القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل السابع والثلاثون 37بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)

 

رواية غناء الروح الفصل السابع والثلاثون 37بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)






رواية غناء الروح الفصل السابع والثلاثون 37بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)



الفصل السابع والثلاثون.


مرت أصابعها الرقيقة على تفاصيل الفستان الذي احتضن جسدها بانسيابية تُحاكي صنعًا خاصًا لا يُهدى إلا لملكات مميزة، فبدا وكأن خيوطه نُسجت خصيصًا من أجلها، فقد كان الفستان الوردي يُضفي على ملامحها نعومةً طفولية وسحرًا أنثويًا يُخطف الأبصار، حتى بريقه الخافت تحت الضوء انعكس على وجنتيها فجعلهما أكثر توردًا وجاذبية. 


حتى فاطمة لم تبالغ في مساحيق التجميل، بل اكتفت بلمسات خفيفة أبرزت تقاسيم وجهها المتناسقة فأظهرت جمالها الحقيقي دون تكلف.


وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها بينما كانت فريال تحدق بها بانبهار شديد، فخرج صوتها تلقائيًا وهي تهتف بإعجاب:


-بسم الله ما شاء الله يا سيرا، مشوفتش في جمالك وحلاوتك.


ابتسمت سيرا بهدوء متواضع، وقد شعرت بالحرج من كثرة المديح، ثم التفتت نحو فريال التي كانت تنظر إليها بنظرة حب أخوي صافٍ:


-مش اوي كده يا فريال.


رفعت حكمت حاجبها بنفاد صبر وهي تضع الكحل في عينيها بتردد:


-اتنيلي على عينك ده انتي قمر، يا بت والله لو كنا عملنا خطوبة واتفقنا على كل حاجة مكنتيش هتطلعي حلوة كده، حقيقي كل حاجة بتيجي مفاجأة بتبقى حلوة.


لم تستطع سيرا أن تبتسم بل مالت شفتيها إلى الأسفل بامتعاض خفيف، وهمست بصوت يحمل بحة حزينة كأنها تخشى الاعتراف:


-انتي بتراضيني يا أبلة عشان مزعلش؟


تبادلت حكمت نظرة مع فاطمة وأخواتها، ثم التفتت إليهن بنبرة أكثر جدية وقد بدا في صوتها غضب ممزوج بالقلق:


-أنا ماشوفتش في حياتي نحس ونكد قد سيرا اختي بجد، يعني خطيبها عسل وقمر وله شغله وما شاء الله مقتدر ماديًا وعيلته حلوة وكلهم حابينها والواد حب يفاجأها ويعملها خطوبة بسيطة بعد الحوارات اللي حصلتلهم وهي زعلانة ومتضايقة، يا بت بلاش تتبطري على النعمة عشان ماتزولش من وشك.


هزت شاهندا أختها الأخرى رأسها بسرعة وهي تؤكد بصوت جاد:


-اه والله كده هتزول، عيب الناس فرحانة بيكي موت، فكي بوزك ده مش ناقصين، هتكسري فرحة بابا بيكي.


رن هاتف كريمة فجأة فقطعت اللحظة وهي تقول بعجلة بعدما نظرت في شاشته:


-بابا اتصل تاني يلا بسرعة نطلع.


تقدمت فاطمة بهدوء ونظرت إلى سيرا بتمعن ثم قالت بلطف:


-طيب اطلعوا انتوا وأنا هجيبها واطلع وراكم، اظبطلها بس عينيها عشان الهانم في دموع في عينيها.


تأففت حكمت منها وخرجت مع باقي الفتيات على مضض، وقد لمعت نظراتهن بالفضول والقلق في آنٍ واحد، ثم أُغلقت خلفهن باب الشقة، وتركن فاطمة مع سيرا التي ما لبثت أن انهارت، فاقتربت فاطمة منها برقة وقدمت لها منديلاً ورقيًا ثم همست بلين:


-في إيه يا سيرا؟


لم تنتظر سيرا أن تُكمل سؤالها بل انفجرت بالبكاء، بكاء مرير لم يُراعِ التجميل ولا الفستان، لم تعبأ بأي شيء سوى ما ينهش قلبها من الداخل، وردت بصوت متقطع محمل بالقهر:


-مخنوقة يا فاطمة؟


نظرت إليها فاطمة بشفقة حقيقية واحتوت وجهها بنظراتها:


-ليه بس يا سيرا؟! المفروض تفرحي.


أخفضت سيرا رأسها كأنها تخجل من فرحتها الناقصة وهمست:


-افرح دلوقتي وبعد كده ارجع اعيط.


لم تتراجع فاطمة بل كانت كلماتها جاهزة:


-ما انتي بتعيطي دلوقتي هي فارقة إيه؟ وبعدين ترجعي تعيطي ليه يا سيرا؟ يا بنتي خرجي كلام حورية من دماغك.


هزت سيرا رأسها في إنكار يائس وابتلعت ريقها بألم:


-المشكلة مش في كلام حورية بس يا فاطمة، كلامه هو مابيطمنيش، مش صريح أبدًا.


تنهدت فاطمة ببطء وهي تحاول أن تكون عقلانية وسط دوامة المشاعر:


-بس تصرفاته معاكي تفرق يا سيرا، انتي مش غبية لدرجادي يعني.


رفعت سيرا نظراتها بعينين دامعتين وقالت بارتباك:


-مش غبية بس يمكن هو جدع كده مع كل الناس، يمكن ده طبعه يا فاطمة، أنا لسه ماحستش من ناحيته إنه بيخصني بحاجة مميزة عن كل اللي بيعرفهم، حتى كلامه ليا مش صريح، ولا اعترفلي اعتراف صريح إنه بيحبني، رغم إن أنا اتنيلت... 


صمتت للحظة وكأنها تتردد في الاعتراف، ثم لفظت الكلمة أخيرًا بانكسار:


-حبيته، وخايفة اكمل معاه ارجع اندم عشان كانت حقيقته بالنسبالي ظاهرة من الاول.


تقدمت فاطمة خطوة إلى الأمام ووضعت يدها على كتف سيرا برفق:


-يا حبيبتي القلب مالوش سلطان، وكل اللي بتقوليه حقك تفكري فيه، سيرا أنا عارفة وفاهمة كويس اوي انك بتدوري على الاستقرار، بس يا حبيبتي هي فترة الخطوبة دي اتعملت ليه ما عشان نحطه في اختبارات ومواقف من خلالها نعرف نفهم شخصيته، وبردو تعرفي تحددي مشاعرك وتقدري تحددي مشاعره من ناحيتك.


صمتت قليلًا ثم أردفت برزانة الصديقة العاقلة:


-ادي نفسك فرصة واديله هو فرصة كمان، وادي اهلك واحنا كلنا فرصة نفرح، احنا مش بنقولك جواز دي مجرد خطوبة وتلبيس دبل يعني، وبعدين انتي محكتيش ليه إيه اللي حصل معاه وإيه اللي خلاه يجي يعملك مفاجأة؟!


زفرت سيرا بقوة وهي تمسح دموعها بمنديلها، ثم بدأت تحكي وهي تتلوى من ضيقها، تسرد كل ما دار بينها وبينه بنبرة مستنكرة وحانقة، بينما كانت فاطمة تتابعها بعينين متسعتين، وحين أنهت سيرا كلامها وقفت فاطمة وهي تضع يديها على خصرها بتهكم واضح:


-انتي هبلة يا بت ما انتي لمحتي زي العبيطة إنه مفيش دبلة في ايدك ولا رابط رسمي، فهو جه جري وجاب الشبكة واهله.


قالت سيرا سريعًا محاولة تبرير الموقف:


-أنا قولتلك قبلها سليم اخوه هو اللي قاله شوف معاد مناسب.


هزت فاطمة رأسها بعناد وردت:


-لا لا الحوار ده مش حوار اخوه خالص، الحوار ده طالع منه هو.


وفجأة فتحت الباب "دهب" ابنة حكمت، وظهرت بنبرة مهددة لاذعة وكأنها وريثة أمها في الحزم:


-ماما بتقولك يا خالتوا لو ماطلعتيش حالاً هتنزل بالشبشب تضربك.


ضحكت فاطمة وقالت مازحة:

     

-يلا ياستي ابلة حكمت ممكن تعملها وميهماش حد ، تعالي اظبطلك اللي بوظتيه.


                             ***

صعدت سيرا الدرج بصحبة فاطمة، تتباطأ خطواتها كلما اقتربت من باب شقتها، وكأن قلبها يزداد ثقلًا مع كل درجة تخطوها ليس خوفًا بل توترًا لا تعرف كيف تُسميه، مزيجًا من الخجل والحيرة والرهبة من المجهول، كانت تمسك بفستانها من الأسفل بخفة، تخشى أن يتعثر أو تتعثر هي في لحظة كهذه.


وما إن دلفت إلى الشقة حتى انطلقت الزغاريد ونظرات الانبهار والاعجاب انهالت عليها من كل الزوايا، وكأن الجميع كان ينتظر قدومها على أحر من الجمر.


أمسكها والدها بسعادة لم تكن بحاجة كبيرة لرؤيتها وتقدم بها حيث بجلس يزن في أريكة ضخمة في منتصف الصالة وحوله عائلته في ثياب رسمية بسيطة يجلسون في رقي يتابعون لحظة تقدم يزن منها وعلى وجهه ابتسامة بسيطة، فتركت النظر إليهم وتعمقت النظر به.


كان به شيء من الجاذبية المختلفة هذه المرة، لم يكن يرتدي كرافته، فقط بذلة رمادية داكنة، وقميص أبيض مفتوح الزر الأعلى، مما أضفى عليه لمسة من الأناقة العصرية، شعره البني كان مصففًا بعناية بينما عيناه كعادته كانتا تسبحان في سحابة من الغموض، لا تقرأ فيهما وعدًا ولا اعترافًا، فقط سكون مربك ونظرة مترددة، جعلتها تُشدد قبضتها على طرف فستانها دون أن تشعر.


حاولت أن تفهم تلك النظرة ولكن عينيه لم تجبها  

بل زادت حيرتها وارتباكها، وبينما هي غارقة في كم التساؤلات التي طرقت عقلها، انتبهت إلى صوت سليم الرخيم وهو يطلب من شمس زوجته تقديم علبة مخملية سوداء اللون إلى يزن، لتبدأ مراسم الخطبة في بساطة شديدة بين العائلتين وسط فرحة خالصة.


وضعتها شمس أمام يزن فوق الطاولة ثم فتحتها بهدوء وهي تنظر إلى سيرا التي أصابها الدهشة من جمال قطع المجوهرات التي اختيرت بعناية:


-على فكرة كلها ذوق يزن، مبروك عليكي يا حبيبتي.


ابتسمت إليها سيرا ابتسامة مهزوزة ثم انتقلت بنظراتها إليه وجدته يجذب عقد ناعم التصميم، تتوسطه قطعة صغيرة من الزمرد الوردي، واقترب منها حتى يضعه حول عنقها فتيبس جسدها بخجل ولم تقترب منه بل ظلت كالصنم عندما وصل إلى أنفها رائحة عطره التي سببت إليها خدر وادخلتها في عالم آخر، فنهضت مليكة تساعده من الاتجاه الآخر في إغلاق العقد.


فهمس إليها بنبرة ناعمة عابثة:


-مطلعتيش انتي بس اللي بتفهمي في الذوق.


ومن بعدها بدأ في تقديم أسورة تشبه تصميم العقد إلى حد كبير ووضعها حول معصمها وتعمد لمس يدها بأصابعه، فسبب لها توتر وخجل ظهر على ملامحها التي توردت بصورة واضحة، وتلاه خاتم بسيط به فص زمردي وردي ثم دبلة رقيقة جدًا، وكأنها اختيرت بعناية لتُشبه ذوقها المتواضع لا تلمع ببهرجة، بل بلمعة صادقة تشبه لمعة الخجل في عينيها.


وجاء دورها لتساعده في ارتداء دبلته الفضية، إلا أنها كانت كالخرقاء وهي تضعها في إصبعه، بينما هو كان على أتم الاستمتاع بها.


وبدأت المباركات والتهاني والتقاط الصور لهما منفردين ومع العائلة، وفي ظل انشغال العائلتين بسعادتهما، انفرد يزن بنفسه في الشرفة ثم أشار إليها لتتحرك خلفه.


للحظة أصابها الخجل وشعرت أن عيون الجميع تتربص بها، ولكن أبلة حكمت كعادتها كانت تستحوذ على انتباه سليم وزيدان مع زوجها صافي، بينما كانت أخواتها يجلسن بجانب شمس ومليكة يتعرفن عليهما بود ومحبة...أما منال فكانت تجلس بجانب والدة سيرا ووالدها، يتحدثن في أمور الشقة وموعد الزواج، حيث أوكل إليها سليم تلك المهمة كي لا يعرف يزن بها.

                            ***

تركت الجميع خلفها ودخلت إلى الشرفة تقترب منه في خجل وتوتر، ولكنها استطاعت رسم العبوس على وجهها كتعبير بسيط عن تجاوزه إليها في أمر خطبتهما، رغم أن قلبها كان يفيض بمشاعر لا يمكن اختزالها في عتاب بسيط.


-ممكن افهم إيه اللي حصل ده؟


ابتعد أكثر في الشرفة متعمدًا التوغل لأبعد نقطة لا تصل إليها أعين المتلصصين، ثم استدار إليها وهمس بتسلية وعيناه يملؤهما مزيج من المشاغبة والثقة:


-مفاجأة يا فوزي.


زمت شفتيها بضيق وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها في اعتراض واضح، كأنها تُحكم حول نفسها درعًا من الحماية من عبثه المعتاد:


-يزن أنا نفسي مرة تكلمني بجد!


أدار وجهه نحوها مبتسمًا ووضع يده في جيب سرواله بجاذبيته الخاصة، بينما القميص الأبيض يُظهر جزءًا من صدره العريض، في لمحة لم تكن تخلو من تعمد، واقترب قليلًا وهمس بنبرة ناعمة مزج فيها بين الجدية والعبث:


-بذمتك يا نكدية مش المفروض تفرحي إن خطيبك فرفوش وبيحب الضحك والهزار؟


زفرت بهدوء وهي تحاول لملمة انفعالاتها، ثم تقدمت خطوة نحوه ووقفت بجانبه تستند على السور الحديدي، كأنها تبحث عن توازن فقدته فجأة:


-المفروض افرح لو هو بيعمل معايا أنا بس كده، لكن ازاي اللي ربنا وقعني فيه ماشي بمبدأ "حبيبي على نياته كل البنات اخواته".


ابتسم بسخرية جذابة وعيناه تلمعان بدهاء وهو يردف بخفوت عابث:


-غلبان يعني...والله عندك حق أنا غلبان، واتخلقت مبعرفش اعيش في نكد وغم، فعمرك ما هتلاقيني بنكد عليكي خالص.


ضحكت ضحكة صغيرة لا إرادية سرعان ما أخمدتها وقالت بنبرة متحفظة:


-اممم محاولاتك كلها بتوضح إنك بتجذب انتباهي ليك...


رفع حاجبه بدهشة مصطنعة وقال بتفاخر وهو يشير نحو قلبها:


-اجذب؟! سيرا أنا أكاد اجزم أني قاعد هنا ومربع.


هزت رأسها في امتعاض ساخر:


-ماتخدش مقلب في نفسك يا يزن بس، أنا بس لبست الفستان ورضيت باللي انت عملته عشان ماسببش أي إحراج ليك وفي الأخر تصعب عليا.


رد بسخرية خفيفة وصوته محمل بشيء من الرقة المقنعة:


-أنا وقعت في واحدة قلبها قلب خاسية.


نظرت إليه بحنق طفيف ولم تتلفظ بحرف، فسارع هو بمشاكستها وهو يرقق نبرته لتكون الطف واحن:


-فكي بوزك في حد يبقى خطوبته النهاردة يبوز بالشكل ده؟!


تنهدت بهدوء وهي تحاول أن تخرج من دائرة الانفعالات التي زُجت فيها عنوه بسبب رودوه الساخرة، فهمست باسمه بعد لحظات بسيطة من التفكير:


-يزن.


انتبه إليها وابتسامته الجذابة لا تزال تتعلق بشفتيه فتضيف وسامة ورقي:


-نعم؟


-هو انت بتتسلى بيا؟!


تغيرت ملامحه قليلًا ولكنه رد بجدية مغلفة بالدهشة:


-انتي عبيطة؟، يعني بعد كل الفرهدة دي وفي الآخر بتسلى بيكي.


نزلت عيناها للأرض كأنها تخجل من نفسها، أو من الشك الذي سكن قلبها قبل أن يتحقق الأمان داخله ثم همست:


-لازم تعذرني أنت عمرك ما كنت واضح معايا، وبعدين ما أنت ممكن تكون عملت مفاجآت لبنات قبلي يعني منين هعرف أنا مميزة في إيه؟!


اقترب منها خطوة ورفع حاجبيه وهو ينظر ليدها الموضوعة على السور الحديدي:


-في إن دبلتي في إيدك؟ في إن مابعملش مفاجآت لبنات أصلاً، الحقيقة بيتعملي مابعملش، في إن مفيش أي حاجة عملتها معاكي هعملها مع غيرك.


نظرت له نظرة طويلة وعميقة، كأنها تبحث في ملامحه عن صدق نادر الظهور ثم قالت بهدوء:


-عمرك ضربت حد عشان بنت قبل كده؟، زي ما ضربت فايق عشاني؟!


ضحك وقال بعبث:


-اه طبعًا ضربت، أنا يا بنتي جدع أصلاً.


تسارعت أنفاسها ثم رفعت يدها بتمثيل الغضب:


-شوفت...شوفت ده اللي قولته وبقوله، بتقولي حاجة وبتحسسني إن مفيش زيي، وبعدها في نفس الثانية بتنزلي لسابع أرض.


ابتسم بلطف هذه المرة وقال بهدوء:


-قصدك إن أنا مش واضح؟


أجابت بحنق طفولي:


-الصراحة اه.


هز كتفيه ثم قال بنبرة خفيفة الظل:


-طيب ما دي حاجة حلوة، انك تتخطبي لواحد مش واضح، فتحسي كل ثانية إنك في جديد، عشان الملل وكده، بصي أنا هخليها خطوبة مختلفة تحلفي بيها العمر كله.


للحظة كادت تصرخ من عبثه المستمر، ولكنها تعمدت أن تزفر بضيق وهي تقول بنبرة غاضبة يملأها اللا مبالاة:


-أنا تعبت بص أنا اللي غلطانة وكلت الجبنة.


وكادت تتحرك لتتركه وحده إلا أنه أوقفها سريعًا، ومال نحوها وهو يقول بنبرة هادئة لطيفة، وحنونه رغم لمحة السخرية الملاحقة لصوته:


-خدي هنا انتي هتتقمصي وتمشي، أنا مش عايز ازعلك في يوم زي ده، كفاية اللي عامله فيكي.


رمقته باستغراب لتقلبه السريع، ولكنها لمحته يتأمل يديها وشاكسها بخفوت:


-طيب بذمتك ذوقي مش حلو، الفستان حلو عليكي وشبهك حتى الشبكة....


أمسك يدها بحنان وكأنها كنز بين يديه، يتحسس دبلته ببسمة خفيفة ثم الأسورة، فمرر أصابعه على فص الزمرد الوردي:


-شبهك اوي، عجبتك؟


ابتسمت بخجل لم تستطع إخفاءه وقالت بصوت هامس:


-حلوين اوي، عجبوني.


ابتسم بثقة وهو يغمز اليها بطرف عينيه:


-أنا جيبتها من نفسي فاطمة مقالتليش وعلى فكرة كلهم جايبين هدايا ليكي من المحل عند سليم، بس أنا اللي اختارتها كلها، مفيش حد يجيب على ذوقه طول ما أنا موجود.


نظرت له نظرة طويلة ثم قالت بعدم فهم:


-كتر خيرهم، بس ليه مخلتهمش يجيبوا على ذوقهم، اتدخلت ليه؟


رد بنظرة امتلكت كل ملامحها:


-مابحبش حد يتدخل برأيه في حاجة لحد يخصني.


تسارعت أنفاسها خجلاً، ولكنها حاولت السيطرة على نفسها بسؤالها الذي طرق أبواب عقلها فجأة عندما تذكرت حديث فاطمة إليها:


-يزن.


همهم إليها وهو يستكمل ملامسة دبلتها في شرود تام:


-امممم.


ابتلعت لعابها وهي تسرد مشاعرها بهدوء تام رغم ملامسته لدبلتها ويدها التي سببت لها توتر وخجل كبير:


-بما إنك قولتلي إن مفيش حاجة هتعملها معايا أو عملتها معايا قبل كده عملتها مع غيري، فأنا عايزة احس إن مميزة أكتر.


رفع حاجبيه بدهشة طفولية:


-اشيلك وارميكي من البلكونة عشان تحسي إنك في التميز مفيش حد هيعديكي.


ضحكت وهي تهز رأسها بنفي ثم تمتمت بنبرة شبه راجية يتعلق بطرف خيطها الأمل في تحقيق مرادها الطفولي، فكانت رقيقة جدًا وهي تهمس بنعومة أمام أنظاره المتعلقة بها بشغف:


-بطل هزار، لا طبعًا، أنا عايزاك نتصور بتليفونك وتنزل صورتنا على كل السوشيال ميديا بتاعتك وهسيبلك الكابشن تحط فيه اللي انت عايزه، مش هتدخل طالما مابتحبش حد يتدخل في حاجة تخص حد يخصك.


رغم تأثره الواضح بها ورغم الشرارة التي اشتعلت في عينيه وهو يراها تطالبه بإثبات علني لمكانتها، إلا أنه أخفى ذلك خلف قناع من العبث والسخرية وهمس إليها بنبرة لاهية:


-إيه شغل البنات الهايفة ده؟!


ابتسمت بدلال عفوي وهي تميل برأسها قليلاً نحوه وقد اختلط في نبرتها المزاح بشيء خافت من العتاب الطفولي:


-معلش خدني على قد عقلي، ولا انت خايف الفانز يسيبوك ويخلعوا منك ويعملوا انفولو؟!


ضحك بخفة وهو ينظر إلى عينيها نظرة طويلة، ثم أردف بثقة لا تخلو من التحدي:


-نتراهن لو أنا نزلت الصورة وماجبتش ريتش اعلى من أي صورة عندي يبقي...


رفعت حاجبيها في مكر طفولي، وتقدمت منه خطوة وكأنها تدخل ساحة منافسة:


-يبقى احكم عليك تمسح كل البنات عندك وتسيبني أنا بس.


أشار إليها بإصبعه محذرًا وهو يبتسم:


-ولو أنا اللي كسبت هتعمليلي طاجن بامية.


ضحكت بصوت خافت وهي تهز رأسها موافقة:


-تمام موافقة.


ابتسم واتخذ خطوة للوراء وهو يشير لها بيده:


-تعالي اقفي جنبي وبيني الدبلة.


نظرت له بدهشة متعجبة من ثقته اللا محدودة، وقالت وهي تتقدم نحوه:


-إيه ده انت واثق اوي؟!


أجابها بنبرة ثابتة تملأها الصلابة والتباهي:


-أنا مفيش حد في الدنيا دي قدر ونجح يهز ثقتي في نفسي.


رغم كلماته المتباهية إلا أن دقات قلبها تسارعت، وشعور بالغبطة الممزوجة بالتوتر استولى على كيانها، وكأنها تقف على أعتاب لحظة استثنائية لا تتكرر.


- مغرور.


همست بها بغيظ ناعم وهي تقف بجواره، بينما هو كان قد رفع هاتفه عاليًا وضبط الزاوية بعناية، ثم التقط صورة لهما؛ هو يبتسم بهدوءه الواثق، وهي قد أغلقت عينيها في لحظة فطرية بريئة، ورفعت يدها اليمنى لتُظهر دبلتهما، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة واسعة، تكاد تُخبر العالم كله بسعادتها.


مرت لحظة من الصمت لم تُرد أن تنكسر، لكن صوت لمسته وهو ينزل الهاتف ويشرع في تحميل الصورة على كل تطبيقات التواصل أعادها للواقع.


تابعته بشغف واهتمام وهي ترى أصابعه تتحرك على الشاشة، وفوجئت به يكتب دون أن يستشيرها، كلماته التي اقتحمت قلبها دون استئذان:


"One moment, one ring, one forever with my new world".


عندها فقط شعرت وكأنها نُقلت إلى عالم آخر...عالم لا يسكنه إلا هي وهو، حيث اعتراف ناعم غير مباشر، لكنه كافٍ ليُطبطب على كل شكٍ اعترى قلبها من ناحيته حتى لو كان مؤقتًا.


                               ****


كانت أجواء الحفل بسيطة للغاية أقرب إلى تجمع عائلي هادئ، تسوده المودة والبساطة بعيدًا عن التكلف أو المظاهر الصاخبة، ومع ذلك أراد "قاسم وعبود" أن يحتفيا بأختهما بطريقة شبابية تنفض عنها عبء الأيام وتزرع البهجة في قلبها، لكنهما لم يحتسبا أن تلك الألعاب النارية التي اشترياها على سبيل المرح ستقع في أيدي الصغار، أولئك الذين امتلأت عقولهم بمقاطع "تيك توك" المتداولة، وقرروا تنفيذ أحدها داخل غرفة سيرا تحديدًا متسللين إليها سرًا، متحمسين لتصوير مغامرتهم وكأنهم أبطال، ولكن لم يدركوا حينها أن ما بدأوه باللعب قد ينتهي بكارثة.


وفي الخارج كانت حكمت تُنادي الجميع لتناول العشاء وصوتها يعلو فوق أحاديثهم، وعيناها تجولان على الأطباق التي رتبتها بعناية، ورغم اعتراضات سليم المستمرة ظلت تُصر بإلحاح مزعج لا يهدأ، عندها همس سليم لزيدان بنبرة ممتلئة بالحنق وكأنه على وشك الانفجار:


-أنا مفيش حد تعبني قد الست دي.


فرد زيدان ساخرًا وهو يطالعها من طرف عينه:


-دي ترهق مديرية اقسم بالله، المفروض ياخدوها عندنا في الشرطة يعذبوا بها المجرمين.


همس بها بغلٍ مكتوم فقد ضاق ذرعًا بتدخلها في كل كبيرة وصغيرة، رغم أنه ما إن تقع عيناها عليه حتى يبتسم مُجبرًا، محاولًا تفادي الاصطدام بها، فابتسامته لا تحمل سوى رغبة في النجاة من ضجيجها.


جلس الجميع على طاولة السفرة الكبيرة والأطباق تتوسطها، لكن سيرا كانت تقف في الخلف قرب نهاية الممر الطويل المؤدي إلى الغرف، فكانت جامدة تمامًا كأن الزمن توقف في عينيها، حدقت نحو الردهة بذهول مريب ونظرتها معلقة بها لا ترمش ولا تنطق، فقد أصيبت خلاياها بخدر غريب كأنها انفصلت عن جسدها، وعجزت عن التعبير أو حتى الحركة.


لاحظ يزن غيابها فالتفت نحو المقعد الخالي بجواره، وسألها بتعجب وهو ينادي عليها:


-سيرا تعالي واقفة ليه؟


لم تجبه فقط رفعت يدها المرتجفة وأشارت نحو الردهة، وعيناها تغرورقان بالدموع حيث كانت على وشك الانهيار عندما رأت خيوط الدخان تتسلل من أسفل باب غرفتها...ثم انفجرت صرختها حادة مرتعشة تمزق الهواء:


-اوضتي بتولع.


خيم الذعر في المكان كالصاعقة صرخات وحركة عشوائية في وجود أصوات متقاطعة، لكن يزن لم ينتظر وتحرك بسرعة خاطفة، مندفعًا نحوها ولحق بها وهو يحاول أن يثنيها عن الاقتراب، فجذبها بذراعه بقوة وهو يصرخ:


-استني يا سيرا ماتقربيش!


لكنها كانت كمَن فقدت عقلها تتلوى بين ذراعيه، تبكي وتصرخ بهستيريا، نظراتها عالقة بالأشياء التي تحترق أمامها السرير....الكتب....الثياب، حتى الصور ومرآتها الصغيرة التي لطالما جلست أمامها تتزين بحياء كلها تحولت إلى رماد.


-اوضتي بتولع يا يزن، اوضتي.


كانت تكررها بصوت مبحوح وممزق كأنها تودع عمرًا كاملًا، تلك الغرفة لم تكن مجرد مكان للنوم، بل كانت وطنها الصغير وحدود عالمها، ركنها الخاص الذي تلوذ به من ضوضاء عائلتها ومن أسئلتهم، من زحام متواجد ومستمر وقيود مفروضة عليها، فقد كانت فيها تبكي بحرية، تضحك وتلهو، وتغفو على وسادة لا تشاركها مع أحد.


أما يزن فكان يحاوطها بذراعيه، يمسكها بعنف خوفًا من أن تندفع نحو النيران وقلبه يخفق بجنون، بينما انطلق أفراد العائلة في سباق مع الزمن، الرجال اندفعوا لإخماد الحريق بما توفر لديهم، والنساء أخذن يخرجن الأطفال بسرعة من الشقة ثم من البناية كلها. 


أما سيرا فقد دفعها يزن نحو الخارج رغم مقاومتها المستميتة، وعندما لمح عبود وقاسم صاح بهما بصوت آمر لا يقبل نقاشًا:


-خرجوها برة خالص، واوعوا تسيبوها لحظة.


تلقفها الشقيقان المرتبكان بينما كانت تتشنج بحرقة، تتمسك بأنفاسها بصعوبة وهي تكرر بجزع:


-اوضتي اتحرقت، لا..اوضتي.


لقد نُزعت من ملاذها كأنها اقتُلعت من جذورها، فرفعت رأسها نحو الأعلى حيث تتصاعد أعمدة الدخان من شرفتها، نظرتها كانت مكسورة مملوءة بحزن ثقيل، فقد كانت الوحيدة التي تبكي، بينما كان أفراد العائلة يُرددون الأدعية أن يُطفئ الله الحريق دون أن يمتد إلى بقية الشقة، لأن الجميع يعلم أن العواقب ستكون وخيمة...لن يكون هنالك بيت وسيتشردون جميعًا.


اقتربت شمس منها وجذبتها إلى حضنها برفق، ثم احتضنتها وهمست بصوت متهدج:


-متعيطيش كده، احمدي ربنا إنك مكنتيش فيها.


لكن عقل سيرا كان قد سافر بعيدًا حيث لا صوت يسمعه أحد فقد كانت تبحث في داخلها عن إجابة أين ستنام الليلة؟ أي مساحة في هذا المنزل المزدحم ستحتضن أنوثتها؟ كيف سترتدي ملابسها وسط أزواج شقيقاتها؟ وأين ستجد متنفسًا بعيدًا عنهم؟ متى ستظل ترتدي إسدال طويل تخنق به حريتها كل يوم؟


وبعد فترة قصيرة استطاع الرجال من عائلة سيرا، إلى جانب يزن واخويه وبعض الجيران، أن يُخمدوا الحريق بمجهودات بطولية، لكن الأضرار كانت جسيمة، فالغرفة بكل تفاصيلها صارت خرابًا، لم يعد يُمكن استخدامها، فقد أصبحت خارج نطاق الحياة وكأنها لم تكن.

                             ****


صعدت سيرا إلى سطح المنزل بعد فترة بسيطة، هاربة من أعينهم المتطفلة التي ظلت تلاحق دموعها، ومن محاولاتهم المستمرة في إسكاتها دون جدوى، وكأن البكاء خطأ في لحظة كهذه! شعرت حينها بثقلٍ مهين من الحرج أمام عائلة يزن، وكأنها باتت عبئًا ثقيلًا في عيون الجميع، حتى فقدت قدرتها على التعبير أو حتى البقاء وسطهم، فكل ما أرادته لحظتها أن تبتعد، أن تُسكت ضجيج تساؤلاتهم وتتجاهل توسلات فاطمة بالذهاب معها للمبيت، وأن تهرب...تهرب من كل شيء.


جلست فوق مقعد خشبي قديم متآكل الحواف، استندت بكفيها فوق رأسها كمَن يحمل أثقال الدنيا فوق عنقه، تنفست ببطء ولكن بثقل، وكأن الهواء نفسه بات خانقًا لا يُحتمل.


وفجأة تسلل صوته إليها هادئًا وناعمًا كنسمة باردة تلامس وجهها في ليلة خانقة حارة:


-لسه بتعيطي؟


رفعت رأسها بتثاقل وجهها غارق بالدموع، عينان محمرتان وأنف متورد من شدة البكاء، فتمتمت بصوتٍ مبحوح متشبع بالحزن:


-لا خلاص مبعيطش.


رفع حاجبيه بدهشة ساخرة ونظر إلى ملامحها المنكسرة بتهكم طفيف لكنه لا يخلو من العطف:


-مابتعيطيش ايه؟! انتي مش شايفة وشك والفستان! ده انتي مغرقة الأرض بدموعك.


مسحت دموعها على عجل بظهر كفها، متظاهرة بالتماسك بينما نبرتها خرجت حادة تختلط بين الغضب والضعف:


-مش لدرجادي!


تنهد بعمق وهو يراقب ارتباكها فاقترب منها قليلًا بحذر، ثم همس بتساؤل خافت أقرب إلى العتاب الرقيق:


-بتعيطي ليه كده؟!


لم تحتمل السؤال فعادت دموعها تنهمر كأنما فتحت السدود من جديد، نظرت إليه بضعف وعيناها تنطقان بمدى حزنها، ثم قالت بصوت مكسور يشبه نغمة الأطفال حين يُخذلون:


-عشان اوضتي اتحرقت.


كاد أن يمد يده لاحتضانها ليحتوي هذا الانكسار ولكنه تراجع، فما بينهما لم يُحسم بعد بزواج، فهناك حدود وضعها العقل رغم أن القلب تجاوزها منذ أن رآها وأعجب بها، لكن يده خانت صمته وامتدت لتُمسك بكفها المرتجف وتربت فوقه بحنوٍ بالغ، فقال بلطف وبصوت دافئ يلامس الجراح برقة:


-طيب يا سيرا ده قضاء وقدر يا ماما، احمدي ربنا إنك مكنتيش فيها، وبعدين هتتظبط تاني متقلقيش.


نظرت إليه بصمت ولم ترد، لكن نظرتها كانت مليئة بتساؤلات لم تجد لها إجابات، فقد كانت غارقة في دوامة صمتها، لذا ارتبك من ردة فعلها وسارع بالسؤال:


-ساكتة ليه؟!


زمت شفتيها وشعرت أنها على وشك الانفجار، فتنهدت بأسى شديد ثم قالت بصوت أشبه بالهمس:


-عشان محدش فاهم حاجة.


شعر أن هناك شيئًا أعمق من مجرد حزن على غرفة، فازداد اهتمامه وربت على يدها مرة أخرى بحنوٍ صادق:


-طيب فهميني؟ في حاجة كانت جوه اتحرقت زعلانة عليها؟


هزت رأسها نفيًا ثم ضحكت بسخرية حزينة:


-لا...بس أنا اللي بقيت مشردة.


ابتسم ابتسامة خفيفة ثم بدأت تتسع تدريجيًا، ولكن سرعان ما واجهته بنظرة غاضبة، وقالت بصوتٍ ممتعض:


-ماتضحكش أنا فعلاً بقيت مشردة.


قبض على كفها برفق وهو يبتسم بمودة وممازحة:


-يا نهار ابيض! مشردة مرة واحدة! خطيبة يزن الشعراوي تتشرد كده وأنا موجود طيب دي تبقى عيب في حقي.


أشاحت ببصرها عنه محاولةً أن تمنع دمعة جديدة من السقوط، ثم قالت بنبرة مجهدة وسردت جزءًا من ألمها بصوتٍ مهزوم:


-انت أصلاً ماتعرفش حاجة، اوضتي دي كل حياتي، باكل وبشرب وبنام وبهرب فيها من دوشة عيال اخواتي، بتنفس فيها بحرية بعيد عن كل شوية لابسة الطرحة عشان لو في جوز واحدة من اخواتي موجود، كنت بفصل فيها من الزن والدوشة، دلوقتي هنام فين؟ ده بعيد عن إن أنا زعلانة على حاجاتي اللي اتحرقت.


نظر إليها نظرة مطولة عندما أدرك وقتها أنها ليست مجرد فتاة مدللة تبكي على غرفة، بل هي إنسانة كانت تحتمي بجدرانها الهشة، فهمس بصوت حنون يشبه وعدًا غير منطوق:


-حاجاتك تتعوض، أما بقى حكاية النوم تعالي معايا لغاية ما اوضتك ترجع تاني.


رفعت حاجبيها بدهشة وكأنها لم تصدق ما سمعت:


-نعم؟!


صمت لحظات ثم قال بنبرة عشوائية ولكن يملؤها الاهتمام:


-أنا بتكلم بجد، تعالي نامي عند شمس وهجيب سليم ينام معانا تحت...ولا اقولك لا سليم مقدرش اقوله كده، زيدان اقدر عليه عادي واقعده معايا تحت بالعافية.


ضحكت من بين دموعها ضحكة صغيرة ولكنها حقيقية لأول مرة منذ ساعات:


-شكرًا يا يزن، بس مينفعش أجي امشي الناس من بيوتها، وبعدين متقلقش أكيد هيشوفولي مكان يعني! مش هنام في الشارع متخافش.


تغيرت ملامحه ولم يعد يبتسم، بل بدا وكأنه يفكر في كل طريقة ممكنة لإسعادها، ثم قال بجدية واهتمام:


-طيب تعالي هحجزلك في فندق تقعدي فيه!


نظرت إليه بعدم رضا ثم قالت بحدة ولكن نبرتها تخفي امتنانًا:


-لا طبعًا مش لدرجادي، هتصرف متخلنيش اندم إن اتكلمت معاك وفضفضت في كلمتين.


أجابها بسرعة وبكل صدق وكأن كل ما يهمه فقط هو أن يطمئن قلبها:


-تندمي ليه؟ أنا عايز راحتك وتكوني مبسوطة، مش عايزك تزعلي ولا تشيلي هم حاجة.


نظرت إليه مطولًا ثم ابتسمت ابتسامة هادئة، كانت تحمل شكرًا صامتًا وشيئًا من المزاح الطفيف الذي أرادت به أن تُخفف توتر الجو الذي حدث بسببها:


-مش زعلانة، معقولة أبقى خطيبة يزن الشعراوي وازعل بردو؟


ارتسمت على وجهه ابتسامة عميقة امتدت بهدوء على ملامحه، لكنه لم يرد فهو لم يكن بحاجة إلى كلمات؛ بل اكتفى بالنظر إليها نظرة طويلة هادئة مشبعة بالعاطفة والحنان، أما عيناه كانتا تتحدثان نيابة عنه وكأنها تخبرها بصمته العميق أنه سيكون دائمًا إلى جوارها.


وبالرغم من أنها حاولت مقاومة أثر تلك النظرة، إلا أنها شعرت بخجلٍ دافئ يتسلل إليها، فخفضت بصرها سريعًا وابتعدت بعينيها عنه كأنها تحمي نفسها من ذوبانٍ مُحتمل في عاطفته، لكنها لم تستطع إخفاء تلك الرجفة الطفيفة التي اجتاحت قلبها للحظة.


ولكن اندفع أحد الأطفال إلى السطح بسرعة وهو يبكي بانفعال، فانتفضت سيرا من مكانها واقفة في توتر، وعينها على وجه الصغير الذي هرع نحوها، ضمت ذراعيها إليه سريعًا تستقبله بأحضانها قبل أن تتساءل بفزعٍ أمومي:


-مالك يا ميمو بتعيط ليه؟


رفع وجهه نحوها والدموع تنحدر على خديه الصغيرين، نظر إليها برجاء طفولي خالص وقال بنبرة مرتجفة:


-خبيني يا خالتو، ماما عايزة تضربني عشان أنا اللي ولعت في اوضتك.


في لحظة سكن الهواء من حولها، وتجمدت ملامحها لثوانٍ قبل أن يندفع يزن بسرعة ويفصل الطفل عنها، وهو يقول بلهجة ساخرة تخفي قلقًا داخليًا:


-انت عبيط يالا؟! جاي تستخبي في حضن الوحش، دي احتمال تقتلك دلوقتي.


بدأت يده تدفع الطفل برفق بعيدًا عنها، لكن صوتها خرج متهدجًا من بين شفتيها، يحمل غضبًا بدأ يتصاعد كسُحب عاصفة:


-بقى أنت يا ميمو يا كلب اللي ولعت في اوضتي؟


كان صوتها متوترًا ومشحونًا، والطفل بدأ يرتجف قليلًا من حدة الموقف، وقبل أن يجيب اندفعت فريال إلى السطح، وهي تلوح بحذاء في يدها وتصرخ بغضب شديد:


-هو فين ابن العبيطة ده؟


سارع يزن ووقف أمام الطفل ومد ذراعيه كحاجز حائل بينه وبين العاصفتين، يتحدث بتوترٍ يحاول تهدئة الأجواء:


-اهدو يا جماعة ده في الاول وفي الأخر عيل صغير، وبعدين احنا المفروض ندور على مين اللي حط العاب نارية في اوضتك.


وقبل أن تزداد حدة الموقف صاح الصغير فجأة بحماس، وكأن الفكرة أنقذته من الغرق:


-خالو قاسم وعبود يا ماما أنا بريء.


التفتت سيرا إليه فاغرةً شفتيها بدهشة لا تخلو من الصدمة، بينما قال يزن بسخرية مرهقة:


-اهو بريء يا جماعة اهدو بقى.


ولكن سيرا لم تملك نفسها فقد شعرت بأن غضبها اقترب من نقطة الانفجار، فتشنج وجهها وانسحب دمها إلى وجنتيها المتقدتين، ثم رفعت طرف فستانها برشاقة وهي تتراجع للخلف خطوتين استعدادًا للركض، وفي لحظة اندفعت كالسهم نحو الدرج، تنوي الانتقام دون تفكير، هاتفه بصوت قوي اخترق ليل السطح:


-قاســــم....عبــــود.


غزت نبرتها لذة انتقام بدت واضحة، وكأن الحريق الذي أكل حجرتها لم يطفئ بعد، بل استقر في صدرها، فركضت خلفها فريال تهتف باسمها وتحاول اللحاق بها، بينما ظل يزن في مكانه يراقب المشهد بخليط من الارتباك والضحك المذهول، وما إن ابتعدتا حتى انخفض يزن قليلًا إلى مستوى الطفل، ينظر إليه وهو يضع يده فوق كتفه بحذر، وسأله بنبرة مرحة ولكنها تحمل فضولًا صريحًا:


-هيعملوا إيه في خالك عبود وقاسم؟!


رمش الصغير بعينيه عدة مرات، ثم نظر إليه بجدية طفولية مدهشة، وابتسامة شريرة بدأت تتسلل إلى ملامحه، وهو يجيب بصوت يضج بالحماس والانتصار:


-مش هما اللي هيعملوا، دي خالتو حكمت هتعلقهم على باب البيت. 


ضحك يزن رغماً عنه ومرر يده فوق شعر الصغير وهو يتمتم:


-لا بقى... احنا لازم ننزل ونتفرج، الحفلة دي مش هتفوتني!

                            ******


مر يومان ولم تتعافَ غرفتها بعد من آثار الحريق، ظلت الجدران عارية تفوح منها رائحة الرماد بينما تم إخراج كل أثاثها المحترق، أما العمال الذين وعدوا ببدء التجديد لم يأتِ منهم أحد، وكعادة بعض عمال مصر الوعد شيء والمجيء شيء آخر تمامًا!


أما سيرا فكانت حرفيًا مشردة، تتنقل بين غرفة والديها أحيانًا، أو غرفة إخوتها عبود وقاسم أحيانًا أخرى، ومرات كانت تُستضاف لدى حكمت، في غرفة "دهب" التي لم تكن لتخلُ من ضجيجها وضحكاتها العالية، ومكالماتها التي لا تنتهي مع أصدقائها، فالغرفة كانت أقرب لمحطة إذاعية مفتوحة على مدار الساعة.


شعرت باختناق وهي جليسة المنزل لا تفعل شيء سوى النظر إلى غرفتها والجلوس أغلب الوقت صامتة تبحث عن عمل عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولكن دون جدوى، أما علاقتها مع يزن فكانت هادئة يشوبها المكالمات البسيطة للاطمئنان عليها.


ولكن اليوم لم يأتيها اتصالاً منه كعادة كل يوم، أمسكت هاتفها لتجرى اتصالاً به متظاهرة بكسر حالة الملل التي أصابتها، ولكن رنين هاتفها يفيدها باتصال من فاطمة دفعها للرد سريعًا:


-فاطمة كويس انك اتصلتي، تعالي اقعدي معايا، ولا استني هاجي أنا اقعد معاكي.


جاءها صوت فاطمة النائم وهي تقول:


-أنا مطبقة، بقولك اتصلت عشان بعتلك رقم واحد عنده جيم شوفته على الانستا قبل ما أنام.


تهلهلت أساريرها وهي تقول بحماس:


-اشطا اقفلي هروح أكلمهم.


أغلقت الهاتف والتفتت حولها تحدد مكانًا هادئًا تجري به مكالمتها فلم تجد سوى الشرفة، ولكن ركوض الاطفال خلفها، جعلتها تقف تصدر أوامرها بصرامة:


-وربنا اللي هيجي ورايا هرميه من البلكونة، ابعد يالا منك ليها.

   

                          ***


أما يزن فكان قد قرر الخروج برفقة نوح، إذ زارا عيادة الأخير سريعًا، ثم ألح عليه يزن أن يأخذ قسطًا من الراحة بعيدًا عن ضغط العمل وهموم الأيام المتتالية، فوافق نوح الذي كان مستهلكًا نفسيًا ولم يُمانع، بل شعر أن عقله بحاجة للهدوء أكثر من جسده.


وبينما كانا يمران من أسفل البرج، استوقفتهما يسر التي كانت واقفة أمام محلها الجديد، تحمل في يدها مجموعة من الدعوات الصغيرة، كانت توزعها بابتسامةٍ واثقة وعيناها تبرق كأنها تعلن بدء مرحلة جديدة من حياتها.


اقترب منها نوح وعلى وجهه ملامح الدهشة:


-انتي بتعملي إيه يا يسر؟


نظرت إليه نظرة غامضة خليط بين الفخر والمكر الأنثوي، قبل أن تُحول نظراتها نحو يزن ورمقته بابتسامة هادئة وعندما رأته يلمح لافتة المحل من خلفها:


-مبروك يا يسر.


-الله يبارك فيك يا يزن، هستناك تيجي في الافتتاح أنت وخطيبتك، وبالمناسبة الف مبروك أحسن قرار أخدته، مفيش أحسن من الاستقرار، ولا إيه يا دكتور نوح؟


مدت الدعوة ليزن فتلقاها مبتسمًا بخفة، قبل أن يلتفت إلى وجه نوح المحتقن، لتقول بمزاح خفيف وابتسامة واثقة:


-عايز دعوة يا نوح؟!


-معقول ده صاحب مكان.


قالها يزن بتسلية ثم أكمل حديثه بمشاكسة:


-ولا نفسك في دعوة؟!


رد نوح بغيظٍ مكتوم وكأنه يجاهد لكتم انفعاله:


-نفسي تسكت.


التفت إلى تلك الواقفة تنظر إليه بتحد، فرمقها بغيظ وهو يستنكر فعلتها:


-دعوات إيه يا يسر اللي بتوزيعها، هو فرح؟! 


ابتسمت يسر وقالت بنعومة خادعة:


-طبعًا فرح! دي فرحتي بافتتاح أول شغل خاص بيا، ولا إيه يا يزن؟


بدت نظرات نوح ممتلئة بالغضب والغيرة، مما جعل يزن يشعر بتوتر واضح فقد أدرك أن الأجواء على وشك الانفجار بين الاثنين، فسارع بالتراجع خطوة وقال بسرعة:


-والله أنا رأيي إنها خصوصيات يعني وماليش اتدخل فيها، هروح اتطمن العربية فيها بنزين ولا لا.


وانسحب بهدوء لكن قبل أن يستقل السيارة، وقعت عيناه فجأة على وجه سيرا، كانت تقف أمام إحدى البنايات المجاورة، تتلفت حولها بتوتر واضح ثم دخلت إلى المبنى بعجلة شديدة، وكأنها لا تريد أن يراها أحد.


ارتفع حاجباه بدهشة وأخرج هاتفه بسرعة يجري اتصالًا بها، لكن كل مرة كانت تُغلق الخط فورًا، دون أن ترد، الأمر الذي جعل قلبه يضطرب فقد بدأ الشك يتسرب إليه، ومعه غضب لم يفهم أسبابه بعد، هل تخفي عنه شيئًا؟ ولماذا تتجاهل اتصاله بهذا الشكل؟


بدأت نبضاته تتسارع وفي رأسه ألف سؤال...لكن لا إجابة، حتى قرر التسلل خلفها ليرى ماذا تخفيه عنه.


__________

قراءة ممتعة ♥️😍

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات

التنقل السريع