رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الخامس والثلاثون 35بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الخامس والثلاثون 35بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
محسنين الغرام
ـ ٣٥ ـ
~ على حد السيف !!.~
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ أن غادر عاصم المنزل منفعلًا، بقيت نسيم جالسةً في مكانها، لا تقوى على الحراك. كانت عيناها شاخصتين نحو الباب الذي أوصده خلفه، كأنها ما زالت تنتظر عودته، بينما في داخلها عاصفة من الأفكار والندم تفتك بها بلا رحمة.
كانت تدرك في قرارة نفسها أنها فاجأت عاصم برد فعلها، حين لمّحت أمامه بأنها قد تسامح والدها يومًا ما. وتعلم تمامًا كم يكرهه، وكم يحق له أن يغضب وأن يثور أكثر مما فعل، فما فعله والدها لا يُمحى ولا يُغتفر.
لكنها في الوقت ذاته لم تستطع أن تتقبل إهانة أبيها على مسامعها، مهما بلغت قسوته عليها، ومهما كان سجله حافلًا بالجحود والجبروت.
تثق في قرارة نفسها أن رفضها لكلام عاصم الجارح لا يعني تبرئة والدها ولا الانتصار له، ولكنها محاولة يائسة منها لحفظ كرامتها هي، تلك الكرامة التي ما عادت تحتمل أن تُداس بين جحود الأب وغضب الزوج.
ومن هنا جاء ارتباكها؛ بين قلبٍ يقر بحق عاصم في الغضب، ونفسٍ ترفض أن تُسلب صوتها وحقها في الدفاع عن مشاعرها، حتى لو كانت مرتبكة ومتناقضة.
مدّت يدها نحو الهاتف لتتصل به، وأصابعها ترتجف على الشاشة، لكنّها توقفت فجأة، كأنّ صوتًا داخليًا ردعها.
وضعت الهاتف على الطاولة متنهدةً، وفجأة دوّى جرس الباب.
نهضت مسرعة، قلبها يسبق خطواتها، يملؤها أملٌ طفولي أن يكون هو من عاد.. فتحت الباب بلهفة، لكنّ المفاجأة أدهشتها: كانت نغم تقف أمامها.
تفاجأت نغم برؤية ملامح نسيم الشاحبة، وقد بدت عليها بوضوح آثار السهر والبكاء. وما إن التقت نظراتهما حتى اندفعت نسيم نحوها بلا تردّد، وأحاطتها بذراعيها لتنفجر في بكاءٍ مريرٍ هزّ كيانها.
ظلّت تبكي طويلاً حتى خارت قواها شيئًا فشيئًا، ثم بدأت أنفاسها تهدأ تدريجيًا. رفعت رأسها، ومسحت دموعها بكفّ مرتجفة، ثم قالت بصوتٍ واهن وهي تفتح الطريق أمام نغم:
ـ أنا آسفة يا نغم، اتفضلي ادخلي ..
دخلت نغم وهي تشعر بالغرابة ممزوجةً بالضيق لأجل نسيم، سارت بجوارها إلى غرفة المعيشة حيث جلستا متقابلتين. ظلت نغم تحدّق فيها لحظة بصمت، ثم مالت نحوها وقالت بنبرة قلق واضحة:
ـ مالك يا نسيم؟
رفعت نسيم بصرها إليها، محاولةً استجماع شتات نفسها، ثم أطلقت زفرة طويلة بدت معها وكأنها تُزيح ثقلًا جاثمًا على صدرها، قبل أن تبدأ بسرد ما جرى بينها وبين عاصم، وكيف انقلب الموقف رأسًا على عقب بمجرد أن علم أن والدها زارها.
كانت الكلمات تتدفق من فم نسيم متقطّعة، تارةً محمّلة بالدموع، وتارةً محمّلة بالغضب والخذلان. أما نغم فظلت تتابعها في إنصاتٍ كامل، وعيناها تمتلئان بالشفقة والدهشة معًا، بينما شفتيها تنفرجان أحيانًا وكأنها تود أن تقاطعها، لكنها كانت تكبح نفسها لتترك لنسيم المجال كي تُفرغ ما في قلبها.
وحين انتهت نسيم من حديثها، ساد بينهما صمت ثقيل، قطّبَت خلاله نغم حاجبيها بشدة، وكأنها تحاول استيعاب ما سمعته، قبل أن تقول بنبرة جادّة وحاسمة:
ـ بصراحة يا نسيم.. عاصم من حقه يعمل كده وزيادة.. وانتي استفزتيه بكلامك جدا ..
تنهدت نسيم ببطء، ثم أومأت برأسها بموافقة وقالت بصوتٍ واهن:
ـ أنا عارفة إنه معاه حق يكرهه ويكره سيرته.. وعارفة إنه معاه حق يتضايق إنه جه هنا البيت..
مدّت يدها المرتجفة إلى خصلات شعرها، فأعادتها للخلف بعصبيةٍ تكشف ما بداخلها من اضطراب، ثم تابعت وقد غلبها التوتر:
ـ أنا أصلًا اتفاجئت وجالي ذهول.. آخر حاجة كنت أتوقعها إنه ييجي بيتي! بس أنا بردو معذورة يا نغم.. المفاجأة لخبطتني..
توقفت لحظة، وأشاحت بنظراتها بعيدًا، كأنها تهرب من مواجهة نفسها، لكن الصور تسللت إلى ذهنها رغمًا عنها. ارتسمت ملامحه أمامها من جديد، تلك النظرات التي أربكتها، فجعلت صوتها يرتجف وهي تقول:
ـ ونظراته لخبطتني أكتر.. أنا أول مرة أحس إنه بيحبني بجد.. صدقيني يا نغم عينيه كانت بتقول كلام كتير هو مش قادر يقوله، أنا شفت في عينيه نظرة أول مؤة أشوفها.. وغصب عني حسيت إني محتاجة أشوف النظرة دي.. محتاجة منه كلمة حلوة.. محتاجاه يحضنني..
عند هذه الكلمات لم تتمالك نغم نفسها، امتلأت عيناها بالدموع، كانت تشعر نحوها بشفقة جارفة، شفقة مُثقلة بالوجع لأنها في تلك اللحظة أدركت عمق الجرح الذي يحمله قلب نسيم، وكيف أن آثار الماضي ما زالت تتسلل إلى حاضرها وتكبلها.
أما نسيم فقد بدت كمن يفتح بابًا على جراحٍ قديمة، فانفجرت في بكاءٍ محمّل بالقهر، ترتجف أنفاسها بين كلمة وأخرى، وهي تتابع بصوتٍ متهدج:
ـ أنا عارفة إنه أذاني كتير.. ومش لوحدي.. محدش فينا سلم من أذاه.. لكن والله غصب عني.. مش قادرة أكرهه يا نغم.. حاسة إنه لو خدني في حضنه وقاللي آسف أنا هنسى كل اللي عمله فيا..
في تلك اللحظة، غمرها شعور بالتيه، كأنها واقفة بين هاويتين؛ هاوية الماضي المظلم الذي تعرفه جيدًا، وهاوية التعلّق بأب جرحها لكنه ظل يملك قلبها رغمًا عنها.
بينما اندفعت نحوها نغم وأحاطتها بذراعيها، تضمها بقوة كأنها تحاول أن تنتزع عنها وجعها، ظلّت تهمس في أذنها بكلمات مواساة هادئة، علّها تطفئ نار الانكسار المشتعلة في قلبها. عندها تابعت نسيم بصوت متهدّج، يتخلله البكاء:
ـ عاصم شايف إني كده غبية لأني حنيت ليه من تاني بعد اللي عمله فيا.. وأنا فاهمة ومقدّرة إحساسه.. بس هو للأسف مش قادر يفهم إحساسي.. مش قادر يفهم إني من كتر ما اتحرمت من حنيته ممكن أعمل أي حاجة عشان أحس الإحساس ده ولو مرة واحدة..
ارتجفت الكلمات من بين شفتيها، كأنها كانت تحفر صدرها لتخرج، فيما كانت عيناها تفيض بدموع لا تنقطع. أما نغم، فبقيت صامتة، تدرك أن لا لغة في العالم تستطيع أن تفسّر هذا الصراع المعقد، ولا كلمة تعزية قادرة أن ترمم جرحًا بهذا العمق.
فلم تعرف ما تقول، فهي تشعر أن كل عبارة ستبدو ناقصة أو باردة أمام هذا البركان من المشاعر المتناقضة، ذلك الخليط المربك من الحنين والخذلان، من الحب والأذى، من التعلّق والرغبة في التحرّر. كل ما استطاعت فعله هو أن تشدد ذراعيها حولها أكثر، وتسمح لها أن تبكي كما تشاء.
وهكذا ظلّت نسيم تبكي في حضنها، تخرج كل ما اختنق في صدرها من قبل، كلمات لم يسعفها الوقت ولا الجرأة لتقولها، فانفجرت بها كلها دفعة واحدة. لم تكن تحتاج تفسيرًا، ولا ردًا، ولا حلًا، بل فقط ذلك الصمت المطمئن والإنصات العميق الذي منحته لها نغم ببراعة وحنان.
وبينما كانت نغم تُصغي لنسيم بانتباه عميق، أخذت كلمات الأخيرة تنفذ إلى أعماقها ببطء، كأنها تصف مشاعرها هي، لا مشاعر أخرى. كانت تشعر أن صراع نسيم مع والدها، ذلك التناقض المؤلم بين الحنين والخذلان، بين الحاجة الماسة للحب والرغبة في التحرر من الأذى، يُشبه إلى حد بعيد ما تعانيه هي مع فريد.
ورغم اقتناعها التام بخيانته لها، ورغم جراح الكبرياء والخذلان التي خلفها وراءه، إلّا أنّ في داخلها مساحة خفية لم تستطع إخمادها، مساحة تمتلئ بحنينٍ دفين إليه، بنبضٍ عنيد يرفض أن يزول مهما حاولت. كانت كلمات نسيم تُثير تلك المساحة كأنها مرآة تعكس ما تحاول إخفاءه، فتراها بوضوح مؤلم لا سبيل لإنكاره.
أحست أن نسيم بحديثها لم تكن تبوح بأسرارها وحدها، بل كانت تبوح عنها أيضًا، عن نغم التي تُخفي داخلها التناقض ذاته؛ حبًّا يقاوم المنطق، وتعلّقًا يصعب تبريره، وإصرارًا داخليًا على أن ترى في الآخر بصيص الأمل مهما أثقلها الخذلان.
اعتدلت نسيم في جلستها، كأنها تحاول أن تستعيد توازنها، ثم التفتت إلى نغم بنظرة حاولت أن تخفي وراءها ارتباكها، وقالت بصوتٍ متماسك:
ـ معلش نسيت أسألك تشربي إيه ..
أجابت نغم بهدوءٍ يحمل في طياته إرهاق شديد:
ـ ولا حاجة .. أنا جاية أقعد معاكي شوية وماشية.. كنت جايه لك الصبح لكن الحقيقه عمر أنقذني لما بعتلي رسالة وقاللي إن سالم بيه كان هنا ..
ثم أخرجت تنهيدة ثقيلة، كأنها تنفض عن صدرها ركام الذكريات، وتابعت:
ـ مش قادرة أتخيل لو كنت جيت وشفته كان هيحصلي إيه.. كان ممكن يغمى عليا من الصدمة .
ضحكت نسيم بخفوت، ضحكة أشبه ما تكون بمحاولة للهروب من صرامة اللحظة، ثم قالت مغيرةً مجرى الحديث :
ـ هجيبلك توت وبرتقان من اللي جابوهم حسن وعمر النهارده..
ابتسمت نغم ابتسامة صافية، رغم كل ما تحمله من أسى، وقالت:
ـ على فكرة .. حسن بالرغم من إنه همجي وعنده ربعين ضاربين بس فيه حتة حنية مستخبية واللي في ايديه مش ليه .
أومأت نسيم برفق، وكأنها تشهد على ما قالته، ثم سألتها بنبرة يغلبها الفضول:
ـ تعرفي عندي فضول أعرف علاقتكم كانت عاملة إزاي وانتوا صغيرين، أو حتى وانتوا كبار.. يعني.. كنتوا عايشين إزاي، بتتعاملوا مع بعض إزاي..
أطرقت نغم برأسها قليلًا، كمن يفتح أبوابًا مغلقة منذ زمن، ثم رفعت عينيها وفيهما مزيج من الأسى والمرارة، وقالت بابتسامة ساخرة لا تخلو من وجع:
ـ علاقة لا أتمناها لعدو ولا حبيب ..
انعقد حاجبا نسيم بحزن، وهي تصغي بانتباه، لتتابع نغم وقد غمرتها الذكريات:
ـ عمري ما كنت مقتنعة إن ده حب فعلا زي ما هو مصمم يثبتلي.. حب إزاي وأنا مش حاسة معاه بالأمان.. حب إزاي وأنا بترعب من وجوده ومن صوته..
صمتت قليلا، ثم خرج صوتها على هيئة سؤال أقرب منه للاعتراف :
ـ تعرفي إني بلغت عنه بنفسي علشان أقدر أعيش في أمان ولو فترة قصيرة ؟!
اتسعت عينا نسيم بدهشة، فابتسمت نغم ابتسامة مريرة وهي تومئ وتستطرد:
ـ واتحكم عليه بتلت سنين بس.. والحقيقة دول كان أسعد تلت سنين في حياتي، ومن حلاوتهم مروا هوا ..
وانفجرت ضاحكة وهي تبكي في آنٍ واحد، ضحكة مُرة تنتمي لعالم الكوميديا السوداء، فيما تجمدت نسيم في مكانها بين الرغبة في الضحك والتألم لأجلها، ثم تنهدت قائلة:
ـ بس حسن اتغير .. أعتقد انه دلوقتي مش هو نفس الشخص المؤذي اللي كان قبل كده .
أومأت نغم، وفي عينيها بريق إدراكٍ:
ـ متهيألي الحب يعمل أكتر من كده.. الواحد مننا لما بيلاقي ناس يحبوه بيتحول لواحد تاني .. وحسن اتغير لأنه اتحب .. لو مكانش ظهر له عيلة وأخوات كان هيفضل نفس الشخص.. ويمكن أسوأ كمان ..
ارتجفت كلماتها الأخيرة وهي تتخيل:
ـ بجد أنا كنت أوقات بتخيل إن نهاية حد مننا على ايد التاني.. سبحان مغير الأحوال .
أطرقت نسيم قليلًا، ثم رفعت رأسها ببطء وقالت:
ـ فعلا.. الحب قادر يداوي كتير جدا.. وأنا وحسن خير مثال..
واسترسلت بابتسامة هادئة فيها شيء من المكر الخفيف:
ـ فريد كمان على فكرة ..
انتبهت نغم لها بكامل حواسها، وكأنها التقطت كل ذبذبة في نبرة صوتها، فابتسمت نسيم ابتسامة باهتة قبل أن تسمح لكلماتها بالانزلاق. وتعمّدت أن تغوص أعمق، لكن بصدقٍ مشوب بدهاءٍ خفيّ، كأنها تمتحن أثره على قلب نغم، وقالت:
ـ فريد فضل يعاني من الوسواس عشر سنين.. تخيلي إنه كان بيخاف يحضن حد فينا أو يسلم عليه… ؟! واختار إنه يبعد عننا ويعيش في بيت لوحده لأنه مكانش قادر يتعامل معانا .. لكن لما عرفك الموضوع اختلف تماما… انتي بجد كنتي الدوا لفريد.. عالجتيه من غير ما تحسي، لأنك حبيتيه وهو حبك بجد..
وتابعت بنبرة مشوبة بالضيق:
ـ أنا ساعات بتخيل حاله دلوقتي وانتوا مش بعض عامل إزاي …!!! أكيد انتكس من تاني !
امتلأت عينا نغم بالدموع، حاولت أن تتماسك، ثم غيرت مجرى الحديث سريعًا وهي تغالب ارتجاف صوتها:
ـ انتي مش قلتي هتدوقيني التوت والبرتقان ؟! ولا رجعتي في كلامك ؟!
ابتسمت نسيم بدفء ، وقالت وهي تنهض :
ـ بس كده ! ده انتي تؤمري ..
ونهضت لتذهب إلى المطبخ، وتركت نغم تتطلع حولها بتيه، تحاول أن تبتلع تلك الغصة التي تلتهم قلبها كلما ذكر اسمه وورد ذكره .
༺═────────────────═༻
منذ أن غادر عاصم المنزل وهو يجلس أمام قبر أخيه حازم، أرخى رأسه بين كفّيه، وتدفقت دموعه الثقيلة بصمتٍ موجع، تنحدر على وجنتيه لتغسل شيئًا من نيرانٍ لا تنطفأ. كان الليل من حوله ساكنًا إلا من همسات الريح بين الأشجار، وكأن الكون كله تركه يواجه وحده قسوة تلك الذكرى.
رفع عينيه إلى شاهد القبر، ومرت أمامه ذكرياتهم كشرائطٍ متتابعةٍ، وكل لقطةٍ فيها تضرب قلبه كرصاصةٍ من حنين: ضحكتهما الطفولية وهما يركضان في الحيّ، أول سر تشاركاه، همساتهما في الظلام حين كانا يخفيان مخاوفهما.
رأى مشهد من طفولتهما، حيث حازم وهو يجثو ليعلّمه كيف يربط الحذاء، ورأى يده الكبيرة تدفئه في ليالٍ اشتدّ فيها البرد، ورأى ابتسامته التي كانت تضيء له الطريق حين يتحول إلى ظلامٍ حالك.
تذكّر أيضًا الخلافات الصغيرة التي بدت لهما وقتها بلا قيمة، وكيف أنّ كل خصامٍ كان ينتهي بعناقٍ أقوى؛ تذكّر وعدهما بأن يحميا بعضهما إلى النهاية، وأن لا يتركا أحدًا يمسّ أمان الآخر. مرت أمامه لحظاتُ الكبرياء التي كانا يتقاسمانها، ومشروعات الطفولة التي لم تكتمل، وأحلامًا نحيلةَ كانا يهمسان بها عند منتصف الليل عن مستقبلٍ يصنعانه معًا.
ثم أخذت الذكريات تتبدّل، فظهر وجعُ الوداع ببطءٍ مؤلم: يومٌ أسودٌ تكسّرت فيه كلّ وعود الغد، وجهٌ غادرَ دون عودة، وصدى صراخٍ لم يجد من يردّه.
لم تكن الذكريات استدعاءً لأيام مضت؛ بل كانت قوة خفيّة تشدّه إلى الأمام، وتذكّره في كل لحظة بأن ثأر أخيه دينٌ لا بد أن يُسدَّد.
نهض بعد أن مرّ أمام عينيه المشهد كاملًا، وكأن كل صورةٍ وضعها في صندوقٍ داخل صدره؛ الضحكات والوعود والأوجاع. تقدّم بخطىٍ أثقل مما كانت قبل،.
انغرزت صور النهاية في ذهنه من جديد: اليد الغادرة، الوجه الشيطاني لوالد المرأة التي أحبها وهو ينتزع حياة أخيه من بين يديه. لم تكن مجرد ذكرى عابرة؛ بل مشهدًا يتكرر داخله كلما أغلق عينيه، يوقظه في الليل ككابوس لا ينتهي.
همس بصوت مرتجف، كأنه يكلم أخاه تحت التراب:
ـ متقلقش يا حازم… والله ما هسيب دمك يروح هدر… مهما حصل !
شعر أن الحزن وحده لم يعد كافيًا لوصف ما يعتمل بداخله؛ الغضب كان ينهش قلبه، والرغبة في الانتقام تضغط على صدره حتى كادت تسلبه أنفاسه. لم يعد الأمر مجرد فقد أخ، بل خيانة كبرى ارتكبها من لا يرحم، من ظن أن سلطته أقوى من الحق، ومن الحياة نفسها.
ولم يشعر بنفسه، إلا مرددًا في داخله قسمًا لا رجوع فيه: أنه سينتقم، بأي طريق، وبأي ثمن. ومهما كلفه الأمر.
يوقن جيدًا أن هذا الحق لن يسقط بالتقادم، وأن سالم لا بد أن يدفع ثمن ذلك الدم المسفوك.
وفي خضم العزم، هاجمته لحظة وعي قاسية: الانتقام لن يعيد حازم، ولن يمسح ألمه، لكنه في نظره السبيل الوحيد ليشعر أن أخاه لم يُقتل عبثًا. ومع ذلك، كان يعرف أن هذا الطريق مظلم، وأنه ربما يخسر نفسه فيه، وربما يخسر من يحب. لكن قلبه الممزق لم يكن يحتمل فكرة الغفران، ولا الصمت.
نهض أخيرًا، ودموعه ما زالت تُبلل وجهه، وترك خلفه القبر في صمت، وهو يجرّ خطاه ببطء. كان يسير بخطوات مثقلة، لكنها ثابتة، وخرج محمّلًا بحزنٍ لا يُحتمل، وعزمٍ لا يُكسر، على أن يقتصّ للدم الذي سُفك ظلمًا.
وصل إلى سيارته، رن هاتفه برقم أيمن، فأجاب على الفور متلهفًا، وقال باهتمام:
ـ خير يا أيمن ؟!
ليأتيه صوت أيمن مفعمًا بالراحة :
ـ لاتويا ولدت يا عاصم !!
هنا أطلق عاصم تنهيدةً امتزج فيها الراحة بالاطمئنان، وإذا بروحه الانتقامية تتأجج وتزداد بريقًا. أيُعقل؟! كأنما القدر يمدّ أمامه السبيل، ويضع الفرصة بين يديه على طبقٍ من ذهب، في اللحظة المناسبة تمامًا.
ـ و الولد ؟! أخباره إيه ؟!
ـ الولد كويس جدا متقلقش.. أكتر من دكتور اطمنوا عليه وقالوا إنه كويس ومفيش عنده أي مشاكل .
تنهد مجددًا براحة غامرة وقال:
ـ تمام.. خلي بالك منهم كويس أوي.. انت سامع ؟!
ـ متقلقش.. بس قل لي.. إنت ناوي على إيه الخطوة الجاية ؟!
لم يجب عاصم، فظل أيمن ينصت إليه بصبر مترقّبًا إجابةً واضحة، لكن عاصم لم يمنحه سوى ابتسامة جانبية باردة، وبدت عيناه في هذه اللحظة كأنهما ستائر مغلقة لا تفصح عن نواياها، ثم قال بصوتٍ هادئ مشوب بالثقة:
ـ هتعرف كل حاجه في وقتها يا أيمن .
ساد صمتٌ ثقيل بعد كلماته، صمت أشبه بالفراغ الذي يسبق العاصفة. لم يُدرك أيمن إن كان عاصم يخفي خططًا محكمة أم أنه يماطل متعمدًا، لكن ما أدركه يقينًا أن هذا الرجل لا يُمكن سبر أغواره. ضحكته المموهة التي لا تكشف شيئًا، وصوته الذي يطمئن ويهدد في آن، جعلاه ينصت إليه حائرًا بين الحذر والفضول، فيما عاصم ظلّ أنهى الاتصال بثباتٍ، وكأن كلماته وضعت نقطة نهاية لأي نقاش آخر.
استقل سيارته وانطلق بها نحو منزله الملاصق للشركة، عازمًا على قضاء ليلته هناك. وأثناء القيادة، توالت الاتصالات من نسيم على هاتفه، غير أنّه آثر تجاهلها جميعًا، متعمّدًا ألّا يجيب قبل أن تراجع نفسها جيّدًا وتعيد ترتيب أولوياتها.
لم تكن المكالمات التي توالت على هاتفه سوى جروح جديدة، كل رنّة كأنّها صفعة على جرحٍ لم يلتئم بعد، وتذكير قاسٍ بأنّها لم تفهمه حقًا. كان يستشعر في إصرارها محاولةً لاقتحام صمته وانتزاع قرارٍ بالمسامحة لم يحن أوانه بعد، لكنه كان أعند من أن يرضخ، وأقسى من أن يمنحها ذلك بسهولة.
ترك الهاتف يرنّ بلا إجابة، وكأنّ تجاهله إعلانٌ واضح بأنّ عليه أن يسبقها بخطوة، أن يتركها تواجه نفسها أولًا قبل أن يفتح لها بابه من جديد.
وفي أعماقه، كان يموج بصراعٍ لا يهدأ: اشتياق ينهش قلبه كذئبٍ جائع، وغضب يلتف حوله كنيرانٍ لا ترحم، وكبرياء يرفض أن يسمح له بالانكسار أمامها. أرادها أن تدرك أنّ الحب وحده لا يكفي إن لم يصُنه صدقٌ وكرامة، وأن أي تهاون في مواجهة الماضي لن يقود إلا إلى الدائرة ذاتها التي لن تخرج منها أبدًا.
ضغط بقدمه على دواسة الوقود أكثر، وكأنّ السرعة قادرة وحدها أن تسبق اضطراب روحه.
وأخذ يردد في نفسه بصرامة: لن أجيبها.. ليس الليلة. عليها أن تعود إلى ذاتها أولًا، أن تختارني بوعي، لا بدافع الحنين ولا تحت سطوة الشوق .
وحين دلف عاصم إلى بيته الملاصق للشركة، أحسّ أنّه يعبر إلى حصنه الأخير، المكان الوحيد الذي يستطيع أن يحكم فيه السيطرة على نفسه، بعيدًا عن سطوة عينيها وارتعاش صوتها حين تبكي.
كان هذا البيت بالنسبة له مساحةً باردة، لا ذكريات فيها ولا دفء، فقط جدران صامتة، وأثاث جامد لا يعكس إلا طابعه العملي. وربما لهذا السبب اختاره، فهو هنا سيد قراره، لا عاطفة تضعفه ولا شوق يجرّه إلى حيث لا يريد.
༺═────────────────═༻
ـ بردو مش بيرد ..
قالتها نسيم بيأس وهي تلقي بهاتفها على الطاولة بضيق، ونظرت إلى نغم التي ذمت شفتيها بأسى، وقالت:
ـ خلاص متحاوليش تاني دلوقتي ، طالما مش عايز يتكلم سيبيه على راحته .
أومأت نسيم بموافقة، وقالت:
ـ هعمل كده .
أومأت نغم، ونهضت وهي تنظر إليها وتقول:
ـ أنا همشي بقا وهبقا أكلمك اشوف عملتي إيه..
نظرت إليها نسيم برجاء وقالت:
ـ خليكي معايا الليلة يا نغم.. طالما انتي لوحدك وأنا لوحدي باتي هنا..
اتسعت عينا الأخرى بعفوية وهتفت :
ـ يالهوي.. لأ طبعا مينفعش.. ممكن جوزك يرجع في أي وقت .
زفرت نسيم بيأس وقالت:
ـ مش باين..
ربتت الأخرى على كتفها، وقالت وهي تحاول مواساتها:
ـ إن شاء الله هتعدي يا نسيم.. جايز هو محتاج ياخد وقته ويرجع ..
هزت نسيم رأسها بتأييد، ثم عانقتها بحرارة، ومن ثم غادرت نغم ودخلت نسيم إلى بيتها .
بعد مغادرة نغم، شعرت نسيم بفراغ يلتهمها من الداخل، وكأن الوحدة تسللت إلى أركان قلبها حتى صارت تخنق أنفاسها. لم تجد أمامها سوى أن تبحث عن أثرٍ يبدّد هذا الصمت القاسي، فقادتها خطواتها المرتجفة إلى الغرفة ..
دفعت الباب ببطء، وما إن خطت داخل الغرفة حتى غمرتها رائحة عطوره العالقة في الهواء، رائحة تشبهه في ثباتها وغموضها، فأحاطت بها كنسمةٍ حانية أو كطوقٍ لا يُرى. جلست للحظة فوق حافة السرير، تُصغي لصوت قلبها المضطرب، ثم ما لبثت أن انساقت وراء رغبة خفية تدعوها للاقتراب أكثر.
توجهت نحو الخزانة، راحت تتأمل قمصانه المعلّقة بعناية، تلمس أقمشتها كما لو كانت تتحسس ملامحه الغائبة. وبينما تتنقل يداها بين طيات الملابس، وقع بصرها على صندوقٍ صغيرٍ مخبأ بعناية في زاوية سفلى. ترددت، لكن الفضول غلبها؛ مدّت يدها إليه، فتحته ببطء، فإذا بها تجد داخله شيءٌ بدل كل مشاعرها إلى اضطرابٍ أعمق، إذ رفعت يدها من الورقة ونظرت داخل الصندوق بتمعنٍ أكبر. لم يكن صندوقًا عاديًا، بل وُضع فيه أشياءٌ تحمل ذاكرةً كاملة: ساعةٌ قديمةٌ كانت لحازم، ونظارته الطبية، وبطاقة هويته، ثمّ رسائلٌ مطويّة وصورٌ قليلةٌ لوجهٍ أصبح الآن طيفًا في صدرها.
ثم، ورقة قديمة، مطوية بعناية، كأنها تحمل سرًّا يخشى الإفصاح عن نفسه.
أزالت الطيّات بحذر، لتواجهها عبارة كتبت بخطٍ حادّ الوضوح:
"ليس العار أن يدخل الخائن بيتك، العار أن يخرج منه حيًا."
ـ تشي جيفارا.
تسمرت عيناها على الكلمات، كأنها صفعة على روحها، ارتجفت أصابعها، ودار في خاطرها ألف سؤال: لمن كتب عاصم هذه العبارة؟ أهي رسالة موجّهة لعدوٍ تعرفه بعينه، أم أنها انعكاس لجرحٍ قديم يسكنه؟ ولماذا أخفاها بهذا الحرص وكأنها وثيقة إدانة أو عهدٌ بانتقام لم يحن أوانه بعد؟
شعرت أن الغرفة تضيق عليها شيئًا فشيئًا، وأن العبارة تقترب منها لتطوّقها كأنها حقيقة لا مهرب منها. نظرت إلى الورقة مرة أخرى، تقرأ الكلمات ببطء، كأنها تبحث بين الحروف عن مفتاحٍ يفسر غموضها .
أول ما ارتسم في ذهنها كان أهلها: والدها وإخوَتُها..
هل هم المقصودون؟ هل كان غضب زوجها ناتجًا عن زيارة والدها لمنزله؟ أم أنّ ما أثار سخطه أنه خرج من بيته حيًا من دون أن يثأر منه ؟!
تتابعت الأسئلة في رأسها بلا انقطاع: هل قد يفكّر في الانتقام من إخوتها إذا تواجدوا في منزله؟ وهل كان قوله لها بأن تدعو إخوتها إلى المنزل لقضاء بعض الوقت، نصيحة بريئة أم اختبارًا مدبّرًا، أو حتى فخًّا مخطّطًا؟
ارتعش قلبها من الفكرة؛ فما إن تخيّلت مشهدًا مثل هذا حتى شعرت بغصّةٍ في حلقها. زحف إليها الخوف ورافقه شعور بالذنب: خوف على سلامة إخوتها، وذنب لأنها ربما بغياب وعي فتحت بابًا لا ينبغي فتحه.
رفعت الورقة مرة أخرى بين يديها، تدقّق في كلماتها كما يطالع القاضي دليلاً قَدْ يُقرر مصائر، وأدركت أن ما في يدها لم يعد مجرد ورقة بل مفتاحٌ لدائرةٍ من التساؤلات التي لا تحتمل التأجيل.
أعادت كل شيءٍ إلى مواضعه وهي ترتجف، وانتبهت إلى يقظةٍ جديدة داخل صدرها: خوْفٌ منه أكثر من أي وقتٍ مضى، وعزمٌ صلبٌ ألا تسمح—مهما كانت التكاليف—بأن يُصيب إخوتها أذًى أو خطرًا على خلفية لعبةٍ قد تُدبَّر في السر.
والأهم من ذلك أن عليها أن تظلّ حذِرةً من الآن فصاعدًا في تعاملها معه؛ لن تمنحه الثقة العمياء مرة أخرى، ولن تتسرع في قراراتٍ قد تقفل أمامها أبواباً لا رجعة فيها.
وأولى القضايا التي يجب أن تضعها نصبَ عينها: ألّا تنجب منه في الوقت الراهن — قبل أن تتبيّن خريطة الأمان، قبل أن تتأكد أنّه شريكٌ يُمكن الوثوق به حقًا، وقبل أن تتأكد أنها لن تسقط هي أو من حولها ضحية لنتائج قد لا تحمد عقباها.
خرجت من الغرفة بخطواتٍ مترددة، تحمل في صدرها خوفًا ثقيلًا كالحجر. أغلقت الباب خلفها ببطء، ثم وقفت للحظة تستجمع أنفاسها.
اختارت الأريكة ملجأً مؤقتًا.. فتمدّدت عليها وقد التحفت بيديها، بينما دوامة من الأسئلة تدور في رأسها بلا توقف: هل هو جادّ فيما يُضمره؟ هل تلك الورقة تهديدٌ مستتر؟ هل خانت نفسها حين أحبّته؟ وكيف تحمي إخوتها إن كان بالفعل يفكر في استغلالهم؟ كل سؤال يجرّ وراءه عشرات، وكل فكرة تلد أخرى أشدّ منها قسوة.
ظلت عيناها مفتوحتان على السقف، لكن قلبها غارق في ظلامٍ عميق. ومع كل محاولة منها لإيجاد جواب، يزداد الضجيج في رأسها، كأنها في غرفة تعج بالجنون ولا باب للخروج منها.
لم تدرك متى أطبق عليها النعاس؛ سقطت في نومٍ ثقيل أشبه بالإغماء، نومٍ لا يُطفئ الخوف ولا يُبدّد الأسئلة، بل يُبقيها معلّقة في صدرها، تنتظرها مع أوّل صحوة قادمة.
༺═────────────────═༻
في الصباح الباكر، دوّت طرقات عالية على باب غرفة حسن، فاستيقظ على أثرها ونهض ليفتح الباب، فإذا بچيلان تفتح باب غرفتها هي الأخرى، وكذلك عمر، ثم نادية، بعد أن طرقت الخادمة أبوابهم جميعًا في ذات الوقت.
تبادلوا نظرات التعجب الصامتة، ثم قطع حسن ذلك الصمت متسائلًا:
ـ في إيه في يومك اللي مش فايت ده ، حد يصحي حد كده ؟!
أجابت الخادمة بسرعة:
ـ الباشا عاوزكم حالا.. وبيقولكم الحضور إلزامي والتأخير ممنوع .
فنظر إليها عمر مستنكرًا، وهتف بغضب:
ـ هو إيه اللي الحضور إلزامي والتأخير ممنوع، هو احنا في المدرسة ؟! دي مبقتش عيشة دي !
ثم دلف إلى غرفته وصفق الباب بعنف، فارتج الباب من قوة الصوت. تبادل الباقون النظرات في صمت مرتبك، وما إن التقت عينا حسن بعيني چيلان، حتى ابتسم بمكر وهو يغمز بعينه متعمّدًا إثارة ضيقها:
ـ بذمتك ينفع كده ؟!
فردّت عليه بذات الفعل المستفز، حيث دخلت غرفتها وصفقت بابها بقوة، في رد ناري دفعه لأن يصيح مستنكرًا وهو ينظر إلى نادية:
ـ شايفة قلة الذوق بتاعة عيالك يا طنط ؟!
اتسعت عينا نادية من وقع كلماته، ثم هتفت بغيظ مكتوم، وهي تصفق الباب بدورها في وجهه:
ـ طنط في عينك قليل الأدب !
فصاح حسن بانفعالٍ مصطنع، محاولًا كبح ضحكته:
ـ هو إيه أصله ده ؟! إحنا بالشكل ده هنغير أبواب الڤيلا كل شهر ..
ثم عاد إلى غرفته وصفق الباب خلفه بغضب، قبل أن يقف متخصرًا يتطلع حوله بانفعال وضيق مكتوم. سرعان ما دلف إلى الحمام، فأخذ حمامًا سريعًا واستعد للنزول. طرق باب عمر فوجده مستعدًا، فنزلا معًا، تلحق بهما چيلان ووالدتها.
وما إن وصل الأربعة إلى غرفة المائدة، حتى رأوا سالم جالسًا بمنتهى الثبات، كفيه مسنودتين فوق بعضهما، وعيناه توحيان بالاستعداد. وكان حسن أول من بادر بالكلام قائلًا:
ـ صباح الخير..
فأومأ سالم، ثم قال بانفعال:
ـ صباح الخير ؟! وهييجي منين الخير بعد ما اتفككنا وبطلنا حتى الوقت القصير اللي بنتلم فيه ..
ثم ضرب بكفه فوق الطاولة المستطيلة، وهتف بحزم:
ـ من النهارده الفطار لازم يكون جماعي زي ما اتعودنا.. والحضور إلزامي ومفيش مجال للتأخير أو الاعتذار !! أظن الرسالة وصلت ؟!
نظروا إلى بعضهم بدهشة، فبادر عمر بالرد ساخرًا:
ـ وأنا أظن إن كل واحد حر ياكل وقت ما يحب ومكان ما يحب.. مش إجباري يعني .. إحنا مش في الجيش !
أطبق سالم شفتيه صامتًا، وفي داخله تساؤلات لا حصر لها، ثم تنهد بهدوء متكلف، يخفي به انزعاجه من حدة ابنه وتهكمه، وقال:
ـ صح إنت مش في الجيش .. !! بتنام وتقوم وتسهر وتاكل وتلبس على مزاجك.. بتقف قدام أبوك وتبجح وتعلي صوتك وتتريق على كلامه براحتك.. لو كنت رحت الجيش كنت اتعلمت تكون راجل ، أنا دلوقتي بس استوعبت إن الغلط كان مني أنا.. وأنا فقط.. لما سعيت أني أخليك تاخد إعفاء من الجيش.. لكن ملحوقة، زي ما غلطت هصلح غلطتي بايديا ..
تجمدت ملامح عمر من وقع كلمات والده، وتضاعف ذهوله حين أدرك مقصده، فأخذ ينظر إلى البقية واحدًا تلو الآخر وكأنه يستغيث بهم، ثم قال بتوسلٍ مرتبك:
ـ لأ تصلح إيه استهدى بالله يا باشا أنا كنت بهزر مش أكتر ..
لكن سالم قاطعه بصرامة لا تحتمل النقاش:
ـ الموضوع منتهي !
ثم نظر إلى وجوههم واحدًا واحدًا، قبل أن يصيح بلهجة آمرة:
ـ هتقعدوا عشان تفطروا ولا هتفضلوا واقفين تتفرجوا عليا ؟!
جلسوا جميعًا على مقاعدهم في انصياع، بينما أشار سالم للخدم، فأسرعوا بفرش مائدة الإفطار خلال دقائق. جلس الجميع يتناولون الطعام في صمت، يتبادلون النظرات الحائرة فيما بينهم، بينما عمر يلقي بنظراته إلى حسن وكأنه يستغيث به لينطق ويُنهي تلك المهزلة، لكن حسن هز رأسه بصمت، بعينين تنطقان بالطمأنة.. وكأنه يطلب منه الصبر.
أما سالم، فقد أخذ يرصدهم بنظراتٍ ثابتة وهم يتناولون طعامهم في صمت، ثم رفع فنجان قهوته ببطء، وأدار وجهه نحو حسن قائلًا:
ـ افتتاح المزرعة إمتا يا حسن ؟!
رفع حسن رأسه منتبهًا وقال:
ـ الخيول هتوصل الأسبوع الجاي يا حج.. وبمجرد ما كل حاجة تبقى جاهزة هنعمل الافتتاح على طول.
أومأ سالم موافقًا، ثم أدار عينيه نحو چيلان، وقد ارتسم على ملامحه هدوء متفحّص، وسألها مباشرة:
ـ وصلني خبر إنك بتدوري على بيت!! الكلام ده صحيح؟
اتسعت حدقتاها الزرقاوتان بدهشة ظاهرة، فابتسم سالم ابتسامةً متهكمة وقال بنبرة واثقة:
ـ أكيد مش محتاج أقوللك إن دبة النملة أنا على علم بيها..
في تلك اللحظة، تبادل عمر ووالدتها نظرات مصدومة، فيما أشاحت چيلان بعينيها بعيدًا عنهما، ثم أعادت النظر إلى سالم الذي أردف بصوت حاد:
ـ ممكن أعرف عايزة تسيبي البيت اللي اتربيتِ وكبرتي فيه ليه؟
تنهدت چيلان بضيق، وقالت بصوت متردد، يشي بالارتباك:
ـ لأني مبقتش صغيرة.. ومحتاجة أعيش براحتي في مكان خاص بيا، من غير تحكمات أو فرض عقوبات من حد.
ارتفع حاجباه ببطء، وكأن الدهشة تسللت إلى ملامحه على مهل، ثم تساءل باستنكارٍ هادئ:
ـ ومن إمتى حد هنا بيتحكم فيكي أو بيفرض عليكي حاجة؟! ده إنتي طول عمرك إنتي وأختك بتتعاملوا معاملة خاصة.
ساد صمت قصير خيّم على المائدة، تبادل خلاله الجميع نظرات التعجب، لا سيما نادية التي انعقدت الدهشة على وجهها، بينما واصل سالم بعد تنهيدةٍ قصيرة:
ـ على العموم براحتك.. محدش هيجبرك على حاجة، بس أنا عايزك تعرفي إن مكانك في الڤيلا محفوظ. حتى لو مشيتي وحبيتي ترجعي في أي وقت، هتلاقي مكانك موجود ومستنيكي.
هزّت چيلان رأسها بهدوء دون أن تعقب، ثم أنهت طعامها بسرعة ونهضت عن المائدة. لحقت بها والدتها بخطوات مترددة، تناديها محاولةً استيقافها، لكن چيلان أجابتها باقتضاب وهي تواصل طريقها:
ـ نتكلم بعدين من فضلك يا مامي… دلوقتي مستعجلة.
خرجت من الڤيلا بخطوات حاسمة، بينما وقفت والدتها واجمة تحدق في أثرها، غير قادرة على تصديق أن ابنتها تبحث فعلًا عن بيت لتغادره وتعيش بعيدًا عنها.
ابنتها، التي ظنتها تُطلق تهديدات أو كلماتٍ عابرة تحت وطأة الغضب.. لكنها هذه المرة لم تكن مجرد كلمات.
وأخذت تفكر، كيف ستمنعها؟ كيف تضع أمام هذا القرار الطائش حائطًا لا يخترق ؟!
༺═────────────────═༻
استيقظت نَسيم من نومٍ مُضطرب، يتنازعها فراغ داخلي مرهق. جالت بعينيها في أرجاء الغرفة بلهفةٍ مشوبة بالانتظار، كأنها ترجوه أن يعود من حيث لا تدري.
كان في قلبها أمل هشّ وعنيد، يقاوم الخوف بإصرار، يرجوه أن يعود إليها، أن يُعيد إليها شيئًا من الطمأنينة.
مدّت يدها المرتعشة إلى الهاتف، ضغطت رقمه، أصغت إلى الرنين الذي بدا لها أبديًّا، حتى انقطع فجأة، تاركًا صدرها مثقلاً بالخذلان. لم يُجب… وكأن صمته صار شريكًا في عذابها.
تأججت في داخلها حيرة قاتلة: أهو الشوق الذي ينهشها، أم الخوف الذي يطاردها؟ مزيج متناقض جعلها أسيرة نفسها. لكن فجأة، وكأن قوة خفية انتزعتها من ضعفها، نهضت بعزم متوتر. اقتربت من المرآة، وأخذت تبدل ملابسها بعنايةٍ دقيقة، تضع الزينة كمن يتهيأ لمعركة لا لمجرد لقاء.
خرجت من بيتها بخطواتٍ ثابتة تحمل في داخلها ارتجافًا خفيًا، ماضيةً نحو شركته. كانت تعلم أنّها تمشي على حدّ السيف: إن مالت خطوة واحدة غلبها الخوف، وإن ثبتت قليلاً ابتلعها الشوق. وبين الاثنين، كانت تقترب من مواجهة لا تدري أي مصير ستفضي بها إليه.
بعد ساعة..
دخلت نَسيم إلى الشركة بخطواتٍ واثقة ظاهرًا، مضطربة باطنًا، تتهادى كمن يحاول أن يُخفي عاصفة داخله. وما إن اجتازت البهو حتى التفتت إليها العيون من كل صوب، عيون الموظفين والسكرتيرات، يتفحّصونها في صمتٍ لم يخلُ من الهمس. كانت النظرات تُترجم كلماتٍ لم تُنطق: "إنها زوجة المدير…"
بقيت ماضية تتجاهل تلك الهمسات كأنها لا تسمعها، فيما في داخلها كانت كل كلمة تترك صدى يضاعف ارتباكها.
صعدت إلى الطابق الأخير حيث مكتب عاصم، فما أن رآها رشيد حتى نهض متأهبًا، ورحب بها وقاد خطواتها نحو مكتب عاصم.
شكرته نَسيم بخفوت، ثم تقدّمت إلى المكتب بخطوات مترددة، ثم وقفت لحظة أمام الباب، تتأمل اسمه المنقوش بوضوحٍ على اللوحة المعدنية. ارتعش قلبها، لكنّها مدت يدها ودفعت الباب بهدوء، لتدخل فجأة وتواجهه.
وما إن دخلت المكتب، حتى وقع بصرها عليه؛ كان منحنياً فوق مكتبه، رأسه مطأطأ، يتصفح بتركيز شديد رُزمًا من الملفات المتراكمة أمامه. لم ينتبه لوجودها في البداية، وكأن العالم كله قد انحصر بين يديه في تلك الأوراق.
توقفت نسيم عند العتبة، تتأمله بصمت، يملؤها خليط متناقض من الشوق والرهبة؛ قلبها يخفق بجنون، وعقلها يذكّرها بحدّ السيف الذي تمضي عليه كلما اقتربت منه.
وما إن رفَع رأسه فجأة، حتى وقعت عيناه عليها.. تجمّد لوهلة، وكأن الزمن قد توقف بينهما. ارتسمت الدهشة في عينيه أولاً، ثم تدرّجت ملامحه بين قسوة الغضب وارتباك الشوق، فبدت قسماته متناقضة، كمن يحارب نفسه.
أما هي، فظلت واقفة في مكانها لا تتحرك، تنظر إليه بلهفة تخونها، رغم أنها جاءت مثقلة بعتاب وقلق لا يقلان عن اشتياقها.
لحظة صمت خانقة سيطرت على الأجواء، لم يُسمع فيها سوى خفق قلبيهما الذي يكاد يعلو على كل شيء.
تقدّمت نسيم بخطوات متردّدة، حذرة، كأنها تسير في حقل ألغام، تحمل بين ضلوعها خليطًا من اللهفة والرهبة.
لم تكد تقترب أكثر حتى نهض عاصم فجأة من خلف مكتبه، اندفع نحوها باندفاعٍ صاعق، كمن وجد ضالته بعد غياب طويل. احتواها بين ذراعيه بقوةٍ عارمة، حتى خُيّل إليها أن عظامها ستذوب من شدّة العناق.
كان عناقه مزيجًا من العشق والجنون، من الشوق والامتلاك؛ عناق من لا يريد أن يتركها ثانيةً، ومن يخشى في الوقت نفسه أن تفلت منه. تجمّدت هي لوهلة بين ذراعيه، تضاربت مشاعرها: قلبها يرفرف فرحًا بعودتها إليه، وروحها ترتجف خوفًا من غضبه الذي تعرف أنه لم ينطفئ بعد.
استسلمت نسيم لحلاوة العناق، غمرها دفء افتقدته طوال الليلة الماضية وكأن كل أشواقها المخبّأة قد وجدت أخيرًا ملاذها. أغمضت عينيها لحظة، تاركةً نفسها تنساب في حضنه، تستمع إلى خفقات قلبه التي تتسابق كأنها تصرخ باسمها.
لكن، وسط هذا الطوفان من الحنان، كان الخوف يطلّ برأسه من أعماقها. سؤال ثقيل يلحّ عليها: أهو عناق حبٍ صادق؟ أم عناق يسبق العاصفة؟! أحسّت أنها واقفة على الحدّ الفاصل بين الأمان والتهلكة، بين نعيمٍ تمنّته طويلًا وجحيمٍ تخشاه في كل لحظة.
وببطء، بدأ يفكّ ذراعيه عنها، كأنما يخشى أن ينكسر شيء بينهما إن هو أسرع. تراجع خطوة صغيرة، لكنه ظلّ ماثلًا أمامها، عيناه معلّقتان بوجهها لا تفارقانه، يملؤهما عتابٌ صامت أثقل قلبها أكثر مما لو نطق.
تقلّبت مشاعرها بين الارتباك واللهفة، حتى لم تحتمل ثقل النظرات، فرفعت رأسها وسألته بصوتٍ واهنٍ ارتجف بين شفتيها:
ـ ليه مرجعتش بالليل ؟!
تنهد بهدوء، ثم ابتعد خطوة كأنما يحاول استعادة توازنه، وأدخل يديه في جيبيه، بينما عيناه لا تزالان مسمّرتين على وجهها، وقال بصوت خافت يحمل مرارة مكتومة:
ـ كنت محتاج أقعد مع نفسي شوية !
ارتجف قلبها بخذلانٍ واضح، ونظرت إليه بعينين يغمرهما الألم، ثم سألته بمرارة مشابهة:
ـ طب وأنا ؟!
زفر ببطء، وأجاب:
ـ انتي كمان محتاجة تقعدي مع نفسك.. جايز تفكري كويس وتعيدي ترتيب أولوياتك !
انقبض صدرها من حديثه، فأجابته بحدة مكتومة:
ـ أولوياتي أنا عارفاها كويس أوي يا عاصم..
أطرق برأسه قليلًا، ثم رفع نظره إليها وسألها بصرامة:
ـ ممكن أعرفها أنا كمان ؟!
شعرت حينها وكأنها سقطت بين شقّي الرحى؛ فهو يترقب منها إجابة بعينها، وإن لم تبح بها، ستزداد الأمور سوءًا… انفجرت فجأة، كأنما عجزت عن الصمت أكثر، واندفعت تقول بعينين دامعتين:
ـ انت أولوياتي !
سقط الكلام في أذنه سقوط الحجر في بئرٍ عميقة، لكنه لم يترك الصدى الذي تمنّته. ظلّ ينظر إليها بصمت، بعينين جامدتين، لا تصديق فيهما ولا تكذيب، فقط برودة غامضة أطفأت شرارة شجاعتها.
تعلّقت بعينيه تبحث عن أي بريق، عن أي خيط يربطها به، لكن ما وجدته كان جدارًا من الصمت والشك. شعرت أن قلبها انقبض، وأن اعترافها الذي أطلقته كصرخةِ نجاة قد ارتدّ عليها كطعنة.
ابتلعت ريقها بتوتر، وخفَت صوتها وهي تضيف وكأنها تستجديه:
ـ عاصم… أنا بحبك .
لكنه لم يحرّك ساكنًا، ظل واقفًا على مسافةٍ خطوة، يحدّق فيها بملامح يصعب فكّ شفرتها؛ هل هي عتاب؟ أم خذلان؟ أم خوف؟ ثم تنهد وهو يوميء ويقول:
ـ وأنا بحبك يا نسيم..
كادت ابتسامتها تنبعث على شفتيها، ولكنه تابع فوأدها في مهدها:
ـ بس الحب مش كفاية .. في حاجات كتير أهم منه، إيه فايدة اننا نحب بعض وإحنا كل واحد فينا دماغه في اتجاه ؟! نسيم احنا ماشيين ضد بعض لو مش واخدة بالك !! أنا ببني وانتي بتهدي !
انقبض قلبها وقطبت جبينها، فقال:
ـ أنا بحاول أعمل كل حاجة تخليكي سعيدة، تخليكي تكتفي بيا.. بحاول أعوضك عن اللي اتحرمتي منه! أنا عامل زي اللي بيبني قصور من رمل .. أضعف موجة بتيجي تهدها.. !! أنا بحاول أبعدك عنه وأخليكي تنسيه وتتعافي من اللي عمله فيكي وفي المقابل انتي مش عاوزة تتعافي.. لأ وبتحاولي تخلقي له فرصة ومبررات كمان !!!
في داخلها كانت تعرف أنه محق، لكنه يطلب منها ما يفوق قدرتها؛ يريدها أن تتخلص من ميراث والدها الذي ما زال جاثمًا عليها، من صوته وصورته ونرجسيته التي ما زالت تحكم سلوكها من الداخل. عاصم لا يقاتلها هي، بل يقاتل أثر ذلك الأب الذي ما زال يسكنها ويؤثر في قراراتها دون وعي.
صمتت وعدلت خصلاتها بتوتر ثم نظرت إليه وقالت:
ـ علاقتي بأهلي تخصني أنا يا عاصم..
ـ لو أهلك دول مفيش بيني وبينهم تار كنت وقتها بس أقولك معاكي حق !!
ألقاها بغِل، وعصبية بالغة، فتدلى كتفيها بإحباط، وانسابت دمعاتها بقلة حيلة، لم تعد تقوى على الاسترسال أكثر.. فاتخذت طريقتها الأكثر تأثيراً عليه، وعانقته وهي تبكي بانفطار وتقول:
ـ علشان خاطري يا عاصم متعملش فينا كده… أرجوك.
عانقها، بصدق، فهو يحتاجها بصدق وبأشد مما تحتاجه، وخصوصًا وهو يراها في تلك الحالة، تبكي بانهيار، فضمها إليه بقوة.. فاطمئنت قليلًا.. وضمته بدورها، أخذ يربت على شعرها بحنان، فاستكانت.. ولكنها سرعان ما انتفضت عندما قال بهدوء:
ـ نسيم.. انتي لازم تروحي لدكتور … !!!
ابتعدت عنه لحظة، وظلت تحدق فيه بتعجب، ثم سألته:
ـ دكتور إيه ؟!
توترت ملامحه قليلًا قبل أن يرد وهو يواري عينيه عنها:
ـ دكتور نفسي !
اتسعت عينيها بدهشة، ورددت باستنكار:
ـ دكتور نفسي ؟!! ليه ؟! هو إنت شايف إني محتاجة دكتور نفسي ؟!!
تنهد باستياء وقال:
ـ كلنا محتاجين دكتور نفسي يا نسيم، فين المشكلة يعني؟!
احتدت ملامحها، ثم نظرت إليه بضيق وهتفت بحدة:
ـ رد عليا من غير مراوغة يا عاصم !!! إنت شايف إني محتاجه دكتور نفسي ؟!! ليه ؟! هو أنت شايفني بشد في شعري ولا بمشي أخبط دماغي في الحيط ؟!
فأجابها بحدة مماثلة :
ـ سيبي الكلام ده للناس الجاهلة يا نسيم.. أظن انتي عارفة إن مش كل اللي بيروحوا لدكتور نفسي بيشدوا في شعرهم !!
وأضاف بنبرة لاذعة تحمل تهكمًا صريحًا :
ـ وبعدين ما أخوكي كان بيروح لدكتور نفسي ؟! كنتي شفتيه بيخبط دماغه في الحيط ؟!
تجمدت في مكانها، مأخوذة من معرفته بتلك المعلومة عن فريد، فصرخت بحدّة غاضبة:
ـ أولا متتدخلش في أي حاجه تخص أخويا.. ثانيا فريد كان بيعاني من الوسواس القهري.. أنا كمان كنت بروح لدكتور نفسي لأني كنت مكتئبة ، انما دلوقتي ؟! أنا كويسه جدا الحمدلله.. ممكن أعرف بقا سيادتك شايف فيا إيه يستدعي أروح لدكتور نفسي ؟!!
فأجابها وهو يلوّح بيديه بعصبية، وصوته يرتفع تدريجيًا:
ـ شايف إنك مش قادرة تتخلصي من تأثيره عليكي يا نسيم، مش قادرة تعيشي.. مش قادرة تفصلي بين الصورة اللي هو رسمها ليكي وبين صورتك الحقيقية ، انتي مشوشة ومش قادرة تفهمي إحساسك صح، وده اللي أنا عاوزك تصلحيه ..
نظرت إليه بضيق وهتفت :
ـ كل ده علشان قلت لك إني اتبسطت لما شفت في عينيه النظرة دي ؟! عملتني مريضة ومحتاجة دكتور نفسي ؟!
تنهد عاصم بضيق، لم يكن يتوقّع ذلك القصور في الفهم، ولا ذلك الاتّهام الذي خرج من فمها كسهمٍ لا يخطئ هدفه. حاول أن يردّ، أن يطلق كلمة قاطعة تردعها، لكن الحروف انحبست في حلقه، وكأنها ارتدّت إلى صدره لتثقل أنفاسه.
لم يجب، ولم تمهله، فاندفعت نحو الباب بغضب، وقبل أن تدير المقبض، نظرت إليه وهتفت بانفعال:
ـ على فكرة.. الشخص الوحيد اللي محتاج يروح لدكتور نفسي هو أنت !
تجمّد عاصم في مكانه، وقد نزلت كلماتها عليه كالصاعقة. اتّسعت عيناه، وتجمدت ملامحه للحظة، ثم ارتسم على وجهه مزيج غريب من الغضب والدهشة وشيء خفيّ يشبه الألم.
ظلّ يحدّق في الباب الذي أُغلق خلفها، كأنّه يراقب خطواتها وهي تبتعد حاملة معها جزءًا من روحه. وببطءٍ انكسرت قشرة الكبرياء التي كانت تحيط بملامحه، ليطلّ من خلفها سؤال مُربك: أهي رأت فيه ما يُخفيه عن نفسه؟
جلس على الكرسي المقابل، قابضًا كفَّه بإحكام، وكأنّه يخشى أن يفلت منه ما تبقى من ثباته. وفي عينيه بريق حائر، يشهد أنّ تلك الكلمة التي ألقتها لم تكن مجرّد هجوم، بل مرآة اضطرته إلى مواجهة صورته الحقيقية.
همس لنفسه بصوت خافتٍ مُنهك:
ـ جايز.. ليه لاا !
༺═──────────────═༻
#يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق