رواية غناء الروح الفصل الحادي والأربعون 41بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل الحادي والأربعون 41بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
الفصل الواحد والأربعون..
اندفع يزن بقوة داخل المحل يتخبط بين البضائع المتناثرة والأشياء المكسورة، يبحث عنها بعينين يملؤهما القلق حتى وجدها أخيرًا، فقد كانت سيرا ترقد على ظهرها محاطة بالفوضى والكثير من البضائع قد تساقط فوقها لتكون درعًا غير مقصود حماها من الزجاج المتهشم المنتشر في كل مكان.
اقترب منها بلهفة يكاد قلبه يخرج من صدره، فلم يعد يهمه شيء في تلك اللحظة سوى الاطمئنان عليها، فرأى عينيها المغلقتين عن خوف، ويدها المرتجفة المضغوطة بقوة على صدرها، فمد يده يمسك بذراعها يتحسس سلامتها بصوت حانق متقطع من شدة القلق:
-سيرا انتي كويسة، سيرا.
فتحت عينيها ببطء تحدق فيه بعينين واسعتين غمرهما الرعب الحقيقي، قبل أن تنتفض فجأة وتندفع نحوه بصراخ مكتوم، إذ وقع بصرها على ذلك الشاب الذي نهض مجددًا رغم الضربات، يتأرجح بخطوات متخبطة ثم يقتحم المحل بعنف، وخلفه مباشرةً كان نوح ينقض عليه كالعاصفة، ينهال فوقه بضربات عاتية لا يعرف فيها موضع يده من جسده، وكأنه فقد السيطرة على نفسه بالكامل، فكان كل ما تصل إليه يداه يدفعه بلا وعي ولا إدراك لما حوله.
وقف نوح يصرخ بنبرة خشنة متقطعة، ووجهه محتقن بالعروق البارزة، فبدا أشبه بمجرم هائج لا بطبيب محترم:
-قولتلي عايز تتجوز مين *******، عايزني اطلقها يا ******، ده أنا هطلع روحك.
تجمد المكان لثوانٍ قصيرة ومع ذلك وجد يزن نفسه مضطرًا أن يساعد سيرا على النهوض بسرعة، لكن الخروج من المحل كان مستحيلًا؛ إذ كان نوح يحتجز منير في المنتصف، يضغطه بين قبضتيه كفريسة عاجزة بينما ينهال فوقه بالضرب، وفي الزاوية الأخرى وقفت يسر تحتضن طفلتها الصغيرة، عيناها تتنقلان بين وجه سيرا المذعور والمحل الذي تحول إلى ركام منثور، وبين ابن خالتها الذي فقدت ملامحه تمامًا من شدة الضربات رغم محاولاته الدفاع عن نفسه.
أما سيرا فوجدت نفسها تنحشر أكثر في أحضان يزن، ترتجف بخوف حقيقي بينما تتابع بعينيها حربًا مصغرة تدور أمامها في منتصف المحل، فقد كانت الأشياء تتطاير من كل اتجاه، وصوت تحطم الزجاج يمتزج بصراخ منير وعلو الأنفاس اللاهثة من قبل نوح، ولولا يد يزن التي أسندها بحزم فوق رأسها لحمايتها، لكان رأسها هدفًا مثاليًا لتلك الشظايا المتطايرة!
حاول يزن أن ينهي هذه الفوضى بأي طريقة، فخرج صوته مشحونًا بالغضب والرهبة، متأرجحًا بين خوفه على سيرا التي ترتجف في حضنه، ونظرات لينا ابنة نوح التي اتسعت رعبًا، ودموع يسر التي انحدرت بحرقة على تعبها الضائع ومحلها الذي تحطم:
-نوح كفاية...نوح اللي بتعمله ده غلط.
توقف نوح للحظة وجهه يشتعل غضبًا وعيناه تقدحان شررًا، بينما كان يمسك منير من تلابيبه ويحركه بعنف يمينًا ويسارًا، ثم قال بصوت متقطع ممزوج بنحيب مكتوم وانفجار قهر:
-بقولك البجح عايزاني اطلق مراتي، عشان هو أحق بيها مني، الـ***** يا ابن الـ****، ده أنا مش هسيبك.
ثم عاد يضربه بجنون وكأنه يصب فوقه تراكمات أيام طويلة من الغضب والكبت، عندها همست سيرا وسط شهقاتها المختنقة بصوت مرتعش بالكاد يُسمع:
-يزن أنا خايفة....
ارتجف جسدها في أحضانه وهي تتذكر فجأةً مشهدًا قديمًا؛ لحظة اندفاع نجلا بالمقص نحو سليم...حيث الدماء...الصراخ والرعب، فغامت عيناها بالدموع وهي تخفي وجهها كليًا في صدره العريض تتمتم بصوت مخنوق:
-أنا خايفة.....اه الإزاز...
وما كادت تُنهي الكلمة حتى دوى صوت تهشم الزجاج الجانبي بصخب، لتنهمر البضائع فوقهم بقوة، اندفع يزن بحركة خاطفة يضمها إلى صدره أكثر ويجذبها بجسده بعيدًا نحو الاتجاه الآخر، يحتضنها بكل ما يملك من قوة وكأنه يحميها بروحه نفسها، تشبثت سيرا بخصره بعنف وهي تبكي بهلع، فلم تشهد في حياتها شيئًا كهذا.
وحين أبعدت وجهها قليلًا عن صدره، وقع بصرها على منير الذي كان بالكاد يلتقط أنفاسه، اتسعت عيناها صدمةً وصرخت بصوت مبحوح، تشير بيدها المرتجفة وهي تهذي برعب:
-يالهوووي بيموت يا يزن...بيموت.
استدار يزن بسرعة إلى حيث تشير، فرأى منير شبه فاقد للوعي بينما وقفت يسر كتمثال جامد، عيناها تشتعلان بالقهر ويقطر منهما انتقام مكتوم وحقد متأجج، حينها أمسك يزن سيرا برفق، دفعها أسفل مكتب يسر ليخفيها هناك، وربت فوق رأسها بحنو وهو يأمرها بصوت حاسم:
-اوعي تتحركي من هنا، فاهمة ولا لا.
هزت رأسها سريعًا بالإيجاب وجسدها كله يرتجف، فهي لم تكن لتتحرك حتى لو أرادت ليس وسط هذه الفوضى المجنونة، ومن زاويتها الضيقة رأت يزن يتقدم نحو نوح بخطوات واثقة قبضتاه مشدودتان ثم اندفع فجأة نحو نوح دفعه بقوة نحو الجدار، وسدد له لكمة قوية ارتج لها المكان وهو يصيح بنبرة عالية حازمة:
-ما تقعد ساكت بقى، عامل زي التور الهايج ومحدش عارف يلمك.
دفعه نوح بعيدًا بغضب مكتوم وهو يصرخ بحدة:
-اطلع برة يا يزن انت، أنا ليا حساب مع الكلب ده.
اقترب يزن منه أكثر، ملامحه متصلبة وصوته يحمل تحذيرًا جادًا:
-حساب إيه؟! هو بقى فيه نفس ولا ملامح حتى، كفاية يا نوح كده مراتك وبنتك خايفين ومرعوبين من اللي بيحصل.
توقف نوح لحظة وأنفاسه تتقطع بعنف، عيناه معلقتان بوجه يسر المبتل بالدموع، فالتقت نظراتهما واشتعلت حرب صامتة بينهما، لكنها لم تدم طويلًا؛ إذ اندفعت يسر فجأة نحو نوح تضربه بكلا يديها بجنون في صدره، وهي تصرخ بصوت باكٍ متقطع تختلط فيه الحسرة بالغضب وبالخذلان العميق:
-بوظت كل حاجة، كسرت كل حاجة، كل حاجة تعبت فيها راحت، حسبي الله ونعم الوكيل فيك.
ابتعد يزن خطوتين للخلف وهو يجذب الطفلة لينا نحوه برفق، احتضنها بحنان وهو يدفن وجهها في عنقه حتى لا ترى مشهد انهيار والديها، وبيده الأخرى مدها نحو سيرا لتنهض من أسفل المكتب وتلتصق به في صمت مذعور، تقبض على ذراعه بقوة بينما تتأمل بعينيها الخراب الذي حل بالمكان، لكن فجأةً دوى صوت نوح غاضبًا ينفجر في وجه يسر الباكية وصوته يزلزل أركان المحل:
-بتتحسبني عليا ومش واخدة بالك من الـ**** اللي جايلي بكل ***** يطلب مني اطلقك عشان هو أحق مني بيكي، شوفي بجاحة ابنة خالتك جاية منين يا هانم؟
وفي لحظة جنونية فقدت فيها يسر كل خيط من خيوط ضبط النفس، اندفع عقلها نحو حافة الانتقام فصرخت في وجه نوح بعنفٍ لم تعهده من قبل، لم تعبأ بنظرات الواقفين ولا بوقع كلماتها على مسامع الجميع، كان صوتها متهدجًا يقطر وجعًا وغضبًا:
-أنا....أنا اللي قولتله يعمل كده، عايز مني إيه تاني؟ دمرت حياتي وعايزاني زي التابلوه جنبك، اعتقني لوجه الله وخليني اشوف حياتي بعيد عن وشك.
كلماتها انفجرت في وجهه كالقنبلة وحطمت آخر ما تبقى من اتزانه، ثم فجأة انطلق نوح نحوها كوحش هائج، قبض على ذراعيها بقوةٍ جنونية جعلتها تصرخ من شدة الألم والخوف، فقد تلبسته شياطين الغيرة حتى بدا على وشك ارتكاب جريمة لم يكن يدرك عواقبها، فكان صوته أشبه بزمجرة غاضبة وعروق وجهه تكاد تتفجر:
-أنتي بتقولي إيـــــه؟ انتي عارفة بتقولي إيه؟! ده أنا اقتلك واشرب من دمك.
ارتج المكان تحت وقع صوته، ولكن تحرك يزن بخطوات متوترة مبتعدًا عن سيرا ولينا الصغيرة، التي سارعت سيرا لحملها بحذر والتصقت بالجدار محاولة حمايتها من المشهد المشتعل أمامها، حيث اقترب يزن بحذر ووقف بين نوح ويسر دون أن يلمسها حتى لا يزيد الموقف اشتعالًا، ثم قال بصوت منخفض لكنه حاد يخفي خلفه صراعًا داخليًا بين الغضب والخوف:
-يا جماعة اقسم بالله اللي بتعملوه ده قلة أدب، بنتكم هتموت من الرعب....
ثم التفت نحو يسر محذرًا بصوتٍ أكثر صرامة:
-وانتي يا يسر متزوديش الطين بلة، كفاية اللي هو فيه...
التفت بعدها نحو نوح يحدجه بنظرة قاسية تشي بالإنذار الأخير، وقال نبرة تقطر عتابًا وغضبًا:
-بنتك يا نوح احتمال ماتقدرش تبص في وشك تاني...
كانت الكلمات كطعنة في صدر نوح، ففجر صرخة مبحوحة مختلطة بين القهر والغيرة المشتعلة في داخله، فبدت نبرته مجروحة حتى العظم:
-انت شايف بتقول إيه؟ هي اللي بعتته!! والله ما هطقلك وهسيبك كده.
ازداد توتر الموقف وازدادت دموع يسر غزارة وهي تبكي بعنف، كأن كل ما في داخلها ينهار دفعة واحدة فأطبق يزن أسنانه محاولًا التماسك، لكنه لاحظ فجأة ارتجاف جسدها ويدها التي أمسكت بطنها البارز في حركة عفوية أقلقته، فهتف محذرًا بصوت قلق:
-نوح مراتك شكلها تعبت...اطلع لو سمحت كفاية كده.
تراجع نوح ببطء يتقهقر إلى الخلف وكأن وقع كلماته أثقله، فرأى يسر تنحني إلى الأرض، وجهها شاحب، دموعها تتساقط بلا توقف، ثم اندفعت سيرا نحوها بخطوات متعثرة، وأمسكت بذراعها بخوف وهي تسألها بصوتٍ يقطر توترًا:
-تروحي المستشفى؟ حاسة بإيه؟
لكن يسر لم تجب بل حدقت فيها بعينين دامعتين قبل أن تنطلق منها صرخة ألم حادة، كادت تمزق القلوب وهي تشد على بطنها بقوة وتهمس بصوتٍ متقطع:
-الحقيني...
وفجأة سقط جسدها المنهك مغشيًا عليه قبل أن تتمكن سيرا من تلقفها ارتطم جسدها بالأرض، وارتطم معه قلب نوح الذي هوى نحوها كالسهم، أمسكها بذراعين مرتجفتين وجذبها إلى صدره، يهزها بعنف لا إرادي وهو يصرخ بجنون:
-يسر...يسر فوقي...
لكنها لم تجب فالتفت بعينين زائغتين نحو يزن الذي كان يحاول العبث بهاتفه بأصابع مرتعشة، وصرخ به بصوت يشي خوفًا لأول مرة منذ بداية الفوضى:
-اتصل بالاسعاف يا يزن بسرعة.
مرت الثواني بطيئة كدهرٍ كامل حتى جاء صوت سيارات الإسعاف يقطع صخب المكان، وفي دقائق معدودة، توقفت سيارتان أمام المحل....
واحدة لنقل يسر الفاقدة للوعي، والأخرى لنقل منير الممدد بلا حراك إثر الضربات العنيفة التي انهالت عليه من نوح.
تجمهر المارة في صفين على جانبي الطريق، تتعالى همساتهم ووجوههم مشدوهة إلى ما يجري، بينما كان المسعفون يسابقون الزمن لإنقاذ الأرواح.
هرع نوح نحو سيارة الإسعاف التي ترقد بداخلها زوجته، يداه ترتجفان وعيناه دامعتان من الخوف والندم، وفي المقابل تحرك يزن مسرعًا ممسكًا بـسيرا المذهولة، وهي تضم لينا الصغيرة المرتجفة بين ذراعيها، ساقهما نحو سيارته بخطوات سريعة.
أغلق الأبواب بعجلة وانطلق خلف سيارة الإسعاف، بينما كان يمسك هاتفه بيد واحدة ويجري اتصالًا عاجلًا بـفاضل والد يسر يخبره بما حدث ويطلب سرعة حضوره إلى المستشفى، ثم أجرى اتصالًا آخر بـزيدان وسليم، طالبًا منهما الذهاب فورًا إلى المشفى ليكونا إلى جانب نوح، فقد يتطور الأمر حد السجن إذا ما أفاق منير وقرر تقديم بلاغ رسمي.
*****
في المستشفى كان الصمت ثقيلًا كالرصاص،
حيث جلس بينهم نوح منكفئًا على نفسه، يضم يديه المتورمتين إلى صدره والدماء اليابسة تلطخ مفاصل أصابعه المتشققة، ترك الطبيب يطالبه مرارًا بالعلاج لكنه رفض رفضًا قاطعًا أشبه بالعناد الطفولي وكأنه يعاقب نفسه، أو ينتظر عقابًا أكبر، فقد كان يشعر بثقل الذنب يطبق على صدره حتى كاد يخنقه؛ كيف أوصل زوجته إلى حد الانهيار العصبي؟ كيف انزلقت الأمور إلى هذا الدرك؟ كل شيء داخله كان يصرخ لكنه جلس هناك يحدق بالأرض في صمتٍ مميت، لا يعنيه شيء سوى أن يسمع خبرًا واحدًا وهو أن يسر بخير.
أما منير فكان الوضع أخطر بكثير، بعدما أخبرهم الطبيب أن حالته حرجة، جروحٌ عميقة وكدمات متفرقة وكسور في مناطق عدة.
وفي نهاية الردهة وقف يزن إلى جانب سليم وزيدان، وقد كان يروي لهما تفاصيل ما حدث من البداية حتى النهاية، كان صوته متوترًا متقطعًا بين الندم والغضب، وكأنه يريد أن يستنجد بعقله كي يصدق أن ما جرى منذ ساعات كان حقيقيًا، فطلب منهما أن يساعداه على تهدئة الأوضاع، خاصةً مع الحاج فاضل والد يسر الذي كان يجلس قريب منهم، يغلي غضبًا وكأنه بركان ينتظر الانفجار.
وعلى أحد المقاعد جلست سيرا منهكة حد الإرهاق، ملامحها شاحبة وعيناها متورمتان من البكاء، تحتضن الصغيرة لينا فوق ساقيها، فكانت تهدهدها برفق، تربت على ظهرها بحنو بالغ، وتهمس بكلمات مطمئنة رغم أن قلبها يرتجف خوفًا.
جذب انتباهها فجأة تحرك سليم بخطواتٍ بطيئة لكنها تحمل من القوة والكبرياء ما جعلها تتابعه بدهشة، فكان يسير كرجلٍ من زمن آخر؛ رأسه مرفوع وملامحه ثابتة أما عن نظراته تحمل وقارًا يجبر الجميع على احترامه، تقدم بخطوات محسوبة نحو الحاج فاضل، الذي كان يجلس على مقربة منها، فتسنى لها أن تستمع للحوار كاملًا.
قال سليم بصوت هادئ واثق:
-ان شاء الله مدام يسر تقوم بالسلامة يا حاج فاضل.
رفع فاضل رأسه إليه ببطء وفي عينيه خليط من الحزن والغضب، وأومأ برأسه إيماءة مقتضبة لكن صوته حين خرج كان محتقنًا بالحنق:
-ان شاء الله، وكل واحد ياخد جزاته.
انتقل بصره إلى حيث يجلس نوح في صمتٍ مميت، لكن سليم التقط فورًا نبرة الغضب المتصاعدة في صوته فسارع بامتصاص حدتها، مستغلًا هدوءه المعهود ورزانته التي يعرفها الجميع:
-لو قصدك على نوح فانت شايف هو خايف ازاي على مراته، فكفاية اللي هو عايشه يا حاج؟
ابتسم فاضل ابتسامة مريرة نصفها استنكار ونصفها قهر، ثم رفع رأسه إلى سليم وكأنه يعلم تمامًا سبب وجوده هنا، لقد أدرك أن خوف يزن على صديقه دفعه للجوء إلى أخيه الأكبر الذي يمتلك من الحكمة والرزانة والمكانة الاجتماعية ما يمكنه أن يطوي الأمر في طي النسيان دون أن يمس نوح ضررًا، لكنه رفض الاستسلام بسهولة وقال بحدة قاطعة:
-لا مايكفنيش، بنتي وهخليها تخلعه، ومنير وهخليه يسجنه عشان اللي عمله.
حينها التفت نوح إليه فجأة، ابتسامة تهكمية غريبة ترتسم على وجهه المتورم، وفي عينيه جنون وسواد لم يُرَ مثلهما من قبل، لكنه لم ينبس ببنت شفة واكتفى بتحويل رأسه نحو باب الغرفة يراقب بصمت ثقيل.
أما عن سليم الذي بدا وكأنه محامٍ في قاعة محكمة، أمسك بخيط الموقف قائلًا بنبرة متماسكة لا تخلو من الحزم:
-السجن مرة واحدة؟؟ يا حاج فاضل ماتخليش الغضب يعميك عن إنه جوز بنتك وأبو حفيدتك.
نظر إليه فاضل نظرة حادة وقال بصوتٍ يقطر استهجانًا:
-وهو ماعملش حساب لمراته وإن ده ابن خالتها ليه يا سليم؟
هز سليم كتفيه بلا مبالاة مصطنعة، ثم قال بنبرة شبه حادة تكشف عن عمق قناعته:
-حساب إيه؟ ده واحد قاعد في شغله لقى واحد دماغه رايحة منه داخل يقوله طلق مراتك وانا احق بيها منك، أنا لو مكانه مكنتش سيبته عايش أصلاً، وبعدين يا حاج فاضل ماتلومش على رد الفعل طالما الفعل نفسه كان غلط من البداية، ده انت تاجر كبير وفاهم يعني!
ارتفعت حدة أنفاس فاضل وقال بحنق لم يستطع كبته:
-رد فعل إيه يا سليم ده دغدغ المحل وماسبش فيه حتة سليمة، حتى منير الله اعلم هيقوم يمشي على رجليه تاني امتى؟
حاول سليم استغلال مكانته لديه بسرعة، فاقترب منه أكثر وقال بنبرة هادئة حاسمة:
-نوح هيتكفل يرجع محل بنتك زي مكان وأحسن كمان، وأنا هتكفل بعلاج منير، عشان الصراحة مش هقدر اقوله عالج الراجل اللي جالك وعايزك تطلق مراته.
زفر فاضل بقوة ووجهه يتقلب بين الغضب العارم والشفقة الخفية، كأن قلبه ممزق بين أن يكون أبًا جريحًا أو رجلًا حكيمًا، وفي النهاية رفع رأسه وأصدر حكمه بصوت حاسم:
-مالوش دعوة ببنتي محل بنتي أنا كفيل ارجعه احسن من الاول ومحدش يدفعلها جنية، بس خلاص مايقربش منها ويمشي من هنا مش عايز أشوف وشه، وبالنسبة لمنير انت مش ذنبك حاجة عشان تتكفل بعلاجه، اللي ضربه الضرب ده هو اللي هيتكفل بعلاجه، حتى يبقى ليا وش وأنا بقول لاهله أنه اعتذر وهيتكفل بعلاجه، وده حكمي ولو مش عاجبه يتفضل يقعد لغاية ما الشرطة تيجي.
تدخل زيدان بسرعة واقترب من نوح بخطوات سريعة وجذبه واقفًا رغمًا عنه، وهو يحذره بصوتٍ منخفض حاد:
-قوم يلا امشي، عشان لو عاندت والشرطة جت، مش هيكون في مصلحتك، انت مدغدغ الواد.
اقترب يزن هو الآخر يدفعه قليلًا نحو الممر الآخر وهو يقول بحدة:
-ماتبوظش اللي أنا عملته، امشي ولم الليلة، لسه أهل منير الزفت هيجوا وهتبقى كده كده مدعكة.
تقهقر نوح للخلف مجبرًا على الامتثال لإصرارهم، لكن صوته خرج ضعيفًا متحشرجًا، وكأنه طفل ضائع لا يدري أين يذهب فهمس بتساؤل شبه مكسور:
-ويسر؟
ربت يزن على كتفه بحنان مكبوت وقال بصوتٍ خافت:
-احنا كلنا معاها وبعدين انت عارف وجودك هنا غلط وهي تعبانة بالشكل ده.
تراجع نوح ببطء ووجهه شاحب، عيناه متعلقتان بباب الغرفة وكأن قلبه معلق خلفه هناك... حيث ترقد تواجه انهيارها العصبي.
استطاع يزن أخيرًا إخراج نوح من المستشفى، وكان يظن أنه سيغادر بهدوء لكن نوح رفض الابتعاد واكتفى بالجلوس على مقعد خشبي بالقرب من بوابة المستشفى.
جلس هناك صامتًا يضع مرفقيه على ركبتيه، ويدفن رأسه بين كفيه للحظة قبل أن يرفعه مجددًا يحدق في فراغٍ مثقل بالذنب والخذلان، حيث كانت عيناه معلقتان على باب الطوارئ في ترقبٍ مضنٍ كأنه ينتظر أي إشارة....أي خبر، أي بريق أمل قد يخفف ضغط ضميره، ليته تحكم في أعصابه وضربه في محيط عيادته فقط، ولكن الجبان كان يركض منه ويحاول الوصول ليسر.
وفي الداخل كان سليم وزيدان يخوضان معركةً من نوعٍ آخر؛ جلسا في مواجهة الحاج فاضل، يحاولان إغلاق الموضوع بهدوء وسط توتر يزداد لحظة بعد أخرى مع وصول عائلة منير التي اندلعت غضبها لما حل به.
فتولى سليم مهمة تهدئتهم، لا بل تهذيبهم بحنكته المعهودة ونبرته الحاسمة، فلم يتردد في مواجهة استنكارهم بنظرات ثابتة وكلمات صارمة، مذكرًا إياهم بجرأة ابنهم الذي اقتحم حياة غيره مطالبًا بما لا يحق له، فكان يدير الموقف كما لو كان قاضيًا ويزن كل كلمة بحذرٍ وحزمٍ في آنٍ واحد.
على مسافة قصيرة ابتعد يزن قليلًا عن الصخب المتعالي في الردهة واقترب من سيرا، التي كانت تجلس منهكة فوق أحد المقاعد، تحتضن الصغيرة لينا النائمة على صدرها، جلس أمامها كالقرفصاء ينظر إلى وجهها الشاحب ونظراتها الزائغة بين أصوات الرجال المرتفعة حولها.
لم يهتم يزن بالفوضى من حوله فقط مد يده ليمسك كفيها برفقٍ حانٍ، وصوته حين خرج كان همسًا مترددًا يقطر قلقًا وحنانًا:
-انتي كويسة يا حبيبتي؟ مالك؟
حولت نظراتها إليه ببطء، بعينين يملؤهما القلق والارتباك، وردت بصوت خافتٍ بالكاد يُسمع:
-هو الموضوع ده هيخلص امتى؟ انا حاسة أنه بيزيد.
أدرك يزن أن الخوف سيطر عليها تمامًا حتى أنه أبعدها عن إدراك كلماته أو ملاحظة دفء نبرته، فقد كانت هشة لدرجة يخشى معها أن تتكسر من مجرد ارتفاع صوتٍ بجانبها، فابتسم ابتسامة باهتة محاولًا بث الطمأنينة في قلبها وهو يجيبها بنبرة مطمئنة:
-ولا بيزيد ولا حاجة، يلا عشان اوصلك زمانك تعبتي.
تعلقت بعينيه لحظة كأنها تبحث في ملامحه عن أمانٍ غائب، ثم همست بترددٍ يشوبه قلق:
-ولينا؟ دي متعلقة بيا، ينفع أخدها معايا؟
رأسه نفيًا بلطف ومد يده ليأخذ الطفلة منها وهو يقول بنبرة هادئة محسوبة:
-أنا هخدها تلعب مع أنس ابن سليم، وهروحك يلا عشان والدك مايضايقش من تأخيرك.
لم تجادله اكتفت بتحريك رأسها باستسلام، ونهضت تتحرك بجانبه بحذر تتلفت حولها خوفًا من أي يدٍ متهورة قد تطالها وسط أصوات الجدال المتصاعدة في الردهة.
أما يزن فألقى نظرة سريعة نحو زيدان، أشار له بعينيه أنه سيغادر، فتفهم الأخير على الفور ورد بإيماءة واثقة وصوت منخفض:
-روح أنت، أحنا هنا ماتقلقش.
وفي الخارج كان نوح لا يزال جالسًا على مقعده الخشبي، رفع رأسه حين لمح صديقه يخرج ممسكًا بخطيبته، تابعه بعينين مثقلتين بالندم، ورأى كيف فتح يزن لها باب السيارة بهدوء، واضعًا يده على مقدمتها ليحميها من الاصطدام قبل أن يتحرك للخلف بخطوات محسوبة، يحمل الصغيرة لينا النائمة ويضعها بحرص في المقعد الخلفي.
وقبل أن يستعد للانطلاق لمح نوح نظرة صديقه تتجه إليه وإشارات حادة صامتة بلغة العيون تشي بعدم دخوله للمشفى، فقد كانت نظراته تحمل في طياتها تحذيرًا قاطعًا، جعل نوح يشيح بنظره بعيدًا ويبتلع غصته في صمتٍ ثقيل.
****
بعد مرور دقائق طويلة بدت أثقل من ساعات…
غرقت سيرا في غفوة قصيرة رغمًا عنها، كأن جسدها المرهق أعلن استسلامه، فلم تشعر بشيء حتى توقف يزن أمام منزله لإيصال لينا أولًا، ثم عاد بسيارته ينطلق في صمتٍ مهيب نحو منزل سيرا.
لم تنتبه حتى حين توقف أمام "السوبر ماركت"، ولم تره وهو يتبضع لأجلها كطفلة مدللة؛ اشترى كل ما قد يرسم على ملامحها ابتسامة صغيرة، حلوى....رقائق متنوعة، جبن رومي مفضل لديها، وحتى بعض المأكولات لأطفال اخواتها كي لا يشاركها أحد في أشيائها الخاصة.
وأخيرًا وصل أمام منزلها، فاعتدل في جلسته قليلًا، ثم مد يده يلمس كتفها برفق وهو يهمس بصوت حانٍ:
-سيرا اصحي.
تململت أمام نظراته الشغوفة بها، وتحركت أهدابها الثقيلة لتكشف عن عينيها المرهقتين، ثم ردت بهمهمة شبه نائمة:
-نعم يا يزن..
كان وقع اسمه على لسانها مختلفًا…ناعمًا وهامسًا، اخترق قلبه مباشرة دون استئذان، فشعر بهزة تسري في أوصاله وكاد يفقد اتزانه لولا أنه تدارك نفسه سريعًا، فحول وجهه بعيدًا عنها يستغفر ربه في صمت، فلم يستطع أن ينكر على نفسه أن لا أنثى من قبل استطاعت أن تثير داخله هذه المشاعر المتدفقة والأفكار الحمقاء المنحرفة.
اعتدلت بصعوبة في جلستها ونظرت حولها بدهشة متسائلة:
-وصلنا؟
مد يده إلى الخلف يسحب حقيبتين بلاستيكيتين كبيرتين ممتلئتين على آخرهما ثم وضعهما فوق ساقيها:
-دي ليكي ودي لعيال اخواتك.
نظرت داخل الحقائب بدهشة وعدم فهم:
-ليه كل ده يا يزن؟
ابتسم بخفة وهو يجيب بنبرة مشاكسة:
-دول حاجة بسيطة عشان دمك اللي اتصفى من الخوف النهاردة.
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها رغم ارتباكها، ثم هزت رأسها بخفة وهي تهمس بحيرة:
-دي كانت زي حرب شوارع وحقيقي أول مرة أشوفها، بس هو ممكن الانسان يوصل لمرحلة إن الشيطان يتحكم فيه بالشكل ده
أجابها بواقعية بينما عيناه تلمعان بظلٍ من الغضب المكبوت:
-معرفش بس دي مراته أكيد الدم غلي في عروقه لما سمع الواد ده بيقوله كده.
هزت رأسها بتفهم وإن لم تكن مقتنعة تمامًا، فداخلها كان يقول إن هناك دائمًا مساحة للتعقل مهما اشتدت الأمور…لكن رؤيتها لآخر شخص كانت تتمنى ألا تراه جعلتها ترتجف وهي تهمس باسمه بخوفٍ مكتوم:
-فايق...
التفت يزن بسرعة نحو الاتجاه الذي تنظر إليه، فرأى فايق واقفًا أمام باب منزله، يبتسم لهما ابتسامة باردة ويلوح بيده بتحية عابرة ثم يغادر بخطواتٍ بطيئة، اتسعت عينا يزن صدمةً واستنكارًا فقد كان يظنه لا يزال خلف القضبان، أما سيرا فقد شعرت برعبٍ يزحف داخلها، حتى أفاقت على صوت يزن وقد اكتسى بخشونة وصرامة غير مألوفة:
-ماتخرجيش لوحدك أبدًا، يا أما معايا أو مع حد من اخواتك ولا اقولك معايا أنا بس فاهمة ولا لا؟
رمشت سيرا بأهدابها في بطء محاولة استيعاب نبرته القاطعة وردت بنبرة مستنكرة:
-يعني إيه؟ افرض عايزة اروح لفاطمة اكلمك تيجي لي توصلني.
هز رأسه بقوة وعزيمة لا تقبل الجدل:
-اه كلامي واضح اوعي تخرجي لوحدك، لغاية ما شوف المدمن ده خرج ازاي؟
زمت شفتيها وهي تحاول تهدئة خوفه المفرط، تحركت كلماتها كنسمة لطيفة لكنها لم تخفِ ضيقها:
-يزن ماتخفش هو مش هيقدر يعملي حاجة، هو هيخاف منك.
لكن كلماتها لم تزد النار المشتعلة في داخله إلا وقودًا، فأجاب بنبرة حادة تنذر بانفجار وشيك:
-أنا مش هستنى لما يعمل أساسًا، أنا معنديش احتمالات يا سيرا، اللي اقوله يتنفذ حتى لو رايحة لفاطمة.
أشارت للخلف في محاولة لإقناعه بهدوء:
-فاطمة اللي في الشارع اللي ورايا يا يزن؟ ما ماخرجش من البيت أحسن.
تلبسه رداء العناد تمامًا فرد بقوةٍ أشد:
-اه ماتخرجيش أحسن، سيرا ماتخوفنيش عليكي وحياة أبوكي، أنا أساسًا أول لما شوفته قدامي عفاريت الدنيا بتنطط في وشي...انزلي يلا.
فتح باب السيارة ونزل فتساءلت بدهشة:
-رايح فين؟!
-اطلعك فوق، مش هسيبك تطلعي لوحدك.
توقفت لحظة تحدق به في صمت، تتساءل بين نفسها....أهذا حد الهوس؟ أم أنها تتخيله فقط؟ أم أن وجود فايق بالفعل يثير كل هذا الخوف بداخله عليها؟
كانت أنفاسه تتسارع مع خطواته الصاعدة بجانبها على الدرج، حتى طرق باب منزلها بينما عيناها تتابعانه بدهشة وشيء من الامتنان الخفي.
فُتح الباب من قبل فريال فطلب منها يزن مقابلة والدها على انفراد، لم تمض دقائق حتى خرج حسني بملامح متوجسة ونظر إلى ابنته الشاحبة، لكنه لم يكد ينطق حتى استبق يزن الحديث بصوتٍ جادٍ حاسم:
-سيرا ماتخرجش لوحدها تاني يا حاج حسني يا إما معايا أو مع اخواتها الولاد، فايق جاركم خرج من السجن...
تسمرت نظرات حسني للحظة قبل أن يردد بدهشة:
-هو كان مسجون؟
رد بثبات:
-ايوه، كان مسجون عشان كان بيعبت رسايل تهديد لسيرا واتسجن بس لسه شايفه تحت حالاً، زيدان اخويا قالي قبل كده لما عبود وقاسم عملوه معاه مشكله أنه مش هيسكت وهيعمل مشاكل وغالبًا هتكون لسيرا، فيا ريت طلبي تنفذه يا حاج وسيرا ماتخرجش لوحدها أبدًا..
نظر حسني إلى ابنته بذهول حيث كانت صدمته أكبر من قدرته على إخفائها:
-وانتي امتى كنتي هتقوليلي أن فايق كان بيبعتلك رسايل تهديد يا سيرا؟
قبل أن تجيب انطلق صوت حكمت من الخلف لتتولى الدفاع بدلًا عنها:
-قالتلي يا بابا، بس أنا اللي قولتلها ماتقولش ليك عشان انت تعبان وكتر خيره يزن لما عرف حل الموضوع، ماتقلقش يا يزن يا حبيبي مش هنخرجها لوحدها أبدًا رجلي على رجليها.
تنفس حسني ببطء يخفي غضبًا تحت طبقاتٍ من الهدوء المصطنع؛ أكثر ما يزعجه أن يتخطاه أحد في أمرٍ يخص بناته لكنه سيطر على نفسه وقال بهدوء متماسك:
-كتر خيرك يا ابني وان شاء الله الأمور تعدي على خير...سيرا تعالي ورايا عايزك.
توترت سيرا وهي تلحق به تلقي بكافة نظرات العتاب نحو يزن الذي تهرب من مواجهتها، حول بصره نحو حكمت وهمس لها بنبرة هامسة متوسلة:
-لو سمحتي يا ابلة محدش يجي جنب سيرا النهاردة هي تعبانة وخايفة أساسًا.
ظنت حكمت أنه يقصد خوفها من فايق فردت بحماس مطمئن:
-ماتخافش دي في عيني.
ابتسم يزن ابتسامة باهتة وهمس لنفسه بمرارةٍ مكتومة:
-أنا أساسًا مش خايف إلا منك.
****
مساءً
دخل زيدان شقته وهو يحمل جسدًا مثقلاً بالتعب، صرخاته الصامتة تطلب النوم طلبًا، ولكن ما إن وقع بصره على مليكة جالسة في الصالة أمام التلفاز، حتى تحرك إليها سريعًا يخلص نفسه من كل ما يثقل جسده من متعلقاته، حتى مسدسه وضعه بهدوء فوق طاولة مجاورة، بعيدًا عن مرمى نظرها.
فـ "مليكته" لم تحب يومًا رؤيته ولم تألف وجود سلاحٍ بقربها، بل كانت تخشاه وكأن رصاصة طائشة قد تصيبها منه، أما زيدان على الرغم من قسوته التي يعرفها الجميع فقد كان شديد التفهم أمام مخاوفها؛ فما دام الأمر يخص مليكته، فهو مستعد لأن يلين لأجله مهما كان بعيدًا عن اللين.
اقترب بخطوات ثابتة وقبل أن يجلس بجانبها، لمحت عيناه جسد طفلة صغيرة مستلقية في سلام فوق الأريكة، رأسها مستند فوق ساق مليكة، بينما الأخيرة شاردة الملامح وعيناها محمرتان تذرفان دموعًا صامتة تخفي داخلها من الحزن ما لا يُحتمل.
توقف زيدان في مكانه لحظة وارتسمت على وجهه علامات الاستنكار....ما الذي أتى بـ "لينا" ابنة نوح إلى شقته؟ ولماذا تبكي زوجته بهذا القهر الذي لم يعتده عليها من قبل؟!
تلاقت عيناه بعينيها المتثاقلتين حزنًا، وقد خيم عليهما بؤس لم يره في ملامحها قط، وحين رأى ذراعها ترتفع نحوه في صمت، أدرك على الفور حاجتها إلى حضنه؛ ذلك المأوى الذي تهرب إليه دائمًا، فجلس بجانبها بهدوء ثم جذبها إلى صدره وضمها بقوة، يربت على ظهرها بحنانٍ حريص، بينما الحيرة تكسو قسمات وجهه، كمَن يغرق في بحر لا يرى له قرارًا، لم يستطع أن يطيل صمته فتساءل بنبرة مفعمة بالاضطراب:
-مالك يا روحي؟ مين زعلك؟
اشتدت قبضتها فوق سترته ،جذبت جسده نحوها أكثر وهي تبكي بحرقة، وشهقاتها تتلاحق وأنفاسها تتقطع بين كل دمعة وأخرى، فابتعد عنها زيدان قليلًا بتوجس ينظر إليها بحدة، وقد خشُنت نبرته على غير ما يتطلبه الموقف من رفق، لكن ذلك هو زيدان دائمًا يُظهر عكس ما يضج به قلبه:
-في إيه؟ مين زعلك لدجاردي؟ انطقي؟
ولعلمها بطبيعته الحادة التي قد تشتعل في أي لحظة، أرادت تهدئة نيران القلق المشتعلة في عينيه، فهو على أتم الاستعداد لقلب هذا المنزل رأسًا على عقب إن علم أن أحدًا آذاها، فمدت كفها تتحسس وجهه بلطف وهمست:
-أنا كويسة ماتقلقش، أنا بس زعلانة على لينا.
رمق الطفلة بنظرة حائرة ثم عاد بنظره نحو مليكة باستفهام صامت، فتنفست هي بعمق ثم بدأت تسرد ما يثقل صدرها، حين أبصرت الصغيرة وعلمت حجم الاضطراب النفسي الذي تعيشه، خصوصًا بعدما جلبها يزن إليهم، وما إن دخلت حتى بدا الرعب عليها واضحًا؛ ارتجفت بشدة حتى إنها لم تستطع التحكم بنفسها وابتل سروالها بالكامل وهي واقفة خائفة كطائر صغير وقع في قفص المجهول.
قالت مليكة بصوت مبحوح وهي تحدق في الطفلة:
-بتفكرني بنفسي، هو اه قصتنا مختلفة بس شعور الوحدة والخوف هيفضل واحد وهيفضل أوحش شعور ممكن أي طفل يحسه.
تنحنح زيدان بابتسامة صغيرة يحاول بها طمأنتها:
-بس يا حبيبتي هي أبوها وأمها عايشين، بس في شوية مشاكل وهتتحل، الموضوع بسيط.
لكن كلمات الطمأنة لم تصل إلى قلبها فانفجرت تبكي مجددًا وهي تقول بألمٍ مكتوم:
-لا مش بسيط، هما موجودين اه، بس ولا كأنهم موجودين غارقنين في مشاكلهم وسايبين بنتهم كده تحس بالخوف لوحدها، تفرق أيه عني لما أبويا مات وأنا صغيرة وبعدها أمي ماتفرقش حاجة يا زيدان، وحدة وخوف ومفيش حد يطبطب عليك ويريح قلبك...
صمتت لحظة تستجمع أنفاسها المتقطعة قبل أن تهمس بشرودٍ حزين:
-بابا مصطفى مقصرش معايا، بس مفيش بعد أب وأم حقيقين يكونوا حواليك ومعاك في كل خطوة، واهو بابا مصطفى اتجوز وكل فين وفين بيسأل عليا، وأنا مبقاش ليا حد.
اتسعت عينا زيدان بدهشة ممتزجة بالاستنكار، أمسك وجهها بين كفيه بقوة وقال بنبرة مفعمة بالملكية والحب:
-وأنا فين؟! أنا المفروض اكون كل حياتك، وبعدين أنا عيلتي عيلتك واظن انهم كلهم بيحبوكي وبيقدروكي لشخصك مش علشاني على فكرة، فإياكي تنطقي تاني كلمة ماليش حد دي تاني، انتي كده بتلغي وجودي.
ابتسمت وسط دموعها ثم ارتمت في حضنه تربت فوق ظهره بحنو أمومي، تهدئ من ثورته التي يعرفها قلبها جيدًا وهمست بنبرة خافتة:
-ربنا يخليك ليا ويديمك في حياتي يا زيدان، أنا كل اللي اقصده إن مفيش بعد الاهل الحقيقين.
طبع قبلة دافئة فوق وجنتها تبعتها قبلة أكثر حنانًا على جبينها، قبل أن يهمس بصوتٍ رخيم وهو ينظر في عينيها مباشرةً:
-أنا اهلك ودنيتك كلها، زي ما أنتي دنيتي كلها، أنا عشت عمري كله على ذكرياتي معاكي، قلبي مقفول بضبة ومفتاح مستنيكي، عشت عمري كله ندمان على لحظة ضيعتك فيها، كنت بتعذب ليل نهار في بعدك، وجودك غيرلي حياتي ونورها يا مليكة قلبي، لو بتحبيني اوعي تقولي الكلام ده تاني.
أخفضت عينيها بخجلٍ طفولي وارتسمت على شفتيها ابتسامة دافئة، وهمست وهي تمسح دموعها:
-يعني لازم اعيط عشان اسمع الكلام الحلو ده؟
ضحك زيدان بخفة ثم قال بلهجة متحسرة:
-كنت مجهزلك ربع رومانسي يجنن، بس بنت نوح قطعت على اللي خلفوني.
نظرت إليه مليكة بعتابٍ لطيف وربتت فوق وجنته:
-بلاش بصاتك دي، هي مش مجرم عندك مخبي عنك معلومة مهمة، دي طفلة...اقولك اعتبرها أنا وأستحملها.
نظر إليها ثم التصق بها أكثر غارقًا في تفاصيلها، وترك الطفلة جانبًا ثم همس بحرارة صادقة:
-أنتي مفيش زيك ولا بعدك، اتدلعي زي ما انتي عايزة يا مليكتي.
تركت مليكة الطفلة واتجهت نحوه تحتضنه بحنان، ملقيةً بكافة همومها عليه تشعر وكأنها تنعم بين أحضان رجلٍ لن تفقه سطور العاشقين في سرد حالته المهيم بها؛ رجلٌ يتقد شررًا للجميع عداها، رجلٌ له من الوجوه عدة، لكنها عنده وحدها تنهار حصونه ويظهر وجهه العاشق.
*****
دخلت حكمت الغرفة سريعًا وهي تغلق الباب خلفها متسائلة بفضول:
-ها بابا قالك إيه؟ وليه طالعة مش طايقة نفسك كده؟
نظرت إليها سيرا بحنق ولم تجب عليها فاكتفت بفترة صمت عقابي، عندها ضيقت حكمت عينيها بغيظ وهي تردد:
-انتي مخصماني يا بت يا سيرا؟
هزت سيرا رأسها بقوة وأجابت بنفس غيظ أختها:
-اه عشان زعلانة منك على اللي عملتيه فيا قصاد يزن امبارح، أنا يا ابلة ترفعي عليا العصاية، من امتى وانتي بترفعي عليا عصاية وبتضربيني؟!
نظرت إليها حكمت ببلاهة وأجابت وهي تتذكر:
-من تلات شهور لما خيبتي في عقلك وروحتي اشتريتي بلوزة بـ ٨٠٠ جنية.
زفرت سيرا بقوة وهي تقف أمامها معترضة على طريقتها وتعمدت تصحيحها:
-كنتي بتهوشي بيها وبعدين ده كله مواضيع عادية، لكن يزن يبقى موجود وانتي تتعمدي تضربيني، كده انتي بتقوليله يمسكني يضربني لما نتجوز طالما أنا متعودة على الضرب.
شهقت حكمت باستنكار حقيقي وارتسم شر غريب فوق ملامحها وهي تقول:
-ده أنا اقطع ايده لو فكر يلمسك لا هو ولا عيلته يا بت، وبعدين أنا كنت بهوشك بردو عشان تفتكري كلامي لما قولتلك بلاها حوار الشغل ده، وانتي راكبة دماغك.
تنهدت سيرا باستسلام فهي لن تستطيع مجابهة حكمت وإصرارها الرهيب على براءتها، وكأن جميعهم مذنبون في حقها:
-خلاص يا أبلة حصل خير، بس لو سمحتي خدي بالك من تصرفاتك قدام يزن، أنا مش عايزاه يستهون بيا.
-يا اختي اتنيلي ده الواد يا حبة عيني كان مرعوب عليكي ومكنش هاين عليه يمشي ويسيبك.
آه…مهما فعلت وقالت فلن تستطيع زحزحة يزن من عرش تفكير أختها؛ بحالته المادية والاجتماعية وشخصيته الفتاكة بينما هي بجانبه…لا شيء.
-اقعدي احكيلي بابا قالك إيه؟!
-مقالش كان زعلان مني عشان خبيت عليه، بس الحمد لله اتراضي ووعدته مش هخبيه حاجة تاني عليه أبدًا.
هزت حكمت رأسها في إيجاب بينما توجهت سيرا نحو أحد الأدراج لتفتحه وتضع به خاتم خطوبتها، إلا أنها فجأة تسمرت في مكانها ثم صرخت صرخة أفزعت من في المنزل وقالت بفزع:
-شبكتي فين؟ الدهب اللي كان هنا راح فين؟
****
جلس يزن بجانب نوح أمام المستشفى التي ترقد فيها يسر، وقد غمره صمت ثقيل كالجدران لم يتحرك ساكنًا منذ أن وصلا، واكتفى بالتحديق في الفراغ بندمٍ يثقل صدره وحسرةٍ تعصف بروحه، كأن عقله يعيد شريط أخطائه مرارًا، فظل هكذا حتى منتصف الليل، حتى لم تعد ملامحه تقاوم الإرهاق، وبينما كان غارقًا في شروده همس بصوت مكسور لا يكاد يُسمع:
-لينا مع مين دلوقتي؟
التفت إليه يزن بوجه متماسك وأجاب بهدوءٍ يخفف شيئًا من قلقه:
-عندي في البيت مع أهلى ماتقلقش واخدين بالهم منها.
زفر نوح تنهيدة طويلة وعاد ببصره نحو بوابة المستشفى، كأنه يريد أن يخترق جدرانها بعينيه ليطمئن على من أحب، انفصل عن العالم من حوله حتى كاد ينسى وجود يزن بجانبه لكن الأخير لم يتحمل طول هذا الصمت، فهز رأسه وقال بنبرة معاتبة جامدة:
-ممكن تقولي إيه وصلك للحالة اللي كنت فيها دي؟
ابتلع نوح ريقه بصعوبة وكأنه يحاول اقتناص أنفاس نقية من الهواء من حوله لكنه فشل؛ حلقه ضاق كأنه يختنق من داخله، أغلق عينيه واندفع عقله إلى الوراء يجره إلى اللحظة التي بدأ عندها كل شيء…إلى مواجهةٍ مع منير التي لم يكن مستعدًا لها.
★★
اطمأن نوح على يسر سريعًا من بعيد، نظرةً خاطفة من خلف زجاج سيارته التي صفها أمام البرج الذي تقبع فيه عياداته، قبل أن يهبط منها عابس الملامح، أراد أن يُظهر لها عدم اكتراثه ليثير غيرتها أو يستفز صمتها الذي بات يطوقه في الفترة الأخيرة، ثم اندفع نحو عياداته يحاول الغرق في عمله ليهرب من أفكاره المشتتة، لكن في منتصف اليوم…طرقت حسناء باب مكتبه ثم قالت بخفوت:
-في حد عايزك برة وبيقول عايزك ضروري.
رفع نوح رأسه دون اهتمام ورد ببرود:
-مين ده؟ دخليه ونبهي عليه مياخدش وقت عشان الناس اللي قاعدة من زمان برة.
هزت رأسها بالإيجاب وغادرت وما هي إلا ثوانٍ قليلة حتى فُتح الباب، ودخل منير بخطوات واثقة وابتسامة استفزازية كفيلة بإشعال شياطين نوح في لحظة وكأن وجوده يحمل معه لعنة غضبه، حاول أن يتمالك أعصابه أمام برود هذا المتبجح، لكن منير بدأ حديثه بنبرة هادئة تحمل خُبثًا واضحًا:
-السكرتيرة قالتلي متأخرش، وأنا فعلاً مش هتأخر هما كلمتين هقالهم وهسيبك تفكر.
عاد نوح بظهره إلى الخلف ثم ترك قلمه بإهمال على المكتب، وقال بملل متعمد:
-طيب بسرعة عشان أنا مابستحملش خلقتك دقيقتين على بعض قدامي.
ارتسمت على شفتي منير ابتسامة ساخرة وقال بتهكم صريح:
-ولا أنا وحياتك، ولولا إن الموضوع يخص يسر مكنتش جيت وشوفتك.
تشنج فك نوح وقبض فوق ركبتيه بعنف، ثم زمجر بخشونة مكتومة:
-وانت مالك بمراتي يا منير؟ مهما كانت درجة قرابتك ليها ماتوصلش أنك تيجي تكلمني في حاجة تخصها أصلاً..
اقترب منير خطوة وعينيه تتلألأ بنظرةٍ متحدية، ثم قال بنبرة قاطعة:
-لا يسر تخصني...تخصني كلها على بعضها مهما حاولت تمنع ده.
غلت الدماء في عروق نوح وصاح بغضبٍ متفجر:
-نعم يا روح أمك...انت بتقول إيه؟ هتبقى مبسوط وأنا بقوم بكسر المكتب ده فوق راسك اللي شبه البطيخة دي؟!
لم يزد منير إلا وقاحة وهو ينطق كلمته المدوية:
-طلقها.
شُل عقل نوح للحظة وتسمر مكانه ثم قفز واقفًا بعنف، وصاح مستنكرًا:
-اطلق مين يالا، أنت ليه مُصر تطلع أسوء ما فيا، منير أوعى تكون فاكراني دكتور محترم، لا ده أنا عليا النعمة أمر من أي بلطجي شوفته في حياتك....أنا غير آدامي يالا، فــــــوق.
لكن منير لم يتراجع ظل واقفًا ببرودٍ قاتل وقال بابتسامة متعالية:
-خليك متحضر يا دكتور يا محترم، أنا طلبي بسيط خالص، طلق بنت خالتي عشان انت من الآخر ماتستحقش جوهرة زيها، أنا أولى بيها منك.
لحظتها لم يعد نوح نفسه، كأنه مارد شرير تلبسه؛ هجم على منير كعاصفة، تراجع الأخير مذعورًا لكن يد نوح طالته قبل أن ينجو، ولسانه أطلق سيلًا من الشتائم القاسية على مرأى ومسمع الجميع، ارتفع صوت التحطيم في المكتب، كل ما وقعت عليه يده تحول إلى شظايا متناثرة، فقد كان جنونًا حقيقيًا جعل الجميع يهرب من طريقه ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه.
★★
عاد نوح من غياهب ذاكرته على صوت يزن المستنكر:
-وانت مش عارف تضربه فوق عياداتك؟ ما كنت تكسره فوق براحتك!
زم نوح شفتيه بغيظ شديد وقال بعصبية متقطعة:
-ابن الـ **** كان بيتعمد يفلت مني وينزل على تحت عندها وأنا مكنتش شايف قدامي يا يزن، أنت عارف يعني إيه جاي يقولي طلقها وأنا اولى بيها منك، وربي لو شوفتها بس قريبة منه لـ....
قاطعه يزن بتهديد صارم وهو يحدق في عينيه مباشرة:
-لـ إيه؟ انت ماتفكرش أصلاً تقرب منها خالص الفترة دي؟ سليم أخويا منبه عليا عشان لو جاله خبر إنك اتعرضلتها هو اللي هيقفلك، وهو ملصم أبوها بالعافية، وبلاش يا نوح تكسر كلمة سليم أخويا...عشان ده الوحيد اللي مضمنش رد فعله.
صمت نوح طويلًا ثم تنهد مستسلمًا، وانحنى رأسه وهو يهمس بصوت مبحوح:
-غصب عني لازم ابعد عنها الفترة دي، مش عايزاها تتعب أكتر من كده.
ولكن فجأةً انبثق في عقل نوح سؤالٌ كالصاعقة، مزق كبرياءه وأشعل فؤاده بلهيب الغيرة، فقد شعر وكأن قلبه ينكمش بين ضلوعه، ورغمًا عنه خرج صوته مترددًا أشبه بالهمس الذي أفلت منه رغمًا عنه:
-معقولة تكون متفقة معاه عشان اطلقها ويتجوزها؟
تجمد يزن لثوانٍ وحدق في صديقه بعينين تقرآن كل ما يعتمل داخله، ثم قال بجرأة ممزوجة بثقةٍ حاسمة:
-مظنش، يسر لو عايزة تهرب منك من زمان كانت هربت، هي بتحبك بس انت مالكش كتالوج في التعامل، عشان كده مش عارف توصل معاها لحل يرضيكوا.
أطرق رأسه في صمتٍ ثقيل عيناه معلقتان بظلمة الطريق الممتد أمام المستشفى، كأنهما تبحثان عن إجابةٍ بين ظلال الليل، وتمنى في أعماقه بكل ما تبقى فيه من قوة، أن يكون ظن يزن صحيحًا،
وإلا فإنهما على حافة غياهب الفراق الأبدي.
****
في اليوم التالي…
جلست سيرا منهكةً على الأريكة، وكأن روحها قد استنزفت بالكامل، التفت العائلة حولها جميعهم مجتمعون يبحثون بلا جدوى عن مجوهراتها المفقودة التي اختفت في ظروف غامضة، لقد كانت العيون متوترة والأنفاس متقطعة، حتى بدا المنزل كله وكأنه يغلي فوق صفيحٍ ساخن.
وبعد ساعاتٍ طويلة من البحث العقيم بدأ الهجوم ينصب عليها من كل اتجاه:
-انتي مهملة أصلاً، في حد يرمي دهبه في الدرج.
وأخرى تهتف بقلق ولوم:
-يعني يا سيرا مش عارفة تحطيهم تحت عن أبلة حكمت في الخزنة.
وأخرى تصيح بتوجس:
-دي تبقى مصيبة لو اتسرقوا هنقول لأهل خطيبك إيه بس؟!
كانت تلك الجمل تتناوب على أذنيها منذ ليلة الأمس، لم يغمض لها جفن ولم تعرف طعم النوم، أمضت ساعاتٍ تبحث في كل ركنٍ من أركان المنزل، تفتش الأدراج والخزائن تقلب أغراضها رأسًا على عقب، بينما الجميع يشاركها البحث…لكن دون جدوى.
كانت حائرة حتى الجنون عاجزة عن استيعاب ما يجري، هي لم تشك لحظة في أيً من أفراد عائلتها؛ فالجميع بالنسبة لها فوق مستوى الشبهات، لكن غموض الموقف كان ينهش عقلها، كيف اختفت الشبكة بهذه الطريقة المريبة؟ كيف تبخر الذهب وكأنه لم يكن؟
وبين كل لحظةٍ وأخرى كانت كلماتهم تلسعها كالسياط...مهملة…حمقاء… غير مسئولة، كأن الجميع اتفق على أن تحمل وحدها عبء هذه المصيبة!
ووسط هذا الجو المشحون، دوى رنين هاتف والدها ليقطع الصمت المتوتر، ارتبك قلب سيرا فهي ترى كيف بهت وجهه منذ أن علم بخبر اختفاء شبكة ابنته وكأنه فقد سنوات من عمره في يومٍ واحد.
رفع الأب الهاتف بيدٍ مرتجفة قليلًا وأجاب بنبرة ثقيلة متعبة:
-أهلا…يا أستاذ سليم...لا لا أبدًا صاحي اتفضل؟
ساد الصمت بين الجميع بينما كان يستمع بتركيز للطرف الآخر، عيناه تزدادان عبوسًا مع كل ثانية تمر، ثم أنهى الاتصال وهو يتنفس بعمق يحاول كبح اضطرابه، فبادرت حكمت بالسؤال بفضولٍ وقلق:
-في إيه يا بابا؟ ماله اخو يزن عايز إيه؟
نظر الأب إلى ابنته سيرا نظرة حاسمة ثم قال بصرامةٍ لا تحتمل الجدل:
-قومي البسي وخدي معاكي عبود وقاسم عشان سليم أخو يزن هيبعت عربية تيجي تاخدك وتروحي تشوفي شقتك عشان المهندس هيكون موجود هناك ويشوفك عايزة إيه؟
ارتبكت سيرا ولم تستوعب ما سمعته، أي شقة؟ أي مهندس ديكور؟ كيف يمكنها أن تفكر في تفاصيل كهذه بينما مصيبتها قائمة لم تُحل بعد؟ كاد عقلها يصرخ بالرفض، حتى همست في داخلها بحماقةٍ:
"طيب…ما تروح أبلة حكمت بدالي؟"
لكن يبدو أن همسها انفضح أو ربما كان هو نفس سؤال حكمت الذي خرج منها بصوتٍ مسموع ليُشعل غضب والدها فجأة:
-لا يا حكمت مش هتروحي معاها....
ثم تابع بنبرةٍ قاطعة حادة:
هتروح مع اخواتها الولاد صد رد وترجع، وكلكوا تفضلوا هنا تدوروا على الشبكة، لغاية ما نشوف حل في المصيبة اللي احنا فيها.
ساد صمت ثقيل في الشقة، لا يُسمع فيه سوى أصوات الأنفاس المتوترة، فقد كانت سيرا تشعر بأن الأرض تميد تحت قدميها، بينما قلبها يخفق بعنف، مزيجٌ من الخوف والارتباك يعتصر روحها، وكأنها محاصرة بين عيونهم المليئة باللوم ودوامة الحيرة التي لا تنتهي.
****
انتبهت إلى تململ أخويها عبود وقاسم في السيارة بل وصل بهما الحال إلى النفخ فالتفتت إليهما تسألهما بشك:
-هو انتوا دافعين حجز كورة؟
نفخ عبود بغيظ:
-اه ٢٠٠ جنية كل واحد فينا وراحت على الفاضي، ده أنا بحوش فيهم من الاسبوع اللي فات.
هزت رأسها باستسلام ساخر ثم قالت للسائق:
-لو سمحت اقف...
ثم التفتت إلى هذين المراهقين تخبرهما بفكرتها:
-انزلوا روحوا الحقوا وأنا هروح بسرعة اشوف المهندس، ولو بابا سألني هقوله أنكم سبتوني لما خلصت.
لمعت عينا الأخوين بحماس ولكن قال قاسم بتوتر:
-وينفع نسيبك لوحدك؟
ابتسمت إليهما وهي تمنع نفسها من الصراخ في وجهيهما:
-اه عادي، روحوا عشان أنا عارفة الكورة عندكم أهم من المياه والشرب، أهم مننا احنا عيلتكم.
فتح عبود باب السيارة وهو يقول بحماس:
-طيب كويس إنك عارفة، خلينا على اتصال.
غادر الأخوان إلى لعبتهما المفضلة بينما انكمشت في مقعدها بيأس، تنظر إلى الخارج بتوتر وخوفٍ نهش قلبها…كيف ستخبر يزن بذلك الخبر المشؤوم؟
****
كان يزن يغفو بسلام غارقًا في نومٍ عميقٍ بعد ليلةٍ طويلةٍ قضاها بجانب صديقه نوح، يحاول تهدئته والوقوف إلى جواره، اضطر في الصباح إلى العودة إلى منزله منهك الجسد مثقل الروح، فلم يتمكن من الذهاب إلى معرضه كعادته بسبب شدة إرهاقه وحاجته الماسة إلى النوم.
لكن هذا الهدوء لم يدم طويلًا…فقد شعر بأصابع صغيرة رقيقة تغزو وجهه تداعب ملامحه بشقاوة، حتى كادت أن تدخل فمه عنوة، فتح نصف عينيه بتثاقل ليبصر وجه قمر ابنة سليم الصغيرة، تتبسم فوقه ببراءةٍ مطلقة وخلفها يقف أنس ولينا يضحكان بحماسٍ صاخب، ابتسم رغمًا عنه وقبل قمر بحب وهو يجذبها إلى حضنه، ثم التفت إلى الصغيرين متسائلًا بنبرة استنكار ناعسة:
-مين جاب قمر هنا؟!
أشار أنس إلى نفسه بحماس وقال ببراءةٍ طفولية جعلت يزن يعجز عن توبيخه:
-أنا بعرف اشيلها وجيبتها هنا عشان تبتعد عن مامي عشان طنط سيرا فوق وماما بتعملها العصير وطالعة.
كاد يزن أن يغلق عينيه ثانية ويستسلم للنوم، لكن الاسم الذي انساب بسهولةٍ من بين شفتي أنس أيقظه من سباته دفعة واحدة، فارتفع جسده فجأة وهو يسأل الصغير بحدةٍ مموهة بابتسامة مصطنعة:
-طنط سيرا مين يا حبيبي اللي فوق؟
****
أما في الأعلى وتحديدًا في شقة يزن التي لم تجهز بعد، كانت سيرا تقف في مواجهة المهندس الذي جاء لوضع اللمسات الأخيرة على تصميم الشقة، لم تكن تسمع معظم ما يقوله؛ تكتفي بهز رأسها بإيماءاتٍ باردة، كمَن يوقع أوراقًا لا يقرأها، لم يكن ذهنها حاضرًا ولا قلبها متسعًا لأي حديثٍ عن ألوان الجدران أو تقسيم الغرف…فكل ما يشغل عقلها هو مصيبتها الكبرى...أين ذهبت شبكتي؟!
بعد مغادرة المهندس توجهت نحو سطح المنزل لتجري مكالمة قبل أن تهبط للشقة مجددًا تنتظر شمس ومليكة اللتان وعدتاها بعصيرٍ منعش، لم تستطع رفض طلبهما هذه المرة، خاصة بعدما رفضت نزولهما الأول معهما إلى شقة والدة يزن للجلوس هناك، فقد شعرت بالحرج الشديد منهن، وتفهمتا هيبتها للموقف فلم تضغطا عليها.
وقفت سيرا بجانب السور، تتأمل الأفق بعينين مثقلتين بالهم، ثم أمسكت هاتفها محاولةً الاتصال بأحد إخوتها للاطمئنان على مصير مجوهراتها، لكن الرد جاء نفسه كل مرة:
"لسه…ما ظهرش أي حاجة."
تنهدت بعمق، كمَن يبتلع مرارة الخيبة، حتى سمعت وقع خطوات شمس ومليكة تصعدان السلالم المؤدية إلى الشقة تبحثان عنها.
قالت مليكة بصوتٍ متوتر وهي تدخل تحمل أطباق الحلوى:
-الله هي راحت فين؟ معقولة تكون مشيت؟
التفتت إلى شمس بنظرة قلقة قبل أن تهمس لنفسها:
-لتكون زعلت من حاجة؟!
وقفت شمس أمام غرفة مجاورة وهي تدير بصرها فيها ثم قالت مترددة:
-ممكن تكون زعلت عشان يزن مكنش مستنيها...
كانت سيرا على وشك أن تطل من باب الشقة لتخبرهما بأنها ما زالت موجودة، لكن الكلمات الأخيرة جمدتها في مكانها، فقد توقفت أنفاسها وهي تسمع ثرثرة مليكة المندفعة بلا وعي:
-أصلاً لو يعرف كان زمانه واقف مستنيها من الصبح! سبحان مغير الأحوال بجد! مين يصدق إن ده يزن اللي كان مغصوب على خطوبتها…وقالب الدنيا حريقة عشان ميخطبهاش؟!
ارتجفت أنفاس سيرا وهي تقف صامتة كتمثالٍ حجري، كان وقع كلمات مليكة أثقل من خطواتها نفسها؛ كل حرفٍ منها نغز قلبها بمرارةٍ دفينة، كأنها لأول مرة تسمع حقيقةً لم تكن تجرؤ على التفكير فيها…
هل حقًا كان يزن مغصوبًا على خطوبتها؟!
هل كل ما ظنته إعجابًا بها كان مجرد سرابًا؟
اختلطت أنفاسها بحزنٍ مكتوم، وشعرت بأن الجدران من حولها تقترب أكثر فأكثر حتى كادت تخنقها.
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات
إرسال تعليق