..قالتها، اقتربت وجلست أمام ضي، تحدِّثها:

– حبيبتي، ممكن نبطَّل عياط، تيتا راحت مكان أحسن من هنا مليون مرَّة.


رفعت ضي عينيها الباكيتين:

– هيَّ هترجع..صح، ياطنط ميرال؟


مسحت ميرال دموعها بحنان:

– اللي بيموت مابيرجعش، حبيبتي.


– بس حضرتك رجعتي..قولي لها إزاي وإنتي ترجَّعيها.


تصلَّبت ملامح ميرال، كأنَّ كلمات الطفلة صفعتها..ليرتجف جسدها بلا تحكُّم، فصاح يوسف غاضبًا بعدما وجد حالة والدته:

– هوَّ أنا مش لسه قايل لك إنَّها ماتت ومش هترجع؟!


انزلقت دمعة من عيني ميرال، نهضت من مكانها تحاول تهدئته:

– يوسف..حبيبي..اهدى، هيَّ صغيرة وبتسأل بس.


لكنَّه تحرَّك خارج الغرفة، وغضبه يعصف به، كعاصفةٍ فقدت السيطرة..

بكت ضي:

-هوَّ أنا قولت حاجة غلط؟. 

سحبتها ميرال واتَّجهت بها إلى سرير يوسف..جلست وضمَّتها لأحضانها وبدأت تقصُّ لها بعض أشياءٍ عن موت المؤمن..وحبِّ ربِّه للعبد المؤمن إلى أن غفت بأحضانها، مسَّدت على خصلاتها وقبَّلتها ثم عدَّلت وضعيتها ودثَّرتها بالغطاء وغادرت الغرفة.. 


بالمنزل الذي تختبئ به رؤى.. 

كان يجلس أمامها يستمع الى كلماتها الباكية على ما فعله بها إلياس فلقد اضطرت الاتصال بيزن لكي ينقذها: 

-طيب قومي حضَّري نفسك علشان هترجعي معايا. 

هزَّت رأسها بعنف: 

-لا، إلياس هيموِّتني، إنتَ متعرفوش.

-لا عارفه، وعلشان ترتاحي انا طلبت منه يسامحك

-إزاي هيسامح، إنتَ متعرفوش أصلًا.

-أنا قولت إيه..قومي ومش عايز اعتراض..لمَّا أموت يبقى الجأي لغيري.. 


قالها يزن وتوقَّف قائلًا: 

-هستناكي برَّة. 


بعد اسبوع بقصر الجارحي.. 

تجمَّد فاروق في مكانه، وعيناه تتَّسع من وقع كلماتِ أخيه التي اخترقت صدره كالرصاص:

– صفية ماتت إزاي يافاروق؟


رفع رأسه بذهول، حدَّق في إسحاق بدهشةٍ وغضبٍ مكتوم:

– إنتَ تقصد إيه ياإسحاق؟!

لم يكترث إسحاق لحالته، وأردف بصوتٍ حاد، قاطع:

– الجثَّة لازم تتشرَّح.


قفز فاروق من مكانه، كالملسوع من النَّار:

– إنتَ أكيد اتجنِّنت، عايز أشرَّح جثِّة مراتي؟!


تصلَّبت ملامح إسحاق، وأردف بنبرةٍ  كسكينٍ بارد:

– أنا مش باخد رأيك، وبقولها قدَّام الكل..قالها و التفت نحو أحلام، عيناه تهتزُّ بمزيجٍ من الغضب والاتِّهام:

– صفية دي أمِّي..قبل ماتبقى مرات أخويا..هيَّ اللي ربِّتني، في عزِّ انشغال الباقي بحفلاتهم.


قطع حديثهم دخول أحد الخدم بصوتٍ متردِّد:

– أرسلان باشا جه يافاروق باشا.


ارتسمت صلابة على وجه فاروق، قبل أن يدخل أرسلان بخطواتهِ الواثقة، عيناه تمسح المكان بحدَّة، حتى وقعت على ملك الجالسة بجوار أحلام، فتحدَّث بصوتٍ جاد:

– ملك، سبيني شوية مع فاروق باشا.


بمنزل إلياس..

خرجت ميرال متَّجهةً نحو سيَّارتها، لكنَّها توقَّفت فجأة، حين وقفت أمامها سيارة يزن وبجواره رؤى..

تجمَّدت للحظة، ثم تقدَّمت بخطواتٍ كالعاصفة، لتتوقَّف السيارة فجأةً أمامها..ترجَّل يزن، وصاح بوجهٍ مشدودٍ بالغضب:

– إنتي اتجنِّنتي ياميرال؟!


لكنَّها لم تعبأ بوجوده، اتَّجهت مباشرةً نحو باب السيَّارة، فتحته بعنف، وسحبت رؤى للخارج بقوَّة، عيناها تلمعُ بوحشيَّة مكبوتة:

– أهلًا أستاذة رؤى، كنتي فاكرة إنِّي هسيبك مرتاحة؟!


نظرت رؤى نحو يزن تستنجد، وصوتها يقطر مرارة:

– إنتَ مش هتقولَّها حاجة؟!


اقتربت ميرال منها، أسنانها تصطكُّ من شدَّة الغيظ:

– يقولي ايه يابت، لازم تدوقي اللي أنا دُقته..عشان تعرفي يعني إيه حمد ربِّنا على النعمة..قالتها ميرال وهي تسحبها بغضب..


– ميرال!..

– صرخ يزن يحاول أن يمنعها، لكن صوتها غطَّى على المكان وهي تنادي على الحارس:

– ارميها في المخزن..


تجمَّّد الحارس في مكانه، بينما يزن يصرخ مذهولًا:

– إنتي اتجنِّنتي؟! دي أختك!..


ضحكت ميرال ضحكةً مُرَّة، عيناها تلمع بنارٍ مجنونة:

– آه، مجنونة..وليس على المجنون حرج..وأنا مكنتش أختها أصلًا.


صرخت رؤى فجأة، وأردفت بكلماتٍ كالسياط:

– عشان إنتي ضعيفة..وغبيَّة.. ومتستحقِّيش الحياة اللي عشتيها..آه، أنا عملت كلِّ حاجة..وكنت بشوفك بتصرخي وإنتي بتتحايلي على الممرِّضة علشان تدِّيكي مخدرات، يامدمنة يامجنونة، وكنت بستمتع بكده، عارفة ليه؟..عشان إنتي أخدتي حياة أكبر من حجمك، حياة ماتستاهليهاش.


تقدَّمت منها خطوةً للأمام، وجهها يحترق بالكراهية:

– إنتي اللي كان لازم تموتي ياميرال، أنا اللي كان المفروض أكون أمِّ لابنك.. ومرات إلياس..لأن واحدة زيك، ضعيفة ومريضة، ماتستاهلوش، أومال لو عشتي في ملجأ، كنتي عملتي إيه؟!


ارتجف قلب ميرال، وصوت رؤى يجلجل كأنَّه يهدم آخر ماتبقَّى من قوَّتها، حاولت جمع شتاتها رغم كلمات رؤى التي شعرت بها كأنها نصلٍ حاد وهي تقول، يامدمنة يامجنونة، اقتربت منها تحاول أن تبعث القوَّة بداخلها ورفعت كفَّها بقوَّةٍ لتلطمها على وجهها، مع وصول سيارة بها أحد الأطباء واثنين من الرجال يرتدون زي أبيض..اقترب يزن يبعد ميرال عنها وأشار إلى الرجلين: 

-خدوها..استدارت تنظر لتلك الرجال وتصيخ بغضب: 

-عايز تدخَّلني مستشفى المجانين يايزن؟.

وصل إليها يسحبها بعنف ويدفعها على أحد الرجال يشير إلى الطبيب:

-مفيش زيارة غير بإذني. 


تجمَّدت ميرال بمكانها وهي تنظر إليهم وهم يسحبوها بوسط صرخاتها، بدخول رحيل من البوَّابة الرئيسية..توقّّفت بسيارتها بجانب الطريق وترجَّلت منها تنظر بجهلٍ على الرجال الذين يسحبون رؤى مع صرخاتها، تقابلت الأعين فتوقَّفت رؤى أمامها:

-عارفة هندِّمك على كلِّ حاجة..إنتي السبب، إنسانة حيوانة راجعة لك ياخاينة.

اقتربت منها رحيل بعدما أدركت ماصار وابعدت يد الممرِّض، وانحنت تنظر إليها بشماتة:

-أنا اللي خلِّيت يزن يدخَّلك مستشفى المجانين يامجنونة..قالتها بهمس قاتل بجوار أذنها..ليرتفع جنون رؤى تسحبها بعنفٍ من جانبها في محاولةٍ لخلاص رحيل من يدها..ابتعدت رحيل بعدما أصابت هدفها تشير إلى الطبيب:

-حالتها صعبة جدًّا، أي تقصير إنتَ المسؤول قدَّامنا، شوفت كانت هتموِّتني إزاي؟..قالتها والتفتت إلى رؤى وابتسامة ساخرة على شفتيها لم يلاحظها سوى ميرال.. 


اسبوعًا اخر مر على الجميع، عند إلياس 


ترجَّل  من سيارته متَّجهًا إلى ذلك المبنى الشامخ؛ دقائق وتوقَّف أمام المبنى ينظر بساعته مع فتحها الباب وخروجها من شقَّة أحد صديقاتها وخلفها طارق..وقفت متجمِّدة تهمس بتقطُّع: 

-إلياس!..

اقترب منها وعيناه نيران جحيميَّة: 

-على العربية. 

إلياس إنتَ فاهم غلط. 

-على العربية ياحيوانة..مش عايز أسمع نفس. 

-إلياس إحنا معملناش حاجة غلط.

-اخرس يالا ماوجَّهتلكش أي كلام، مش هنزل لمستوى واحد زبالة، أنا جاي لأختي. 

-إلياس اسمعني لو سمحت. 

ابتعد بنظراته وهو يطوف بالمكان: 

-امشي قدَّامي يامحترمة، متخلِّنيش أفقد أعصابي قدام الناس 

إلياس لازم تسمع..هنا فقد أعصابه بالكامل ليلكمه بقوَّةٍ أسقطته أرضًا، ثمَّ سحبها بعنفٍ وتحرَّك إلى سيَّارته.. 


في مكانٍ آخر..

صعدت ميرال درجاتِ المبنى بخطواتٍ سريعة، وهي تتحدَّث بالهاتف تستمع إلى صوت أرسلان:

– وصلتي؟

– أيوه.. قالتها وهي تبتسم بخبث، وإصبعها يضغط على زرِّ الجرس:

- زي مااتَّفقنا، ماتقلقش عليَّ، ابن عمِّي ظابط مخابرات قدِّ الدنيا.


ضحك أرسلان ضحكةً قصيرة:

- بس جوزك لو عرف، هيخنقني.


– يبقى مايعرفش، بعدين نتكلِّم.. سلام.


أغلقت الخط مع فتح الباب، ظهرت رانيا، عيناها متسعتانِ من الدهشة، ولكن أردفت ميرال:

– ماما حبيبتي وحشتيني.


تراجعت رانيا خطوة، عينها تتحرَّك بخوفٍ خلف ميرال، تتوقَّع ظهور إلياس..لكن ميرال دخلت وأغلقت الباب خلفها ببطء، واستدارت تنظر في ملامحها بغضبٍ السنين كلَّها:

– متخافيش..محدش يعرف إنِّي جاية لعندك، العنوان جبته من رؤى الحقيرة..آه، أصلها باعتك.


ارتجفت رانيا وأردفت بصوتٍ ثقيل :

– إنتي عايزة إيه؟


جلست ميرال بثبات، تضع ساقًا فوق الأخرى، ذراعاها تعانقُ جسدها، وفي عينيها جمرًا مشتعِل:

– مش انتي عايزة أرجع لعندك


ارتبكت رانيا، فاقتربت بخطواتٍ حذرة، تتفرَّس في ملامح ابنتها:

– وأنا المفروض أصدَّقك؟


ابتسمت ميرال بسخرية، أخرجت من حقيبتها صورة وألقتها أمامها:

– شوفي كويس، وملِّي عينك، علشان تعرفي عملتي إيه في بنتك..


التقطت رانيا الصورة بأصابع مرتعشة وعيناها اتَّسعت وهي تهمس:

– مين دي؟


اقتربت ميرال، ورمقتها بنظراتٍ كالسكين:

– مش عارفة بنتك يامدام رانيا..ولَّا إنتي مش فاكرة عملتي فيها إيه؟. 


صمتت رانيا لحظات طويلة، ثمَّ قالت:

– أنا مكنتش أعرف..والله ماكنت أعرف، كلِّ حاجة حصلت من ورايا..ولمَّا جيت لعندك كنت مهدَّدة، ياإمَّا السجن، ياإمَّا الموت.


ضحكت ميرال ضحكةً ساخرة ممزوجةً  بالمرارة وقالت بصوتٍ كصفير الريح قبل العاصفة:

– أيوه..أنا بقيت التمن، صح..إنتي تعرفي إنِّي كنت حضيَّع شرفي، أه صح إنتي متعرفيش يعني إيه شرف، ماهو إنتي شغَّالة الله ينوَّر.. 


- ما كانش قدَّامي حلِّ تاني..

قالتها رانيا بصراخٍ وعيناها تلمع بخوف: 

– أنا حتى كنت مخطَّطة أوصل لإلياس، وأقولُّه كلِّ حاجة أوَّل ماالراجل ياخدك.


لكن ميرال لم تكترث لحديثها، نهضت تدور في الشقة بعينينِ متَّقدتين حتى وصلت المطبخ، عثرت على سكينٍ حاد، رفعته أمام عينيها تتأمَّل لمعانه، تقلِّبه بين أصابعها بخفَّةٍ مرعبة..


تراجعت رانيا تبتعد عنها وتساءلت بصوتٍ متكسِّر:

– إنتي بتعملي إيه، ياميرال؟


تعالت ضحكاتُ ميرال، ضحكات متقطِّعة، باردة، ثمَّ وضعت السكين فوق موقد الغاز وأشعلت النار تحته، ليكتسب لون الجمر.


وفي لحظةٍ خاطفة، من خوف رانيا وتحرُّكها لغرفتها سريعًا اتَّجهت إلى الباب وقامت بفتحه، دخل رجلٌ ضخم البنية، نظراته قاسية، ثمَّ أشارت إلى مكان رانيا، ليدفع الباب بقوَّة..تراجعت أكثر، والتصق ظهرها بالجدار، واتَّسعت عينيها بذعرٍ مع اقتراب ميرال منها بجوار الرجل و ابتسامةٍ باردة ترتسم على وجهها:

– إيه، خايفة؟ متخافيش يامدام رانيا.. مفيش بنت بتئذي أمَّها، مش كده؟


قالتها وهي تنزع شالها عن عنقها، ودفعَت رانيا بقوَّةٍ لتتهاوى على المقعد، بجسدها الواهي المرتجف يستسلم بسهولة، فأشارت إلى الرجل بصوتٍ حاد:

– اربطها كويس.


ثمَّ عادت نحو المطبخ، تجذب السكين من  فوق النار الذي تحوَّل إلى حممٍ بركانيَّة، قبضت عليه، وابتسامة جامدة تكسو ملامحها، كأنَّها قرَّرت أنَّ الماضي لن يبقى بلا دم...وتحرَّكت إلى وجود رانيا تهزُّ رأسها وابتسامةٌ باردة تكسو ملامحها:

-تؤ تؤ..لا ماتعيَّطيش، أهو أريَّح منِّك البشرية، مش أحسن ماجوزي يضيَّع مستقبله علشان انسانة قذرة، ومش هتسجن دقيقة واحدة ..همست بجوار اذنها

-بأيدك جننتي بنتك اللي هتدوقك العذاب مرار، اه صح نسيت انا مش بنتك اصلًا، اه صح نسيت اقولك حاجة ...قالتها بضحكة باردة وعين تفيض بالألم:

هقولِّك على ذكاء بنتك شوفي عملت إيه..ضحكت على يزن وقولت له إلياس هيقتل رؤى، الصراحة يامدام رانيا أنا مش متأكدة هوَّ هيعمل إيه، بس إلياس السيوفي مابسبش حقُّه، فكان لازم أسيطر على الوضع، مع كلمتين حنيِّين لأرسلان علشان يقولِّي مكانك فين ، أصل أرسلان هوَّ اللي جابك هنا علشان إلياس مايوصلكيش، بعِد برضو لمَّا قولت له هيضيَّع نفسه علشانك..

إيه رأيك بقى وصلت لكم أنتوا الاتنين.. واحدة قدَّامي هعرَّفها إزاي الوجع،  والتانية وحياة مرار الأيام وبعدي عن ابني لأسقيها المرار ضعفين، قالتها وهي تضع السكين الناري على عنقها.. مع صرخات رانيا التي زلزلت المكان بدفعِ أحدهم الباب..


مساء الخير فانزي العظيم 

دا تاني فصل الاسبوع دا 


بعد كدا الفصل هينزل خميس وجمعة لفترة محدودة اظبط اموري بس، علشان طول الاسبوع هكون دايما برة البيت ..وهرجع متأخر، وطبعا ماينفعش اكتب حاجة..

فكدا موعد فصلنا الجديد الخميس القادم، اسبوعين بس ونرجع لمواعيدنا القديمة إن شاءالله 


دمتم بخير وعافية يارب

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا




تعليقات

التنقل السريع