رواية غناء الروح الفصل الثالث والأربعون 43بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل الثالث والأربعون 43بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
الفصل الثالث والأربعون.
كادت انفعالات يزن تقوده إلى حافة الجنون وهو يراها فاقدة الوعي شاحبة الوجه، حتى أنفاسها باتت متقطعة ضعيفة، وكأن الحياة توشك أن تغادر جسدها في أي لحظة، ابتلع ريقه بعسر وهو يحدق حوله بقلق صوب العساكر الذين اكتفوا بتوجيه نظرات باردة نحوه، كأنما يشاهدون شخصًا يهذي أو فقد صوابه، وفي المقابل كانت نظرات السائق ملتهبة بالكراهية، يختلط داخلها الغضب بالنفور، جالدًا ذاته ندمًا على افتعاله ذلك الشجار منذ البداية، حاقدًا على زوجته التي دعت عليه صباح اليوم بغلٍ وحقد، مرددة عبارتها التي طعنت روحه وأشعلت نيران غضبه:
-"ربنا ينتقم منك يا بعيد…روح إلهي تلبس في مصيبة!"
أما يزن فزفر زفرة حارة كأنما تخرج معها جمرة من صدره، ثم التفت بحدة إلى أحد العساكر صارخًا:
-ده طريق سفر، مش طريق للقسم...واللي مرمية جنبي دي إيه مش هتودها مستشفى؟!
رمقه العسكري بنظرة باردة وأجاب بلهجة لا تخلو من اللا مبالاة:
-قولت للباشا عليها قالي سيبها لما تفوق لوحدها.
تصلبت ملامح يزن واشتعلت أعصابه حتى فقد السيطرة على نفسه، فهب يضرب بقبضته على حديد السيارة بجنون وهو يزمجر:
-يعني إيه تفوق لوحدها هي بتمثل؟ واقسم بالله لو حصلها حاجة ما أنا سايبكم.
ابتسم العسكري ابتسامة ساخرة تحمل في طياتها تهديدًا مبطنًا وهو يقول بخفوت:
-اقعد ساكت عشان عصام باشا خلقه ضيق لو سمعك بتزعق تاني عشان خطيبتك هيرميك في السجن وأهلك مش هيعرفولك طريق.
لم يتحمل يزن تلك النبرة الاستفزازية، فخرجت منه ألفاظ نابية وسباب حاد موجه للعسكري والضابط معًا، مُهددًا ورافضًا تمامًا فكرة عدم نقل سيرا إلى أي مشفى، وخاصةً عندما تذكر الضابط وهو يزيد في سخريته:
-"مفيش يا ولاد أي مستشفى خاص في طريقنا ننقل السنيورة فيها عشان روميو خايف عليها؟!!"
انتفضت السيارة فجأة وتوقفت بعنف، فالتفت يزن مستغربًا ليجد أحد العساكر يصرخ مهددًا:
-وصلنا يا حلو، والله للتظبط جوه.
هبط الضابط عصام من السيارة متجهًا نحو قسم الشرطة، لكن ما إن اقترب حتى تفاجأ بحالة استنفار داخلية؛ عدد من الضباط يتحركون في اضطراب واضح بعضهم يعرفهم، والبعض الآخر أعلى رتبة وسنًا، لم يكد يستوعب ما يجري حتى اقترب منه ضابط آخر يهمس بغيظ:
-انت مجنون يا عصام قابض على اخو زيدان الشعراوي ومركبه البوكس كمان؟
قطب عصام حاجبيه بعدم فهم ورد بصوت خافت مرتبك:
-مين زيدان الشعراوي؟ وبعدين هو أنا كل ما اقبض على حد هسأله انت مين وابن مين؟
اقترب الضابط أكثر وخفض صوته متوعدًا:
-زيدان الشعراوي ده أرخم ظابط في الوزارة، نابه أزرق ومعندوش تفاهم، واديك شايف يا حلو هو قالب القسم ازاي؟
في الجهة الأخرى كان زيدان قد وصل برفقة سليم، فتقدما بخطوات حازمة نحو سيارة الشرطة، أشار زيدان للعساكر بالتراجع فورًا فامتثلوا في لحظة، بينما تحرك السائق معهم في صمت متوتر، وما إن أطل زيدان برأسه داخل السيارة حتى وقع بصره على سيرا مغمضة العينين شاحبة الوجه، رأسها مستند إلى كتف يزن، عقد حاجبيه بحدة والتفت نحو يزن يسأله بلهجة متوترة:
-هي مالها يا يزن؟
أجابه يزن من بين أسنانه بغيظ مكبوت:
-لا أبدًا كانت مرهقة ونامت شوية، أصحيهالك؟
زفر زيدان بعنف والتفت إلى سليم هامسًا:
-شوفته بيقل مني ازاي وسط زمايلي، لما اهزقه دلوقتي، هيبقى حلو؟
ربت سليم على كتف أخيه مهدئًا إياه ثم التفت إلى يزن قائلاً:
-انزل ونزل خطيبتك، وانت يا زيدان شوفلنا دكتور؟ ولا....
لكن يزن قاطعه بنبرة حادة ارتج لها المكان:
-ودوها مستشفى يا عم، ده مفيهاش أي نفس، ودوها مستشفى وأنا هفضل هنا معاكم.
هنا صرخ السائق من الخلف وهو مكبل بين يدي أحد العساكر:
-لا أنا ماليش دعوة البت دي هيتحقق معاها زيي، هي أصلاً اللي غلطانة.
تدفقت الدماء في عروق يزن كالنار المشتعلة، فدفع سيرا التي لا حول لها ولا قوة نحو سليم بعنف وهو يهتف:
-خدها وامشي ومالكش دعوة باللي هيحصل.
ثم انقض على السائق كوحش هائج، يكيل له اللكمات في وجهه وجسده بعنف شديد حتى تدخل الجميع لفصله عنه، واستطاع زيدان إمساك ذراع يزن وأبعده بقوة، زاجرًا إياه بعنف:
-اقف مكانك، خلاص هي مش سويقه، في أيه مالك؟
ابتعد يزن وهو يلهث بشدة يعيد خصلات شعره الثائرة للخلف بأنامل مرتجفة، ثم التفت نحو سليم وهو يصرخ:
-ما توديها يا سليم المستشفى، هي ملهاش أصلاً دعوة أنا اللي متخانق معاه.
لكن السائق المدمى فمه صرخ متحديًا:
-لا هي.
فالتفت إليه يزن وعيناه تقدحان شررًا:
-قولتلك أنا...ولما اقولك أنا اللي اتخانقت معاك يبقى أنا.
كان كل ما يدور في رأسه في تلك اللحظة إبعاد سيرا عن هذا المكان بأي شكل من الأشكال؛ فمجرد صعودها لسيارة الشرطة أفقدها وعيها، فما بالك لو أفاقت لتجد نفسها متهمة داخل قسم الشرطة!
رفع عينيه باحثًا عن سليم فلم يجده في الجموع المزدحمة، ليلمح سيارته وهي تبتعد حاملةً سيرا بعيدًا عن الفوضى فزفر بارتياح عميق، ولم يكد يلتقط أنفاسه حتى شعر بيد زيدان تجذبه بقوة إلى الداخل وهو يهمس بحزم:
-هندخل متفتحش بوقك بكلمة، عشان أعرف الم الدور أنت عاكك الدنيا على الآخر، مش ناقص عك زيادة، فاهم ولا لا؟
رمق يزن الضابط الذي تعنت معه في البداية ومنع سيرا من الذهاب إلى المستشفى، فاقترب من زيدان وهمس بغيظ:
-زيدان، الظابط اللي هناك ده عاند معايا وكل ما اقوله إنك اخويا، يقولي مايهمنيش...
ثم أضاف هامسًا مفتعلًا سبة قذرة ادعى أن الضابط تفوه بها في حق زيدان، فارتفع حاجبا زيدان بدهشة وتحولت نظراته إلى شراسة متوعدة، تاركًا يزن يتذوق لذة الانتصار وهو يشعل نيرانًا داخل أخيه تكفي لإحراق كل شيء.
****
بعد مرور ساعة كاملة كان سليم يجلس أمام الغرفة التي ترقد فيها سيرا بعد أن استفاقت واستعادت جزء من وعيها، لكن ملامح الضعف ما زالت بادية على وجهها ولم تستعد وعيها الكامل بعد، فالطبيب المعالج طلب إجراء بعض التحاليل للاطمئنان عليها، غير أنه لم يخبر سليم بأي تفاصيل عن حالتها الصحية بعد، الأمر الذي زاد من قلقه.
وفي تلك الأثناء كان يزن يشق طريقه بين ممرات المشفى بخطوات سريعة كأن قلبه يسبقه قبل قدميه، حتى كاد أن يصطدم بالمارة من شدة استعجاله، وعلى الرغم من الموقف المتوتر، لم يستطع زيدان كبح سخريته المعتادة فقال بلهجة لا تخلو من الغيظ:
-براحة يا روميو المستشفى هتقع بينا.
لم يتوقف يزن عن التحرك في الممرات، واكتفى بأن رماه بنظرة خاطفة حادة قبل أن يبتسم ابتسامة استفزازية قائلاً:
-أنا مش عارف حقيقي إيه اللي حاشرك في حياتي، جاي ورايا ليه؟ أنت مش مهتمك خلصت، خلاص خلصنا.
كلمات يزن كانت كشرارة أشعلت غضب زيدان، الذي لم يحتج سوى لحظة واحدة ليقف في وجهه مستهجنًا:
-هو إيه اللي مهمتك خلصت؟ أنت عبيط؟ هو أنا شغال عندك؟ تصدق يالا انت خسارة فيك المعروف، المفروض كنت أسيبك تلبس في قضية ومصيبة انت وهي.
توقف يزن فجأة واضعًا يده في جيب سرواله، ثم نظر إليه بعناد كعادته وقال بتحد:
-مالها هي؟ بتجيب سيرتها ليه طيب؟ مشكلتك معايا أنا، مشكلتك مش معاها عشان تجيبها في جملة مفيدة.
تدخل صوت ثالث فجأة وما كان سوى صوت سليم الذي ظهر من حيث لا يدري أحد:
-في إيه؟ إيه؟ انتوا اتجننتوا؟! بتتخانقوا!!
ابتعد زيدان خطوة إلى الخلف وأشار إلى يزن غاضبًا وهو يخاطب سليم بنبرة مشتعلة:
-اتفضل اتدخل انت يا كبير وشوف عمايل أخوك الصغير، وفهمه إنه يحترمني.
زم يزن شفتيه كاتمًا غيظه، لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من الرد بعنف مماثل:
-أنا محترمك كويس، بس أنت....
قاطعه زيدان باستنكار ساخر:
-انت إيه؟
ثم التفت إلى سليم وكأن لسانه يشكو من كثرة ما تحمله:
-من وقت ما خرجنا يا سليم، وهو نازل تنبيهات فيا كأني عيل صغير، اوعى تقول لحد إنها غلطانة....شوية هي مش غلطانة ده ابن الـ مش عارف إيه هو اللي نرفزها وقفل الباب على ايدها، شوية يقولي لو شوفتها متحسسهاش إنها السبب في حاجة، متضايقهاش...ماتعملش ماتسويش..في إيه؟ قرفتني يا عم انت ومحور الكون بتاعتك امال لو مش هتفركشوا.
رفع سليم حاجبيه بدهشة مصحوبة بعتاب ساخر:
-الملافظ سعد يا زيدان، في إيه هدي أعصابك ده يزن يعني وعارفينه على إيه؟!
-والله؟!
أطلق يزن ضحكة قصيرة ساخرة ثم أشار إليهما بحنق مكتوم:
-انتوا الاتنين لسه حسابي معاكم، إيه اللي عرفكم إن أنا اتقبض عليا، ده أنا لقيتكم قبلي في القسم؟ انتوا بتراقبوني؟
زفر سليم بخفة متظاهرًا باللامبالاة:
-مش لدرجادي يا يزن، مش هسيب حياتي ومشاغلي وزيدان هيسيب مجرمينه ونقعد نراقبك يا حبيبي، احنا عرفنا بالصدفة، وبعدين أنا مش هنبهك تاني تاخد بالك من كلامك معايا، ما هو مش هتيجي انت على أخر الزمن عشان تقولي حسابك معايا بعدين، فوق أنا أخوك الكبير.
ساد صمت قصير ثم أطرق يزن رأسه للحظة قبل أن يرفعها مبتسمًا ابتسامة نصف ساخرة قائلاً:
-أسف يا أبية.
ثم تخطاه بخطوات سريعة وكأنه يريد الهروب من ثقل الموقف، قبل أن يسأل بلهجة يغلبها القلق:
-سيرا أخبارها إيه؟!
ألقى سليم نظرة عابرة على زيدان، ثم ربت على كتفه وهو يجذبه خلفه، قائلاً بصوت منخفض يخالطه توتر:
-لسه ماعرفش محدش مفهمني حاجة.
اقترب يزن من باب الغرفة ببطء، ثم طرقه طرقًا خفيفًا، جاءه صوت أنثوي غريب يأذن له بالدخول، ففتح الباب بحذر لكن ما أثار تحفظه أن سليم وزيدان دخلا خلفه مباشرة وكأنهما يُصران على إغاظته، كانا يعلمان تمامًا كم يحتاج للانفراد بها، لكن…لا حياة لمَن تُنادي!
دخلوا ثلاثتهم إلى غرفة سيرا فوجدوها جالسة فوق الفراش، يدها مثبتة بالمحاليل وملامحها شاحبة كظل يتلاشى في الضوء، كان التعب مرسومًا على وجهها، وأنفاسها متقطعة كأنها تخوض صراعًا مريرًا مع الهواء نفسه، اقتربت منها الممرضة بخطوات هادئة ثم مالت نحوها لتساعدها على الجلوس وقالت برفقٍ مفعمٍ بالحنان:
-تشربي؟
فتحت الممرضة زجاجة الماء وقدمتها لسيرا، وفي تلك اللحظة انفتح باب الغرفة ودخل الطبيب الشاب، ملامحه المتوترة تنبئ بحداثة تخرجه، وعلى وجهه ابتسامة واسعة أثارت ريبتهم جميعًا أكثر مما بعثت الطمأنينة في نفوسهم.
لم يتحمل يزن الصمت،ط فالتفت نحو الطبيب بنبرة جامدة وهو يشير بيده إلى سيرا:
-هي عندها إيه يا دكتور؟
ابتسم الطبيب بثقة زائدة وقال بنبرة خفيفة كأنه يزف خبرًا سعيدًا:
-متقلقوش يا جماعة، هي بتدلع بس عشان حامل.
ساد صمت ثقيل في الغرفة كأن الهواء نفسه تجمد في مكانه، لم يصدر أي رد فعل من أحد سوى سيرا التي شهقت بدهشة حادة، ثم بصقت الماء دفعة واحدة من فمها كأن الكلمة نفسها صفعتها قبل أن تصل إلى أذنيها كاملة.
انطلقت ضحكات يزن فجأة عالية حد القسوة، كأنها رصاصات مباغتة مزقت صمت الغرفة، ارتفع صوته حتى احمر وجهه، وانحنى بجسده قليلًا وهو يسعل بخفة بين قهقهاته المتلاحقة، وكأن الخبر الذي سمعه للتو لم يكن فضيحة بل نكتة عابرة!
ثبت الطبيب في مكانه مذهولًا من ردة الفعل الغريبة، بينما تبادلت عينا سليم وزيدان نظرات مشحونة بالحيرة والشك معًا، كان المشهد غريبًا حقًا؛ كيف يمكن لشخص يسمع أن خطيبته حامل، ثم يضحك بهذا الشكل؟!
لكن يزن شعر بثقل تلك النظرات المرتابة، وكأنه محور محاكمة غير معلنة، فلوح بيديه في الهواء بتهكم وهو يلهث من الضحك:
-وربنا أنا لسه مامسكت ايدها حتى!
الجملة التي ألقاها بتلك الخفة لم تُضحك أحدًا… على العكس فجرت داخل سيرا بركانًا مكتومًا، فشعرت بحرارة الدم تتدفق إلى وجنتيها حتى كاد وجهها يحترق، لم يكن هذا ما توقعته منه، كانت تريد منه أن يقف صلبًا إلى جوارها، أن يُظهر رجولته في موقفٍ مربك كهذا…لا أن يسخر منها أمام الجميع وكأنها مادة للتهكم!
لم تكن تعرف أن يزن في مثل هذه المواقف يتأرجح دومًا بين طرفي نقيض...إما أن ينفجر غضبًا حتى العنف، أو يختار السخرية الصاخبة ليتخفى خلفها، تلك "الوسطية" التي كان سليم دائمًا يحدثه عنها لم يفقه عنها شيء!
جمعت شتات نفسها بصعوبة وحاولت أن ترد على الطبيب، لكن صوتها خرج مبحوحًا ممزوجًا بالذهول والغضب:
-حامل إيه حضرتك؟! أنا لسه مخطوبة وبفكر افركش! تيجي تقولي حامل!!
ارتبك الطبيب بشدة وبدت عليه علامات الحيرة وهو يرفع حاجبيه متسائلًا ببلاهة كادت تشعل الموقف أكثر:
-أنتي أنسة؟
رمقته سيرا بعينين تقدحان شررًا، وردت بقوة رغم ضعف صوتها:
-تخيل! تخيل أنا أنسة وبكر رشيد!!
ابتلع الطبيب ريقه وهو يقلب أوراق التحاليل بين يديه في توتر شديد، العرق يتصبب من جبينه بينما الحقيقة أمامه صادمة...التحاليل تؤكد وجود حمل! بدأ قلبه يخفق بسرعة وهو يبحث يائسًا عن تفسير منطقي لما يحدث.
لكن فجأة أنقذته الممرضة وهي تنتزع الأوراق من يده وتتفحصها بعجلة قبل أن ترفع رأسها قائلة:
-اه دي تحاليل مدام فدوة اللي كانت هنا قبل ما الانسة سيرا تيجي الاوضة بعشر دقايق وجوزها طلب تغيير الاوضة عشان التكييف مش عاجبه...
ساد صمت ثقيل حتى أن أنفاس الجميع صارت مسموعة بوضوح، والتفتت الممرضة نحوهم بخجل وهي تضيف بصوت خافت:
-معلش يا بشوات على الغلطة دي أصل دكتور علي لسه طبيب امتياز، واللي كشف على الانسة سيرا ومدام فدوة هو دكتور منذر، بس تحاليل الانسة سيرا لسه مطلعتش أول ما تطلع هنبلغ بيها الدكتور منذر.
رفع سليم يده ببطء كأنه يقطع خيط التوتر، وأومأ برأسه في تفهم بينما كان الطبيب الشاب قد غرق وجهه في العرق وهو يهمس:
-معلش دي غلطة الممرضة اللي بلغتني أن مدام فدوة هنا في الاوضة دي، اتمنى الموقف السخيف ده مايوصلش ادارة المستشفى، عن إذنكم.
وغادر مسرعًا كمن يفر من ساحة معركة لم يكن مستعدًا لخوضها، لكن سيرا لم تغفر له.فقد ظلت تحدق في الباب المغلق بملامح ممتقعة، قبل أن تنفجر بغيظ مكتوم:
-الله!! هو ماعتذرليش ليه؟! هو اللي كانت حامل أنا ولا أنتوا؟!
رفع زيدان حاجبيه بدهشة مكتومة ثم انحنى نحو يزن هامسًا بنبرة مملوءة بالسخرية:
-هدي خطيبتك، أنا حاسس أنها هتضرب الدكتور زي السواق.
رمقه يزن بنظرة حادة توعدية حتى كاد الموقف يتطور لمشادة جديدة، لولا يد سليم التي امتدت فجذبت زيدان للخلف بلطف قائلاً بنبرة هادئة تُناقض احتقان الموقف:
-شوف خطيبتك يا يزن واتطمن عليها قبل ما نمشي، الف سلامة يا سيرا.
ارتبكت سيرا لهيبة صوته وملامحه المتماسكة، فخفضت بصرها وهمست بخجل:
-الله يسلمك يا أبيه.
توقف سليم للحظة شعر فيها بالامتعاض من ذلك اللقب إذ لم يكن يستسيغه، لكنه تجاهل الأمر وخرج يتبعه زيدان الذي لم يلتفت نحوها، والسبب عناده مع يزن، لمحت سيرا ذلك فتساءلت بدهشة بعد أن أُغلق الباب:
-هو زيدان أخوك متضايق مني في حاجة؟
اقترب يزن وجذب أقرب مقعد، جالسًا بجانبها وهو يقول بصوت منخفض مطمئن:
-لا هو متضايق عشان اللي حصلنا بس مش أكتر.
أمالت رأسها ببراءة وهي تقول مستغربة:
-مقاليش الف سلامة زي أبيه سليم؟!
أما يزن ود أن ينفجر ضاحكًا على "أبية سليم" حقًا ذلك اللقب إن تكرر على مسامع أخيه الأكبر سيقتلهما، لكنه سرعان ما اعتدل وهو يميل نحوها قائلًا بهدوء:
-لا مالوش حقك، هبقى اعاتبه فيها، المهم انتي عاملة إيه؟
لم تُجبه بل اتجهت لتعبر عن عتابها كطفلة خُذلت من حبيبها:
-هو ينفع تقعد تضحك كده عليا لما الدكتور قال أنا حامل؟! ده موقف رجولي المفروض تاخده مع اللي كانت خطيبتك؟!
تعمدت أن تؤكد فكرة انفصالها الوشيك بطريقة مبطنة لكن رده فاجأها، حيث تغير وجهه للحظة وتلاشت ابتسامته، وحلت محلها ملامح جادة باردة، قبل أن يرد بصوت منخفض:
-والمفروض كنت أعمل إيه؟!
نظرت إليه بعينين مغرورقتين بشيء من العتاب والحزن:
-كنت تزعقله تفوقه من الجنان اللي بيقوله، شوفت لما زعقتله اتحرج.
ارتفع طرف فمه بابتسامة ساخرة وهو يجيب:
-طيب ما أنا زعقت وضربت اللي اتعرض للي كانت خطيبتي، واتقبض عليا!
ابتلعت ريقها بصعوبة وشعرت بوخز من الإهانة، فتمتمت بصوت منخفض:
-متبقاش تتدخل عشاني في حاجة، معلش عرضتك للمواقف....
لكن صوته قاطعها بحدة لا تحتملها ملامحه الهادئة:
-مش كل المواقف يا سيرا اللي رد فعلي هيكون واحد فيها.
ثم اقترب أكثر حتى صار صوته همسًا عميقًا يلامس عقلها:
-ده واحد وغلط غلطة مكنتش مقصودة فطبيعي اضحك، لما تلاقيني بثور وبضربه وبشك فيكي ابقى اتكلمي، لكن لما لقيت حد بيقل أدبه عليكي وبيتعرضلك أنا ماسكتش.
ارتجفت شفتاها ولم تجد ما تقول سوى:
-أنا....أنا...
لكن كلمتها اختنقت في صدرها، فاقترب أكثر وعيناه تلمعان بخليط من الحدة والعاطفة، وصوته يقطر جدية حين قال:
-انتي إيه؟ عايزة إيه؟
لم تحتمل نظراته فخفضت رأسها بارتباك، ثم أزالت خاتم الخطوبة بصعوبة من إصبعها المتورم، وقدمته له بخجل مرتبك:
-اتفضل أنا بعفيك من أي خطوبة تكون مغصوب عليها، ولما ان شاء الله....
كررت جملتها بلا وعي:
-لما ان شاء الله...
رفع حاجبيه ببطء بينما ابتسم ابتسامة مائلة للدهشة وهو يجيب:
-لما تلاقي الشبكة هتديهالي، صح؟!
ارتبكت سيرا بشدة وتجمدت في مكانها، حتى وجدت ابتسامته الهادئة تطمئنها، فقال بلطف وهو يقترب منها:
-بابكي اتصل وعرفني، مش محتاجة توتري ده كله!
أخفضت رأسها بخجل وهي تهمس:
-هي ماتسرقتش، بس هي ضايعة ولما الاقيها صدقني هجبهالك على طول.
مد يده برفق وأمسك كفها المتورم وأعاد الخاتم إليها، قائلاً بهدوء يحمل دفئًا:
-يعني اتخانقت عشانك، وماشي بتخانق مع دبان وشي عشانك بردو، وناقص انط في النيل عشان تغيري فكرتك عني وانتي دماغك حجر مابيفهمش.
همست بارتباك:
-مابفهمش إيه؟
كانت تنتظر كلمة…كلمة واحدة فقط، كلمة لو خرجت من بين شفتيه لغيرت كل شيء في قلبها، كلمة تُنهي شكوكها وتُسكت ضجيج عقلها، وتطفئ نار القلق المشتعلة في صدرها، لكنه وكعادته تهرب.
تنفس بعمق وأسند ظهره إلى المقعد، وعيناه تتهربان منها وكأنهما تبحثان عن مهرب، قبل أن يقول بصوت هادئٍ يحمل جدية حازمة:
-أني راجل ومفيش حد ربنا خلقه يقدر يغصبني على حاجة أنا مش مقتنع بيها، وكلامك وإهانتك ليا في بيت أهلي أنا مش قادر أنساها، بس هضطر اعديهالك عشان كنتي مصدومة وقتها.
كان وقع كلماته كصفعةٍ مباغتة، فشعرت كأن الهواء قد ثقل فجأة، رمشت بعينيها مرتين محاولةً حبس دموعٍ متأهبة، ثم خرج صوتها متحشرجًا ممزوجًا بخذلانٍ عميق:
-مش دي الأجابة اللي كنت مستنيها يا يزن! مش دي أبدًا.
ظنت أن صراحته ستخفف من ثقل قلبها، لكن ابتسامته التي تعلقت على شفتيه بهدوءٍ مستفزّ أوحت لها أنه متعمد أن يُربكها أكثر، أن يتركها في دوامة لا مخرج منها، فاقترب قليلًا حيث كانت نبرته هادئة لدرجة أشعلت غضبها أكثر:
-كل حاجة بتيجي في وقتها، ماتستعجليش على حاجة مش أوانها...
رفعت حاجبيها بدهشة مصحوبة بانفعالٍ مكتوم، وكأنها لم تعد تحتمل أسلوبه المراوغ:
-وأوانها هيجي امتى؟
أجابها بصوت منخفض متزن، وكأن كلماته محفورة داخله منذ زمن:
-لما أحس إنه هيكون الوقت المناسب واللحظة المناسبة، لما تتقال لازم عمرك ما تنسيها ولا أنا اقدر انساها، عشان وقتها افتكر أن اخترت صح واخترت اتمسك بيه..
تراجعت بجسدها محاولةً السيطرة على اضطراب أنفاسها، قبل أن تهمس بصوت متقطع بين الغضب والخذلان:
-يعني انت عايز تفهمني بعلاقتك دي كلها مع البنات، مفيش واحدة حركت مشاعرك وقررت وقتها إنك تعترف بحبك ليها؟!
كان الاستهجان واضحًا في نبرتها وفي نظراتها التي تقاوم دموعها، لكنه لم يتأثر بحدتها بل ضحك بخفة...ضحكة أربكتها أكثر مما أغضبتها، قبل أن يقول ببساطة أربكت قلبها:
-لا طبيعي كان فيه، مش هنكر كان في بنات اتعرفت عليهم وحركوا مشاعري بس مفيش... مجرد وقت بسيط وبعرف أنه مجرد فقعة إعجاب وخلاص بتنتهي.
ازدادت حيرتها واتسعت عيناها بدهشة كأنها تبحث عن مخرجٍ من متاهة مشاعره:
-وأنا هفضل امتى في الحيرة دي؟ هفضل كأني في امتحان؟ أنال إعجاب حضرتك ولا لا؟!
أطرق برأسه قليلًا ثم رفع عينيه نحوها بصوت منخفض، وكأن اعترافه ينزلق من بين أنفاسه رغمًا عنه:
-انتي نلتي إعجابي يا سيرا ومن زمان من اللحظة اللي شوفتك فيها، انتي عديتي المرحلة دي من زمان.
ارتعشت شفتاها لكنها حاولت أن تخفي ارتباكها خلف جملةٍ ساخرة ممزوجة بالمرارة:
-طيب والله كويس، امتى هجيب عشرة من عشرة؟
زفر ضحكة قصيرة نفدت منها صبره ثم مال برأسه للخلف وهو يهمهم:
-اقسم بالله أنا ما عارف أنا مسحول معاكي السحلة دي ليه؟ ما أنا كنت كويس وبخيري، هتطيري برج من دماغي...بصي احنا مش هتناقش في حاجة وانتي مقفلة دماغك كده، تمام؟
لكنها لم تتراجع بل انحنت للأمام قليلًا، وعيناها تتقدان بعنادٍ موجع:
-لا مش تمام...مش تمام يا يزن.
قالتها بلهجةٍ حادة ارتجفت في نهايتها، كأن روحها المثقلة قد سقطت بين حروفها، وقبل أن يزن جاء صوت طرقات الباب، ودخل الطبيب منذر بابتسامة هادئة، حاملًا بين يديه نتيجة التحاليل، فاقترب بخطوات واثقة، ثم قال مطمئنًا:
-الحمد لله… تحاليك كويسة ومفيش أي حاجة خطيرة، بس عندك انيميا محتاجة متابعة وأدوية هكتبهالك.
كتب روشتة العلاج وغادر بخطوات هادئ ، تاركًا الغرفة مثقلة بما لم يُقال بعد، لكن الموقف انكسر مجددًا بدخول سليم وزيدان معًا، نهض يزن ببطء وهو يقول بنبرة عملية يخفي خلفها اضطرابه الداخلي:
-خلاص روحوا انتوا، لما سيرا تكون كويسة همشي اوصلها وبعد كده هروح على البيت عشان عايزك يا سليم.
لكنها فاجأته بنبرة حاسمة وهي تلتفت نحو سليم دون أن تنظر في عيني يزن:
-لا...أنا همشي دلوقتي مع أبيه سليم، يلا يا أبيه.
ثم نهضت فجأة من على الفراش وكادت أن تفقد توازنها، لولا أن يد يزن أمسكتها بسرعة فأسندها برفق دون تفكير، لكنها دفعته عنها بقسوة وغيظ، وكأن لمسته صارت عبئًا على جرحها، ثم حملت حقيبتها بعصبية وهي تقول بصرامة:
-يلا يا أبيه أنا جاهزة.
وكعادة سليم كان وجهه جامد الملامح يخلو من أي تعبير، فاكتفى بإيماءة صامتة وهو يفسح لها الطريق لتمر قبله، ظل يزن واقفًا مكانه ينظر إليها مذهولًا، لا يدري كيف انقلب الموقف بهذه السرعة، حتى استفزته ضحكات زيدان المكتومة، واقترب الأخير وهمس بشماتةٍ واضحة:
-أحسن..أحسن..يا رب تربيك.
تشنجت يد يزن حول مقبض الكرسي بجواره، وارتسمت في عينيه لمعة غضب، لكنه كتم كل شيء في صدره، وعيناه لا تزال معلقة بباب الغرفة الذي أُغلق خلف سيرا.
****
مرت الدقائق ثقيلة وهي تجلس في المقعد الأمامي للسيارة، ويدها تعبث بقلادتها الصغيرة التي تتدلى من عنقها دون وعي، بينما كان سليم يقود في صمتٍ مهيب.
لم تستطع أن تستشف شيئًا من ملامحه؛ وجهه كان كلوحٍ صخري جامد لا يفضح شعورًا ولا يبوح بسر، حدقت فيه للحظة ثم سارعت بخفض نظرها خوفًا أن يقرأ اضطرابها، لكن قلبها لم يتحمل هذا الكم من الأسئلة المكبوتة، فتشجعت أخيرًا وسألته بنبرة هادئة رغم ارتجاف أنفاسها:
-هو أنت ليه غصبت على يزن يخطبني؟
انحرف بعينيه نحوها لثوانٍ يرمقها بنظرة ثابتة كأنه يزن كلماتها في عقله قبل أن يجيب، ثم أعاد نظره للطريق وهو يقول بنبرة هادئة لكنها لا تخلو من صلابة:
-أنا مغصبتش عليه، ويزن مش عيل صغير عشان اغصبه!
ارتعشت أصابعها قليلًا فوق حقيبتها الصغيرة، ثم تنهدت بضيق وهي تحاول أن تختار كلماتها بعناية، كأنها تخشى أن يفضح صوتها ضعفها:
-طيب ليه طلبت منه يخطبني؟!
لم يلتفت إليها هذه المرة بل تابع قيادته بنفس هدوئه الغامض، وصوته يخرج واثقًا وبسيطًا لدرجة أدهشتها:
-عشان حسيت أنه في مشاعر من ناحيته ليكي، ويزن أخويا مكنش هياخد خطوة زي دي في حياته، إلا لما نديله دفعة مننا وخدي بالك يزن لو الموضوع مش عاجبه وعلى هواه مكنش هيوافق أبدًا، وفي النهاية هو جه خطبك بمزاجه ومحدش غصبه.
شعرت سيرا أن صدرها يعلو ويهبط بسرعة، وكأن كلماته فتحت في عقلها أبوابًا جديدة من الحيرة، هل كان يزن حقًا راغبًا في هذه الخطبة؟ أم أنه استسلم فقط لدفع أخيه؟ بدا حديث سليم صادقًا،
خاليًا من أي محاولةٍ للمجاملة أو التلاعب ومع ذلك قلبها لم يهدأ.
هزت رأسها بصمت كأنها تحاول أن تبتلع كل شيء دفعةً واحدة، واكتفت بالتحديق في الطريق الممتد أمامها بشرودٍ غارق، لكن صوت سليم قطع شرودها فجأة بسؤالٍ مباغت:
-وانتي مسألتهوش أسئلتك دي؟ ماتكلمتوش في اللي مضايقك؟!
ابتلعت ريقها ببطء ثم أطلقت زفيرًا مرهقًا وهي تجيب بصوتٍ خافتٍ مضطرب أقرب إلى الاعتراف:
-لا اتكلمنا بس معرفتش اوصل لقرار وهو دايمًا غامض ومش صريح
لم يكن صوتها يوحي سوى بجزءٍ يسير مما يعتمل داخلها؛ ذلك الصراع الخفي بين حب متردد، وخوفٍ من الفقد، وكرامةٍ تأبى الانكسار، التفت إليها سليم بنظرةٍ عابرة حملت شيئًا من التفهم، ثم هز رأسه قبل أن يقول بنبرة رزينة عميقة:
-بصي هي شخصية يزن كده، اقصد تبان كدة اللي أول مرة يتعامل معاه، كل اللي هقدر اقولهولك ماتتعوديش تاخدي قرار وانتي متلخبطة أو متوترة، وزي ما عقلك بيتدخل في قرارتك لازم عواطفك يكون ليها جزء من قرارتك دي، دايمًا وازني أمورك وانتي في الآخر هتوصلي لبر الأمان.
كانت كلماته تشبه موجةً هادئة تغمر عقلها، لكنها في الوقت نفسه أشعلت شعورًا دفينًا بالخذلان؛ فهي لا تريد نصائح بل تريد وضوحًا، تريد يقينًا يغلق كل هذه الأبواب المفتوحة في قلبها:
-النصيحة دي متخصش قرارك بيزن أو لا، دي نصيحة لأي قرار وفي أي وقت، مش دايمًا قرارتنا لازم تكون نابعة من عقلنا، أحيانًا المشاعر ممكن تدلنا للطريق الصح.
رمقته سيرا بعينين متسعتين وكأنها تلتقط كل كلمة لتحفرها في ذاكرتها، ثم مالت برأسها قليلًا وهمست بخجلٍ ممزوج بالامتنان:
-شكرًا يا أبيه...هو انت متضايق من كلمة أبيه دي؟ أنا بعاملك زي ما بعامل أبيه صافي جوز أبلة حكمت أختي.
كانت تدرك أنها تبرر الأمر بطريقة طفولية، لكنها لم تجد تعبيرًا أفضل عن ارتباكها أمامه، نظر إليها سليم للحظات ثم حدق في ملامحها المرهقة وكأنه يحاول أن يقرأ شيئًا أعمق من الكلمات، ثم ابتسم تلك الابتسامة الخفيفة النادرة مرةً أخرى وأجاب بهدوء:
-لا عادي قولي اللي يريحك، طالما ده اللي هيريحك.
***
قاد نوح سيارته بسرعة جنونية، تكاد عجلاتها تلتهم الإسفلت التهامًا حتى وصل أمام منزل الحاج فاضل قبل أن تصل سيارة الأخير التي كانت تُقل يسر ومنير ومعهما والدة كل منهما.
توقف نوح فجأة أمام البوابة الكبيرة للمنزل، ركن سيارته على عجل وكأن قلبه هو الذي يركض لا إطارات السيارة، ثم بدأ يتجول أمام باب المنزل جيئة وذهابًا، لا يكاد يهدأ ولا يستقر له حال، تلاحقت أنفاسه ونظراته ازدادت توترًا، بينما يداه تضمان معصميه خلف ظهره في محاولة يائسة لكبح جماح انفعاله.
لم يطل انتظاره حتى وصلت سيارة الحاج فاضل، توقفت ببطء أمام البوابة الحديدية الثقيلة، فرأى يسر جالسة في المقعد الأمامي بجوار والدها، وعيناها شاحبتان، بينما جلس منير في المقعد الخلفي متكئًا إلى النافذة بجانب والدته ووالدة يسر.
زفر نوح بعمق وهو يحاول السيطرة على ارتجاف صدره، وتابع بعينيه خطوات يسر وهي تترجل من السيارة ببطء، يمسكها والدها من ذراعها برفق ليساعدها على الدخول، خفق قلبه بعنف، عندما تجاهلته تمامًا وكأنه لم يكن موجودًا، فقد كان ذلك التجاهل طعنة صامتة في كبريائه لكنه كبح صرخته في صدره.
أما منير فقد تأخر في النزول، وتباطأت خطواته عمدًا وهو يتخذ من والدته ووالدة يسر حاجزًا بشريًا يحتمي بهما من أي هجوم قد يشنه نوح، فقد كان يخشى نظراته أكثر مما يخشى كلماته، حتى إنه لم يرفع عينيه عن الأرض، وما إن خطا داخل بوابة المنزل وابتعد عن مرمى بصر نوح حتى تمتم بصوت خافت لا يكاد يُسمع:
-أنا هفضل في الرعب ده كتير، ربنا يسامحك يا جوز خالتي.
وفي تلك اللحظة همست والدة منير لأختها، وهي تلتفت بقلق إلى الخلف حيث يقف نوح كالبركان:
-يعني هو فاضل كان لازم يحكم دماغه ويجيب منير عندكم، ما كنا نروح بيتنا وخلاص!
أجابتها والدة يسر بهدوء متنهد:
-انتي عارفة فاضل، هو حاسس بالذنب من ناحية منير فحابب يراضيه، وبعدين هو بيحبه، روحي انتي لو عايزة.
شهقت والدة منير بعدم رضا:
-لا أروح وأسيب ابني لوحده، وجوز بنتك المجنون ده يعمل فيه كده تاني.
في تلك الأثناء كانت والدة يسر تتباطأ عمدًا في صعود الدرج، تحاول الإصغاء لأي كلمة قد تُقال في الأسفل بين نوح وزوجها، قلبها معلق بين خوف وفضول.
وأسفل الدرج تقدم الحاج فاضل ليغلق بوابة منزله في وجه ذلك التوتر العالق في الهواء، لكن يد نوح القوية اعترضت طريقه وقبض على طرف البوابة وأوقفها، ثم قال بنبرة مبحوحة تختلط فيها الغضب بالحنق:
-أنا احترمت نفسي وسكت وفضلت ساكت ومدخلتش اتطمنت على مراتي ولا شوفتها، وسكت لما ركبت الـ **** ده معاكم العربية...
توقف قليلًا وكأن الكلمات تخنقه، ثم أكمل وهو يشير بيده في غضب مكتوم:
-بس معلش يعني طالع عندكم ليه؟!
رفع الحاج فاضل حاجبيه بدهشة واشتدت قبضته على البوابة وكأنه يحاول كبح نفسه هو الآخر:
-هو انت هتتحكم فيا وفي اللي بيدخل بيتي؟
أخذ نوح نفسًا عميقًا محاولًا السيطرة على صوته قبل أن يجيبه بنبرة هادئة ظاهرًا، لكنها مشبعة بالغليان:
-لا طبعًا، بس معلش يعني أنا من حقي أسأل طالما مراتي قاعدة معاك فوق!
أجابه فاضل بقسوة.وعروقه بارزة في عنقه:
-لا مش من حقك، عشان أنا أبوها وبعدين اللي طالع فوق ده مش واحد غريب ده ابن خالتها!
اقترب نوح خطوة، وعيناه تقدحان شر مخيف:
-اللي جه قالي طلقها وأنا هتجوزها وأنا أحق بيها منك؟!
-اه هو نفسه!
قالها فاضل بلا تردد، ثم أردف ساخرًا:
-أعملك إيه يعني؟!
صك نوح أسنانه وكتم أنفاسه، ثم قال بحزم:
-اللي تعمله ماتخليهوش يختلط بمراتي لغاية ما حالتها تتحسن وترجع بيتي تاني.
ضحك فاضل بضحكة قصيرة خالية من أي دفء وقال بحدة:
-والله؟! لسه عندك أمل أرجعهالك!! ده وهي بعيدة عنك انت مدمرها يا نوح، ارجعهالك ازاي؟!
صاح نوح غاضبًا:
-أنا ماعملتش فيها أي حاجة وسايبها تتدلع براحتها خالص، حتى المشروع اللي انت فتحته ليها محبتش اقفل دماغي واقولها لا مفيش شغل، بس بردو سيبتها براحتها....
رد فاضل بصرامة وهو يحدق في عينيه:
-لا انت مسيبتهاش براحتها، أنت مكسوف من نفسك واللي عملته فيها فسكت، تفرق يا نوح!
هتف نوح متوترًا وكأنه يبحث عن مخرج:
-عملت إيه؟ أنا عمري ما هنتها ولا ضربتها ولا قصرت معاها في حاجة وكل اللي بتعوزه وبتطلبه مجاب، كل حاجة!
أجابه فاضل ببرود قاتل:
-بس جرحت كرامتها وكنت بتجرحها كل يوم وانت بتقولها إنك عايز تتجوز تاني ومعيشها في رعب، ده كله أمر من الضرب والشتيمة، عمومًا أنا من رأيي إنها ماتكملش معاك تاني، كان ليكوا عيش يا ابني واتقطع ما بينكم، لما بنتي تفوق من اللي هي وتقدر تتكلم، هخليك تيجي وتقعد معاها وتسمع بنفسك إنها مش عايزاك!
ساد صمت ثقيل بينهما لكن نوح كسره بصوت متهدج يخالطه الغيظ:
-أيوه بردو زفت ده بيعمل إيه فوق؟
أشاح فاضل بيده وكأنه يريد إنهاء النقاش:
-جبته عشان ناخد بالنا منه مع يسر ويقعد يومين، أصل مكسوف من أهله بعد اللي عملته فيه، عن إذنك ورايا حاجات مهمة لازم اعملها.
ثم أغلق فاضل البوابة بعنف تاركًا نوح واقفًا خارجها، يغلي صدره بالغضب والقهر وعيناه تتبعان نافذة الطابق العلوي حيث يعرف أن يسر موجودة… ومعها منير!!!
****
مر أسبوع كامل لم يحدث فيه شيء يُذكر سوى زيارة عائلة يزن إلى سيرا في منزلها، وقد كانت زيارة مثمرة وناجحة، إذ نجحت إلى حد كبير في تأجيل قرار سيرا بالانفصال، فكان لذلك الماكر دور بارز في ذلك، حيث أرسل لها باقةً من الزهور بألوانها المفضلة الوردي والأبيض، لكنها لم تكن مرفقة سوى ببطاقة صغيرة تحمل إمضاءه فقط!
ابتسمت سيرا وهي تتأمل باقة الزهور التي استلمتها بالأمس، وراحت تلمس بتلاتها بخفةٍ وانسياب، لقد اكتفى بتلك الباقة ولم يُجرِ اتصالًا واحدًا بها حتى رسائله التي كانت تملأ هاتفها اختفت تمامًا؛ في حين أبدت جميع شقيقاتها إعجابهن بجمال الباقة ومدى ذوقه ورُقيه في اختياره.
فكان واحد مثله كما كن يصفنه من الطبيعي أن يثور غضبًا لفقدان الشبكة، لكنه تصرف بعكس المتوقع؛ تعامل بكل رُقي ولم يُبدِ أي غضب بل خفف الأمر على والدها بكل لباقة.
لكن سيرا وسط تلك الأجواء الهادئة، كانت الأفكار تتلاطم في رأسها كأمواجٍ هائجة؛ تخيلت للحظة أنها لو أخبرتهم بما علمت به، وأنه مغصوب على تلك الخطبة، حتمًا لكانوا دافعوا عنه بشراسة واتهموها هي بالتذمر والجحود على النعمة!!
وبينما كانت تتأمل الزهور الغافية أمامها، تذكرت حديث والدته معها ومحاولاتها الدائمة لتجميل صورة ابنها في عينيها والجملة التي علقت في ذهنها ولم تغادر أذنها:
"يزن ابني أحن واحد في عيالي كلهم، هو الوحيد فيهم اللي بيعرف يظهر حنيته، ده غير أنه جدع وشهم، متحمل مسؤولية نفسه من لما كان في اولى كلية، مكنش بياخد جنية من حد ولما حتى فتح مشروعه واخوه ساعده سد كل الفلوس دي بعدين، بصي يا بنتي ابني وأنا أدرى واحدة بيه، قراره من راسه وخطوبته منك لو مش على هواه مكنش هيرضى بيها من الأساس"
حتى مليكة لم ترحل بلا أثر؛ قبل مغادرتهم اقتربت منها بابتسامة خفيفة وقدمت لها اعتذارًا بسيطًا قائلة:
"أنا أسفة، بس انتي لما سمعتي كلامي فهمتيه غلط، بالعكس احنا مبسوطين بالتغيير وإنه بيحبك، على فكرة هو مابيستحملش عليكي كلمة، تصرفاته كلها بتقول إنه بيحبك، عشان كده إحنا مبسوطين، اوعي تفكري إنك تفركشي، بالعكس قليل جدًا لما الواحدة تلاقي في الزمن ده واحد متمسك بيها"
كانت كلمات مليكة تدق في رأس سيرا كجرسٍ بعيد؛ لم تكن تدري هل تصدقها؟ كل شيء بدا مرتبكًا وكل طريق كانت تحاول أن تسلكه ينتهي إلى غموض جديد.
انتبهت فجأة على رنين هاتفها، فالتقطته لترى اسم يزن يتلألأ على الشاشة، شعرت بقلبها يخفق بقوة ولم تستطع منع ابتسامة صغيرة من التسلل إلى شفتيها رغم كل شيء، فقد كانت أقسمت على نفسها ألا ترد عليه بعد أسبوعٍ كاملٍ من تجاهله لها، لكن شيئًا في داخلها خانها…وضغطت على زر الإجابة، حاولت قدر استطاعتها التحكم بنبرتها، وأحاطتها ببرودٍ مصطنعٍ يُخفي ما يعتمل في قلبها من شوق:
-الو.
جاء صوته دافئًا ومألوفًا يحمل شيئًا من الجدية:
-فاضية، عايز آخدك وتروحي نزور يسر في بيت باباها ونحاول نكلمها تهدي الدنيا مع نوح شوية، لإنه حرفيًا شايط بقاله أسبوع ومانعه عنها بالعافية.
لم تفكر كثيرًا وكأن قلبها سبق عقلها في اتخاذ القرار فأجابته بهدوءٍ رزين:
-كلم بابا لو وافق، تمام هروح معاك.
ثم أغلقت الاتصال بسرعة لتنهض مسرعة نحو خزانتها كي تتجهز لذلك اللقاء، ورغم أنها أقنعت نفسها بأن الدافع هو زيارة يسر ومساندتها، لم تستطع إنكار الحقيقة الخفية في أعماقها،
فحتى لو كانت حجته لرؤيتها واهية…قد جاءت في وقتها تمامًا؛ فهي كانت تهيم شوقًا لرؤيته طيلة الأسبوع الماضي!
***
جلس نوح على الأريكة في غرفة المعيشة، يهز ساقيه بتوتر واضح وعيناه مثبتتان على باب غرفة يسر، ينتظر خروجها بلهفةٍ تكاد تخنقه، كان يشعر بثقلٍ جاثمٍ فوق صدره منذ أن اتصل به الحاج فاضل في وقتٍ سابق وطلب منه الحضور فورًا، لم يتردد لحظة واحدة، ترك كل شيء خلفه وأسرع إليها، غير آبهٍ حتى باتفاقه مع يزن الذي كان قد وعده بأن يتحدث هو وخطيبته مع يسر أولًا ليُهدئا الأمور قبل أن يتفاقم الموقف.
لكن نوح لم يعرف الانتظار يومًا بل لم يعرف كبح نفسه من الأساس، جال ببصره في أرجاء الشقة يبحث بعينيه الثاقبتين عن منير، كأنه يتوقع أن يراه مختبئًا في ركنٍ ما لكنه لم يجد له أثرًا، عقد حاجبيه وهو يهمس لنفسه بنبرة غليظة:
"أكيد مستخبي مني…كعادته."
وقبل أن يغرق في دوامة أفكاره أكثر، انتبه إلى صوت خطوات خفيفة تقترب، فالتفت بسرعة ليرى يسر تخرج من غرفتها، كانت ملامحها باردة وعيناها خاليتين من الدفء، بدا عليها أنها استعادت جزءًا من صحتها، لكن مظهرها المتماسك أخفى وراءه بركانًا لا يخمد.
سارت بخطوات ثابتة ورأسها مرفوع، وجسدها مشدود وكأنها مقبلة على معركة مصيرية، جلست أمامه على المقعد المقابل دون أن تمنحه حتى نظرة ود واحدة، لم تبتسم ولم تُبدِ أي اهتمام بل كانت ملامحها أشبه بجدارٍ صلد لا يمكن اختراقه.
رغم كل شيء حاول نوح أن يتجاهل ذلك الجليد الذي يحيط بها، فمال بجسده قليلًا إلى الأمام وسألها بصوتٍ هادئ يخفي عاصفة من القلق:
-عاملة إيه دلوقتي؟
رفعت عينيها نحوه ببرودٍ قاتل وقالت بنبرة حاسمة:
-مايخصكش، أنا طلبت من بابا يجيبك هنا عشان تطلقني.
تجمد الزمن لوهلة، لم يستوعب وقع كلماتها على مسامعه، وكأنها أطلقت عليه رصاصة أصابت كبرياءه مباشرة، شعر بحرارة تتصاعد إلى وجهه، وأنفاسه تتسارع بلا تحكم بينما حدق فيها بعينين تقدحان شررًا، يبحث في ملامحها عن أي بادرة تراجع…فلم يجد سوى إصرارٍ قاتل وكرهٍ صريح.
مدت يسر يدها تستند إلى مسند المقعد، ثم قالت بنبرة أكثر قوة وكأنها تلقي بالحكم النهائي:
-من غير كلام كتير يا نوح، ونقعد نجدال في الماضي، والمستقبل اللي عمره ما هيتغير، أنت عمرك ما هتتغير، هتفضل زي ما أنت عايز كل حاجة، وأنا نصحتك قبل كده تعالج الحتة الناقصة اللي جواك عشان تعرف تعيش، مفيش حد بياخد كل حاجة، وأنت مبتتنازلش بالعكس عايز اللي حواليك هما اللي يتنازلوا، وأنا خلاص فاض بيا ومبقتش قادرة أكمل، وأظن إنك مش هترضى تكمل مع واحدة مش عايزاك؟!
كانت كلماتها كسكينٍ حاد ينغرس في كبريائه وجرحًا جديدًا في كرامته…لكنه كان الأعمق الأوجع والأكثر إذلالًا، وقف ببطء وكتم أنفاسه مطبقًا شفتيه بقوة في محاولة لاستيعاب ما سمعه ثم نظر إليها نظرة طويلة، امتزج فيها الغضب بالخذلان والحب بالكره، قائلاً بصوتٍ أجش:
-انتي طالق.
ارتجفت الكلمة في الهواء كصفعة مدوية، فشعرت يسر بوخزة حادة في صدرها، لكن ما لبثت أن رفعت رأسها بابتسامةٍ صغيرةٍ تنم عن انتصارٍ مُر، لقد ثأرت لنفسها ولسنينٍ عاشت فيها تحت وطأة القلق والخوف من أن يتزوج عليها أو يهدم استقرارها في لحظة نزوة، والآن…جاء دورها لترد له الألم ذاته وربما أكثر.
**
بخارج الشقة..
في الممر أمام الباب كان يزن يقف متكئًا إلى الحائط، يتحدث بصوتٍ منخفض إلى سيرا التي وقفت بجواره تنصت باهتمام:
-بصي يا سيرا…أياً يكن الكلام اللي هتقوليه، لازم نهديها ونكلمها براحة، متتعاطفيش معاها زيادة، لإن ساعات التعاطف ده بيهدم حياة الناس من غير ما نحس، الكلمة الصح في الوقت الصح ممكن تنقذ حياة كاملة.
ابتسمت سيرا ابتسامة دافئة وهي تشير إلى عينيها قائلة:
-حاضر من عنيا، أنا أساسًا استحالة أشجعها على الطلاق مع إنه يستحق الصراحة. دي
رفع يزن حاجبيه وأشار إليها محذرًا بنبرة خافتة:
-سيـرا الله يهديكي...
لكن قبل أن يُكمل حديثه فُتح الباب فجأة بعنف، وخرج نوح بخطوات سريعة ووجهه متجهم وعيناه تقدحان غضبًا مكتومًا، توقف أمامهما لبرهة، فتجمد يزن في مكانه من الصدمة ثم سأل بارتباك:
-انت بتعمل إيه هنا يا نوح؟ ما أنا قايلك ماتروحش.
ابتسم نوح ابتسامة ساخرة وهو يربت على كتف صديقه بتراخٍ مفتعل:
-ماتتعبش نفسها خلاص طلقتها.
لم يمنحهما فرصة للرد بل تابع طريقه مغادرًا بخطواتٍ واسعة، تاركًا خلفه ذيولًا من الصدمة والذهول، تبادلت سيرا ويزن نظرات مذهولة، قبل أن ينقل يزن أنظاره إليها كأنه يبحث عن تفسير، لكنها رفعت كفيها أمامه تدافع عن نفسها قائلة بسرعة:
-صاحبك متسرع اوي، كان يستناني كنت هحلهاله في ثواني، قطع برزقه.
أما يزن فظل واقفًا في مكانه يمرر يده في شعره بتوتر، وعيناه تائهتان بين الباب المغلق ووجه سيرا، كان يعلم أن ما حدث لتوه لم يكن مجرد طلاق عادي…بل بداية عاصفة أكبر قادمة لا محالة.
****
ليلاً… في العيادة.
جلس نوح في عيادته خلف مكتبه العريض، رأسه مثقل بالهموم، يضع كفه فوق جبهته وكأنها تحاول أن تمنع سيل الأفكار من الانهمار، كان الصمت يخيم على المكان إلا من صوت عقارب الساعة وهي تطرق جدران عقله المتعب.
على مقعدٍ قريب جلست حسناء، تتابعه بعينيها اللامعتين بينما ترتسم ابتسامة خفيفة على وجهها تحمل بين طياتها سعادةً خفيةً لم تحاول حتى إخفاءها، فكان في ملامحها شوقٌ ممزوج بترقبٍ وحذر كصياد ينتظر لحظة الانقضاض.
رفع نوح وجهه إليها فجأة، فبدلت ملامحها على الفور كما لو كانت ترتدي قناعًا جديدًا؛ لمحة حزنٍ عميق امتزجت بظل من الشفقة، وقبل أن ينطق مدت حسناء يدها نحوه بفنجانٍ من القهوة، وهي تقول بنبرةٍ لطيفة تخفي فضولًا:
-اتفضل يا دكتور القهوة، بس لو تقولي مالك من الصبح؟ أنا خايفة عليك أوي.
مد يده نحو الفنجان دون حماس وراح يحرك إصبعه فوق حافته كأنه يرسم دوائر من الضياع، ثم رفع بصره إليها وقال بنبرة ساخرة ثقيلة:
-مفيش طلقت يسر النهاردة.
شهقت بعنف وهي ترمقه بعينين متسعتين يُزينها عدم تصديقٍ زائف:
-معقولة يا دكتور ده أنت بتحبها؟ ليه عملت كده بس؟ ده كله بسبب الراجل اللي جه هنا وحضرتك ضربته؟
تنفس نوح بعمق زفر زفرة حارة كأنها تحمل رماد قلبه، ثم أسند ظهره إلى المقعد وهو يهمس بمرارة، وعيناه معلقتان بفنجان القهوة أمامه:
-لا هي اللي طلبت مني اطلقها.
توسعت ابتسامة حسناء تدريجيًا، فرصة نادرة إن اغتنمتها الآن فلن تفلتها يدها أبدًا، وفي داخلها تدفقت الأفكار كالسيل، اقتربت ببطء، تمهلت في خطواتها حتى دارت حول المكتب واقتربت منه أكثر حتى صارت بمحاذاته، انحنت قليلًا وهبطت لمستواه لتواجهه مباشرة، فقد كان وجهه شاحبًا، وملامحه شاردة أما عينيه فقد غشيهما بريق من انكسارٍ عميق لم تره فيه من قبل، همست بصوتٍ متماوجٍ كأنها تُلقي تعويذة:
-واللي يخيلهالك ترجعلك وبإرادتها كمان؟
لم يُجب ظل صامتًا وكأنه غارق في دوامة تفكيرٍ لا مفر منها، ابتسمت ابتسامة صغيرة وتقدمت أكثر حتى صار صوتها أقرب إلى الهمس في أذنه:
-اتجوزني...اتجوزني ووقتها هي هتموت من الغيرة وهترجعلك بأي طريقة.
سكنت الغرفة للحظة، وصدى كلماتها ظل يتردد في رأسه كأمواجٍ تضرب شاطئًا مهجورًا، كان يدرك أنها تلعب على وترٍ حساس، لكنها في الوقت نفسه تلمس جرحه الأعمق، رفع عينيه إليها أخيرًا، ملقيًا نظرة ممتزجة بالغضب والتيه، لكنه…..لم يقل شيئًا.
______________
قراءة ممتعة 😂🔥♥️
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات
إرسال تعليق