القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل التاسع والثلاثون 39بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)


رواية غناء الروح الفصل التاسع والثلاثون 39بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)





رواية غناء الروح الفصل التاسع والثلاثون 39بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)




الفصل التاسع والثلاثون..

رفعت حسناء حاجبيها معًا في حركة تنم عن جرأة وتهكم، بينما كانت يسر سعيدة  جدًا وقد ارتسمت علامات الانتصار بوضوح في تلك اللحظة التي بدا فيها تحقيق هدفها أصبح قريبًا، بينما انفعل نوح بغضبٍ خاطف والتقط على إثره الحجاب السفلي من على الطاولة وصوته يحمل نبرة تذمر صارخ:


-مين حط الحاجات دي هنا؟


ارتسمت على شفتي يسر ابتسامة ساخرة ومالت برأسها قليلاً في حركة تمثيلية مدروسة، فيما كانت نظراتها تنضح بالغيظ والانتقام ثم قالت باستهزاء ظاهر:


-ماتظلمش حسناء يا نوح، يمكن السكرتيرة اللي كانت قبلها، ولا إيه يا حسناء؟


تبدلت ملامح وجه حسناء على الفور وبهتت وهي تواجه عنفوان يسر الشرس، الذي وإن كان مغلفًا بالأسلوب الملتوي فإنه كان صريحًا في إيذائها، لكنها ورغم صدمتها اتخذت قرارًا بالمجابهة...ففجأة رسمت على وجهها تعابير ضعف مصطنعة، وأظهرت إمارات الطيبة وحُسن النية ثم أجابت بجُرأة خادعة:


-لا اللي قبلي ماحطتش حاجة، أنا اللي حطيتها هنا يا دكتور.


اتسعت عينا يسر بصدمة من وقاحة هذا الاعتراف وجرأته وقالت باستنكار يفيض سخرية:


-يا شيخة!!! ده أنتي قلبك ميت.


تقدمت حسناء نحو نوح بخطوات ثابتة في حين بدا هو مستنفرًا، كل خلية في جسده مشدودة كوترٍ مشحون ينتظر منها تبريرًا لما قالت وما فعلت، ثم اقتربت أكثر وقالت بنبرة رقيقة وابتسامة مصنوعة بعناية فائقة على ثغرها:


-حضرتك عارف يا دكتور قد إيه أنا بحبك...


توقفت لحظة بعد أن أسقطت كلماتها الأخيرة عمداً، ووجهت نظرة سريعة إلى يسر التي احمر وجهها من فرط الغيرة والغضب، قبل أن تواصل حديثها بنعومة خبيثة تحمل كثيرًا من المكر:


-وكنت قد إيه زعلانة عليك الأيام اللي فاتت من اللي كنت فيه، ولما سمعت إنك عايز تنفصل عن مدام يسر زعلت اوي.


كانت نبرتها المتعمدة تشير بوضوح إلى أن قرار الانفصال جاء من نوح لا من يسر، وكأنها تسدد طعنة مباشرة في صميم ثقتها به، ضربة أرادت بها زعزعة الأرض تحت قدمي غريمتها، ثم أكملت بصوتٍ تخلله ضعف مدروس له وقع خاص على الأسماع:


-كلمت ماما تعملك حجاب عشان ربنا يصلح حالك ويبعد عنك الشر وترجع تاني لمدام يسر وتتصالحوا.


ضحكة عالية انطلقت من يسر، ضحكة تحمل من السخرية ما يفوق الاحتمال فتراجعت بجسدها للخلف وهي تصفق بكفيها وقالت بحماسٍ تهكمي:


-باين كده الست الوالدة عملته يولع في حياتنا مش يصلحها، حقيقي يا حسناء ماشفتش في جمال نيتك وقلبك الصافي، إيه ده يا بنتي؟، والغريب بعد ده كله بتحبي نوح....


سكتت برهة ثم انفجرت من جديد ضاحكة وهي تشير بيدها نحو حسناء:


-لا عشان خاطري اكرهيه، بلاش تحبيه يا حسناء، يا بنتي إحنا من ساعة ما شفنا وشك النحس وحياتنا مقلوبة يا حبيبتي!


تصلبت قسمات وجه حسناء وقبضت يدها بقوة، في محاولة لاحتواء الغل الذي تسرب إلى عينيها بوضوح، فقد كانت إهانة يسر هذه المرة صريحةً، خاليةً من التلميحات ومقصودة بالكامل، غير أن المفاجأة التي تلتها من سؤال يسر لنوح جاءت لتسحب حسناء من غياهب الغضب إلى سطح اللحظة:


-هو أنت مصدق أي كلمة من الكلام العبيط ده يا نوح؟


ساد صمت ثقيل في الغرفة وراحت الأنظار تتنقل بين وجوههم الثلاثة ما بين استهجان وغضب وغموض كثيف يلف المكان، فقد امتزج صوت أنفاسهم بسكون الغرفة حتى بدا أن برودة المكيف لم تعد قادرة على تبديد التوتر، الكل ينتظر الكلمة الفاصلة من نوح الذي قرر أخيرًا أن يطلق العنان للسانه متحدثًا بهدوء مريب:


-اه مصدقها يا يسر، وإيه اللي يخليني مصدقهاش؟ حسناء عندها استعداد تعمل أي حاجة عشاني، هي كانت نيتها خير من ناحيتي وأنا متأكد إنها فعلاً بتحبني.


انتفضت يسر بصوتٍ غاضب:


-حبك برص، ده أنت خسارة فيك أي حاجة، يا رب تلبسك في مصيبة، ولا اقولك يا رب تلبسك قبيلة جن يعفروتك.


ثم غادرت المكان وهي تدفع نوح من أمامها بعنف، والغضب ينهش صدرها ويعصف بأنفاسها حتى صارت غير قادرة على ضبط تنفسها السريع، فيما وقفت حسناء تتأمل المشهد وقد نجحت في جلب طاقة البكاء سريعًا إلى وجهها وقالت بصوتٍ حزين ومكسور:


-أنا عملت فيها إيه لكل ده؟ أنا والله كانت نيتي خير، ربنا يهديها.


اقترب نوح منها بهدوء واضعًا يده خلف ظهره، تسكن ملامحه ثقة هادئة وابتسامة خفيفة ارتسمت على وجهه ثم قال بنبرة رخيمة:


-معلش يا حسناء هي يسر انفعالية شوية، بس قلبها أبيض، أنتي لو شاطرة حاولي تقربي منها.


رفعت رأسها تنظر إليه بعينين ممتلئتين بالدهشة، فتسللت منها ضحكة ساخرة خرجت دفعة واحدة دون أن تفكر في كبحها:


-أنا لو جيت جنبها ممكن تقتلني!


ابتسم نوح بخفة ثم قال بتأن مدروس:


-لا خالص بالعكس، دي مفيش أطيب منها، وأنتي حنونة وجدعة.


رمشت بأهدابها محاولة إظهار الاستعطاف، ثم رققت صوتها أكثر وكأنها تصنع فخٍ جديد تنصبه له:


-شكرً يا نو....قصدي يا دكتور، بس هو حضرتك مش زعلان مني بسبب الحجاب؟!


صمت نوح لثانية يمعن النظر فيها بعينين غامضتين أربكتها، ثم ابتسم ابتسامة رسمية وهو يومئ برأسه نفيًا:


-لا خالص ما أنا عارف إنه لمصلحتي، بس بلاش بعد كده الحاجات دي أنا مابقتنعش بيها.


همست بخضوع:


-حاضر.


ثم التفت نحو مكتبه ليواصل عمله وأردف بجدية:


-المهم يا ريت بقى تلميهم من الاوضة.


توقفت حسناء ثانية وقد بدت عليها علامات الصدمة، تحاول أن تستوعب مغزى حديثه فقالت بتلعثم واضح بعدما أدركت أنه علم أن عدد الأحجبة لم يكن واحدًا:


-المهم؟! هو حضرتك عارف إنه في أكتر من واحد؟


استدار نوح نحوها وعلى وجهه شبح ابتسامة ساخرة، وقال بنبرة عادية لكنها حملت وقعًا مدويًا في نفسها:


-امممم شوفتها من زمان واستغربت وجودهم، بس لما شوفت والدتك إن ليها في الحاجات دي، عرفت أنك أنتي اللي حاطهم، بس دلوقتي عرفت ليه وفرحت اوي أنهم لمصلحتي.


هزت رأسها سريعًا تحاول أن ترد، لكنها لم تُفلح في إخفاء ارتباكها فقالت بتلعثم لم ينجُ من الارتجاج:


-آآ...اه يا دكتور لمصلحتك، بس ليه مقولتليش ومسألتنيش؟!


أجاب بنبرة باردة وهو يجلس على مقعده متكئًا براحة تامة على ظهره:


-ما أنا مكنتش فاضي يا حسناء وكنت مشغول، فنسيتهم.


هزت رأسها بإيجاب وهي تحاول رسم ابتسامة على وجهها ولكن من شدة ارتباكها لم تنجح، فبدت ملامحها مشدودة وكأن أمرها قد كُشف، ولكن البرود المحتل لوجهه هدأ قليلاً من ضربات قلبها المتسارعة، فجمعت شتات نفسها المبعثرة وخرجت سريعًا من الغرفة، متجهة صوب دورة المياه مقررة الاختلاء بنفسها بعيدًا عن أعين المرضى وأي دخيل قد يقطع حبل أفكارها.


بينما كانت يسر تغلي بالمعنى الحرفي داخل محلها، فتملكتها طاقة كبيرة لتكسير المحل بأكمله والصراخ حتى يبح صوتها، ولكنها فكرت بجدية ساخرة، كيف لها أن تخسر تلك الخسارة الكبيرة لمجرد التنفيس عن غضبها الذي كان بسببه؟ لمَ لا تُسبب له تلك الخسائر كمجرد انتقام بسيط منه؟


فخرجت من المحل تبحث حول نفسها بحيرة، حتى وجدت حجرًا كبيرًا فحملته بصعوبة وتوجهت صوب سيارته المصفوفة على جانب الرصيف المقابل للبرج وبكل قوة وغل ولحظات جنونية، ألقته نحو زجاج سيارته الأمامي فتهشم كليًا وسط أنظار المارة المتعجبين، فتوجه حارس البرج إليها بدهشة من فعلها وقال:


-إيه ده يا مدام يسر؟!


التفتت بوجهها المنفعل نحوه وسألته بحنق دفين:


-هي دي عربية مين؟ عربية دكتور نوح جوزززي، اكسرها اتصور جنبها أنا حرة!!!


ابتعد الحارس بخوفٍ منها فبدت كالمجنونة التي توشك على ارتكاب جريمة، فهز رأسه بإيجاب وهو يبعد المارة من حولها، ولكن سيدة مسنة ضربت كفًا فوق الأخرى بتعجب وهي تُصر على التنفيس عن رأيها:


-ليه كده يا حبيبتي، مش خسارة؟


اقتربت يسر منها وهمست بغل:


-بيخوني، ميستاهلش اعمل فيه كده؟


-لا يا حبيبتي طبعًا يستاهل تكسري دماغه هو، خسارة العربية غالية!


عقدت يسر حاجبيها بضيق من نفسها، حقًا... لماذا لم تهشم رأسه هو وتنتهي مأساتها نهائيًا؟ وذلك الألم الواخز في صدرها بسبب غيرتها سوف يتبخر!


ولكن صوت السيدة الهامس أيقظها من لذة انتقامها: 


-لو جوزك قريب من هنا، الحقي اهربي.


التفتت إليها يسر تنظر بتفكير ثم قررت بالفعل الهرب منه، فأغلقت محلها بسرعة كبيرة ثم انطلقت لتوقف أول سيارة أجرة وتهرب إلى منزل والدها، وبالفعل قد نجحت فآخر ما رأته هو خروج نوح بلهفة من البرج، وهو ينظر بحسرة إلى سيارته التي كان سعيدًا جدًا باقتنائها!

                               ***

بعد مرور أربعة أيام...


كانت العلاقة بين يزن وسيرا في أوج نشاطها، إذ توالت المقابلات وتكررت الاتصالات حتى ساعات متأخرة من الليل، في ظل أجواء تشي بانسجام ظاهر وارتياح مبطن بين الطرفين، لكن في المقابل لم تهدأ نيران الخطط الماكرة التي حيكت على يد سيرا وفاطمة إذ استمرت محاولاتهما في الإيقاع بيزن عبر وسائل خفية ومقالب متنكرة ببراءة زائفة.


كانت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة هذه الحرب الخفية إذ اخترعتا حسابات وهمية لفتيات، تفيض حساباتهن بالإعجاب ثم تتودد ليزن وتطارده في التعليقات والرسائل، أملًا في كشف  زلاته، لكن ما خيب ظنهما أن يزن لم يبدُ مكترثًا، وقد قل تفاعله على هذه المنصات إلى حد ملحوظ.


وإزاء هذا التراجع قررتا الانتقال إلى مرحلة أكثر تقدمًا، عبر إرسال رسائل إعجاب مباشرة من تلك الحسابات الوهمية، لكن يزن كان يقرأ الرسائل ثم يكتفي بإرسال رموز تعبيرية ضاحكة في إشارة صريحة لسخريته من محتوى تلك الرسائل.


حينها صاحت سيرا وهي تتأمل شاشة هاتفها بتفكير وامتعاض:


-الله دي تالت رسالة من أكونت غريب ويعملي إيموشن ضحك، فاطمة هو قفشني؟


كانت فاطمة في تلك اللحظة منشغلة بتناول قطعة خبز محشوة بالجبنة الرومي تقضمها ببطء، فقالت بتصنع يفترض التفكير العميق:


-أنا من رأيي نروح على خطة جـ، نشوف حد من البنات صحابي الممثلين ونزوقها عليه، لو هو ظبّط أموره معاها يبقى ترمي له شبكته في وشه، أما لو مدهاش وش يبقى انتي تسكتي وتخرسي خالص ومسمعش صوتك، عشان انتي معطلاني على مشواري الفني.


ارتسمت على وجه سيرا ملامح التردد، فزمت شفتيها بتفكير محاولة تقييم اقتراح صديقتها الذي لا يخلو من المجازفة، ثم قالت بصوت يحمل ملامح ضيق طفولي:


-وافرض بقى يا حلوة أعجبت بيه، اعمل إيه بقى أنا وقتها؟


ارتشفت فاطمة رشفة من كوب الشاي بالحليب، وقد علت ملامح وجهها نظرة غامضة ممزوجة بثقة حمقاء ثم أجابت بنبرة فخورة:


-لا  أنا اصحابي الممثلين توب التوب ومخلصين اوي.


زفرت سيرا بتوتر متزايد وقد قررت أن تحسم أمرها أخيرًا:


-ماشي بس اشوف صورهم الاول، واقرر مين اللي هتساعدنا.


-وماله اوي اوي، تعالي افرجك.


تحركت سيرا وجلست بجوارها وهي تزيح صحن السندوتشات جانبًا بغيظ ثم علقت بحنق:


-ما خلاص السندوتشات دي معمولة على اسمي، وفي الآخر انتي اللي بتاكليها، وبعدين خفي شوية في الأكل يا فنانة كده الادوار هتروح منك.


رفعت فاطمة نظرها إليها بازدراء وقد استنكرت اتهامها بلهجتها المعتادة:


-انتي مجنونة؟ هو انتي فاكرني باكل معاكي طفاسة؟! لا ده أنا محتاجة اتخن كام كيلو لدور مهم اوي معروض عليا.


ضحكت سيرا بسخرية وقد بدا على صوتها بعض الحنق:


-اه قولتيلي، يلا وريني يا فنانة صحابك الفنانين.


بدأت فاطمة تعبث في هاتفها المحمول بحثًا عن الصور ثم ما لبثت أن صاحت فجأة وهي تدير الهاتف نحو سيرا، التي كانت تنفخ خديها بعد أن ملأتهما بخبز الجبن:


-في شغل يا بت يا سيرا اهو ده شكله لقطة....


لكن سيرا قاطعتها بحسم فجائي قائلة:


-لا يا ستي انتي بالذات عمري ما همشي وراكي، خلاص لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.


-يا ختي انتي حرة، المهم إيه رأيك في البت دي؟ دي اسمها فاتن الملوك حتة بت جبارة، بتوقع الولاد في ورشة التمثيل معانا بنظرتها بس.


قطبت سيرا حاجبيها بضيق واضح من هذا الاختيار وقالت بحذر:


-اه منا واخدة بالي، نظرتها كلها....بلاش أقول عشان الرقابة غيرو يا فاطمة!


أطلقت فاطمة زفرة صغيرة ثم عادت تقلب في صور أخريات حتى ارتسمت على وجهها ابتسامة واثقة وهي تشير مجددًا إلى الهاتف:


-بصي بقى البت دي اسمها كاريمان نعيم، عايزة اقولك مشيتها بقى مفيش لا بعدها ولا قبلها، دي اللي اتعمل علشانها اغنية زالزال، بتدخل الورشة كلنا ولاد وبنات بنركز مع مشيتها موديل موديل يعني.


تغير وجه سيرا لملامح امتقاع وقد بدا عليها الامتعاض الشديد من صورة الفتاة ووقفتها التي وصفتها وكأنها خارجة من أحد أفلام الممنوعة من العرض، ثم قالت باعتراض:


-إيه ده يا فاطمة يا حبيبتي، أنا كده بوديه في داهية، ده بوليس الآداب لو شم خبر هيركبه صاروخ للقسم على طول، ركزي عشان خاطري.


راحت فاطمة تتابع تمرير الصور بتأفف ظاهر، وهي تتمتم بتذمر:


-لا دي ماشية مع حودة المونتير، لا دي بقى حسيتها كانت بتظبط مخرج الاعلان الأخير، لا دي مخطوبة وبتمثل من ورا خطيبها، لا دي مبحبهاش رزلة واخدت مني إعلان الشامبو، لا دي بت دي نظراتها مش سالكة.


قالت سيرا وهي تفرك جبينها بملل:


-إيه يا فاطمة أنا عايزة واحدة عادية، إيه البنات الغريبة دي؟


-ما أنا بدور اهو والله؟ اسكتي يا بت يا سيرا البت دي بقى اتخطبت لظابط قامت خانته مع ابن عمها عنده شركة انتاج صغننة، فهو لما اكتشف الخيانة، حبسهم الاتنين.


شهقت سيرا بدهشة وهي تقول وقد ارتسم على ملامحها الذهول:


-ده مجتمع قذر، أنا هقول لأمك تمنعك بجد عن التمثيل ده؟ لما صحابك بالمنظر ده، يبقى أخرتك هتبقى إيه؟ خدي بالك الصاحب ساحب.


لكن فاطمة ردت سريعًا باستهزاء:


-صاحب ساحب إيه، أنا البنات دي كلها ضاربة عليهم  العالي عليهم مابعبرش حد فيهم، انتي عايزاهم يشبهوني؟


هنا لم تملك سيرا سوى الإمساك بوسادة قريبة، وبدأت في ضرب فاطمة بها بعنف وغيظ مكبوت:


-ولما انتي خايفة يشبهوكي، عايزاني أنقي منهم واحدة ليه؟ يا مفترية....


حاولت فاطمة الإفلات من ضربات سيرا المتلاحقة، فقد كانت تتلوى بين الضربات، وتضحك رغم الألم، لكن ما أنقذها من ذلك الهجوم المفاجئ كان رنين هاتف سيرا الذي قطع المشهد.


فقفزت سيرا نحو النافذة عندما ظهر على الشاشة اسم يزن، فأخفت وجهها المتحمس خلف ستارة خفيفة ثم حمحمت بصوتها وتنفست بعمق، قبل أن تجيب بنغمة ملؤها الدلال والرقة التي أدهشت فاطمة، فقد تحولت فجأة وكأن هناك ساحرة ألقت تعويذتها عليها:


-لسه فاكر تتصل؟


رد يزن بنبرة مُجهدة:


-والله متمرمط من الصبح بسبب عربية الزفت نوح، المهم تعالي اخرجك عاملك مفاجأة.


اتسعت ابتسامتها بسعادة كبيرة، ولكنها كبحت صوتها بنغمة هادئة متزنة:


-كلم بابا واستأذنه، لو وافق ماشي.


-تمام، هكلمه وانتي اجهزي.


أنهت المكالمة ثم التفتت نحو فاطمة وهي تلم أشياءها بسرعة:


-سلام يا فاطمة كُلي السندوتشات اللي انتي باصة فيهم براحتك.


غادرت المكان مُسرعة والبهجة ترتسم على وجهها، بينما بقيت فاطمة تحدق في صحن السندوتشات، وتهمس وهي تبتلع آخر قضمة:


-الحمد لله...نسيت الساندوتش.


                            ***

وقف يزن أمام منزل "سيرا" متكئًا على سيارة جديدة لم تراها من قبل، ولم تعرف أن تلك السيارة  صارت الأقرب إلى قلبه في الآونة الأخيرة، راقب باب المنزل بعينين يملؤهما الحماس، وكأنهما تفضحان ما يخبئه من مفاجأة يعتبرها استثنائية، وربما رومانسية بطريقته الخاصة،فقد كان الجو ساكنًا إلا من نبضات قلبه المتسارعة، وحركة أصابعه التي تعانق مفاتيح السيارة في جيبه وكأنه يعد الثواني حتى تظهر.


وما إن انفتح الباب حتى خرجت بخطواتها المتهادية، تحمل في مشيتها شيئًا من الثقة الممزوجة بالخجل، عندها أسرع يزن يعتدل في وقفته وابتسم ابتسامة عريضة ثم خطا نحوها بخطوات محسوبة، وفتح لها باب السيارة بإيماءة خفيفة وهو يقول بإعجاب صريح أخجلها:


-إيه الجمال ده كله، مفيش حد يلبس بعدك أصفر.


توقفت فجأة وضاق بصرها قليلًا في تعبيرٍ يشي بالقلق من نبرة إعجابه الممزوجة بتلك البسمة المعتادة التي طالما أربكتها:


-اوعى تكون بتتريق ده أصفر كناري.


غمز بطرف عينيه ورفع حاجبه بثقة، ثم قال بابتسامة ساحرة ولمعة إعجاب في عينيه:


-اتريق إيه بس؟ ده زغلل عيني من أول ما خرجتي.


تلونت وجنتاها باحمرار طفيف لم تستطع إخفاءه، وكأن حرارة كلماته قد تسللت إليها فجأة، فقررت الهروب من دائرة تركيزه وجلست في مقعدها وهي تحاول إخفاء ارتباكها، وفي الوقت نفسه راحت تتساءل في سرها عن سبب تلك النظرات المليئة بالحماسة، فاستدارت إليه بتوجس لطيف وسألت:


-هو إحنا رايحين فين؟ وإيه المفاجأة؟


جلس يزن خلف مقود القيادة وأشهر مفاتيحه أمام وجهها كأنه يعرض وسامًا ثمينًا:


-المفاجأة يا ستي إن أنا هعلمك السواقة النهاردة.


اتسعت عيناها في ذهول صادق وكأن الفكرة باغتتها على حين غرة، ثم قالت بقلق ممزوج بفرحة خفية لتلك التجربة:


-بجد؟ طيب هي فين العربية اللي هتعلم عليها؟


-على العربية دي طبعًا. 


قالها بثقة تليق بمَن يعرف قيمة ما يملك، وبنبرة فخر لا تخلو من الدعابة، فعندها عقدت حاجبيها بتردد واضح:


-انت متأكد يا يزن؟ العربية دي غالية؟ هات أي عربية ملهاش تلاتين لزمة وأنا هتعلم عليها.


ضحك يزن بخفة وأدار محرك سيارته الذي انبعث صوته العميق في صمت الشارع، ثم قال بإعجاب صريح:


-يا روحي الغالي للغالي ولا يهمك، وبعدين انتي يوم ما تتعلمي السواقة تتعلمي على أحسن وأفخم عربية في السوق.


ارتسمت ابتسامة فخر على شفتيها وجلست في مقعدها بوضعية مَن يستعد لخوض مغامرة استثنائية، بينما كانت تتخيل نفسها خلف عجلة القيادة، فقطع حبل أفكارها صوته وهو يتابع الطريق بنبرة عملية:


-هنروح مكان بس تتعرفي تتعلمي فيه ومتكونيش متوترة.


رفعت رأسها بتعالي مصطنع وكأنها تثبت له أنها لا تعرف الخوف:


-لا توتر إيه! أنا قلبي ميت، وبعدين أنا بفهم بسرعة ماتقلقش.


ضحك وهو يرمقها بنظرة مازحة:


-اه الثقة الزايدة دي نهايتها وحشة، حطي واطي شوية.


من المفترض أن تقلل من حماسها، ولكنها زادت الأمر تمثيلًا فرفعت رأسها أكثر وهي تقول:


-بص انت هتنبهر بيا، وصلنا بس بسرعة، صحيح يا يزون هو انت ينفع تعلمني اسوق بإيد واحدة زيك؟


رمقها بإعجاب لا يخفيه وخفض صوته الخشن حتى صار أكثر رقة وهو يجيب:


-ده أنا هعلمك تسوقي من غير إيد خالص، صبرك عليا يا بيبي عشان في مفاجأة تانية اخطر لما نوصل.


صفقت بيديها كطفلة تنال وعدًا بقطعة حلوى وهي تقول بحماس يفيض رغم أنها تجاهلت تلك الكلمة البغيضة التي نطقها "بيبي":


-يلا يا يزون شكلنا هنولعها.


أما هو فقد همس لنفسه وهو يشعر بارتباك داخلي يعصف به كلما سمعها تنطق اسمه بتلك النغمة المليئة بالدلال:


-هي هتولع فعلاً لو مابطلتيش تقولي يزون دي.

                             ***

لم تمضِ سوى دقائق حتى كانا يبتعدان عن ضوضاء الشوارع، متجهين نحو طريق جانبي تحفه أشجار النخيل وأعمدة الإنارة التي تتناثر على مسافات متباعدة، أبطأ من سرعته حتى توقف تمامًا عند ساحة واسعة شبه خالية، تتسع لتجربة تدريبها، أطفأ المحرك واستدار نحوها بعينين تحملان مزيجًا من الحماس والترقب.


-يلا يا سيرا انزلي عشان نبدل.


رمقته سيرا بنظرة مزيج من الحماسة والتردد، ثم تنهدت وهي تفتح بابها بخطوة مترددة، تنتقل إلى مقعد السائق، جلست خلف المقود وأصابعها تتحسس الجلد الفاخر للمقود، وكأنها تلمس شيئًا ثمينًا تخشى أن تكسره، ولكن جلستها لم تكن مريحة على الاطلاق فتذمرت قليلاً بخفوت:


-إيه ده الكرسي ماله مش مظبوط، لا أنا كده مش عارفة اركز.


ابتسم يزن في صمت وضغط فوق زر مخصص لتعديل المقعد، فشعرت بالمقعد يتحرك للأمام ببطء حتى توقف عند الوضع المناسب، وأصبحت جلستها أكثر راحة وأكثر تمكنًا من الإمساك بالمقود، رفعت ذقنها قليلًا محاولة إخفاء جهلها الذي بدأ يتسلل إلى ملامحها وقالت بكبرياء مصطنع:


-ايوه كده القعدة مظبوطة، كده اسوق وأنا حاطة في بطني بطيخة صيفي، يلا بسم الله الرحمن الرحيم، سيري يا نورمندي تو.


انطلقت ضحكات يزن الرجولية بلا تكلف، فالتفتت نحوه وابتسمت بلطف وكأنها تستمتع بهذا الإيقاع الخفيف بينهما:


-بعملك أجواء، أنا تلميذة فرفوشة على فكرة 


أومأ برأسه إيجابًا وابتسامة ساخرة طفيفة ترتسم على شفتيه، فبدا وكأنه يخطط لرفع مستوى الحماس، أخرج من صندوق متوسط الحجم كاميرا للتصوير، تتلألأ عدستها تحت ضوء الشمس، اتسعت عيناها دهشة وإعجابًا فصاحت وهي تمسك بالكاميرا كما لو كانت جائزة غير متوقعة:


-الله كاميرا.


أومأ إليها بإعجاب صريح وقال بصدق يلامس قلبها:


-ايوه عشان اصورك صور حلوة وانتي بتسوقي، بما إنك بتحبي التصوير.


ضحكت ضحكات صغيرة ثم أمسكت المقود وأخذت تتخذ وضعية القيادة وكأنها نجمة في مشهد سينمائي وقالت بأمر مصطنع:


-بجد طيب يلا صورني.


بدأت تتحرك في المقعد تميل برأسها أحيانًا وتعدل جلستها أحيانًا أخرى لتتيح له زوايا تصوير مميزة، ورغم أنها أطالت في هذا الطقس المرح، لم يُبدِ يزن أي تذمر بل أبدى طول بال مدهش، وكان يساعدها على التقاط صور بأفكار مبتكرة، فيمزج بين دور المصور والمدرب، فقد كانت سيرا في أوج سعادتها وكأنها نسيت أنها جاءت لتتعلم القيادة، وحين انتهت من هذه الجلسة المصورة، قالت بابتسامة واثقة تحمل نفس التحدي:


-يلا هنبدأ بأيه؟ استنى طبعًا هاشغل العربية، أنا قولتلك أنا بفهمها وهي طايرة.


وضع يزن الكاميرا في صندوقها ونظر إليها بابتسامة ممزوجة بجدية طفيفة:


-طيب استني افهمك تدوسي على إيه!


-استنى إيه أنا تلميذة نجيبة.


لكنها لم تنتظر رأيه أو تعليمه فحلم قيادة السيارة كان كبيرًا بما يكفي ليدفعها للاندفاع، وفي ذهنها بدا الأمر بسيطًا تشغيل السيارة وتحريكها يمينًا أو يسارًا، وانتهى الامر، وقد تناست تمامًا أن هناك خطوات أساسية فاستدارت إلى المفتاح وضغطت على زر التشغيل ثم ضغطت بقدمها على البنزين دون وعي، وفجأة انطلقت السيارة بسرعة كبيرة، فارتفع قلبها إلى حلقها واتسعت عيناها وهي تصيح بفزع.


رفعت يديها عن المقود وصرخت، فأصبحت كالطفلة التي ترتكب حماقة ثم تتبرأ منها برفع يديها:


-إيه ده؟! يالهوووي الحقني يا يزن.


مد يزن يديه إلى المقود محاولًا السيطرة على السيارة وصاح بتذمر لا يخلو من قلق:


-قولتلك استني يا ترعة المفهومية...


بمهارة استطاع إيقاف السيارة قبل أن ترتطم بأي عائق، وارتدت سيرا للخلف في مقعدها، تتنفس بعمق وكأنها نجت من حادث محقق:


-لا لا أنا قلبي وقف...احنا كنا في ثانية هنلبس في الشجرة.


ابتسم يزن بهدوء وهو يستدير نحوها كليًا، صوته أكثر رقة مما توقعت:


-عشان متهورة، وبعدين جمدي قلبك يا حبيبتي دي حاجة بسيطة، بصي ده الدريكسون طبعًا اللي بتتحكمي منه في العربية، ودي الفرامل اليد ودي المساحات....


كان يتحدث بإيقاع ثابت لكن عقلها توقف عند كلمة "حبيبتي"، تسللت الكلمة إلى قلبها بخفة، لتزرع فيه شعورًا مختلفًا ولذيذًا، كأنها اعتراف صريح يختبئ في ثنايا حديثه، نظرت إليه ببلاهة حالمة، عيناها تلتهمان ملامحه بلا وعي، وجهه الواثق وأنفه المرسوم، أما عن عيناه اللتان عجزت عن تحديد لونهما في ضوء الشمس، وكأنهما بحيرة تتغير ألوانها مع الموج، وحين وصل بصرها إلى فمه، شعرت بحرارة تتصاعد إلى وجنتيها، فاجأت نفسها وهي تقطع هذا التيار بصوت عالٍ:


-استغفر الله العظيم....


توقف يزن عن الشرح وبدت على وجهه علامات الاستغراب:


-في إيه؟ بتستغفري ليه؟


تلعثمت ببلاهة وهي تنقذ نفسها من ذلك الموقف المحرج:


-آآ....آآ....آآ...الصراحة الكلام اللي انت بتقوله ده كلاك كبير اوي اوي.


تساءل بعدم فهم:


-مافهمتيش حاجة منه يعني؟


رمشت بأهدابها في ارتباك وقالت بنبرة ضعيفة تحمل اعترافًا خجولًا:


-يزن أنا عايزة اقولك الصراحة...بس ماتضحكش عليا.


شد يزن ملامحه قليلًا محاولًا إخفاء فضوله حتى لا يربكها:


-قولي؟ 


همست بخجل ممزوج بحماقة زادت سحرها في عينيه:


-أنا مابعرفش اسوق عجلة أم تلات عجلات، هسوق عربية وافهمها بسهولة اللي انت بتتكلم بيها دي!


رمقها باستنكار ودهشة:


-إيه دخل العجل بالعربية؟


تذمرت وعقدت ذراعيها أمام صدرها وهي تردف بملل:


-كلها عجلات يا يزن، وأنا معنديش توازن للاسف.


ضحك عقب حديثها ضحكة مشاكسة وقال بنبرة تحتمل المزاح والجد:


-ده حقيقي، دايما بحس منك مفيش توازن للأسف.


رمقته من طرف عينها بغيظ ثم أوضحت حديثها بكبرياء فابتسم باتساع:


-ماتتريقش، قصدي أن تلقائيًا تلاقيني بحدف يمين، أو شمال...


ضحك رغمًا عنه وهو يقول بتعجب:


-انتي عايزة إيه مش فاهم؟


تنهدت بعمق مستسلمة بسرعة، وكأنها أسقطت عن كاهلها فكرة خوض التجربة:


-يزن أنا على باب الله، والله كان نفسي افرحك عشان فرحتني، بس صدقني انت لو مُصر اتعلم اليوم هيخلص بعربيتك مخبوطة وأنا مرضاش الخسارة ليك أبدًا.


ابتسم ابتسامة مائلة نصفها جد ونصفها مزاح، ومال برأسه قليلًا نحوها، وكأنه يقرب صوته ليطمئنها:


-ليه هو انتي قاعدة مع توتو، تخبطي العربية؟ يا حبيبتي مفيش حد أنا علمته السواقة إلا لما يكون بريفكت في أول مرة، عيب عليكي.


رفعت حاجبها بتشكك وعيناها تتأمله وكأنها تزن صدقه:


-متأكد؟


أومأ بثقة لا تقبل النقاش وهو يعيد تعديل جلسته وكأنه يستعد رسميًا لبدء التدريب:


-طبعًا، يلا خدي نفس، وركزي في أول درس..


شعرت للحظة أن نبرته الأخيرة تحمل شيئًا أكبر من مجرد تعليم القيادة، وكأنها دعوة للثقة به في كل ما هو آتٍ فتشبثت بالمقود، محاولة إخفاء الخفقة التي تسارعت في صدرها، وأومأت برأسها استعدادًا، بينما الهواء في السيارة صار أثقل قليلًا بفعل الحماس والترقب.


وبعد عدة دقائق استوعبت قليلاً مما قاله، فحاولت 

تجربة القيادة للمرة التي لم تعلم عددها، وها هي قد نجحت بالفعل، فشعرت بذبذبات الطريق تحت عجلات السيارة، وبدأت الابتسامة ترتسم على وجهها وهي تتحرك للأمام:


-الله دي ماشية.


ازدادت ثقتها تدريجيًا فأمسكت المقود بثبات أكبر، لكن يزن كان يراقب عن قرب، مستعدًا للتدخل في أي لحظة، وفجأة مالت قليلًا نحو اليمين، فكاد أن يضع يده على المقود، لكنه بدلًا من ذلك قال بهدوء:


-ركزي في النص…بالراحة، بصي قدام مش على الأرض.


رفعت ذقنها في تحدٍ، وأصلحت مسار السيارة بثقة، ثم التفتت نحوه بابتسامة فخر:


-قولتلك هتنبهر.


أومأ برأسه مؤكدًا حديثها وفي عينيه بريق رضا يشي بأنه يترك لها مساحة الانتصار، وكأنها طفلة لا يود كسر خاطرها، فقال بإعجاب صادق وكأنه يمنحها وسامًا صغيرًا:


-شاطرة، شاطرة اوي...إيه القمر ده يا ناس اللي بيفهم بسرعة ما شاء الله هتعديني في السواقة.


رمقته بطرف عينيها في حذر وكأنها تختبر صدقه أو ربما تحاول قراءة ما وراء ابتسامته، ثم قالت باندهاش فيه لمحة تحدٍ طفولي:


-بجد، استنى احط ايد واحدة...


لكن يزن الذي كان يراقب أدق حركاتها، صاح بذعر وهو يمد يده ليعيد يدها الثانية فوق المقود، وكأن حياته كلها معلقة بهذه اللحظة:


-لااااا...لا ابوس ايدك، سوقي بايدك الاتنين لغاية ما تتعلمي بس كل حاجة.


أطرقت قليلًا ثم هزت رأسها باستسلام خفيف وهي تعيد يدها إلى مكانها:


-ماشي اللي انت شايفه، يزن هي العربية ليه بتيجي يمين؟


ابتسم ابتسامة خفيفة وعيناه ما تزالان تتابعان حركة المقود:


-انتي اللي بتجبيها، اظبطي ايدك كويس...


لكنها قاطعته فجأة بصوت مرتفع بعد أن أحست بالانحراف المفاجئ:


-لا لا لا...اااه، العربية...لا العربية مالها....


في تلك اللحظة ارتطم الإطار الأمامي بحافة صغيرة على جانب الطريق، وارتجت السيارة ارتجافة طفيفة لكنها كانت كافية لتُحدث في قلب يزن صدى أكبر من صوتها الحقيقي، وضع يده على صدره وكأنه يحاول تهدئة نبضه وصاح بأسى مصطنع:


-أنتي سمعتي صوت الخبطة، صوت خبطتها سمع في قلبي، عربيتي...


رمقته سيرا بعينين ممتلئتين بالأسف وانحنت قليلًا نحوه وهي تقول بخفوت، كطفلة تعترف بخطأها:


-قولتلك ماعنديش توزان، أنا أسفة يا يزن.


أدار رأسه بعيدًا عنها وزفر زفرة طويلة، ثم قال بلهجة متوترة تحمل في طياتها حنقًا:


-انزلي...انزلي، أنا أصلاً واحد أهبل عشان فكرت اعلمك السواقة.


لم ترد عليه واكتفت بإلقاء نظرات قصيرة مليئة بالاعتذار، قبل أن تفتح الباب وتنزل من السيارة بخطوات متثاقلة، وقفت على حافة الرصيف تراقب من بعيد تعابير وجهه التي جمعت بين الحنق والأسى، بينما كان يدور حول سيارته بفحص دقيق.


أخرج هاتفه من جيبه ورفعه إلى أذنه ليجري مكالمة قصيرة، بدا خلالها صوته هادئًا على غير ما يظهر على ملامحه، لم ترغب سيرا في البقاء على مقربة منه في تلك اللحظة، فابتعدت بخطوات بطيئة حتى وصلت إلى عربة صغيرة لبيع الطعام، حيث استوقفتها رائحة الخبز الساخن والتوابل الشهية، اشترت سندوتشًا وأمسكته بيديها الدافئتين، ثم عادت بخطوات مترددة وهي تنظر إليه من بعيد بعينين يكسوهما الأسف.


حين لمحها يزن كانت ابتسامتها الخفيفة لا تكاد تخفي حقيقة الموقف، فانعقد حاجباه وتمنى للحظة أن يهشم رأسها على سبيل العقاب، إلا أن نظراته خفت حدتها شيئًا فشيئًا عندما اقتربت منه وهي ترفع السندوتش أمامه كأنها تقدم هدية مصالحة، قائلة بابتسامة ماكرة:


-يزوني متزعلش مني، أنا هصالحك واراضيك.


رفع حاجبه مستفسرًا ونبرته نصف جادة:


-ازاي؟


أجابت وهي تميل برأسها قليلًا وكأنها تهمس بسر:


-تعال بليل عندنا هخلي ابلة حكمت تعملك طاجن البامية اللي انت بتحبه، تاكله لوحدك كله.


ابتسم بخفة لكنه هز رأسه رافضًا العرض:


-لا...عايزه اكله من ايدك، من غير أي مساعدات خارجية، وبعدين ماينفعش بليل، افتتاح محل يسر مرات نوح بليل ولازم نروح.


توقفت عن المضغ لثانية ورفعت حاجبيها بتساؤل:


-نروح؟


أجاب ببساطة:


-اه هي قالتلي اعزمك واجيبك معايا.


تساءلت باهتمام:


-وانت قولت لبابا؟


هز رأسه إيجابًا وقال وهو يدور نحو مقعده ليستقل السيارة:


-اه هروحك تغيري وهنروح ساعة بالكتير ونرجع تاني، عشان اشوف حل للمصيبة دي.


وأشار نحو سيارته بأسى، فهزت رأسها بحماس وانتقلت تستقل بجانبه، وتخطط ما سوف ترتديه.

                            ***

دقت الساعة الثامنة مساءً، وصلا يزن وسيرا إلى المكان فقد كان يعج بالناس وأمام المحل الجديد وقفت يسر بثياب أنيقة تحتضن بعض المدعوين بابتسامات دافئة، وما إن رأت يزن حتى أشرقت ملامحها بالترحاب وأقبلت نحوه بخطوات سريعة.


-نورت يا يزن، شكرًا إنك جيت بجد وقدرتني.


ثم اقبلت نحو سيرا وصافحتها باهتمام وهي تنظر إليها بابتسامة بشوشة:


-كان نفسي اتعرف عليكي من بدري، بس يعني الظروف الايام اللي فاتت مكنتش احسن حاجة.


هزت سيرا رأسها بتفهم بعدما علمت من يزن بعص المقتطفات الأيام الماضية عن صديقه نوح وزوجته وأمر اختطاف ابنتهما، التي ركضت نحو يزن تستقبله بأحضان وصياح طفولي:


-عمو يزن وحشتني اوي.


حملها يزن وهو يقبلها بحب في وجنتيها وقد بدا حنونًا جدًا وهو يحادثها، فتساءلت لينا بحنق طفولي:


-فين أنس؟ مجبتهوش ليه؟ 


-امممم باباه مرضيش أبدًا، بس اوعدك هجيبه ويلعب معاكي، بس هو فين بابا؟


عقدت يسر ذراعيها أمامها واصطنعت الحزن وهي تنظر للأعلى:


-تصور يا يزن، مقدرنيش أبدًا ولا نزل يباركلي ويقف معايا، كتر خيره بابا وماما وابن خالتي منير 

واقف من الصبح على رجليه.


لم تكن بريئة أبدًا في إلقاء كلماتها الحزينة أمام ساحة يزن الذي تفهم فورًا قصدها وهز رأسه يصطنع الاستنكار:


-لا ده اتجنن، أنا هطلعله وانزله طبعًا، متزعليش نفسك، خلي بالك بس من سيرا، لغاية ما اطلع وانزل.


كانت سيرا تقف ببلاهة لم تفهم شيئًا، حتى مال عليها يهمس بتحذير:


-اطلع وانزل الاقيكي قاعدة هادية، بلاش مشاكل، واوعي تشغلي دماغك ابوس ايدك.


رمقته بغيظ ولكنها ابتسمت اليه واشارت نحو عينيها ببراءة، ثم تحركت بجانب يسر لتتعرف على عائلتها، فتعجب يزن الذي كان يقف يراقبها قبل أن يصعد من الود الزائد الذي كانت تتعامل بع مع الجميع حتى يسر كانت سعيدة جدًا بوجودها وانخراطها السريع معها في الحديث.

                           ***

طرق يزن باب غرفة نوح مرة قبل أن يفتح الباب يطل برأسه وهو يبتسم، فنظر نوح إليه بتعجب:


-إيه ده اللي جابك؟


دخل يزن إلى الغرفة وهو يردف بسخرية متعمدة:


-جاي عايزك تخسسني شوية، هو إيه اللي جابك؟ منزلتش ليه لمراتك تقف معاها؟


رفع نوح حاجبيه باستنكار وتساءل بخشونة:


-هي اشتكتلك؟ 


هز رأسه نفيًا وقال بهدوء محاولاً امتصاص الحنق البادي على وجه صديقه:


-لا ابداً، أنا جاي أنا وسيرا عشان اباركلها مالقتكش جنبها، فسيبت سيرا وطلعتلك.


ابتسم بتهكم طفيف وهو يقول بعدم رضا:


-وخطيبتك رضيت تسيبك؟ مخافتش تقعد في حنة بنت ام احمد اللي تحت.


اتسعت ابتسامة يزن بحنق ساخر وهو يقول:


-ياعم صلي على النبي، أنا خاطب واحدة الرهاب الاجتماعي يخاف منها.


اكتفى نوح بابتسامة بسيطة وصمت أمام نظرات يزن المستكشفة، فسارع يزن بقوله الرزين:


-المهم يلا انزل بما إنك معندكش شغل، انزل باركلها وشجع فيها روح الفيمنست اللي جواها.


امتعض وجه نوح وهو يرمق صديقه باستنكار:


-بالله عليك أنت مقتنع باللي بتقوله؟


حرك يزن رأسه نفيًا وارتسمت على ملامحه ابتسامة خفيفة تحمل شيئًا من السخرية، ثم أردف بنبرة رخيمة تنم عن أفكار متشابكة:


-لا طبعًا، بس اللي اكتشفته يا نوح من خلال معاملتي مع سيرا، إن البنات دول مخهم لاسع يعني زيهم زي الاطفال كده، ريحها وبعد شوية هتزهق وتسيبها من جو رائدة الاعمال اللي ماسكة فيه. 


حدق نوح فيه متعجبًا من صديقه الذي لطالما عُرف بعلاقته العديدة مع النساء، فإذا به يتحدث عن سيرا وكأنها أصبحت مركز اهتمامه الأول، فكيف ليزن قاهر قلوب الفتيات صاحب الخبرة الواسعة في عالمهن يظهر وكأنه عديم الخبرة أمام خطيبته هذه؟


-مالك يا يزن؟ متغير ليه يا حبيبي؟ بتتكلم كده وكأنك معندكش خبرة يعني؟ وسيرا دي هي اللي خلتك تتعرف تتعامل مع البنات؟ إيه يا معلم ده أنا لما بعطل باجي أخد منك خبرة في التعامل؟


ابتسم يزن ابتسامة شاردة وعيناه تحملان شيئًا من الاعتراف الصامت:


-لا ما هي مش زيهم، هي غيرهم كلهم.


رفع نوح حاجبيه بعدم تصديق وقال بضحكة مستنكرة:


-والله؟


أومأ يزن برأسه وعيناه تتأملان الفراغ وكأنهما تستحضرانه في ذهنه، ثم قال بنبرة جادة يختلط فيها السخرية بقدر من الانفعال الحقيقي، ذلك الانفعال الذي لم يبدُ على ملامحه من قبل وهو يتحدث عن فتاة:


-اه بجد والله، اقسم بالله وقعت في واحدة غريبة، ملهاش كتالوج يا نوح، حرفيًا بتبهرني معاها، مرة تبقى مفيش زيها مقطعة السمكة وديلها، ومرة تانية تحس مفيش أغلب منها، اوقات بحس إن دماغها تعبانة، واوقات تانية بحس إن مفيش اعقل منها،....


ابتسم نوح باستهجان وهو يرفع حاجبيه وكأنه يحاول اقتناص اعتراف طال انتظاره:


-إيه ياعم حيلك حيلك؟ إيه يا قاهر قلوب العذارى خلاص وقعت؟ انت حبيتها؟


تغيّرت ملامح يزن على الفور وكستها صلابة نافرة:


-لا حب إيه مش لدرجادي؟ يعني معجب بيها عادي، المهم تعالى انزل يلا، بنتك عايزاك، وبعدين انت ازاي سايب مراتك مع البأف منير ابن خالتها تحت؟


شهق نوح وقد اشتعلت الغيرة في صدره كما تشتعل النار حين تصيبها نفحة هواء:


-نعم؟ هو تحت؟


أجابه يزن ببراءة مصطنعة لكن نبرته كانت كسكب الزيت فوق لهيب لا يريد له أن ينطفئ، مدركًا أن هذا المتهور لن يتحرك إلا إذا شعر بالخطر يهدد علاقته:


-اه ده مسيطر على المكان، ده أنا سمعت ناس وأنا طالعلك بيقولوه عليه إنه جوزها، من كتر ما هو واقف جنبها ومش راضي يسيبها.


لم يتمالك نوح نفسه فانطلق نحو الخارج كاندفاعة ثور أُطلق من حبسه، والشياطين تتراقص في رأسه وتغذي ناره، فما كان من يزن إلا أن تبعه بخطوات سريعة وهو يلقي تحذيرًا بنبرة متحفظة:


-اهدى يا وحش الكون، مش عايزين مشاكل تحت، حماك المرة دي هيخليك تطلقها بجد.


أشار نوح بيده في الهواء بعصبية مكتومة:


-يزن..أنا عفاريت الدنيا بتتنطط في وشي، أنا مش راضي أصلاً على اللي بيحصل تحت، وبفكر اكسرلها المحل زي ما كسرتلي عربيتي.


لين يزن نبرته محاولًا امتصاص تلك الموجة العاتية من الغضب:


-لا اهدى كده ومتكسرش بخاطرها، معلش كانت لحظة شيطان يا عم وعديها، وبعدين انت مقولتش انها اختفت عنك اربعة ايام وكانت بتستخبى منك، ده يكفيك إنها خايفة منك.


رفع نوح حاجبيه في استنكار وصوته يقطر من الغضب المغلف بالسخرية:


-انت بتكلم ابن اختك؟ هي سيرا دي لدرجادي مأثرة.


ضحك يزن ضحكة قصيرة ثم هز رأسه كمن يلوم نفسه على محاولة التهدئة:


-تصدق أنا غلطان، انزل اعمل فيها عبدة موته تحت، وطلع البلطجي الصغير اللي جواك عشان ترتاح.


زفر نوح بقوة وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره ثم جذب أنفاسًا عميقة محاولاً تهدئة نفسه قبل أن يهبط لمقابلتها وسط أجواء احتفالها الصاخب التي كان يراها تافهة، في حين كانت أفكاره تتقافز بين الغيرة والغضب وتلك الرغبة الخفية في استعادة زمام الأمور مهما كلفه الأمر.


                            ***

بعد مضي فترة وجيزة حاول نوح أن يوقفها وسط حركتها الدؤوبة بين أرجاء المكان، وهي تستقبل الزائرين بابتسامة حيوية لا تخلو من الفخر، غير أنها لم تُعره اهتمامًا أو بالأحرى كانت تتعمد الفرار منه، هربًا من مواجهته بعد فعلتها بسيارته، وزيادةً على ذلك لما يعتمل في صدرها من حنقٍ عليه بسبب وقوفه مع تلك الحسناء.


تحرك خلفها بخطوات ثابتة لكنها كانت تتملص منه بخفة، حتى ظهر أمامه ابن خالتها منير يتحرك وراءها كفراشة حائرة، فاعترض طريقه نوح قابضًا على ذراعه بقبضة حاسمة ونبرة تحمل جرأة لاذعة:


-اقعد يا حبيبي عشان مايجيلكش دوالي.


فتح منير فمه مستعدًا للرد ومواجهة سخريته الواضحة، لكن نوح همس إليه بنبرة غليظة لا تحتمل الجدل:


-قولتلك اقعد.


وقبل أن يتمكن منير من الاعتراض، شعر بيد قوية تجذبه إلى الخلف فالتفت ليجد يزن يبتسم ابتسامة خالية من الود، ويدفعه نحو مقعد قائلاً بلهجة آمرة:


-اقعد عشان متبقاش سواد على الكل.


أما نوح، فانطلق نحو والدة يسر التي كانت تحمل لينا بين ذراعيها، وقد بدا الضيق على وجهه وهو يقول:


-هي مش ملاحظة إنها حامل وغلط عليها المجهود ده كله؟


ابتسمت الأم بهدوء وكأنها تحاول تهدئته فقالت:


-معلش يا ابني فرحانة، شوية كده وهتلاقي الدنيا خفت.


لكن نوح لم يُخفِ امتعاضه فتابع:


-إيه اللي هي عاملاه ده؟ دي لو حنة لينا مش هتعمل كده؟


فأجابته بابتسامة مقتضبة حاول إنهاء الحديث:


-معلش فرحانة، اقعد بس اشربلك حاجة ساقعة تروقلك بالك.


وفي الجهة الأخرى من القاعة كان يزن يرمق سيرا بنظرات حانقة، آملاً أن تفهم من تلقاء نفسها وتجلس قربه، لكن تلك البلهاء كما كان يسميها في سره، لم تعره أي اهتمام بل تمادت أكثر فوقفت إلى جانب يسر تساعدها في استقبال الزبائن والتحدث إليهم، بعدما طلبت منها يسر ذلك بلطف، فوافقت سيرا بحماس وود.


حاول يزن إيقافها بأي وسيلة حتى ولو بنظرة صارمة لكنها تقدمت نحوه بكل جرأة ومدت إليه حقيبتها قائلة:


-يزون امسك الشنطة، لغاية ما اساعد يسر، اوعى تسيبها لتتسرق.


اقترب منها وهمس بتحذير خافت:


-خدي هنا اقعدي...


لكنها لم تسمع أو ربما تجاهلت عمدًا، فانطلقت بخطى سريعة نحو الزبائن، تتعامل معهم بأريحية تامة، تاركةً إياه يضغط كفه على فمه في غيظ، متوعدًا لها بشجار مؤجل إلى ما بعد مغادرتهما.


أما نوح فقد جلس أمام منير في تحدٍ صريح، وكأن عينيه تنطقان بوعيدٍ واضح إن فكر في الاقتراب من يسر مرة أخرى، وفي الوقت نفسه ظل يراقب تلك الفراشة السعيدة التي ترفرف هنا وهناك، وهي تتحرك بخفة بين الضيوف، تترك خلفها أثرًا من البهجة…وأثرًا من الغضب والغيرة في قلبه.


                          ***

في منتصف الليل كان الصمت يلف أرجاء المنزل كستار ثقيل، لا يقطعه سوى وقع خطوات يزن وهو يحمل كوبًا من الماء في يده، والهاتف مثبت على أذنه، كان صوته يخرج متهدجًا بشيء من الإرهاق، لكنه مشوب باهتمام حقيقي وهو يخاطب نوح ليطمئن عليه وعلى يسر، بعدما قرر يزن أن يغادر الحفل بصحبة سيرا تلك التي أرسل والدها زوج فريال لاصطحابها إلى المنزل، لم تتح له الفرصة لفتح أي نقاش معها بشأن ما فعلته، إذ ما إن غادرت حتى أغلقت هاتفها على عجل، وكأنها تقطع عليه كل طريق للوصول إليها.


فسأل يزن بلهجة متعبة لكنها يقظة:


-يعني روحت مع اهلها؟ طيب محاولتش تتكلم معاها؟


جاءه صوت نوح عبر السماعة غليظًا ممتلئًا بالحنق:


-لا...خلصت وابوها خدها ومشيوا، ومالحقتش حتى اعمل أي حاجة يا يزن؟ اقسم بالله أنا مش هستحمل كتير حوار المحل ده!


أخذ يزن نفسًا عميقًا وهو يخطو داخل غرفته بخطوات متباطئة وكأنه يفكر بجدية في حل يُخرج صديقه من مأزقه، ثم قال بنبرة تحاول التهدئة:


-معلش يا نوح طول بالك، وشوف حد يكلمها ويقنعها.


سكت نوح برهة ثم أضاف متذكرًا:


-بقولك أنا ملاحظ خطيبتك قربت منها في الكام ساعة دول، ما تخليها تكلمها بما إنها هاتشتغل معها؟


جاء رد يزن مشوبًا بالدهشة:


-تشتغل مع مين؟!


أجابه نوح وكأنه يكشف سرًا:


-مع يسر انت ماتعرفش؟ أنا سمعت أم يسر وهي بتقول لابوها إن يسر عرضت عليها وهي وافقت.


اتسعت عينا يزن وكأن كلمات صديقه صبت فوقه ماءً باردًا ممزوجًا بالغضب:


-نعم؟ اقفل يا نوح...اقفل.


أغلق الهاتف بعصبية وبدأ يدور في الغرفة كوحش محاصر، قبضته تنفتح وتنغلق في انفعال، حاول الاتصال بها مرارًا لكن الهاتف ظل مغلقًا، وكأنها تعلن تحديها الصريح له، عندها لم يتمالك نفسه، وقرر أن يذهب إليها فورًا حتى ولو بثيابه البسيطة، ليضع حدًا لهذا التهور الذي قد يمسه شخصيًا.


التقط مفاتيح سيارته بسرعة واندفع خارج الشقة، لكن خطواته توقفت حين وجد سليم أمامه، ذاك الذي اعتاد الهبوط كل ليلة قبيل الفجر، ليطمئن على والدته وعلى وجود يزن في المنزل، ثم يعود بهدوء إلى شقته، كان الأمر سرًا لا يعرفه أحد سواه، فقد اعتاد يزن أن يشعر بحركته حتى وهو مستغرق في النوم.


رفع سليم حاجبيه متسائلًا بنبرة تحمل شيئًا من الريبة:


-رايح فين في وقت زي ده؟


أجابه يزن على عجل، ودون أن يلتفت:


-رايح اجيب حبوب لصداع.


لم ينتظر ردًا وتابع خطواته مسرعًا نحو بوابة المنزل، غير أن صوت سليم ارتفع خلفه يحمل في نبرته تعجبًا ممزوجًا بالحدة:


-يزن!


لكن الأخير لم يبطئ خطاه ولم يلتفت، وكأن كل ما حوله قد غاب عن وعيه، ولم يبقَ في رأسه سوى وجه واحد وقرار لا رجعة فيه، فرفع هاتف يجري اتصالاً بأختها الكبرى "أبلة حكمت".

                             ***

دخلت سيرا وهي تجر إسدالها الطويل خلفها، خطاها كانت متأنية لكنها واثقة حتى بلغت غرفة الاستقبال في شقة "أبلة حكمت"، وما إن وقعت عيناها على يزن الجالس فوق مقعد الصالون الذهبي بثياب بيتية حتى عقدت حاجبيها بدهشة واستنكار وقالت بنبرة حادة:


-يزن أنت ازاي تيجي في وقت متأخر زي ده؟!


لم يمنحها فرصة لإتمام تساؤلاتها بل اقترب منها في لحظة، ومد يده ليغلق الباب خلفه بجرأة أربكتها، ثم انفجرت كلماته من بين شفتيه بعنف وغضب متأجج:


-أنا لو مكنتش وصلتلك، كنت طلعلتك بيتك ودخلت جيبتك من شعرك اقسم بالله ومن جوه أوضتك، على اللي عملتيه؟


رفعت إحدى حاجبيها بتحد واضح، وقد أزعجها أسلوبه الفظ فردت بسخرية لاذعة:


-إيه حيلك حيلك!! أنا ماسمحلكش تكلمني بالطريقة دي!


قبض يده بقوة في محاولة واضحة لضبط انفعاله، لكن الغضب كان يشتعل في نبرته حتى بدت عروق عنقه ويده بارزة فقال من بين أسنانه:


-وكمان ليكي عين تتكلمي؟ يا شيخة أنا مفيش حد مرمطني قدك، أنا مفيش حد خرجني عن شعوري قدك، أنتي جننتيني لدرجة أنك خليتني أجيلك في نص الليل.


رفعت حاجبيها معًا في دهشة حقيقية، ثم تمتمت بارتباك وقد بدت عليها الحيرة:


-رغم اتهاماتك اللي ملهاش أساس من الصحة، أنا بريئة والله من اللي أنا عملته في خيالك وأنا ماعملتوش في الحقيقة.


قطب حاجبيه في حيرة وهو يسألها:


-انتي بتقولي إيه؟!


هزت كتفيها بعدم مبالاة وردت ببرود يغضب الصخر:


-مش عارفة والله، بس بحاول أبرأ نفسي وخلاص.


أطلق زفرة حادة وكأنها تحمل كل ضيقه، ثم شد خصلات شعره بقوة قبل أن يقول بصوت يملؤه الغيظ:


-انتي رايحة تشتغلي عند يسر مرات نوح؟ انتي اتجننتي في دماغك؟ رايحة تشتغلي عند مرات صاحبي؟


أجابت بهدوء وكأنها تتحدث عن أمر عادي:


-لا مسمهماش كده، هي قالتلي تعالي اشتغلي معايا، بس فوافقت.


قطب وجهه أكثر واقترب خطوة ثم قال بتهكم غاضب:


-بس بسيطة اهو انت متعصب ليه وجايلي بهدوم البيت، بشتغل معاها مش عندها لا تفرق الصراحة أبهرتيني، والجميلة مش واخدة بالي إنها بتقل من نفسها ومن خطيبها؟! 


قاطعته فجأة وهي تميل نحوه بخفة، وتمط اسم دلعه بدلال خافت:


-أنا بقل منك إنت يا يزوني؟


رمقها بنظرة غاضبة كأنه يحاول مقاومة تأثيرها عليه وأخفى ارتباكه بنبرة صارمة:


-بلا يزون بلا زفت، حالاً تتصلي عليها تعتذرليها.


أجابته بصرامة لم تخفِ عنادها:


-مش هقدر أنا اديتها كلمة.


وفي لحظة انفتح الباب فجأة، ودخلت أبلة حكمت حاملة عصا خشبية وقد بدت على وجهها علامات الغضب الشديد، فقد كانت استمعت لكل ما دار بينهما من خلف الباب فأعلنت نيتها الحاسمة وهي تلوح بالعصا:


-ده أنا اللي هديكي علقة موت ما يعلم بيها إلا ربنا.

______________

قراءة ممتعة 🔥♥️


👀

 


 تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات

التنقل السريع