رواية اميرة البحر القرمزى الفصل العسرون 20 بقلم اسماعيل موسى
رواية اميرة البحر القرمزى الفصل العسرون 20 بقلم اسماعيل موسى
#اميرة_البحر_القرمزى
٢٠
أبحر الأمير مونت كارلو في فجرٍ رمادي، لا يعرف له وجهة سوى نداءٍ غامضٍ في أعماقه، كان يقول له إن القزم فانتر ما زال حيًّا في مكانٍ ما من هذا البحر الأزرق الممتد كالأبدية.
لم يكن معه سوى مركبٍ صغير صنعته الأميرة له من خشب الأشجار التي لا تموت، ومجدافٍ من عظم سمكة مقدسة وجدته يومًا على الشاطئ.
كان البحر في بدايته ساكنًا، ينساب حوله كحريرٍ أزرق، والغيوم فوقه كوشاحٍ أبيض يراقب بصمت.
لكن السكون في البحر الأزرق لا يدوم طويلًا، فهو بحرٌ يحمل ذاكرة العواصف القديمة.
بدأت الرياح تتنفس أولاً، خفيفة ثم أكثر حدّة، حتى تموّج سطح الماء وتحوّل إلى مرايا مكسّرة تعكس غضب السماء.
أمسك مونت بالمجدافين، يقاتل الريح والأمواج التي راحت ترتفع وتضرب جانبي القارب بعنف.
تشققت راحته، ودماؤه امتزجت بالماء المالح، لكنه لم يتوقف، كان يدفع القارب كما لو أنه يدفع القدر نفسه.
أطلق البحر صرخته الأولى.
دوّى الرعد، وتفتّحت السماء عن برقٍ أبيض كالسيف، لامس الماء فاشتعل السطح لحظةً بالنور.
صرخ الأمير في وجه العاصفة:
> "خذينى حيث هو! إن كنتِ ذاكرة الجان فدليني على القزم فانتر!"
لكن البحر لا يجيب، البحر لا يفاوض.
ارتفع الموج حتى صار كالجبال، وقُذف القارب بين قممٍ من الماء ورؤوسٍ من الزَبَد، حتى ظنّ الأمير أنه سيرى قاع البحر بعيونه.
في إحدى الضربات، انكسر أحد المجدافين، فالتصق الأمير بالسطح الخشبي وحاول أن يحفظ توازنه.
ثم سمع الهمسات.
كانت تأتي من الأعماق، أصواتًا رخيمةً تشبه الغناء البعيد، تغري السامع بالسكينة.
لكنها كانت غناء الغرقى، أولئك الذين التهمهم البحر الأزرق وأبقاهم صدىً في جوفه.
ترددت الأصوات حوله:
> "ارجع... ارجع قبل أن يعرف البحر اسمك..."
ضغط مونت على أذنيه بعنف، يصرخ في الظلام:
> "لن أرجع! لن أرجع!"
ومع آخر كلمة، ارتفعت موجةٌ ضخمة وابتلعت القارب بالكامل.
دارت الدنيا حوله، وتلاشت الأصوات، وغاص كل شيء في صمتٍ ثقيل.
لم يعد يشعر بالبرد ولا بالماء، فقط بعتمةٍ سائلة تسحبه نحو الأعماق.
ثم... سكنت العاصفة فجأة.
فتح عينيه فرأى الماء من حوله صافياً، هادئاً كمرآةٍ من زجاجٍ أزرق.
السماء فوقه صافية تمامًا، بلا غيوم، بلا رياح.
كان في المياه الساكنة، تلك المنطقة التي يقول عنها البحّارة إنها ليست بحرًا ولا برًا، بل حدّ بين العوالم.
أمسك حافة القارب المثقوب، وصعد بصعوبة، يلهث، والماء يتقطر من شعره على وجهه.
نظر حوله... لا جزر، لا طيور، لا شيء سوى صفاءٍ مرعب يمتد إلى الأفق.
كان كل شيء ساكنًا إلى حدٍّ مؤلم، حتى أنه رأى انعكاس وجهه في الماء، لكن الوجه الذي انعكس لم يكن وجهه تمامًا، بل وجهه حين كان صغيرًا، قبل أن يرث دماء الجان.
ارتجف قلبه، وهمس بصوتٍ خافتٍ كمن يخاطب البحر نفسه:
> "أين أنت يا فانتر؟"
فجاءه من بعيد صدى متكسّر... كأن البحر أجاب أخيرًا، بصوتٍ يشبه الهمس والأنين:
> “في الأعماق، حيث لا يجرؤ الملوك.”
تسمر الأمير في مكانه، وحدق في النقطة التي جاء منها الصوت،
ثم أمسك ما تبقى من المجداف، وأدار القارب نحو الجنوب الغارق، حيث ينام الغموض في قلب البحر الساكن.
&&&&&&&&
كانت الأمواج تعلو وتغور كوحشٍ يلتهم نفسه، والبحر يزمجر من حولهما كأن السماء انقلبت عليه غضبًا.
سبح القزم فانتر والفتاة تاليا بكل ما تبقّى فيهما من قوى، والبرد ينهش عظامهما، والملح يلسع جراحهما الصغيرة.
فوقهما مباشرة كانت البجعة العملاقة تدور بجناحين أوسع من أشرعة السفن، تصرخ صرخةً اخترقت طبقات الهواء والبحر معًا، كأنها نداء الموت نفسه.
صرخت تاليا بصوتٍ مرتجف وسط العواصف:
> "إنها تلاحقنا يا فانتر! لن ننجو هذه المرة!"
لكن القزم كان يضرب الماء بمرفقيه الصغيرين كمن يطعن القدر في صدره، وصاح من بين زبد الموج:
> "اسبحى نحو المياه الساكنة!"
رمقته الفتاة بعينين فزعتين، وقد كاد التيار يجرّها من قدميها:
> "المياه الساكنة؟ هناك لا جزر ولا حياة ولا حتى صدفة! يقال إن من يبحر إليها لا يعود!"
ردّ فانتر، وصوته يختلط بالعاصفة:
> "أفضل أن أتعفن في الهدوء الأبدي على أن تبتلعني بجعةٌ غبية تظن نفسها إلهة!"
في تلك اللحظة، انقضّت البجعة من السماء، مندفعة كالسهم، غرزت مخالبها في الماء، فأحدثت دوامةً ضخمة ابتلعت ما حولها.
اختفيا للحظة داخل زبد الموج، ثم ظهرا مجددًا، يتقافزان بين اللطمات، يتنفسان الرعب كما يتنفسان الهواء.
كانت تاليا تلهث، شعرها المبلول يلتف حول وجهها كأفعى سوداء.
> "فانتر... إننا لن نصل!"
> "اصمتى واسبحى!" صرخ القزم وهو يحدق نحو الأفق البعيد حيث يبدأ خطّ غامض يفصل بين البحر الهائج والمياه الملساء، حدّ شاحب كأنه طريق إلى العدم.
أطلقت البجعة صرخةً أخرى وهوت عليهم، لكن الموج رفعهما في لحظةٍ عجيبة، كأن البحر نفسه رغب في إنقاذهما، ودفعهما دفعةً واحدة نحو ذلك الحدّ الغامض.
مرّت لحظات... ثم عبرا.
هدأ كل شيء فجأة.
كأن البحر فقد روحه.
توقفت الريح، وسكنت المياه حتى بدت كزجاجٍ أزرق لا حركة فيه.
لم يعد يسمعان سوى أنفاسهما الثقيلة وقطرات الماء التي تتساقط من شعرهما على السطح الصافي.
ظلت تاليا تحدق حولها بذهول، ثم همست:
> "أهذا هو؟ المياه الساكنة؟"
أجاب فانتر، وصوته يرتجف رغم سخريته المعتادة:
> "إنه صمت البحر حين يغلق فمه بعد وجبةٍ دسمة... يبدو أننا بين الموت والحياة يا فتاتي."
نظرت تاليا إلى الماء فرأت انعكاس وجهها، لكنه لم يكن وجهها تمامًا — كان يبتسم لها ابتسامة لم تصنعها، كأن البحر يعيد صياغة وجوه العابرين فيه.
ارتجفت، واقتربت أكثر من القزم.
قال فانتر هامسًا:
> "لا تنظرِ طويلًا، فالمياه الساكنة تُريك ما لا يجب أن يُرى."
مرّت لحظة طويلة، ثم أغمضت عينيها وقالت:
> "وماذا الآن يا فانتر؟"
رفع القزم رأسه نحو الأفق، والهدوء يحيط به كقبرٍ بلا جدران، وقال بصوتٍ مبحوحٍ متعب:
> "الآن... ننتظر البحر أن يقرر إن كنا ضيوفًا أم أشلاء."
#$&
تحت ضوء القمر الفضي، أبحر الأمير مونت كارلو وحيدًا عبر المياه الساكنة، تلك الرقعة الغامضة التي تمتد إلى ما لا نهاية، حيث لا رياح تحرك الشراع، ولا أمواج تكسر السكون، ولا طير يحوم فوقها. بدا البحر أشبه بمرآة عملاقة، تعكس وجه السماء وخط الأفق في امتدادٍ واحدٍ حتى يفقد المعنى.
كل شيء حوله كان جامدًا حدّ الرعب؛ كأن الزمن نفسه توقف عن الجريان هنا.
كان القارب ينزلق فوق السطح بلا صوت، بلا أثر، سوى صرير خافت يصدر عن الألواح التي أصلحها بسحر الجان. وضع الأمير يده على الجهة اليسرى من الصدر، حيث لا تزال آثار جراحه من المعركة القديمة تؤلمه كلما استيقظت الريح في صدره. في عينيه حزن ثقيل، ليس فقط على ليانثرا، بل على تلك الأميرة المنفيّة التي تركها خلفه في جزيرتها الملعونة، حين وعدها بالعودة… وعدٍ يعرف أنه قد لا يقدر على الوفاء به.
مرت ثلاثة أيام لم يتذوق فيها النوم، يراقب النجوم المتبدلة في السماء، ويتحدث مع البحر كأنه صديق قديم:
“أين أنت يا فانتر؟ إن كنت حيًّا… أجبني، يا قزم البحار المجنون.”
لكن البحر ظل صامتًا، لا صوت فيه سوى صرير مجدافه الخشبي.
حتى تلك الليلة — الليلة التي غاب فيها الهلال وارتجفت السماء من همهمة بعيدة — حين سمع فجأة صرخة خافتة تشق السكون.
وقف الأمير من فوره، حدّق في الأفق… بدا له ظلٌ يتحرك بين الضباب، كأن جسدًا صغيرًا يطفو ويغوص.
ثم أتت الصرخة مرة أخرى، أوضح هذه المرة، تتخللها كلمات مكسورة:
“أنقذوني… أنقذوني أيها الأغبياء، أنا لا أستحق هذه النهاية!”
مدّ الأمير يده وأطلق سحر الضوء من كفه، فانبثق وهج أزرق أضاء السطح الساكن، ليظهر أمامه فانتر القزم متشبثًا بلوح خشبي من بقايا السفينة القديمة، وجهه شاحب، شعره ملتصق، يلوّح بيديه بجنون.
“يا إله البحر الأزرق!” صاح الأمير، “فانتر؟ أهذا أنت حقًا؟”
رفع القزم رأسه بصعوبة، رمش بعينيه الغارقتين في الملح ثم صرخ بصوته المبحوح:
“قلت لك ألف مرة لا تتركني على السفينة مع تلك الفتاه، وها أنا أدفع الثمن! تعال وساعدني قبل أن أتحول إلى طعامٍ للطحالب!”
ضحك الأمير رغم الموقف، دمدم بشيء من السحر فاندفع تيار مائي صغير دافعًا القزم نحوه حتى أمسك به وسحبه إلى القارب.
تعلق فانتر بحافة القارب مثل جرذ غارق، ثم زفر وهو يستلقي على ظهره يلهث:
“المياه الساكنة، أليس كذلك؟ كنت أعلم أنني سأجد نهايتي هنا… ما الذى جاء بك إلى هذه المقبرة؟”
أجابه الأمير بصوت متعب:
“أبحث عنك.”
تقلص وجه القزم بدهشة، رفع حاجبيه وقال ساخرًا:
“تبحث عني؟ كنت تملك نصف ممالك الجان، فهل ضاقت بك الأرض لتبحث عن قزم مثلي في هذه البقعة الملعونة؟”
ابتسم الأمير وقال بصدقٍ هذه المرة:
“ربما أنت أملي الأخير لإنقاذ من يستحق الخلاص.”
ساد الصمت للحظة، ثم ارتجف البحر فجأة، كأن سكونه ضاق من وجودهما، وتبدلت صفحة الماء إلى مرايا متكسرة، تنعكس فيها وجوه لا تنتمي لهذا العالم… وجوه الغرقى القدامى الذين ابتلعتهم المياه الساكنة.
نظر فانتر إلى الأمير، وقال بخفوتٍ:
“يبدو أن البحر لا يرحب بعودتنا.”
أبحر الأمير مونت كارلو برفقة فانتر القزم وتاليا الفتاة عبر المياه الساكنة، بعدما استطاع سحر الجان أن يوقظ الريح من سباتها الأبدي. رفرفت الأشرعة لأول مرة منذ أيام طويلة، وبدأ القارب الصغير يشق طريقه في بطءٍ نحو البحر الأزرق، تاركًا خلفه المرآة العظمى التي لا تُرى فيها سوى انعكاس الأرواح القديمة.
كانت تاليا تجلس في مقدمة القارب، شعرها المبلل يلتصق بوجهها، تحدّق في الأفق الرمادي الذي يفصل السكون عن الحياة. كانت تبدو مرهقة، لكن في عينيها بريق عنادٍ لا يخبو. أما فانتر فكان يتذمر بلا توقف، يمسك بدفّة القارب ويحاول توازنها بمهارة القراصنة القدامى.
قال وهو ينفخ خصلات شعره عن عينيه:
“أقسم أنني ما عدت أميز بين البحر والسماء… إن انقلبنا الآن فلن يعرف أحد أين تبدأ النهاية.”
ردّ الأمير بابتسامة باهتة:
“لن ننقلب يا فانتر. طالما تسري في القارب لمسة من سحر الجان، فلن يغرق.”
رمقه القزم بنظرة مرتابة، ثم تمتم ساخرًا:
“طالما لم تمسّنا لعنة أبيك، فأنا راضٍ.”
ساد الصمت برهة، حتى قالت تاليا بصوت خافت:
“هل تظن أنها ما زالت على قيد الحياة؟ الأميرة المنفيّة؟”
أطرق الأمير رأسه، يراقب الأمواج المتكسّرة وقد بدأت تستعيد لونها الأزرق شيئًا فشيئًا، معلنة اقترابهم من حدود المياه الحيّة.
“هي لا تموت، تاليا. ليست بشرًا مثلنا. لكنني أخشى أنها لم تعد تعرف معنى الحياة بعد.”
اشتدت الريح قليلاً، وانفتح الأفق أمامهم، فبدت صفحة البحر تتلألأ بلون الفيروز، ثم تحوّل السكون إلى خريرٍ خفيف. رفع فانتر رأسه وصرخ بفرحٍ غامر:
“نحن في البحر الأزرق! أخيرًا نَفَسُ الحياه بعد موتٍ طويل!”
ضحكت تاليا، غير مصدقة أنهم نجوْا من المياه الساكنة، لكن فرحتها ما لبثت أن انطفأت حين لاحظت السحب الداكنة تتجمع في الأفق البعيد.
“انظروا هناك!” صاحت، مشيرة بإصبعها.
نظر الأمير، فرأى ما يشبه الدوامة الهائلة، تبتلع ضوء الشمس في مركزها. حولها دوائر من الضباب تدور ببطءٍ، ومن أعماقها كان يلمع شيء ذهبي — أشبه ببوابةٍ، أو ربما الطريق إلى جزيرة الأميرة.
قال فانتر متجهمًا:
“هذا هو الممر؟ هذا؟ يا للجنون، إن عبور هذه العاصفة انتحار.”
ردّ الأمير بصرامةٍ هادئة:
“هي الطريق الوحيدة. الجزيرة لا تُرى إلا لمن يجرؤ على خوض حدود الغضب.”
ثم وضع يده على مجداف القارب، همس بتعاويذ قديمة من لغات الجان، فاشتعلت على سطح الماء دوائر مضيئة تُرشد القارب نحو الدوامة.
صرخت تاليا وقد تشبثت بالحافة:
“مونت! سنُبتلع!”
لكن الأمير لم يرد. عيناه كانتا على الأفق، على الوعد الذي لم يغفر لنفسه خيانته.
بينما ارتفعت الأمواج حولهم، وتعالى عواء الرياح، كان صوت فانتر يتلاشى وسط الصخب وهو يصيح:
“أقسم أنني أكره الملوك والمجانين والوعود القديمة!”
دخل القارب الدوامة، فاختفى الضوء من حولهم، وغرقت السماء في دوارٍ من الظلال والوميض الأزرق، كأنهم عبروا إلى حلمٍ مبللٍ لا يعرف القرار.
خرج القارب من جوف الدوامة كما يُقذف الجسد من رحم العاصفة، متثاقلًا ومبللًا بالضوء. هدأت الرياح فجأة، وانقشع الضباب، لتظهر أمامهم الجزيرة المنفيّة — كتلة من الياسمين والظلال تطفو فوق البحر الأزرق، تحيطها حلقات من الشعاع الذهبي، كأنها وُلدت من حلمٍ لا يريد أن يستيقظ.
كانت الأميرة المنفيّة واقفة عند الشاطئ، شعرها الفضي الطويل يتماوج مع النسيم، وثوبها الأخضر المطرّز بقشور المرجان يلمع في وهج المغيب. بدا أن البحر نفسه يبتعد عن قدميها في انحناءة خضوع، كأنه يعرف سيّدته ويخشاها في آنٍ واحد.
عندما رأت القارب يقترب، اتسعت عيناها بدهشةٍ مترددة، ثم بخطوةٍ رشيقة تقدّمت حتى لامست أطراف الموج. صرخ فانتر القزم من على ظهر القارب، وهو يلوّح بذراعيه القصيرتين:
“أيّتها الأميرة! إن البحر نفسه فتح فمه ليبتلعنا، لكنه لفظنا على شاطئك! أليس هذا كرمًا من قدرك؟”
ابتسمت الأميرة ابتسامة حزينة، وقالت بصوتٍ رقيق كنسيمٍ مالح:
“وهل من عادة القدر أن يكون كريمًا يا قزم الجان؟”
نزل الأمير مونت كارلو من القارب أولاً، جاثيًا بركبته أمامها، وقال بخشوعٍ صادق:
“جئنا كما وعدتك يا مولاتي. عبرنا المياه الساكنة والبحر الأزرق والدوامة المحرّمة. لم يكن سهلاً، لكنني لم أعد أستطيع تركك وحيدة.”
تطلعت إليه طويلًا، وفي عينيها لمعة امتنانٍ خافتة، ثم أشارت بيدها إلى خادماتها الجنيات اللاتي خرجن من بين أشجار المرجان، يحملن المناشف وجرار العطر. تقدّمن في صمتٍ ملكي، يستقبلن الضيوف الثلاثة، ويقُدنهم نحو القصر الغارق في الضياء.
بينما كانوا يسيرون على الممرات المائية التي تتلألأ تحت أقدامهم، كان فانتر القزم يحدّق بالأميرة من بعيد بعينين واسعتين مبهورتين، ثم قال بصوتٍ عالٍ ليس فيه أي حياء:
“يا نجمة البحر ويا لعنة الملوك، من ذا الذي ينفي قمراً كهذا؟ لو كنتُ ملك الجان، لكنتُ نفيتُ نفسي واحتفظتُ بها هنا لتؤنس وحدتي!”
ضحكت تاليا بخفة، وحاولت أن تخفي وجهها بين يديها كي لا يسمعها أحد، بينما رمقه الأمير مونت كارلو بنظرةٍ حادة تنذره بالصمت. لكن الأميرة، بدلاً من الغضب، التفتت نحوه وابتسمت ابتسامة صغيرة فيها شيء من المرح القديم الذي نسيه قلبها منذ زمن، وقالت:
“ما أكثر جرأتكم أيها الأقزام، وما أندر صدقكم. لو كنتُ ما زلت أميرة كما كنتُ يومًا، لأمرتُك أن تكون شاعر القصر.”
رفع فانتر رأسه، وتظاهر بالانحناءة المهيبة وهو يضع يده على صدره قائلاً بمكرٍ طفولي:
“شرفٌ لا أستحقه يا مولاتي… وإن كنتُ لا أمانع في أن أُقيم هنا إلى الأبد، طالما الغروب يشبه عينيك.”
ضحكت الأميرة للمرة الأولى منذ قرونٍ منفى، ضحكةً قصيرة كسرت الصمت الذي يلف القصر، وجعلت الجنيات يتبادلن النظرات بدهشةٍ مسحورة.
وهكذا — بين رائحة البحر ووميض الأحجار، دخل الأمير مونت كارلو ورفيقاه إلى قلب الجزيرة المنفيّة، بينما كان فانتر يرمق الأميرة بخيال شاعرٍ ووقاحة مخلوقٍ لا يخاف الملوك.
#$&#@
كانت ليانثرا تسبح في الظلال العميقة، بين شِعابٍ ميتةٍ ومرجانٍ ناحلٍ، تتوارى بين الصخور وتتنفس بصعوبةٍ من شدة توترها. أمامها، في البعيد، كانت مملكة الغرانيق تمتدّ كغابةٍ من الضوء الأخضر، أعمدة من اللؤلؤ ترتفع من القاع نحو السطح، وحولها تدور حراسات كثيفة من الغرانيق ذات العيون الفسفورية والرماح الطويلة.
اقتربت حتى لامس جلدها وهج الأبراج المرجانية، لكنّها ما لبثت أن تراجعت حين رأت أسراب الحراسة تجوب المياه بلا توقف، تحيط بالقصر البحريّ الملكيّ كدوائر من نيران زرقاء.
اضطرت ليانثرا إلى التراجع والاختباء في فجوةٍ من الصخر، حيث بقيت هناك أكثر من ليلة بحرية كاملة، تتغذى على الطحالب وتراقب الحركة بعين الصبر والانتظار. لم تكن تجرؤ على التقدّم أكثر؛ فالغرانيق لا تعرف الرحمة، وأي دخيلٍ مصيره التمزيق قبل أن يصرخ.
وفي منتصف الليلة الثانية، دوّى في أعماق البحر صوت البوق البحريّ العظيم — ذلك الصوت الذي لا يُسمع إلا حين تقوم حرب. ارتجّت الأعمدة المرجانية، وتشتّتت أسراب الأسماك من كل صوب، واهتزت المياه من شدّة الموج القادم. رأت ليانثرا الظلال الداكنة تتقدّم من الغرب… كانت القروش، مئات منها، تقودها الموجة الضخمة التي يسبّبها القرش العملاق باتروس، الملك المتمرّد على سيّده شرباخ.
أطبق جيش القروش على حدود المملكة في هجومٍ شرسٍ لا رحمة فيه، وتحوّل البحر إلى دوّامةٍ من الدم والرماح والأنياب. صرخات الغرانيق ملأت الأعماق، واللؤلؤ تناثر كدموعٍ منسية. كانت الحرب عنيفة كأنها نهاية الأزمنة، والبحر يهدر من شدّة الصدام.
في قلب المعركة خرجت ملكة الغرانيق بنفسها، جسدها مهيب كتمثال من المرجان، وعيناها تشتعلان كشمعتين في العتمة. كانت تحمل رمحًا مضيئًا من العظام، واتجهت نحو باتروس، الذي بدا كجبلٍ متحركٍ من الزعانف والدماء.
اصطدم الاثنان بقوةٍ أرجفت القاع، تحطّمت الصخور وارتفعت أعمدة الطين والماء، كأن البحر نفسه ضاق بمعركتهما.
كانت الملكة تعرف أنّ قوتها وحدها لن تكفي. فتحت صدرها وأخرجت من حزامها قارورة من الضوء الأخضر، بداخلها العشبة السحرية — عشبة النهايات — التي لا تُستخدم إلا في حربٍ لا يُراد منها نجاة أحد. كانت تلك العشبة تُقال إنها تمنح من يبتلعها قوة البحر الأبدي، لكنها تسلبه روحه.
لكن قبل أن تبتلعها الملكة، اندفع باتروس بجسده الضخم فصدمها بقوةٍ مروّعة. طارت القاروره ، وجرفها تيار الماء، تتلألأ كوميضٍ سماويّ، ثم انجرفت بعيدًا وسط الفوضى.
تبعها نظر ليانثرا، التي كانت تراقب المعركة من بين الصخور. اندفعت دون تفكير نحوها، رغم الأعاصير والتيارات العنيفة، حتى أمسكت بها أخيرًا. ما إن لامست العشبة شفتيها حتى شعرت بحرارةٍ غريبة تشتعل في صدرها، كأن البحر نفسه ينفجر بداخلها. حاولت التراجع لكنها فقدت السيطرة، وابتلعت العشبة بالكامل.
للحظة، عمّ السكون حولها… ثم بدأ جسدها يتغيّر.
تألّق جلدها بضوءٍ أخضر باهر، وتحوّل ذيلها إلى زعنفةٍ هائلة تشبه ذيول الغرانيق، أما عيناها فتلونتا بلون البحر حين يغضب.
ارتجف جسدها من شدّة التحوّل، ثم فقدت الوعي وسقطت ببطءٍ نحو القاع، تحيط بها فقاعات الضوء، فيما كانت الحرب تستعر فوقها، والبحر يئنّ ككائنٍ يحتضر.
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كاملة من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا


تعليقات
إرسال تعليق