القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية اميرة البحر القرمزى الفصل السادس والسابع والثامن بقلم اسماعيل موسى

 رواية اميرة البحر القرمزى الفصل السادس والسابع والثامن  بقلم اسماعيل موسى 





رواية اميرة البحر القرمزى الفصل السادس والسابع والثامن  بقلم اسماعيل موسى 






#اميرة_البحر_القرمزى


          ٦


مرّت الأسابيع ثقيلة، لكن شيئًا فشيئًا بدأت الطفلة تتغير. عظامها صارت أصلب، ساعداها يبرزان بعضلات دقيقة لكنها متماسكة، وحركتها لم تعد متعثرة كما في السابق. في البداية كان القزم والجنيات القزمات يظنون أنها مجرد طفلة مثابرة، لكن مع كل يوم جديد كانت مفاجآتها تتضاعف.


في إحدى ساحات التدريب، وقفت الطفلة تمسك سيفها الحجري، تتنفس بعمق، بينما أمامها جنية محاربة قصيرة القامة، معروفة بسرعتها وضرباتها القاسية. الجميع كان يتوقع سقوط الطفلة في دقائق كما المعتاد، لكن المشهد أخذ منحى مختلفًا.


مع أول هجمة من الجنية، انحنت الطفلة بخفة غير معهودة، التفّت حول خصمها بخطوة جانبية حادة، وضربت بسيفها نحو موضع فارغ. حركة لم يعلّمها لها أحد. القزم اتسعت عيناه، والجنيات تبادلن نظرات الارتباك: من أين جاءت بهذه المناورة؟


استمرت المبارزة. الجنية المحاربة صاحت غاضبة وضربت بعنف أكبر، لكن الطفلة امتصّت الضربة على كتفها العاري دون أن تسقط. تراجعت خطوة، ثم تقدمت ثانية، والعرق يتصبب من وجهها، لكن عينيها كانتا تلمعان ببريق صلد، بريق من يتعلم كيف يتحمل الألم.


الجنية المحاربة استشاطت غضبًا، هوت بسيفها في قوس خاطف نحو رأس الطفلة، لكن الأخيرة أمالت جسدها فجأة، وتقدمت بانقضاضة سريعة، دفعت خصمتها للخلف حتى كادت تُسقطها أرضًا.


صرخة اندهاش خرجت من بين شفاه الجنيات. القزم رفع يده دون وعي، كأنه أراد التدخل، ثم توقف مشلولًا بالمفاجأة.


لحظة قصيرة فقط، لكن الطفلة كانت على وشك أن تُسقط الجنية المحاربة أرضًا، على وشك أن تنتصر.


توقف التدريب قبل أن تحسم الضربة الأخيرة، لكن وقع الصدى ظلّ في المكان: الطفلة لم تعد مجرد متدربة ضعيفة… لقد صارت شيئًا آخر، شيئًا لم يتوقعه أحد.


---


توالت الأيام، وكل يوم كانت الطفلة تدخل ساحة التدريب بخطوات أكثر ثباتًا. السيف الحجري الذي كان يسقط من يديها بسهولة صار كجزء من ذراعها، يلمع تحت الأضواء الغريبة كأنه يستجيب لها وحدها.


الجنيات المحاربات بدأن ينظرن إليها بنظرة مختلفة، لم تعد مجرد طفلة ضعيفة يُتسامح مع هفواتها، بل خصم حقيقي يجب الحذر منه. وفي أول نزال فردي حقيقي، وقفت الطفلة أمام جنية سمراء البشرة، معروفة بقوة معصميها وسرعة دورانها في القتال.


الهجمة الأولى كانت عاصفة، لكن الطفلة صدّت الضربة، وبدل أن تتراجع، اندفعت بجسدها للأمام، دفعت خصمتها خطوة إلى الوراء. العرق انهمر على وجوه المتدربين، لكن الطفلة واصلت، كل ضربة تتبعها بخطوة واثقة، حتى وجدت نفسها تضرب صدر خصمتها ضربة نظيفة أجبرتها على السقوط أرضًا.


ارتفعت همهمة الدهشة. القزم نفسه صمت طويلًا قبل أن يصفق بيده الصغيرة تصفيقًا متوترًا.


لم يتوقف الأمر عند نزال واحد. في اليوم التالي، واجهت جنية أخرى، مشهورة بخداعها وحيلها. لكن الطفلة قرأت خطواتها كما لو كانت تراها قبل وقوعها، وتفادت الحركات المضللة بسهولة مريبة، ثم وجهت ضربة مفاجئة كسرت توازن خصمتها، وأسقطتها على الأرض وسط ذهول الجميع.


المرة الثالثة، كانت الأصعب. جنية ذات خبرة طويلة، ندوبها تشهد على معارك كثيرة، وقلبها لا يعرف التردد. النزال استمر طويلًا، الطفلة تُضرب وتتعثر، لكنها لا تسقط. كل مرة تنهض، عينيها تزدادان صلابة، حتى جاءتها لحظة انقضت فيها كالصاعقة، ووجهت ضربة حاسمة أطاحت بالسيف من يد المحاربة نفسها.


صمتٌ ثقيل خيّم على المكان. لم يتوقع أحد أن يراها تنتصر، ليس مرة، بل ثلاثًا متتالية.


الطفلة وقفت وسط الساحة، صدرها يتنفس بحرارة، عرقها يلمع على جبينها، والسيف مرفوع في يدها. لأول مرة، لم تكن مجرد متدربة بين الجنيات… بل صارت محاربة حقيقية.


لم تعد الانتصارات مجرد لحظات عابرة في ساحة التدريب… صارت كالدم الذي يجري في عروق الطفلة. في كل مرة تُسقط خصمًا أرضًا، كانت تشعر بشيء غريب يتغلغل داخلها، دفء ثقيل، كأن الانتصار نفسه يتحول إلى طاقة خام تندمج بروحها. ومع كل انتصار جديد، كانت خطواتها تصبح أثقل وقعًا، وسيفها أكثر خفة في يديها، وعينيها أكثر بريقًا… بريق محاربة حقيقية.


لم تعد الجنيات المحاربات ينظرن إليها باستعلاء أو شفقة، بل كخصم خطر. بعضهن بدا عليه التردد وهو يدخل الساحة معها. لكن الطفلة لم تتراجع أبدًا، بل كلما انتصرت، رفعت رأسها أعلى، وكأنها تزداد طولًا وهي ما زالت صغيرة.


وفي إحدى الأمسيات، حين اجتمع القزم والجنيات لمبارزة جديدة، وقفت الطفلة في منتصف الساحة، رفعت سيفها وقالت بصوت لم يكن فيه تردد:

ــ "لم أعد أريد نزالًا فرديًا… أريدكن جميعًا."


ساد صمت ثقيل. الجنيات تبادلن نظرات الاستغراب والرفض، لكن الطفلة لم تخفض سيفها. عندها، بإشارة من القزم الذي بدا مضطربًا لكنه عاجز عن الرفض، تقدمت ثلاث جنّيات محاربات دفعة واحدة.


بدأ النزال. الجنيات هاجمنها من جهات مختلفة، لكن الطفلة لم ترهَب. أغمضت عينيها فجأة، كما علمتها الجرادة العمياء. القتال بلا عيون.


التقطت أصوات أقدامهن على الأرض، همسات الهواء حين يقطع السيف مساره، حتى نَفَس خصمها وهي تهجم. تحركت بخفة غريبة، انحنت لتفادي ضربة جاءت من الخلف، ثم استدارت ووجهت سيفها نحو مصدر الاهتزاز على يمينها. ضربة أولى أسقطت سلاح جنية.


صرخة دهشة دوّت في القاعة.


الثانية هاجمتها بغضب، لكن الطفلة التصقت بالأرض، سحبت قدم خصمتها بحركة مباغتة، وأسقطتها في الوحل الذي كان يغطي جزءًا من الساحة. الثالثة وجدت نفسها وحيدة أمام طفلة بعيون مغلقة، تبتسم ابتسامة صغيرة، وتركض نحوها بسرعة لم تكن تتوقعها. سيف الطفلة ارتطم بسيفها، ضغطت بيديها بكل ما أوتيت من قوة، حتى تهاوى السيف من يد الجنية الأخيرة.


سقطت الجنيات الثلاث أرضًا، والساحة امتلأت بصدى أنفاسهن المرهقة، بينما الطفلة وقفت وسطهن، عيناها لا تزالان مغلقتين، والسيف مرفوع أمام صدرها.


حين فتحت عينيها أخيرًا، كان في بؤبؤيهما بريق غامض… خليط من العناد والنشوة، وكأن الانتصارات لم تعد تدريبًا، بل غذاءً حقيقيًا لجسدها وروحها.


الجنيات تراجعن في صمت، والقزم ابتلع ريقه، غير قادر على تفسير ما رآه. أمّا الطفلة، فكانت تعرف في أعماقها أنها لم تعد بحاجة للرحمة… بل للقوة فقط.


حين خبت ضوضاء النزال مع الجنيات المحاربات، عمّ القبو صمت ثقيل، لم يقطعه سوى صدى أنفاس الطفلة المتقطعة. كانت تقف وسط الساحة منتصبة، وعلى شفتيها ابتسامة متعجرفة لا تخطئها العين. لكن من الظلال البعيدة، ارتفع صوت ناعم، عميق، يحمل تهكمًا بارزًا:


ــ "غرور مبكر… لا يليق إلا بمن لم يذق بعد طعم القوة الحقيقية."


من العتمة تقدمت الجنية الأم. كانت أطول قامة من كل الجنيات، على كتفيها وشاح أسود منسوج بخيوط فضية، وفي يديها سيف هائل، يكاد حجمه يوازي جسد الطفلة كله. لمع بريقه كأنه مقطوع من صخرة البرق نفسها.


خطت الأم إلى وسط الساحة، ورفعت السيف بخفة لا تتناسب مع وزنه، ثم أشارت به نحو الطفلة:

ــ "ظننتِ أنكِ بلغتِ المجد؟ أن الانتصار على مدرباتكِ يجعلكِ سيدة بيننا؟" ابتسمت بسخرية، عينها تلمع باحتقار. "القوة ليست في سحق من يدربك، بل في احترام من علمك. أما أنتِ… فما زلتِ تلميذة متمردة."


ارتجفت الطفلة، لكن بدلاً من أن تخفض رأسها كما اعتادت دومًا، عضّت على شفتها وأمسكت سيفها بكلتا يديها. لأول مرة في حياتها، واجهت أمها لا كتلميذة، بل كخصم.

ــ "لن أنحني بعد الآن."


اندفعت بكل قوتها، تقاتل كما لم تقاتل من قبل، جسدها الصغير ينساب بين ضربات السيف الضخم، تستخدم كل ما تعلمته: الانزلاق في الوحل، الوثب على الصخور، تكتيك العين المغلقة. كانت حركاتها سلسلة، متدفقة، كأنها صدى كل منازلة سابقة.


لكن الأم لم تتحرك إلا بابتسامة ساخرة. كانت تتصدى لهجماتها بسهولة، وكأنها تلاعب طفلة بسكين خشبي. وفي لحظة، توقفت، اقتربت منها حتى شعرت الطفلة بأنفاسها على أذنها، وهمست بنبرة باردة:

ــ "أنت ضعيفة… يا فتاة ضعيفة."


كأن الهمس اخترق قلب الطفلة. ارتج جسدها كله، اشتعلت عروقها بنار غريبة، وأغمضت عينيها فجأة. قبضت على سيفها بكل قوتها، وصرخت صرخة مدوية وهي تهوي بضربة واحدة.


ارتطم الحديد بالأرض، فانفجرت الساحة تحت قدميها، واهتز القبو بأكمله ارتجافًا عنيفًا، كأن الأرض نفسها استجابت لغضبها.


توقف الزمن لوهلة. الغبار ملأ الأرجاء، والصدع العميق الذي انشقّ في الأرض بقي شاهدًا على الضربة.


وبين الصمت المهيب الذي تلا الانفجار، أدركت الجنيات جميعًا أن الطفلة لم تعد مجرد متدربة… لقد امتلكت قوة خارقة، قوة غريبة تمنحها مع كل خصم تهزمه جزءًا من قوته.


وهكذا انتهى النزال عند تلك اللحظة… معلّقًا بين دهشة الأم وصخب القوة الجديدة التي استيقظت في قلب ابنتها.


بعد أن هدأ الغبار وتلاشت رجّة القبو، ظلت الجنية الأم واقفة تتأمل الصدع في الأرض بعينين جامدتين. لم تقل كلمة واحدة، لكن ابتسامة ساخرة خبت من وجهها ببطء، وحلّ محلها صمت متأمل. حولها، وقف القزم وبقية الجنيات المحاربات مذهولين من الضربة الأخيرة، كأنهم لا يصدقون أن الطفلة الصغيرة بينهم هي من فجّرت تلك القوة.


ثم فجأة، التفتت الأم نحو الجميع، وصوتها يجلجل بصرامة قاطعة:

ــ "لقد حان الوقت. لم يعد يكفي أن تبقى هذه الفتاة حبيسة القبو وظلال التدريب. ستخرج… وستُختبر أمام أعين المملكة بأسرها."


ارتفع همس الجنيات، وتبادل القزم النظرات الحذرة معهن، لكنه لم يجرؤ على الاعتراض. الأم رفعت سيفها الضخم ولوّحت به في الهواء، فتشتّت الغبار كأن الأوامر صارت واقعًا لا نقاش فيه.


ــ "غدًا، نخرج إلى أرض الجان. سيُفتح باب القصر الكبير، وتبدأ احتفالات المملكة. وستدخل هذه الطفلة، رغم صغرها، مسابقة الشابات المحاربات. أمام الملكة، وأمام كل الأعين."


تراجعت الجنيات في رهبة، لكن أعينهن كانت تشتعل بفضولٍ غامض. أي مصير ينتظر هذه الصغيرة إن تعثرت هناك؟ وأي مكان ستناله إن أثبتت نفسها؟


أما الطفلة، فشعرت لأول مرة أن جدران القبو التي سجنتها لسنوات قد انكسرت. قلبها يخفق بعنف، نصفه خوف ونصفه نشوة. كانت كلمات الأم كالمرآة: تهديدًا واختبارًا في آن واحد.


في تلك الليلة، ظلّت تتقلب على سريرها الحجري، تفكر في الغد. هل ستكون الاحتفالات بداية تحررها، أم بداية سقوطها أمام الجميع؟

لكن شيئًا واحدًا كانت متأكدة منه: أن ما يربطها بالسيف لم يعد تدريبًا، بل مصيرًا.


#اميرة_البحر_القرمزى


                     ٧


لم يكن خروجها من القبو حدثًا عاديًا، بل بدا كما لو أنها تُنتزع من رحمٍ قديمٍ مظلم لتُلقى في عالم آخر لا يشبه شيئًا مما عرفته. خطواتها الأولى فوق درجٍ صخري طويل ارتجفت تحتها، كأن الحجر نفسه يرفض أن تتحرر منه، يئنّ كجسد يفتقد من أثقل عليه سنواتٍ طويلة.


كانت الجنية الأم تسير أمامها بخطى ثابتة، سيفها المعلّق على ظهرها يلمع بضوءٍ بارد. لم تلتفت إليها، لم تمنحها سوى ظهرها المنتصب كالرمح، وكأنها تقول: اتبعيني، أو ابقي هنا إلى الأبد.


حين بلغتا بابًا عظيماً من حديد أسود، محفور فيه وجوه جانٍ متجهمة وعينان من زمرد مطفأ، رفعته الأم بيدها كأن لا ثقل له، فانفتح على مشهدٍ كان أقرب إلى أسطورة.


أرض الجان.


أبخرة بنفسجية تتراقص في الهواء، كأن السماء هنا تنزف ألوانًا غريبة لا تنتمي للشمس ولا للقمر. الأشجار عالية، جذوعها متعرجة تشبه عروقًا بشرية متحجرة، أوراقها فضية تلمع كأنها صفائح من زجاج حيّ. على الأرض، تنبض الزهور بلون أزرق بارد، ينبعث منها عطر يثقل الرأس ويُسكر الحواس، وبينها تركض طيور ذات أجنحة زجاجية، تصدر خفقات صوتها كرنات نايٍ بعيد.


الطفلة لم تدرِ إن كان قلبها يخفق من رهبة الجمال أم من رعبه. كل شيء بدا حيًّا أكثر مما يجب، كأن الأرض تراقبها، وكأن الهواء يبتلع كل خطوة من خطواتها.


تقدمت الأم نحو ممرٍ طُرق بالعشب الأسود، يمتد حتى سفح قصر قديم يطلّ على بحيرة هائلة. كان القصر أشبه بكابوس حجري: جدران شاهقة تكسوها نقوش متآكلة، أبراج ملتوية تعلو كأصابع عملاق ميت، نوافذ زجاجها المعتم يعكس ظلالًا أكثر من أن يعكس ضوءًا. ومع ذلك، كان فيه مهابة طاغية، كأن آلاف الأرواح مرت من هنا وخلّفت همساتها بين أحجاره.


الطفلة شعرت بالبرد حين اقتربت من البحيرة الممتدة خلف القصر. ماؤها ساكن، يعكس السماء المشوهة فوقه، وحوله حقلٌ لا ينتهي من العشب الكثيف الذي يذبل عند الحواف ثم يزهر من جديد عند الوسط، دورة موت وحياة متكررة تبعث على القلق. ومع كل نفس، كانت تستنشق رائحة غريبة تنبعث من جنبات القصر: رائحة خواء، فراغٍ عتيق يشبه العفن لكنه أبرد، كأن القصر يتنفس وحشة منذ ألف عام.


دخلتا البوابة الكبرى. كان الممر الأول مغطى بسجاد طويل بلون الدم القديم، متآكل عند الحواف لكنه لا يزال فخمًا. الجدران مزدانة بلوحات زيتية ضخمة لوجوه جان بملامح متغطرسة، عيونهم مطعمة بأحجار كريمة تتابع الناظر أينما ذهب. بعض اللوحات أظهرت معارك، دماء تتطاير، محاربين يضحكون ببرودٍ وسط الذبح.


الأثاث كان أثقل مما توقعت: كراسٍ ذات مساند عالية من خشب أسود لماع، مطعمة بالعظم، موائد مرصعة بأحجار كهرمانية تحبس داخلها حشرات صغيرة متحجرة، ومصابيح من زجاج أخضر تنبض بلهيب داخلي كأنه قلبٌ حيّ. كل شيء في القصر يوحي بأن الجان لم يبنوه ليعيشوا فيه، بل ليخلّدوا قسوتهم فيه.


وفي وسط القاعة الكبرى، توقفت الأم. التفتت لأول مرة نحو الطفلة، بعينين جامدتين لا تعرفان الدفء. ثم نطقت بصوتٍ جاف:

ــ "حان الوقت أن تحملين اسمًا. لا يمكن أن تدخلي مسابقة المملكة كظل بلا هوية."


سكتت لحظة، حدّقت فيها نظرة طويلة كأنها تنقب في عظامها، ثم قالت:

ــ "سيكون اسمك ليانثرا."


الاسم تدحرج على أرض القاعة كأنه طلسم، له وقعٌ غريب على قلب الطفلة. لم تفهم معناه، لكنه أحاطها مثل قيد لا يُكسر، اسمٌ سيظل يتردد في أرجاء هذه المملكة كلما نطقت به شفتاها.


ثم صفّقت الأم بيدها، فجاء خدم جان بوجوه جامدة يحملون صندوقًا أسود ضخمًا. حين فتحوه، انبعث منه بريق معدني متوهج. كان درعًا، صغيرًا تمامًا على مقاس الطفلة، كأنه صُنع خصيصًا لها منذ زمن بعيد. صفائح مرنة محفورة عليها رموز غامضة تتلألأ بوميضٍ أخضر باهت، كأنها تتنفس مع كل حركة.


ــ "صُنع لكِ هذا الدرع على يد أمهر حدّادي المملكة. ارتديه، ليعرفوا أنكِ لست طفلة عابرة، بل محاربة قادمة من عُمق الظلال."


ارتجفت الطفلة وهي تلمس الدرع البارد، شعرت أنه يلتصق بجسدها كما لو أنه يعرفها قبل أن تعرف نفسها. بدا لها أثقل من عمرها كله، لكنه في الوقت نفسه منحها إحساسًا غريبًا بالقوة، كما لو أن العظام تحت جلدها صارت أصلب.


أمامها، وقفت الأم منتصبة، السيف الضخم يلمع عند كتفها، والظلال تتجمع حول قدميها. كانت ابتسامتها هذه المرة أشد قسوة، ابتسامة من يعرف أنه يزجّ بوليده في عالم لا عودة منه.


الطفلة ــ ليانثرا ــ حدقت في لوحات القاعة من حولها، في الأعين الحجرية التي تراقبها، في السجاد الملطخ بألوان الدم، في الأثاث الذي يحمل رائحة العظم المحترق. شعرت أن القصر كله يستعد لالتهامها.


لكنها رفعت رأسها. لأول مرة، لم تنظر إلى الأرض.


الحياة داخل القصر لم تكن حياة، بل كانت طقسًا طويلًا من الانتظار والامتحانات الخفية.

الجدران نفسها بدت كأنها تراقبها، الحجر الداكن يلمع في الليل مثل عيون مستيقظة. كل زاوية، كل ممر طويل مفروش بالسجاد الأحمر، كان يخفي همسًا أو ظلًا أو خفقة لا تعود لخطواتها.


القزم ظلّ قريبًا منها، يحمل دائمًا تلك الجدية الصارمة التي تخفي ارتباكه كلما دخلت الجنية الأم. كان يتحدث معها بصوتٍ منخفض، يعلّمها كيف تحمل السيف أو كيف تتحكم في وزن جسدها أثناء الحركة. أحيانًا، حين يظن أن لا أحد يسمعهما، يضحك ضحكة قصيرة تنطفئ بسرعة، كأنها خطيئة ارتكبها.


أما الجنيات الصغيرات، فكنّ يراقبنها بعيون حادة، مزيج من الغيرة والفضول. كنّ يعلّمنها أصول المبارزة والرقص العسكري، ويشددن على كل حركة تخطئها. أصابعهن النحيلة مثل شفرات، وألسنتهن كالسياط: كل عثرة تتحول إلى وصمة، كل تعثر يذكرنها به كجرح لا يندمل. لكنها تعلمت أن تنظر إليهن كخصوم لا كمعلمات. كل يوم يزداد الصراع خفيًا بينها وبينهن، كأنها في ميدان حرب لا ينتهي.


وفي قلب هذه المعمعة، كانت الخادمة العجوز.

وجهها مغطى بالتجاعيد مثل خرائط قديمة، عينان غائرتان لكنهما لا تفوّتان شيئًا. كانت تظهر فجأة خلف الأبواب، تحمل صينية طعام غريب: خبز أسود تفوح منه رائحة الحديد، أو حساء أخضر يتصاعد منه بخار كثيف يجعل الرأس يدور. الطفلة لم تستطع أن تقرر إن كانت العجوز تخدمها حقًا أم تراقبها بتكليفٍ من الجنية الأم. وفي بعض الليالي، حين كان القصر ينام، سمعتها تهمس لنفسها بكلمات غامضة، أسماء أو تعاويذ لم تفهمها، كأنها تستدعي أشباحًا قديمة من بين الجدران.


الطفلة ــ ليانثرا ــ بدأت تشعر أن القصر يغرس أنيابه فيها ببطء.

المرايا العتيقة كانت تظهر انعكاسها بشكلٍ مختلف أحيانًا: أطول، أو أكثر قسوة، أو بعيون تتوهج بخضرة غريبة لم تكن عيناها. السجاد الأحمر بدا كأنه يمتص آثار خطواتها، يخزنها في داخله. وحتى اللوحات الزيتية على الجدران، كانت عيونها تزداد حدّة كلما مرّت، كأنها تنتظر سقوطها.


لكنها اعتادت.

كل صباح، كان القزم يأخذها إلى باحة التدريب خلف القصر. هناك، الأرض مغطاة بالرمل الفضي، والهواء يحمل أصوات الطيور الزجاجية. الجنيات يدرّبنها على المبارزة بالسيوف الخشبية أولًا، ثم بالحجرية. تسقط، تنهض، تُجرح، وتواصل. كل سقطة كانت تزيدها صلابة، وكل جرح كان يغذي شيئًا بداخلها لا تفهمه بعد.


وفي المساء، كانت الأم تعود من اجتماعاتها في القصر. لا تكلّمها كثيرًا، فقط نظراتها تكفي لتثقل صدرها. أحيانًا تمرر أصابعها على السيف الكبير المعلّق بجانب العرش، وتبتسم ابتسامة باردة. الطفلة لم تجرؤ على الاقتراب منها، لكنها كانت تحلم بأن تمسك يدها مثل أي أم وابنتها. الحلم ظل حلمًا.


الخادمة العجوز، في إحدى الليالي، ناولتها كأسًا من شراب بنفسجي وقالت:

ــ "اشربي، سيقوّيكِ."

ترددت، لكن عيني العجوز كانتا آمرتين. شربت، وشعرت بحرارة غريبة تسري في عروقها. ومنذ ذلك اليوم، بدأت تلاحظ أن عضلاتها تكبر أسرع، وأن خطواتها أصبحت أثقل وقعًا على الأرض.


الحياة في القصر كانت مثل رقصة خفية بين الحبسة والخوف. كل شيء فيه جميلٌ حتى الألم، مرعب حتى البهجة.


لكن ليانثرا، رغم كل شيء، كانت تكبر. وكانت تدرك أن هذه الجدران السوداء، وهذه الوجوه الجامدة حولها، لا تريد لها إلا أن تتحول إلى شيء آخر، شيء يتجاوز الطفلة التي كانتها.


ليلة الاحتفالات في قصر الجان لم تكن ليلة، بل كانت انفجارًا للألوان والروائح والأصوات.

تبدّل وجه المكان كله: الأروقة المظلمة التي كانت تئنّ بالصمت امتلأت فجأة بالموسيقى. آلات وترية مصنوعة من عظام حيوانات أسطورية صدحت بألحان تلتفّ حول القلوب مثل قيود، والطبول النحاسية دكّت الأرض حتى ارتجفت الأحجار.


في الساحة الكبرى أمام القصر، امتدت موائد طويلة كأنها لا تنتهي. أُقيمت من خشب أزرق يلمع تحت ضوء القمر المزدوج، فوقها أطعمة لم ترَ ليانثرا مثلها من قبل.

أطباق من فواكه تتوهج بلون ذهبي حيّ، إذا اقتربت منها تشمست الحرارة في وجهك. خبز أسود محفوف ببذور لامعة كالجواهر. شرائح لحم من مخلوقات لا تعرفها، تتلألأ عليها قطرات زيت أرجواني، تفوح منها رائحة معدنية كالدم.

أكواب من زجاج أخضر تحوي شرابًا يتبدل لونه مع كل ارتشافة: مرة بنفسجي، مرة أزرق داكن، ومرة أسود كليلة لا قمر فيها.


أما الجان أنفسهم… فكانوا لوحة حية.

من مملكة السهول المتصدعة جاءوا بجلود كالبرونز المتشقق، عيونهم بيضاء تمامًا بلا حدقات، يضعون فوق رؤوسهم تيجانًا من العظام.

ومن مملكة الغابة الصامتة حضرت نساء بجناحين شفافين كأجنحة اليعاسيب، جلودهن تميل إلى الأخضر الكثيف، شعورهن طويلة تنسدل حتى الأرض، تتحرك مع كل نسمة هواء كأنها أعشاب حية.

ومن مملكة الجبال الجليدية ظهر رجال بأجساد ضخمة، جلودهم بيضاء مثل الثلج، وعروقهم تسري زرقاء كالأنهار المتجمدة. عيونهم تلمع كالماس، وصوت ضحكاتهم كالرعد البعيد.

أما من المملكة الغارقة، فقد جاءوا بأجساد زرقاء داكنة، شعور تلمع كحبال من الطحالب، وأصابع طويلة بأغشية شفافة، تفوح منهم رائحة الملح والبحر، ويتحدثون ببطء، كأن الكلمات تسافر عبر الماء.


المئات اجتمعوا، يضحكون، يتجادلون، يتبارون في الاستعراض. بعضهم يغيّر لون جلده كما يشاء، يتلألأ ذهبيًا ثم ينطفئ إلى رمادي في غمضة عين. آخرون يتركون وراءهم أثرًا من الضوء مع كل خطوة، أو عطرًا حادًا يحرق الحلق.


ليانثرا وقفت على أطراف القاعة، درعها يثقل صدرها. شعرت أنها أصغر من أن تبتلعها هذه الجموع.

القزم بجوارها، عيناه تتنقلان بقلق، يحاول أن يخفي انزعاجه من كثافة الألوان والأنفاس والضحكات. أما الجنيات اللواتي درّبنها، فبدون سيوفهنّ بدَون أشد غرورًا، يلتففن في دوائر، يتحدثن ويضحكن بصوت مرتفع، كأنهنّ يتأكدن من أن كل الحاضرين ينظر إليهنّ.


لكن حضور الجنية الأم كان كالنصل في وسط كل هذا الصخب.

وقفت عند العرش الحجري، سيفها على كتفها، نظراتها وحدها كافية لتزرع الصمت حيثما حلّت. كل جان اقترب منها انحنى قليلًا، ثم ابتعد كما لو أن بردًا تسرب إلى عظمه.


ليانثرا لم تستطع أن ترفع عينيها عنها.

كانت تتساءل في سرّها: هل أنا واحدة منهم حقًا؟ أم مجرد دخيلة في عالم لا يخصني؟


الاحتفالات لم تكن سوى مقدمة للمنافسات القادمة، لكن كل حركة، كل كلمة، كل كأس يُرفع في الهواء كان يذكّرها أن هذا العالم لا يرحم، وأنها لن تكون طفلة بعد الآن، بل قطعة على رقعة شطرنج لا مكان فيها للضعفاء.


مع أول ضوء للشمس المزدوجة فوق أرض الجان، كانت ساحة القصر تغلي بالصخب.

جماهير من مختلف الممالك احتشدوا حول المدرجات الحجرية الداكنة، أصواتهم تتداخل مثل هدير بحر، عيونهم تلمع بألوان مختلفة: صفراء كالنحاس، زرقاء كالثلج، حمراء كالجمرة. الهواء نفسه كان ثقيلاً برائحة التوابل المحترقة والشراب المخلوط بأعشاب لا تنمو إلا في أراضٍ مسحورة.


في وسط الساحة، ارتفعت منصات التدريب كجزر من الحجارة السوداء، كل منصة مهيأة لمبارزة. الرمال المفروشة عليها لم تكن رمالًا عادية؛ كانت فضية، تعكس ضوء الشمس حتى بدا المكان كله كأنه يغلي بنارٍ باردة.


الشابات اصطففن عند الحافة، صف طويل من الجنيات المحاربات في كامل زينتهن.

بعضهن يرتدين دروعًا خفيفة من قشور التنين، تلمع كألوان الطيف. أخريات يكتفين بأردية رقيقة تتلألأ خيوطها كأنها منسوجة من دخان القمر.

أعمارهن بدت متقاربة: كلهن في أوج القوة، طويلات، أجسادهن مشدودة كأوتار مشدودة على قوس. العيون حادة، الابتسامات مغرورة.


ثم جاءت هي.


ليانثرا.

الطفلة الصغيرة ذات الجسد النحيل، درعها الفضي يثقلها أكثر مما يحميها.

حين دخلت الساحة، خيّم صمت ثقيل لحظة واحدة، ثم انفجر الجمهور ضاحكًا. أصوات الاستهزاء تساقطت من كل جانب، كأنها وابل حجارة:

ــ "طفلة!"

ــ "هل أضاعوها هنا؟"

ــ "هل ستبارز أم ستبكي؟"


حتى بعض الشابات الجنيات غطين أفواههن ليخفين ضحكاتهن.

المقارنة كانت قاسية: بين أجساد نضجت لتكون آلات حرب، وبين طفلة بالكاد تستطيع حمل سيفها الحجري.


لكنها وقفت.

رغم أن ركبتيها ترتعشان، ورغم أن قلبها يخبط داخل صدرها كطائر مذعور، إلا أنها ثبتت قدميها في الرمال الفضية، عينيها تلمعان كجمرتين صغيرتين.


الجنية الأم كانت تراقب من مقعد مرتفع خلف الساحة، ملامحها قاسية كالصخر. لم تقل كلمة، لم تظهر حتى لمحة إعجاب أو شفقة. فقط تراقب.


القزم كان في الأسفل، يعض على شفته حتى تكاد تنزف.

الجنيات المدربات وقفن إلى جواره، يتبادلن نظرات باردة، بعضهن بدت عليهن الدهشة، أخريات الغضب: كيف تجرؤ هذه الصغيرة على أن تقف بينهن؟


انطلقت الأبواق النحاسية، لتعلن بداية الجولة الأولى.

الطفلة شعرت بثقل كل العيون فوق جسدها. كانت الوحيدة البشرية في هذا العالم، والأصغر بين الشابات، وموضع السخرية والرهان.


لكنها رفعت سيفها، رغم ثقله، ورغم العرق الذي سال من جبينها.


#اميرة_البحر_القرمزى


                      ٨


انطلقت الأبواق النحاسية، معلنة بدء أول نزال.

تقدّمت خصمتها: جنية ذات ملامح كالسكاكين، شعرها الأسود مجدول بخيوط فضية، وعيناها خضراوان كزجاج مسموم. لم تكن طويلة فحسب، بل كانت تتحرك بخفة لا تتناسب مع جسدها الممشوق، كأن كل عصب فيها مشدود على نغمة لا تسمعها إلا هي.


حين التقت عيناها بعيني ليانثرا، لمحت الطفلة بريقًا من المكر.

ابتسامة دقيقة ارتسمت على شفتيها، ابتسامة لا تنذر بخير، بل بمتعة مسبقة، كأنها تعرف بالفعل كيف سينتهي هذا النزال.


ــ "سأجعلك تندمين على صعودك هنا، بشرية صغيرة."

قالتها بصوت مسموع للجميع، فتصاعد الضحك من الجمهور كعاصفة.


الرمال الفضية تحت أقدام ليانثرا كانت تتلألأ ببرود، لكنها شعرت أنها تغرق فيها. قبضت على مقبض سيفها بشدة، وابتلعت ريقها بصعوبة. في تلك اللحظة، لم يكن الخوف هو ما يثقل صدرها، بل الإهانة.


مع الإشارة، اندفعت الجنية أولًا.

كانت ضرباتها سريعة كوميض البرق، كل ضربة تهدف لا إلى القتل، بل إلى الإذلال: جرح سطحي هنا، دفع هناك، خطوة تُسقط ليانثرا أرضًا أمام الجميع.


الجماهير صاحت، بعضها صفق، آخرون قهقهوا، وآخرون بدأوا يرفعون أصوات المراهنات:

ــ "مئة قطعة فضية على سقوط الطفلة خلال دقيقة!"

ــ "ألف على أنها لن تتجاوز ثلاث ضربات!"

ــ "من يراهن أنها ستبكي؟"


كل كلمة وصلت إلى أذنيها كصفعة.


ليانثرا حاولت أن تصد الضربات كما تعلمت، لكنها فوجئت بسرعة لا تشبه أي تدريب.

الهواء نفسه بدا وكأنه ينحاز للجنية، يدفع سيفها نحو جسد الطفلة.

ومع كل عثرة، ازداد سخرية الجمهور، وازداد ثقل المراهنات التي تُلقى ضدها كأحجار.


لكن… في لحظة، وبينما كانت على وشك أن تسقط للمرة الثالثة، تذكرت عين الجرادة المغلقة.

التكتيك الذي بدا غريبًا حين علمتها إياه الجنية الجرادة، تكتيك يقتضي أن تُغلق عينيها لحظة، وتترك جسدها يتذكر بدلاً من عقلها أن يقرر.


أغمضت عينيها.

انحبس صوت الجمهور في أذنيها، وتقلص العالم كله إلى خطوات الجنية الماكرة، أنفاسها، ارتطام أقدامها بالرمال الفضية.

حين فتحت عينيها، كانت الضربة القادمة على وشك أن تهوي نحوها. رفعت سيفها بزاوية حادة، فارتطم المعدن بالمعدن بصوت شراريّ دوّى في الساحة.


الجنية ارتدت خطوة للوراء، ملامحها تلوّنت بالدهشة للحظة.

ضحكات الجمهور انقطعت فجأة، كأنهم لم يصدقوا ما رأوه.


لكن المعركة لم تنتهِ.

ليانثرا الآن في قلبها نار مختلفة، ليست نار غرور، بل نار عناد.

ورغم أن الجروح الصغيرة تنزف على ذراعيها وساقيها، وقلبها يدق بقوة حتى تشعر أنه سيشق صدرها، إلا أنها بدأت ترد الضربات. ليست قوية مثل خصمتها، لكنها باتت دقيقة، حادة، أقرب إلى دفاع يائس يوشك أن ينقلب إلى هجوم.


المراهنات تعالت مرة أخرى، هذه المرة بصوت مرتعش:

ــ "هل يمكن أن تستمر فعلًا؟!"

ــ "لا، ستسقط قريبًا!"

ــ "ربما… ربما تفاجئنا؟"


والجنية الخصم ابتسمت مجددًا، ابتسامة متوترة هذه المرة، كأنها بدأت تفهم أن هذه الطفلة لم تأتِ لتُسقط وتبكي فقط.


ليانثرا قبضت على مقبض سيفها بكل ما أوتيت من قوة، بينما خصمتها، الجنية الماكرة، وقفت بخفة تتراقص على أطراف أصابعها، سيفها الرفيع يلمع كخط من الزجاج المسنون.


انطلقت الخصمة أولًا، سريعة كوميض، وضربتها الأولى كادت أن تصيب كتف ليانثرا لولا أن الأخيرة رفعت سيفها في اللحظة الأخيرة. ارتد الصدى المعدني في القبو العلوي للساحة، فاهتز قلبها مع الصوت.


لم تترك لها الجنية وقتًا للتنفس؛ الضربات توالت، متلاحقة كالسكاكين. ليانثرا تراجعت إلى الوراء، تتعثر بخطواتها، تحاول أن ترفع سيفها لكن قوتها أضعف، وذراعاها ثقيلتان. كل ما تعلمته بدا وكأنه يتبخر أمام سرعة خصمتها.


مع ذلك… لم تسقط.

كانت تتحرك مدفوعة بشيء آخر، ليس مهارة، بل غريزة البقاء، نوع من الصمود الأعمى.


وفي لحظة مفاجئة، بينما كانت الجنية تنقض بضربة سريعة نحو عنقها، انزلقت قدم ليانثرا على الرمل الناعم. جسدها مال إلى الجانب، وسيفها ارتفع عشوائيًا كأنه يبحث عن توازن.

لكن الضربة التي كان يفترض أن تكون سقوطًا، تحولت إلى صدفة قاتلة: نصلها اصطدم بنصل خصمتها بزاوية غير متوقعة، ودفعه بعيدًا، ثم اندفع إلى الأمام ليضرب صدر الجنية بحده غير المسنون.

سقطت الجنية على الأرض، سيفها انزلق بعيدًا، وعيناها اتسعتا بدهشة كاملة.

أما ليانثرا فظلت واقفة، تلهث، لم تصدق أنها لم تهزم فقط، بل انتصرت.

يدها ما زالت ترتجف حول مقبض السيف، قلبها يقرع صدرها بعنف، وعيناها تلتقطان خصمتها وهي تتلوى بضعف، مذهولة أكثر منها مهزومة.

كان النصر قد جاء لا من براعة كاملة، بل من صدفة محضة، ومع ذلك كان نصرًا.


في الليلة التالية، حين خلد الجميع للنوم، جلست ليانثرا وحدها قرب نافذة حجرية تطل على البحيرة المظلمة. العشب المحيط بالقصر يتماوج مع الريح، والظلال تتطاول كأنها مخلوقات صامتة تحرس المكان.


ثم… جاء الصوت.

لم يكن همسًا عاديًا، ولا صرخة واضحة. بل كأنه ارتجاف داخل عظامها، نداء يلتف حول قلبها:


"إلى البحر القرمزي… تعالي إلى البحر القرمزي…"


ارتعدت ليانثرا. نظرت حولها، لا أحد. لا القزم، لا الجنيات، ولا حتى الخادمة العجوز. الصوت لم يصدر من الخارج، بل من مكانٍ بين الواقع والأحلام، كأنه ينساب من فجوة مفتوحة بين العالمين.


كرّر الصوت النداء، أبطأ هذه المرة، أكثر إلحاحًا. البحر القرمزي. لم تسمع بهذا المكان من قبل، ومع ذلك شعرت وكأنها تعرفه… كأن روحها تذكّرت ما لم تعشه يومًا.


ارتجفت أصابعها على حافة النافذة، وأغمضت عينيها لتطرد النداء، لكنه ظل يردد نفسه، موجة بعد أخرى، حتى غلبها النعاس.


---


صبيحة اليوم التالي، لم يكن بانتظارها نداء غامض، بل غضب أمها الجنية.

دخلت عليها في ساحة التدريب، ثوبها الأسود يتطاير خلفها كدخان ثقيل، وعيناها تقدحان ببرق من السخرية والازدراء.


قالت ببرود كالقاطع:

"أداءك كان هزيلًا. كدتِ أن تُقتلي في النزال الأول. كل ما فعلتِه هو مجرد تعثر انتهى بضربة حظ. هل تظنين أن الحظ سيقف معك مرة أخرى؟"


ليانثرا خفضت رأسها، أسنانها تعض شفتها السفلى حتى سال الدم، لكنها لم تجب.


اقتربت الأم أكثر، همست عند أذنها بنبرة حادة:

"في المعركة القادمة… سأراك تُسحقين. لا أحد ينجو مرتين. الاستعداد ليس كافيًا، وأنتِ لستِ مستعدة. موتكِ لن يفاجئني."


ثم استدارت، وتركتها واقفة وسط الساحة، محاطة بنظرات القزم والجنيات. كانت كلماتها أثقل من أي سيف.


ضجّت ساحة القصر بالصخب. الأعلام الملوّنة ارتفعت فوق الأبراج، والجان من كل الممالك تجمّعوا، أصواتهم تتداخل بين هتافات وصفير ورنين أجراس صغيرة يعلقونها في شعورهم وأذيالهم.


ليانثرا وقفت في وسط الساحة، جسدها مشدود، يدها تعرق على مقبض السيف. هذه المرة لم تكن هناك مصادفة تنقذها. خصمتها جنيّة ذات بشرة فضية وشَعر أسود طويل، تحمل سيفًا أعرض بكثير من جسدها الرشيق، وكانت تنظر إلى ليانثرا وكأنها لا ترى أمامها إلا لعبة صغيرة.


قبل أن يبدأ النزال، وبينما كانت الأبواب تُغلق حول الحلبة، التقطت عين ليانثرا شيئًا غريبًا بين الجمهور.

وجهًا واحدًا يختلف عن كل الوجوه.


كان وجهًا عجوزًا، مجعّدًا كقشرة شجرة قديمة، عيناه غائرتان لكنهما تلمعان بلون ناري. وسط الحشد الهائج، بدا ساكنًا، ثابتًا، كأن كل الصخب لا يمسه. رفع يده النحيلة ولوّح إليها، شفاهه تحركت ببطء:


"سوف تنتصرين اليوم يا فتاة… لكن ليس كل يوم."


ارتجف قلبها. لا تدري هل سمعت كلماته في الهواء أم في داخلها، لكنه اختفى فجأة وسط الجموع، كأنه لم يكن موجودًا أصلًا.


---


دوى البوق، وانطلقت الجنيّة الخصمة نحوها.

الضربة الأولى جاءت قوية، حتى إن الأرض تحت قدمي ليانثرا ارتعشت. دفعتها للخلف، والسيف كاد أن يسقط من يدها.


لكن هذه المرة لم تتراجع تمامًا.

تذكرت تدريبات الجرادة الجنية، كيف قاتلت في الظلام بلا عيون، وكيف جعلتها تحمل الصخور حتى تقوى عضلاتها. أغمضت عينيها لحظة قصيرة، ثم فتحتها من جديد، كأنها تقيس الإيقاع لا الحركة.


الجنيّة الخصمة ضحكت بصوت عالٍ، واستدارت بسيفها نحوها في ضربة جانبية قاسية. ليانثرا انخفضت فجأة، الرمال تقفز حولها، ورفعت سيفها من أسفل لأعلى بضربة مفاجئة.


لم تكن الضربة قوية بما يكفي لإسقاط الجنية، لكنها كانت مصادفة دقيقة. نصلها ضرب مفصل ذراع خصمتها في اللحظة التي كانت تفلت فيها قبضتها قليلاً. السيف الفضّي ارتفع عاليًا في الهواء، ثم سقط بعيدًا على الأرض.


خصمتها تجمدت مذهولة، بلا سلاح.

أما ليانثرا، فقد وقفت أمامها، أنفاسها متقطعة، يدها ترتجف حول مقبض سيفها الحجري، لكن النتيجة واضحة.

لقد فازت.

مرة ثانية ودون ان تقتل منافستها أعلن القاضى انتصارها 

غير أن صدى كلمات العجوز ظل يرنّ في أذنها:

"سوف تنتصرين اليوم… لكن ليس كل يوم."


حين حلّ الليل، وغادر الجميع الساحة، جلست ليانثرا في إحدى قاعات القصر الفسيحة، على مقعد خشبي منحوت بأشكال لولبية، ضوء المشاعل يلتمع على جدران الحجر الداكن. كانت لا تزال تشعر بثقل السيف في يدها رغم أنها تركته منذ ساعات.


اقترب القزم منها بخطوات قصيرة، يحمل كأسًا صغيرًا من الشراب العطري وقدّمه لها. نظر إليها بعينين حادتين، وقال بصوت منخفض:

"لقد نجوتِ مرة أخرى… بطريقة لم أتوقعها."


ليانثرا رفعت نظرها نحوه، شفتاها ترتجفان قبل أن تنطق:

"رأيت وجهًا… بين الجمهور."


تجهم القزم: "وجهًا؟ أي وجه؟"


همست: "عجوز. ملامحه… كجذور متيبسة. كان يبتسم لي. ولوّح بيده وقال: سوف تنتصرين اليوم، لكن ليس كل يوم."


ساد الصمت لحظة.

القزم لم يضحك هذه المرة، لم يسخر كما كان يفعل في العادة. بل عبس بجدية مفاجئة، وانحنى قليلًا كأنه يزن الكلمات.


"وأين كان هذا العجوز؟" سأل ببطء.


ليانثرا أطرقت رأسها: "وسط الحشد. لكن حين نظرت ثانية… لم أجده. اختفى كأنه لم يكن موجودًا."


القزم أشاح بوجهه جانبًا، كأنه يخفي شيئًا. ثم جلس إلى جوارها، صوته أكثر خفوتًا:

"الأصوات… والرؤى… لا تأتيكِ عبثًا في أرض الجان. ربما هو نذير، ربما هو وعد. لكن عليكِ أن تتذكري شيئًا واحدًا يا ليانثرا: الحظ وحده لا يبني مقاتلة."


رفعت رأسها بتحدٍ طفولي: "لكنني فزت."


نظر إليها القزم طويلًا، ثم قال وهو يزفر ببطء:

"نعم، فزتِ… ولكن كل فوز يُكلّف ثمنًا. والسؤال ليس إن كنتِ ستنتصرين في المرة القادمة… بل ما الذي ستخسرينه حينها."


بقيت كلماته عالقة في قلبها كحجر ثقيل، إلى جانب ذلك الصوت الغامض الذي لا يزال يردد في أذنها:

"إلى البحر القرمزي…"


تكملة الرواية من هناااااااا


لمتابعة باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كاملة من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

 مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا





تعليقات

التنقل السريع
    close