القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الرابع والثلاثون 34بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

 

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الرابع والثلاثون 34بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات





رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الرابع والثلاثون 34بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



ـ٣٤ـ


~ خيوط حرير !! ~


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ما إن وضعت يدها على مقبض الباب وفتحته، حتى تجمّدت ملامحها في لحظة خاطفة؛ اتّسعت عيناها كأنهما اصطدمتا بمرآة ماضٍ لم ترده، وانسحب الدم من وجهها حتى غدا شاحبًا كقطعة ثلج. 


انعقد صدرها بثقل رهيب، وتيبّست أصابعها على حافة الباب، بينما قلبها يقرع بعنف بين أضلعها. لقد كان هو… والدها. الرجل الذي حاولت أن تنساه، فإذا به يقف أمامها، حاضرًا بكل هيبته وجراحه القديمة، كأن الزمن لم يمحُ شيئًا، بل أعاد فتح الجرح على اتساعه.


ثقل الدهشة كبّل لسانها، حتى غدت عاجزة عن النطق، وكأن الزمن توقف بينهما. ارتسمت على ملامحها انفعالات متشابكة بين حيرة مكبوتة وخوفٍ دفين، فيما كان سالم يرمقها بهيبته الراسخة، وقسمات وجهه التي تحمل وقارًا مألوفًا.


غير أنّ خلف عينيه، حيث يظنّ أنّ القسوة وحدها تسكن، كان يختبئ شوقٌ مضطرب، كسرابٍ يتلألأ في قلبٍ عطِش.


 هو الأب الذي اعتاد أن يُلقي ظلاله الثقيلة على من حوله، يفرض حضوره بالقسوة والصرامة، لكنّ وقوفه أمامها الآن أيقظ فيه إحساسًا لم يعهده منذ زمن. كان يراها كطفلته التي تركها تكبر بعيدًا عن دفئه، وكل جزء فيه يشتاق لأن يمدّ يده إليها، أن يضمّها، أن يهمس باسمها كما لم يفعل من قبل.


لكن كبرياءه، ذلك الدرع الذي صاغه عبر السنين، كبّله، فظل واقفًا بهيبته وشموخه، بينما قلبه يصرخ في صمت.. على عكس ما نطق به :

ـ مش هتقوليلي ادخل ؟!


ترددت أن تخطو أو تتكلم، وصوت قلبها وحده يعلو في أذنيها. وبعد صراع قصير مع ارتباكها، ابتلعت ريقها ببطء، وفتحت الباب أوسع قليلًا، ثم تمتمت بصوت مبحوح يكاد لا يُسمع:

ـ اتفضل ..


دعته الدخول، فيما ظل هو واقفًا لحظةً إضافية، يتأمل عتبة البيت، ثم دلف بخطوات ثابتة ، وما إن وصل إلى غرفة الصالون حتى تفاجأ بولديه، عمر وحسن ! غير أنّ كبرياءه رفض أن يسمح لملامحه أن تبوح بما يختلج صدره.


وقف حسن وقد باغتته الدهشة لوهلة حتى أوشكت أن تُسقط الكلمات من فمه، لكنه أخفى ارتباكه بابتسامة مشدودة متوترة، كمن يحاول استيعاب الموقف على مهل. عيناه راحتا تتفحّصان والدع بحذر، بين فضولٍ مشوب بالخوف، وحذرٍ ممزوجٍ بالسعادة التي لا يعرف سببها بالتحديد.


بينما عمر فشعر كأن الزمن توقف فجأة. عيناه اتسعتا بذهول، وتيبست ملامحه بين صدمة لم يتوقعها ومرارة كامنة في داخله.. ارتجف داخليًا، لكنّه تماسك، مكتفيًا بنظرة حادة صامتة حملت كل التناقضات.


ـ إيه الأخبار ؟! 


قالها سالم وهو يجلس بهدوء ، فتقدم منه حسن وجلس بجواره وهو يتفحصه مليًا ويقول بابتسامة متوترة :

ـ إحنا كويسين يا حج ، إنت كويس ؟! 


نظر إليه والده ، وقال بابتسامة مليئة بالحيوية:

ـ طبعا كويس .. 


أومأ حسن بصمتٍ ثقيل، عيناه معلّقتان بملامح والده لا تفارقه لحظة، كأنما يحاول أن يقرأ خلف قسماته كل ما امتنع عن كشفه. 


أما نسيم، فظلت واقفة كالمشدوهة، تنظر إليه بثباتٍ زائغ، وعيناها تائهتان بين صدمة اللقاء وخوفها المكبوت. لم تتحرّك، ولم ينبس لسانها بكلمة، حتى أدار هو وجهه نحوها، ونبرته الصارمة تخالطها رجفة خفية وهو يقول:

ـ واقفة ليه يا نسيم؟!


لكنها ظلت تحدق فيه بشرودٍ عميق، كأن صوتَه لم يبلغ سمعها أصلًا، غارقة في دوامةٍ من الذكريات والوجع. لم تستوعب بعد أن الرجل الذي أقنعت نفسها طويلًا أنها لن تراه مجددًا، يجلس الآن أمامها، ماثلًا بكل هيبته التي لم يخفت بريقها، وبذات الصرامة والجبروت اللذين كانا يومًا سياجًا يحجبان عنها مشاعره الدفينة.


حين طال شرودها تدخّل حسن ليكسر ذلك الصمت المربك قائلًا بابتسامة مترددة:

ـ أكيد فرحانة إننا كلنا بنزورها في بيتها لأول مرة .. مش كدا يا نوسه ؟!


فتحرّكت نسيم عندها كمن استيقظ من غيبوبة، واتسعت عيناها بارتباك وهي تخفض رأسها قليلًا محاولةً أن تُخفي ارتجاف أناملها.. ثم أومأت وإن كانت لم تسمع ما قاله حسن أساسًا، وتمتمت بخفوت :

ـ حضرتك تشرب إيه ؟!


نظر إليها والدها بهدوء، ثم قال :

ـ اعمليلي قهوة .


أومأت بصمت، ثم استدارت نحو المطبخ بخطوات متعثرة، كأن الأرض لم تعد ثابتة تحت قدميها. كانت تتحرك بتيهٍ واضح، تصطدم بطرف الكرسي تارة، وبحافة الطاولة تارة أخرى، دون أن تنتبه لما تفعل. عيناها زائغتان، تتنقلان بين الجدران والأشياء من حولها كمن يبحث عن يقينٍ يثبت أنه لا يحلم، بينما قلبها يضجّ بصدمة كبيرة، وذهنها يسبح في غيومٍ من الذهول والارتباك.


مدّت نسيم يدها نحو ماكينة القهوة ببطء، أصابعها ترتجف وكأنها تتحسس شيئًا غريبًا لأول مرة. ضغطت الزر بعشوائية، فانطلق صوت الماكينة يعلو في أرجاء المطبخ، لكنه بدا في أذنها أشبه بطنينٍ بعيد، لا يبدد شرودها ولا يخفف من ارتباكها .


كانت تحاول أن تُثبّت نظرها على أي شيء مادي أمامها؛ فقط لتتشبث بالواقع فلا تجرفها دوامة الصور والذكريات التي تنهال عليها بلا رحمة.


لكن، ورغمًا عنها، تسلّل إلى ذهنها ماضيه بكل ثقله؛ قسوته التي جرحتها، ظلمه الذي سحق طفولتها، ونظراته المخيفة التي طالما أرعبتها. نظرات لم تستطع أن تمحو أثرها مهما طال الزمن.


حين أصبحت القهوة جاهزة، أفرغتها نسيم في الفنجان بحذرٍ شديد، حتى بدا كأنها تصب ذكرياتها وارتجاف قلبها مع كل قطرة، ثم التقطت الفنجان بيديها المرتعشتين، واستدارت ببطء وهي تتأهب لتخطو نحو الصالون حيث ينتظر.


دلفت نسيم والفنجان بين يديها، حتى إذا ما اقتربت منه، ارتفعت عيناها على استحياء لتلتقي بعينيه. لحظة الصدام تلك كانت كافية لتهز كيانها؛ عيناه كما عهدتهما: صارمتان، مهيبتان، تحملان صدى القسوة القديمة، لكن خلفهما بريق غامض لم تفهمه… بريق اشتياقٍ مكتوم، مضطرب، يتخفّى وراء الجبروت.


مدّت يدها تقدم له الفنجان، وفي قلبها ارتباك لم تستطع إخفاءه، بينما هو التقط الفنجان بثباتٍ متعمد، كأنه لا يريد أن يفضح ارتعاشة شعوره أو يترك مجالًا لضعفه أن يظهر.


عادت لتجلس وهي تحاول تمالك نفسها، لكن نظراتها سرحت للحظة نحو أخويها، كأنها استيقظت فجأة على وجودهما، ثم تمتمت بتوتر:

ـ أنا آسفة… نسيت العصير.


هَمَّت بالنهوض من جديد، غير أن حسن مد يده ليوقفها برفق، ونظر إليها بعطف وقد قرأ ما تعانيه في ملامحها الشاحبة وقال بصوت حانٍ:

ـ لا، مش ضروري يا حبيبتي… إحنا شوية وهنمشي.


لكنها لم تستطع موافقته، فأصرّت ونهضت سريعًا متجهة إلى المطبخ، كأنها تبحث عن مهرب قصير، وعن فرصة لتستعيد توازنها. اندفعت تفتح صنبور المياه وتغسل وجهها بعجلة، محاولة أن تطرد الصدمة والقلق الذي ينهشها، ثم التقطت صينية وضعت عليها كوبين العصير وعادت بخطوات مرتبكة.


في نفس اللحظة، كان عمر يراقب الموقف ببرودٍ ظاهري يخفي قلقه العميق، أخرج هاتفه بهدوء، وأرسل رسالة سريعة إلى نغم كتب فيها:

ـ بلاش تيجي عند نسيم لأن سالم هنا .


ثم أعاد الهاتف إلى جيبه ببطء، محاولًا أن يبدو متماسكًا، لكن خلف ملامحه الصلبة كان القلق يتآكل داخله. فكل ما شغل باله في تلك اللحظة هو أن نغم قد لا ترى رسالته في الوقت المناسب، فتأتي فجأة إلى بيت نسيم، لتصطدم بوجود سالم.


كانت الفكرة وحدها كفيلة أن تشعل صدره بالاضطراب: أن ترى نغم أباه.. بلا تمهيد، وبلا استعداد، فتظن أن الأمر فخٌ مدبَّر، أو مواجهة متعمدة أعدّها هو وحسن مع نسيم، ليحشروها في زاوية لا مهرب منها.


ازدرد ريقه في صمت، وعيناه تراقبان الباب بترقّبٍ متوتر، كأنه يتمنى لو امتلك القدرة أن يغلق الطريق أمام أي طارق حتى ينقضي هذا اللقاء.


رفع سالم الفنجان إلى شفتيه، تذوّق رشفة صغيرة ببطء، ثم أمال رأسه قليلًا وكأن لسانه التقط شيئًا مغايرًا. أعاد نظره إلى نسيم بثبات وقال بصوته الرزين الممزوج بحدّة مألوفة:

ـ القهوة دي مش معمولة في الكنكة … طعمها غريب.


تجمّدت ملامحها للحظة، لم تعرف إن كان تعليقه ملاحظة عابرة أم محاولة مبطّنة لفتح حديث.. فأومأت وقالت بارتباك : 

ـ أيوة .. معلش مكنتش أعرف انك مش بتحبها غير في الكنكة .


ونهضت وهي تقول :

ـ هعمل لك غيرها .


ولكنه استوقفها بإشارة من يده، وحركة حاسمة تنم عن سلطةٍ ما زالت تسكنه رغم كل شيء، وقال بصوته الجهوري:

ـ ملوش داعي… اقعدي، أنا جاي أتكلم معاكي في كلمتين.


تجمدت في مكانها، وحانت منها التفاتة سريعة نحو عمر وحسن، عيناها تبرق كمن يستغيث في صمت، تبحث عن سندٍ، عن كلمةٍ تطمئنها أو إشارة تخفف من وطأة الموقف.


جلست نسيم متحفزة، كتفيها مشدودان وعيناها ترقبانه بترقب متوجس، بينما هو يرمقها بصمتٍ ثقيل قبل أن يقطع المسافة بينهما بكلماته الجافة:

ـ أنا شفت الفيديو بتاع البطولة اللي كنتي فيها مع جوزك… لما كان بيسلمك الدرع مكانه وقدمك على إنك نسيم الدالي. وانتي كنتي واقفة جنبه مبتسمة وسعيدة، وماخدتيش أي رد فعل… وكأن الموضوع عجبك.


تسارعت أنفاسها لوهلة، تفاجأت أنه يفتح معها أمرًا كهذا، شيء ظنت أنه مرّ دون أن يثير اهتمامه، لكنها تماسكت وأجابت بصوتٍ حاولت أن تغلّفه برباطة الجأش:

ـ الموضوع أبسط من كده… كل الحكاية إنها عادات وتقاليد البلد اللي كنا فيها. والبلاد الأجنبية بصفة عامة.. هناك الزوجة دايمًا بتتقدم بإسم جوزها… فمش شايفة إن كون عاصم قدمني بإسمه فيها إهانة ليا أو انتقاص من قدري بأي شكل.


طالعها سالم بثبات ظاهري، وللحظة اتسعت عيناه بدهشة خفية لم يستطع إخفاءها تمامًا؛ لم يتوقع منها ردًا بهذا الشكل، بل لم يتوقع ردًا على الإطلاق. فقد اعتاد، على مرّ السنين، أن يرى نسيم صامتة، خانعة، كأن لا صوت لها ولا حقّ في كلمة، تمامًا كما اعتاد أن يفرض عليها.


و صدمهُ أنها الآن تجلس أمامه تردّ بوضوحٍ وثبات، حتى وإن كان صوتها يتخلله ارتعاش خفيف. لكنه شعر وكأنه يواجه نسخة جديدة منها لم يعرفها من قبل، نسخة لم يعد الصمت يحكمها.


لكن خوفه من أن يظهر ارتباكه دفعه لأن يعيد ملامحه سريعًا إلى جمودها القديم، شدّ على الفنجان بين يديه، وأطرق للحظة يخفي ارتباكه، ثم رفع بصره إليها مجددًا محاولًا أن يستعيد زمام الموقف بصرامة صوته.. وقال :

ـ انتي شايفاها عادات وتقاليد.. لكن في الواقع هو مش حاسبها كده.. البيه كان عارف إني أكيد هشوف الخبر ومتعمد يضايقني وكأنه بيطلع لي لسانه وبيقولي أهو.. خدتها منك ببساطة .


قطبت نسيم حاجبيها بعزمٍ لا يخلو من التعجب، ثم ردّت بصوت ثابت وحاسم:


ـ مش صحيح.. أنا مش ملك حد.. أنا ملك نفسي وبس. ده أولًا. أما ثانيًا، فأنا واعية جدًا، ولا يمكن أسمح لحد، مهما كان، يلعب بيا أو يستغلني… لا عاصم ولا غير عاصم.


ختمت كلماتها الأخيرة بنظرة واثقة اخترقت سكون الغرفة، كأنها وضعت حدًا فاصلاً بين ماضيها وصورتها الجديدة.


ساد الصمت لبرهة، وفيه ارتسمت على الوجوه معانٍ متباينة: حسن كان يتأملها بإعجاب صادق، يراها بكامل وعيها وجرأتها، متأثرًا بقوة ردّها وصياغتها الواثقة.


أما عمر فرمقها بدهشة عميقة، مصعوقًا من تحوّل أخته التي قيدها الصمت طويلًا، فإذا بها الآن تتحدث بحرية وطلاقة كأنها كسرت قيدًا عمره سنوات.


أما سالم فجلس صامتًا للحظة، عيناه تراقبان نسيم بعينٍ ثاقبة، لكن داخله كان فوضى لا تهدأ. قلبه يخفق بسرعة، كأن كل السنوات اللي اعتاد فيها على صمتها انفجرت فجأة أمامه.


شعر بالصدمة تتسلل إلى عقله: لم يتوقع أبدًا أن يسمع صوت تمردها بهذه القوة، لم يكن مستعدًا لمواجهة امرأة تعرف نفسها، تحدد حدودها، وتقف بثبات أمامه.


داخل صدره تصارعت مشاعر متناقضة: الخوف من فقدان السيطرة عليها، الغضب المكبوت من جرأتها، والارتباك لأنه غير قادر على إيجاد رد فعل مناسب أمام حسن وعمر.


أحس بالإهانة تخترق كبرياءه، كأن سلطته التي اعتاد أن يمليها على حياتها تنهار أمامه، بينما هو مضطر أن يحبس غضبه لئلا يكشف ضعفًا لم يعتد أن يظهره.


وعقله، رغم التوتر، بدأ يبحث عن خطة، يختلط فيها التفكير بالحذر والمكائد: كيف يمكنه أن يعيدها تحت سيطرته؟ هل بالترهيب، أم بالعاطفة المزيفة التي اعتاد أن يستخدمها؟


حين شعر حسن بتوتر الأجواء وتصاعد المواجهة بينهم، قرر أن يخفف من حدة التوتر بطريقته المعتادة، فابتسم بلطف وقال بصوت هادئ:

ـ خلاص يا جماعة، اللي حصل حصل… أهم حاجة يا نسيم إنك اتبسطتي مع جوزك اليومين دول.


أومأت وهي ترمق والدها بعيون تحمل معنى أعمق، وقالت بنبرة مفهومة ومليئة بالدلالة:

ـ أنا عمري ما كنت مبسوطة غير اليومين دول أصلا.


ضيق سالم عينيه للحظة، وكأن كلماتها قد أصابت صميم شعوره، فارتجف شيء داخله بين الغضب والحزن، وحاول أن يحافظ على هيبته، مشدودًا على مقعده، وكأنه يبحث عن ثبات وسط عاصفة مشاعره.


نهض حسن، وغمز لعمر لينهض بدوره، ثم التفت إلى نسيم، وضم كتفها بذراعه بحنو يفرض نفسه على مشاعره حين يراها، وقال مبتسما:

ـ إحنا هنمشي لأننا ورانا مشوار مهم. ادعيلي… بجهز لافتتاح أكبر مزرعة خيول فيكي يا مصر… وأوعدك، أول فرس من إنتاج المزرعة هيكون هدية مني ليكي.


اتسعت ابتسامتها رغمًا عنها، وظلت تحدق فيه، شاعرة بسعادة من نوع خاص لم تعهدها من قبل… لم يكن حنانه مجرد شعور عابر، بل كان شعورًا صادقًا ينبع من قلبه، وصل إلى قلبها بنفس الصدق، فأغمرها دفء أخوي تشتاقه كثيرا .


في تلك اللحظة، شعرت نسيم برغبة قوية في أن تبادر هي أيضًا في التعبير عن مشاعرها. فاقتربت منه بخطوات حانية، وضمّته هي هذه المرة وهي تودعه، كأنها تريد أن تُظهر له دفء قلبها واهتمامها الصادق قبل أن يفترقا.


تفاجأ حسن في البداية بعفوية حركة نسيم، فلم يتوقع أبدًا أن تبادر هي بهذا الحنان، فارتسمت على وجهه ابتسامة صافية، وامتلأ قلبه بالفرح. كانت عينيه تتلألأ بالسعادة، وملامحه تعكس دهشة ممتزجة بالسرور، وكأن خطوة بسيطة من أخته استطاعت أن تذيب قسوة الماضي اللعين كله؛ فتدفق في صدره شعور دافئ بالارتياح والسعادة الغامرة.


اقترب عمر بدوره، عانقها وهمس إليها مازحًا :

ـ نسيبك بقا تنطلقي مع قفصين التوت والبرتقان اللي جوه دول .. 


ابتسمت بخفة ، فنظر إليها حسن وقال :

ـ لو احتاجتي أي حاجه في أي وقت كلمينا .. اتفقنا ؟


أومأت وهي تنظر إليهما بسعادة غامرة وقالت:

ـ ربنا ما يحرمني منكم .


ربّت كلاهما على كتفها برفق وحنان، فيما ظلّت نسيم واقفة بينهما، تشعر بالدفء والطمأنينة يملأ قلبها، وكأن لحظة المحبة هذه قد مسحت عن صدرها كل ما حملته من قلق وشجن.


في تلك اللحظة، كان سالم ينظر إليهم بارتياح، وملامحه الصارمة ترتعش قليلًا. 


وقلبه، المعتاد على الصرامة والسيطرة، بدأ يلين أمام دفء أولاده ومحبتهم، شعور بالحنين والدهشة والذنب يختلط بداخله، وكأن سنوات القسوة كلها تتراجع أمام لحظة واحدة من الحب الحقيقي.


جذبه صوت حسن قائلا :

ـ يلا بينا يا حج ؟! أنا بقول تيجي معانا نشوف المزرعة .. !


فأومأ سالم ونهض، ثم سار بخطوات راسخة، والثلاثة يتبعونه، تتناوب النظرات بينهم بحذر وارتباك. وصلوا إلى الباب، فتوقف، والتفت نحو نسيم بعينين ثابتتين، ثم ارتسمت على طرف شفتيه ابتسامة خافتة، نادرة، ومدّ يده برفق ليربت على وجنتها بحنان فاجأها، وقال:

ـ خلي بالك من نفسك..


حدقت فيه نسيم، وكأن الهواء قد تجمّد حولها؛ لم ترمش، لم تلتقط أنفاسها، واستمرت في الصمت لدقيقة كاملة، مذهولة أمام هذا التلاقي غير المتوقع بين الحنان والقسوة التي اعتادت عليها منه طوال حياتها. 


لم ينتظر سالم رد، فتقدّم وغادر المنزل بهدوء، تاركًا نسيم في حالة من الذهول الممتد. بقيت واقفة، عيونها لا تزال مذهولة، بينما وقف أخويها، يتبادلان النظرات الصامتة، ممزوجة بالشفقه والمواساة، يراقبان حالتها بعناية، وهم يدركون تمامًا حجم الصدمة التي تمر بها، ودعاها بنظرات داعمة، على وعد بلقاء آخر في وقت لاحق.


بعد أن أغلقت الباب خلفهم، بدأت حالة الذهول التي استبدّت بنسيم تتلاشى تدريجيًا، حتى انفجرت بالبكاء المرير، غارقة في مشاعر متشابكة لم تستطع فهمها أو تفسيرها. لم تعد تدرك كيف حدث هذا التحوّل المفاجئ، ولماذا وجدت في تصرفه هذا الحنان والدفء الذي افتقدته طوال عمرها.


شعرت بارتياح لم تعهده من قبل، لمس في قلبها شيئًا لطالما احتاجت إليه، ومع ذلك لم تستطع محو آثار الجمود والجحود والقسوة الذي شهدته عليه سنوات طويلة.


غمرتها الحيرة والاضطراب، ولم تجد متنفسًا لمشاعرها سوى الاتصال بعاصم، لتبوح له بأنها بحاجة إليه، كمن يبحث عن مرساة أمان وسط بحر من العواطف المتضاربة.


༺═────────────────═༻


جلس عاصم في مكتبه الواسع، تحيط به رفوف الملفات المرتبة بدقّة، وأمام عينيه شاشة الحاسوب المليئة بالجداول والتقارير. كان الصمت يلف المكان، فلا يُسمع سوى صوت تقليب أوراقه بين الحين والآخر، وكأن أسبوع الانقطاع لم يترك فيه أثرًا، فقد عاد بتركيز ثابت وعزيمة لا يداخلها اضطراب. ملامحه جامدة، ونظراته حادة تتنقل بين الأرقام وكأنها تخضع لتحقيقٍ صارم.


وفي تلك اللحظة، انفتح الباب بهدوء، ودخل رشيد مدير أعماله، يحمل ملفًا ضخمًا بين يديه. وقف أمام المكتب قائلاً:

ـ حمدالله على السلامه يا عاصم.. نورت مكتبك من جديد 


رفع عاصم بصره نحوه وأومأ دون أن يترك قلمه من يده، وقال:

ـ الله يسلمك يا رشيد، ها قل لي…. ايه اللي حصل الأسبوعين اللي أنا غبتهم ؟!


فأردف رشيد بنبرة عملية وقال وهو يمد نحوه ملف:

ـ  في بعض المستجدات اللي لازم تاخد خبر بيها.. أولا.. خلال فترة غيابك لجنة الاستشاريين اجتمعوا مع فريق التصميم في المشروع الجديد وطلبوا تعديلات على الأساسات. ثانيا ، قسم التنفيذ بعت تقرير عن تأخر توريد الحديد للمشروع الأخير بسبب مشاكل في النقل.. وأخر حاجة .. في مستثمرين خليجيين أبدوا اهتمامهم إنهم يدخلوا معانا كشركاء في مشروع العاصمة الجديدة، وعايزين يقابلوك قبل آخر الشهر .


ظل عاصم يستمع في صمت، يدوّن ملاحظاته بخطٍ واضح، دون أن يعلو وجهه أي تعبير. وحين انتهى رشيد، أغلق عاصم الملف أمامه ببطء وقال بهدوءٍ لا يخلو من الحزم:

ـ تمام.. ركزوا أولا على مشكلة أزمة الحديد دي، وبعدين هاتلي كل التفاصيل عن الشراكة الخليجية دي وأنا هتولى كل شيء بنفسي.


أومأ رشيد ثم غادر المكتب، وما إن خلا المكان حتى وقع بصر عاصم على هاتفه يضج بسيلٍ من المكالمات الفائتة من نسيم.


تجمد لوهلة، ثم نهض واقفًا وقد تسلّل القلق إلى ملامحه، وأعاد الاتصال بها بخطوات متوترة، يساوره الخوف أن يكون قد أصابها مكروه.


وما إن سمع صوتها يجيبه حتى زفر أنفاسه الثقيلة بارتياح وقال بصوتٍ ملهوف:

ـ نسيم.  انتي كويسة ؟!


ساد صمت قصير قبل أن ينفجر صوتها عبر الهاتف، مرتجفًا ومختنقًا بالدموع:

ـ لأ أنا مش كويسة.. عاصم أنا محتاجالك.


تجمد عاصم في مكانه، قلبه كاد يخلع صدره، وما إن وقعت الكلمة في أذنه حتى لم يتردّد لحظة واحدة؛ ترك أوراقه مبعثرة على المكتب، ولم يُبالِ باجتماعاته ولا أعماله. كل ما فكر فيه حينها هو الوصول إليها.


قاد سيارته بسرعةٍ لم يعتدها، حتى وصل البيت، وما إن فتح الباب حتى فوجئ بها تندفع نحوه بكل قوتها، ترتمي بين ذراعيه.


شدّها إليه بلهفةٍ عارمة، وأحاطها بذراعيه كأنما يخشى أن تفلت منه. غمرها بالقبلات، يقبّل جبهتها وخدّيها وشَعرها بعنفوان الاشتياق، وهو يهمس في أذنها بولهٍ لا تخطئه.


أما هي، فما إن استقرت بين ذراعيه حتى انفجرت بالبكاء، وكأن كل ما كانت تحاول كبته طيلة الأيام الماضية قد تحرر دفعة واحدة. كانت دموعها تنهمر بغزارة على كتفه، وصوتها يتهدّج وهي تردد:

ـ عاصم أنا محتاجالك .. اوعى تسيبني أرجوك .


كانت تشعر في تلك اللحظة أنها أخيرًا وجدت مأمنها بعد دوامة خوف وحيرة، كأن حضنه وحده يملك أن يوقف ارتجافها الداخلي. وبرغم محاولاتها السابقة للتماسك، استسلمت تمامًا لدفئه، تشعر أن قلبها عاد ليخفق بنبضٍ مطمئن بعدما كاد يتوقف من ثقل صدمتها.


ولمّا بدأت أنفاسها تهدأ شيئًا فشيئًا بين ذراعيه، مسح عاصم دموعها بكفّيه، ثم نظر إليها بعينين يملؤهما القلق وسألها بصوت خافت:

ـ نسيم.. ممكن بقا تفهميني مالك ؟! إيه اللي حصل  وصلك لكده ؟!


ارتجفت نظراتها وهي تحدّق في عينيه، والفزع يشتعل على ملامحها، ثم قالت بصوت متقطّع:

ـ كان هنا…


تجمّد عاصم، وانحنى بجسده نحوها مبهوتًا وهو يسأل بلهفة :

ـ مين اللي كان هنا يا نسيم؟


شهقت كأنها تُخرج سرًا أثقل صدرها وقالت:

ـ هو… سالم مرسال!


لم يصدق أذنيه، حدّق فيها بعينين متسعتين، وانسحب الدم من وجهه، حتى شعر ببرودة تسري في أوصاله. للحظة عجز عن الكلام، ثم ضغط أسنانه بقوة كمن يحاول أن يمنع نفسه من الانفجار، وهو يتمتم بغلّ مكتوم:

ـ سالم كان هنا ؟!!… في بيتي ؟!!


ارتج جسده غضبًا، كأن صاعقة نزلت فوق رأسه. ترددت أنفاسه سريعة ثقيلة، والضيق كان يأكل صدره أكلاً. رفع يده إلى جبينه وضغط عليه بعنف، فيما عيناه تلتمعان بذكريات أخيه... فنظر إليها بحدة، وصوته خرج كالرصاص:

ـ إيه اللي جابه هنا ؟! اتكلمي !!


كانت عيناه تقدحان شررًا، وملامحه تنطق بالغضب المرير، في حين هي انكمشت مكانها، تحاول أن تجمع شتاتها لتجيبه، والدموع تترقرق في عينيها، بينما هو ظل واقفًا أمامها كبركان على وشك الانفجار، بينه وبين الجنون شعرة.


فقالت وهي تبكي :

ـ أنا اتفاجئت بيه، لقيته فجأة جايلي وبيتكلم معايا بطريقة..


سكتت نسيم، شفتيها ترتجفان وهي تبحث في ذهنها عن كلمات تصف ما جرى، لكن العبارات خانتها، كل ما علق في ذهنها كان ذاك التناقض المرعب بين قسوةٍ ألفتها منه وحنانٍ غريب باغتها فجأة. رفعت عينيها إلى عاصم بخواء مرتبك، ثم قالت بصوت مبحوح:

ـ أنا… أنا مش فاهمة… النهارده حسّيت منه بحاجات عمري ما شُفتها قبل كده… كأنه مش هو… كأنه حد تاني!


ارتعشت يدها وهي تضعها على صدرها، كأنها تحاول أن تُهدّئ ضرباته المتسارعة، وأردفت في لهاثٍ مخنوق:

ـ كان قاسي طول عمره، ما عرفش غير الجمود والجبروت والظلم.. عمره ما قاللي كلمة حلوة، عمره ما حضني ولا طبطب عليا.. بس النهارده… طبطب عليا وقال لي "خلي بالك من نفسك" ! أنا مش قادرة أستوعب، ولا قادرة أصدق !!


ظلت تحدّق في الفراغ بعينين تائهتين، كأنها غارقة في لغزٍ لا تجد له مخرجًا، فيما ظلّ عاصم يرمقها بشرود وقد ارتسم التوتر على ملامحه، وكل كلمة خرجت من فمها عن أبيها كانت كخنجر يُغرس في صدره.


 أحسّ بضيقٍ خانق، وكأن ما بناه معها بجهدٍ وعناءٍ مهدّد أن يتهاوى في لحظة. تلاحقت أنفاسه، وانعكس الغضب في نظراته التي لم تستطع أن تخفي اضطراب قلبه. في داخله ثار رفضٌ قاطع، 


رفض أن يتركها تعود إلى دوامة الماضي التي أفلتت منها بشق الأنفس. لقد انتزعها من براثن ذلك الأب القاسي، ولن يسمح بأن يعود ليسرقها منه من جديد.


لذا قال بصوت حاد :

ـ وطبعا جاي يعمل الشويتين دول علشان يكسبك في صفه من جديد ، وأكيد أنا مش محتاج أقوللك إنه كداب وممثل بارع ومش هينفع تصدقيه .


نظرت إليه نسيم بغضب واستنكار، وارتفع حاجباها بدهشة ممزوجة بالغضب، واتسعت عيناها وهي تحدق فيه وكأن كلماته أصابتها بطعنة غير متوقعة. شعرت بحرارة تسري في دمها، فكيف له أن يتحدث عن أبيها بهذه الفجاجة أمامها؟ صحيح أنها تعلم في قرارة نفسها أنه محق في كراهيته له، وأن ماضي والدها ملطخ بما لا يمكن إنكاره، لكن ذلك لا يعطيه الحق أن يهينه على مسمعٍ منها، ولا أن يجرّدها من أضعف خيط يربطها به كابنة. 


كان الصراع يتأجج في داخلها؛ بين عقلٍ يصدّق عاصم وقلبٍ يرفض أن يرى والدها من خلال كلماته القاسية فقط.


أما عاصم، حين أبصر ارتباكها يتسلّل إلى قسمات وجهها، شعر وكأن الأرض التي استمات طويلًا ليُحكم قبضته عليها بدأت تنسحب من تحت قدميه. ضاقت أنفاسه وهو يحدق في عينيها، فرأى فيهما بقايا حيرةٍ كان يظن أنّه وأدها إلى الأبد. تسلّل الغضب إلى صدره، غضبٌ ممزوج بمرارة الخذلان، إذ أيقن أنّ زيارة والدها قد بعثت من جديد أشباح التردّد التي بذل كل جهده ليمحوها.


كان يودّ أن يُخفي اضطرابه، أن يُبقي على ملامحه صلدةً لا يخرقها شيء، غير أنّ قسماته أفلتت منه، فانقبض فكه بقسوة، وتصلّبت نظراته كمن يوشك أن يثور. 


داخله كان صراعًا ضاريًا: بين رغبته في أن يمدّ يده فيطوّقها بحماية لا فكاك منها، وبين نزعةٍ عاصفةٍ تحثّه على اجتثاث كل خيطٍ يربطها بذاك الأب الذي يراه غريمه الأول.


وقال بصوتٍ غاضب :

ـ مالك ؟! أكيد انتي مش غبية لدرجة إنه يضحك عليكي بمجرد ما يشوفك، أكيد مش هتنسي كل اللي عمله فيكي لمجرد إنه جه طبطب عليكي وقاللك خلي بالك من نفسك.. 


ثم صاح غاضبا :

ـ ساكتة ليه…. اتكلمي !!!! 


نظرت إليه بحدة، وقد أذهلها صوته المرتفع، لكنّها تماسكت وأجابت بصوت هادئ ينضح بالتحدي:

ـ حتى لو نسيت.. إيه المانع؟!


كان وقع كلماتها على عاصم كصفعةٍ غير متوقّعة؛ إذ أحسّ أنّ الأرض تميد تحت قدميه، وأنّ الجدار الذي شيّده حولها بدأ يتصدّع فجأة. عيناه اتسعتا بدهشة ممزوجة بالغضب، وكأنّه لم يصدّق أن يخرج منها مثل هذا الجواب .. وقال بصوت مفعم بالغضب والخذلان:

ـ المانع ؟! أنا أقولك إيه المانع. المانع إنه من صغره بيتعامل معاكي على انك نكرة.. عشتي حياتك كلها مع ايقاف التنفيذ ، ممنوع تخرجي، ممنوع تتكلمي، ممنوع تعترضي.. حطك في ملجأ ورماكي في مدرسة داخلي ، وبعدها قتل حبيبك قدام عينيكي.. ويا ريتها جت على قد كده… ده كان هيغصبك تتجوزي واحد انتي مش عايزاه.. وانتحرتي و لولا لطف ربنا كان زمانك ميتة !


حدقت فيه نسيم بعيونٍ تفيض بالدموع، وكأنّ الكلمات اختنقت في حنجرتها، فتلعثمت أولًا ثم سكتت، تبحث عن ملجأ للكذب الذي طلبه منها. لكنّ الحقيقة، مهما حاولت دفنها، خرجت من فمها هامسةً بلا قناع:

ـ ما أقدرش أقول غير كده… مش هكذب عليك ولا على نفسي .. أنا شفت منه قسوة محدش شافها، لكن لما شفته حسّيت بإحساس أنا ما عرفتوش قبل كده.. إحساس أنا مش عارفة أكرهه.. أنا حاسة إنه ...


صمتت تحاول إيجاد كلاما مناسبا، بينما هو يحدق فيها بصدمة لم تلبث أن ازدادت عندما قالت:

ـ حاسة إنه اتغير .. 


انهارت ملامح عاصم كما لو أنّ شيئًا ما اخترق صدره، ثم تراجع خطوة واحدة، وكأنّ الهواء انقطع عنه. أخذ نفسًا عميقًا يحاول به إطفاء لهيب الغضب والجرح، لكنّ صوته خرج مبحوحًا، مُثقلًا بالألم:

ـ غبية.... بجد غبية !


وتركها و غادر عاصم المنزل بخطواتٍ متسارعة، وكأن الأرض تضيق من تحته، لا يطيق البقاء دقيقةً أخرى في هذا الجو الملبّد بالتناقضات. ركب سيارته بعصبية، وأدار المحرك بعنفٍ كأنّه يريد أن يُسكِت غضبه بضجيجها.


༺═────────────────═༻


في تمام العاشرة مساءً، وصل فريد إلى إحدى المقاهي الفخمة المنتشرة في ساحة سينتاغما بأثينا.


وقف للحظة يستوعب أجواء المكان، مترقبًا لقاءه مع جيرالد، ولدى دخوله فوجئ بوجود سيلين هناك أيضًا، فأثارت هذه المفاجأة شعوره بالضيق، وزفر محاولة جمع شتاته.


تقدم نحو الطاولة بخطوات توحي بالثقة والثبات، رغم أن توتره وقلقه المكبوت كانا يختبئان خلف هذه المظاهر. استل قنينة الكحول وعقم يديه خلسة، ثم واصل المسير نحوهما. عند وصوله، صافح جيرالد الذي نهض مبادرًا بالمصافحة، ثم صافح سيلين من باب اللياقة، قبل أن يجلس مبتسمًا وهو يقول 

ـ كيف حالك، جيرالد؟ وأنتِ يا سيلين، كيف حالكِ؟


بادر جيرالد بالرد قائلاً:

ـ نحن بخير، ونأمل أن تكون أنت أيضًا بخير بعد البلبلة التي أثيرت مؤخرًا.


ابتسم فريد بهدوء، وقال بإنجليزية متقنة تليق بلقبه كلورد:

ـ في الواقع، جيرالد، أنا أتمسّك بالمقولة الشهيرة: «دع الكلاب تنبح والقافلة تسير». ليست هذه المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يُزج باسمي في أقاويل مغرضة من هذا النوع.


ابتسم جيرالد بإعجاب وثقة، فيما رمق فريد سيلين في لمحة خاطفة فوجدها تتصبّب بالضيق، وتدلى كتفاها بإحباط واضح.


ثم عاد إلى جوهر اللقاء، قائلاً:

ـ جيرالد، قلت لي إن علينا مناقشة بعض إجراءات حفل الافتتاح، أرجو أن تبدأ بما لديك.


أومأ جيرالد بجدية، وقال:

ـ في الحقيقة، الحديث سيكون مع سيلين، بما أنها منظمة الحفل.


ثم التفت إلى سيلين وأضاف:

ـ سيلين، أرجو أن تخبرينا بما لديكِ.


ابتسمت سيلين بثقة وقالت :

ـ حسنًا، في البداية، علينا تحديد برنامج الحفل بدقة، بما في ذلك توقيت وصول الضيوف والضيافة، والتأكد من أن كل تفاصيل الحدث تعكس صورة الشراكة الفخمة والراقية التي تطمحون إليها .


أومأ فريد بموافقة، فقال جيرالد وهو يشير إلى سيلين مبتسما:

ـ سيلين لديها أفكار مبتكرة حول تصميم بطاقات الدعوة، حيث رغبت أن تحمل كل بطاقة لمسة إبداعية تعكس شخصية الشركة ورؤيتها الفخمة، مع دمج عناصر فنية مبتكرة تجعل كل بطاقة فريدة من نوعها.


أومأ فريد وقال باختصار:

ـ رائع .


فيما تابعت سيلين بجدية وقالت:

ـ يجب أن نحدّد موعد الحفل النهائي بدقة، بحيث لا يتصادف مع أي فعاليات دولية أو محلية كبرى، حتى نضمن حضور أكبر عدد من الشخصيات المهمة والإعلاميين. كما يجب تنسيق جدول الفقرات الرسمية، من كلمات الترحيب والتقديم، مرورًا بالعروض والشروحات الخاصة بالمنتجات والخدمات، وصولًا إلى لحظات التكريم والتصوير الصحفي.


واسترسلت قائلة : 

ـ طبعا لا ننسى التغطية الإعلامية والتسويق الرقمي؛ علينا أن نجهز موادًا ترويجية مسبقة، مع فريق مختص للتصوير والبث المباشر، لضمان الوصول إلى أكبر جمهور ممكن .


كان فريد منتبهًا لكل كلمة، يدوّن الملاحظات ذهنياً، بينما سيلين تبقي عينيها متجهتين نحوه، تحاول أن تفهم توازنه بين الرسميّة والهدوء الواثق الذي يظهره في كل حركة.


شرعوا في النقاش حول كافة جوانب الحفل، من البرنامج الزمني إلى الترتيبات اللوجستية، حتى توصلوا إلى اتفاق كامل على جميع التفاصيل والمواعيد. وبعد نحو نصف ساعة، أعلنت سيلين بسعادة:

ـ هكذا أصبح الحفل رسميًا يوم الخميس المقبل… أي بعد أربعة أيام فقط!


أومأ الجميع بارتياح، ثم قال جيرالد:

ـ ممتاز، يبدو أن كل شيء أصبح واضحًا ومحددًا، الآن يمكننا المضي قدمًا دون أي لبس أو تأخير.


أومأ فريد بتأكيد، ثم قال:

ـ صحيح… أثق أن الحفل سيكون رائعًا.


نظرت إليه سيلين وابتسمت، بينما نهض جيرالد ممسكًا بهاتفه، ونظر إلى فريد قائلاً:

ـ فريد، معذرة منك، عليّ إجراء اتصال عاجل…


أومأ فريد وأشار له بالانسحاب، فيما ظل هو يتأمل المكان بهدوء يخالف أفكاره المتوترة.


فالتفتت إليه سيلين وابتسمت قائلة:

ـ بما أن قائمة المدعوين تتسع لمئة شخص، ويحق لكل طرف دعوة خمسين شخصًا، من تنوي دعوتهم؟


ابتسم فريد وقال:

ـ عائلتي ستكون في المقام الأول، ثم سأقوم بدعوة عدد من رجال الأعمال والمستثمرين الذين سبق لي التعامل معهم.


نظرت سيلين إلى فريد وسألته بصوت هادئ ولكنه ذو مغزى، يحمل في طياته غرضًا مدروسًا في ذهنها :

ـ جيد جدا ، في الحقيقة أتوق للتعرف على عائلتك. هل لديك صديقة؟


عند سماع السؤال، ارتبك فريد على الفور، وظهرت على وجهه ملامح الوله والالتياع، إذ خطرت في ذهنه صورة نغم فورًا. 


ارتسمت على وجهه ملامح التردد للحظة، ثم قال بصوت هادئ:

ـ لا، ليس لدي صديقة.


أحست سيلين بارتياح داخلي، وبدا على وجهها لمعان السعادة، لكنها حاولت كبحه وإخفاؤه، غير أن هذه الفرحة لم تدم طويلًا، إذ سرعان ما تلاشت عندما استطرد قائلا :

ـ حبيبة…. لدي حبيبة !


ارتبك وجه سيلين وبهتت ملامحها على الفور، فيما تنهد هو وأكمل:

ـ صحيح أن هناك بعض التعقيدات التي نمر بها حاليًا، لكننا...


تنهد فريد، وأطرق للحظة يبحث عن كلمات تليق بما يجيش في صدره، ثم رفع عينيه وقال بصوت هادئ لكنه محمَّل بالجدية :

ـ ولكننا… كخيوط الحرير.


توقف قليلًا، وكأنه يتأمل الصورة التي نطق بها للتو، ثم تابع:

ـ نعم، كخيوط الحرير… كلما تشابكت وتعقدت، ازداد نسيجها تماسكًا وقوة، وصار الملمس أكثر نعومة وجمالًا. علاقتنا هكذا بالضبط، مهما كثرت العقد بيننا، لا تفرقنا، بل تجعلنا أقرب، وتُرينا في النهاية لوحة لم نكن لنراها لولا تلك التعقيدات.


في تلك اللحظة، ارتجف شيء في ملامحه، كأنه يستحضر وجه نغم وصوتها، فانعكست لمعة حنين في عينيه لم يستطع إخفاءها. 


أما سيلين، فكانت تستمع متسمرة، ابتسامتها التي تفتحت قبل قليل ذبلت فجأة، فحاولت جاهدة أن تحافظ على اتزانها، وأن تخفي خيبتها وراء قناع من الحرفية والبرود المصطنع؛ فقالت :

ـ وهل تظن يا فريد أن هذا النوع من الحب يستحق كل هذا العناء؟! أن تُرهق روحك وتجرّح قلبك من أجله؟


أومأ مؤكدًا، ثم ابتسم ابتسامة شاردة وأردف بنبرة ممتزجة باليقين:

ـ صدقيني سيلين، ذلك الحب لم يكن اختيارًا عابرًا… إنه قدري، حتى وإن كان متعبًا، حتى وإن مزّقني أحيانًا، إلا أنني أعود دائمًا لأدرك أني لا أستطيع منه فكاكًا.


ارتسمت على ملامح سيلين ابتسامة باردة حاولت أن تُخفي خلفها اضطرابها، فبدت وكأنها تستمع إليه بلا اكتراث. غير أنّ داخلها كان يعجّ باضطرابٍ شديد، شعرت بضيقٍ يجثم على صدرها، كأن كلماته قد أصابتها بضيقٍ شديد.


نعم، لقد جاءت إلى هنا مأجورة، تحمل مهمة محدّدة.. لكن، وعلى غير ما خططت، وجدت نفسها تنجذب إليه في كل مرة تراه فيها، وكأن شيئًا ما في شخصيته يأسرها رغما عنها.

كانت تجاهد نفسها لتبدو متماسكة، بينما داخلها يرتجف كمن يوشك أن يُفضَح سره. 


أما فريد، فقد شعر في تلك اللحظة براحةٍ غريبة، كأنه أخيرًا وضع النقاط على الحروف التي ظلّت عالقة في ذهنه. لقد لمح الارتباك العابر في عينيها، وشعر بذلك التناقض الذي حاولت جاهدًة أن تخفيه وراء ملامحها الباردة.


كان يدرك ـ بفطرته وحدسه ـ أنها منجذبة إليه، مهما ادّعت العكس. ولأجل ذلك تحديدًا كان عليه أن يوضح الأمر، أن يُعلن دون مواربة أنّ قلبه ليس ساحة متاحة، بل هو عامر باسمٍ واحد فقط.


ارتسمت على وجهه ابتسامة واثقة، وارتفع رأسه بشموخ لائق بلقبه، كمن أغلق بابًا كان ينبغي أن يُغلق منذ البداية. 


عاد جيرالد بخطواته الهادئة وكأن شيئًا لم يكن، جلس من جديد وألقى تعليقًا قصيرًا ليعيد خيط الحديث، فتابعت سيلين معه بنصف تركيز.


أما فريد، فقد نهض بهدوء، اكتفى بكلمات مقتضبة، ثم ودعهم وخرج.


قاد سيارته في الشوارع بلا وجهة محددة، محاصرًا بضباب أفكاره.

كانت صورة نغم لا تفارق خياله، تلاحقه في كل زاوية.

شوقه كان ينهشه من الداخل، يزداد ثقلًا مع كل دقيقة تمر، حتى شعر أنه لو امتلك عمره كله ودفعه ثمنًا ليرى وجهها الآن ولو ثوانٍ معدودة، لفعل بلا تردد.


مد يده المرتجفة إلى الراديو، وبحركة لا واعية اختار أغنية حملت كل ما يفيض به قلبه.

دقت الألحان في أرجاء السيارة، وصوت المطرب يردد: "قصاد عيني… في كل مكان ".


انغمس فيها حتى الذوبان، وكأن الكلمات كُتبت لتفضح ضعفه وتفضح شوقه.


لكن ما أفسد كل لحظة هو تذكره للمكالمة… صوت الشاب وهو يخبره أن عمر كان يقف مع نغم أمام باب البيت اليوم.


اشتعلت الغيرة في صدره كالنار، كأنها تنهش أحشاءه بلا رحمة. قبض على عجلة القيادة بقوة حتى كادت عروقه أن تتفجر.


لم يعد يحتمل.

أخرج هاتفه من جيبه، ضغط رقم عمر بعصبية، ثم وضعه على أذنه بعزمٍ لم يخلُ من توتر.. لا بد أن يعرف منه لماذا زارها وعما دار الحديث بينهما .


ولكنه لم يجب…

تجمّد الهاتف في يده لثوانٍ، والفراغ في أذنه يصفع صبره بقسوة.


ضغط على المقود بقوة حتى كادت عروقه تبرز من يده، وعيناه اشتعلتا بلهيبٍ يكاد يحرقه.


شعر وكأن رأسه على وشك الانفجار من شدّة الغضب، كأن الدماء اندفعت دفعة واحدة لتقرع جدار جمجمته.

أنفاسه صارت متقطعة، وصدره يعلو ويهبط في جنون، حتى بدا وكأنه أسيرٌ في زنزانة ضيقة اسمها الغيرة.


༺═──────────────═

#يتبع

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close