رواية غناء الروح الفصل الأربعون 40بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات
رواية غناء الروح الفصل الأربعون 40بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
الفصل الأربعون...
جلست حكمت بجانب صافي زوجها في صالة منزلهما الواسعة، يتابعان معًا بترقب مشوب بالقلق باب غرفة الاستقبال التي يجلس بداخلها سيرا ويزن، فقد كان الصمت يخيم على الأجواء إلا من أصوات أنفاسهما المتوترة فاللقاء لم يكن عابرًا ولا مجرد زيارة عائلية عادية.
حيث اتصل يزن بحكمت منذ قليل بصوتٍ مبحوح يقطر غضبًا، وطلب منها أن ينفرد بسيرا لأمرٍ خاص بينهما، في بادئ الأمر ترددت كثيرًا، لكن التوقيت الذي اتصل فيه ونبرة صوته المتشنجة كانا كفيلين بإثارة قلقها وإيقاد شرارة الريبة في نفسها؛ إذ لم تعهد منه تلك الحدة، فقد كان دائمًا مرحًا خفيف الظل بعكس ما بدا عليه الآن.
انتفضت فجأة عندما شعرت بقرصة حادة على ذراعها، فالتفتت لتجد صافي يرمقها بعدم رضا، وهو يتمتم بصوت خافت مليء بالتوتر:
-حكمت ركزي معايا، أنا مش عاجبني إيه اللي بيحصل ده!
رمقته بنظرات غاضبة وردت بعنف مكتوم، محاولة خفض صوتها حتى لا يُسمع حديثهما مَن داخل الغرفة:
-يعني أنا اللي عاجبني؟! بس أنت شايف الواد جاي منظره ازاي؟ ده يا حبة عيني جاي بهدوم البيت زي الاهبل، ومنظر وشه زي ما يكون سيرا أختي قتلت له قتيل!
هز صافي رأسه في إيماءة بسيطة وكأنه يقر كلامها، ثم قال بنبرة تصديق ممزوجة بتحذير:
-ماشي هو منظره إن في مصيبة حصلت، بس أبوكي لو عرف هيبهدل الدنيا، ابوكي يسمح له بأي حاجة ده في النهاية أبوها، لكن انتي ماتسمحيش بحاجة ليزن عشان أبوكي هيحس إنك بتتعديه وفي الآخر هيخرب الدنيا.
أطلقت حكمت تنهيدة ثقيلة ووجهت نظراتها القلقة نحو باب الغرفة المغلق، قبل أن تهمس بغيظ خافت، كأنها تكلم نفسها أكثر مما تخاطب صافي:
-أنا بس لو اعرف المتنيلة على عينها دي عملت إيه؟
رفع صافي كتفيه بلا مبالاة واضحة، لكن عينيه حملتا ظلالًا من عدم الرضا، كان يشعر في أعماقه بأن الأمر خطير أكثر مما يبدو.
وبينما انشغلا بالتوتر القابع في الهواء، تقدمت حكمت بحذر شديد نحو باب الغرفة ووضعت أذنها عليه، وضيقت عينيها في تركيز حاد، محاولة التقاط أي كلمة من أصواتهما المتحاربة، ما سمعته لم يكن حوارًا هادئًا أبدًا؛ بل نبرات غاضبة، اعتراضات حادة، وانفعال يتصاعد بين يزن وسيرا كريحٍ تسبق العاصفة.
وعلى بُعد خطوات قليلة من هذا المشهد المشحون، وقفت دهب ابنة حكمت، عند باب غرفتها تتابع بعينيها المتقدتين بالفضول ما يجري في الصالة، فكانت تمسك هاتفها وتهمس إلى صديقتها بنبرة تكاد تخفيها عن العالم بأسره:
-يالهوي يا سمسم لو ينفع أصوره هعملها، إيه ده عامل زي بتوع السوشيال ميديا العيال اللي مفيهمش غلطة.
جاءها صوت صديقتها المتحمس عبر السماعة، فأجابتها بابتسامة واسعة ارتسمت على شفتيها وعينيها معًا:
-لا لا اتصور معاه إيه؟ بقولك شكله متضايق اوي، ماعرفش خالتو سيرا دي هببت إيه؟ عشان يجيلنا متضايق كده! أنا لما شوفته بيركن عربيته تحت ونازل بهدوم بيته اووووف عجبني اوي بجد، يابختها طول عمرها حظها من السما.
استرسلت دهب في سرد تفاصيل وسامة يزن، ونثرت كلماتها كما لو كانت حبات لؤلؤ في أذن صديقتها، بينما راحت الأخيرة تثرثر بأسئلة متلاحقة، وفي عيني دهب لمعة إعجاب صافية، بل ربما كانت شرارة هوس مراهقة يتفتح لأول مرة أمام صورة رجل لم تعرف مثله من قبل.
أما في الداخل...
كان الوضع على أشده والأجواء مشتعلة كشرارة نارٍ انطلقت في صمت الغرفة، إذ كان الغضب يكسو ملامح يزن بينما تعاند سيرا برفضٍ متصلب، كمَن يقف في وجه العاصفة متحديًا هبوبها العنيف، ارتفعت أنفاسهما في المكان حتى بدت كأنها تصطدم بجدران الغرفة وكأن الهواء نفسه قد أثقل من حدة التوتر.
قالت سيرا بعنادٍ محتدم وصوتها يرتجف من الغضب أكثر مما يرتجف من الخوف:
-يزن أنت مش من حقك تتحكم فيا بالشكل ده، وبعدين أنا ماعملتش حاجة غلط.
ارتفع حاجباه بدهشةٍ ساخرة واقترب منها خطوة بطيئة كذئب يستعد للانقضاض، وقبض كفه بقوة حتى برزت عروقه متوترة تحت جلده، وصوته يهدر بحدة متحكمة:
-هو إيه اللي ماعملتش حاجة غلط؟؟ ماتبقيش متخلفة بقى، أنتي عايزة تفهميني أنك مش فاهمة أنا بتكلم في إيه بالظبط؟
رمقته باستنكارٍ واضح وردت بامتعاض غاضب:
-لا مش فاهمة، أنت مأفور على فكرة!
كلمتها الأخيرة كانت كصب الزيت فوق النار، فاشتدت ملامحه غضبًا وانطلقت حروفه كالرصاص:
-سيرا بلاش استعباط، يعني إيه اسمحلك تروحي تشتغلي عند مرات واحد صاحبي؟ انتي عبيطة؟ انتي مقامك من مقامي، وماينفعش بأي شكل من الأشكال إنك تقللي من نفسك أبدًا!
ردت بعناد أنثوي متأصل ورفعت رأسها متحدية:
-وأنا هستناك أنت يا يزن عشان تعرفني ازاي ماقللش من نفسي؟! وبعدين قولتلك أنا هساعدها في شغلها، عشان هي حامل وتعبانة، فعادي يعني!
أطلقت تبريرها للمرة الألف ومع ذلك لم ينجح في تهدئته، بل زاد من احتدام صوته المقيد بالغضب:
-لا مش عادي، اغنيهالك مش عادي أبدًا، هي عايزة حد يشتغل معاها تروح تشوف حد غيرك، لكن انتي متشغليش عندها أبدًا.
زفرت سيرا بضيقٍ نافد الصبر وقالت بحدة:
-انت متكبر اوي على فكرة، مش طبيعي كمية الغرور اللي بتتكلم بيها!
اقترب منها فجأة حتى كادت أنفاسه تلامس وجهها وصوته هذه المرة انخفض تلقائيًا يحمل نبرة خطرة على مشاعرها:
-مغرور في اللي يخصني، انت مقامك من مقامي وراسك لازم تتساوى براسها ومحدش يبصلك أبدًا على إنك اقل منه، ولا تاخدي أوامر من أي مخلوق.
ارتبكت خطواتها فتراجعت قليلًا وهي تتحسس حجابها بيدٍ مرتجفة لكن عنادها أبى الانكسار، فقالت بنبرة متلعثمة تحاول أن تكون متزنة:
-ماشي، بس أنا بردو مابقللش من نفسي لو ساعدتها، وبعدين أنا لو كنت حسيت منها زي ما أنت بتقول كده، كنت رفضت لكن الست كانت ذوق وحسيتها وحيدة ومتلخبطة وعايزة حد يقف جنبها..
زمّ يزن شفتيه بقوة ورد بصرامة لا تقبل جدالًا:
-مالكيش دعوة، وتكلميها تبلغيها رفضك ومفيش شغل عند حد لا هي ولا غيرها.
رمقته سيرا بنظرة متقدة وفي داخلها شعلة أنوثة حرة لا تقبل القيد فهتفت بعنفوان:
-لا لو سمحت أنا ليا رأي وماينفعش تلغيه بالشكل ده ولا تكلمني كده، وبعدين أنا هتحرج ابلغها رفضي ومن جوايا حاسة إن نفسي اساعدها.
ابتسم ابتسامة ساخرة لكنها لم تُخفِ قسوته وهو يقول ببرودٍ قاطع:
-لا ماتحسيش بعد كده لو سمحتي.
كلماته تلك أشعلت النار أكثر فرفعت رأسها بكبرياء وتحدته:
-طيب أنا بقى مش هقولها حاجة، وأنا مش مقتنعة بكل أسبابك وكلامك.
في تلك اللحظة انفلتت أعصابه فانقض نحوها بسرعة، قبض على مرفقها بعنفٍ محاولًا تحجيم تمردها وصوته يهدر في الغرفة بأكملها:
-بقولك إيه أنت هتكلميها وهترفضي الشغل معاها يعني هتكلميها، أنا خلقي ضيق وماعنديش مرارة فمتعانديش عشان ماتزعليش مني.
حاولت أن تفلت ذراعها منه وهي تقول بعنادٍ متحدٍ:
-لا وريني بقى هتزعلني ازاي؟!
-سيرا ماتعصبنيش، متخليش جناني يخرج عليكي، أنتي ليه مش مقدرة حجم اللي انتي عملتيه؟
ارتفع صوته قليلًا كحد السيف، فارتجفت أنفاسها وهي تلمح بعينيها باب الغرفة المغلق، تخشى أن تتسلل نبرته خارجه وتصل إلى تلك التي لن ترحمها إن علمت، فقد كانت حكمت قد أبدت اعتراضها مرارًا على فكرة بحثها عن عمل، معتبرة أن مكانة عائلة خطيبها الاجتماعية والمادية لا تسمح بذلك، وأن سيرا يجب أن ترتقي بنفسها لتجابه مقامهم وتثبت جدارتها بهم.
أخذت سيرا نفسًا عميقًا تحاول به تهدئة ارتجاف روحها، ثم أبعدت يده عن ذراعها برفق قائلة بنبرة هادئة تكتم اضطرابها:
-انت متعصب ليه بس يا يزون وجاي لي بهدوم البيت وتاعب نفسك، ماكان ممكن تكلمني في التليفون ونتفاهم بردو؟
ابتعد خطوة للخلف وكأنه يحاول أن يبتلع غضبه، ثم مرر كفه بين خصلات شعره الثائرة بعنف قبل أن يزفر بحنقٍ ظاهر:
-ما أنتي قافلة تليفونك يا هانم، ومش عارف أوصلك، المهم ابعتيلها رسالة بلغيها أنك مش هتقدري تشتغلي معاها.
هزّت رأسها نفيًا في صمت بعنادٍ طفولي يثير الغضب أكثر مما يثير الشفقة، فما كان منه إلا أن عاد لاندفاعه الغاضب، وصوته يخترق المسافة بينهما كريحٍ صاخبة:
-انتي كده بتقللي من نفسك يا سيرا قبل ما بتقللي مني؟ خدي بالك عشان أنا وربي صبري نفذ.
رفعت حاجبيها بدهشة مصطنعة، وقالت بخفوت متلاعب تحاول به تليين الموقف:
-يا خبر أنا بقلل منك يا يزون؟ لا لا متفهماش كده، أنا سبب رفضي إني مكسوفة عشان اديتها كلمة بس.
لكنها لم تكمل جملتها حتى اندفع الباب فجأة بقوةٍ صادمة فاهتز قلبها من الرعب وهي تتراجع خطوة إلى الوراء، فقد دخلت أبلة حكمت كإعصارٍ هادر، وعصاها الغليظة مرفوعة عاليًا، وهي تصيح بصوتٍ كالرعد:
-ده أنا اللي هديكي علقة موت ما يعلم بيها إلا ربنا.
ارتبكت سيرا وارتدت إلى الخلف بخوفٍ واضح، بينما اندفع يزن دون وعي يقف أمامها كدرعٍ واقٍ، يجهل تمامًا ما قد تفعله حكمت في لحظة غضبها الجامح، لكن العصا لم ترحم ذراعه، إذ هوَت بضربةٍ عنيفة جعلت ملامحه تنكمش من الألم، فهتف بدهشةٍ ممزوجة بغضب:
-إيه ده في إيه؟
ردّت حكمت بصوتٍ مرتفع لا يعرف هوادة وعيناها تقدحان شررًا:
-في إن البت دي لازم تتربى، خدي هنا.
كانت سيرا قد اختبأت تمامًا خلف ظهر يزن، حتى أمسكته من ثيابه دون وعي تتوسل بصوتٍ مرتجف وهي تختبئ وراءه كطفلة خائفة:
-بلاش العصاية يا أبلة وأنا هفمهك.
لكن حكمت لم تُصغِ وانطلقت تصرخ بقسوة:
-تفهميني إيه يا منيلة؟ رايحة تشتغلي عند مرات واحد صاحبه يا عبيطة، وكمان بتبجحي!
كلما حاولت حكمت أن تصل إلى سيرا، كانت الضربات تُستقر فوق جسد يزن الذي تحمل الألم في صمت يحاول صدها بيديه بلا جدوى، فيما كان صافي يحاول التدخل بدوره لكنه تلقى ضربة عن غير قصد جعلته يتقهقر إلى الخلف، فصرخت حكمت بعنف وهي تهدر غيظًا:
-سيبني يا يزن عليها، سيبني على البجحة دي.
لكن سيرا اختفت أكثر خلفه تتوسل إليه بصوتٍ مخنوق:
-لا اوعى يا يزن، دي مش هتتفاهم عادي كده.
أدار يزن وجهه نحو حكمت صوته يعلو رغم محاولته كبح غضبه:
-يا ابلة اهدي سيرا خلاص اقتنعت بكلامي، اهدي لو سمحتي، عشان العصاية دي ضربتها تودي القبر، لو نزلت على جسمها هتوجعها.
كان يدافع عنها بشراسة لم يعهدها في نفسه من قبل، بينما سيرا تهز رأسها في صمت خلفه تدرك أن نبرة الضيق في صوته تنذر بغضبٍ حقيقي، ربما ليس على ما فعلته بقدر ما هو غضب من أختها الكبرى، لكنها لم تسلم إذ تلقت ضربة مفاجئة على ذراعها جعلتها تتألم وهي تدلك مكانها بغيظٍ مكتوم، فانحنى يزن نحوها بقلقٍ بالغ، يتفحص أثر الضربة فلاحظ دموعها التي بدأت تتجمع في عينيها، فأطلق تنهيدة مكتومة وهو يهمس بحدة ظاهرة:
-يا أبلة لو سمحتي كفاية، ده موضوع بيني وبينها وخلاص انتهى وهي هتعتذر لمرات صاحبي.
مسحت سيرا دموعها بعنادٍ بين شهقاتها وقالت بصوتٍ متقطع:
-لا...هتحرج منها، الست كانت متعشمة فيا.
التفت يزن نحوها بعنف ورغم أنه نبرته كانت مخفضة إلا إنها كانت تحمل قدر كبير من الحدة:
-واقسم بالله اسيبها عليكي.
-دي يا حبيبي مش هتجيبها لبر، صدقني أنا عارفة دماغها هتتعدل ازاي.
وفي اللحظة التالية رفعت حكمت العصا مرة أخرى، فانكمشت سيرا خلف ظهر يزن وهي تصرخ مستسلمة:
-خلاص...خلاص هعمل اللي انتوا عايزينه.
ثم أكملت حديثها بنبرة متألمة يختلط فيها القهر باستسلام موجع:
-بس يزن يخدني بكرة عندها، وأنا هبلغها عشان بجد هي كانت ذوق اوي وهي بتطلب مني اساعدها فمش حابة اكسر بخاطرها.
سارعت حكمت بالرفض الحاد تقول بأمر لا يحتمل نقاشًا:
-لا كلميها في التليفون، هي كانت من بقية عيلتك؟؟
تلقت سيرا كلماتها كطعنة مباغتة في الصدر، فتجمدت في مكانها بينما مد يزن يده ليخرجها من خلفه وعيناه تعتذران نيابة عنه وكأنه يتحمل وحده كل الضربات التي وُجهت إليها.
فقال بهدوء حاسم محاولًا إنهاء الموقف:
-خلاص يا أبلة أنا هخدها فعلاً عند يسر بكرة، نزلي العصاية دي لو سمحتي كفاية كده.
-عشان خاطرك بس.
تنهّدت حكمت استسلامًا، لكنها أردفت بتهديد مبطن إلى سيرا التي كانت تتسلل بحذر خلف ظهر يزن:
-العصاية دي ربتهم كلهم، أنا مش لسه هتناقش مع حد، ياخدوا كام ضربة ويتعدلوا بعدها على طول ولا إيه؟
تدخل صافي بتعب وقد أثقله النعاس:
-خلاص يا حكمت ما هي سيرا سمعت الكلام اهو.
رفع يزن حاجبيه معًا، مستنكرًا جرأتها على اقتحام الحديث أصلًا لكنه كتم غيظه، وانحنى نحو سيرا يهمس بنبرة حانية:
-روحي اطلعي يلا عشان ابقى مطمن عليكي.
رفعت وجهها إليه والدموع تلمعان بقطرات متلألئة متحجرة في مقلتيها، شعر بألم حاد يعتصر قلبه وندم يتسرب إلى روحه لأنه كان دون قصد السبب فيما حدث لها، لم يكن يدرك أبدًا أن حكمت تحمل كل هذا الجنون!!
بينما تسللت سيرا إلى الخارج بخطوات واهنة، لكن ما إن ابتعدت حتى انهارت تبكي في صمت حارق، لتفاجئها دهب بابتسامة ساخرة وهي تهمس بنبرة لا تخلو من الاستفزاز:
-معلش يا خالتو تعيشي وتاخدي غيرها.
مسحت سِيرا دموعها بسرعة، ترد بغضب مكتوم:
-ابعدي عن وشي، احسنلك.
دفعتها بحدة ومضت إلى الطابق الذي تقع فيه شقة والدها لكن شعورًا خانقًا اجتاح صدرها، فلم تستطع دخول الشقة، وجلست على إحدى درجات السُلم تحتضن ركبتيها ثم أنفجرت ببكاءٍ مكتوم، مزيجٍ من الألم والقهر والحرج خاصةً لحدوث كل هذا أمامه.
وفي الأسفل كان يزن قد استأذن حكمت باقتضاب، وكاد يغادر إلا أن دهب لحقت به حتى الباب، تهمس بنبرة يغلفها إعجاب خفي:
-نورتنا بجد.
ابتسم إليها ابتسامة مقتضبة:
-شكرًا يا قمر، عن إذنك.
لكنها سارعت قبل أن يغادر تسأله بخجل متكلف:
-هو أنا ممكن أبقى اجيلك الأجانص؟
انعقد حاجباه متسائلًا:
-الأجانص؟!
سارعت بتبرير مرتبك:
-يعني أصل أنا بحب العربيات أوي وبحب اشوفهم.
ابتسم ابتسامة عابرة وهو يرد ببرود:
-تعالي تنوري في أي وقت.
ألقى بكلماته دون اهتمام وغادر شقة حكمت لكن ما إن وطأت قدماه أولى درجات السُلم، حتى توقف فجأة، عندما استرقت أذناه صوت شهقات مكتومة صادرة من الأعلى، خفق قلبه بقوة وحدسُه يخبره أنها هي…سيرا.
صعد بخطوات مترددة واحدة تلو الأخرى، حتى لمحها في منتصف الدرج تجلس متقوقعة على ذاتها، رأسها مطأطأ بين ساقيها تبكي بعنفٍ في صمتٍ موجع، لم يتمالك نفسه وانساب اسمها من بين شفتيه همسًا كأنه دعاء:
-سيرا...
رفعت وجهها نحوه ببطء، وقد احمر وجنتاها بشدة وتورد أنفها من كثرة البكاء، بينما الدموع ما زالت تنهمر بغزارة على خديها، اقترب منها بخطوات حذرة وجلس إلى جوارها وصوته يقطر أسفًا:
-حقك عليا، أنا مكنتش اعرف إنها ممكن تسمعني ولا تعمل كده.
ارتبكت أمامه تشعر بتصدع داخلي يكاد يعصف بثباتها، لم تعُد حكمت مصدر خوفها في تلك اللحظة…بل قلبها الذي يخذلها أمامه، شعور غريب ينهشها؛ بين ضعفٍ يستدرجها نحوه، ورغبةٍ عارمة في الاحتماء به، وخوفٍ شديد من السقوط في هاوية المجهول.
مسحت دموعها على عجل تخفي انكسارها خلف عناد طفولي وهي ترد بنبرة خافتة:
-أنا مابعيطش ولا حاجة، أنا كويسة.
ابتسم وكأن صلابتها الصغيرة سحرته:
-ما أنا واخد بالي من الشلالات اللي عمالة تنزل.
رمقته بضيق وأدارت وجهها بعيدًا عنه، تدلك ذراعها المتألم بلا وعي، فلمح حركتها واشتعل الغيظ في صوته:
-معلش أنا مكنتش اعرف إن ابلة حكمت متهورة.
نظرت إليه بسخرية ممزوجة بمرارة:
-أنت ماتعرفش أي حاجة عنها، دي حاجة بسيطة من اللي بتعمله فينا.
تجهم وجهه يسأل باستنكار:
-هو انتي بس اللي بتعمل معاه كده؟
هزت رأسها بابتسامة كسيرة وكلماتها خرجت حذرة كأنها تلمس جرحًا مفتوحًا:
-لا كلنا أنا واخواتي وعيال أخواتي...هي بتحبنا ونفسها تشوفنا أحسن منها، ودايمًا حاسة إنها مسئولة عننا بس بتفسر كده بطريقة غلط زي ما أنت شايف كده، واهو نالك من الحب جانب.
رمق ذراعه حيث تركت حكمت علامات الضرب، فخفضت سيرا بصرها تهمس بإحراج:
-أنا أسفة استخبيت وراك، أنا بعرف اتفادى كويس العصاية، أنا أصلاً عندي خبرة في كده، بس يعني اتفاجأت إنها عملت كده قدامك.
ابتسم ابتسامة ساخرة:
-تتفادي إيه؟! ده كويس إن أنا موجود.
خفضت رأسها بخجل وهي تبرر:
-هي بتحبني والله أنا واخواتي، بس طريقة حبها غريبة شوية، عارف أنا مابزعلش منها خالص عشان عارفة أنها في النهاية بتخاف عليا.
رفع حاجبيه يسألها بصدق:
-امال بتعيطي ليه؟
أجابت في همس متألم:
-عشان وجعتني بس.
كانت نبرتها كافية ليغلي الدم في عروقه، إذ أدرك حينها أن ما يؤلمها ليس الجسد فحسب بل الروح المثقلة بضغط نفسي خانق، تمنى لو يضمها بين ذراعيه يحميها من كل شيء من حكمت…ومن خوفها…وحتى من نفسها.
شعر برغبة لم يعهدها من قبل تجاه فتاة، كأن رؤيتها وحدها تعيد تشكيل قلبه من جديد، فأراد أن يبدد حزنها ويخفف عنها قسوة اللحظة فقال بلطف:
-حقك عليا أنا لو اعرف أن ده كله هيحصل مكنتش جيت، بس كل اللي ضايقني فكرة أنك تشتغلي عند حد قريب مني، محبش أبدًا حد يقلل منك، رغم إن عارف كويس إن يسر محترمة وكويسة، بس أنا مش هكون مرتاح صدقيني، واحتمال يحصل مشاكل بيني وبين نوح واخسره لو حسيت إنها ممكن تضايقك، وهو كمان مش هيستحمل حاجة على مراته، وأنا مش هستحمل عنك الهوا.
أطرقت تفكر في كلماته بجدية ورغم ثِقَل المشهد، وجدت قلبها يتمايل مع اعترافه الضمني بمشاعره نحوها، فنظرت إليه في استسلام رقيق تهمس بخفوت:
-وأنا مرضاش إن علاقتك بصاحبك تبوظ بسببي، بكرة تعالى استأذن بابا وخدني ونروحلها المحل اقعد معاها شوية وابلغها اعتذاري.
رفع يزن نظره إليها بإعجاب عميق وكأنه يراها للمرة الأولى بنظرة مختلفة تمامًا، نبرة صوته انخفضت حتى بدت وكأنها نابعة من عمق قلبه وهو يقول بابتسامة خفيفة تحمل مزيجًا من الحنو والمزاح:
-طيب ما أنتي رقيقة وعسل اهو، بلاش دور المرأة العنادية اللي بتلعبيه ده عشان مش لايق عليكي، أنتي بسكوتاية ويڤر مابتستحمليش يا سيرا.
رمشت بعينيها بدهشة طفولية وهي ترد خلفه بنبرة ممتزجة بالاستنكار والاستغراب:
-بسكوتاية ويڤر؟
اقترب منها أكثر حتى أصبح صوته لا يسمعه سواها، وانحنى قليلًا برأسه وهمس بنبرة رقيقة صادقة كأنها قطرات دافئة تتسلل إلى روحها:
-اممم بحبها اوي وبشوفك دايمًا شبها.
لم تستطع أن تمنع ابتسامة خافتة من التسلل إلى شفتيها، فقد كانت نظرتها إليه صارت أكثر دفئًا وهدوءً وكأن تلك الكلمات نجحت في تخفيف شيء من وطأة انكسارها السابق، فشعرت للحظة أن دفاعه عنها وتلك النبرة الحانية قد أذابا جليد المسافات بينهما.
فأردات بخجل خفي أن تمازحه كمحاولة طفيفة لتخفيف الأجواء ولتعويضه بطريقة غير مباشرة عما بدر من أختها فقالت بعفوية ممزوجة بمرح متردد:
-طيب وامتى هتشوفني زي طاجن البامية؟
رفع يزن حاجبيه بدهشة طفيفة وكاد أن يرد بمزحة أخرى، لكن خطوات ثقيلة قطعت اللحظة فجأة، حيث صعد سليم الدرج ووقف أمامهما بثياب منزله البسيطة وقد بدا القلق واضحًا في ملامحه المتوترة.
فقد كان لحق بيزن منذ مغادرته المنزل، قاد سيارته خلفه في صمت وأوقفها أسفل بيت سيرا دون أن يشعره بوجوده، ظل يراقب من بعيد لدقائق إلا أن طول غيابه أثار ريبة قلبه، فقرر أن يصعد ليتأكد بنفسه مما يحدث.
رفع حاجبيه قليلًا وهو يقول بنبرة جادة يختلط بها العتاب والصرامة:
-معلش هقطع فقرة الأكل اللي انتوا فاتحينها على السلم، بس أظن إن والدك لو شافكوا قاعدين بالمنظر ده رد فعله مش هيكون لطيف أبدًا.
تجمدت سيرا في مكانها وجف حلقها من شدة الحرج، ووقفت بسرعة وهي تلوح بيديها محاولة الدفاع عن نفسها بحماقة ناعمة أقرب للطفولة:
-والله أنا ماليش دعوة هو اللي جه لغاية عندي، مش أنت السبب يا يزن؟
ظل يزن جالسًا مكانه مسندًا ذراعيه إلى ركبتيه، ينظر إلى أخيه ببرود مقصود، لكن عندما لمح كيف تحاول أن تتنصل منه وكأنه ارتكب جرمًا، قرر أن يرد بسخرية لاذعة ونبرة عتاب مغلفة باللعب:
-بعتيني فجأة؟ أصيل يا أبو رحاب!
ضاقت عيناها غيظًا من طريقته فأمسكت بطرف إسدالها ودفعته قليلًا في حدة طفيفة:
-قوم روح ومتجيش بيتنا تاني لو سمحت.
نهض يزن من على الدرج متثاقلًا، بينما كانت هي تبتسم بخجل لسليم الذي بدا جادًا للغاية، وقالت بصوت خافت تتوسل إلى الموقف أن يمر دون تعقيد:
-عن إذنك يا أبيه سليم.
لكنها لم تكد تكمل جملتها حتى انتفض سليم فجأة مستنكرًا وهو يعقد حاجبيه بقوة:
-مين قالك تقوليلي أبيه؟!
تجمدت الكلمات على طرف لسانها وارتبكت بشدة، بدأت ملامحها تتلون بخجل واضح، فهي لم تقصد سوى الاحترام لا أكثر، كما تعودت مع أزواج أخواتها وزوج أختها حكمت.
إلا أن يزن الذي اشتعل داخله شعور بالغيرة والحماية في آن واحد، لم يسمح للموقف أن يثقل على قلبها أكثر، فوقف أمامها بطوله الفارع كجدار حامٍ ونظر إلى سليم بثبات حاد:
-أنا يا سليم، أنا اللي قولتلها تقولك أبيه، عشان هي أصغر بكتير عنك ولازم تحترمك.
ساد صمت قصير فهم خلاله سليم حقيقة نبرتها، وتبددت ظنونه السابقة بأنها تسخر منه، أومأ برأسه في موافقة صامتة نحوها، ثم أشار ليزن بيده إشارة مقتضبة وهو يقول بجفاء معتاد:
-يلا يا بيه ورايا.
وقف يزن للحظة يتابع مغادرة أخيه ثم استدار سريعًا نحو سيرا، يبتسم لها بغمزة لطيفة كأنه يريد أن يطمئن قلبها المرتبك:
-متخافيش من سليم أخويا هو مابيعضش بيخوف بس، وبعدين ما تتعوديش تتوتري وتخافي من حد وأنا موجود، اعملي اللي انتي عايزاه وأنا في ضهرك.
لم تتمالك نفسها من الابتسام ابتسامة صغيرة لكنها دافئة، وهتفت بنبرة نعومة أخجلتها قبل أن تخجله:
-شكرًا يا يزوني.
غادرت سريعًا وهي ترفع طرف إسدالها بخفة لتصعد إلى شقة والدها، وتركت قلبه معلقًا خلفها، فوقف يزن في منتصف الدرج مبتسمًا ببلاهة جميلة، وكأن كلمة "يزوني" حملت له اعترافًا ضمنيًا بالخصوصية…وكأنها دون أن تدري وضعت اسمه في صندوقها الخاص وحده.
أما هو! فكان يشعر للمرة الأولى بأن شعور الانتماء قد وجد له مكانًا في قلبه…وكأنها ببساطة شديدة أصبحت وطنه الصغير الذي لا يريد مغادرته.
****
خرج يزن من بناية سيرا بخطوات ثابتة تحمل من الجرأة أكثر مما يجب دون أن يلتفت خلفه، وكأنه يتحدى كل شيء في تلك اللحظة، لم يتوجه إلى سيارة سليم كما توقع الأخير، بل اتجه مباشرة نحو سيارته الخاصة، وأدار محركها ثم انطلق مبتعدًا في هدوء متعمد يفضح تمرده.
تجمد سليم مكانه للحظة وملامحه تتلبسها غمامة من الغيظ، قبل أن يضيق عينيه وهو يتمتم بين أسنانه بنبرة مكتومة تكاد تشتعل نارًا:
-يا كلب، ماشي أنا هوريك.
لم ينتظر أكثر من ذلك انطلق بسيارته خلف يزن بسرعة جنونية والهواء البارد يصفع وجهه، بينما يزداد صوته الداخلي حدة كلما ازدادت سرعة العجلات،فقد كان قلبه يشتعل غضبًا، ليس فقط لجرأة يزن في الذهاب إلى بيت سيرا بتلك الطريقة، بل لكونه يتصرف خارج كل حدود الأصول والقيود التي تربوا عليها.
مرت دقائق قليلة فقط لكنها بدت طويلة ومتوترة، إذ كان يزن يقود سيارته بسرعة متهورة، يحاول أن يسبق سليم ويتركه خلفه، غير أن سليم بخبرته وتمكنه تمكن من تجاوزه فجأة قبل الوصول إلى المنزل بلحظات، ثم أوقف سيارته بحدة أمامه، مما اضطر يزن أن يضغط على المكابح بعنف ليتفادى الاصطدام.
اهتز جسده قليلًا مع توقف السيارة المفاجئ، وارتسمت على وجهه علامات صدمة، لكن تلك الصدمة لم تدم طويلًا، إذ رأى سليم يخرج من سيارته بسرعة أشبه بانقضاض ضابط شرطة على مجرم فار من العدالة، واقترب منه بخطوات عاصفة حتى بدا ظله يُخيم فوق سيارته، ثم انحنى نحو النافذة وهو يرمقه بنظرة صقر حانق:
-انزل يا بيه، انزل عشان هي هبت منك على الآخر.
تنهد يزن في داخله وهو يدرك تمامًا أن لحظة الحساب قد حانت، فتح باب السيارة بهدوء متعمد ثم ترجل منها ووقف أمام سليم، فبدا كمَن يستعد لتلقي عاصفة من التوبيخ دون مقاومة، لكنه لم يستطع أن يُخفي شرارة التحدي الصغيرة في عينيه.
انفجر صوت سليم حادًا وجافًا، وهو يشير نحوه بعصبية ظاهرة:
-انت مش ملاحظ إنك مابقتش تحترم حد أبدًا، وماشي براسك من غير ما تعمل حسابك لحد؟!
رمش يزن بعينيه ببطء قبل أن يجيب بدهشة مصطنعة ونبرة تفيض لا مبالاة:
-أنا؟!
-اه أنت، أنت من كتر بجاحتك رايح بيت خطيبتك الفجر يا مجرم من غير ما تعمل حساب للأصول ولا لأهلها.
رفع يزن يديه في حركة خفيفة وكأنه يحاول تبرئة نفسه ثم قال بنبرة دفاعية لكنها لم تخلُ من لمحة خفية من المراوغة:
-لا أنا أستأذنت أبلة حكمت اختها ووافقت، وبعدين أنا أكيد مش رايح أقعد معاها قعدة لطيفة، ده كان سوء تفاهم وحليناه مع بعض!
نظر سليم في عينيه مباشرة يبحث عن أي أثر للحقيقة، لكنه اصطدم بالغموض المعتاد في نظرات يزن، كان يعرف أن شقيقه الأصغر لا يفصح بسهولة، وأن ما يراه على وجهه ليس بالضرورة ما يدور بداخله، فأطلق تنهيدة عميقة وهو يرفع يده في وجهه، ثم قال بصرامة واضحة ونبرته تحمل نبرة الأب لا الأخ:
-أيًا كان سوء التفاهم ما بينكم مايوصلش إنك تتصرف بتهور، أنت كده مابتهزش صورتك بس، لا كمان صورة عيلتك، في حاجة اسمها أصول يا بيه ولازم تاخد بالك منها اوي، ولو ماتعرفش اسألنا أنا وأخوك موجودين.
أومأ يزن برأسه إيماءة بسيطة، محاولة منه لتجنب الجدال أكثر، لكن لسانه كعادته أبى أن يظل صامتًا، فأطلق ضحكة قصيرة وسخر بخفة متعمدة ليغيظ سليم أكثر:
-طيب أسألك انت مبلوعة، أسال زيدان ازاي؟ ده مايعرفش إن في حاجة في الكون اسمها أصول أصلاً!
وقبل أن يرد سليم جاءه صوت زيدان من الخلف، يقطر غيظًا وحنقًا:
-والله إنك عيل بارد وسافل وعايز تتربى.
التفت يزن إليه ببطء عيناه تلمعان بالانتصار الطفولي، وهو يشير نحوه بنبرة ساخرة مستفزة:
-شوفت قولتلك ميعرفش حاجة عن الأصول واقف بيتصنت علينا.
زمجر زيدان وهو يتقدم خطوة للأمام، يلوح بيده بعصبية:
-أنا يا حيوان واقف بتصنت عليكوا؟! أنا نازل اتطمن عليكم تفرق يااللي معندكش مفهومية.
رفع سليم يديه بينهما في يأس وهو يزفر غاضبًا:
-بس خلاص اسكتوا، احنا واقفين في الشارع وانتوا خناق خناق إيه عيال صغيرة؟
رفع يزن حاجبيه بخفة قبل أن يجيب بسخرية لاذعة وهو يستدير مبتعدًا:
-أسف يا أبيه، تصبح على خير.
ولم ينتظر ردًا بل انطلق إلى الداخل سريعًا قبل أن ينال نصيبًا آخر من توبيخ سليم، بينما ظل زيدان يرمقه بنظرات غيظ حتى اختفى عن الأنظار، ثم هز رأسه وهو يتمتم بضيق:
-عيل بارد مقاليش تصبح على خير زيك ليه يا سليم؟!
استدار سليم نحوه ببطء يحدق فيه بدهشة مستنكرة قبل أن يهتف بنبرة غليظة كالسوط:
-زيدان! أنت ده كل اللي شاغل بالك؟!
حمحم زيدان بصوت خشن، ثم رد بلامبالاة مصطنعة رغم أن الفضول كان يأكله من الداخل:
-عادي يعني واشغل بالي بحاجة أنتوا مش عايزين تقولوهالي.
أطلق سليم زفرة حادة ثم رفع عينيه للسماء وهو يتمتم بنفاد صبر:
-يا صبر أيوب.
ثم اقترب من زيدان خطوة واحدة، وملامحه يكسوها القلق أكثر من الغضب، وهتف بجدية خافتة لكنها نافذة:
-يزن دماغه هربانه منه، وتصرفاته مجنونة ولو اتعلق بخطيبته ممكن يتصرف بطريقة ماتصحش، أنا جايبه من بيتها، المجرم نزل وراحلها بيتها الفجر عشان مجرد سوء تفاهم!
اتسعت عينا زيدان بدهشة وهو يقول بصوت مرتفع:
-نعم؟! الواد ده جاحد ازاي يعمل كده؟
لكن سليم لم يهتم بتعجبه بل أكمل بنبرة عازمة وحاسمة:
-المهم مش إنه ازاي يعمل كده؟ المهم إننا ازاي نتحكم في تصرفاته ونخليه يروح لنهاية اللي احنا عايزنها.
عقد زيدان حاجبيه في حيرة واضحة وهو يقول بنبرة متثاقلة:
-لا وضح كلامك عشان أنا كل طاقتي وتفكيري خلصتهم في قضية النهاردة.
أخذ سليم نفسًا عميقًا ثم قال بهدوء مخطط بارع:
-يعني تبعت لي أي أرقام مهندسين ديكور عندك عشان من بكرة يشتغلوا في شقة يزن ونخلص من الموضوع ده، هنجوزه من غير ما يحس.
تسمرت ملامح زيدان لوهلة قبل أن تتسع شفتاه بابتسامة مكر وهو يومئ برأسه بإعجاب:
-اه يعني هتصدمه بجوازة سريعة، هيركب الإكسربيس بسرعة البرق.
-دي الحاجة الوحيدة اللي هتنفع معاه عشان نعرف نلمه، هو من دلوقتي مسحول ورا خطيبته ومش عارف يبص وراه، يبقى يتجوزها عشان تعميه نهائي ومايشوفش حد إلا هي.
ضحك زيدان بخفة وهو يرفع حاجبيه إعجابًا بدهاء سليم:
-ارفعلك القبعة يا سليم باشا، بس معلش عندي سؤال هو أنت مراقب يزن؟!
رمقه سليم بنظرة متعالية ثم ابتسم ببرود وهو يجيبه بثقة نادرة:
-اخباركم انتوا الاتنين بتجيلي لغاية عندي وأنا حاطط رجل على رجل في مكتبي.
ثم ألقى بكلماته وغادر بخطوات ثابتة، متبخترًا كطاووس يتباهى بنفسه، تاركًا وراءه صدى حضوره القوي، أما زيدان فظل واقفًا مكانه يهمس لنفسه بصدمة عميقة:
-ده حتى أنا؟ بيراقبني أنا كمان؟! بيراقب ظابط شرطة!
***
دخل سليم إلى شقته بخطوات مثقلة يزفر بضيق شديد مما حدث في الأسفل، فكان وجهه مشدود الملامح، وجبينه يقطر بعرق الغضب والكبت، وكأن الأحداث التي مر بها للتو تركت داخله ضجيجًا لا يهدأ.
لكن ما إن رفع رأسه حتى اصطدمت عيناه بمشهد شمس، واقفةً بجانب إحدى أعمدة الصالة تستند بنصف جسدها عليه، فقد كانت ترتدي مأزرها الصيفي القصير وتغلقه حول جسدها الممشوق بحركة آلية، بينما خصلات شعرها المتحررة تثور بعشوائية حول وجهها، متطايرةً كما يثور الغضب داخل عينيها.
تنهد سليم ببطء وهز رأسه بيأس وهو يدرك تمامًا سبب ثورتها، بل كان يتفهم غضبها قبل أن تنطق بكلمة واحدة، فأخرج هاتفه من جيبه ونظر إلى شاشته، فوجد عشرين اتصالًا فائتًا منها وعدة رسائل متتابعة تشي بمدى قلقها العارم، رفع عينيه إليها سريعًا وبدأ يبرر بصوت هادئ يخفي وراءه الإرهاق والاعتذار:
-مسمعتش صدقيني، أنا لو كنت عارف إنك بتتصلي مش هرد عليكي ليه يا شمس؟
لكنها لم تجب، بل ظلت واقفة في مكانها صامتة، تحدق في وجهه بعينيها المتسعتين المليئتين بالعتاب والقلق، وكأنها تبحث داخله عن تفسير لم يتفوه به بعد، فاقترب منها خطوة بخطوة حتى صار أمامها مباشرة، ثم جذبها إليه برفق وضمها إلى صدره، كمَن يستمد منها طوق نجاة وهو يهمس بنبرة خافتة غلفها الإرهاق:
-بلاش بصاتك دي، أنا مش ناقص يزن وزيدان خلصوا كل طاقتي تحت.
ابتعدت شمس قليلًا عنه رفعت يدها ببطء وأخذت تمرر إصبعها الرقيق فوق خط وجهه الحاد في لمسة تجمع بين الحب والعتاب، ثم همست بنبرة يغمرها العتاب أكثر من الغضب:
-اممم أنا ملاحظة إن طاقتك بتخلص عندي دايمًا.
-عشان راحتي موجودة بوجودك جنبي.
كلماته وقعت على قلبها كالماء البارد فوق نار القلق المشتعلة داخله، لكنها أخفت ارتباكها بابتسامة دافئة، ثم تعلقت برقبته بدلال طفولي وهي تهمس بخفوت:
-كنت ناوية اتقمص وازعل وانام في أوضة أنس واسيبك لوحدك، بس قلبي مهانش عليه يسيبك لوحدك أبدًا يا سولي.
اتسعت ابتسامته الحقيقية هذه المرة، يدرك تمامًا أنه نجح بدهائه المعتاد في النجاة من شجارٍ وشيك كان سيلتهم ما تبقى من طاقته، فاقترب أكثر وقبل وجنتيها برفقٍ مفعم بالحنان، ثم همس باعتراف لأول مرة يبوح به كمَن يلقي سرًا ثقيلًا لم يتجرأ على قوله من قبل:
-أنا مفيش حاجة بتهون عليا غير سولي اللي بتقوليهالي دي.
وبلا وعي دفن وجهه في عنقها بين خصلات شعرها الثائرة، كل ثقله ينساب خارج جسده، وألقى بهمومه وقلقه المستمر على عائلته فوق أعتاب صدرها، كأنه وجد الميناء الآمن بعد عاصفةٍ عاتية.
هنا يكمن ملاذه…هنا فقط يرسو قلبه، بعيدًا عن صخب العالم وضغوطاته، في أحضانها يجد حنانًا يكفي ليكمل معاركه ويواجه الغد مهما كان قاسيًا.
****
في اليوم التالي...
توقفت سيارة يزن أمام محل يسر، حيث كانت سيرا تجلس إلى جواره تحدق في واجهة المحل بعينين مترددتين، بينما تراقب حماس يسر الواضح وهي ترتب البضائع بعناية فائقة، وابنتها الصغيرة كانت تدور حولها وتلهو في براءة، كأن المحل كان عالمًا صغيرًا يخصهما وحدهما.
نظرت سيرا إلى يزن بعينين متعاطفتين وملامح يغلب عليها العتاب ثم همست بنبرة رجاء متوسلة:
-حرام اكسر بخاطرها يا يزن.
أغمض يزن عينيه للحظة وهو يفرك وجهه بكفيه بعصبية، قبل أن يفتحها ثانيةً ويقول بلهجة ساخرة تُخفي تحتها غضبه الداخلي:
-لا اكسري بخاطري أنا! انزلي يا سرسورة يلا اعملي اللي اتفقنا عليه.
رمقته سيرا بنظرة استعطاف أخيرة تتوسل منه أن يلين قلبه، لكنه تجاهلها عامدًا وأدار وجهه إلى الجهة الأخرى كي لا يضعف أمامها، فزفرت بغيظ وهي تفتح باب السيارة، ثم نزلت بخطوات متثاقلة نحو المحل متمسكة بابتسامة متكلفة وهي تدخل:
-إيه الجمال ده، ما شاء الله المحل منور.
التفتت يسر إليها بسرعة وملامحها تفيض بالحماس والود، فتقدمت نحوها واحتضنتها بود صادق كأنهما صديقتان منذ زمن بعيد:
-اتأخرتي ليه؟ انت وعدتيني تيجي بدري، تتصوري من الصبح مفحوتة مع زباين كتير اوي.
جلست سيرا بتوتر وشعور ثقيل بذنبٍ ينهش صدرها، فهي لم ترغب أبدًا في كسر خاطرها أو إطفاء حماسها، أخذت نفسًا قصيرًا وقالت وهي تتحاشى النظر في عينيها:
-أنا أسفة بس مش هقدر اشتغل معاكي، يعني...بابا رفض وقالي ملهاش لزمة عشان ...
لكن يسر جلست أمامها وهي تبتسم بسخرية رقيقة، وكأنها ترى ما وراء محاولاتها الفاشلة، تعرف الحقيقة دون أن تسمعها، مالت برأسها قليلًا وقالت بنبرة هادئة ممزوجة بالخذلان:
-متكذبيش، يزن السبب كنت عارفة أنه هيرفض.
رفعت سيرا رأسها بسرعة وعيونها متسعة بدهشة حقيقية:
-عرفتي ازاي؟
تنهدت يسر ببطء وابتسامة حزينة تتسلل على شفتيها وهي تهمس بنبرة كسيرة:
-يزن أنا اعرفه من زمان واعرفه من كلام نوح الكتير عنه، هو تلاقيه خاف عليكي أنا أزعلك أو نوح يتعرضلك من غير قصد...
ثم صمتت لحظة وخفضت صوتها أكثر وهي تضيف بهدوء:
-من خلال كلام نوح وأهله عنهم...عيلة الشعراوي عندهم كبرياء وغرور عمرك ما تشوفه على حد، ما بالك بقى لو واحدة تخصهم بيعاملوها كأنها نجمة، فعادي متوقعة خوف يزن عليكي.
خفضت سيرا رأسها في خجل، تبحث عن مبرر يُرضي حيرة يسر وغيظها المكتوم، ثم قالت وهي تعبث بأطراف أصابعها:
-هو بس خايف أنه ممكن يخسر نوح بسببي، أنا ماعرفش في إيه؟ بس يزن مُصر على ده...
نظرت إليها يسر مباشرة وملامحها تُظهر رغبة حقيقية في التمسك بها:
-لو روحت كلمته ووافق توافقي تبقي معايا؟!
ترددت سيرا بشدة قلبها ينبض بخوفٍ من رد فعل يزن، لكنها لم تجب بنفي وهذا هو الأهم، فابتسمت يسر ابتسامة سريعة وغادرت المحل بخطوات حاسمة، تتجه مباشرة نحو يزن الذي كان يقف أمام سيارته في وضع المتحفز، يراقب بخفة توتر حركات الداخل والخارج.
توقفت أمامه وقالت بصوت حاد يملأه العتاب:
-أنا قولت أنك اخويا ودايمًا بتقف في ضهري، المفرروض ماتقفش ضدي.
زم يزن شفتيه وقد أدرك أن محور الحديث سيذهب إلى منطقة لا يريد الدخول إليها:
-وأنا لسه عند كلامي، وبعدين أنا عملت إيه يقف ضدك؟
ارتجفت أهداب يسر وهي تحاول السيطرة على دموعها ثم تساءلت برجاء صادق:
-ليه مش عايز سيرا تشتغل معايا؟ يزن أنا حقيقي محتاجها تقف معايا، دي خطوة جديدة عليا وهي بنت جدعة وطيبة خليها معايا ومتخافش عليها.
ألقى يزن نظرة نحو سيرا التي كانت تتنقل داخل المحل براحة تامة، تمرر أصابعها فوق الأرفف وتتأمل البضائع بفضول طفولي فزفر بحذر وقال بصوت يغلبه القلق:
-أنا مش عايز أزعلك ولا أكسر بخاطرك، بس أنا أصلاً كنت رافض شغلها في أي مكان مش انتي بس، وبعدين سيرا طيبة وجدعة بس مغناطيس للمشاكل والحوادث، فيعني خليها بعيد أحسن، ممكن يحصلك حاجة ونوح مايسيطرش على نفسه، ووقتها أنا وهو ممكن يحصل مشاكل ما بينا.
ابتسمت يسر بتهكم يخالطه انكسار:
-متخافش أنا ونوح مش بالقرب اللي انت متخيله، أنا أغلب الوقت بقضيه لوحدي أنا ولينا في المحل وبعدها بروح بيت بابا، يعني نوح مابشوفهوش ومش هيتعرض لسيرا، هو ذكي كفاية إنه يحافظ على صحوبيتك.
زفر يزن مجددًا وصوته هذه المرة كان أعمق وأكثر وضوحًا:
-يسر انتي مافهمتيش قصدي، هوضحه اكتر بصي أنا خايف سيرا تعرض عليكي حاجة أو تديكي فكرة في حياتك لما تقربوا من بعض تسبب مشاكل بينك وبين نوح أنا مش هكون حابب كده، خليها بعيد، لإن نوح بيحاول بكل الطرق إنه يرجعك.
اتسعت عيناها بدهشة، غير مصدقة أنه يُفكر إلى هذا الحد:
-انت دماغك بتروح لبعيد جدًا.
ابتسم بخفة وهو ينظر نحو سيرا من خلف الزجاج ثم قال بصوت منخفض:
-معاها لازم احط كل الاحتمالات.
تأملته يسر بإعجاب وكأنها ترى في عينيه تعلقًا غير مسبوق:
-لدرجادي متعلق بيها؟ غريبة مع إنك اللي يعرفك
يعرف كويس إنك مبتتعلقش ببنت اكتر من يومين؟!
ابتسم بفتور وهو يردبحدة ممزوجة بالمرح:
-اهو ده بقى عيب انك تبقى حاكي لصاحبك حاجة عنك، لو روحتي حكيتي ليها حاجة زي دي هتطلع جنانها عليا وتشوفني بخونها مع ١٦ واحدة.
رفعت حاجبيها بدهشة وقالت بصدق:
-هي تعرف عنك كل حاجة؟! أنا والله مالحقتش اقولها حاجة.
رد باستنكار:
-وتبذلي مجهود ليه؟ هي عارفة كل حاجة بقولك بتحلم بيا بخونها.
-طيب يزن عشان خاطري خليها تبقي معايا يس في أول أيام الافتتاح وبعدها لو مش عجبك الوضع متخلهاش تكمل، وبالنسبة لنوح أنا استحالة اخليه يتعرض لها، متخافش خالص.
ظل يزن صامتًا لثوانٍ طويلة، يُحارب داخله بين خوفه على سيرا وبين رغبته في ألا يكسر خاطر يسر، فهو في الحقيقة كان يخطط لشيء آخر… كان يريد سيرا قريبة منه تحت نظره دومًا، لا بعيدة عنه، ولكن نبرة يسر المتوسلة اخترقت صموده:
-يزن هتكسر بخاطري؟
زفر بعمق وصوته جاء مثقلًا بالاستسلام:
-لا مقدرش..ماشي خليها معاكي و....
لكن فجأةً دوى صوت ارتطام عنيف! اندفع منير ابن خالة يسر من مدخل البرج بقوة فاصطدم بالزجاج الذي كانت سيرا تقف خلفه، فتفتت الزجاج إلى شظايا متناثرة في كل اتجاه، تجمد الزمن للحظة…ثم تسارعت الأحداث كالعاصفة.
اندفع الخوف في قلب يزن بقوة، وصرخ باسمها بكل ما أوتي من صوت وهو يركض نحوها بجنون:
-سيـــــــــــــــرا حاسبــــــي...
في حين كان نوح يقف في الجهة الأخرى كوحش هائج ممسكًا بمقعد حديدي، ينهال به على منير صارخًا بهستيريا:
-عايز تتجوز مين يا روح أمك..........
_______________
قراءة ممتعة ♥️
التفاعل يا حلووووين يشجعني اكتب اسرع ويا ريت تسيبوا رأيكم في الكومنتات
بحبكم في الله ♥️♥️
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا
تعليقات
إرسال تعليق