رواية اميرة البحر القرمزى الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم اسماعيل موسى
رواية اميرة البحر القرمزى الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم اسماعيل موسى
في مساء خريفي ثقيل، حين غطّت الغيوم السماء وأحاط الضباب بأطراف القرية، قررت امرأة شابة أن تزور المقابر مع طفلتها الصغيرة، التي لم تتجاوز الخامسة. حملت بيدها باقة ورد ذابلة، وتقدمت وسط صفوف القبور الرطبة، تبحث عن شاهد رخامي قديم لزيارة قريب راحل.
المكان كان صامتًا إلا من حفيف أوراق الأشجار اليابسة وصوت غراب ينعق من بعيد. كل شيء هناك يفيض بالكآبة؛ الجدران المتشققة للمقابر، رائحة العفن والندى، والبرد الذي يتسرب إلى العظام.
بينما هي تضع الزهور عند القبر، ارتجف جسدها فجأة، انحنى رأسها إلى الأمام، وكأن شيئًا خفيًا اخترق صدرها. وقبل أن تدرك الطفلة ما حدث، سقطت الأم على الأرض الباردة بلا حراك، عيناها مفتوحتان على السماء الرمادية، فمها متجمّد في نصف كلمة.
الطفلة جلست بجوار جثمان أمها، تهزها بيدين مرتجفتين، تبكي وتصرخ:
"ماما... قومي... لا تتركيني."
لكن الليل زحف ببطء، وبدأ الضباب يزداد كثافة. لم يجرؤ أحد على دخول المقابر بعد الغروب. بقيت الطفلة وحدها تبكي عند القبر، وصوتها يرتد صداه بين الجدران الحجرية.
ومع اقتراب منتصف الليل، بدأ الهدوء الغريب يخيّم. الريح توقفت، الغربان صمتت. ثم صدر من أحد القبور صوت مختلف، كأنه خشخشة تراب يُزاح ببطء. الطفلة التفتت مذعورة، ودموعها تختلط بالعرق البارد على جبينها.
من بين شقوق أحد القبور، خرجت أيدٍ متشققة، داكنة اللون، باردة كالثلج. أصابعها طويلة، متيبسة، تتحرك ببطء، لكنها ثابتة وكأنها تعرف هدفها.
الطفلة تجمدت في مكانها، شهقتها انقطعت. ثم فجأة، امتدت الأيدي نحوها بسرعة غير متوقعة، أمسكت بساقيها الصغيرتين، وسحبتها بقوة نحو الظلام. صرخت صرخة مدوية اخترقت صمت الليل، لكنها لم تلقَ مجيبًا.
كانت تحاول التشبث بالأرض، أظافرها الصغيرة تحفر في الطين، لكنها لم تستطع مقاومة الجذب. آخر ما رآه القمر قبل أن يغطي الضباب المكان تمامًا، هو جسد طفلة تُبتلع ببطء داخل القبر المفتوح، بينما أصوات همهمة منخفضة، أشبه بالترانيم الميتة، تتعالى من داخله.
وفي الصباح، حين دخل حارس المقبرة ليتفقد المكان، وجد الزهور الذابلة مبعثرة، وجسد المرأة مسجى كما هو... لكن الطفلة لم يكن لها أثر، سوى خطوط صغيرة على التراب، كأنها آخر محاولة للنجاة.
في عتمة القبر، حيث لا يصل ضوء النهار ولا يسمع سوى صدى أنفاسها المرتجفة، بقيت الطفلة حيّة على نحو لا يفسَّر. ظنت في اللحظة الأولى أنها هلكت، لكن الظلام لم يبتلعها تمامًا.
كانت الأرض رطبة، الجدران باردة كالجليد، ورائحة العفن تحاصرها. جلست تبكي أيامًا طويلة حتى جفّ صوتها، وحين أوشكت أن تنهار جوعًا، أحست بشيء غريب يحدث.
من أعماق الظلام، امتدّت يد لم ترها بوضوح. لم تكن يدًا بشرية كما تعرفها، بل كانت ظلالاً متجسدة، تحمل شيئًا غريب المذاق. قطعة طعام داكنة اللون، لا تعرف إن كان خبزًا أم شيئًا آخر، لكنه يملأ معدتها الجائعة.
تكرّر الأمر. كلما بكت من الجوع أو أصابها الضعف، كانت اليد تأتي من حيث لا تدري، تضع أمامها طعامًا وصمتًا، ثم تختفي كأنها لم تكن. لم تستطع أن ترى ملامح صاحبها أبدًا، فقط ظلّ غامق، يشبه الطيف، يمرّ بجانبها ويذوب في الجدران.
الأيام صارت أسابيع، والأسابيع شهورًا. الطفلة فقدت إحساسها بالزمن. لم تعد تعرف الليل من النهار، لم تعد تعرف إن كانت ما تزال بشرًا أو مجرد شيء عالق بين عالم الأحياء والأموات.
لكنها عرفت شيئًا واحدًا:
أنها ليست وحدها.
كانت تسمع همسات أحيانًا، أصواتًا متقطعة لا تفهم كلماتها. أصوات أقرب للأنين والضحك في آن واحد، كأن سكان القبور يتسامرون حولها. كانت تشعر بعيون غير مرئية تراقبها وهي تأكل، وهي تنام، وهي تبكي.
وكلما حاولت أن تسأل الطيف عن هويته، لم يكن يجيب. فقط يترك الطعام ويختفي.
ببطء، بدأ شيء ما يتغير في الطفلة. عيناها تعودتا على الظلام، بشرتها صار لونها أقرب إلى الشحوب الحجري، وصوتها حين تتحدث صار أقرب إلى الهمس البارد.
مرت شهور طويلة، ومعها وُلد في داخلها يقين مخيف: أن الطيف لا يطعمها ليبقيها على قيد الحياة فحسب... بل ليُعدّها لشيء آخر.
القبر الذي سُحبت إليه الطفلة لم يكن قبرًا عاديًا. كان ممرًا عميقًا يهبط كالسلم في بطن الأرض، يمتد لمسافة لا نهاية لها. كلما مشت أكثر داخل الظلام، شعرت أن الهواء يثقل صدرها، وأن الجدران الحجرية تنبض كأنها حيّة.
مرت سنوات وهي تكبر في هذا المكان. في البداية كان خوفها ينهشها، ثم صار جسدها يتكيف مع البرودة والعزلة. عيناها اعتادتا الظلمة، حتى صارت ترى الخيوط الرفيعة للغبار العالق في الهواء، وترى انعكاسات خافتة تتحرك داخل الجدران كأطياف محبوسة.
في أحد الأيام، بعد أن قادها الفضول بعيدًا عن ركنها المعتاد، اكتشفت قاعة غريبة. كانت غرفة واسعة محفورة في الصخر، تمتد جدرانها إلى الأعلى بشكل مقبب، وكأنها معبد مدفون. في وسطها، رفوف خشبية متآكلة تحمل عشرات الكتب القديمة، مجلدات ضخمة مغطاة بالغبار، أوراقها صفراء تفوح منها رائحة الموت والرطوبة.
الكتب لم تكن كأي كتب رأتها من قبل؛ صفحاتها مليئة برموز متشابكة، أشكال لدوائر ووجوه مشوهة، ونصوص بلغة غريبة تنساب كأنها طلاسم. الطفلة لم تكن تعرف القراءة، لكنها أحست أن الرموز تنظر إليها، تتحرك في أطراف بصرها كلما حاولت صرف نظرها عنها.
أيام مرت وهي تزور المكتبة دون أن تفهم، حتى جاء ذلك الطيف القزم.
كان قصير القامة، منحني الظهر، أشبه بظل طفل لكنه مشوه الملامح. لم يتحدث أول الأمر، فقط تبعها بخطوات مترددة، كأنه يخرج من بين الرفوف القديمة. وحين جلست تحدّق في الرموز، جلس بجانبها، وأشار بأصابعه المعوجة إلى الحروف، متمتمًا بأصوات غريبة.
مع مرور الأيام، صار الطيف يقترب أكثر، يكرر الطلاسم بصوت هامس، والطفلة تردد خلفه. شيئًا فشيئًا بدأت تفكك الرموز، تتعلم القراءة بلغة الكتب الملعونة. كان الطيف صبورًا، كأنه جاء لهذا الغرض فقط.
وكلما تعلمت كلمة جديدة، شعرت بحرارة غريبة تسري في جسدها، وبرودة تلف قلبها. أحيانًا، كانت الكتب تصدر أصواتًا خافتة حين تفتحها، كأن الصفحات نفسها تهمس لها.
مرت الشهور، وصارت الطفلة لا تكتفي بالطعام الغامض الذي يُقدَّم لها، بل تغذت على المعرفة السوداء التي انفتحت أمامها. كل كتاب كان يفتح بابًا جديدًا، وكل طقس مكتوب كان يزرع في داخلها يقينًا أن هذا القبر ليس مجرد قبر، بل بوابة إلى شيء أعظم.
والطيف القزم... صار ليس مجرد معلّم، بل رفيق دائم، يضحك بصوت مشروخ كلما نطقت رمزًا صحيحًا، ويختفي حين تخطئ. ومع ذلك، لم يخبرها أبدًا من يكون، فقط يكرر:
"ستعرفين قريبًا... حين تنادينهم بأسمائهم."
#أميرة_البحر_القرمزى
٢
الطفلة التي كبرت في القبر صارت الآن أشبه بكائن نصف بشري، نصف ظل. صوتها أهدأ، عيناها أكثر بريقًا في الظلام. ومع كل جلسة طويلة بجوار الرفوف الحجرية، كان الطيف القزم يغرس في عقلها شيئًا جديدًا.
بدأ معها من أبجدية غريبة، أحرف ملتوية كالأغصان اليابسة، متشابكة كجذور الأشجار. كانت حروف لغة الجان. في البداية، كانت تكتبها على التراب بأصابع مرتجفة، ثم على قطع من العظم المتناثر، ثم على صفحات الكتب نفسها.
القزم لم يكن صامتًا كما من قبل؛ صار صوته حادًا، كصفير يخرج من فم ضيق. كان يكرر لها الكلمات مرارًا حتى تتقنها، وكلما أخطأت، يضرب بيده الصغرى على الأرض فتتصدع الحجارة تحتها. ومع الأيام، لم تعد الطفلة تكتفي بقراءة الرموز… بل بدأت تكتب بلغتهم، تترك تعاويذ غامضة على جدران القبر، وكأنها توقّع وجودها فيه.
وحين تأكد القزم أنها صارت تجيد لغتهم، فتح أمامها أبواب المعرفة السوداء.
قادها إلى كتاب ضخم، غلافه من جلد متشقق، يهمس لها أنه كتاب الفلك عند الجان. صفحات مليئة برموز لنجوم لا يعرفها البشر، خرائط لسماء أخرى، مدارات لكواكب سوداء، وأسرار عن بوابات سماوية تُفتح فقط لمن ينطق الطلاسم الصحيحة.
ثم دفع إليها كتابًا آخر، ثقيلًا، يروي تاريخ الجان. حروب بين ممالكهم القديمة، عروش من لهب، مدن غارقة في باطن الأرض، وقصص عن ملوك جن لا يموتون بل ينامون تحت الرمال ينتظرون من يوقظهم.
بعده جاء دور الجغرافيا؛ خرائط لقارات لم يسمع عنها أحد، أنهار من ضوء، جبال من الزجاج، وكهوف تُقال إنها تنبض بالحياة.
ثم النباتات: أعشاب نادرة لا تنمو إلا تحت القمر الأحمر، أزهار لا تُقطف إلا باليد اليسرى وإلا تحوّلت إلى رماد. علّمها كيف تميز بين نبات يشفي ونبات يقتل، وكيف أن بعضها لا يُؤكل بل يُشمّ ليفتح العيون على عوالم خفية.
وأخيرًا، دخل بها عالم العطور. كانت الكتب تشرح كيف يُستخرج عطر من زهرة لا يراها إلا من تعلم لغة الجان، وكيف أن بعض الروائح تُستخدم لاستدعاء الأرواح، وأخرى لإبعادها، وروائح تصنع منها طقوس عشق أو طقوس موت.
الفتاة، التي لم تعرف يومًا القراءة في عالم البشر، صارت قارئة نهمة لكتب لا يفهمها سوى الجان. وكلما أغلقت كتابًا، شعرت أن روحها تكبر، وأن دمها يثقل بالمعرفة.
أما القزم، فصار أكثر التصاقًا بها. يجلس عند قدميها، يراقبها بعينيه الصغيرتين البراقتين، ويضحك حين يراها تخط على جدران القبر رموزًا جديدة. لم يعد مجرد طيف معلم… صار وكأنه وصيّ عليها، يجهّزها لشيء لم تفهمه بعد.
لكنها بدأت تلاحظ شيئًا غريبًا: كل كتاب تقرؤه، كل ورقة تقلبها، كانت تترك داخلها أثر غريب يظل ملاصقها
مع مرور السنوات، ومع تعمّق الطفلة في الكتب والرموز، أدركت أن القزم الذي يصاحبها لم يكن وحده هناك. كان هناك طيف آخر، أكبر من مجرد ظل، أعمق من مجرد حضور، يطلّ ويختفي كما لو كان القبر نفسه يفرغه من أعماقه.
لم يكن للطيف شكل واضح، بل مجرد كتلة من عتمة أكثر سوادًا من الظلام المحيط. أحيانًا يظهر على هيئة ضباب يتجمع في زاوية الغرفة، وأحيانًا كظل يمرّ على رفوف المكتبة القديمة، فتتساقط منها ذرات غبار كأنها تذوب تحت وطأة وجوده. لم يتحدث يومًا، لم يقترب، لم يمد يدًا… لكنه كان يراقب.
كلما شعرت الطفلة بحضوره، كانت القشعريرة تجتاحها، الهواء يثقل في رئتيها، وأصوات الكتب نفسها تبهت كأنها تخاف منه.
أما القزم، الذي كان يقهقه بصوته المشروخ كلما أتقنت حرفًا أو طقسًا، كان يتغير فجأة. ينكمش، يلتزم الصمت، عيناه الصغيرتان تتابعان الأرض لا الفتاة. ضحكه ينقطع، حركاته تصير بطيئة، كأن وجود الطيف يجبره على الجديّة المطلقة.
في إحدى الليالي، بينما كانت الطفلة تتعلم أسماء النجوم في كتب الجان، ظهر الطيف بشكل أوضح:
ظل طويل انبثق من الحائط، امتد حتى غطّى نصف القاعة. أوراق الكتب على الرفوف تحركت وحدها، بعض الصفحات انفتحت كأنها تنصت. الطفلة نظرت بذهول، بينما القزم ركع على ركبتيه، مطأطئ الرأس، كأنما في حضرة سيّد لا يُرى.
لم يقترب الطيف منها، لكنه ظل واقفًا طويلًا، حتى شعرت أن قلبها سيتوقف. ثم، كما جاء، انحلّ في الهواء، تاركًا وراءه برودة خانقة.
تكرر الأمر مرارًا: الطيف يحضر فجأة، يرحل فجأة، لا يلمس شيئًا ولا يتحدث. لكن مع كل ظهور له، لاحظت الطفلة أن القزم يتغيّر، يزداد حدة، يوقف الضحك والمرح، ويجبرها على التعلم بصرامة كأن هناك عينًا عليا تحاسبه.
ومع الوقت، أدركت الطفلة أن الطيف لم يكن يراقب الكتب فقط… بل يراقبها هي. وكأن كل ما يحدث معها، من تعلم وقراءة وكتابة، كان يجري تحت عينٍ خفية تعرف أين تسير بها.
وأصبح السؤال الذي يطاردها كل ليلة وهي تغمض عينيها على برودة الأرض:
هل الطيف هناك لحمايتها… أم ليجهّزها لشيء أعظم منها؟
الطفلة، وقد كبرت وسط الكتب والظلال، صارت عقلها أوسع بكثير من عمرها. كانت تفكّ الرموز بسرعة، تحفظ الخرائط المعقّدة وتعيد رسمها بدقة، تعرف مواقع النجوم وأسماء النباتات الغريبة كما لو كانت وُلدت معها. القزم الذي رافقها كل تلك السنوات، لم يعد يضحك عليها بسخرية كما في البداية… بل صار يضحك بإعجاب. كان يلمع في عينيه الصغيرة بريق فخر خفيّ كلما تجاوزت توقعاته.
لكن في إحدى الليالي، حين تمددت الفتاة على الأرض الباردة لتنام، كان الظلام أعمق من المعتاد. بين غفوتها وصحوها، سمعت أصواتًا. لم يكن صوت الطيف الذي يكتفي بالمراقبة الصامتة… بل كان نقاشًا محتدمًا.
القزم بصوته المشروخ المتوتر:
"إنها لم تكتمل بعد… عقلها حاد، نعم، لكن روحها ما زالت طرية… ستتكسر إن أجبرناها الآن."
وصوت آخر، عميق، ثقيل كهدير يأتي من جدار القبر نفسه:
"كفاك مماطلة، لقد تعلمت ما يكفي. هي مستعدة. لا وقت للانتظار… يجب أن تبدأ."
القزم حاول المقاومة، صوته يعلو بارتباك لم تسمعه الطفلة من قبل:
"أنت لا تفهم… ذكاؤها لا يكفي وحده. هناك نار يجب أن تُشعل في دمها أولًا، وإلا ستبتلعها الكتب بدل أن تبتلع هي العالم."
لكن الصوت الآخر قاطعه بصرامة حاسمة، لا تحتمل جدالًا:
"لقد تقرر. غدًا تبدأ."
ساد الصمت فجأة، كأن الجدران نفسها عادت إلى نومها. الطفلة بقيت مغمضة العينين، تتظاهر بالنوم، بينما قلبها يخفق بعنف.
خطوات القزم اقتربت ببطء، جلست بجانبها، وشعرت بأنفاسه القصيرة الساخنة عند أذنها. لحظة صمت، ثم همس بصوت خافت، مملوء بالدهاء:
"أعرف أنك لستِ نائمة… أيتها الطفلة اللئيمة."
ارتجف جسدها، لكنها لم تفتح عينيها.
تابع القزم بصوت أوضح قليلًا، نبرة مختلفة عن أي وقت مضى، نبرة الجدية المطلقة:
"من الغد… لن تقرئي فقط. ستبدئين تدريبات المبارزة. الكلمات صنعت عقلك… لكن السيوف ستصنعك كاملة."
ثم جلس القزم جوار الفتاة، وقد أنهكه التعب من طول الحديث والدرس. أراح ظهره على الجدار الرطب، وعيناه تراقبانها بنظرة غريبة تجمع بين الفخر والخوف. ابتسم فجأة وقال بصوت خافت كأنه يخشى أن يسمعه أحد غيرها:
ـ "تعلمين يا صغيرة… لقد علمتك القراءة والكتابة، وحشوت رأسك بكتب لا يجرؤ كثير من الجان على لمسها. لكن هناك شيء لم أطلبه منك بعد."
رفعت الفتاة عينيها نحوه، تلمعان بضوء المشاعل المتراقصة، وسألت:
ـ "وما هو؟"
اقترب منها أكثر، حتى كاد صوته يكون همسًا في أذنها:
ـ "أريد أن أسمعك تغنين… أغنية من تراثنا، أغنية الأميرة المنفية."
صمتت الفتاة، تنظر إليه بدهشة ممزوجة بالارتباك. الغناء لم يكن شيئًا تعتاده في هذا المكان البارد، لكن كلمات الكتب القديمة، الرموز التي حفظتها في ليالٍ طويلة، أخذت تتردد في عقلها كأنها تنتظر تلك اللحظة لتخرج.
أغمضت عينيها، وضغطت أصابعها الصغيرة على حجر بارز بجانبها، ثم انطلق صوتها الرقيق يرتجف في البداية، قبل أن يستقيم ويأخذ نغمة غريبة لم تكن تشبه أصوات البشر:
أرها نيلفا… سيلاندرو ميثارا…
كيلين دارا، أشوا إيلفا نيثار…
زالون دريم، أمارا فين لوثار…
إيلفا… إيلفا… إيلفا…
نوفار أنديل… زاهارا
ميثرا كيل، لوسان دارفون…
شيرال نيم، أوفار تامون،
إلدار… إلدار… إلدار…
ليثار أمور… فينارا ساندور،
ديمون فال، شادرو إيلنور…
نوفا شيل، إيردن فالور،
أمارا… أمارا… أمارا…
أشرا نيفال… لوتار كيسان،
دارفين سيل، ميزار أولهان…
أورفا دريم، كيلان تيفان،
نيثرا… نيثرا… نيثرا…
فالين دار، فالين دار،
أرواح الظلّ… أرواح النار،
نادت ملكة منفى الديار…
عودي… عودي… عودي…
الكلمات بلغة الجان، لكن اللحن بدا وكأنه أكبر من القبو نفسه. تردّد الصدى في الأعماق، ارتجّت الجدران، وبدت ألسنة النار في المشاعل وكأنها تنحني للحنها.
جلس القزم مذهولًا، عيناه تتسعان أكثر مع كل مقطع. وعندما انتهت، لم يصفق، لم يضحك، بل انحنى رأسه قليلًا وقال بصوت مبحوح:
ـ "لقد أيقظتِها… كأن الاميرة بنفسها تغنى هنا داخل هذا القبو اللعين
#اميرة_البحر_القرمزى
٣
حين أفاقت الفتاة في الصباح التالي، لم يكن القبر كما تركته الليلة الماضية. الأروقة التي كانت مظلمة انفتحت على ساحة حجرية واسعة، سقفها يختفي في العتمة، لكن جدرانها متوهجة بأحجار فسفورية تنبض بضياء أخضر باهت. في وسط الساحة، وقفت ثلاث جنيات قزمات، قصيرات القامة مثله، لكن لكل واحدة منهن هيئة مختلفة وملامح تثير الغرابة.
الأولى كان وجهها بلون الرماد، شعرها قصير يلمع بوهج فضي، وعيناها كقطعتين من الثلج. الثانية وجهها مغطى بوشوم داكنة، تتلوى على بشرتها كما لو كانت حيّة، أما الثالثة فكان جسدها أنحف، عيناها واسعتان بلون العسل، وجناحان شفافان يتلألآن رغم صغر حجمها.
وقف القزم المشرف خلفها، صوته حاد وجاد:
ـ "اليوم ستبدئين ما لا عودة بعده. هؤلاء… معلماتك. ستعلّمنك فنون المبارزة كما لم يتعلمها بشر من قبل."
تقدمت الجنية ذات الشعر الفضي بخطوات ثابتة، ومدت للطفلة عصًا حجرية خفيفة:
ـ "هذه ليست سلاحًا بعد، إنها ظلّ لسلاحك القادم. ستتعلّمين أولًا كيف تحملي الوزن، كيف تسمعي صوته حين يضرب الهواء، قبل أن تفكري في لمس لحم خصمك."
تلتها الجنية الموشومة، أطلقت ضحكة قصيرة غريبة، ثم همست في أذن الفتاة:
ـ "أنا سأعلمك كيف تخدعين خصمك، كيف تجعليه يرى ضربتك في اتجاه، بينما قلبها في اتجاه آخر. القوة بلا دهاء… مجرد خشب مكسور."
أما الثالثة، صاحبة العينين الواسعتين، فقد اقتربت منها أكثر، ركعت أمامها حتى صارت في مستواها، وقالت بصوت ناعم لكنه متوتر:
ـ "وأنا سأريك كيف تنصتين. السيف ليس حديدًا فقط… إنه صدى نَفَسك، إيقاع خطواتك، ارتجاف قلبك. إن لم تسمعي نفسك، فلن تسمعي عدوك."
من بعيد، كان القزم يراقب بصمت، ذراعيه معقودتان، نظراته مشوبة بالقلق وكأن شيئًا في داخله يرفض استعجال هذه اللحظة. ومع ذلك، حين ترددت الفتاة وهي تمسك العصا لأول مرة، صرخ فيها بصرامة:
ـ "ارفعيها! لا مكان للضعف هنا. الأميرة المنفية غنّت من قبل… والآن حان وقت الدم."
أخذت الفتاة العصا بيديها الصغيرتين، ثقيلة عليها، لكن عينيها اللامعتين لم تتركا الساحة. كان الهواء من حولها ثقيلاً، يشبه بداية طقس جديد، طقس سيتحول فيه لعب الأطفال إلى تدريب قاتل.
في اللحظة الأولى التي أمسكت فيها الفتاة بالعصا الحجرية، بدا وكأن وزنها يفوق جسدها كله. ذراعاها النحيلتان ارتجفتا، وانحنى معصماها الصغيران إلى الأسفل حتى كاد الحجر يلامس الأرض. حاولت رفعها من جديد، لكن جسدها لم يحتمل، فسقطت العصا من يديها على الأرض بضربة صاخبة ترددت في أرجاء الساحة الحجرية.
ضحكت الجنية الموشومة ضحكة قصيرة، مليئة بالسخرية:
ـ "إنها لا تستطيع حتى أن تحمل ظلّ السلاح، فكيف ستقاتل به؟"
شعرت الفتاة بوجهها يحترق من الخجل، مدّت يديها ثانية، رفعت العصا ببطيء، لكن ارتعاشة جسدها فضحت ضعفها. ما إن حاولت أن تحركها في الهواء حتى سقطت مرة أخرى، هذه المرة ارتدّت على قدميها فأطلقت صرخة ألم مكتومة.
وقفت الجنية ذات الشعر الفضي متجهمة وقالت بصرامة:
ـ "المبارزة لا ترحم الضعفاء."
لكن قبل أن تنحني الفتاة لالتقاط العصا من جديد، تقدم القزم من مكانه بخطوات ثقيلة، أمسك بالعصا ورفعها بيد واحدة، ثم وضعها بين يديها مجددًا. صوته كان قاسيًا في بدايته، لكن شيئًا في نبرته انكسر:
ـ "اسمعي يا صغيرة… أنتِ لستِ قوية الآن، صحيح. ستسقطين عشر مرات، مئة مرة. لكن كل مرة تنهضين فيها، تكونين أقوى مما كنتِ عليه."
حدّق في عينيها مباشرة، عينيه اللامعتين صارتا أهدأ:
ـ "لا يهمني أن يضحكوا. لا يهمني كم مرة سقط السيف منك. ما يهمني فقط هو أن ترفعيه مجددًا. هذا هو السرّ… ليس في القوة، بل في الإصرار."
ابتلعت الفتاة غصتها، مسحت دموعها الخفيفة بطرف كمّها، ثم مدّت يدها للمرة الثالثة. هذه المرة ارتجف جسدها كما كان، لكن عينيها لم تهتزّا. رفعت العصا، وإن كانت ثقيلة، تمسكت بها بكل ما بقي في ذراعيها الصغيرتين.
من بعيد، تبادلَت الجنيات الثلاث نظرة صامتة، ولم يضحك أحد. كان في تلك اللحظة الصغيرة شيء مختلف، كأن الشرارة الأولى قد اشتعلت بالفعل.
في إحدى الليالي، بعدما غادرت الجنيات الثلاث الساحة الحجرية واختفى صدى خطواتهن في الممرات العميقة، جلس القزم بجوار الفتاة التي كانت منهكة، أنفاسها متقطعة وذراعاها تؤلمانها من ثقل العصا. نظر إليها طويلًا، ثم قال بصوت منخفض كأنه يهمس بسرّ خطير:
ـ "لن ننتظر رحمتهم… ولا سخريتهم. إذا ظللتِ ضعيفة كما أنتِ الآن، سيلتهمونك قبل أن تتعلمي الضربة الأولى."
رفع يده القصيرة ولوّح بإصبعه في الهواء، فانفتحت فجوة صغيرة في جدار القبو، خرج منها هواء بارد ورائحة تراب قديم. قادها بصمت إلى ممر ضيق لم تره من قبل، حتى وصلا إلى قاعة خفية مضاءة بأحجار بلون أحمر داكن. في وسط القاعة كانت هناك صخور ضخمة معلّقة بسلاسل، وأحواض حجرية مليئة بسائل أسود كثيف يتصاعد منه بخار خانق.
أشار القزم إلى الصخور:
ـ "هذه لن ترفعيها بيديك… بل بجسدك كله. ستسحبين السلاسل حتى تنقطع أنفاسك، حتى يصرخ ظهرك ويداك. هكذا يبدأ الجسد بالتحمل."
ثم اقترب من الأحواض السوداء:
ـ "وهذا الشراب… مرّ كالسمّ، لكنه سيقوّي عظامك ويُثقل دمك حتى لا ترتجفي عند حمل السيف. ستشربين منه كل ليلة قبل النوم، وإلا لن تصمدي في الغد."
نظرت إليه الفتاة بعينين مترددتين، جسدها يصرخ رفضًا، لكن القزم انحنى نحوها وقال بصرامة لم تعهدها منه:
ـ "أنتِ اخترتِ أن تبقي. اخترتِ أن تتعلمي. لا طريق آخر غير هذا… إما أن تقسي جسدك أو يكسرك سيف أول عدو."
بدأت الفتاة بجرّ السلاسل. في البداية كان وزن الصخور يسحق ذراعيها، يجرح كفيها، يسقطها أرضًا مرارًا. لكنها، كلما سقطت، كان القزم يقف خلفها، يصرخ بها كي تنهض، يصفع الأرض بعصاه كأن الأرض نفسها تأمرها بالقيام.
وحين انتهت الليلة الأولى، جسدها مليء بالكدمات والعرق، أجبرها القزم على أن تشرب من السائل الأسود. كان مرًّا حتى سالت دموعها من شدته، لكن ما إن ابتلعته حتى شعرت بحرارة غريبة تنتشر في عروقها، وكأن شيئًا قاسيًا بدأ يزرع نفسه داخل عظامها الصغيرة.
ابتسم القزم أخيرًا، لأول مرة دون سخرية أو حدة، وقال لها بصوت منخفض:
ـ "هكذا تبدأ القوة الحقيقية… في الخفاء، حيث لا يراك أحد، ولا يسمعك سوى الحجارة."
بدأت الأيام تمرّ ببطء ثقيل، كأن الزمن في القبو يسير بعناد ضد رغبة الفتاة. كانت كل صباح تقف في الساحة أمام الجنيات القزمات، تحمل العصا الحجرية بيدين مرتجفتين، فتسقط منها مرارًا، وذراعاها ترتجفان حتى قبل أن تبدأ المبارزة. كانت الجنية الموشومة تهز رأسها في كل مرة وتقول باستهزاء:
ـ "لا فائدة… هذه الطفلة لن تصمد حتى أمام ظلّها."
والجنية الفضية كانت تصمت غالبًا، لكن صمتها أشد قسوة من الكلمات. أما الثالثة، صاحبة العينين الواسعتين، فقد كانت تحاول تلطيف قسوة التدريب، لكنها في النهاية تستسلم للواقع: الفتاة لا تتقدّم.
في النهار، لم يكن يلمع أي أمل. وفي الليل، حين يعود الجميع إلى صمت القبور، كان القزم يأخذها سرًا إلى قاعته المخفية. هناك يعيد المشهد نفسه كل ليلة: سلاسل أثقل من عظامها، صخور تهدد بسحقها، سائل أسود مرّ كالعذاب.
في البداية كان يصرخ فيها بحماسة، يشجعها، يرفع صوته حتى يتردد صداه في الممرات:
ـ "انهضي! اسحبي! لا تتوقفي!"
لكن مع مرور الأسابيع، ومع تكرار سقوطها، بدأ صوته يخفت، حماسته تذبل. صار يقف خلفها بصمت أحيانًا، يراقبها وهي تحاول ثم تنهار أرضًا، يتنفس بعمق وكأنه يحاول أن يقنع نفسه أن هذه المحاولات لا تزال تستحق العناء.
كان يرى في عينيها إصرارًا عنيدًا، لكن جسدها لم يستجب. لا عضلات تظهر، لا قوة تذكر. كل ليلة كانت تنام على الأرض الحجرية، مرهقة، متألمة، وعروقها مشبعة بمرارة الشراب الأسود.
وفي سره، كان القزم يحدث نفسه:
"ربما كنت مخطئًا… ربما لا تصلح هذه الطفلة لما أردناه. جسدها هشّ أكثر من أن يتحمل، ودمها ضعيف أكثر من أن يقوى."
لكن شيئًا ما منعه من التوقف. لم يخبر الجنيات عن تدريباته السرية، ولم يعترف بفشله أمامها. احتفظ بكل خيبة أمله في صدره، يبتلعها كما ابتلعت هي مرارة السائل الأسود. وكل ليلة، رغم بطء التغيير حتى بدا كالوهم، كان يعود ويعيد المحاولة.
كأن هناك خيطًا خفيًا يشده نحوها، يمنعه من تركها، حتى وإن بدا كل شيء بلا جدوى.
مرّت الشهور ثقيلة، والفشل يرافق الفتاة في كل تدريب. الجنيات القزمات صرن ينظرن إليها ببرود وسأم، والقزم نفسه صار يشيح بوجهه أحيانًا وكأنه يخشى مواجهة حقيقة ضعـفها. في إحدى الليالي، اجتمعوا جميعًا في الساحة الحجرية، والفتاة تقف وسطهم، تتصبب عرقًا ودموعها تلمع على وجنتيها. العصا الحجرية سقطت منها للمرة الرابعة، والجنية الموشومة ضحكت ضحكة جافة مليئة بالشفقة الممزوجة بالاحتقار.
لكن فجأة، انطفأ ضوء الأحجار الفسفورية واحدًا تلو الآخر، وغرق المكان في عتمة خانقة. ارتجّت الأرض تحت أقدامهم، وهبّت ريح باردة من الأعماق كأنها أنفاس كائن مجهول. ومن الظلام تبلورت هيئة… طويلة أول الأمر، ثم انكمشت حتى استقرّت في صورة جنية في متوسط العمر، نحيلة الجسد، بملامح جافة كالصخر، وعينين غائرتين تشعان بضياء رماديّ بارد.
تراجعت الجنيات القزمات للخلف على الفور، وارتسم الخوف على وجوههن، حتى القزم المشرف انحنى برأسه غصبًا وكأن شيئًا في حضوره يكسر الإرادة.
رفع الطيف ـ في هيئة الجنية ـ يده النحيلة، وأشار إلى الفتاة المرتجفة، ثم صرخ بصوت لم يكن صوتًا بشريًا ولا جانّيًا، بل كأنه مزيج من الريح والنار:
ـ "لقد فشلتم جميعًا! أنتم… قزم وجنيات… لم تقدّموا سوى عجزها وبكائها! هل هذا ما تسمونه تدريبًا؟!"
ارتجفت الفتاة أكثر، تساقطت دموعها وهي تنكمش على نفسها، لكن الطيف لم يرحمها. اقترب منها بخطوات بطيئة، كل خطوة يتصدع معها الحجر تحت قدميه، وصوته يجلجل في الساحة:
ـ "انهضي! احملي السيف! لن أبالي بدموعك… لن أبالي بضعفك. إن كنتِ حقًا ابنة هذا المكان… أثبتي نفسك الآن!"
ومد يده، فانشق الهواء أمامها ليظهر سيف حجري ضخم أثقل من عصاها بأضعاف. ارتعشت الفتاة وهي تنظر إليه، محاولة التراجع، لكن الطيف صرخ فيها بعنف:
ـ "امسكيه! الآن!"
مدت يدها المرتجفة، قبضت على السيف بكل ما بقي لها من قوة، لكن وزن السلاح جعل كتفيها ينخفضان وركبتيها تترنحان. انفجرت في بكاء عالٍ، عجزت عن كبحه، دموعها تنهمر وهي تهمس:
ـ "لا أستطيع… لا أستطيع…"
لكن الطيف انحنى نحوها، وجهه القاسي يقترب منها، وصوته يخترق عظامها:
ـ "لا وجود لـ (لا أستطيع). هنا إما أن تقاتلي… أو تموتي."
وفي الخلف، كان القزم والجنيات ينظرون في ذهول، لم يجرؤ أحدهم على التدخل، كأن حضور الطيف سلبهم القدرة على الحركة.
اريد من كل من يتابع هذه القصه ان يخبرنى برأيه فيها
جميله ام لا
وما جدوى الاستمرار فى نشرها
#اميرة_البحر_القرمزى
٤
ارتجف السيف الحجري بين يدي الفتاة، أثقل من أن يُحمل، والدموع تنهمر على وجهها الصغير. جسدها يكاد ينكسر تحت وطأة الخوف والوزن، وصوت بكائها يملأ الساحة الحجرية.
في تلك اللحظة، رفعت المرأة ـ الطيف المتجسد في هيئة الجنية ـ رأسها عاليًا، وأطلقت صرخة حادّة هزّت المكان. لم تكن صرخة غضب فقط، بل مزيج من ألمٍ دفين ووعيد، صرخة اخترقت الصخور والجدران، حتى بدت الأرض كلها ترتجف كأنها تئن تحت وطأة وجودها.
الجنيات القزمات التصقن بالجدار، وجوههن شاحبة وعيونهن متسعة بالرعب، حتى القزم نفسه وضع يده على صدره وكأنه يخشى أن يتمزق قلبه من شدّة الصدى.
أما الفتاة، فقد سقطت على ركبتيها والسيف يتهاوى بجانبها، وأذناها تنزفان قليلًا من شدّة الصرخة.
وبعد أن خيّم صمت ثقيل، اقترب الطيف خطوة للوراء، ثم خطوة أخرى، ببطء كأن انسحابه نفسه طقس من الرعب. ومع كل خطوة، كانت نبرته تنخفض، صوته يتشقق كالحجر المتآكل، حتى صار أشبه بالهمس المبحوح:
ـ "إن لم تنهضي قريبًا… إن لم تصبحي ما وُلدتِ لتكوني… فسأعود… ولن أترككِ إلا جثة بين هذه الجدران."
تلاشى ضوء عينيه الرماديتين تدريجيًا، وذابت ملامحه في الظلام حتى لم يبقَ سوى صدى صوته يتردد في أرجاء الساحة، يلتف حولهم كالطَوق:
ـ "تذكّري… الوقت… ينفد."
ثم انطفأ كل شيء، ولم يبقَ إلا ارتعاشة الفتاة وصوت بكائها وهي تحتضن نفسها بجوار السيف.
بعد أن تلاشى الطيف واختفت ملامحه في ظلمة القبو، ظل الصدى يتردد طويلًا بين الجدران، كأن الصوت لم يرد الرحيل. كان المكان يئن من شدّة الرهبة، والجنيات القزمات متجمّدات في أماكنهن، لم يجرؤن حتى على التنفّس بعمق.
أما الفتاة، فكانت جاثية على ركبتيها، ذراعاها تحيطان بجسدها النحيل، والسيف الحجري ملقى إلى جانبها. دموعها انهمرت بلا توقف، وصوت بكائها ارتفع كأنه نحيب طفل ضائع. كانت عيناها الزائغتان لا تجرؤان على النظر إلى أي اتجاه، تخشى أن يظهر الطيف ثانية.
اقترب القزم ببطء، خطواته مثقلة، حتى جلس بجوارها. نظر إلى وجهها الغارق في الدموع، إلى يديها المرتجفتين، ثم تنهد بعمق، صوته لأول مرة يلين وهو يمد يده ليمسح شعرها المبلل بالعرق:
ـ "اهدئي يا صغيرة… لقد رحلت."
لكن الفتاة لم تتوقف عن البكاء. هزّت رأسها بعنف وهي تهمس بين شهقاتها:
ـ "ستعود… قال إنه سيعود… سيقتلني… أنا ضعيفة… لن أستطيع."
عقد القزم حاجبيه، الغضب والخوف يتصارعان في ملامحه. ضم قبضته الصغيرة على السيف الحجري ثم أبعده عنها، كأنه يخشى أن يرهقها أكثر. جلس إلى جانبها على الأرض الباردة، وراح يتحدث بنبرة منخفضة، أقرب إلى همس أبويّ لم يسبق لها أن سمعته منه:
ـ "نعم… سيعود. الطيف لا يكذب. لكن اسمعي جيدًا… لم أستسلم لكِ يومًا، ولن أستسلم الآن. أنتِ لستِ عاجزة كما تظنين. نحن سنعمل… في الخفاء كما كنا نفعل. سنتدرب وحدنا، بعيدًا عن أعينهن… وسأجعلك تقفين حين يعود، حتى لو اضطررت أن أضحّي بكل ما عندي."
رفعت الفتاة رأسها ببطء، عيناها مغرورقتان بالدموع، تحدّق فيه وكأنها تحاول تصديق كلماته. ابتسم لها ابتسامة باهتة، لكنها كانت كافية لتخفّف من رعبها قليلًا.
ثم أضاف، صوته جاد لكنه أكثر دفئًا من أي وقت مضى:
ـ "أنتِ لستِ وحدكِ هنا… تذكّري ذلك دائمًا."
ظل جالسًا بجوارها، حتى خمد بكاؤها شيئًا فشيئًا، واستسلمت للإرهاق وغفت برأسها على كتف حجر القبو. أما هو، فبقي ساهرًا إلى جوارها، عيناه تترقبان الظلام، يخشى أن يظهر الطيف من جديد.
استمرّت الأيام على وتيرة متشابهة، ثقيلة الإيقاع، كأن الزمن نفسه تعمّد أن يتباطأ حول الفتاة. كانت تتعثر في خطواتها، ينهار السيف الحجري من يديها مرارًا، تتلوى ذراعاها تحت ثقل لم تحتمله بعد، ويغمرها العجز كما لو كان ظلًا لا يفارقها.
الجنيات القزمات كنّ يلتزمن واجبهن في التدريب، يتبادلن النظرات الصامتة كلما أخفقت، وفي أعماقهن تساؤل لم يجرؤن على البوح به: هل ستفلح هذه الطفلة يومًا؟ أما القزم المكلّف بها، فقد ظلّ يضمر كل مشاعره في قلبه، يظهر لها فقط الصبر، ويحاول أن يحجب عن الجميع قلقه المتزايد.
لكن ما لم يدركه معظمهم، أن عينًا أخرى كانت تراقب المشهد من بعيد، عينًا أكثر قسوة وجمودًا. الطيف الذي ظهر ذات يوم صار عادة غامضة في ساحة التدريب. أحيانًا يتشكّل على هيئة جنية جافة الملامح في ركن معتم من القبو، عيناها متوهجتان كالجمر، لا تتفوه بكلمة ولا تقترب، فقط تراقب.
وأحيانًا أخرى، حين تكون التدريبات في الخارج، تخترع الطيف لنفسه مكانًا غريبًا بسحره: تلة صغيرة تنبت فجأة، مكسوة بالزهور البيضاء والمشمش المتدلّي، يجلس فوقها في سكونٍ غريب، يراقب الطفلة وهي تترنّح تحت السيف الحجري، دون أن يمد يدًا أو يطلق كلمة.
كلما سقطت الفتاة على الأرض، وكلما انكفأت دموعها على التراب، رفعت رأسها مذعورة تبحث في الأركان المظلمة أو القمم البعيدة، لترى إن كان الطيف قد تحرّك. لكن دائمًا، كانت الجنية الغامضة تبقى في مكانها، لا تهتف، لا تقترب، لا تمنحها سوى صمت كالقضاء.
أحيانًا، حين تنهار الطفلة أكثر من اللازم، كان القزم يلتفت بعصبية إلى التلة أو الركن، كأنه يتحدّى بنظره ذاك الوجود الذي لا يرحم. لكنه لم يتلقى يومًا ردًا أو إشارة، فقط ذلك التحديق الصامت الذي يضاعف ثقله على كاهله.
مرّت الشهور هكذا: الطفلة تكافح، القزم يواصل محاولاته السرّية اليائسة لتقوية جسدها، الجنيات يدرّبنها بلا يقين، والطيف… يراقب من بعيد، صامتًا كقدر مؤجل.
كانت الطفلة جالسة على الأرض الترابية في زاوية القاعة، أنفاسها متقطعة من التعب، وذراعاها ترتجفان بعد أن سقط السيف الحجري من بين أصابعها للمرة الخامسة في ذلك اليوم. القزم الصغير جلس قريبًا منها، يحاول أن يمنحها صبرًا لم يعد متأكدًا من وجوده.
رفعت الفتاة رأسها، وعيناها تبحثان في الظلام البعيد حيث لمّحت أكثر من مرة ملامح الطيف ــ الجنية التي تؤمن في أعماقها أنها أمها. صوتها خرج ضعيفًا، يختلط بالدموع:
ــ "لماذا هي قاسية معي هكذا؟"
لم يعلّق القزم، فتابعت كمن يفرغ ما يثقل صدره:
ــ "إنها أمي… أعرف ذلك. لكن… لماذا لا تفعل ما تفعله الأمهات مع بناتهن؟ لا تضمّني، لا تحكي لي قصصًا، لا تبتسم لي ولو مرة واحدة. كل ما تفعله هو أن تحدّق بي ببرود، أو تصرخ، أو تجعلني أشعر أنني لا أساوي شيئًا."
ارتعشت شفتاها، وأكملت كمن يفضح سرًا لم يعد يحتمله قلبها:
ــ "أشتاق إليها حتى وهي أمامي. كل ليلة أنام وأنا أرجو أن تقترب مني، أن تلمس شعري، أن تخبرني أنني لست سيئة… لكن عندما أنظر إليها، أراها كأنها بعيدة جدًا، كأنني لا أصل إليها مهما بكيت."
حاول القزم أن يتكلم، لكن كلماته انحبست في حلقه. لم يجرؤ أن ينطق بالحقيقة، أن هذه الجنية ليست أمها، بل مجرد طيف يراقب. الطفلة لم تعرف سوى هذا اليقين: أن تلك الجنية الغامضة هي أمها الحقيقية، وأن قسوتها حرمانٌ موجع لا تفسير له.
ثم شهقت الطفلة فجأة، ودفنت وجهها في ركبتيها، تبكي بصمت، كلماتها تخرج بين شهقاتها:
ــ "لماذا يا أمي؟ لماذا لا تحبيني مثلما أحبك؟"
أما القزم، فقد بقي صامتًا، يتأمل الطفلة وهي تغرق في دموعها، وعيناه ترفّان بخوف خفي، يتساءل: هل تسمع الجنية هذه الكلمات الآن؟ وهل سيُثير ذلك في قلبها شيئًا… أم ستظلّ صخرة جليدية لا ترحم؟
مضت الشهور بطيئة، كل يوم يشبه الآخر، الطفلة تنهض باكرًا، تمسك بالسيف الحجري الذي يثقل يديها، تتعثر، تسقط، ثم تعيد المحاولة تحت نظرات الجنيات القزمات وإشراف القزم. التدريب صار عادة يومية، كأنها عقوبة أكثر منه تعلّم. جسدها الصغير لم يقوَ بعد، لكن القزم ظلّ يصر على التدرّج، محاولًا أن يزرع في قلبها بعض الأمل.
ومع كل يوم، لم تغب تلك الظلال… الطيف الجنية. أحيانًا تراها الطفلة على قمة التلة الزهرية التي تنبت من العدم، تجلس بجمود، وأحيانًا أخرى في ركن مظلم من الساحة، لا تبارح مكانها، تتابع كل حركة بعينين لا ترمش. كان وجودها يثقل المكان أكثر من ثقل السيف الحجري نفسه.
مرت الشهور على هذا النحو حتى جاء ذلك اليوم. كانت الطفلة تحاول للمرة العشرين أن ترفع السيف عالياً، لكن ذراعيها خانتاها وسقطت على الأرض، يسبقها أنين متعب. أسرعت الجنيات القزمات إليها لمساعدتها، لكن فجأة انقطع الهواء من حولهن… والبرد تسلّل إلى العظام.
ظهرت الجنية الطيف. خرجت من الظلال ببطء، جسدها يتلألأ بوميض بارد، ملامحها جافة، قاسية، وعيناها تتوهجان كجمرين. توقّف الجميع عن الحركة، حتى القزم نفسه تجمّد مكانه.
تقدّمت بخطوات ثابتة حتى وقفت أمام الطفلة المنهكة على الأرض. رفعت يدها، وأشارت إلى الفتاة بصوت حادّ، متصدّع كصوت حديد يُجرّ على الصخر:
ــ "عقابها."
ارتجفت الطفلة، نظرت حولها باحثة عن تفسير. القزم اندفع للأمام محاولًا الاعتراض:
ــ "لكنها ما زالت صغيرة، ليست مستعدة بعد!"
صرخت الجنية صرخة قصمت الصمت، فارتدت الجنيات للخلف، وأطرق القزم رأسه مذعورًا. ثم كررت ببطء، نبرة صوتها أشبه بحكم لا يُرد:
ــ "لتُعاقب. الآن."
انحدرت دموع الطفلة وهي تزحف إلى الوراء، تتشبّث بتراب الساحة، تلهث:
ــ "أمي… أرجوك… لا… لا تفعلين هذا بي!"
لكن عيني الجنية ظلّتا جامدتين، لا رحمة فيهما، كأنها لم تسمع كلمة.
حين أمرت الجنية بالعقاب، لم يتجرأ أحد على الاعتراض. الجنيات القزمات، اللواتي كنّ يدرّبن الطفلة يوميًا، تبادلن نظرات مضطربة، ثم اقتربن منها ببطء. الطفلة، بعينين دامعتين، راحت تتشبّث بملابس القزم وتصرخ:
ــ "لا تتركني! أرجوك… لا تتركني معها!"
لكن القزم نفسه لم يملك أن يفعل شيئًا، نظرته كانت مزيجًا من الغضب والذل، يداه ترتجفان وهو يبتعد خطوة إلى الوراء، كأن أي حركة مخالفة قد تعرّضه للهلاك.
قادوا الطفلة عبر ممرات ضيقة نحو كهف جانبي بعيد، سقفه منخفض وجدرانه ملساء تنزّ منها قطرات ماء باردة. أُدخلت الطفلة إلى الداخل، باب حجري ضخم يُسحب خلفها، يغلق فتحة الكهف ببطء حتى انطبقت العتمة. آخر ما رأته قبل أن يغلق الباب نهائيًا كان لمحة من وجه الجنية ــ والدتها كما تصدّق ــ جامدًا كالحجر، لا يحمل أي عاطفة.
انغلق الباب، وابتلع الظلام الطفلة.
في البداية، راحت تضرب الحجارة بيديها الصغيرتين وتصرخ:
ــ "أمي! أمي لا تتركيني هنا! أعدك أنني سأكون أفضل… أعدك أنني سأحمل السيف! فقط افتحي الباب!"
لكن لا مجيب. لم يكن سوى صدى صوتها يرتدّ من جدران الكهف، كأنها تنادي نفسها فقط.
بعد ساعة أو أكثر، بدأ الصمت يزداد ثِقلاً. برودة الأرض تشلّ قدميها، والرطوبة تتسرب إلى صدرها. جلست تحتضن ركبتيها، عيناها متسعتان في العتمة، تتخيل أشكالاً تتحرك حولها. كل نسمة هواء تتحول في ذهنها إلى أنفاس، كل قطرة ماء تسقط تتحول إلى وقع خطوات.
بدأ الخوف يتكاثر في عقلها، يكبر حتى صار وحشًا جاثمًا فوق صدرها. لم يعد في رأسها سوى فكرة واحدة: أمي تكرهني… لهذا تركتني هنا.
مرت الدقائق كساعات، والساعات كدهور. كان قلبها يخفق بعنف كلما تخيلت ملامح تظهر من الظلام، كأن العتمة نفسها قررت أن تبتلعها.
لم تبكِ بصوت عالٍ، بل كان بكاؤها مكتومًا، متقطعًا، أشبه بأنين حيوان صغير جريح. والليل بأسره مضى هكذا: طفلة وحيدة، ترتجف وسط كهف مغلق، تبحث في الظلام عن أي دليل على أن أمها ستعود… لكنها لم تعد.
وعندما فُتح الباب في الصباح، كان أول ما رأته هو الضوء القاسي الذي غمر الكهف، يلسع عينيها بعد ليلٍ طويل من السواد. وقفت مترنحة، عيناها حمراوان من السهر والخوف، نظرتها متبلدة كأنها لم تعد تلك الطفلة التي دخلت الكهف ليلة البارحة.
في تلك الليلة التي أُغلِق فيها الكهف على الطفلة، حين خيّم السواد وأطبق عليها كالغلاف، حدث ما ظلّت بعد ذلك تتذكّره كأنه حلم… أو وهم نسجته روحها في لحظة انهيار.
كانت جالسة إلى الحائط، عيناها تحاولان اختراق الظلمة، ودموعها تجفّ على خديها، عندما سمعت خشخشة خفيفة من عمق الكهف، صوت جناحين صغيرين يضربان الهواء الرطب. شدّت نفسها أكثر إلى الزاوية، قلبها يخفق كطبل، حتى رأت خيالًا دقيقًا يقترب، يتلألأ بضوء خافت كأنّه وميض من قنديل منسيّ.
لم تكن فراشة كما خُيّل لها أول الأمر، بل جرادة عمياء، لونها باهت وقرونها طويلة، لكن عينيها العاجزتين كانتا تبثان عطفًا غريبًا. جلست الجرادة على حجر مبلل، وبصوت رقيق متكسّر، بدا وكأنّه يخرج من أعماق الكهف نفسه، قالت:
ــ "لماذا تبكين يا صغيرة؟"
شهقت الطفلة، حدّقت فيها بدهشة، ثم انهمرت كلماتها كالسيل:
ــ "لأن أمي… لا تحبني. هي لا ترحمني. تتركني هنا في العتمة، وحدي، وكأنني لست ابنتها. كل يوم تصرخ، كل يوم تجعلني أشعر أنني لا شيء… لماذا؟ لماذا تعاملني هكذا؟"
أطرقت الجرادة العمياء، وجناحاها يهتزان بهدوء، كأنها تتنهّد بأسى. ثم تقدّمت قليلاً، ورفعت أحد أرجلها الأمامية لتقتلع من جدار الكهف عشبة ضئيلة، قرمزية اللون، تشع بوميض خافت وسط الظلام. مدّتها إلى الطفلة، وقالت بصوت أقرب إلى الهمس:
ــ "خذيها… كليها. لكن انتظري… عشرة ليالٍ قمريّة. لا تخبري أحدًا، لا تدعي الطيف يعلم. بعد الليلة العاشرة… سأعود إليك."
تردّدت الطفلة، نظرت إلى العشبة بيد مرتعشة، ثم إلى الجرادة التي لا ترى لكنها تعرف أنها تشفق عليها بصدق لم تعرفه من قبل. أخذت العشبة ببطء، ووضعتها إلى صدرها كمن يخفي كنزًا.
ابتسمت الجرادة، رغم أنها بلا ملامح واضحة:
ــ "لا تنسي… عشرة ليالٍ فقط. بعدها… لن تكوني كما أنت الآن."
ثم رفرفت بجناحيها واختفت في عتمة الكهف، تاركة الطفلة بين خوف وأمل، تمسك بالعشبة القرمزية كما لو كانت أول لمسة حنان حقيقية في حياتها.
مضت الليالي بطيئة، ثقيلة، والطفلة تحتضن العشبة القرمزية كمن يحتضن سرًا يخصّها وحدها. في الليلة الأولى والثانية، لم تشعر بشيء سوى وخز غامض في معدتها، كأن نارًا صغيرة تتململ داخلها. في الليلة الثالثة، أخذت أنفاسها تثقل، وأحلامها امتلأت بصور غريبة: أجنحة مظلمة تحلّق فوقها، ووميض نجوم تشتعل ثم تنطفئ.
بحلول الليلة الخامسة، كانت الطفلة مختلفة. جسدها الضعيف لم يعد كما كان، كأن شيئًا في عروقها تبدّل. في صباح ذلك اليوم، حين حملت السيف الحجري كالعادة، توقّع الجميع سقوطه من يديها خلال لحظات. القزم وقف جانبها متحفّزًا لمساعدتها، والجنيات القزمات تهيأن لإعادة نفس المشهد المألوف من التعثر والفشل.
لكن الطفلة فاجأتهم جميعًا. أمسكت بمقبض السيف بكلتا يديها، شدّت ذراعيها الصغيرتين، ولم يسقط. على العكس، رفعت النصل فوق رأسها ببطء، كأن ثِقله لم يعد كما كان.
تجمّد القزم في مكانه، عيناه تتسعان بدهشة صامتة. الجنيات تبادلن النظرات غير مصدّقات، إحداهن غطّت فمها بيدها وهي تهمس:
ــ "كيف…؟!"
والطفلة نفسها، رغم عرقها الذي سال على جبينها، شعرت لأول مرة أن جسدها يطيعها، أن القوة ليست حلمًا بعيدًا. نظرت إلى القزم بعينين تلمعان، وقالت بصوت خافت:
ــ "انظر… لم يسقط."
ظلّت تحمل السيف للحظات طويلة، أطول مما تحملته في أي يوم مضى، حتى أنها خطت خطوة للأمام وضربت الهواء بحركة غير متزنة لكنها حقيقية. ارتجّ صدى الضربة في القاعة، فارتجف القزم وكأن وقعها أصاب قلبه هو.
وقف مشدوهًا، نصف مصدّق، نصف خائف، وعيناه لم تفارقا الفتاة، بينما في داخله سؤال واحد يتردّد كطعنة: من أين جاءت هذه القوة؟
أما الطفلة، فقد ابتسمت لأول مرة، ابتسامة صغيرة باهتة، لكنها حملت شيئًا من الفخر لم تعرفه من قبل.
#اميرة_البحر_القرمزى
٥
بعد مرور عشرة ليالٍ قمريّة كاملة، لم يغب عن قلب الطفلة الوعد الذي قطعته الجرادة العمياء. وفي الليلة العاشرة تحديدًا، حين نامت الجنيات القزمات في أجنحتهن الحجرية، والقزم غرق في تعبٍ عميق بعد يوم طويل من التدريبات، تسللت الفتاة بهدوء. خطواتها كانت خفيفة كظل، لا صوت لها إلا همسات رملية على أرض الممرات.
عرفت الطريق إلى الكهف وكأن ظلامه يناديها. دخلت بخوف وفضول، قلبها يخفق أسرع كلما توغلت. هناك، في العمق، لم تستقبلها العتمة وحدها كما في المرة السابقة… بل كائن مختلف.
الجرادة كانت في انتظارها. لكنها لم تكن كما عرفتها أول مرة: جسدها صار أضخم، جناحاها أكثر اتساعًا، وقرونها الطويلة تلمع في الظلام مثل شُعلتين ساكنتين. وفي يدها الأمامية اليمنى… كان هناك سيف.
سيف داكن، أشبه بقطعة من حجر الليل، تتخلله شقوق متوهجة كالنار المكبوتة. مدّت الجرادة السيف نحو الطفلة، وصوتها خرج أجشّ، كأنه نابع من جوف الكهف:
ــ "احمليه. لقد جاء وقت الحرب."
ترددت الطفلة، يداها ترتجفان وهي تلمس مقبض السيف البارد، لكن حين قبضت عليه، شعرت بحرارة غريبة تسري في جسدها، وكأن السيف يعترف بها.
ابتسمت الجرادة العمياء، ثم دارت حولها بخطوات بطيئة، وصوتها يملأ العتمة:
ــ "أنا سأعلّمك كما تعلّم الجراد. نحن لا نقاتل بالقوة وحدها، بل بالحيلة. تذكّري هذه:
١ ــ اضربي حيث لا يتوقع خصمك. لا من الأمام، بل من الظل.
٢ ــ اقفزي سريعًا. الجراد ينجو بالقفز لا بالركض. اجعلي قدميك سريعتين، كأنك تتركين الأرض نفسها وراءك.
٣ ــ اجمعي قوتك في لحظة واحدة. نحن الجراد نهجم في سرب، دفعة واحدة، ونغمر العدو حتى يختنق. تعلمي أن تضربي ضربة تُنهي، لا مئة ضربة ضعيفة."
وأمسكت الجرادة بيدي الطفلة، دفعتها لتقفز في الظلام، مرة بعد أخرى، حتى تورمت قدماها لكنها بدأت تشعر بخفة لم تعهدها من قبل. ثم أجبرتها على الانحناء والتسلل بين الصخور، أن تضرب بسيفها في زوايا غير متوقعة، أن تصرخ فجأة لتهزّ خصمها قبل أن تهوي عليه.
وبينما جسد الطفلة يتعب، كان عقلها يضيء: ما تعلّمه لم يكن مجرد حركات، بل فلسفة جديدة، أقسى وأذكى من تدريبات الجنيات القزمات.
وفي نهاية اللقاء، انحنت الجرادة بجسدها الضخم حتى اقتربت من أذن الطفلة، وهمست بصوت كالحفر في الحجر:
ــ "تذكّري… الحرب ليست قوة يا صغيرة، بل جوع. حين تجوعي للنصر كما يجوع الجراد للزرع، عندها فقط… ستفهمين."
رفعت الطفلة السيف بيديها المرتعشتين، ولمعت عيناها في الظلام بشيء جديد… شيء لم يكن موجودًا فيها قبل تلك الليلة.
مرت أيام قليلة بعد عودة الطفلة من الكهف، لكن آثار ما جرى هناك لم تستطع أن تخفيها طويلًا. حين رفعت السيف في تدريباتها أمام القزم والجنيات، لاحظوا لأول مرة أن ذراعيها لم تعودا هزيلتين كما في السابق، بل بدأت عضلات صغيرة تتشكل على كتفيها وذراعيها، خطوط مشدودة لم تكن موجودة من قبل. حتى قبضتها صارت أثبت، ووقع السيف في يدها صار أشبه بامتداد جسدها لا بثقل يكسرها.
الجنيات اكتفين بالدهشة الصامتة، يراقبنها بعيون نصف مستغربة ونصف حذرة، بينما القزم اكتفى بزم شفتيه كأنه لا يريد الاعتراف أنه فوجئ. لكنهم لم يعرفوا… أن السر لم يكن في تدريباتهم.
فالفتاة كانت تتسلل من جديد إلى الكهف، كلما أظلمت الليالي، لتلتقي بالجرادة العمياء. لكن هذه المرة، ما رأته هناك جعلها تشعر بالرهبة: الجرادة لم تعد مجرد حشرة ضخمة. كانت تتغير.
جسدها ازداد طولًا وصلابة، جناحاها تشابها أكثر فأكثر مع أجنحة الجنيات، وقدماها الأماميتان استقامتا حتى كادتا تشبهان ذراعي إنسان. وجهها ظل محتفظًا بملامحه الحشرية، لكن حوله بدأت تظهر لمسات غامضة، كأنها مسحة من أنوثة غريبة، نصفها جرادة ونصفها جنية.
الفتاة ترددت وهي تراها، لكن الجرادة رفعت يدها الجديدة، وأشارت نحوها بالسيف، وصوتها خرج أعمق وأكثر وضوحًا:
ــ "اقتربي. لقد حان وقت الدرس الأصعب."
اقتربت الطفلة، والسيف في يدها، حين أطفأت الجرادة كل ما في الكهف من ضوء، حتى التوهج الباهت للشقوق الحجرية اختفى. صارت العتمة كاملة، خانقة، حتى أنها لم تعد ترى أصابع يدها.
ارتجفت، لكن صوت الجرادة همس في الظلام:
ــ "أنا بلا عيون. هكذا خُلقت، ومع ذلك أرى أكثر منكم جميعًا. إن أردتِ أن تتعلمي الحرب حقًا، عليكِ أن تتخلي عن عينيك."
وبدأت تمشي حولها ببطء، خطواتها لا تُسمع، لكن الطفلة أحست بالهواء يتحرك في اتجاهها.
ــ "أنصتي… للتنفس، لارتجاف الصخور تحت القدمين، لصوت السيف وهو يشق الهواء. لا تثقي بعينيك، بل بقلبك، بعضلاتك، بجلدك الذي يقرأ الريح."
ثم باغتتها بهجمة مباغتة في العتمة، فارتبكت الطفلة أول مرة، وسقطت على ركبتيها. لكن الجرادة لم ترحمها. هاجمتها ثانية وثالثة، حتى صارت الطفلة تصد الضربات لا بالنظر، بل بالحدس. شعرت بذبذبات الهواء قبل أن يقترب السيف، وانحنت في اللحظة المناسبة.
كانت تتعثر أحيانًا وتفشل، لكنها بعد ساعات من التدريب في ظلام مطبق، نجحت أن تصد ثلاث هجمات متتالية وهي مغمضة العينين.
ضحكت الجرادة لأول مرة، ضحكة خشنة كصرير جناحين:
ــ "هكذا… أنتِ الآن ترين كما أرى. بلا عيون… لكن أقوى من كل من يملكها."
رفعت الطفلة رأسها، والعرق يتصبب منها، لكن ابتسامة صغيرة تشكلت على فمها. كان في داخلها شعور جديد: أنها لم تعد وحيدة ولا ضعيفة كما كانت، وأن هناك قوة سرية تكبر في جسدها يومًا بعد يوم، بعيدًا عن أعين القزم والجنيات.
في إحدى الليالي المظلمة داخل الكهف، جلست الطفلة على صخرة بارزة، تتنفس بصعوبة بعد تدريب طويل مع الجرادة التي كانت قد ازدادت ضخامة وقوة. كانت ذراعاها ترتجفان من التعب، لكن عينيها، أو بالأحرى بصيرتها الجديدة، كانتا متوقدتين بشيء أشبه بالإصرار.
رفعت رأسها نحو الجرادة التي جلست قبالتها، والسيف الضخم يستند إلى كتفها الحشري العريض، وقالت بصوت خافت ممتزج برجاء طفولي:
ــ "أيمكنك أن تتحدثي معها… مع أمي؟ أن تطلبي منها أن ترحمني قليلًا؟ إنها لا تعاملني كابنتها… لا تضمّني… لا تنظر إليّ إلا كأنني عدو."
كان في نبرة الطفلة ارتجاف غريب، خليط من حنين خفي وخوف صامت. كانت تعتقد في أعماقها أن الطيف الجنية هي أمها، ولم تستطع تقبّل فكرة أن أمًا لا تمنحها العطف.
الجرادة التفتت إليها، عيناها المعتمتان الغارقتان في السواد لا تحملان أي وعود. ظلت صامتة للحظات، ثم صدر عنها صوت أجش، منخفض، حاسم:
ــ "لا. لن أفعل."
اتسعت عينا الطفلة بالذهول، فتابعت الجرادة ببرود، وقد أصدرت جناحاها رفرفة قصيرة كأنها صفعة هواء:
ــ "علاقتي بها ليست جيدة… ولن تكون. بيني وبينها ما لا يُصلَح. فلا تطلبي مني أن أتدخل في قلب لا يعرف إلا القسوة."
كادت دموع الطفلة تنحدر، لكن الجرادة تقدمت منها بخطوة ثقيلة، وضعت يدها المشوهة على كتفها وقالت بصرامة، وكأنها تغرس الكلمات في عظامها:
ــ "انسي الأمر. ليس لكِ سوى نفسكِ الآن. لا تنتظري الرحمة من أحد. إن كنتِ تريدين القوة، فاهتمي بالتدريبات. هذا كل ما سيحميك. هذا كل ما سيمنحك مكانًا بين من لا يعرفون الرحمة."
خفضت الطفلة رأسها، وأطبقت أصابعها الصغيرة على السيف بإصرار صامت. كانت تعرف أنها لن تسمع من الجرادة سوى هذه الحقيقة المرة. ومع ذلك، في قلبها ظل فراغ يتسع، جوعٌ غريب لعناق، لابتسامة… لشيء لن تجده في عيني أمها الغامضة التي تراقبها من الظلال.
لم تكن تدريبات الجرادة تشبه ما اعتادت عليه الطفلة مع القزم أو مع الجنيات الأخريات. كانت أقسى، أكثر بدائية، لكنها في الوقت نفسه ممتلئة بخبث غريب يختبر الجسد والعزيمة معًا.
في صباح معتم داخل الكهف، وقفت الجرادة فوق صخرة ضخمة، غليظة الحواف، وأمرت الطفلة أن تمسك بحبال ملتفة حولها. قالت بصوتها المبحوح:
ــ "اسحبيني… كأنك تسحبين عبءَ العالم كله."
ترددت الطفلة في البداية، يداها النحيلتان ترتجفان، لكن الجرادة ضربت الأرض بجناحيها فأحدثت رجّة جعلت الصخور الصغيرة تتساقط من السقف. عندها تشنجت الطفلة، وبدأت تسحب. كل خطوة كانت كأنها تمزّق أوتار ذراعيها، وكل نفس يقطع صدرها كالسكاكين. لكن الغريب أن الجرادة، وهي جالسة فوق الصخرة بثقلها المريع، راحت تغني بصوت مشروخ، أنشودة غامضة بلغة قديمة، كلماتها كالحجارة تُلقى في الماء الراكد.
"اسحبي الأرض…
افتحي الطريق…
من ينكسر لا يولد من جديد…"
كان الغناء يزيد العبء غرابة، كأن الطفلة تجرّ معها شيئًا أكبر من مجرد صخرة.
وفي يوم آخر، ساقتها الجرادة إلى بركة وحل عميقة داخل دهليز منخفض السقف. أمرتها أن تغوص حتى ركبتيها في الطين الكثيف، ثم مدت إليها عصا خشبية عريضة:
ــ "قاتلي… هنا، حيث الأرض تمسك قدميك وتبتلعك."
الطفلة حاولت أن تتحرك، أن تضرب الوحل، لكن كل حركة كانت تبطئها، تجعلها تغوص أكثر. صرخت محبطة، لكنها واصلت. كلما وقعت على وجهها داخل الطين، سمعت ضحكة خافتة من الجرادة، لا سخرية فيها بل قسوة تدريب لا تعرف الشفقة.
وحين انتهى اليوم، لم تترك لها الجرادة فرصة للراحة، بل ساقتها نحو جدار صخري أملس يتلألأ بقطرات ماء باردة، وقالت وهي تشير بجناحيها:
ــ "تسلّقي. لا أريد يديكِ أن تعرفا الرفق بعد اليوم."
نزفت أصابع الطفلة وهي تحاول أن تثبت نفسها على الصخور الحادة، خدشت ركبتيها وهي ترتفع قليلًا ثم تهوي من جديد. لكن مع كل سقوط، كانت الجرادة تردد ببرود:
ــ "الألم هو أوفى معلم. أمسكي به… وتعلمي أن تعودي إليه دائمًا."
شيئًا فشيئًا، بدأت عضلات الطفلة تنمو، تتصلب ذراعاها، ويشتد ساعداها. كتفاها الصغيرتان اكتسبتا صلابة لم تكن فيهما من قبل. حتى تنفسها بات أكثر اتزانًا، عميقًا، يخرج من صدرها كزفرة حيوان يتأهب للقتال.
وفي عيني الجرادة، وهي تراقبها من بعيد، ومض لأول مرة بريق غامض… ليس إعجابًا خالصًا، بل شيء آخر أعمق، كأنها ترى في الطفلة مشروع مخلوق وُلد من النار والظلام معًا.
كان الليل في نهاياته حين مدت الجرادة جناحيها الكثيفين، وأشارت للطفلة أن تتبعها في صمت. كان هناك دهليز ضيق طويل، لم يسبق أن دخلته الطفلة، تتناثر على جدرانه نقوش قديمة تشبه عروقًا مضيئة باللون الفضي. كلما تقدمتا، زادت الرطوبة وارتفع صدى خطواتهما. ثم فجأة… انشق الدهليز إلى فسحة نور غامر.
الطفلة أغمضت عينيها للحظة، الضوء كان أقوى من أن تحتمله بعد شهور من الظلام. وحين فتحت عينيها، شهقت بصوت مسموع.
أمامها امتدت أرض الجان.
غابة لم ترَ مثلها قط:
أشجار شاهقة تسمى أشجار الفجر، جذوعها بلون أزرق داكن وأغصانها تلمع كبريق المعدن، أوراقها كصفائح فضية تتحرك مع الريح فتصدر أصواتًا كالأجراس. إلى جوارها، انتشرت أشجار السهاد، ملتوية، تتدلى منها خيوط خضراء مضيئة كالسرج المعلقة، تضفي على المكان مسحة حلم غامض.
أما الزهور فكانت بحرًا من الألوان المستحيلة. زهور النداء بلون أرجواني تشع كالنيران الصغيرة، كلما اقتربت منها أصدرت نغمة رخيمة كأنها تعزف موسيقى. وعلى حواف البرك البلورية، تفتحت زهور السمر الجنية، بتلاتها شفافة كزجاج ملون، تعكس وجوه من ينظر إليها كأنها مرايا مسحورة.
والطيور… لم تكن طيورًا عادية. رفرفت فوقهما طيور الريشة النحاسية، أجنحتها تصدر صفيرًا رقيقًا يشبه عزف ناي بعيد، وكل ريشة منها تلمع باللون النحاسي عند سقوط ضوء القمر. وعلى الأغصان البعيدة جلست عصافير المرآة، صغيرة الحجم لكنها لامعة كالفضة، كل واحدة منها تعكس صورة من يراها فتبدو كأنها مئات النسخ من الطفلة والجرادة تطل من بين الأغصان.
الأرض نفسها لم تكن ساكنة. الحشائش تحت قدمي الطفلة سُمّيت عشب الهمس، إذ أصدرت أصواتًا خافتة كأنها كلمات غير مفهومة كلما خطت عليها. والهواء كان أثقل من هواء الكهف، لكنه ممتلئ بعطر مزيج من الزهور والندى ونكهة غريبة تشبه البخور القديم.
وقفت الطفلة، أنفاسها تتلاحق، ويديها تتشبثان بثوبها الممزق، بينما الجرادة الضخمة إلى جوارها تراقبها بصمت.
قالت الطفلة بصوت يرتجف بين الخوف والانبهار:
ــ "هذا… هذا هو عالم أمي؟"
لم تجبها الجرادة، بل مدت جناحها وأشارت نحو العمق، حيث بدت الغابة لا تنتهي، والليل هناك يلمع بآلاف الألوان التي لم يعرفها بشر من قبل.
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كاملة من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا
تعليقات
إرسال تعليق