رواية اميرة البحر القرمزى الفصل الحادي عشر 11 بقلم اسماعيل موسى
رواية اميرة البحر القرمزى الفصل الحادي عشر 11 بقلم اسماعيل موسى
#اميرة_البحر_القرمزى
١١
الغابة المسحورة لم تكن تشبه أية أرض مرت بها ليانثرا من قبل. ما أن خطت خيولهم إلى عتمتها حتى بدا وكأن العالم تغيّر، كأنهم عبروا بابًا غير مرئي يفصل الممالك المأهولة عن أرضٍ قديمة تسبق الزمن.
الأشجار هناك لم تكن مجرد أشجار؛ جذوعها ارتفعت كأعمدة حجرية ضخمة، عريضة بحيث يتسع صدر رجلين للالتصاق بها دون أن يحيطا بها. لحاؤها متشقق، يلمع بين شقوقه نور باهت أخضر، كما لو أن النار سرت في عروقها منذ قرون وما زالت تحترق ببطء. أوراقها كثيفة، متشابكة فوقهم كالسقف، فلا يدخل من نور القمر إلا شظايا باهتة، تتناثر فوق الأرض الموحلة كحبر مسكوب.
الهواء نفسه كان ثقيلًا، مفعمًا برائحة عتيقة: خليط من تراب مبتلّ، وخشب قديم، وشيء آخر أزليّ لا اسم له. بدا وكأنهم يسيرون داخل صدر مخلوق ضخم يتنفس ببطء، وكلما تقدّموا خطوتين، أحسّت ليانثرا بأن الغابة تبتلعهم أكثر.
صوت الخيول بدا غريبًا، مكتومًا، وكأن الأرض لم تعد ترابًا بل طبقة من السجاد الرطب الممتد بلا نهاية. أحيانًا كان الطريق يضيق حتى يلامس الفرسان جذوع الأشجار، وأحيانًا أخرى ينفتح فجأة على ساحات صغيرة، تتدلى فيها جذور هائلة من الأعالي مثل أفاعٍ، وتحيط بها نباتات لامعة بألوان بنفسجية وزرقاء، تنبض كقلوب نابضة.
همس القزم بصوت منخفض، كأنه يخشى أن تصغي الغابة إليه:
"توكّلي على قدميك لا على عينيك، يا صغيرة… الغابة تُضلّل، وستريك طرقًا لا تنتهي لتعودي إلى النقطة ذاتها."
وفعلاً، بعد ساعة من السير، لاحظت ليانثرا أن صخرة مغطاة بالطحلب مرّوا بها من قبل، رغم أنهم أقسموا أنهم لم ينعطفوا. عندها سمعت الهمسات؛ لم تكن كلمات مفهومة، بل موسيقى غريبة، كأنها أغنية قديمة تردّدها آلاف الأفواه دون لسان. الأغنية لم تأتِ من مكان محدد، بل من كل الأشجار معًا.
رفعت ليانثرا رأسها، ورأت شيئًا عجيبًا: فوق الغصون العالية، كانت تتدلّى أزهار بيضاء متوهجة، تشبه الكواكب الصغيرة، وبينها طيور شفافة ترفرف، يضيء جناحها في الظلام، لكنها تختفي فجأة حين تنظر إليها مباشرة.
ثم جاء السكون. سكون كثيف كأن الغابة حبسَت أنفاسها. شعرت الفتاة بشيء يراقبها من الأعماق، لا عينان ولا جسد، بل وعي قديم يزن خطواتها، كأنها مجرد دخيلة في عالمٍ ليس لها.
شدّت على مقبض سيفها، والعرق يتصبب من كفها، بينما القزم تمتم:
"احفظي قلبك من الخوف… هنا الخوف سلاح الغابة الأقوى."
النار الصغيرة في قلب الغابة المسحورة تذوي وتشتعل، كأنها تتنفس مع ليلٍ ثقيل لا ينتهي. ليانثرا كانت غارقة في شبه نوم، جسدها المثخن بالجراح يحاول أن يستسلم للراحة، لكن الغابة لم تدعها. أصواتها، ظلالها، نسيمها، كل شيء كان غامضًا وكأن الأشجار تخفي أكثر مما تظهر.
فتحت عينيها فجأة، وإذا بها ترى القزم جالسًا قبالة… قزمة جميلة بنفس حجمه. لم يكن وجهها غريبًا كما ظنّت، بل بدا مألوفًا، كأن ملامحها من زمن بعيد، من قصة لم تسمعها من قبل. شعرها الأسود ينسدل حول كتفيها، وعيناها اللامعتان تراقبانه بحنوّ وصرامة في آن واحد.
كان القزم يتحدث إليها بصوتٍ مرتجف، يخاطبها كما يخاطب عاشقًا عاد من الموت:
ــ "ظننت أنني فقدتك إلى الأبد…"
ابتسمت القزمة ابتسامة حزينة، وأجابت:
ــ "فقدتني بالفعل… هذه الغابة فقط منحتك وهماً بي. لم أعد سوى ظل من ذكراك."
شهقت ليانثرا بصمت، بينما أدركت الحقيقة: الغابة السحرية كشفت للقزم صورة حبيبته التي ماتت منذ عقود.
ارتجفت يداه وهو يمدها نحوها، لكن أصابعه لم تمس سوى الهواء.
ــ "سامحيني… لم أستطع إنقاذك."
أمالت القزمة رأسها، وفي عينيها نور باهت:
ــ "لم يكن بيدك شيء. لكن لا تجعل الماضي يقيدك… أنت الآن لست وحدك. هناك من يحتاجك."
تبعثر صوته وهو يردّ عليها:
ــ "لكنهم سيأخذونها مني… كما أخذوك."
رفعت القزمة يدها لتلمس وجنته، لكن أصابعها تلاشت كالدخان قبل أن تقترب. ابتسمت ابتسامة أخيرة، ثم تلاشت صورتها كلها كما لو ابتلعتها جذور الأشجار.
ظل القزم جالسًا، يحدّق في الفراغ، بينما دموعه لم تجد طريقها إلى النزول، عالقة بين عينيه وقلبه. مدّ عودًا صغيرًا ليحرك الجمر، لكنه بدا غائبًا عن المكان والزمان.
أما ليانثرا، فقد أغلقت عينيها بسرعة، تتظاهر بالنوم، وقلبها يقرع بقوة… لم تعرف هل رأت حلمًا حيًا، أم مأساة رجل صغير يحمل جراحًا أكبر من حجمه بكثير.
خرجت ليانثرا والقزم من الغابة المسحورة مع الفجر، حين بدأت الأشجار تتباعد وكأنها تتنفس الصعداء بعد أن أطبقت عليهم طوال الليل. الضوء كان شاحبًا، لكنه بدا كمنقذ، يزيل شيئًا من وطأة الظلال التي التصقت بقلوبهم. لم تلتفت ليانثرا خلفها، لكنها أحست أن الغابة ما زالت تراقبهما بعينين لا تُرى.
بعد ساعات طويلة من السير، انفتح الأفق فجأة أمامهما على الأرض المحترقة. امتداد أسود كالحبر، رماد متراكم، وأحجار متفحمة كأن نارًا قديمة مرّت من هنا وأحرقت كل أثر للحياة. الهواء كان ثقيلاً، مشبعًا برائحة الكبريت والدخان القديم، وكأن الحريق لم يخمد بعد، بل ما زال يتنفس تحت التربة. شعرت ليانثرا بوخز في حلقها، أما القزم فظل صامتًا، يسير بخطى ثابتة وكأنه يعرف طريقًا لا يجب الحياد عنه.
حين بلغوا ضفة نهر عريض اسمه أمترين، بدا مياهه غريبة كأنها من زجاجٍ ملون؛ تتدرج ألوانها بين البنفسجي العميق والأزرق الداكن، يعكس سماءً لا وجود لها. أعدّ القزم قاربًا صغيرًا سحريًا بدا كأنه خرج من بين الصخور، فأبحرا عليه بهدوء وسط تيارات النهر التي بدت كأنها تسحبهم إلى عوالم أخرى. ليانثرا جلست متصلبة، يديها متمسكتين بحافة القارب، فيما عينها تتابع الضفاف البعيدة حيث رماد الأرض المحترقة لا ينتهي.
الأمواج في نهر أمترين لم تكن كغيرها؛ كانت تضرب القارب من الأسفل كأنها كائنات حية تلهو أو تهدد. وفي لحظةٍ، ظنت ليانثرا أنها رأت وجوهًا باهتة تلمع تحت سطح الماء، تختفي سريعًا قبل أن تتمكن من التحقق.
استمر الإبحار حتى وصلوا إلى حافة جبال البارسن، جدران هائلة من صخور رمادية، وعرة وشامخة كأنها حواجز أقيمت لحماية ما وراءها من عيون الغزاة. الطريق لم يكن سهلًا؛ صعود حاد، جليد يتخلل شقوق الصخور رغم حرارة الشمس، ورياح تصفع الوجوه كأنها تصرخ تحذيرًا.
تعثرت ليانثرا أكثر من مرة، وركبها تنزف من شدة الجهد، لكن القزم كان يمضي ببطء محسوب، يمد لها يده عند الحاجة دون أن يتحدث. كان صمته أشد وقعًا من الكلام، كأنه يعرف أن كل خطوة هنا ليست مجرد عبور، بل اختبار.
وبعد أيام من التسلق والهبوط، حين بدأت قدما ليانثرا تفقدان الإحساس بثقلهما، انفتح الجدار الصخري أخيرًا ليكشف ما وراءه: بحر أزرق ممتد بلا نهاية، يشعّ تحت شمس هادئة كأنه مرآة سماوية. وعلى ضفته، في خليج صغير محمي بالمنحدرات، بدت قرية صغيرة… لم تكن قرية بالمعنى المألوف، بل مستعمرة بدائية من بيوت حجرية وأسقف من القش، يتصاعد منها دخان الطبخ، فيما قوارب صيد خشبية مربوطة على الشاطئ تتحرك مع الموج.
ليانثرا وقفت مشدوهة، أنفاسها تتقطع من التعب والدهشة. لم تتوقع أن تجد حياة بشرية أو شبه بشرية بعد كل تلك الخرائب والجبال. أما القزم، فاكتفى بأن مسح جبينه بكمّه، ونظر إلى القرية بصمت طويل، كأنه يعرف أنها ليست مكانًا للراحة بقدر ما هي عتبة لرحلة أخرى.
ما إن استقرت قدما ليانثرا والقزم على رمال الشاطئ الأزرق، حتى جذبتهما القرية بنبضها البطيء. رجال داكنو البشرة من شمس البحر، ملابسهم من قماش خشن، وجوههم محفورة بالتجاعيد كأنها جروف صخرية، وعيناهم حذرتان لا تستقران طويلًا على الغرباء.
في الساحة الحجرية، أمام فرن قديم تنبعث منه رائحة الخبز المالح، اجتمع بعض الرجال حول القزم. فتح كيسًا صغيرًا من الجلد وألقى ما بداخله فوق الطاولة الخشبية المهترئة: قطع ذهبية نقية تتلألأ كالشمس المحبوسة. صدى ارتطام الذهب بالحجر جذب أعين الجميع، لكن لمعة الطمع لم تظهر. بل ارتسمت على الوجوه ملامح خوف متجذر.
قال القزم بصوته الأجش، وهو يضغط على الكلمات كمن يحاول أن يخترق صمتهم:
"نحتاج من يعيننا على الإبحار شرقًا… إلى مياه البحر القرمزي. خذوا الذهب، وابنوا سفينة، ورافقونا."
تبادل الرجال النظرات. رجل أشيب بلحية كثة تقدم خطوة، عينيه تشبهان البحر حين يتهيأ للعاصفة، وقال بلهجة حاسمة:
"كل من أبحر في ذلك البحر… ابتلعته أمواجه. لا يعود أحد. الذهب لا يساوي حياتنا."
هزّ آخر رأسه، وأضاف:
"حتى أبسط قواربنا لا نسمح لها بالابتعاد عن الشاطئ أكثر من ميلين. البحر القرمزي ليس كغيره… إنه لعنة."
صمتهم كان أثقل من الرفض. القزم أعاد الذهب إلى الكيس بحركة بطيئة، عيناه لا تلمعان بالطمع بل بالتصميم. ليانثرا، من جانبها، شعرت أن كل كلمة قالوها مثل حائط ينهض في وجهها، لكنها رأت في عيني القزم شيئًا آخر: إصرار من يعرف أن الطريق لا رجعة فيه.
قضى القزم أيامًا يبحث بين الأزقة الضيقة للقرية عن سفينة، لكن لم يجد سوى مراكب صغيرة بالية، مخصصة لصيد السمك، بالكاد تبحر قرب الشاطئ، خشبها متآكل وأشرعتها ممزقة. لم تكن تلك المراكب لتصل بهم إلى ما بعد الأفق، ناهيك عن مواجهة البحر القرمزي.
وفي مساء رمادي، حين اجتمع الضباب على الشاطئ كستار ثقيل، عاد القزم إلى الميناء الحجري، وقف طويلًا يتأمل الأمواج كأنها تبتسم له بسخرية. ثم التفت إلى ليانثرا، وقال بصوتٍ خافت، كأنه يحدث نفسه:
"إن لم نجد سفينة، سنصنعها."
ومنذ اليوم التالي، بدأ القزم يستأجر نجارين من أهل القرية، شيوخًا وشبابًا اعتادوا نحت الخشب لصناعة القوارب الصغيرة. تحت إصراره وذهبه الذي لا يُقاوم أمام الحاجة، وافقوا، وإن كان الخوف يطل من عيونهم كلما ذكر "السفينة" و"البحر القرمزي".
ارتفعت أعمدة خشبية قرب الشاطئ، وبدأت الأيدي تنحت، والمطارق تدوي. ليانثرا تابعت المشهد بذهول؛ لم ترَ سفينة تُبنى من قبل، ولا خشبًا يتحول أمام عينيها إلى أضلاع ستشق الموج. ورغم وجوه النجارين المتجهمة، ورغم الهمسات المذعورة في الأزقة، بدا أن شيئًا يتكوّن… شيئًا يقف متحديًا أمام البحر الأزرق الذي لم يشبع من ابتلاع الأرواح.
لمتابعة باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كاملة من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا
تعليقات
إرسال تعليق