رواية غناء الروح الفصل الثامن والثلاثون 38بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل الثامن والثلاثون 38بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
الفصل الثامن والثلاثون
وقفت أمام المصعد تنتظر أن يستقر بالطابق السفلي لتستقله وتصعد نحو الطابق المنشود، بينما أنفاسها تتسارع بلا سبب واضح سوى توترها الداخلي من المقابلة التي تنتظرها، فقد كانت عيناها معلقة بأرقام الطوابق التي تتغير ببطء، ويدها تعانق حقيبتها الصغيرة كأنها تتشبث بها لطمأنتها.
لكن صوته الذي اخترق المكان بنبرة صارمة وحادة، جعلها تنتفض في مكانها فجأة كمن لُسع بالكهرباء، فامتزج الخوف بالدهشة في ملامحها، وارتسم تعجب واضح على قسمات وجهها:
-سيرا بتعملي إيه هنا؟
وضعت يدها على موضع قلبها تحاول تهدئة خفقاته التي باتت تعلو كطبول تحذرها من كارثة وشيكة، فاقتربت منه بخطوات بطيئة ووجهها يحمل خليطًا من التوتر والخجل، وهمست بصوت رقيق خرج منها رغمًا عنها مصحوبًا برجفة خفيفة فضحت اضطرابها:
-يزن أنت اللي بتعمل إيه هنا؟
نظر إليها بحدة ثم مد يده فجأة يمسك بذراعها بلطفٍ فيه شيء من السيطرة، وجذبها بعيدًا عن الأنظار إلى زاوية منعزلة عن أعين المتوافدين على البرج السكني، وعينيه تفحصتا ملامحها بدقة كأنه يبحث عن شيء لا يُقال، ثم قال بنبرة خشنة خلت من المجاملة:
-كنت واقف مع نوح صاحبي، وشوفتك وانتي داخلة هنا فاستغربت!
عقدت ما بين حاجبيها بدهشة لم تخفها وابتسمت ابتسامة خفيفة ممزوجة بالحيرة:
-استغربت ليه؟!
تغيرت نبرته وازدادت عمقًا وهو يرد بنبرة رخيمة، تحمل في طياتها استنكارًا مغلفًا بغيظٍ دفين:
-يمكن عشان ماقولتليش إنك خارجة مثلاً؟!
كلمات بسيطة لكنها كانت كفيلة بكشف مدى ضيقه، فحاولت تهدئة الموقف وقالت بهدوء ينبع من صدق نواياها، وقد تلألأت عيناها البراقتان بأمانة لا تُنكر:
-عادي يعني، أنا جالي فرصة شغل وجاية أقدم فيها.
رفع رأسه بتلقائية نحو الأعلى كأنه يبحث عن تفسير في سقف المكان، ثم تمتم بسؤال يفيض بالتعجب وهو يطالع أرجاء البرج بنظرة فاحصة:
-هتشتغلي إيه هنا؟!
هزت كتفيها بخفة وردت عليه ببساطة، وكأنها لا تفهم لماذا يُفاجَأ بشيء يعرفه جيدًا:
-مدربة في جيم!
رفع حاجبًا ساخرًا ونظر إليها بعينين تتقدان شكًا، ثم سألها بنبرة غليظة تحمل في طياتها أكثر من معنى:
-وفين الجيم اللي هنا؟ البرج كامل مفيهوش جيم!
اضطرب قلبها بين ضلوعها وشعرت وكأنها تتعرض لتحقيق مفاجئ، فترددت في الرد لوهلة ثم تماسكت وقالت بهدوء تحاول أن تصطنعه:
-أيوه ما أنا استغربت بردو، بس لما اتصلت بيهم من شوية قالولي أنهم مكتب توظيف ولسه هيعملوا مقابلة معايا الاول وعندهم كذا جيم وهنشوف المناسب ليا.
صمت لثوانٍ وكأنه يحاول استيعاب الأمر، ثم أمسك بكفها بإحكامٍ مفاجئ وقال بنبرة آمرة لا تحتمل الرفض:
-طيب يلا هاجي معاكي.
توقفت رغماً عنها تمانع سيره بها، وسألته بنبرة فيها شيء من الدهشة والاستنكار:
-بجد؟ طيب وصاحبك؟
هز رأسه بلا مبالاة وقال بنبرة متملكة تسللت إلى قلبها كنسمة دافئة:
-فكك منه انتي أهم.
كادت تبتسم بل كادت تذوب في تملكه الواضح لها، لكن فضولًا صغيرًا جعلها تتريث، فسألته بعينين تلمعان ببريق خاطف:
-أهم في إيه؟! يعني ده لسه يدوب هشوف هيوفقوا عليا ولا لا؟
اقترب منها أكثر وانخفض بصوته حتى بات رخيمًا يحمل في طياته بحة رجولية آسرة، وقال:
-يعني اسيبك يحصلك مصيبة وانتي لوحدك؟ وبعد كده متتكررش تاني أبدًا تروحي مكان غريب لوحدك، أنتي ماتعرفيش إيه ممكن يكون مستنيكي.
بلعت ريقها بتوتر، وقالت بارتباكٍ ظاهر:
-انت قلقتني بس يعني ان شاء الله خير، متقلقش عليا أنا أقدر اسد في أي حاجة.
ابتسم بسخرية ومال نحوها بشقاوة خفيفة:
-اه من واخد بالي، أنتي بتسدي معايا أنا بس، بس مع غيري فرخة بلدي مبتنطقيش.
رفعت رأسها بتعالي مصطنع وردت بنبرة متجاهلة:
-أنا هعتبر كأني ماسمعتش أي حاجة، وبعدين هو أنا ليه حاسة إنك متضايق كده؟
رمقها بغيظٍ كمَن ثم أفرغ ما يختلج في صدره من ضيق:
-عشان شايف إن ملهاش لزمة تشتغلي عند حد أصلاً، وقولتلك تعالي اشتغلي معايا، وكده هكون مطمن عليكي.
أغمضت عينيها لثوانٍ تشعر بمدى صدقه رغم صلابته، ثم ربتت على يده القابضة على يدها الأخرى بحنان وابتسمت إليه ابتسامة صافية:
-يزن أنا مقدرة جدًا....
لكن جملتها لم تكتمل إذ انبعثت فجأة أصوات رجال يتحدثون بصخب داخل المبنى، واندفع عدد منهم إلى الداخل، فارتبك المشهد فجأة وتقدم أحدهم بجسد ضخم ليزيحهم عن طريقه، فوضع يزن يده فوق كتفها ليحميها عندما قالت مستنكرة:
-اه في إيه؟ حاسب.
زمجر به يزن بغضب وهو يعلن انتباهه لوجودهما:
إيه ده؟ في أيه؟ حاسبوا؟
وقد ارتبكت سيرا من المشهد فحدقت في السيارات التي بدأت تصطف أمام البرج، ولاحظت لونها وأضواءها فهتفت بخوف:
-يزن هو في إيه؟ هما طالعين يجروا ليه كده؟
نظر نحوها بنظرة جادة ثم قال بحزم:
-اقفي هنا ثواني واوعي تتحركي، فاهمة..
أومأت برأسها دون نقاش تتابعه بأنفاس محتبسة، فابتعد نحو رجل يقف عند مدخل البرج، تبادلا كلمات سريعة، ثم عاد بملامح متجهم، الغضب يطل من عينيه والعتاب واضح في قسمات وجهه، فاقتربت منه تسأله بلهفة:
-يزن في إيه؟ مين دول؟!
قال بجمود وهو يرمقها بنظرة ثقيلة:
-دول بوليس الآداب يا سيرا وجاي يقبض على مكتب التوظيف اللي حضرتك اللي كنتي هتطلعيه لوحدك فيه؟ دي طلعت شقة مشبوهة والجيران بلغوا.
اتسعت عيناها بذهول وضغطت بكفها على صدرها بخوف، ثم شهقت وهي تهمس بذعر:
-يا نهار أسود؟ شقة مشبوهة؟ الحمد لله يا رب، الحمد لله، عايز اسجد شكر لله، الحمد لله.
ظل يزن يرمقها بنظرة معاتبة كأنه يحملها كل اللوم، فتفهمت صمته وانكمشت على نفسها بشعور بالحماقة:
-إيه ماتبصليش كده؟ انت اللي مصر اروح اشتغل عند الغريب، مع إن أنا قولتلك كتير اشتغل معاك بس انت بترفض، مع أنك هتكون مطمن عليا على فكرة وأنا معاك.
ابتسم إليها بهدوء، بعينين تحملان الكثير من الطمأنينة، ومد يده ليأخذ كفها الصغير برفق، ثم حركه نحو الاتجاه الآخر بخطى محسوبة، نحو محل يسر الذي تزينت واجهته بالألوان والزينة، استعدادًا لحفل الافتتاح، فأردف بلهجة رخيمة تحمل لمسة من المزاح الدافئ:
-هنروح نخلع من نوح بشياكة ونمشي، وتسلمي على مراته، تمام؟
نظرت إليه برفض خفيف ارتسم على ملامحها، وقطبت حاجبيها وهي تشيح بوجهها عنه:
-لا مش تمام، أنا لا يمكن أخدك من صاحبك، روح معاه أنا هروح.
توقف لحظة عن السير ومنحها نظرة عميقة وكأنها تحمل بين طياتها قرارًا لا رجعة فيه، ثم أردف بنبرة آمرة لا تقبل الجدل:
-لا...واللي قولته هو اللي يمشي.
ترددت لبرهة ثم عادت لتسير بجانبه، وقد اكتسى وجهها بابتسامة خفيفة، فيها شيء من الألفة والدلال ثم قالت بنبرة مشاكسة جديدة وهي تحاول أن تتدلل عليه:
-تمام همشيها بس النهاردة عشان خاطرك.
توقف مجددًا وكأنها فاجأته بتغير نغمتها هذه المرة، فنظر إليها باستغراب وقد ارتسمت على وجهه ملامح الدهشة:
-مستغربك وانتي هادية كده ولسانك مابينقطش كلام زي الدبش معايا.
نظرت إليه بعينين فيهما قدرٌ من الضعف، وأردفت بصوت يحمل براءة زائفة فيها القليل من التمثيل والكثير من النية الطيبة:
-ماليش وش الصراحة، فحبيت الم الدور....
لم تكمل حيث توقف كلامها فجأة حينما لفت انتباهها من خلال زجاج المحل مشهد بدا مقلقًا؛ فقد كان نوح ويسر يتشاجران داخل المحل، من لغة جسديهما وطريقة حركاتهما السريعة والمتوترة، فقالت بتوتر وقلق ظاهر على نبرتها:
-إيه ده؟ يزن الحق دول باين بيتخانقوا؟
نظر في نفس الاتجاه الذي أشارت إليه، وركز بصره على الداخل حيث كانت يسر تلوح بيديها غاضبة، بينما نوح يرد عليها بنبرة حادة وعلى وجهه علامات التوتر والانفعال، فقال بتنهيدة مثقلة كأنها تحمل على كاهلها عبء العلاقات المعقدة مثل علاقة نوح صديقه وزوجته:
-باين إيه!! ده أكيد، تعالي لما ندخل هيتحرجوا.
لكنها لم تتحرك بل ثبتت مكانها وقد ارتسمت على وجهها ملامح العناد وعنفوان أنثوي صلب، كأنها تحارب من أجل قضية لا تخصها وحدها، وقالت بنبرة فيها نبرة احتجاج أنثوية واضحة:
-ونقطع عليهم ليه؟ افرض هو كان جاي عليها، ما نسيبها تاخد حقها منه.
ابتسم يزن بخفة وهو يرمقها بنظرة خفيفة فيها سخرية لطيفة ثم أردف:
-ما هي بتاخده بالطريقة، ونوح بدأ يولع، وبعدين تعالي هنا دي انتي منهم ولا إيه؟
رفعت حاجبها بدهشة مصطنعة وقالت ساخرة:
-من مين بالظبط؟ عشان هما كتير!
ضحك بخفة وهو يومئ برأسه قائلاً:
-انتي بتسخني بوتاجز خمسة شعله؟!
رفعت رأسها وهي ترد بتحدٍ وقوة:
-لا، بس أنا من أنصار حقوق المرأة.
غمز إليها بطرف عينيه وهو يشاكسها بنبرة ناعمة:
-طيب وحقوق يزن؟ مش هتبقي من أنصاره؟
أجابت وهي ترفع يدها بحركة درامية وتبتسم بمكر:
-لا ما أنا ربنا رازقني بخطيب أنصاره كتير اوووي، لدرجة إن لو وقفت وسطهم مش هيشوفني أبدًا.
رفع حاجبيه وهو يقترب منها خطوة ثم قال بخفة ظل:
-طيب احلفي كده إني مش هشوفك؟ يا شيخة متبقيش عامية القلب والبصيرة!
ضحكت ثم مالت برأسها قليلًا وهي تقول بدلال:
-يعني هتشوفني يا يزون؟
تفاعل يزن معها بحب ثم قال بحماس وقرار نهائي لا رجعة فيه:
-لا بعد يا يزون دي، احنا نسيبهم يولعوا وتعالي افسحك النهاردة اليوم كله.
نظرت إليه بدهشة حقيقية هذه المرة وقد انقلبت نبرتها للقلق:
-أنا مقولتش لبابا!
قال بثقة مفرطة وهو يفتح لها باب سيارته بعناية، ثم وضع يده على إطار الباب من الأعلى خشية أن يصطدم رأسها بالإطار، وكأن حمايته لها أصبحت أمرًا لا يحتاج لتفكير:
-مالكيش فيه أنا هظبطلك الدنيا، يلا ادخلي.
لم تجبه فقط ابتسمت على استحياء، ثم جلست بهدوء على المقعد، بينما انتقل هو إلى مقعده خلف عجلة القيادة، استقل السيارة وشغل المحرك بسرعة كأنه يهرب بها من كل ما يمكن أن يعكر صفوهما، ثم مال نحوها يسألها بحماسٍ صادق، ظهر جليًا في نبرته ولهجته المشرقة:
-تحبي تروحي السينما الأول ولا نتغدا الاول؟
نظرت إليه بنظرة مشحونة بالغيرة الخفية التي تحاول دومًا إخفاءها خلف ابتسامتها، وقالت بنبرة تحمل مزيجًا من المزاح والتوبيخ:
-لا سينما إيه؟ السينما دي أكيد روحتها مع بنات كتير صح؟!
لمح في عينيها تلك الغيرة المحببة فابتسم بخفة وهو يغالبه ضحك مكتوم ثم رد بلهجة مرحة:
-امممم يا نكدية، عايزة إيه يعني؟
أجابته بنبرة توحي بشيء من التدلل، وكأنها تختبر ولاءه في تلك اللحظة العابرة:
-روحت قبل كده الحسين وشارع المعز؟
ظل صامتًا لحظات يستعيد ذاكرته، ثم أجاب بصدق وهدوء كي لا يثير غيرتها أكثر:
-امممم روحت بس مع نوح مرة ومع زيدان أخويا مرة تانية هو ونهى بنت عمتي.
أطلقت تنهيدة خفيفة وكأنها تحاول أن توازن بين غيرتها وثقتها فيه ثم قالت برضا ظاهر:
-حلو أنا راضية بأي حاجة روحتها قبل كده مع أهلك وصاحبك، بس ماتودنيش مكان روحت فيه مع بنات.
مر شبح ابتسامة على وجهه شعر وقتها أن غيرتها لم تضايقه بل لامست شيئًا رقيقًا بداخله، ذلك الشيء الذي يؤكد له أن مكانته عندها مختلفة، فنظر إليها نظرة حانية وفيها الكثير من الاطمئنان، ثم قال بحزم رقيق:
-حاضر انتي تؤمري يا ست سيرا، بس أنا مكنتش مبسوط في الأماكن اللي بروحها مع أهلى.
رفعت حاجبها الأيسر في تحدٍ مستنكر، متعجبة من طريقته كأنها لم تستوعب بعد طباعه الغريبة، ولكنه هز رأسه ساخرًا من نفسه ثم قال وهو يقود سيارته بسرعة كعادته التي لا يستطيع تغييرها:
-أيوه عادي أنا ابن عاق.
ابتسم بهدوء وهي تغوص في مقعدها للحظات، تتأمل ملامحه الجادة التي يختبئ خلفها ذلك الشاب الذي يشبه الأطفال أحيانًا في طيبة قلبه، فقد كان قلبها ينبض بسرعة غريبة وهي ترى نظراته تتعلق بها رغم انشغاله بالطريق!
فقد تراقص ضوء الغروب على زجاج السيارة بينما كانا يسيران بين الشوارع، وكأن القدر نسج لهما لحظة هادئة تحفظها ذاكرتاهما طويلًا، رغم ضجيج المدينة من حولهما، ولم يدرك يزن حينها أن بأفعاله تلك سيمنحها يقينًا لا يهتز بأنها صارت جزءًا من حياته لن يشاركه فيه سواها.
****
سارت سيرا إلى جواره في شارع المعز، بعد أن توصلا إلى قرار الذهاب إليه، وأخبرا والدها بأنها ستخرج في نزهة قصيرة برفقته وسرعان ما ستعود ولا داعي للقلق.
فقد كان المساء بدأ يُلقي بظلاله والشارع ينبض بالحياة والزحام كعادته؛ حشود من البشر وأنوار المحلات اللامعة وأصوات الباعة المتجولين، وروائح المأكولات الشعبية تعبق في الجو وتمنح المكان دفئًا خاصًا.
كانت تنظر إليه بين الحين والآخر وتبتسم كطفلة صغيرة أُطلق سراحها من قيود الروتين، تسير بحماس واضح وعيناها تجولان في الطرقات كأنها تراها لأول مرة، رغم أنها تحفظ كل زاوية وكل حجر في هذا المكان عن ظهر قلب، بسبب زياراتها المتكررة مع أبلة حكمت، فهما رغم اختلاف أعمارهما وأذواقهما تشتركان في حب هذا الشارع؛ هي تعشق التسوق واقتناء كل ما هو فريد، بينما أبلة حكمت لا تفعل شيئًا سوى التجول والجدال مع الباعة في ثمن كل شيء، تُرهقهم بطريقتها الحادة والساخرة أحيانًا.
قطع يزن شرودها بنبرة هادئة:
-مبسوطة؟
هزت رأسها بدلال طفولي وعلى ثغرها ابتسامة من القلب:
-اوي، أنا بحب أجي هنا كتير، بحب الدوشة اللي هنا والزحمة.
ابتسم إليها ابتسامة شاحبة وقد بدا على وجهه الإرهاق:
-أهم حاجة تكوني مبسوطة بس أنا تعبت من المشي، تعالي نقعد في مكان نشرب حاجة.
توقفت فجأة والتفتت إليه بنبرة اعتراضية أقرب إلى الأطفال:
-لا يا يزن، ده المتعة أنك تمشي وتتفرج، تعالى بس في محل بيبيع حلقان تحفة.
لم يجد أمامه إلا الاستسلام لرغبتها، فذهب معها على مضض لم يُبدِ اعتراضًا صريحًا، فقط سار إلى جوارها وهو يتأمل تلك السعادة البريئة التي تملأ وجهها، فتوقفت فجأة أمام محل صغير للمشغولات اليدوية وبدت مبهورة وكأنها ترى كنزًا دفينًا، أمسكت بحلقين أحدهما ذهبي صغير والآخر فضي متدلٍ ثم التفتت تسأله بحيرة:
-ده حلو ولا ده؟
تأمل القطعتين دون تركيز ثم قال بنبرة مرتبكة:
-معرفش، بس الصغير ده هيليق عليكي؟
نظرت إليه مترددة ثم اتجهت إلى داخل المحل وسألت البائع بفضول صادق:
-بقولك عندك مرايه؟ عايزة اشوفه بس على وشي.
رد الشاب وهو يبتسم بنظرة مريبة لم تعجبه:
-اه تعالي يا قمر هنا في مراية.
وأشار إلى ركن في نهاية المحل وبه مرآة طويلة وستارة سوداء، وقد ظهرت عينيه وهي تسلل بخبث إلى تفاصيل جسدها من الخلف.
لكن قبل أن تخطو خطوة واحدة، شعر يزن بشيء يتفجر في داخله فقبض على معصمها سريعًا وهمس بغلظة:
- انتي اتجننتي، اهدي تجربي إيه؟!
ثم جذبها إلى الخارج بنظرة حاسمة، والتفت إلى البائع بنبرة خشنة أثارت ارتباك الأخير:
-هات الاتنين دول طالما عاجبنيها، حقهم كام؟
-ميه جنية يا بيه.
أخرج النقود بسرعة ودفعها بعنف ظاهر، ثم أمسك بكف البائع بقوة وألقى المال بداخله عنوة وهمس بتحذير:
-أنا كان ممكن أطربق المحل فوق على دماغك بسبب بصاتك الـ**** دي، بس هعتبر أنك عيل غشيم ولسه ماتعرفش إن أكل العيش مفيهوش ****، فاحترم وقدر النعمة.
أنهى كلماته ونظراته توقد شررًا وكأن بركانًا من الغضب كان يغلي في صدره، فخرج من المحل بخطوات متسارعة نحوها وجذبها من معصمها بهدوء حازم.
-في إيه؟!
وقف أمامها فجأة وكأن كل ما يكتمه انفجر دفعة واحدة:
-هو إيه اللي في أيه؟، هي الطرحة دي ديكور؟! داخلة فين تخلعي طرحتك وتجربي الحلق؟، جربي في البيت يا ماما مش هنا ومع المعتوة اللي هناك ده!!
فتحت فمها لتفسر له موقفها، لتخبره أنها لم تكن تنوي خلع الحجاب، بل لها طريقتها الخاصة التي لا تُظهر شيئًا لكنه قاطعها بنبرة شبه عنيفة:
-بس خلاص يا سيرا وحياة أبوكي أنا مش ناقص كلمة منك دلوقتي، أنا على أخري.
انكمشت ملامحها رغم أنها كانت تعرف جيدًا أنه غاضب لكن لم تتخيل أن تكون قسوته بتلك الحدة، ورغم ذلك وجدت في غيرته لمحة إعجاب، لمعة خافتة أضاءت عينيها للحظة، فهزت كتفيها بلا مبالاة وقالت بعبوس زائف:
-مكنتش هقول حاجة، ويلا أنا خلصت، يلا نروح.
رفع حاجبيه بضيق من طريقتها:
-اتقمصتي يعني؟! طيب ما تسيبني اهدى مع نفسي، لا ازاي لازم تنكدي على اللي خلفوني.
قالت بذهول:
-هو مين اللي نكد على مين، مش فاهماك؟
-بس خلاص اسكتى بقى.
قالها وهو يرمقها بنظرة حادة، ثم التفت بعيدًا عنها في صمت يرسم الغضب على ملامحه بقسوة، أما هي فقد شعرت بوخز الحزن في صدرها، الحزن الذي يسكن القلب فجأة دون مقدمات، فقد كانت تنتظر أن تترك أول نزهة حقيقية بينهما ذكرى سعيدة، ولكن تحولت إلى موقف موجع ومحرج في عيون الناس المراقبين إليهما.
تراجعت خطوة للخلف تحاول أن تخفي مشاعرها، لكنها شعرت بالدموع تتسلل إلى عينيها، ترفض أن تستسلم لكنها فشلت في النهاية، أما هو فرغم كل ما شعر به من غضب لم يستطع أن يتمادى ولم يحتمل دموعها ولا ملامحها المرتبكة وهي تحاول التشبث بقوتها أمامه، فاقترب منها وقال بلطف متناقض مع شدته السابقة:
-بتعيطي ليه؟ انتي عبيطة هو أنا قولتلك إيه طيب؟ أنا معملتش حاجة لسه!
رفعت وجهها إليه واكتفت بنظرة دامعة ومرتبكة، ثم أخفت عينيها بكفيها لا تريد أن يراها بهذا الضعف، فاقترب أكثر وقال بصوت حنون خافت:
-طيب خلاص الناس بتتفرج علينا يا ماما....
أعطته ظهرها وهي تمسح دموعها بسرعة، ثم زفرت بهدوء لتستعيد تماسكها لكنه ظل يلاطفها بطريقته:
-لو ماسكتيش والله هحضنك في وسط الناس دي كلها، أنا عادي ومايهمنيش، خدي الحلقان طيب أهي.
أبعدت يده وقالت بحزمٍ مخنوق بالحزن:
-مش عايزة منك حاجة، أصلاً هما وحشين.
لم يجبها بل ابتسم بهدوء، ثم تحرك نحو بائع حلوى غزل البنات، وطلب منه واحدة وردية على هيئة زهرة، ثم عاد بها إليها وهو يبتسم بمشاكسة:
-متزعليش يا سرسورة، مع إنك أنتي اللي غلطانة، ويلا نقعد في الكافية اللي هناك ده، عشان احنا بقينا فرجة للناس خلاص.
تناولت منه حلوى غزل البنات بسعادة كبيرة وقد تناست أمر حزنها منه ومن صوته العالي الذي هاجمهما به في الطريق وسط المارة، ورغم أنها تشع كأن شيئًا من العتب لا يزال مختبئًا في أعماقها، إلا أن الطفلة التي تسكنها كانت أبرع في التمرد على تلك الأحزان وسرعان ما بدأت تلتهم قطعة صغيرة من الحلوى، تدسها في فمها بتلذذ واضح، ثم نظرت إليه وهي تمضغ بهدوء، وقالت برفض عفوي:
-لا ده في بنات قليلة الادب بترقص.
توقف لوهلة ثم ضحك بخفة وهو يدفعها للتحرك إلى الأمام وقد أعجبه ردها المفاجئ الصريح، فقال بتسلية:
-ده انتي حافظة بقى؟!
كان يحاول أن يفتح لها طريقًا للمرح مجددًا، يلهيها عن الضيق الذي تسلل إلى قلبها قبل قليل، فيما كانت خطواتهما تتباطأ وهما يقتربان من ناصية بها مجموعة من الكافيهات، فهزت رأسها بإيجاب:
-باجي كتير مع أبلة حكمت.
قالتها بلهجة واثقة وكأنها تُذكره بأن لديها تاريخًا طويلًا في هذا الشارع، تفوق به تجربته المؤقتة معه.
-طيب نقعد فين؟
سأل وهو يتلفت حوله يبحث عن مكان هادئ، فقد كان ضجيج الشارع لا يزال يطن في أذنيه، تقدمت خطوة وأشارت إلى أحد المقاهي القريبة، ثم أردفت بثقةٍ فيها لمسة احتراز:
-هنا في الكافية ده، نقعد في الدور اللي فوق عشان الدور اللي تحت ممكن تقوم بنت ترقص ولا حاجة.
كتم ضحكته وهو يرفع حاجبيه بدهشة مصطنعة ثم رد ساخرًا:
-اه أمان يعني فوق، بارك الله فيكي يا سيرا، أنا أصلاً راجل محافظ وماحبش اشوف الحاجات القليلة الادب دي.
قالها وهو يضع يده على صدره بتصنع الجدية، يحاول أن يضيف لموقفهما بعض المرح الساخر بعد التوتر الذي حل في البداية، بينما كانت هي تتظاهر بعدم الاكتراث لكنها كانت تستمتع بإيقاع حديثه، وبتلك المشاكسات الخفيفة التي تخفف عنهما وطأة الموقف السابق.
فتوقفت لثوانٍ كأنها تتحضر لسؤال مهم، ثم نادت باسمه فجأة بنغمة توحي بأنها تخطط لتوريطه في شيء ما:
-يزن؟
التفت إليها بنظرة حذرة:
-اوعي تسأليني شوفت بنات بترقص ولا لا؟
قالها بتحفظ ساخر وهو يرفع إصبعه كأنه يهددها مازحًا، فهزت رأسها نفيًا وهي تضم شفتيها وكأنها تتقمص دور العفيفة المحتشمة:
-لا مش هسأل، مابتكلمش في الحاجات القليلة الادب دي.
-امال؟
سألها بتلك النبرة المتوقعة الممزوجة بالفضول، وقد بدأ يعتاد تقلب مزاجها السريع ما بين الجدية والمزاح، فتوقفت فجأة ووضعت يدها على بطنها بتصنع الألم، ثم قالت بانفعال حقيقي هذه المرة:
-أنا جعانة اوي بجد، وخلاص حاسة هيغمى عليا، وفي واحد هنا بيعمل سندوتشات كفتة تجنن، وبعدها ياريت تعزمني على درة مشوي، وبعدها تقعدني في الكافية اشرب شاي بالنعناع ويبقى انت كده صالحتني وأنا رضيت خلاص.
قالت ذلك بملامح بريئة لكن ماكرة، وكأنها تنتزع التعويضات انتزاعًا وتُحدد شروط الصلح بوضوح لا يقبل التفاوض، أما هو لم يستطع مقاومة ضحكته فقد شعر وكأنه مع طفلة صغيرة ذات مطالب لا تنتهي، ورغم ذلك لم يكره مطالبها بل وجد فيه سحرًا لا يفهمه:
-بس كده من عنيا أنت يا باشا تؤمر وأنا أنفذ، الحقينا بقى ببتاع الكفتة عشان أنا واقع من الجوع.
كانت نبرته مازحة لكنها لم تخلُ من دفء خفي، فكان يحاول جاهدًا أن يضمد الشرخ الذي كاد أن يتسع بينهما قبل لحظات، أما هي فقد ابتسمت في صمت وكأنها تُسلم قلبها لهذا التقلب اللذيذ في مزاجه..
وفي طريقهما نحو عربة الكفتة كانت الأضواء الذهبية المنبعثة من فوانيس المحال القديمة تتراقص فوق وجهيهما، تعكس من ملامحهما طيفًا من الألفة والاعجاب، فقد كان شارع المعز شاهدًا على هذا التدرج العاطفي بينهما.
عندما وقفا أمام البائع كانت سيرا ترمق العربة بنظرة يعرفها جيدًا؛ تلك النظرة التي لا تفرق فيها بين الطفولة والأنوثة، نظرة مَن لا يخجل أن يُبدي سعادته بأبسط الأشياء.
وحين أمسكت ساندويتشها أخيرًا، لم تكن يدها ترتجف من الجوع فقط بل من شيء آخر خفي؛ ربما لأنها شعرت أخيرًا أن مَن بجانبها لا يُجيد فقط العبث، بل يُجيد الاحتواء أيضًا.
أما هو فكان يتأملها من طرف عينه يتظاهر بالانشغال بالطعام، بينما في قلبه جلبة صاخبة من المشاعر لم يعهدها من قبل، لم يتعود أن يضعف من دمعة أو أن يسعى لابتسامة فتاة تدلل عليه، ولكنها فعلت به ما لا يفعله أحد!
بعد الانتهاء، ألقت المنديل الورقي في سلة المهملات القريبة بحركة عفوية، فقال إليها بهدوء:
-شبعتي؟
نظرت إليه بشيء من البراءة المغلفة بحزم أنثوي:
-الحمد لله، بس منستش الدرة.
ضحك بخفة وهو يتراجع خطوة للخلف مفسحًا لها المجال ليبحثا معًا عن بائع الذرة المشوي، كانت خطواتهما هادئة ولكن يشوبها الحماس، يتبادلان النظرات بين حين وآخر كأنهما يتشاركان في مهمة خاصة لا يعلم بها سواهما، وما إن لمحت عيناهما عربة الذرة المتواضعة في نهاية الزقاق، حتى تقدم يزن بخطوات ثابتة نحو البائع، تتلبسه رغبة خفية أن يُرضيها ويمنحها لحظة سعادة خالصة.
طلب من البائع أن يختار لها كوزًا بعناية كأنما ينتقي جوهرة وقال بنبرة حريصة:
-واحد مظبوط على ذوقك يا ادارة، بس ده مخصوص ليها خلي بالك.
راقب تسوية الكوز بنظراتٍ دقيقة وكأنه يتابع لوحة فنية تُرسم لها فقط، وما إن انتهى البائع حتى التقط يزن الكوز ومده إليها، فمدت يدها وأخذته منه بابتسامة امتنان خافتة دون كلمات، لكن عيناها قالتا ما لم تستطع الشفاه أن تنطق به.
-مش ده الكافية اللي عايزاه، يلا عشان كده ابقى حققت طلبات الأميرة النهاردة.
قالها وهو يشير إلى المقهى الذي لمحته من قبل، مبتسمًا بمكر خفي وكأنه يُضفي لمسة من الدعابة على لطفه، فنظرت إليه بنظرة شبهة غاضبة وكأنها تقرأ ما وراء نبرته وقالت بمزيج من الحذر والمرح:
-حاسة بسينس تريقة بس مش عادي هعمل نفسي مش واخدة بالي.
ضحك وهو يومئ لها برأسه ثم أردف بنبرة أكثر دفئًا تتخللها لمسة من الصدق:
-أبدًا، أنا عايز أفرحك ومش عايزك تزعلي أبدًا، دي أول خروجة لينا.
لم تعلق بل اكتفت بالابتسام بخجل وكأن كلمات الإطراء بدت أكبر من أن تُقابل برد، دخلا إلى الكافية سويًا وخطواتهما متناغمة، بينما كانت عيناها تلتقط كل التفاصيل بفضول الطفلة وسعادة البدايات.
وفجأة اتسعت عيناها وهي ترى في أحد الأركان ما يشبه منصة مخصصة للتصوير، وقد تزينت بملابس مصرية شعبية....ملاءة حرير سوداء مطرزة بخيوط ذهبية تتدلى منها مشغولات تعكس ضوء المكان، وبجوارها منديل من ذات القماش والتطريز، لاحت على ملامحها انبهار ممزوج بحنين وطفولة بريئة، ثم استدارت إليه تقول بحماس طفولي لا يُقاوم:
-يلا يا يزن نتصور.
لم تنتظر رده وكأنها تعرف مسبقًا أنه لن يمانع، بل دفعت إليه حقيبتها وكوز الذرة بكل اطمئنان، ثم أسرعت ترتدي الملاءة وتلفها حول جسدها بخفة أنثوية عفوية، وضعت المنديل فوق رأسها وهي تضحك له ضحكة نقية لا تشبه سواها.
-في تليفوني عشان تصورني؟
نظر إليها بإعجاب لا يُخفى ثم قال وهو يُخرج هاتفه:
-هصورك بتليفوني وابقي خديهم.
أخرج هاتفه وبدأ يلتقط لها الصور وهي تتحرك أمامه بخفة فنانة تؤدي عرضًا خالصًا له وحده، كل حركة منها كانت تحمل روحًا، وكل لقطة من عدسته كانت تحفظ لحظة شعور لا يتكرر.
وبينما هو يتأملها كانت تزداد فتنة مع كل ابتسامة، أوقفها فجأة وشغل الكاميرا الأمامية، ثم اقترب منها وهو يقول بنبرة عابثة تشي بخفة ظل لا تخلو من الإعجاب:
-لازم اتصور مع الفاشونسيتا القمر دي.
اقترب منها ووقف بجانبها ثم رفع هاتفه ليلتقط صورة "سيلفي"، لكنها عبست قليلًا وقالت بضيق خفيف:
-انت بتتريق عليا؟، دي لحظات حلوة ماتتكررش.
نظر إليها للحظة طويلة وكأن الزمن توقف ليرى صدق مشاعرها، ثم قال بنبرة هادئة تفيض بالحنان:
-هو أنا قولت حاجة يا روحي؟ اعملي اللي انتي عايزاه طالما بتعمليه معايا.
كانت كلماته كافية لتُذيب ضيقها فاختفت العبوسة تدريجيًا عن وجهها وكتمت ابتسامتها بصعوبة، ثم نظرت إلى الكاميرا بهدوءٍ أنثوي خجول، تنبع منه أنوثة بريئة وببسمة خافتة وعينين تتلألأ فيهما السعادة.
وعندما انتهى من التصوير، نظرت إليه وسألته بفضول بريء وهي تعيد الملاءة مكانها:
-هتنزلها بردو على السوشيال عندك؟
أجابها بنبرة أكثر رزانة ولكن صوته انخفض وكأن ما سيقوله سرٌ لا يُقال على الملأ:
-مش كل حاجة حلوة بتتشارك يا سيرا، في حاجات لازم نخبيها وتبقى ملكية خاصة.
نظرت إليه بدهشة خافتة يتبعها خجل لطيف، ثم قالت بنعومة وهي تميل برأسها:
-اممم مع أني كنت عايزة أعرف إيه الكابشن اللي هتكتبه عليا المرة دي.
لم يرد بكلمات بل ألقى نحوها نظرة طويلة، ثم انشغل بهاتفه للحظات فلم تفهم ما يفعل، حتى رن هاتفها برسالة واردة منه عبر "واتساب"، فتحتها بفضول لتجد صورتهما معًا، وقد أرفقها بجملة قصيرة:
"That smile is mine....only mine."
توقفت لثوانٍ تقرأها مرة واثنتين ثم ظهرت على وجهها ابتسامة لم تستطع كتمانها، وضحكة خفيفة خرجت منها كأنها خُطفت منها دون إرادة، ثم رفعت عينيها إليه وقالت بخجل لم تنجح المزحة في إخفائه:
-بس أنا بضحك كده لكل الناس.
اقترب منها خطوة وهمس كمَن يُعلن يقينًا:
-وأنا شايف إن ضحكتك دي مابتظهرش إلا وأنا معاكي.
لم تُعلق بل رفعت حاجبيها بمكر وقالت:
-دي وجهة نظرك بقى وأنا لا يمكن أناقشك فيها، أصل أنا بحترم كل وجهات النظر.
ابتسم وهو يفتح الباب لها قائلاً:
-واخد بالي، اطلعي.
رمقته ببسمةٍ حانية دافئة، تشي بغنجٍ خافتٍ ممزوجٍ بإعجابٍ أسر قلبه في لحظةٍ خاطفة، لكنها لم تكن عابرة الأثر، حيث شعر أنه رغم بساطتها، أن ابتسامتها وطنٌ صغير لا يطيق أن يشاركه فيه أحد، وفي تلك اللحظة أيقن أن ما يجمعهما لم يكن مجرد وقتٍ يمضي، بل بداية حكايةٍ من الغَنَاء...حكايةٍ من الاكتفاء التام الذي لا يحتاج إلى شيءٍ سواه.
****
في اليوم التالي...
حملت يسر سلةً مصنوعةً من الخيوط الثقيلة، ألوانها مبهجة وتحتوي على بطاقات دعوة تخص افتتاح محلها الجديد، وبها أيضًا بعض الهدايا الرمزية البسيطة ثم صعدت إلى عيادة نوح وهي ترسم على وجهها ابتسامة ماكرة، حيث قررت استكمال خطتها المحكمة رغم المناوشات التي حدثت بالأمس بينهما بسبب تلك البطاقات، وقد أكدت له أنه إن لم يتراجع عن تدخله في كل كبيرة وصغيرة تخصها، فسوف تدعو أحد المغنين الشعبيين لافتتاح المحل عنادًا به.
جذبت أنفاسًا طويلة وهي تدخل إلى العيادة وتتجاهل حسناء، ثم اقتربت من الزائرين وبدأت في رسم ابتسامة رسمية وبنبرة لبقة شرعت في دعوتهم جميعًا لحضور افتتاح المحل، فقالت إحداهن بانبهار بالهدية الرمزية التي كانت عبارة عن زجاجة عطر صغيرة جدًا ومعها ميدالية:
-الله ذوقك تحفة، أكيد الحاجات اللي عندك حلوة زيك، بس هو انتي مش مرات دكتور نوح؟
-ايوه أنا مراته، هستناكم يا جماعة كلكم تشرفوني.
وبدأت في استكمال توزيع البطاقات، فانهالت عليها المباركات وعبارات الشكر لذوقها بسبب الهدايا، وهذا لم يعجب حسناء فقررت أن تدخل إلى نوح وتبث السم في حروفها المرصوصة بعناية وتركيز:
-دكتور نوح في مشكلة برة، مرات حضرتك بتوزع كروت دعاوي عشان افتتاح المحل بتاعها!
رفع رأسه بتعجب ساخر وهو يقول:
-نعم؟!
-اه والله يا دكتور حتى اخرج وشوف بنفسك، أنا مش عارفة اسيطر على العيادة.
وقف سريعًا وتوجه صوب الباب يفتحه، فوجدها كادت تطرق على الباب وهي تبتسم بلطف:
-ممكن ادخل؟
أفسح لها المجال بصمت، فدخلت وأمر حسناء بالخروج من خلال نظراته، تفهمت وخرجت على مضض بينما توجهت يسر صوب مقعد نوح خلف المكتب وجلست عليه، فاقترب منها وهو يضع يده في جيب سرواله، وتساءل بخشونة يقطر منها عدم الرضا:
-ممكن افهم إيه اللي حصل برة ده؟
هزت كتفيها ببراءة مصطنعة وهي تقول بابتسامة رقيقة هادئة:
-حصل إيه؟ كنت بوزع كروت دعاوي الافتتاح، زعلت ولا حاجة؟
زفر بغيظ منها ومن أسلوبها الذي أصبح ملتويًا مؤخرًا، لقد فَقَدَ طرق الوصال معها وأصبح تائهًا وكأنه يتعرف عليها لأول مرة:
-يسر ماتستعبيطيش أنتي عارفة كويس اوي موقفي من حوار الدعاوي دي وشايف ملهاش أي تلاتين لزمة أصلاً.
مطت شفتيها بحزن وهي تردد بضعف:
-وأنا شايفة أن ليها لازمة ومبسوطة بيها، هتكسر فرحتي يا نوح؟
احتدت عيناه بحنق وهو يقول من بين أسنانه:
-استغفر الله العظيم، بقولك إيه متدخليش من نقطة ضعفي وتحاولي تسيطري عليا، عشان أنا حقيقي متغاظ من أم حوار الكروت ده، وبعدين جاية توزيعها برة عندي الناس تقول إيه؟!
لم تجبه بل ضغطت على الجرس المقابل لها وانتظرت دخول حسناء، التي دخلت في لهفة وكأنها كانت تقف خلف الباب.
-محتاج حاجة يا دكتور؟
ابتسمت يسر بسخرية من لهفتها وقالت بنبرة شبه باردة:
-ادخلي يا حبيبتي مش هو اللي محتاج أنا اللي محتاجة؟
دخلت حسناء ووقفت بحيرة وفضول في منتصف الغرفة وسط ذهول نوح الذي نظر إلى يسر بريبة من نظراتها الغامضة:
-وانتي يا حسناء داخلة تفتني للدكتور نوح عليا وتسخنيه مقولتيش ليه إن الناس برة كانت مبسوطة بيا وفرحانين ومحدش كان زعلان خالص، بالعكس شكروني على الهدايا اللي اديتهالهم وقالوا إنها لفتة لطيفة مني، وإني قد إيه كريمة وذوق زي دكتورهم دكتور نوح.
بلعت حسناء لعابها بتوتر وهي تنظر إلى نوح الواقف جانبًا ويبدو عليه التسلية:
-أنا مقولتش حاجة تضرك، أنا كنت ببلغ دكتور نوح بس بوجودك، وبعدين ليه حاسة إن حضرتك ظالماني ومابتحبنيش مع إني ماعملتش فيكي أي حاجة، وبردو رغم كل ده لو احتاجتي مساعدة في افتتاح المحل الجديد أنا معاكي في أي حاجة؟
كانت يسر تتلاعب بالأشياء الموجودة حول مكتب نوح وهي تستمع لتبرير حسناء بلا مبالاة، وعندما لمست شيئًا غريبًا أسفل صندوق صغير، جذب انتباهها فسحبته بهدوء من أسفل الصندوق ونظرت إليه من تحت المكتب دون أن يراه أحد، وقد تبين لها أنه حجاب للأعمال السفلية، فابتسمت بمكر وهي تخرجه وتلوح به مردفة:
-بتعرفي تفكي الاعمال يا حسناء؟!
_____________
قراءة ممتعة ♥️🤩
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا
تعليقات
إرسال تعليق