رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السابع والأربعون 47بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السابع والأربعون 47بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
٤٧ ~ دواء مُر ! ~
في صباح اليوم التالي...
استيقظ فريد على شعورٍ خانقٍ يطبق على صدره، وكأن ثقلًا من الحجارة وُضع فوقه ليقيده ويمنعه حتى من التنفس. حاول أن يتحرك، أن يزيح ذلك العبء المجهول، لكن شيئًا أثقل هوى فجأة فوق معدته، فأجفل دون وعيٍ وفتح عينيه على اتساعهما، يبحث بنظراتٍ متوترة عمّا يجثم عليه.
لم تمضِ لحظات حتى تسلّل إلى سمعه صوتٌ يعرفه تمام المعرفة، صوت مألوف يبعث فيه خليطًا من الضيق والضحك في آن.. هدير جرّار القمح العتيق.
استدار ببطءٍ نحو مصدر الصوت، وما إن وقعت عيناه على المشهد حتى تجمّد في مكانه مصعوقًا؛ كان عمر ممددًا بجواره على السرير، نائمًا بسلامٍ تام، وقد اتخذ وضعًا عبثيًا مضحكًا لو لم يكن مزعجًا للغاية... رأسه عند قدمي فريد، وإحدى قدميه مستقرّة تمامًا فوق معدته، والأخرى متدلية إلى حافة الفراش.
زفر فريد بحدة، وأبعد قدمه عن صدره دفعةً واحدة، دفعةً جعلت عمر ينتفض كمن سقط في حفرة، ثم فتح عينيه نصف فتحة وهو يقول بصوتٍ ناعس متذمّر:
ـ في إيه يا فريد ؟! حد يصحي حد كده ؟
جلس فريد مستندًا إلى وسادته، يمرّر كفه على وجهه محاولًا استعادة اتزانه، ثم نظر إليه بامتعاضٍ قائلاً:
ـ وهو في حد طبيعي ينام بالشكل ده أصلا ؟! وبعدين إنت إيه اللي منيمك جنبي؟ هو انا مش قلت لك نام هنا وأنا هنام في الاوضة التانية قلت لى لأ أنا هنام بره ؟!
نظر إليه عمر بعينين نصف مغمضتين، وعلى وجهه ابتسامة بلهاء تنذر بجوابٍ أغرب من الفعل ذاته...
ـ ما أنا لقيتني وحيد بصراحة قلت أجي أتونس بيك .. صباح الفل .
نظر إليه فريد بنفاد صبر، ثم نهض عن الفراش وهو يتمتم :
ـ صباح النور يا سيدي.
تثاءب عمر وهو يتقلب على جانبه الآخر قائلاً بنبرةٍ شبه ناعسة:
ـ مش حاسسها منك على فكرة، بتحسّسني إنك بتقولها من تحت ضرسك، مش عارف ليه.
ردّ فريد وقد عقد حاجبيه بتعجب :
ـ وأنا هقولها من تحت ضرسي ليه يعني؟
ـ مش عارف، يمكن متقل عليك ولا حاجة؟
ـ لا يا حبيبي أبداً، البيت بيتك يا عمر، أنا مش محتاج أأكدلك على كده.
أومأ عمر برضا، ثم تمدد أكثر على الفراش وقال بخمول:
ـ حيث كده بقى، أكمل نومي وأنا مطمن.
تطلع إليه فريد بنظرةٍ هادئة، ثم قال:
ـ حسن جاي يفطر معانا، قوم فَوّق كده وتعالى ساعدني.
أجاب عمر وهو يغطي وجهه بالوسادة:
ـ وراك أهو، هتلاقيني لازق في ضهرك زي الأتب.
اكتفى فريد بزفرةٍ طويلة وهو يغادر الغرفة قائلاً:
ـ لما أشوف ..
وما إن أُغلِق الباب خلفه، حتى أطلق عمر تنهيدةَ ارتياح، وعانق وسادته، قبل أن يغرق من جديد في نومٍ عميق.
ما إن غادر فريد الغرفة، حتى التقط هاتفه بترددٍ ظاهر، وبقي يرمقه طويلاً، كأنه أمام قرارٍ مصيريٍّ لا يعرف إن كان عليه الإقدام عليه أم الفرار منه.
تأرجحت أنامله فوق الشاشة، ولم يضغط بعد، فيما كان صراعه الداخلي يحتدم.. هل يتصل بها؟ أم يترك الأمور لِما ستؤول إليه من تلقاء نفسها؟
الضيق منها ما زال متشبثًا بروحه، ينهشها كلما تذكّر كلماتها الأخيرة وضعفها الموجع.. لكنه، في الوقت ذاته، اشتاقها، اشتاقها حدّ العجز، حدّ أن كل لحظة تمر دون صوتها تفقد معناها، وكل تفاصيل يومه تصير باهتة لا طعم لها.
تنهد بعمقٍ وهو يحدق في اسمهـا على شاشة الهاتف، شعر أن رؤيتها لم تعد مجرد رغبة، بل صارت ضرورة لا مفرّ منها، كدواءٍ مرٍّ لا بد من تجرّعه كي يعود إلى الحياة من جديد.
ذهب نحو الباب مترددًا، يتقدّم خطوة ويتراجع خطوتين،
عيناه على المقبض وقلبه في معركة لا تهدأ.. يسأل نفسه في صمتٍ ساخط: أمعقول أن يذهب إليها الآن؟
أين كل ما قرّره ليلة أمس؟ أين وعده لنفسه بأن يبتعد قليلًا لتتعلم هي كيف تقف وحدها وكيف تواجه بدونه؟
أي ضعفٍ هذا الذي يجذبه نحوها في كل مرة، وأي سحرٍ فيها يجعله ينسى كل ما خطط له، ليعود إليها في النهاية كأنها قدره الوحيد؟
وفي النهاية، حسم أمره بعد صراعٍ طويل مع ذاته،
تنفّس بعمق، وكأنه يُسلّم للهزيمة أمام قلبه، ثم عقد عزمه وقرر أن يذهب إليها.. فقط ليطمئن عليها.
هكذا أقنع نفسه، رغم أنه يعلم في قرارة قلبه أن الطمأنينة ليست ما يبحث عنه، بل حاجته إليها هي ما تسوقه كالمسحور.
مدّ يده إلى مقبض الباب وفتحه ببطءٍ كمن يُقبل على ذنبٍ جميل، وغادر المنزل متجهًا نحو منزلها. كانت خطواته مترددة، متناقضة مع ما يُحدث به نفسه.
وفجأة.. لمحها من بعيد، تسير وحدها في الطريق بخطواتٍ متسارعة، كأنها تهرب من شيءٍ أو تبحث عن نفسها في العدم. ارتبك للحظة، ثم ناداها بصوتٍ حادٍ اخترق سكون الشارع:
ـ نغـــم ..
توقفت نغم عن السير، التفتت ببطءٍ نحو مصدر الصوت، لتجده يقترب منها بخطواتٍ متوترة، تحمل في ملامحها الغضب والقلق معًا. لم تستطع إنكار خوفها من هيئته تلك، لكنها تماسكت، وعقدت ذراعيها أمام صدرها في وضعية دفاعٍ عن النفس، تتابع اقترابه بصمتٍ حتى إذا ما وقف أمامها، شعرت بأنفاسها المسلوبة تعود إليها، كأن رؤيته بعثت فيها الحياة من جديد بعد ليلةٍ طويلة قضتها تتأمل صوره وتأنس بصوته في رسائله الصوتية.
يا إلهي.. لقد اشتاقته، اشتاقته حد الجنون، حد الوله، حد الألم الجميل الذي يعتصر القلب ويُنعشه في آنٍ واحد.
سألها بحدةٍ وهو يضيق عيناه :
ـ على فين يا هانم؟
ارتجفت أنفاسها للحظة، بحثت عن صوتها لتنطق، فصوته حمل من التهكم ما جعلها تبتلع ريقها بوجل، قبل أن يعيد سؤاله بنبرةٍ أكثر حدّة:
ـ رايحة فين بقوللك؟
ـ مش عارفة.
تأملها بتعجب، وقد بدا الاستغراب واضحًا على ملامحه، ثم سألها بحدةٍ أقل:
ـ مش عارفه إزاي؟
ـ مش عارفه رايحة فين، كنت مخنوقة وحبيت أتمشى شوية لوحدي.
أطرق برأسه للحظة، محاولًا أن يستعيد هدوءه، ثم زفر ببطءٍ قبل أن يسألها بنبرةٍ أكثر سيطرة:
ـ طيب ليه معرفتينيش إنك خارجة؟
هزت كتفيها ببساطة، وردت بلا مبالاةٍ ظاهرة:
ـ عادي .. مجاش على بالي أقولك.
ضبط نفسه بصعوبةٍ وهو يحاول كبح ضيقه، وضغط على حروف كلماته بحزمٍ هادئ:
ـ إزاي يعني ؟! هل طبيعي يعني اني أبقا خارج ألاقيكي قدامي فجأة كده ؟! أو أكون جاي لك ألاقيكي مش موجودة أصلا ؟!
ـ انت كنت جاي لي ؟
تبدّل صوته الداخلي للحظةٍ حين رأى الأمل يلمع في عينيها، لكنه أخفى تأثره وتنهد قائلاً:
ـ أنا بفترض مش أكتر.
تغيرت ملامحها بخيبةٍ واضحة، وزفرت بضيقٍ وهي توميء برأسها موافقة، ثم قالت باستسلامٍ ظاهر:
ـ طيب، اتفضل شوف كنت رايح فين؟
انعقد حاجباه، وردّ بعنادٍ لا يقل عن عنادها، وهو يهز رأسه ببطءٍ:
ـ مش هتفضل .. اتفضلي انتي ادخلي يلا.
فأجابت بعنادٍ مماثل، ونبرةٍ تحمل تمردّا صامتًا :
ـ مش هتفضل .. أنا عاوزة أتمشى.
نظر إليها طويلاً بنظرةٍ تجمع بين الحذر والانفعال، ثم قال بحدةٍ مكتومة:
ـ لوحدك ؟!
ـ والله لو خايف عليا للدرجة دي تعالى معايا ..
ساد بينهما صمتٌ ثقيل للحظة، قبل أن يرفع عينيه إلى وجهها، وعيناه تفيض بالعشق رغم الغضب، وقال بتريثٍ صادق:
ـ أكيد خايف عليكي.. بس مش فاضي دلوقتي للأسف.
ـ طيب يا فريد ، وأنا أصلا مش عايزاك تمشي معايا، أنا عايزه أمشي لوحدي ..
ألقت كلماتها بانفعال، واستدارت بغضبٍ لتغادر، لكنه اندفع نحوها سريعًا، وأمسك بمعصمها بقوةٍ جعلتها تتوقف فجأة، التفتت إليه بعينين متسعتين، بينما هو ينظر إليها بثباتٍ وصرامةٍ ظاهرة، وهتف بهدوءٍ حازم:
ـ اتكلمي بهدوء واعقلي كده على الصبح علشان أنا على أخري منك .. تمام؟
رفعت رأسها نحوه بغضبٍ مكتوم، فعجز عن مواجهة نظرتها للحظةٍ فأشاح بوجهه جانبًا، ثم أكمل بصرامةٍ أكبر:
ـ عاوزة تتمشي لوحدك اوكي مقولتش لأ .. بس أبقا عارف إنك خارجة ، ولأن سيادتك مكلفتيش نفسك ولا اهتميتي تعرفيني فعقابا ليكي مفيش خروج لوحدك النهارده..
ثم سحب يدها بقوةٍ نحو المنزل، وهي تتبع خطواته مرغمة، تهتف خلفه بامتعاضٍ شديد:
ـ هعرفك إزاي وانت أصلا مخاصمني ؟!
توقف فجأة أمام باب منزلها، واستدار نحوها بسرعةٍ، ينظر إليها بنظرةٍ تجمع بين الدهشة والاستنكار، وقال بوضوحٍ قاطع:
ـ مين قال إني مخاصمك ؟! أنا مش مخاصمك ولا عمري هقدر أخاصمك أصلا .. أنا ممكن أختلف معاكي وأزعل منك لكن مش هخاصمك ، ده أولا.
تبدلت نظراتها، خفتت حدتها قليلًا، بينما هو تابع حديثه بنبرةٍ أكثر حزمًا:
ـ ثانيا بقا وده الأهم... الحجج والتلاكيك بتاعتك أنا فاهمها كويس فبلاش تشغلي دماغك عليا علشان أنا خلاص بقيت حافظك كويس أوي .. اتفقنا؟
رمقته بعنادٍ خافت يتخلله ضيق، ثم رفعت ذقنها بتحدٍ صامت، فاقترب منها بخطواتٍ ثابتة، وانتزع المفتاح من يدها بحركةٍ حازمة، وأدار القفل ببرودٍ متعمد، ثم دفعها بخفة إلى الداخل قائلاً بنبرةٍ آمرةٍ تحمل دفء السيطرة:
ـ يلا ادخلي زي الشاطرة واسمعي الكلام.
صعدت درجات السلم ببطءٍ، كأنها تقاوم أمرًا لا تملك إلا الانصياع له، ثم وقفت عند الباب تلتفت نحوه، تحمل نظرتها مزيجًا من التحدي والغضب، ما أثار في نفسه غليانًا مكتومًا، فهتف ساخرًا وهو يرفع حاجبه:
ـ مالك متنحة كده ليه يا ماما ما تدخلي وتخلصيني..
خطت خطوتين مترددتين إلى الداخل، وبينما كان يهمّ بسحب الباب لإغلاقه، جاء صوتها الخافت من خلفه، يحمل رجاءً خفيفًا ونبرةً تزلزل الصبر في قلبه:
ـ فريد..
نادته بصوتٍ متردد، كأنها ترجوه دون كلمات، التفت نحوها ببطء، وما إن وقعت عيناه على عينيها حتى شعر وكأن الأرض توقفت عن الدوران لحظة. تلك النظرة تحديدًا.. النظرة التي طالما هزمته دون جهد، نظرة امتزج فيها الرجاء بالضعف، والاحتياج بالصمت، وكأنها ترجوه دون أن تنطق أن ينهي ذلك الخصام فورًا ..
تراجع كل ما في داخله من غضب، خارت مقاومته أمامها فجأة، وشعر بأنه لم يعد ذلك الرجل الصلب الذي جاء ليؤدبها، بل عاد عاشقًا أمام حبيبته التي لا تعرف كيف تعبّر إلا بعينيها.
أخفض بصره للحظة وهو يزفر بعمق، يحاول أن يخفي اضطرابه، مرر يده على عنقه، ثم رفع عينيه نحوها، لان صوته، ومال برأسه نحوها قليلًا، ثم قال في همسٍ دافئٍ خافت:
ـ نعم؟
نظرت إليه بعينين يملأهما القلق والرجاء، وقالت بصوتٍ مترددٍ حزين:
ـ إنت هتفضل زعلان مني كده كتير؟
اعتصر عينيه في ألمٍ خافت، ثم مرر يده على وجهه بإرهاقٍ واضح، ونظر إليها في استسلامٍ صادق وهو يقول:
ـ مش زعلان منك يا نغم.
اقتربت منه خطوةً صغيرة، وعيناها تتفحص ملامحه لتقرأ ما وراء كلماته، ثم قالت بصدقٍ عفوي:
ـ لأ زعلان مني ومش عايز تبص لي كمان .. وعمال تتهرب مني مش عاوز تكلمني .. امبارح فضلت أستنى تكلمني طول الليل محصلش.. والنهارده أول ما صحيت بصيت في التليفون وأنا عندي أمل ألاقيك باعتلي بردو محصلش ..
تنهد بعمقٍ وهو يشيح بنظره عنها، ثم أومأ مؤكدًا وقال بنبرةٍ منهكة:
ـ حقك عليا .. أنا بس مشغول جدا ومش ملاحق على الصدمات ودماغي فيها مليون حاجة لدرجة إني مش عارف أبدأ منين .. معلش اتحمليني الفترة دي.
رفعت رأسها نحوه بعيونٍ دامعةٍ، وقالت بإخلاص:
ـ أكيد هتحملك .. بس بردو إنت زعلان مني وأنا متأكدة ..
مدت يديها بخفةٍ، وقد دفعتها العاطفة قبل التفكير، لتتشبث بيده وتقول برجاءٍ خافتٍ يهزّه من الداخل:
ـ علشان خاطري متزعلش مني ..
لاح على شفتيه طيف ابتسامةٍ هادئةٍ دافئة، ثم أومأ موافقًا وربّت على يدها بخفةٍ حنونة وهو يقول:
ـ مش زعلان منك... انتي روحي يا نغم، حبيبتي ونصي الحلو.
ارتجفت شفتاها بين ابتسامةٍ ودموع، فمدّ إبهامه يزيح دمعاتها بحنانٍ بالغ، ثم قال بصوتٍ خفيضٍ عميق:
ـ تعرفي انتي بالنسبه لي زي إيه؟
هزت رأسها بفضول، فأجاب مبتسمًا بأسى شفيف:
ـ زي الدوا المر بالظبط ..
اتسعت عيناها بدهشةٍ خفيفة، ورددت في تذمرٍ رقيق:
ـ أنا دوا مر؟!
أومأ مبتسمًا بنصف ابتسامةٍ شاردة، وقال بنبرةٍ تفيض صدقًا:
ـ برغم إنك مُتعبة وعنيدة ودماغك ناشفة وبتخرجيني عن شعوري كتير .. بس مع ذلك انتي علاجي، دوايا اللي مقدرش أعيش من غيره ..
أغمضت عينيها للحظةٍ كأنها تحاول حبس دموعها، ثم أمسكت بخصلات شعرها وقبضت عليها بخفةٍ، قبل أن ترفع بصرها إليه وتقول بصوتٍ مرتجفٍ مليء بالصدق:
ـ صدقني أنا نفسي أكون زي ما انت عايز .. نفسي أخليك مرتاح معايا، مش قاصدة أكون عنيدة ومُتعبة زي ما بتقول، نفسي أعرف أهون عليك زي ما بتهون عليا دايما ..
تطلع إليها بنظرةٍ يملؤها الوله، مزيجٌ من الحنين والشوق الموجع، نظرةُ رجلٍ أرهقته الأيام والصدمات المتلاحقة ووجد فيها خلاصه الأخير، ثم قال بصوتٍ متهدّج:
ـ اعملي كده.
سألته بعينيها المرتجفتين وكأنها تستجدي تفسيرًا لما يعنيه، فتقدّم نحوها خطوةً واحدة كانت كافية لتختصر بينهما كل المسافات، ثم همس بكلمةٍ واحدة خرجت من أعماق قلبه، تلخّص كل ما لم يستطع قوله:
ـ احضنيني.
في اللحظة التي نطق فيها الكلمة، لم تتردّد لحظة واحدة، كأنها كانت تنتظرها منذ دهرٍ.
اندفعت نحوه بكل ما تملك من عاطفة، وذراعاها تطوقانه بقوةٍ .
التصقت به كأنها تبحث في صدره عن موطنٍ تأوي إليه، عن أمانٍ نسيته منذ زمن، فأسند جبينه إلى كتفها وأغمض عينيه مستسلماً لذلك الدفء الذي اجتاحه كنسمةٍ بعد عاصفة.
لم يقولا شيئًا، وحدها أنفاسهما المتقطعة كانت تتكلم، تروي وجع الشوق وراحة اللقاء .
أسقط رأسه على كتفها، وكأنه يُسقط معه خيباته، صدماته، جروحه التي لم تندمل، ألامه التي أنهكه، قهره الذي كبله طويلاً، وشروده الذي ضيّع ملامحه بين الطرقات.
ترك كل شيء هناك، على كتفها، كأنها صارت موطئ راحته الوحيد بعد حربٍ طويلة خاضها ضد نفسه والعالم.
بينما هي تحتضنه برفق، شبّت على أطراف قدميها قليلًا لتحتويه كما ينبغي، وكأنها تحاول أن تختصر المسافة بينهما.
مدّت كفها الرقيقة تربّت على ظهره العريض في حركةٍ مفعمة بالحنان، تُسكّنه وتدعمه، وتُخبره دون كلام أنها هنا.. معه.. وأن هذا العناق أقل ما يمكن أن تقدمه له .
ـ نغم .. خليكي جنبي، دايما.. خليكي معايا، أنا محتاجلك جدا الفترة دي ، الوقت ده أكتر من أي وقت فات .. لو سمحتي .
أخفضت قدميها ببطء، ثم رفعت عينيها إليه وقد غمرها حنانٌ صامت، اقتربت منه وطبعَت قبلةً حانية كاعتذار على وجنته، ومن ثم أحاطت خصره بذراعيها متشبثةً به بقوة وهي توميء مرارًا وتقول :
ـ حاضر ..
رفعت رأسها نحوه، تنظر إليه بعينين تمتلئان بالرجاء والحنين وهي تهمس :
ـ أنا كل اللي طالباه منك تصبر عليا وتفضل تحبني ...
ابتسم بملامحٍ منهكة ولكنها تفيض بالعشق، وأجاب بصوتٍ دافئٍ :
ـ ده أمر مفروغ منه .. مفيش عندي حلول تانية أصلا غير إني أفضل أحبك .. أنا اللي محتاج حبك يا نغم صدقيني، أنا من غيرك ببقى ضايع وتايه زي الطفل اليتيم بالظبط.
تنهدت بارتياحٍ يختلط بالسكينة وهي تنظر إلى وجهه، بينما هو أطلق تنهيدة طويلة متعبة وكأنه يزيح عن صدره ثقلًا أعياه؛ فابتعدت قليلًا، ثم تطلعت إليه بعينين قلقتين وسألته في توجس:
ـ انت كويس ؟
هز رأسه ببطء نافيًا، ثم أطلق زفرة مقتضبة وقال بصوتٍ واهنٍ :
ـ لأ .. مش قادر أكون كويس بصراحة .. حاسس إني مُرهق جدًا جدًا بس للأسف مفيش وقت للراحة ، ورايا حاجات كتير لازم تخلص وبعدين محتاج أشوف دكتور كويس .
ارتجف صوتها وهي تهتف بقلقٍ حقيقي:
ـ دكتور ليه، انت حاسس بإيه ؟
اقترب منها بخطواتٍ هادئة، وأسند كفيه على كتفيها، ثم نظر إليها بعينين منهكتين وقال بنبرةٍ مطمئنةٍ قدر استطاعته:
ـ متقلقيش .. إرهاق وإجهاد مش أكتر ..
رمقته بشكٍ واضح، فابتسم برقةٍ وهو يرفع ذقنها بين أصابعه ويقول هامسًا:
ـ وحياتك عندي .
تنهدت في استسلامٍ مفعمٍ بالقلق وهي تومئ برأسها، فتابع بصوتٍ هادئ:
ـ أنا همشي دلوقتي لأن حسن على وصول، في حاجات كتير لازم نتكلم فيها ، وبعدها عندي كذا مشوار .. وأوعدك أول ما أخلص هاجي أتكلم معاكي وأحكيلك على اليوم بتفاصيله .
أومأت؛ فمد يده يربت على شعرها بحنان، وتابع بنبرةٍ تشي بالأسف:
ـ معلش حقك عليا.. يومين بس واتفرغ ليكي تمامًا ..
نظرت إليه بابتسامةٍ مطمئنة وهي تهمس بحبٍ صادق:
ـ متشغلش بالك أنا فاهمة الدنيا ماشية إزاي ، مش مهم تتفرغ ليا ، المهم متجيش على نفسك وتشيل فوق طاقتك .
أطلق تنهيدة مرهقة، ثم أومأ برأسه وهو يقول :
ـ ربنا ييسر .. انتي ناوية تعملي إيه دلوقتي ؟
رفعت كتفيها ببساطة، وقالت في هدوء :
ـ ولا حاجه ..
ابتسم قليلًا وهو يراقبها وقال بنبرةٍ ودودةٍ :
ـ طيب لو عايزة تخرجي تتمشي اخرجي، بس خلي بالك من نفسك .
هزت رأسها برفضٍ لطيف وهي تقول:
ـ لأ خلاص .. مرة تانية بقا .
ظل يفكر مليًا للحظةٍ، ثم أشرق وجهه بفكرةٍ مفاجئة، وقال وهو يبتسم :
ـ بقوللك إيه ؟ تعالي أوديكي عند زينب تقضي معاها اليوم .
تلألأت ملامحها بسعادةٍ طفولية، وصفقت بحماسٍ تلقائي وهي تهتف بفرح :
ـ حلو جدًا ..
ابتسم وهو يراقبها بعينين تذوبان حنانًا، وقال بنبرةٍ مشاكسةٍ رقيقةٍ وهو يمرر أنامله على شعرها:
ـ ده انت اللي حلو جدًا .
بادلته ابتسامةً براقةً ملأت وجهها نورًا، فمد يده يربت على أعلى رأسها بحبٍ صامت، وقال وهو يتهيأ للمغادرة:
ـ يلا أنا هستناكي في العربية لحد ما تجهزي .
أومأت له برقة، فخرج وهو يلتفت نحوها نظرةً أخيرة، تاركًا خلفه أثرًا من دفءٍ لا يُنسى، بينما هي أسندت ظهرها إلى الباب المغلق، وزفرت بهدوءٍ طويل، كأنها تفرغ ما تبقى بداخلها من اضطراب، قبل أن تبدأ يومها من جديد .
༺═────────────────═༻
أن تكون مُكبّلًا، تحمل حقائق قد تكشف مصائر، وكتمانها قد يودي بحيوات، هو نوعٌ آخر من العذاب..
تسير بخطواتٍ ثقيلة، وكأن كل خطوة تُثقلك بذنوب لم ترتكبها ...
تعرف أن ما بداخلك ليس سرًا عابرًا، بل نارٌ لو اشتعلت قد تلتهم الجميع.
تُصارع بين صوتٍ يهمس لك بالبوح، وآخر يصرخ بداخلك أن تصمت ...
هذا هو حالها تمامًا، لكنها هذه المرة لم تعد تملك رفاهية الصمت، ولا ترف الانتظار...
لقد قررت - ولو جزئيًا - أن تُزيح الحمل عن صدرها، أن تبوح بفُتات الحقيقة، وتُبقي ما تبقّى في الظل، حيث لا يؤذي أحدًا.
أمسكت هاتفها بعزم لن يخفت هذه المرة، وقامت بالاتصال بفريد ، وما إن أجابها حتى قالت:
ـ فريد صباح الخير ..
ـ صباح النور يا نسيم .. إيه الأخبار ؟
ـ تمام .. أنا هخرج دلوقتي أستناك في الكافيه ، هتعرف تجيلي ؟
ـ أوكي .. نص ساعة بس بوصل نغم عند زينب وهجيلك على طول..
ـ تمام .. مع السلامة .
أنهت الاتصال، وبقيت تحدّق حولها بشرودٍ وتيه، تتناوبها الأفكار والشكوك كأمواجٍ لا تهدأ. كانت تتساءل في داخلها إن كانت خطوتها تلك صائبة أم أنها تسرّعت بدافع القلق. فمنذ أن أيقنت بالأمس صدقه وإخلاصه، بدأ الخوف يتسلّل إلى قلبها من أن تكون قد ظلمته دون وجه حق في موضوع "چيرالد وسيلين".
صحيحٌ أنها سمعت حديثًا يدينه، وكل كلمة فيه كانت تنطبق على عاصم، لكنها - رغم ذلك - أقنعت نفسها بأنها لم تسمع اسمه صراحة، وكأن هذا التفصيل الصغير كفيل بأن يُنقذها من الحقيقة، أو يُنقذه هو من التهمة.
كانت تتشبث بذلك الأمل الواهي كالغريق الذي يتشبث بخشبةٍ في بحرٍ هائج، تخدع نفسها بأن عدم سماعها لاسمه يُبطل كل شيء.
ولذلك، قررت أن تخبر أخاها بنصف الحقيقة فقط - بالقدر الذي يكفي لأن يحذره من شريكه، دون أن تفتح الباب أمام شكوكٍ أكبر، ودون أن تذكر ما دار في ذهنها عن عاصم.
ستُخفي البقية، ستحتفظ بها مؤقتًا..
فهي بحاجة إلى أن تكون أنانية قليلًا، أن تمنح نفسها أيامًا إضافية، قصيرة لكنها ثمينة، تحيا فيها بين ذراعيه، وتتنفس دفء حبه وطمأنينته...
أيامًا معدودة قبل أن يأتي الدليل، قبل أن تثبت الحقيقة، وقبل أن ينهار كل شيء.
نهضت من مكانها بتكاسل، ارتدت ملابسها على عجل، ثم التفتت نحو التقويم المعلّق على الحائط، فتذكرت على الفور... لديها موعد اليوم مع طبيبة النساء!
تنهّدت بارتباك، كأنها نسيت أمرًا كانت تحاول نسيانه عمدًا، ثم أمسكت حقيبتها ببطء، تتأهب للخروج وهي تتساءل في سرّها إن كانت مهيأة فعلًا لمواجهة هذا الموعد أم لا .
༺═────────────────═༻
توقّف فريد بسيارته أمام المبنى القديم الذي تقع فيه شقّة حسن، تلك الشقة التي قضت فيها نغم أيّامًا قليلة رفقة خالتها قبل وفاتها.
خفض سرعة المحرك، ثم ترجّل من السيارة، ولحقت به نغم بخطواتٍ متردّدة.
وقفت أمام المبنى تحدّق فيه بعينين غارقتين في الحنين، كأن الجدران تستدعي كل الذكريات التي حاولت نسيانها.
مدّ فريد يده والتقط يدها برفق، ثم شدّ عليها قليلًا وقال بنبرة مواسية:
ــ على فكرة، زينب هتفرح بيكي أوي.
ابتسمت ابتسامة خافتة لا تخلو من الشجن، ثم صعدت رفقته إلى الطابق الثالث حيث تقع شقة حسن حيث تقيم زينب.
توقّفت أمام الباب، تتأملّه بحسرة، فضمّها فريد بذراعٍ واحدة وهمس قرب أذنها:
ـ روقي بقى.. مش عايز أسيبك وأمشي وأنا قلقان عليكي .
أومأت بخفوتٍ، وأطلقت تنهيدة ثقيلة، ثم دقّ فريد الجرس.
وفي داخله، كانت كلمات حسن عن زينب تتردّد في أذنيه بأسى ..
وما إن انفرج الباب حتى ظهرت زينب بملامحٍ شاحبة، وعينين تملؤهما الهموم. لكن ما إن رأت نغم وفريد أمامها، حتى تبدّل وجهها تمامًا، وانفرجت شفتاها عن ابتسامةٍ عفوية وهي تهتف:
ــ يا حبايب قلبي!
اندفعت نغم نحوها لتعانقها بشوق، بينما اكتفى فريد بالابتسام وهو يقول مازحًا:
ــ دي عدوى وماشية في البلد بقا !
ضمّتها زينب بقوة، ربتت على ظهرها ومسحت على شعرها بحنانٍ أمٍّ دافئة وقالت:
ــ وحشتيني يا حبيبتي.
ثم التفتت إلى فريد، الذي أقبل نحوها مبتسمًا، ومدّ ذراعيه ليبادلها عناقًا خفيفًا ومفاجئًا جعلها تتأثّر بشدّة.
ربت على كتفها وقال بودّ:
ــ أخبارك إيه يا زينب؟
أجابت بعينين دامعتين من شدّة التأثر:
ــ أنا بقيت كويسة بعد ما شوفتكم.. اتفضلوا، اتفضلوا ادخلوا.
نظر فريد إلى نغم وأحاط خصرها بذراعه في حركةٍ خفيفة، ثم قال مبتسمًا:
ــ لأ، أنا مش فاضي دلوقتي.. بس جبتلك الحلوة دي تقعد معاكي النهارده، وبالليل إن شاء الله أجي أستلمها منك.
ضحكت زينب، وتبادلت النظرات مع نغم، ثم قالت ضاحكة:
ــ خير ما عملت والله.. أنا أهو قاعدة لوحدي مش لاقية حد يونسني.
هزّ فريد رأسه وهو يبتسم، لكن خلف ابتسامته ظلّ شعورٌ خفي بالأسى، ثم قال بنبرةٍ دافئة:
ــ تمام.. بس خلي بالك منها، وأكّليها كويس من فضلك، لأنها هلكانة زي ما انتي شايفة كده.
ضحكت زينب وأشارت من عينٍ لأخرى ممازحةً:
ــ من عينيّ الاتنين.. بس لو تسيبها لي أسبوع واحد، هزغطها وأرجّعهالك بطة بلدي!
ضحك فريد ونظر إلى نغم بنظرةٍ ماكرة، ثم قال:
ــ حلو ده.. هفكّر في الموضوع.
تحرّك ليغادر وهو يقول:
ــ يلا.. أشوفكم بالليل.
نادته زينب قبل أن يغادر:
ــ مش هتيجي تتغدّى معانا؟ هعملك الأكل اللي بتحبه، وأهي تبقى فرصة نتغدا سوا النهارده.
توقّف والتفت نحوها، وفي عينيها رأى رجاءً خالصًا يطلب دفء الانتماء.. يطلب أن تشعر بحقها المسلوب فيهم .. لذا ابتسم وأومأ برأسه قائلًا بلطف:
ــ اللي تشوفيه يا زينب.. هاجي أتغدّى معاكم، حاضر.
اتسعت ابتسامتها بحماس وقالت:
ــ تمام.. وإحنا هنكون في انتظارك.
ودّعهما فريد بابتسامةٍ صافية، ثم غادر واستقلّ سيارته متجهًا نحو المجمع السكني الذي تقيم فيه نسيم، وفي داخله تتنازع الشكوك والاحتمالات، كأن عاصفةً على وشك أن تندلع.
وأثناء الطريق، رنّ هاتفه، فإذا بعمر على الخط... فتح فريد الخط وقال بهدوء:
ــ أيوه يا عمر.. صحيت؟
أجابه عمر بصوتٍ متثاقل:
ــ اومال يعني بكلمك وأنا نايم !
ــ ممم.. واضح انك ما شاء الله صاحي فايق وليك نفس تستظرف كمان!
ــ وميجليش نفس ليه؟
حوّل عمر المكالمة إلى مرئية، ففتح فريد الكاميرا ليُفاجأ بعمر وحسن في المطبخ وسط فوضى لا توصف.
كان حسن يقف أمام الموقد يقلب شيئًا في المقلاة، بينما عمر يعبث بالأغراض من حوله كطفلٍ مشاغب.
فصاح فريد بصدمة:
ــ انتوا بتعملوا إيه؟!
أجابه حسن وهو يلوّح بملعقةٍ في الهواء مبتسمًا:
ــ صباح الفل يا كبير، بما إني هفطر معاكم قلت ماجيش إيدي فاضية، بجهز لكم شوية كبدة ومخ، إنما إيه... وصـــاية!
ضغط فريد على المكابح وأوقف السيارة فجأة، ثم هتف غير مصدّقّا:
ــ كبدة ومخ؟! دلوقتي؟!
ضحك حسن وقال وهو يوميء بفخر:
ــ أيوه دلوقتي وكل وقت يا حبيب أخوك..
وغمز إليه بعبث وتابع :
ـ إنت بردو عريس ومحتاج تغذية!
تنهد فريد ومسح وجهه بيأس وهو يقول:
ــ طيب لو سمحتوا اخرجوا من المطبخ حالًا، بس قبل ما تخرجوا رجعوا كل حاجة مكانها أنا بقولكم أهو ..
لكنّهما تجاهلاه تمامًا، إذ رفع حسن قطعة من الكبدة من المقلاة، واقترب بها نحو فم عمر وهو يقول :
ــ حتة الكبدة دي رايحة على بؤ مين؟
فورًا التقطها عمر بفمه كأسدٍ جائع وهو يقول بانبهار:
ــ يخرب بيت حلاوتك يا أبو علي! بس زوّد فلفل سيكا .
شعر فريد أن ضغط دمه يرتفع، وعضلات قلبه تتقلص من الغيظ، فهتف بقلة حيلة :
ــ أنا هقفل لأني سايق، وبالشكل ده هيجيلي panic attack بسببكم.
ردّ عمر وهو يلوك الطعام:
ــ طيب متتأخرش، إحنا مستنيينك تفطر معانا.. الأكل اللي عمله حسن خطير ويجوّع بصراحة.
أجابه فريد بضجر:
ــ لأ، مش هقدر.. افطروا إنتو بألف هنا، أنا أكلت حاجة خفيفة .
لكن حسن التقط الهاتف من عمر ونظر إلى فريد عبر الشاشة بنبرة حازمة:
ــ عليّ الطلاق من بيتي ما يحصل! لو مجيتش تفطر معانا، لا أنا ولا عمر هناكل لقمة. صح يا عمر؟
رفع عمر رأسه من خلفه، وفمه محشو بالطعام، ولوّح بإبهامه تأييدًا، فقال حسن :
ـ أهو .. لو يرضيك إننا نفضل على لحم بطننا خلاص متجيش ..
تنهد فريد، وهو يوميء مستسلمًا ويقول :
ـ طيب .. قدامي شوية وجاي ، هحاول متأخرش .
ليجيبه حسن بابتسامة واسعة :
ـ واحنا في انتظارك يا شق الشقايق ، يلا .. تصحبك السلامة .
أنهى فريد الاتصال وهو يهز رأسه يائسًا ويتمتم :
ـ يا الله.. يا ولي الصابرين .
كان قد اجتاز بوابة المجمع السكني حيث تسكن نسيم، وقاد حتى وصل إلى المقهى الذي من المقرر أن يتقابلا فيه ، صف سيارته ، ثم ترجل ليدخل وما إن رآها حتى نهضت تستقبله، تعانقا ثم قال :
ـ أخبارك إيه ؟
ـ الحمدلله .. وانت ؟
ـ أنا كويس الحمدلله .
جلسا ، فسألها :
ـ فطرتي ولا أطلب لك حاجة ؟
ـ لأ أنا تمام ..
قام بطلب كأسين من العصير الطازج ، ثم نظر إليها وقال :
ـ ها .. قوليلي ؟
تنهدت وهي تنظر إليه بتردد، ثم تنفست بعمق، وأقامت ظهرها، ثم قالت :
ـ طمني انت الأول ، عملتوا ايه امبارح ؟
ضحك ضحكة قصيرة مبتورة، ثم تنفس بهدوء، كاتمًا غضبه وضيقه، وقال :
ـ كل خير ..
ضيقت عينيها وهي تنظر إليه باستفهام وتقول:
ـ اتخانق معاكم ؟
أومأ وقال :
ـ حاجة زي كده ..
وتابع :
ـ سيبك من اللي حصل امبارح أنا قادر أتعامل معاه .. خلينا في الموضوع اللي عاوزاني علشانه !
رآها تنظر حولها بشرود وتردد، فقال :
ـ مالك يا نسيم ؟! اتكلمي ؟!
ـ بصراحة مش عارفة أقوللك إيه .. أولا أما آسفة إني خبيت عليك من وقتها، بس مكنتش عاوزة أضايقك في يوم زي ده علشان كده قررت أستنى لما نرجع ؟
بدأت أمارات التوتر تظهر جلية على محياه، وهز رأسه متعجبا وقال :
ـ إيه اللي حصل ؟
ابتلعت ريقها بتوتر وقالت :
ـ جيرالد .. جيرالد وسيلين سمعتهم بيتكلموا واحنا على اليخت .. جيرالد كان بيقولها انها لازم تبطل محاولاتها اللي بتعملها عشان تفرق بينكم، وقال لها بالنص إنهم خلاص مبقاش عندهم أوامر بكده .. وإنها بتنفذ حاجات محدش طلبها منها ، فقالت له إنها عملت كل اللي اتطلب منها ومفيش فايدة ..
ضيّق فريد عينيه، وقطب جبينه متعجبًا، فتابعت :
ـ كمان قالتله إنه هو كان بيحاول يضايقك لما مسك ايد نغم وكان هيبوسها، رد عليها وقالها إنه مش محتاج يعمل كده .. وإنها لو فضلت على موقفها ده هي الوحيدة اللي هتتأذي ..
ـ وبعدين ؟
ـ تنهدت وهي تعود بظهرها لظهر المقعد، وتابعت :
ـ قالت له إنه لازم يساعدها توصلك يا إما هتقوللك إنه بيخدعك وبيلعب عليك وإنه متواطئ ضدك ..
شحب وجهه على الفور، كأن الدم انسحب من عروقه دفعة واحدة، بينما ارتجفت أنامله فوق الطاولة دون وعي، فحاول أن يخفي اضطرابه بإسناد ظهره إلى المقعد، وابتلع غصّته بصعوبة قبل أن يقول بصوتٍ خافتٍ متماسك:
ــ مع مين ؟
ترددت قليلًا، ثم تابعت وهي تشيح بوجهها عنه لتتجنب نظراته:
ــ مش عارفة، مقالتش أسامي، لأنه منعها تكمل ..
تبدلت ملامحه تمامًا، امتزجت الدهشة بالغضب، وعيناه راحتا تتنقّلان بين ملامحها المرتبكة في محاولةٍ لفهم ما بين السطور، ثم قال بنبرةٍ مشدودة:
ــ وليه مقولتيليش من وقتها ؟!
فتحت فمها، ثم أغلقته كسمكة في الماء، وأجابته بتردد:
ــ مكنتش عاوزة أضايقك في يوم انتوا بتستنوه من زمان.. وكمان أنا لما سمعت جالي ذهول وفضلت وقت على ما قدرت أستوعب اللي سمعته .
ظلّ صامتًا لحظات، كأنه يسترجع شريط الأحداث في ذهنه، ثم رفع نظره إليها وقال ببطءٍ محسوب:
ــ إنتي متأكدة إن الكلام كان عني؟ واثقة من اللي سمعتيه ؟
هزّت رأسها بأسى، وأجابت بصدقٍ مرتبك:
ــ للأسف، متأكدة مية في المية .
صمت فريد طويلًا، وصوته الداخلي يتصارع بين شكٍّ مميت وإيمانٍ لا يريد التفريط فيه.
مسح على وجهه بكفّيه، ثم قال بصوتٍ متعبٍ أقرب للهمس:
ــ طيب .. أنا هتصرف .
نظرت إليه برجاء وقالت بصوت مضطرب، مذعور :
ــ ناوي على إيه ؟
أجابها بحزم :
ـ ناوي أعرف مين اللي وراهم !!
تبدلت ملامحها لأخرى كئيبة، جعلته يعي أنها تكتم شيئا عنه، وهي تقول :
ـ وبعد ما تعرف ؟
مرر يده على مؤخرة عنقه ببطء وهو يزفر تنهيدةً عميقة، ثم مال للأمام وقال:
ــ متشغليش بالك يا نسيم ، ركزي في صحتك وفي البيبي اللي جايلك ..
ثم تأمّلها قليلًا، وقال وهو ينظر عبر الزجاج نحو الأفق البعيد:
ــ أنا عارف هعمل ايه كويس .
ثم رفع عينيه نحوها وأضاف بنبرةٍ أقرب إلى الرجاء منها إلى العتاب:
ــ بس ممنوع تخبي عني حاجة تاني ولا تأجليها لحظة واحدة حتى .. وممنوع حد يعرف اللي سمعتيه أو قلتيهولي دلوقتي.. اتفقنا ؟
انخفضت نظراتها نحو الطاولة بخجل، ثم تمتمت:
ـ حاضر .
نظر إليها طويلًا، بعينين يملؤهما مزيج من الضعف والامتنان، ثم قال بصوتٍ خافتٍ شجيّ:
ــ على العموم .. شكرا إنك بلغتيني علشان أخد حذري وأعرف أتصرف بدري ..
ـ ربنا معاك .
نهض، حينئذ أقدم نحوهما النادل يحمل كأسين من العصير، فسألته :
ـ رايح على فين ؟ مش هتشرب العصير ؟
ـ لأ .. مش قادر .. قوليلي. انتي هتعملي إيه دلوقتي ؟
ـ أنا هقعد شوية وبعدين عندي ميعاد مع الدكتورة وبعدها هرجع على البيت.
ـ طيب يلا أوصلك بالمرة ..
ـ لأ معلش .. أنا حابة أكون لوحدي .
تنهد، ثم أومأ واقترب منها، ربت على رأسها بحنوٍ فائض، ثم نظر إليها بنظرة عميقة وقال :
ـ خلي بالك من نفسك.
أومأت بابتسامة واهية، فتابع :
ـ في أي وقت حسيتي إنك محتاجة مساعدة أو محتاجة تتكلمي معايا في أي حاجه متتردديش .. أنا عندي وقت ليكي دايما .
اتسعت ابتسامتها قليلا ، ثم هزت رأسها موافقة، ثم نهضت، عانقته وربتت على كتفه وهي تقول :
ـ خلي بالك من نفسك ومن نغم أرجوك .
قبّل أعلى رأسها وهو يربت على ظهرها ويقول :
ـ متقلقيش عليا ولا على نغم .. وابقي طمنيني لما تخلصي عند الدكتورة عليكي وعلى البيبي ..
ابتسم لها ابتسامة دافئة فبادلته بمثلها، وأومأت في صمت. ثم غادر مسرعًا، وما إن استقلّ سيارته حتى خيّم عليه صمت ثقيل، وتلبّسته حالة من وجومٍ حاد، أخذ خلالها يسترجع كلمات نسيم في ذهنه.
أخرج هاتفه من جيبه واستدعى رقم نادر المحامي، لكنه ظلّ يحدّق في الشاشة بتردّدٍ واضح، قبل أن يُعيد الهاتف إلى مكانه، ويتنهد بعمقٍ وهو يسند رأسه إلى عجلة القيادة، شاعراً وكأنّ كل شيءٍ بات على المحك.
༺═────────────────═༻
بينما كانت زينب قد توجهت إلى المطبخ تُعدّ الفطور، ظلت نغم واقفة في منتصف الصالة، تنظر إلى أرجاء البيت بصمتٍ طويل، كأنها تحاول أن تُعيد ترتيب الذكريات التي تركتها وراءها هنا ..
كل زاوية في المكان كانت تحمل شيئًا من خالتها؛ ضحكتها، صوتها، وحتى عطرها الفطري الذي بدا وكأنه ما زال عالقًا في الهواء.
مدّت يدها تتحسس طرف الأريكة التي كانت تجلس عليها خالتها في صباحاتٍ كثيرة، فاهتزّ قلبها، وغمرتها موجة حنينٍ جارفة.
تذكّرت كيف كانت خالتها تُعد الطعام وتطعمها بنفسها، وكيف كانت تُكثر من وصاياها لها في الأيام الأخيرة وكأنها كانت تستشعر الفراق قبل أن يأتي.
انحدرت دمعة دافئة على خدّها، تبعتها أخرى، حتى أصبحت الدموع تنساب في صمتٍ هادئ، لا أنين فيه ولا صوت، سوى وجعٍ قديم يتجدد.
جلست على أحد المقاعد، وأسندت رأسها إلى الجدار، تحاول كبح شهقاتها، لكنّها فشلت، فباحت الدموع بما لم تستطع الكلمات قوله.
تمتمت بصوتٍ متهدّج:
ـ وحشتيني يا خالتي.. محتاجالك أوي دلوقتي ، معرفتش قيمتك غير لما رحتي .
وبينما كانت كلماتها تتلاشى في السكون، كانت زينب تراقبها من بعيد، وقد أدركت أن جراح الماضي لا تندمل بسهولة، اقتربت منها بخطواتٍ هادئة، وعيناها تمتلئان بالعطف، ثم جلست إلى جوارها وقالت بصوتٍ رقيق:
ـ خلاص يا نغم.. متعيّطيش يا حبيبتي، هي في مكان أحسن دلوقتيز..
لكنّ نغم لم تستطع الرد، كانت غارقة في بكائها، فمدّت زينب ذراعيها واحتضنتها برفق، تُربّت على كتفها بحنانٍ يشبه حنان الأمهات، وكأنها تحاول أن تُسكِت وجعها ببعض الدفء.
أغمضت نغم عينيها داخل حضنها، فشعرت للحظةٍ وكأنها وجدت الأمان الذي فقدته منذ رحيل خالتها، ثم تنهدت وقالت :
ـ عمري ما حسيت إني محتاجة خالتي قد دلوقتي ، كان نفسي تكون موجودة وكل ما حاجة تزعلني أشتكي لها وتاخدني في حضني وتهون عليا .. كان نفسي تكون معايا وتفرح لي وتفرح بيا وتجهزني زي ما كانت بتحلم طول عمرها إنها تشوفني عروسة وتجيبلي جهازي..
عانقتها زينب بقوة، وربتت على ظهرها وهي تقول :
ـ محدش فينا بياخد كل حاجة يا حبيبتي، ولا بيخسر كل حاجة.. لازم تلاقي كل واحد فينا عنده نِعم كتير ومحروم بردو من نِعم تانية.. وفي الحالة دي، لازم نستشعر النِعم اللي عندنا علشان نرضى، ونفتكر دايمًا إن ربنا موزّع الأقدار بعدل، يمكن اللي ناقصنا بيكملنا بطريقة تانية إحنا مش شايفينها دلوقتي.. بس هنعرف قيمتها بعدين..
أومأت نغم بموافقةٍ واقتناع، بينما تابعت زينب:
ـ.يعني أنا مثلا .. كان ممكن أفضل أقول ليه يا رب حرمتني من نعمة الجواز والخلفة .. لكن لما فكرت إني عندي بيت بيأويني مش قاعدة في الشارع.. صحتي كويسه مش باخد ولا حباية ضغط حتى.. بلاقي أكلي وشربي وباكل أحسن أكل وألبس أحسن لبس.. أينعم فريد وعمر وحسن ونسيم مش ولادي لكن بحبهم وبيحبوني وبعتبرهم فعلا حته مني .. كل دي نِعم تستاهل إني أشكر ربنا عليها كل يوم وكل ساعة .. انتي كمان عندك نِعم كتيرة لازم تحمدي ربنا عليها.. أولها إنك في حما راجل بيعشقك .. مش أي راجل والسلام .. ده إنسان الدنيا كلها تهون عليه وانتي لأ .
حينها ابتسمت نغم وأومأت تؤيد حديثها، بينما تابعت زينب قائلة :
ـ أحيانا يا حبيبتي العوض بيكون على هيئة شخص واحد .. ربنا بيعوضك فيه عن الأب والأخ والصاحب .. وأظن بقا مش هتلاقي أحسن من فريد قايم بكل الأدوار دي أنا متأكدة .
ابتسمت نغم ، وقالت وهي تتحسس الخاتم باصبعها :
ـ معاكي حق .. فريد حنين عليا فوق الوصف ، راجل بمعنى الكلمة فعلا .. أنا أوقات كتير بفضل أسأل نفسي أنا عملت إيه في حياتي حلو علشان ربنا يرزقني إنسان زي ده ..
مسدت زينب ذراعها بحنان وهي تقول:
ـ لأنك طيبة وبنت حلال وقلبك أبيض .. فريد يستاهلك فعلا وانتي تستاهليه .. تعرفي أنا لو كنت عشت لليوم اللي فريد فيه اتجوز واحدة زي جيلان مثلا كنت مت منقوطة ..
ابتسمت نغم بخفة، بينما استأنفت زينب حديثها قائلةً:
ـ انما انتي يا حبيبتي اتخلقتي علشانه .. من أول لحظة شفتك فيها واقفة معاه في الڤيلا وأنا من جوايا اتمنيت يجمعكم النصيب ..
هزت نغم رأسها بغير تصديق، فأكدت زينب حيث قالت :
ـ تعرفي ليه .. ؟ لأني شفت عينيه وهو بيبص لك عامله ازاي .
أسندت نغم يدها أسفل خدها وهي تسألها باستمتاع :
ـ كانت عامله إزاي ؟
تنهدت زينب وهي تسترجع تلك اللحظة حين اصطدمت نغم بفريد وهي تحمل قطعة الكعك، بينما وقفت نغم أمامه تنظر إليه في ذعر ، بينما كان هو ينظر إليها في في دهشةٍ صامتة، كأنما الزمن توقف عند تلك اللحظة وحدها، كانت نظرته إليها مزيجًا غريبًا من الذهول والإعجاب والحنين، كأنه رأى فيها شيئًا يعرفه من قبل، شيئًا ضاع منه ووجده أخيرًا.
قالت زينب وهي تبتسم بخفوت، وكأنها تعيد المشهد أمام عينيها:
ـ كانت عينيه فيها لمعة كده أول مرة أشوفها ، بصراحة .. كان هياكلك بعنيه ..
ضحكت زينب ضحكةً عالية، بينما ابتسمت نغم في خجل وهي تطرق برأسها، وشعرت بحرارة لطيفة تسري في وجنتيها، وكأن كلمات زينب أعادت إليها كل ما حاولت إخفاءه طويلًا، لتدرك في تلك اللحظة فقط أن مشاعرها لم تكن من طرفٍ واحد، فقالت :
ـ أنا بردو من أول ما شفته وأنا حسيت إني عايزاه يفضل قدامي طول الوقت .. كنت بفضل أدور عليه لحد ما يظهر قدامي أبقا مش عارفة أتلم على أعصابي وأجري أستخبى في الاوضة .
ضحكت زينب ، وبادلتها نغم ثم قالت :
ـ بصراحة يا خالتي .. فريد بسم الله ماشاء الله.. مز أوي .. يعني لما ببص له كده بحس إني هيغمى عليا ...
علت ضحكات زينب، فيما مالت عليها نغم وشاركتها الضحك وهي تتحسس وجنتيها الدافئتين بخجل ، وتقول :
ـ أنا مش عارفة بقول كده ازاي .. يالهوي لو سمعني وأنا بقول مز هيقطع علاقته بيا فورا ..
خفتت ضحكات زينب قليلاؤ وهي تقول :
ـ طب ما انتي كمان مزة يا قلبي اسم الله عليكي ربنا يحميكي .. أنا طول عمري أسمع إن المخدة متشيلش إتنين حلوين ، بس ولله الحمدلله انتوا الاتنين قمرات ربنا يحفظكم .
عانقتها نغم وأسندت رأسها على كتفها بطمأنينة وقالت بيأس:
ـ تفتكري سالم بيه هيسبنا في حالنا ولا هيسيبنا ننام على مخدة واحدة اصلا !
نظرت إليها زينب، لا تعرف هل تضحك أم تحزن لأجلها، ثم ربتت على يدها وهي تطمئنها قائلةً :
ـ سيبيها لله يا حبيبتي.. طول ما انتي مرات فريد وعلى إسمه والله لو سالم وقف على دماغه ما حد هيعرف يبعدكم عن بعض ..
منحها حديثها بعض الأمان، فتنهدت ثم قالت :
ـ يسمع منك ربنا يا خالتي ..
ـ يلا يا حبيبة خالتك ، قومي علشان نفطر .. فريد موصيني عليكي .
ابتسمت نغم بسرور، بينما تابعت زينب:
ـ وبعد ما نخلص فطار هنزل أنا وانتي نشتري طلبات الغدا وبالمرة أجيبلك حاجات هتعجبك أوي ..
هتفت نغم بحماس :
ـ حاجات إيه ؟
لتجيبها زينب بغمزةٍ ماكرة:
ـ لما ننزل هتعرفي ..
ـ ماشي .. وعايزاكي كمان تعلميني كل الأكل اللي بيحبه فريد علشان لما نتجوز أعملهوله .
ـ بس كده .. من عنيا يا حبيبتي .
༺═────────────────═༻
تمدّدت نسيم على سرير الفحص، والبرد يتسلّل إلى جسدها رغم الغطاء الرفيع الذي ألقتْه الممرضة على ساقيها. كانت نظراتها معلّقة في السقف، تتأرجح بين الرجاء والخوف، تسمع خفقات قلبها المتلاحقة كأنها تحسب معها نبض جنينها.
وقفت الطبيبة إلى جوارها، تحدق في جهاز السونار، ثم أمالت الشاشة قليلًا، وضغطت بالمجسّ على بطنها بلطف، فانتفض جسد نسيم برفق، وارتسمت على ملامحها تعابير ممتزجة .
ظلّت الطبيبة صامتة للحظات، تحدّق في الشاشة بعينٍ دقيقةٍ قلقة، بينما ارتفع أنين الجهاز الخافت كأنّه يُعلن شيئًا لا تُحسن نسيم فهمه.
حاولت أن تقرأ من ملامح الطبيبة ما تخفيه، لكن صمتها زادها اضطرابًا، فتمتمت بصوتٍ مرتجف:
ـ في حاجة يا دكتورة؟
رفعت الطبيبة رأسها، ونظرت إليها نظرة حاولت أن تُغلّفها بالهدوء، وقالت بصوتٍ مطمئنٍ يحمل في طيّاته شيئًا من الحذر:
ـ متقلقيش يا نسيم .. النبض موجود الحمد لله، بس النمو مش بالمعدل الطبيعي للأسبوع اللي إحنا فيه، يعني الجنين كويس لكن محتاج متابعة دقيقة جدًا الفترة الجاية.
شعرت نسيم بالخوف، وكأن أنفاسها تجمّدت بين ضلوعها، فأكملت الطبيبة وهي تمسح على كتفها برفق:
ـ أنا مش بقول في خطر دلوقتي، بس محتاجة تريّحي نفسك خالص، مفيش توتر، مفيش مجهود، ولا تفكير كتير. مفيش حركة كتير، جسمك محتاج يستقر علشان الحمل يثبت كويس.
أومأت نسيم بصمت، بينما عينيها تمتلئان بدموعٍ متحجّرة، تتأرجح بين الخوف والأمل، تتشبث بكل كلمة طمأنينة، وتخشى أن تنهار منها إحداها في لحظة.
أنهت الطبيبة فحصها في صمتٍ مهني، ثم انتقلت إلى مكتبها لتدوّن بعض الملاحظات، بينما جلست نسيم تعيد ترتيب ملابسها بتوتر واضح، قبل أن تتبعها بخطواتٍ بطيئة وتجلس في المقعد المقابل لها.
نظرت إليها بعينين مرتجفتين وسألت بصوتٍ مبحوح:
ـ يعني يا دكتورة... في احتمال يحصل حاجة للبيبي؟
رفعت الطبيبة رأسها من فوق الأوراق، وقالت بنبرة هادئة يغلب عليها الطابع العملي وهي تواصل الكتابة:
ـ لسه منقدرش نحدد دلوقتي ، لكن نقدر نقول إن في احتمالين... الأول إن النبض هيقوى طبيعي مع الراحة التامة والعلاج، والتاني إن الجسم مش مهيأ تمامًا لاحتضان الحمل دلوقتي.
لكن ما نقدرش نحكم غير بعد أسبوع كمان.. لما نعمل سونار تاني ونشوف .
أطرقت نسيم رأسها في صمت، تحاول حبس دموعها، فتابعت الطبيبة بلطف :
ـ مش عاوزاكي تقلقي .. كل حاجه بإيد ربنا ، أهم حاجه نعمل اللي علينا كويس .. تاكلي وتاخدي الفيتامينات بتاعتك كويس ، وترتاحي وتهدي أعصابك .. النفسية المستقرة مهمة وضرورية جدا لاستقرار الحمل .. اتفقنا ؟
هزت نسيم رأسها بهدوء، ثم خرجت من غرفة الفحص بخطواتٍ بطيئة، كأنها تجرّ خلفها ثِقل العالم كله. يدها على بطنها بحركةٍ لا إرادية، تُربّت عليه برفقٍ ووجل، وكأنها تحاول أن تطمئن الجنين كما تطمئن نفسها.
استقلت سيارة الأجرة التي لا تزال في انتظارها..
أحست بوخزةٍ في صدرها، ليست من الخوف وحده، بل من الشعور بالعجز.
كل ما أرادته في تلك اللحظة أن يضمّها عاصم ويقول لها إن كل شيء سيكون بخير.. أنهما لن يخسرا طفلهما، ولكن كيف.. وهو لا يعلم بالطفل أساسًا ؟!
رفعت رأسها إلى السماء من خلف زجاج النافذة، عيناها مغرورقتان بالدموع، وهمست بخفوتٍ يكاد لا يُسمع:
ـ يا رب احفظهولي... ده رزقك اللي رزقتني بيه ، ما تحرمنيش منه.
ثم تنفّست بعمق، وأخرجت من حقيبتها منديلًا تمسح به دموعها، وهي تحاول استعادة ثباتها، وتوازنها..
رنّ هاتفها فجأة فقطع حبل أفكارها، التقطته بتوتر، لتتفاجأ باسم عاصم يضيء على الشاشة. ابتلعت ريقها قبل أن تضغط على زر الرد، فجاءها صوته حادًّا يحمل نبرة قلقٍ مكبوت:
ـ رنّيت عليك كذا مرة يا نسيم.. مش بتردي ليه؟ كنتي فين؟
تلعثمت وهي تجيب، محاولة إخفاء ارتباكها:
ـ معلش مسمعتش الموبايل، كنت في المطبخ .
ساد صمت قصير، قبل أن يسألها بنبرة غامضة:
ـ انتي كويسة؟
ـ أيوه.. أنا تمام.
لم يعلّق، اكتفى بأن قال ببرودٍ خافت:
ـ تمام.
ثم أنهى المكالمة دون وداع، تاركًا خلفه ارتباكًا أثقل صدرها. تنهدت بعمق، كأنها تُفرغ أنفاسها من ثِقل لا تراه، وأعادت الهاتف إلى حقيبتها، قبل أن تنطلق عائدة إلى المنزل.
وما إن وصلت، ترجلت من السيارة وهي شاردةً، تسترجع ما أخبرتها به الطبيبة، أدارت المفتاح في الباب بأسى يجعلها تتحرك دون وعي، حتى شعرت بانقباضٍ في صدرها، لم تعرف سببه... دفعت الباب ببطء، وما إن فتحته حتى تجمّدت في مكانها.
كان عاصم جالسًا أمامها في منتصف الصالة، ينتظرها بهدوءٍ مرعب، وعيناه تراقبانها بنظرةٍ صلبةٍ غامضة تُخفي وراءها شيئًا لا يُطمئن...
نظرة جعلت الدم يتجمّد في عروقها، وجعلت أنفاسها تتسارع دون إرادة.
༺═────────────────═༻
عاد فريد إلى المنزل مثقلاً بالهموم، يقود سيارته ببطء بينما عقله يضجّ كخلية نحل لا تهدأ. كان كلام نسيم يطنّ في رأسه كصدى لا ينتهي - جيرالد، سيلين، والخيانة الخفية من شريكه الأقرب.
حاول مرارًا أن يطرد تلك الفكرة من ذهنه، أن يُقنع نفسه أن الخطأ في الفهم وارد، لكنّ شيء ما، في التفاصيل التي ذكرتها، كان يصرخ داخله أن الخطر قريب.. أقرب مما يتخيل!
قبض على المقود بقوة حتى ابيضّت أنامله، زفر بضيق، ثم أخبر نفسه أن هذا ليس وقت الانهيار ..
لكن ما إن أوقف السيارة أمام الفيلا، وهمّ بالدخول، حتى انقلب تفكيره من الشكوك إلى الكارثة التي كان يتوقعها منذ الصباح. ما إن فتح الباب، حتى استقبله مشهد الفوضى العارمة: أواني المطبخ مبعثرة، فتات الخبز على الأرض، بقع الزيت على الرخام، وحتى المقاعد لم تسلم من عبث حسن وعمر.
تجمّد مكانه لثوانٍ، يحدّق في الخراب بعينين زائغتين، وكأنّ المشهد أمامه يُدمّر شيئًا في أعماقه.
شعر بأن صدره ينقبض، وأن أنفاسه تُسحب منه ببطء.. ضربات قلبه تسارعت، وراوده ذلك الشعور المألوف الذي يحاصره منذ سنوات - الفوضى تعني الخطر، الفوضى تعني فقدان السيطرة.
أغلق عينيه محاولًا التماسك، لكن أعصابه بدأت تنفلت، وأفكاره تتدافع بلا نظام ..
خلع سترته بعنف، وبدأ يلتقط الأشياء واحدًا تلو الآخر، يعيد ترتيبها بآليةٍ عصبية، ووجهه يتصلّب أكثر مع كل خطوة.
وفي داخله، لم يكن يميز بعد بين الغضب من خيانة شريكه، والهلع من الفوضى التي تملأ بيته؛ كلاهما كانا وجهين لذات الشعور المرعب: أن كل شيء يخرج عن السيطرة من حوله.
كان حسن واقفًا في منتصف الصالة، ينظر إلى فريد بدهشةٍ واضحة، غير مستوعب كيف يمكن لفوضى بسيطة أن تُثير كل هذا الغضب والانفعال.
مرّر يده على عنقه بتوتر، وقال بنبرةٍ حاول أن يجعلها مازحة:
ـ طول بالك طيب نفطر الأول وبعدين نقلبها لك شقة عروسة .
لكن فريد لم يكن يسمع سوى صدى أنفاسه المتوترة، وعيناه تجولان في المكان بجنون، تلتقطان أدق التفاصيل؛ الكراسي المقلوبة، اللوحات المائلة، وحتى الأتربة على حافة الطاولة.
كان المشهد بالنسبة له فوضى تامة، كأن العالم كله خرج عن نظامه.
قال بصوتٍ متحشرج من الغضب والانفعال:
ـ أنا حاسس إني كنت سايب اتنين قرود في البيت .. إيه الفوضى دي كلها ؟
رفع حسن حاجبه وقال باستخفافٍ خفيف:
ـ لقيناك اتأخرت قلنا نرفه عن نفسنا شوية ..
لكن عمر كان أكثر إدراكًا لِما يجول في نفس فريد، لمح الارتباك في ملامحه، والعرق الذي بدأ يتصبب من جبينه، ونَفَسه السريع الذي يوحي بأنه يقاوم شيئًا أكبر من مجرد انزعاج.
اقترب منه بخطواتٍ هادئة، وقال بصوتٍ مطمئن:
ـ فريد انت كويس ؟
ـ كويس كويس متشغلش بالك .
ثم التفت إلى عمر بنظرةٍ حادةٍ فيها جدّية لم يعتدها منه وقال:
ـ ممنوع الفوضى دي تحصل مرة تانية .. انتوا فاهمين ؟
سكت حسن، مرر يده تلقائيا على عنقه بحرج وهو يشعر بأن شيئًا ما ليس على ما يرام، بينما كان فريد قد بدأ بالفعل يُعيد ترتيب الأشياء بيديه، يُصلح اللوحات ويُزيح الكراسي بعنايةٍ مفرطة، كأنه لا يُحاول استعادة نظام البيت فقط، بل نظام روحه أيضًا.
حينها أجابه عمر بهدوء :
ـ سوري يا برو .. على العموم أنا يمكن أرجع مع حسن بعد الفطار على الڤيلا ..
ليتفاجأ بفريد يحدجه بنظرات ساخطة، ثم برز صوته حادًا منفعلا :
ـ جرى إيه يا عمر انت كمان هو انت مفيش عندك تمييز خالص للدرجة دي ؟! يعني يا تقلب البيت زريبة يا تسيبه وتمشي ؟
ـ مش قصدي بس...
رفع فريد كفه ليقاطعه، وبدأ بحلّ أزرار قميصه بضيق وهو يقول :
ـ خلاص يا عمر لو سمحت ..
وأكمل ما كان بصدد فعله، ثم دخل إلى غرفته ومنها إلى الحمام، نزع ملابسه وألقى بها في سلة المهملات، ثم وقف أسفل سيل الماء البارد ، يغمض عينيه وهو يحاول إخماد نار الاشمئزاز التي كانت تشتعل بداخله، كأن جسده كله مُلوّث لا يليق به أن يتنفس.
كانت قطرات الماء البارد تنهال عليه بعنف، لكنه لم يشعر بالبرودة، فقط أراد أن يغسل كل ما علق بروحه قبل جسده.
فتح عينيه فجأة، وانحنى يفتح الصنبور أكثر، ثم بدأ يفرك ذراعيه بقوةٍ مبالغٍ فيها، حتى احمر جلده، وأخذ صابون الاستحمام من على الرف وبدأ يدلك جسده مرارًا وتكرارًا، وكأنه يُحاول أن يمحو أثرًا خفيًا لا يُرى.
كلما توقّف لحظة، شعر وكأن القذارة ما زالت تلتصق به، فيعود من جديد، يفرك ويفرك حتى صارت حركته أشبه بنوبة، لا يستطيع التوقف عنها.
أغمض عينيه ثانيةً، يلهث من شدة التوتر، ثم رفع وجهه نحو الماء، تاركًا إياه ينساب على ملامحه المتعبة ..
ثم التفت بعصبية إلى الكحول الموجود على الرف، فتح الغطاء وسكبه على جسده دون وعي، حتى امتلأ المكان برائحةٍ خانقة، ورغم أن جلده بدأ يتحسس، إلا أنه لم يتوقف.
ظل واقفًا تحت الماء حتى بدأ جسده يئن من الإرهاق، ثم أسند رأسه إلى الحائط الرخامي للحمام، يتنفس بصعوبةٍ، يشعر أن معركته لم تنتهِ بعد، بل بدأت للتو في داخله...
في تلك اللحظة، وبينما كان الماء ينساب فوق جسده المرتجف، شعر بشيء مألوف ينهض من أعماقه، ذلك الزائر الكريه الذي كان يظن أنه غادر حياته منذ أشهر.
كان قلبه يخفق بسرعة، وذهنه يمتلئ بتلك الأفكار القسرية التي يعرفها جيدًا...
الوسواس اللعين ..
عاد بكل عنفه القديم، كعاصفةٍ تُحطّم كل ما بناه في فترات هدوئه القصيرة.
بدأ يسمع صوته في داخله، يهمس أولًا، ثم يعلو، يلومه على كل شيء، يُذكّره بأنه لم يُنظّف جيدًا، لم يُحكِم إغلاق زجاجات الصابون، أن الجراثيم ما زالت هنا، تلتصق به، تسخر من نظافته الزائفة.
أمسك رأسه بكلتا يديه، يغلق عينيه بقوة كأنه يريد أن يخنق الأفكار في ظلام جفونه، لكن لا فائدة.
كلما حاول إسكاتها، ازدادت ضجيجًا، حتى صار يشعر أنه يفقد السيطرة على أنفاسه.
تذكر تلك الليالي القديمة التي كان يقضيها يغتسل عشرات المرات، وتلك الأيام التي لم يكن يجرؤ فيها على لمس أحد، خوفًا من أن يُلوّثه.
أدرك الآن أن ما يمرّ به ليس مجرد توتر عابر، بل انتكاسة حقيقية، نوبة قديمة عادت لتُذكّره أنه ما زال هشًا أمام الخوف، وأن السلام الذي عاشه مؤخرًا لم يكن إلا هدنة قصيرة.. وأن الضغط، والشك، والفوضى التي حوله كانت كفيلة بإسقاط كل ما بناه من توازن في لحظة واحدة.
أخبرته كذلك أن حالته النفسية بدأت تنحدر من جديد نحو الهاوية التي ظن أنه نجا منها .
خفض رأسه ببطء، وترك الماء ينساب على وجهه بلا مقاومة، كأنما استسلم لهزيمته، وكل ما كان يسمعه هو صدى أنفاسه المرهقة وهمس داخلي يخبره أنه يغرق لا محالة ... !
ــــــــــــــــ
جلس كلا من عمر وحسن في الصالة في صمتٍ ثقيل، لم يجرؤ أيٌّ منهما على النطق أول الأمر، فما صدر من فريد كان كافيًا ليزيد من شعورهما بالذنب.
كان حسن يعبث بأصابعه بعصبية، يطرق الأرض بطرف قدمه تارة، وينظر نحو السقف تارة أخرى كأنه يحاول أن يفهم ما يجري خلف ذلك الباب المغلق.
قطع الصمت أخيرًا وهو يقول بصوتٍ منخفضٍ متوتر:
ـ هو فريد بيعمل كده ليه يا عمر؟ يعني إيه اللي حصل يخليه يتعامل بالشكل ده ؟!
تنهد عمر، وأسند مرفقيه إلى ركبتيه وهو يقول بجدية:
ـ فريد مش زي أي حد تاني يا حسن.. هو للأسف مريض وسواس قهري، مش عارف إيه اللي حصل ، لأنه بقاله فترة كويس جدا ويظهر إنه انتكس تاني ..
رفع حسن رأسه إليه بنظراتٍ يملؤها الندم والقلق وسأل بعدم فهم ؟
ـ يعني تقصد إن حالته ممكن تكون اتدهورت؟
أومأ عمر ببطء وقال:
ـ واضح جدًا.. تصرفاته، طريقته، أكيد حصل معاه حاجة قوية رجعته لورا بالشكل ده ..
أسند حسن رأسه إلى الأريكة وتنهد بحسرة وهو يتمتم:
ـ يا ريتني ما جيت النهارده.. ما كنتش أعرف إن الموضوع ممكن يوصل لكده..
ابتسم عمر ابتسامة باهتة وقال وهو يربت على ساقه:
ـ مش للدرجة دي يا عم حسن ، دي حاجة إحنا متعودين عليها للأسف .. على العموم هو بيهدى لوحده وهنلاقيه دلوقتي خارج بيتكلم ويتعامل عادي جدا .
وبالفعل، بعد دقائق معدودة، سمعا صوت الباب يُفتح، فالتفتا معًا في اتجاه غرفة فريد..
غادر فريد غرفته بخطوات هادئة ثابتة، وقد بدا وكأنه شخص آخر تمامًا؛ شعره المبلل مصفف بعناية، قميص أبيض ناصع مكوي بعناية، وبنطال داكن يكمّل مظهره الأنيق. كانت رائحة عطره تعبق بالمكان، رائحة قوية مألوفة، لكنها هذه المرة امتزجت بشيء من البرود والرسمية، كأنها درع يخفي ما بداخله.
توقف عند الباب، ونظر إليهما نظرة سريعة، لم يطلها دفء ولا غضب، فقط حياد تام، ثم قال بنبرة هادئة بشكل مريب:
ـ أنا آسف على اللي حصل من شوية.. ما كانش المفروض أتعصب عليكم كده، بس كنت محتاج أهدى شوية.
تبادل حسن وعمر نظرات قلقة، بينما تابع فريد وهو يمرّ بجوارهما متجهًا نحو المطبخ:
ـ أنا هحضر الفطار ..
قال حسن مترددًا:
ـ لا مش مشكلة خليك انت واحنا نحضره ..
التفت إليه حسن بابتسامة خفيفة، لكنها جامدة لا تصل لعينيه:
ـ لأ، أنا تمام دلوقتي. خلاص.. كله تحت السيطرة.
تبادل عمر وحسن نظرات متوترة، لكن لم يجرؤ أيٌّ منهما على الاعتراض.
اختفى فريد داخل المطبخ، وبعد لحظات بدأ صوت الأواني والأطباق يُسمع بوضوح، لكن ما كان يلفت النظر هو ذلك الهدوء المفرط في كل حركة؛ لم يكن يتحرك بعشوائية، بل بدقة تكاد تُخيفهما .
فتح الأدراج وأغلقها برفقٍ محسوب، رتّب الأطباق على الطاولة واحدةً تلو الأخرى وفق تناسق لوني صارم، حتى الملاعق وضعها باتجاه واحد تمامًا.
ثم عاد إلى المطبخ ليعيد قطعة خبز لم تُقطع بالشكل المثالي، ويغسل كوبًا شعر أنه لم يُنظَّف جيدًا، قبل أن يعود لترتيبه في مكانه الصحيح.
وقف حسن في مكانه مشدوهًا، يتأمل المشهد بصمتٍ متزايد.
في تلك اللحظة، خرج فريد من المطبخ وهو يحمل صينية الفطور، وضعها على الطاولة بدقةٍ مدهشة، ثم ابتسم ابتسامة خافتة وقال:
ـ كده تمام.. اتفضلوا ..
لكن خلف تلك الابتسامة الهادئة، كانت عاصفة صامتة تشتعل في أعماقه، لا تُرى، لكنها كانت تلتهمه ببطء.
جلسوا ثلاثتهم حول مائدة الفطور، فقال فريد بهدوء:
ـ على فكرة ريحة الأكل حلوة جدا يا حسن .. وواضح كمان إن طعمه حلو جداا بس سامحني .. مش هقدر أكل منه دلوقتي ، ممكن كمان شوية على الغدا ..
هز حسن رأسه متفهمًا وقال :
ـ مش مشكلة ..
واتسعت ابتسامته العابثة وهو يقول :
ـ أنا وعمر هنقوم بالواجب ..
ابتسم فريد ابتسامة هادئة متحفظة، وشرع يتناول الطعام الذي أعدّه بعناية لنفسه، بينما جلس عمر وحسن يتناولان ما طبخه الأخير.
رفع عمر نظره إليه بعد لحظات صمت وقال بنبرةٍ يغلب عليها القلق:
ـ فريد، إنت كويس؟ في حاجة حصلت ضايقتك؟
أجابه فريد دون أن يرفع عينيه عن طبقه، بصوتٍ هادئ خالٍ من الانفعال:
ـ أنا تمام يا عمر، متشغلش بالك..
ـ طيب انت كنت فين واتأخرت ؟
ـ كنت مع نسيم .. اتقابلنا وقعدنا شوية وجيت ..
فسأله حسن باهتمام :
ـ قلت لها على اللي حصل للباشا ؟
فنظر إليه فريد بصرامة، وقال :
ـ أكيد لأ .. البنت حامل وحرام نصدمها صدمة زي دي ..
تستمر القصة أدناه
ليجيبه عمر متهكما :
ـ صدمة ٱيه ؟! على أساس إنها بتحبه أوي وهتزعل عليه ..
تنهد فريد بأسى وهو ينظر إليه قائلا بقلة حيلة :
ـ اومال اشمعنا انت اتصدمت لما شفته في الحالة دي ؟! تقدر تنكر إن قلبك وجعك وقتها وحسيت إنك نفسك تجري عليه وتحضنه ؟
تبادل عمر وحسن نظرة سريعة، قبل أن يتنهد عمر بعدم اقتناع، وهز رأسه وقال :
ـ لأ أنا قلبي مش أبيض للدرجة دي زيك انت وهو .. وبعدين ده مش مدينا فرصه إنه يصعب علينا اصلا..
ثم عاد لتناول طعامه في صمت لم يقطعه أيا منهما، خاصة فريد الذي كان غارقًا، مستغرقًا في شرود ينذر بعاصفة لا مفر منها .
انتهوا من تناول الطعام في صمتٍ ثقيل، وما إن وضع حسن الملعقة جانبًا حتى انطلق رنين هاتفه ليكسر سكون المائدة، فالتفت الثلاثة في آنٍ واحد نحو مصدر الصوت.
مدّ حسن يده نحو الهاتف الموضوع أمامه، ألقى نظرة سريعة على الشاشة، فتبدلت ملامحه قليلًا، ثم رفع رأسه قائلاً بنبرةٍ جادة:
ـ ده الباشا اللي بيتصل، لازم أمشي شكله محتاجلي في حاجة ضروري.
رفع فريد نظره إليه بهدوء حذر، ثم أومأ موافقا،
نهض حسن سريعًا من مكانه، وأخذ مفاتيحه من على الطاولة، ثم نظر إلى عمر قائلاً بابتسامة خفيفة:
ـ لو فضيت ممكن أجي بالليل اقعد معاكم ..
فأجابه فريد بهدوء :
ـ واحنا في انتظارك .. البيت بيتك تيجي في أي وقت .
ابتسم حسن، وهز رأسه موافقا بصمت، ثم اندفع نحو الباب بخطوات سريعة، يعقبه فريد الذي ربت على كتفه وقال :
ـ متزعلش مني لو سمحت يا حسن .. أنا مكنتش أقصد أنفعل بالشكل ده .
بينما طالعه حسن وقال مبتسما :
ـ أنا فهمت من عمر كل حاجة ..
وربت على ذراعه بقوة وهو يؤازره قائلا :
ـ ربنا يقويك ..
ابتسم فريد و أومأ، بينما هم حسن بالخروج، ولكنه توقف فجأة، ومال نحوه يخبره بصوتٍ خافت :
ـ فريد .. عايزك تطمن وتطمن نغم .. الفيديو خلاص بقا فشنك .
قطب جبينه بتعجب وقال:
ـ فشنك ازاي ؟
ـ أنا أخدته من الخزنة .
سأله فريد متفاجئا :
ـ فعلا ؟؟!
أومأ بثقة وقال :
ـ أيوة .. من النهارده مفيش حد هيعرف يلوي دراعك لا انت ولا نغم .
تنهد فريد براحة قليلا ، ومسح على جبينه ، ثم قال :
ـ طيب إنت فتحته ؟! شفته أقصد ؟
هز حسن كتفيه بلا مبالاة وقال:
ـ وأشوفه ليه ؟!
ـ طيب ممكن أنا أشوفه ؟
طالعهُ حسن متعجبا وقال :
ـ ليه بقا ؟!! الفيديو وأخدناه وخلاص ، عايز تشوفه ليه ؟
ـ علشان أتأكد أنه هو ده الفيديو فعلا يا حسن، وبعدين أنا شفته زي ما شفتوش مش فارق معايا اللي فيه .. أنا كل اللي يهمني نكون متأكدين اننا خلصنا منه .
فكر حسن في حديثه قليلا، ثم أومأ باقتناع وقال :
ـ معاك حق .. على العموم السيديهايه معايا في العربية .. ثواني هجيبهالك ..
أومأ فريد بترقب، وتوجس يختلط بالمرارة، فأسرع حسن يلتقط تلك الاسطوانة التي يحتفظ بها في سيارته عاقدا العزم على كسرها، وناولها لفريد وهو يقول :
ـ تتأكد إنها هي وتكسرها قبل ما عمر يشوفها أو تقع في ايد حد ..
تنهد فريد بمرارة وهو يوميء مؤكدا ويقول :
ـ أكيد يعني يا حسن مش محتاج توصيني ..
ـ طيب.. على العموم أنا همشي دلوقتي وبعدين نكمل كلامنا .. اتفقنا ؟
ـ تمام .. مع السلامة .
وما إن غادر حسن، حتى أسرع فريد إلى الغرفة، وأغلق الباب خلفه بإحكام، ثم أخرج الحاسوب المحمول ووضع القرص بداخله.
انتظر بضع ثوانٍ، إلى أن ظهرت على الشاشة نافذة بمجلد غريب ... وما إن ضغط ليفتحها حتى انكشفت أمامه أشياءًا أغرب، جعلته يحدق في الشاشة بغير تصديق ..... !!!!!!
༺═──────────────═༻
# يتبع
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق