القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل التاسع وعشرون 29بقلم سيلا وليد حصريه


رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل التاسع وعشرون 29بقلم سيلا وليد  حصريه  





رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل التاسع وعشرون 29بقلم سيلا وليد  حصريه  



التاسع والعشرون


"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك" 


ها هي المسافة تُعلن انتصارها…

تتدلّى بين قلبيهما كحدّ السيف، تفصل الحلم عن الحنين، والنبض عن صوته الذي كان يسكُن التفاصيل.


لم يكن الفراق قرارًا، بل قدَرًا تسلّل من بين الأمنيات، وترك وراءه فراغًا يضجّ باسمه.


هي لا تزال تسمع وقع خُطاه في ذاكرة الطرقات، وهو لا يزال يرى ملامحها في انعكاس كل نافذةٍ تغيب خلفها الشمس.


لكن…

ماذا يفعل الحبّ حين يُصبح اللقاءُ مستحيلًا، ويصير الاشتياق عقوبة لا خلاص منها؟


ربما هنا يبدأ الحكاية، بين قلبين أنهكهما الغياب، وما زالا رغم كل شيء يتنفّسان بعضهما في الصمت.


ركضت نحو روب الحمَّام تسحبه بعشوائية وجسدها يرتجف، دبَّ الرعب في أوصالها وكانت دموعها على وشك الانهيار، تسمَّرت حين دوى صوت ارتطامٍ بالأرض، تلاه أنينٌ خافت اخترق أذنها..

تصلَّب جسدها ثم عقدت روبها على عجل، تتحرَّك أقدامها بارتجافٍ وهي تنادي بصوتٍ متقطِّع:

يوسف..

لكن لم يأتِ الرد...

سمعت فقط حشرجة أنفاسٍ متقطِّعة، ثم محاولته المكابرة على وجعه.


تمتمت بصوتٍ يرتجف:

يوسف، إنتَ كويس؟


كتم أنينه وردَّ بخفوتٍ متقطِّع:

_كويس... 

حاول الاعتدال فشهق أنينًا خافتًا مع ألمٍ حارقٍ في ركبته، استند إلى جدار البانيو وضغط على موضع الألم محاولًا التماسك، بينما الماء ينهمر فوقه كخيوطٍ تلسع جسده المرهق، وصوته المتعب يتناثر مع رذاذ الشاور.


أمَّا هي فوقفت خلف الباب الزجاجي، تطرق بخفَّةٍ وظهرها إليه خشية أن تراه:

_يوسف، طمِّني..إنتَ كويس؟


جاء صوته خافتًا من خلف الباب:

_هاتي الروب من عندك.


تردَّدت لحظة، ثم قالت وهي تحاول إخفاء قلقها:

_طيب، خده أهو.


نظر إلى الباب الذي يفصله عنها بخطوات، ثم إلى تورُّم قدمه الذي بدأ يزحف بلونٍ مزرقّ، وقال بصوتٍ متعب:

سيبيه قدَّام الباب.


ضيَّقت عينيها وشعرت بالضجر، تظنُّه يمازحها وسط توتُّرها:

_وإيه يفرق الباب عن الشمَّاعة؟ ماكنت تخرج وتاخده أحسن.


فُتح الباب قليلًا، وامتدَّت كفِّه المرتعشة من خلف الباب:

_هاتيه يا ضي.


قالت وهي تضعه على الشمَّاعة دون أن تلتفت:

_حطِّيته، يبقى اخرج خده..أنا خارجة.


تحرَّكت بخطواتٍ مضطَّربة حتى ابتعدت، بينما هو ظلَّ ساكنًا يسحب نفسًا متعبًا، خرج ببطءٍ شديدٍ مرتديًا الروب، ينظر إلى ساقه المتورِّمة وذراعه التي أثقله الألم..كأنَّ جسده كلِّه يعلن تمرُّده في لحظةٍ واحدة.


بالخارج توقَّفت في منتصف الغرفة، مسحت وجهها بكفٍّ مرتجف، كأنَّها تحاول محو ماشاهدته حينما

تذكَّرت ملامحه خلف الزجاج، ارتفع تنفُّسها ثم تمتمت بغضبٍ يخفي خوفها:

_وقِح..كنت متأكِّدة إنُّه..


توقَّف صوتها فجأة، حين وقعت عيناها عليه.

كان يجرُّ خطواته ببطءٍ موجِع، يضع ثقل جسده على الحائط. 

شهقت واقتربت منه في لحظةٍ غريزيَّة، صوتها خرج متقطِّعًا بين الخوف واللوم:

_يوسف! إيه اللي حصل؟!


ضغط على ركبته يحاول كتم أنينه، وردَّ بصوتٍ مبحوحٍ يخنقه الألم والعناد معًا:

مفيش... 


قالها وهو يسحب قدميه بتمهُّل، كطفلٍ يتعلَّم السير من جديد، وكلُّ عضلةٍ فيه ترتجف.

تحرّكت خلفه بخطواتٍ متمهلة، ثم تجاوزته لتقف أمامه، تحدِّق بعينيه بعنادٍ وارتباك:

_مش هتقولِّي مالك، رجلك مالها؟


رفع نظره إليها للحظة، يختلط في عينيه التعب والكِبرياء، ثم قال بنبرةٍ خافتة:

_مش عايزك تقلقي..أنا كويس


تجمَّدت الكلمات على شفتيها، ونظرت إلى ساقه التي بدأت الزرقة تزحف حول مفصلها.

امتدَّت يدها نحوه بتردُّد، لكنَّها سحبتها سريعًا حين أدركت أنَّه مازال بروب الحمَّام فقط، فتراجعت بخطوةٍ مرتجفة وأشارت نحو السرير:

اقعد..وأنا هجبلك هدومك.


قالتها وانسحبت بخطواتٍ سريعة تحمل ارتباكها بين أنفاسها.

جلس على الفراش، التقط هاتفه وطلب من خدمة الغرف بعض المستلزمات الطبية، يحاول أن يخفي وجعه بين الكلمات.


خرجت وهي تحمل ملابسه، نظرت إلى ساقيه الممتدَّتين أمامها ثم اقتربت بتردُّد:

إنتَ وقعت..صح؟


مدَّ كفَّيه يأخذ الثياب منها، نظر إليها وقال بنبرةٍ باهتة:

_الهدوم دي ناقصة.


ضيَّقت عينيها ونظرت إلى ماتحمله:

ترينج..ولَّا مش عاجبك؟


تنهَّد بتعبٍ وهو يحاول أن يجفِّف خصلات شعره المبلَّلة، تمتم:

هلبس الترنح كدا، خلاص يا ضي..هقوم ألبس جوَّا.


تقدَّمت منه دون وعي وسحبت المنشفة من يده، بدأت تُمرِّرها على شعره بخفِّةٍ حانية، رغم توترها:

_إنتَ وقعت صح؟


رفع رأسه نحوها، وعيناه تختلط فيهما المرارة بالمشاكسة:

_كنت عايز أربِّي واحدة داخلة عليَّا الحمَّام وبتقولِّي قليل الأدب.


أفلتت منها ضحكةً صغيرة، وقالت وهي تُمرِّر المنشفة إلى عنقه:

_تستاهل..ربِّنا أخد لي حقِّي.


لكنَّها لم تُكمل، إذ سحبها بقوَّةٍ خاطفة، فسقطت فوقه دون أن تشعر. شهقت بذعر، حاولت النهوض، لكمته بخفَّةٍ على صدره وهي تقول بانفعالٍ مضحك:

_سيبني يا مجنون، أومال لو ماتكسرتش.


ضحك بألمٍ مكتومٍ، حتى اضطجع على ظهره، ومازالت فوقه، أنفاسهما تتداخل في صمتٍ مربك.

حدَّق في وجهها للحظة، وعيناه تتأمَّلان ملامحها التي حفظها قلبه أكثر ممَّا حفظها عقله.

تذكَّر صورتها حين فتحت عليه الباب قبل قليل، وسط ضباب البخار وصوت الماء، وكيف شعر وقتها كأنَّ القدر يعاقبه بأن يقرِّبها منه حدَّ التلامس، ثم يمنعه عنها في اللحظة نفسها.


هي زوجته، نعم..لكن بينهما مسافةٌ من الوجع لا تُقطع بخطوة.

نظرته إليها كان اعترافًا صامتًا بكلِّ مايكتمه، بعجزه عن البوح وبضعفه أمامها.


رفع كفِّه برفقٍ يزيح خصلةً مبلَّلة التصقت بخدِّها، وقال بنبرةِ دفءٍ مكسورة وهمسٍ يشبه العتاب الحنون:

_يعني دعيتي عليَّا، ينفع كده؟ كنت فعلًا هتكسر.


ارتبكت ملامحها، وتسلَّلت ابتسامةٌ بين شفتيها رغم التوتُّر، وتمتمت بخفوتٍ متلعثم:

_بعد الشر..ماتقولشِ كده.


ساد بينهما صمتٌ طويل، فيه أكثر من ألفِ كلمة لم تُقال، وشيءٌ من الاشتياق الذي يخاف كلٌّ منهما الاعتراف به.


حاولت أن تعتدل مبتعدةً عنه، لكنَّه أمسك بذراعها دون قصد، شعر برعشة الألم قبل أن يشدَّها نحوه مجدَّدًا لتستند إلى صدره.

تجمَّدت اللحظة بينهما، والهواء نفسه صار أثقل من أن يُتنفَّس.

كانت أنفاسها تلامس وجهه، وصوتها المرتبك يتلاشى بين ضربات قلبه التي اشتعلت كالنار.

اقترب أكثر، لم يرَ أمامه إلَّا صورتها التي رأها منذ قليل، تبللت عيناها بالدموع عينيها من ضعفها، تريد قربه وبعده بنفس الوقت، نظر الى  ارتجاف شفتيها، فانحنى بخفَّةٍ قبل أن يعي مايفعل...

قبَّلها قبلةً لم تعرف سوى الشوق والوجع، تائهةٌ بين الاعتراف بعشقها والندم على مستقبل قرره دون رجعة

رغم ألمه الذي اشتدَّ من استناد جسدها عليه، إلَّا أنَّه لم يُرِد أن يُفلت من جنَّة تلك اللحظة، تعمَّق فيها كمن يختبر الحياة بعد موتٍ طويل.

لكن حين انزلقت كفَّاه المرتجفتان على جسدها دون وعي، انتفضت كمن أفاقت من حلمٍ خطير، دفعت صدره بارتباك، ثم هرولت تلمُّ روبها الذي كان قد انفتح أمام عينيه دون قصد..

ظلَّ في مكانه يعتدل ببطء، يمسح على وجهه بيده المرتجفة، يزفر أنفاسًا مُثقلة، وكأنَّ قلبه توقَّف في منتصف تلك القبلة.


أغمض عينيه للحظات، يريد ألَّا ينفصل عن قربها، لكن طرقات الباب أيقظته من دوَّامة الشعور..

أذن بالدخول، فدلفت إحدى عاملات الفندق تحمل المستلزمات الطبيَّة. اقتربت منه بخطواتٍ محسوبة ونظرةٍ تعرف تمامًا مدى تأثيرها:

_الحاجات اللي طلبتها يا فندم.

حاول أن ينهض، لكن الألم اشتدَّ في ساقيه، فاكتفى بالإشارة:

_هاتيه..

اقتربت أكثر، تمايلت قليلًا وهي تسأله بصوتٍ مغوٍ:

_أحطُّه فين؟

رمقها بنظرةٍ مستنكرة وقال بحدَّةٍ مكتومة:

_فوق دماغي، حطِّيه عندك واطلعي.


خرجت ضي وهي تراه يراقب تلك الفتاة التي انحنت أمامه لتضع الأغراض، بتنورتها القصيرة وبلوزتها التي تكشف صدرها أكثر ممَّا تغطِّيه.

تجمَّدت في مكانها لحظة، ثم قالت بصوتٍ مشحون:

_إيه اللي بيحصل هنا؟


رفع عينيه إليها محاولًا التماسك:

_جايبة...

لكنَّه توقَّف، عندما التقط عيناها التي كانتا مشتعلةً بنيران الغيرة، وكأنَّها على وشك أن تحرق كلَّ ماتراه.

ابتسم بخبثٍ خفيف وأشار إلى العاملة قائلًا:

_اسمك إيه؟

_جيهان..تمتمت بها بليونةٍ متعمِّدة.


كتم ضحكته بصعوبة وقال:

_تعرفي تعملي مسَّاج يا جيهان على رجلي دي وتحطِّي المراهم اللي جبتيها؟ هكون شاكر طبعًا يا جيجي.


تقدَّمت جيهان بخطوةٍ وهي تردُّ بخفوتٍ مغوٍ:

_طبعًا يا فندم، ولو عايز مسَّاج في أي حتَّة من جسمك..أنا جاهزة.


اشتعلت ضي فجأة واقتربت كالعاصفة، أمسكت بذراع الفتاة وسحبتها إلى الخارج بقوَّة، قائلةً بحدَّةٍ لا تخلو من السخرية:

_عدِّي علينا بعدين يا حلوة..لمَّا نحتاجك!


أغلقت الباب بعنف، واستدارت نحوه وهي تقلِّد نبرتها بسخريَّةٍ غاضبة:

_تحبِّ أعملَّك مسَّاج فين يا فندم؟


ارتفعت ضحكاته، لكن خلفها كان يختبئ انبهاره بها، بغضبها، بغيرتها، بكونها رغم كلِّ شيء..مازالت تخصُّه.

قال وهو يمدُّ يده لها بتودُّدٍ خافت:

_تعالي هنا ياريت، بس هتكوني زيها، هي إيدها ناعمة، شكلها بتعرف تعمل شغل حلو...

قالها بنبرةٍ متعمِّدة، وهو يعلم جيدًا ماذا ستفعل بعدها.


طالعته ضي بنظرةٍ صامتة، فيها من الهدوء مايُخيف، واقتربت بخطواتٍ ثابتة، كلُّ خطوةٍ منها تشتعل نارًا:

_إيدها ناعمة؟..طيب، جرَّبني يمكن إيدي أنعم.

قالتها بنبرةٍ تحمل كلَّ أنوثتها المكبوتة وغضبها المتَّقد، ثم جلست أمامه فجأةً ورفعت ساقه بعنفٍ خفيف..

صرخ متألِّمًا:

_ انتي متأكدة ان دي ايد انثى، اومال ايد عمو عبده البواب عاملة ازاي

_بس الصراحة ابهرتيني


ابتسمت بخبثٍ خافت وهي تعيد وضع ساقه مكانها مرَّةً أخرى:

_مش قولت لك إيدي أنعم؟ حُط لنفسك يا دكتور، عيب في حقَّك..إيه، باب النجار مخلَّع؟


جزَّ على أسنانه وهمس من بين أنفاسه الساخنة:

_بيئة بالفاظك الفلكورية اللي شبهك دي

_ايه مش عجباك،  وريني شطارتك يادوك

_وحياتك..لولا رجلي، كنت عرَّفتك الدوك هيعمل فيكي إيه.


انحنت نحوه بشقاوة، حتى أصبحت أنفاسها تلامس وجهه، وهمست بصوتٍ دافئٍ يقطر إغاظةً:

_كان نفسي والله..بس يا حرام، على نياتكم تُرزقون.


ثم مدَّت أصابعها برقَّةٍ مفاجئة إلى فتحة روبه التي تناثرت على صدره، وضغطت بخفَّةٍ تغلقها، وعيناها تخترق عيناه، قالت بابتسامةٍ جانبيَّةٍ وغمزةٍ سريعة:

_اهتم بصحِّتك يا حبيبي..ماتنساش إنَّك عريس الهوا ، واللي يشوفك كده ممكن يفهم غلط..يا حرام.

شهق من جرأتها، ونظراته اليها خطرة


اعتدلت واقفة، بعدما علمت نيته، فتراجعت وهي تُصلح خصلاتها بعنادٍ ومكر، ثم أضافت بنبرةٍ فيها مزاح ووجعٍ دفين:

هنزل أتمشَّى على البحر لحدِّ ماتخف.. نصيبي تتحبس في الأوضة، يالَّه خلِّيها تكمل، يبقى لا عريس ولا شهر عسل.

لا وعايز ممرضة، كان بودي ياجو، بس اخدت على قد نيتك


قالتها وسحبت حجابها ترتديه بطريقةٍ عشوائية تكتم بكاءها وتحرَّكت للخارج.


بمنزل أرسلان: 

خرج متَّجهًا إلى سيارته يتحدَّث بهاتفه مع والدته:

_خلاص حفظت يا ماما، بتكلِّمي طفل، هعدِّي عليكم بعد شغلي، وأبات ياستِّي عندكم، مع إنِّي مش حابب الفيلَّا من غير يوسف وضي، الاتنين كمان مش واحد.. 

قالت على الطرف الآخر:

_ربِّنا يسعدهم وعقبالك إنتَ كمان، متنساش حبيبي تعدِّي على هنا علشان تيتا متزعلش، وإنتَ لسة قايل يوسف وضي. 

_حاضر، سلِّميلي على أرسو باشا.

أغلق الهاتف وفتح سيارته بخروج رولا من المنزل، أغلقها وتوقَّف منتظرًا تحرُّكها، اتَّجهت إليه: 

_مساء الخير يا دوك. 

_مساء النور..رايحة فين كدا؟

_رايحة لواحدة صاحبتي، عيد ميلاد صاحبتنا الأنتيم، فبنجهِّز للحفلة. 

اقترب منها وشعر بالغضب، ليهتف باستنكار:

_مش قولنا نتلمّ لمَّا نشوف عمُّو يزن هيعمل إيه لمَّا يرجع. 

_بابا رجع، وهو عارف اني خارجة

_تمام ارجعي لما نلم بعضينا ونقعد مع بعض

_بلال..مش معنى إنِّي حكيت لك يبقى تتحكِّم فيَّا.

دنا خطوةً أخرى ورمقها بحدَّةٍ يهمس بهسيسٍ مرعب:

_بت أنا خلقي ضيِّق، وإنتي قولتي حاجة يا عنيَّا، اتلمِّي واتمسِّي لمَّا نشوف المصيبة دي هترسى على إيه. 

هزَّت رأسها بعناد وقالت:

_أنا معملتش حاجة غلط، دي أخطاء بابا وماما وأنا اللي دفعت التمن. 

أخرجت جيوش غضبه، حتى اقترب منها يضع كفَّيه على وجهها ويدفعها للخلف حتى كادت أن تسقط على ظهرها:

_لو مالمِّتيش نفسك هقول لجوز عمِّتك، أقسم بالله هقولُّه، وآسر كمان، اتلمِّي ولفِّي روحي، قال عيد ميلاد، هوَّ أنا ناقص هبل بنات.

قالها واستدار إلى سيارته بعدما ارتدى نظَّارته الشمسية:

_متفكَّرش هسمع كلامك، وإنِّي بخاف منَّك. 

فتح الباب والتفت ينظر إليها من تحت النظَّارة:

_هتسمعي وهتخافي يا قليلة الحيا..

تمتم بها وصعد إلى سيارته مغادرًا المكان بأكمله. 


ساعات مرَّت حتى انتهى من عمله بالمشفى مع أستاذه الذي يتابع معه رسالته في المخِّ والأعصاب، لقد مضى العام الأوَّل في تفوُّق، ومازال بتقدُّمه إلى أن ينتهي. 

انتهى أخيرًا من تدوين بعض الملاحظات عن الخلايا العصبية، ثم وضع دفتره الطبِّي على مكتبه، مع طرقٍ خفيفٍ على الباب، لتدلف أحدهما: 

_دكتور بلال إزاي حضرتك؟ 

ابتسم وأشار إليها بالدخول: 

_ أهلًا أستاذة كارما، يارب يكون النهاردة الألم أخفّ. 

فردت كفَّيها عدَّة مرَّاتٍ أمامه وقالت: 

_أه يعني الحمد لله، هوَّ التنميل اللي بيوجع شوية. 

استمع إلى شكواها بتركيز ثم أشار إلى جهاز الأشعة، جلس ينظر بالجهاز لدقائق بتركيزٍ شديد ثم قال:


"اسمعيني كويس يا مدام كارما... الإحساس بالتنميل اللي بتحسِّي بيه مش سببه ضعف في الدورة الدموية زي ماقولت لك المرَّة اللي فاتت، لأن قرص العلاج معملش نتيجة، لأ، ده غالبًا ناتج عن ضغط على الأعصاب المسؤولة عن الإحساس والحركة."


أشار إلى صورة على شاشة الأشعَّة أمامه وأكمل:

"شوفي هنا العصب ده اسمه العصب المتوسِّط (Median Nerve)، بيعدِّي من منطقة ضيِّقة في الرسغ اسمها نفق الرسغ (Carpal Tunnel).

لمَّا بيحصل أي تورُّم أو التهاب في الأنسجة اللي حواليه، الضغط بيزيد عليه..وساعتها بيبدأ التنميل، ساعات معاها وخز أو ضعف بسيط في الأصابع."


صمت قليلًا ثم تابع بنبرةٍ هادئة:


"أحيانًا السبب بيكون وضعيِّة اليد لفترات طويلة، زي الكتابة على الكيبورد، أو النوم على الإيد..

وأحيانًا بيكون نتيجة التهاب في الفقرات العنقيَّة اللي بتضغط على الجذور العصبية الخارجة منها... وساعتها التنميل بيمتدّ من الكتف لحدِّ أطراف الأصابع."

وإنتي قولتي قبل كدا، كتفك بيوجعك.

صمتت وأنزلت رأسها بحزن وقالت: 

_الأوَّل كان كدا، لكن حاليًا بحس بوجع بدراعي كلُّه، وممكن أكون ماسكة حاجة بإيدي وتوقع. 

مطَّ شفتيه ينظر لتلك الصورة التي أمامه، وأيقن أنَّ تشخيصه صحيحًا حينما استدرجها بباقي حديثها فقال:

_يبقى هنا فوق اللي قولته، زائد حالة نفسية.. 


رفعت عيناها مستفهمة..

-التنميل اللي بتحسِّي بيه واضح إنُّه ناتج عن ضغط على العصب المتوسط في الرسغ، خصوصًا لأنِّ الألم بيزيد مع المجهود وبيقل لمَّا تريَّحي إيدك... لكن خليني أقولِّك حاجة مهمَّة جدًّا يا مدام."


_في أحيان كتيرة جدًّا، الأعراض دي مش بيكون سببها جسدي بس... أوقات بيبقى فيه عامل نفسي قوي بيخلِّي الجسم يصرخ بطريقته."


نظرت إليه باستغرابٍ خافت، فأكمل بابتسامةٍ خفيفة:


_ "العصب نفسه حسَّاس جدًّا، والمخ هوَّ اللي بيترجم إشاراته..

لمَّا الإنسان يعيش فترة طويلة من توتُّر أو ضغط نفسي، بيبدأ المخ يبعث إشارات خاطئة للأعصاب، فيتهيأ للجسم إنُّه بيتألِّم أو بينمِّل..وده بنسمِّيه في الطبّ: الاضطراب الجسدي النفسي أو

‏Psychosomatic symptoms."


أشار إلى شاشة الأشعة أمامه، كأنَّه يشرح لطفل:


"الأعصاب سليمة، لكن الكهرباء اللي رايحة منها للمخ متأثِّرة بالحالة المزاجية..

بمعنى أوضح: العقل المتعب ممكن يتعب الجسد حتى لو العصب سليم."


قالها ثم مال إلى الخلف في مقعده وقال بنبرةٍ دافئة:


"إحنا هنا مش هنعالج العصب بس...

هنريَّح النفس كمان..

شوية راحة، نوم منتظم، وتمارين استرخاء، وأحيانًا بنحتاج دعم نفسي بسيط، هتلاقي التنميل بدأ يختفي مع الهدوء من جوَّاكي."

يعني من الآخر..أهمِّ علاج الحالة المزاجية فقط، حبِّي نفسك، ثم حبِّي نفسك وبس. 

استمعت إلى كلماته بانبهار، ففلتت كلماتها دون وعي: 

_عندك كام سنة؟ عمُّو قالِّي إنَّك لسة ماجيستير..حتى لمَّا رشَّحك ليَّا كنت بقولُّه أتعالج عند طالب!! 

ابتسم برجولة وقال:

سبعة وعشرين، وهبدأ في التمانية وعشرين. 

رفعت حاجبها للاعلى تهزُّ رأسها بفخر:

_لا..إن شاءلله هيكون ليك مستقبل باهر.

_أشكرك..في تلك اللحظة رنَّ هاتفها فنهضت مستأذنة: 

_شكرًا لحضرتك لازم أمشي.. 

أومأ لها دون حديث. 


بمنزل طارق:

استيقظ على صوت ضحكات طفله بالخارج

نفض الغطاء وخرج يبحث بعينيه عن طفله، ركض إليه، انحنى ورفعه: 

_مامي فين؟ 

أشار الصغير يضحك إليها خلف المقعد، حينما كانت تلاعبه، نهضت مقتربةً منه: 

_صحِّنياك ولَّا إيه؟ 

ضمَّ رأسها وطبع قبلةً فوقها قائلًا:

_أنا صحيت خلاص، اجهِّزي  علشان هنروح مشوار مهم. 

_مشوار فين؟ 

مسَّد على خصلاتها ينادي على مربية طفله

_خدي علي وخلِّي بالك منُّه، مش عايز تقصير.

أومأت له المربية وتحرَّكت، بينما استدارت هند إليه:

_هناخده معانا يا طارق مقدرش أسيب ابني لمربيَّة. 

_حبيبتي المكان اللي رايحينه مينفعش  علي يكون فيه. 

بعد فترة ترجَّلت من السيارة تنظر إلى تلك اللافتة، ثم اتَّجهت إلى نزوله من السيارة يرتدي نظَّارته مقتربًا منها يحتضن كفَّها، أوقفته تتساءل: 

_طارق إحنا جايين السجن دا ليه؟

_لمَّا تدخلي هتعرفي. 


بفيلَّا السيوفي: 

خرجت من غرفة والدها بدخوله إليه: 

_مالك بتعمل إيه هنا؟ 

نظر بساعته وقال:

_هطَّمن على باباكي، كنتي جهِّزتي الحمَّام، عايز آخد شاور لازم أكون في المطار بعد ساعة. 

عرقلت حركته تنظر إليه باستفهام: 

_فيه إيه..ومسافر ليه؟ 

_شغل حبيبتي، يالَّا علشان ماطعطلش.

لم تتحرَّك وظلَّت متوقَّفة تنظر إليه بصمتٍ موجوع، لفَّ ذراعيه حول جسدها وانحنى يطبع قبلةً بجوار شفتيها هامسًا: 

_عايز أشكرك على إمبارح، أوَّلًا علشان محاولتيش تضايقيني، وثانيًا على ثقتك فيَّا واشتياقك. 

_مالك أنا مش عايزة أتكلِّم في حاجة قبل عملية بابا، رجاءً تعبانة نفسيًّا، مش عايزة حاجة توجعني أكتر.

احتضن وجهها وسبح بعينيها: 

_وحياة غادة عندي، بعمل كدا علشانك إنتي، مش عايزك تتوجعي، ماما أهمِّ حاجة عندها أكون معاها وبس، وأنا أهمِّ حاجة عندي تكوني مرتاحة، لمَّا نتكلِّم هتفهمي كلامي، قدَّامي يومين سفر شغل لشركة إلياس مع أرسلان نخلَّص شغلنا وأرجع ونتكلِّم براحتنا. 

ابتسمت تهزُّ رأسها وقالت:

_تروح وترجع بالسلامة.. 

قرص وجنتيها وأشار بعينيه: 

_أنزل ألاقي مراتي مجهِّزة الحمَّام، عايز آخد شاور، أكيد فاهمة قصدي.

لكزته تدفن رأسها بصدره:

_بس بقى..أنا منمتش إمبارح، بنام على نفسي والبركة في حضرتك. 

انحنى يهمس إليها: 

_أعمل إيه طيب، بقالك أسبوعين مطنِّشاني، وكملت في الفرح لمَّا أشوف الجمال دا كلُّه وأسكت.

رفعت حاجبها بتذمُّر: 

_والله، يعني مكنتش حلوة غير في الفرح؟ 

وصل إلياس ينظر إليهم: 

_أنتوا بتحبُّوا في بعض قدَّام أوضة الراجل العيَّان، يلَّا يا أخويا خدها وانزلوا حبُّوا في بعض بعيد عنِّي.

تورَّدت وجنتيها تضغط على أسنانها بعدما استمع إلياس إلى حديثهما،  

حمحم مالك قائلًا: 

_عامل إيه، كنت جاي أشوف عمُّو قبل ماأسافر. 

فتح إلياس الباب ودلف وخلفه مالك. 


عند حمزة  

انقلبت أروقة المشفى رأسًا على عقب منذ دخول حمزة الجارحي محمولًا على نقَّالةٍ تقطر منها الدماء..

كلُّ شيءٍ كان يتحرَّك بسرعة..إلَّا قلب إسحاق، كان ساكنًا بين ضلوعه كمن ينتظر حكم الإعدام.


وهو يركض  لا يرى أمامه، يتخبَّط في الجدران، يصطدم بالمارَّة، لولا يد عِمران التي أمسكت به حين كاد أن يسقط.

دخل إلى الاستقبال يلهث، وصوته خرج متقطِّعًا بين شهقات:

_حمزة..حمزة الجارحي..حادثة.


رفعت الممرضة رأسها ببرودٍ كأنَّها لم ترَ الهلع في عينيه:

_في العمليَّات الدور التالت.


تجمَّد للحظة، ثم اندفع كالمجنون يصعد الدرجات، كلُّ خطوةٍ كانت طعنةُ خوفٍ في صدره.


صعد الدرجات كمن يطارد أنفاسه، يتوكَّأ على جدران الممرَّات التي بدت له كأنَّها تدور ولا تصل به، حتى وصل أمام باب غرفة العمليات..استند إلى الجدار، ينتظر أيَّ بادرة حياة، أيَّ وجهٍ يخرج ليحمل له الأمل.


مرَّت الساعات ثقيلةً كالأعوام، إلى أن خرج الطبيب أخيرًا، ينزع قناعَه، لكن ملامحه المرهقة لم تبشِّره بشيء..

ركض إسحاق نحوه، يكاد يسقط عند قدميه:

_ابني عامل إيه؟ 

_حضرتك والده؟

أومأ بعجز، والدموع تسبق صوته..

_كويس الحمد لله، سيطرنا على النزيف وهيدخل العناية المركَّزة.

تمتم بخفوت:

"الحمدلله" 


لكن “الحمد لله” لم تُهدِّئ شيئًا داخله...

حينما وقف يشاهدهم وهم يجرُّون سرير ابنه نحو العناية، وصدره ينتفض، لكنَّه أوقفهم.. وهو يرى ابنه كالجثة فوق ذلك الفراش اللعين، هنا


ارتعشت قدماه مقتربًا، ولكن اشار اليه المسعفون 

_لازم ننقله إلى غرفة العناية.

_استنوا هنقله مستشفى عسكري... هوَّ تبع الجيش.

قالها بينما مع وصول طاقمٌ إسعافي عسكري يستعدُّ للنقل بعد تنسيقٍ عاجل مع الجهات المختصَّة.


قضى إسحاق ساعاتٍ أخرى يرافقه ووجعه لا يهدأ، حتى وصلوا إلى المستشفى الحربي، وهناك فقط... سمح لنفسه أن ينهار بصمت..وهو يقف بالخارج ينظر من النافذة الزجاجية اللعينة،  يود لو يحطمها، واه من قهر الاباء على فلذة اكبادهم 


بفيلَّا السيوفي:

كان الجميع يجلسون بغرفة المعيشة بعد وصول يزن ورحيل للاطمئنان على مصطفى..ساد الهدوء برهة، فقطعت الخادمة الصمت وهي تدخل بخطواتٍ متردِّدة قائلة:


_الياس باشا، في دكتور برة عايز يقابلك.


رفعت فريدة رأسها بسرعة قبل أن تنطق:

_أيوه يا بنتي، دخَّليه.

ثم التفتت إلى إلياس قائلةً بنبرةٍ دافئة:

_ده آدم الرفاعي، رجع من السفر، كلِّمني الصبح أوَّل ماعرف إنِّ والدك تعبان، وقال جاي هوَّ والولاد يطمِّنوا عليه، رغم إنُّه لسه واصل النهاردة.


تمتم يزن وهو يعتدل في جلسته:

_قابلته في المطار...

لكن بتر حديثه دخول آدم، الذي ألقى تحية المساء بنبرةٍ رجوليَّةٍ هادئة، فتوقَّف إلياس عن الكلام واتَّجه نحوه بابتسامة:

_أهلًا يا دكتور، والله زمان.


اقترب آدم من فريدة أوَّلًا، احتضنها بحنوّ وهو يقول:

_إزيّك يا عمِّتو؟ وحشتيني والله.

ربتت على ظهره بحنانٍ أموميّ:

_إزيك يا حبيبي، وانتَ كمان وحشتني.


التفت بعدها إلى إلياس، صافحه بحرارة وضمَّه كأخٍ، ثم نظر نحو يزن مبتسمًا:

_نتقابل مرِّتين في يوم واحد، شكلها صدفة حلوة.


قهقهت رحيل بخفَّة وهي تقترب منه:

_مصر نوَّرت يا ابنِ خالي.

ابتسم بخفَّةٍ صادقة وهو يرد:

_بنورك والله، وحشتيني يا رحيل، عاملة إيه؟


انتقلت أنظار رحيل إلى إيلين التي كانت تُسلِّم على فريدة بابتسامةٍ حنونة:

_وحشتيني يا دكتورة.

احتضنتها فريدة بحنانٍ أمٍّ مشتاقة..

-وإنتي أكتر والله يا رحيل.


أشارت إيلين بعدها إلى ولديها الواقفين بجانبها:

_ده رائد، ودي فرح.

مدَّت فريدة ذراعيها إليهما:

_ماشاء الله دا اللي قدِّ يوسف مش كدا، أنتوا عارفين أنا مين؟

ابتسم رائد وهو يجيب:

_بابا بيقول حضرتك تيتا، بنت عمِّ جدُّو الله يرحمه.

ضحكت فريدة والدمعة تلمع بعينيها:

_ما شاء الله يا آدم، ابنك طالع شبهك نسخة.


ثم التفتت نحو الفتاة التي كانت تمسك بيد والدتها بخجل:

_والحلوة دي أكيد فرح؟

هزَّت رأسها وقالت بأدب:

_إزي حضرتك يا تيتا؟

احتضنتها فريدة بحبٍّ دافئ:

_روح قلب تيتا، شبه الماما أوي.


في تلك اللحظة، قُطع الحديث بدخول ميرال وشمس وهما تلقيان السلام، فالتفت الجميع نحوهما.

ابتسمت ميرال بخفوت وهي تتَّجه نحو إيلين قائلة بحنين:

_إيلين...

اقتربت منها تضمُّها بدفء، لتردَّ الأخرى بعناقٍ مماثلٍ يشبه لقاءً بعد غيابٍ طويل.


نظرت ميرال نحو آدم وقالت:

_أهلًا يا دكتور، ياااه سنين! قلنا خلاص نسيتونا.


ابتسم آدم وهو يبادلها التحيَّة:

إحنا نقدر برضو..المهمّ، عاملة إيه؟ عرفنا من يزن إنِّ يوسف اتجوز.


هزَّت رأسها بابتسامة وهي ترمق إلياس بطرف عينها:

_أيوه، اتجوِّز إمبارح..ياريتكم كنتوا حضرتوا.


تنقَّل آدم بعينيه نحو شمس التي كانت تراقبهم بصمتٍ خجول، فسأل وهو يبتسم:

_دي بنتك يا إلياس؟


فتح يزن ذراعيه نحوها قائلًا بحنوّ:

_حبيبة خالو..إيه، مش شايفة خالو ولَّا إيه؟


اقتربت منه بخجل وقالت بصوتٍ رقيقٍ وناعم:

_آسفة يا خالو، ماأخدتش بالي.


قبَّل جبينها وضحك وهو يغمز لميرال:

دي الحتَّة الشمال لخالها، إنَّما التاني لأ..شبه واحد كده سمِج.


ساد الجو دفءٌ عائليّ غامر، ضحكات متقطِّعة وعيون تتبادل النظرات.

كانت هناك أعينٌ تراقب براءة شمس وهي تتحدَّث مرَّةً مع يزن ومرَّةً مع إلياس، في لحظاتٍ خاطفة تحمل أكثر ممَّا يُقال.


قطع إلياس الصمت متوجِّهًا نحو رائد قائلًا:

_ابنك أخد الدكتوراه ولَّا وقف على الشهادة الجامعية؟


ابتسم آدم وهو يجيب:

_لأ، مكمِّلش، بس ناوي يكمِّل هنا إن شاء الله..هناك كان فاتح شركة صغيرة مع أصحابه.


تدخَّل رائد قائلًا بثقة:

_هكمِّل هنا يا عمُّو إن شاء الله، وبعد كده أشوف موضوع الدكتوراه، المهم نستقرِّ الأوَّل.


ابتسم إلياس بدفء:

ربِّنا يوفَّقك يا حبيبي..وفرح جامعة ولَّا إيه، هيّّ على ماأظن قدِّ شمس؟


ضحكت شمس وقالت بسرعة:

_لا يا بابي، فرح ثانوية..بنتك أكبر شوية.


_مش كتير برضو يا شموس، قالها إلياس ممازحًا، فضحك الجميع.


لكن الضحكات لم تدم طويلًا...

نهض آدم وقال وهو يلتفت نحو إلياس:

_لازم نمشي، عايز أشوف عمُّو مصطفى قبل مانرجع..إنتَ عارف السفر.


وقبل أن يتحرَّكوا، دلف بلال إلى الغرفة بوجهٍ شاحبٍ وصوتٍ متقطِّع:

_بابا فين يا عمُّو؟ بتَّصل بيه تليفونه مقفول.


تجمَّدت ملامح إلياس، تسارعت أنفاسه وكأنَّ قلبه سبق سمعه، يظنُّ أنَّ ابنه وزوجته أصابهم مكروه.


_مالك يا بلال، عايز بابا ليه؟


اختنق صوته وهو يقول بصعوبة:

_ماقرأتوش الأخبار؟.حمزة، ابن عمُّو إسحاق..عمل حادثة وحالته خطيرة.


بصق الكلمات وكأنَّها شوكًا في حلقه، وما هي إلَّا لحظات حتى دوى صوت ارتطامٍ على الأرض.

التفتت ميرال تصرخ بهلع:

_شمس!!


بعد يومين بشرم الشيخ 


دلفت للداخل تبحث عنه، استمعت إلى صوت المياه بالداخل، وقعت عيناها على حقيبته اليدوية، خطت إليها بعدما لمحت دفترًا صغيرًا بداخله، أحد الأقلام الذي أعطته إيَّاه ذات مرَّة في أحد أعياد ميلاده، بسطت كفَّها تسحبه من داخل الدفتر، وقع الدفتر بصورتهما معًا، انحنت تسحب الصورة تنظر إليها تحاول أن تتذكَّرها، قلبتها لتجد مادوِّن خلفها: 

"اليوم أحرقت أوَّل نبضٍ إليها" 

"حفل البالية "

شهقت تضع كفَّيها على فمها، حينما تذكَّرت ذاك الحفل، همست بخفوت:

_معقول دا السبب في كلامه عن الجواز؟! 

أمسكت الدفتر بيدٍ مرتجفة، تفتحه ببطء، وخفقات قلبها تتسارع كأنَّها تستعدُّ لقراءة نبأ مصيري..

هل هو ذاك الدفتر الذي تحدَّث عنه والدها؟

هل هذا الدفتر الذي قلب كيانهما؟! 

راحت تقلِّب صفحاته بحذر، وكأنَّ كلَّ صفحةٍ تختزن سرًّا دفينًا.


في أولى الصفحات، استوقفتها صورةٌ قديمة لوالده ووالدته، كُتب أسفلها بخطِّه الذي تعرفه جيِّدًا:

"بهما تحلو الحياة، ودونهما يبكي القلب."


ابتلعت ريقها، وأكملت تقليب الصفحات.

توقَّفت عند صورة شمس، كُتب تحتها:

"قطرة ماءٍ نقيَّةٍ سقطت في صحراء جرداء."


ثم صفحةٌ أخرى تحمل وجه بلال:

"رُبَّ أخٍ لم تلده أمَّك."


تلتها صورة أسر، وقد خطَّ تحتها:

"الصديق الصدوق، والصاحب الوفيّ."


وحين وصلت إلى صفحتها...

توقَّفت أناملها، واتَّسعت عيناها..كانت الصورة ممزَّقة من الأطراف، لم يبقَ منها سوى وجهها..

وتحتها كُتب:

"كانت ضياءً بعد عتمة..والآن أصبحت عتمةً دائمة."


ساد صمتٌ قاتل، كأنَّ الحروف نفسها ناحت عليها، وأحسَّت بأنَّ الدفتر كلِّه انطفأ في تلك اللحظة..وهي ترى ذاك التاريخ اللعين تهمس لنفسها "عشر سنين" دا إمتى، وفين؟!


وضعت كلَّ شيءٍ مكانه كما كان، وكأنَّها تُخفي آثار انهيارها قبل أن يراها، ثم خرجت سريعًا إلى الشرفة.

احتاجت لهواءٍ يعيد إليها أنفاسها التي انسحبت من صدرها دون إنذار.


خرج هو بعد دقائق، يجفِّف خصلات شعره،  التقط ملابسه وارتداها على عجل، ثم اتَّجه بعينيه نحو الشرفة.

وقف يراقبها بصمت، لاحظ ارتجاف كتفيها، هل كانت تبكي؟! 

اقترب منها بخطواتٍ هادئة، وصوته بالكاد خرج:

_ضي...


مسحت دموعها سريعًا، واستدارت متَّجهةً للداخل دون أن تنطق بكلمة، غير أنَّ خطواتها تعثَّرت حين أوقفها بيده، رفع ذقنها بلطف، ونظر إلى عينيها المبلَّلتين

_مش كنتي بتكلمي مامتك، قالت لك حاجة تزعلك؟! 

_لا.. ارتجفت شفتيها رفع ذقنها 


_عايزة ارجع القاهرة، احنا جايين ليه، انا عارفة اني دبسك بالسفر دا،  بس دلوقتي عايزة ارجع 

هنا فهم سبب حزنها.. اقترب منها واحتضن وجهها ومسح دموعها بإبهامه، وقال بنبرة منكسرة وهو يهمس:

_آسف..عارف إنِّي كسرت لك قلبك، بس بوعدك..هريَّحك، وهاعمل اللي يسعدك.


رفعت عينيها نحوه بصمتٍ موجوع، وفي ذهنها تتردَّد كلماته في الدفتر... “كانت ضياءً بعد عتمة، والآن أصبحت عتمةٌ دائمة.

تسائلت بخفوتٍ متزلزل:

_وافقت على جوازنا ليه يا يوسف... وإنتَ مابتحبِّنيش؟


تجمَّد للحظة، وكأنَّ سهمًا اخترق صدره..تنفَّس بعمق، وتراجع خطوتين إلى الداخل وهو يقول ببرودٍ متكلِّف:

_إجهزي..هننزل نتغدَّى ونتفسَّح شوية في المدينة..في أماكن حلوة.. عارف اليومين اللي فاتوا حبستك


اقتربت منه، وضعت كفَّيها على كتفيه، أجبرته أن يستدير نحوها:

_جاوبني الأوَّل..ليه وافقت على الجواز، وإنتَ جوَّاك حاجة بتبعدك عنِّي؟


رمقها طويلاً، بعينين يغلي فيهما الصراع، ثم قال بهدوءٍ موجع:

_مش عارف ليه بتقولي كده..لو قصدك على اللي طلبته منِّك، أنا فعلاً عايزه، مش علشانك..علشاني أنا، مش عايز ولاد وده حقِّي.


قالت بارتعاشٍ مكتوم:

_وأنا حقِّي فين؟


صمت لحظة، ثم قال بمرارةٍ يائسة:

_معلش أنا أناني، ومفكَّرتش فيكي.. على العموم الموضوع انتهى، وعرفت أنتي عايزة إيه.

_انت مش عارف حاجة


اقترب منها، انحنى حتى لامست شفتاه وجنتها، وهمس بصوتٍ مبحوحٍ من الغضب والخذلان:

_إنتي ماحبِّيتيش يوسف..إنتي حبِّيتي تكسبي التحدي قدَّام يوسف، وبقولِّك مبروك عليكي..

الموضوع مابقاش يهمِّني..أهمِّ حاجة تبقي سعيدة.


قالها ثم استقام واستدار مبتعدًا وهو يشير بيده نحوها:

_غيَّري..علشان هننزل، ..هستنَّاكي تحت.


ظلَّت مكانها بعد خروجه، تقف بجسدها..ولكن روحها كانت تنازع داخلها. 


بعد فترة انتهت من ارتداء ملابسها، وقعت عيناها على دبلته تُوضع على الكومودينو، ارتجف قلبها لتنحني تلتقطها تنظر بها: هل نزعها بالفعل، هل الآن يريد أن يحرق حياتهما قبل أن تبدأ؟..دقَّاتٌ عنيفة تكاد تصيب صدرها، تربط حديثه هريَّحك وأعمل لك اللي إنتي عايزاه.

استدارت سريعًا مع دخوله من الشرفة وهو يتحدَّث بهاتفه مع والده..رفعت الدبلة أمامه، فانهى حديثه: 

_خلعتها ليه؟ إنتَ ماصدَّقت. 

اقترب منها ينتزعها من بين أناملها وقال بنبرةٍ هادئة عكس مايشعر به:

_كنت باخد شاور وخلعتها، بلاش تحكمي قبل ماتعرفي حاجة.. 

هنزل أستناكي لمَّا تخلصي 

ركضت خلفه تناديه:

_يوسف استنى. 

استدار ينظر إليها باستفهام: 

_هتنزلي من غير حجابك؟ البسي براحتك هستناكي تحت.

_بس أنا عايزة أنزل معاك. 

تمتمت بها بصوتٍ مختنق..أغمض عيناه محاولًا السيطرة على نفسه، سحب نفسًا بهدوء وطرده يشير إليها:

_ماشي هستناكي. 

جلس على المقعد بينما هي تراجعت إلى المرآة تنظر إليه من انعكاسها، أخرج هاتفه وبدأ يقرأ رسائل تهنئته بزفافه، ردَّ على بعضها بينما هي رفعت أحمر الشفاه تضعه بهدوء وعيناها على جلوسه واندماجه بالرسائل، انتهت من لمستها التجميليَّة، ثم رفعت حجابها بطريقةٍ سلسة، واستدارت قائلة: 

_خلَّصت، نهض من مكانه: 

_تمام..يالَّه، ولكنَّه توقَّف بعدما وقعت عيناه على أحمر الشفاه الملفت، أشار إليها: 

_مش عايز روج، أظنّ دلوقتي حقِّي أقولِّك ماتحطِّيش.

قطَّبت جبينها ولم تهتم لما نطقه وقالت: 

_أنا بخرج دايمًا بالروج، إيه يعني. 

اقترب منها بغضب، فتراجعت للخلف تستند على المرآة ورغم رؤيتها لغضبه إلَّا أنَّها قالت:

_هوَّ أنا بدخَّل في لبسك، ومادام بلبس لبس واسع وحجابي، يبقى مالكش تعترض. 

أشعلت نيران غضبه، ناهيك عن حركة شفتيها بذاك اللون الأحمر؛ يريد أن يصمتها حتى لا تظهر فتنة شفتيها، التي أقسم حينما تذوَّقها أصبحت جحيمه الذي يحاول أن يهرب منه ولكن لا مفر.

_دقيقة واحدة لو الروج دا ماتمسحش، همسحه أنا يا ضلمة هانم. 

رفعت حاجبها بتحدِّي: 

_امسحه يا دكتور، ولا يهمِّني هحطّ تاني أنا ورايا إيه. 

سحبت منديلًا ورفعته أمامه: 

_اتفضل، وخلِّينا شغَّالين طول الليل على كدا. 


طالعها لدقيقةٍ واحدة، لكنَّها كانت بالنسبة لها دهرًا كاملًا .

عيناه لا تنطقان بل تفضحان الغليان داخله، تلك النظرة التي تحمل بين طيَّاتها مزيجًا من الهيام والخذلان.

اقترب منها ببطء، خطوةٌ تجرُّ أخرى، حتى صار على بعد أنفاسٍ قليلة منها... مدَّ يده يسحب المنديل من يدها، ثم ألقاه أرضًا بحركةٍ حادَّةٍ كمن يعلن حربًا صامتة.

نظرت إليه مذهولة، مزيج من الاستنكار والدهشة في عينيها، فيما هو لم يبدُ عليه إلَّا الغضب الممزوج بشيءٍ غريب..كأنَّه يقاتل نفسه أكثر ممَّا يقاتلها.


انحنى نحوها وقال بصوتٍ غليظ لكنَّه متهدِّج:

_الروج يتمسح، ورقبتك يا أمِّ الحجاب تتغطَّى مش هعيد كلامي.


ابتسمت بخفَّةٍ ساخرة، وفي عينيها تلك اللمعة التي تثير جنونه دائمًا بالتحدِّي:

_لأ، عيد..أنا بليدة وبحبِّ أسمع التكرار.


كأنَّها ضغطت على جرحٍ مفتوح، فزفر أنفاسه بحدَّة، وقبل أن تكمل كلمتها سحبها من خصرها بقوَّةٍ أربكتها، وجذبها إليه حتى التصقت أنفاسها بأنفاسه...

لم يمهلها وقتًا لتفهم ماسيفعله، ليطبق على شفتيها بقُبلةٍ عنيفةٍ أقرب إلى صرخة وجعٍ من أن تكون رغبة.. ممَّا يشعر به.


قبَّلها كمن ينتقم، لكنَّه وجد نفسه ينهار في عمقها…

كان يظنُّ أنَّه يعاقبها، فإذا به يذوب بين أنفاسها، كأنَّها منحت قلبه ترياقًا يطهِّره من سموم ليالٍ لم ينم فيها.

تلك القُبلة لم تكن عقابًا، بل خضوعًا، استسلامًا غير معلن لرغبته بها بالحال

كانت ترتجف بين ذراعيه لا لرفض، بل من شدَّة ماتشعر به.

لم تعد تفكِّر في عنفه، ولا في كبريائها، فقط أرادت أن يظلَّ قريبًا..أن يكمل مابدأه، أن يسكب دفء أنفاسه على خوفها من فكرة تنفيذ أوامر فقط.


ابتعد عنها أخيرًا، مضطَّرًا، وكأنَّ انتزاعه منها انتزاعٌ لجزءٍ من روحه.

وقف يلهث أمامها، نظراته معلَّقة على شفتيها المرتجفتين، وعينيه تقول أكثر ممَّا نطقت به الشفاه:

كنتُ أحتاج أن أشعر أنكِ ملاذي، أن تحتضنيني دون أسئلة، أن أستريح في صدرك من وجعي..ولكنَّك خذلتيني.


أمَّا هي، فكانت تنظر إليه بعينين دامعتين، كأنَّها تهمس:

أتحبُّني، أم أنَّك فقط تحاول أن تثبت أنَّك تطيع أوامر فُرضت عليك فقط، حتى تنجو بنفسك وتهرب وتتركني وحيدة دون أمان؟..


وما بين السؤالين ضاع الصمت بينهما، لكن القلوب كانت تصرخ...

تصرخ شوقًا، ووجعًا، واعترافًا لم يُقال بعد.


قال بنبرةٍ متماسكةٍ تُخفي خلفها كلَّ اضطرابه:

_ضي...إحنا مش أطفال، وأنا متأكِّد إنِّك عاقلة، وهتعرفي تتأقلمي مع قراراتي.

تنهّد، ولامس جبينه بيده كمن يجهد نفسه كي لا ينفجر، ثم أضاف وهو ينظر إلى الأرض:

_لو تفتكري من زمان كنت ضدِّ مكياجك..وقتها قولتي مالكش حكم عليَّا، بس دلوقتي أنا جوزك، وياريت تحترمي كلامي علشان مش عايز أزعَّلك، ولا أسمع منِّك بعد كده إنِّك بتقولي عليَّا مؤذي.

رفع عينيه إليها، وصوته هذه المرَّة خرج أكثر لينًا:

_عدِّلي لبسك يا ضي، عشان ماتزعليش منِّي.


قالها ومشى، تاركًا خلفه ارتباكها وتناقض مشاعرها بين الغضب والاشتياق.


بعد فترة، هبطا الاثنان إلى الأسفل، كأنَّ شيئًا لم يكن.

كان يمسك بكفِّها برفقٍ لم تتوقَّعه منه قبل قليل، تحرَّك بها إلى داخل الفندق لتناول الغداء، وصوت البحر بالخارج يملأ الأجواء


كانت تمشي بجواره تنظر إليه من طرف عينيها، تتأمَّل هيبته، ملامحه التي تحفظها أكثر من وجهها في المرآة.

تحدِّث نفسها بصمتٍ مفعمٍ بالحب:

_هذا هو زوجي، أريد أن أصرخ بها أمام الجميع.

ابتسمت بخفَّة، ونسيت ماحدث منذ دقائق، لتتشبَّث بذراعه بكفِّها الآخر، تضع رأسها عليه وتمضي بجانبه في انسجامٍ عاشق.


رمقها بابتسامةٍ ماكرةٍ وهو يتمتم:

_مشوفتش الحاجات دي فوق ليه؟ مفيش غير الأستاذ محسن بتاع التاريخ.


توقَّفت لحظة، تقطِّب حاجبيها بتصنُّع الغضب:

_قصدك عليَّا يا يوسف الأستاذ محسن؟


ضحك ضحكةً رجوليَّةً دافئة، ثم مدَّ ذراعه يحيط خصرها، واقتادها إلى طاولةٍ تطلُّ على البحر:

_فاكراه الأستاذ محسن، والله حبِّبني في التاريخ.


جلست قبالته تستند على كفَّيها وهي تتأمَّل وجهه وضحكاته، وتناسا ماحدث بالأعلى، كأنَّها تشاهد طفلاً خرج للتوِّ من بين ذكرياته، 

قال بعفويةٍ صافية:

_كلِّ ماأفكَّر أغيظ أبويا أقولُّه هدخل آداب قسم تاريخ.


ضحك حتى أدمعت عيناه وهو يتذكَّر تلك الأيام، ثم تابع:

_مرَّة عملنا فيه مقلب أنا وبلال، بلال قالُّه يوسف سحب ورقه من الطبِّ يا عمُّو وقدِّمه في آداب علشان الملكة نفرتيتي.


انفجر ضاحكًا وهو يروي:

_وقتها قالِّي: هروح المتحف وأجيبلك الملكة نفرتيتي أنيِّمها جنبك.


صمت بعدها، والنظرات في عينيه بدأت تلمع بدمعةٍ رقيقة سرعان مامسحها بإبهامه:

_تعبته جدًّا أيام الثانوي..كلِّ مرَّة أعرف إنُّه في البيت، أتَّصل ببلال ونعمل مصايب.


قالها ثم أطرق رأسه وقال بصوتٍ مبحوح:

_اليوم اللي بيعدِّي مفيش أجمل منُّه، للأسف.


نظرت إليه بحنانٍ ودفء:

_بحبِّ علاقتك بعمُّو أوي، أوقات بحسُّكم أصحاب مش أب وابن.


تنهَّد، وزفرة طويلة خرجت من صدرٍ مليءٍ بالفخر:

_أبويا ده..مفيش راجل زيُّه، فيه كلِّ حاجة وعكسها.


رفع رأسه نحوها، والصدق يلمع في عينيه:

_تعرفي بحبُّه لدرجة إنِّي خايف يحصل له حاجة مقدرش أعيش بعدها.


مدَّت كفَّيها على الطاولة، ووضعت يديها فوق يديه برقَّةٍ صادقة:

_ربِّنا مايحرمك منُّه يا يوسف.


ارتسمت ابتسامةٌ دافئة على وجهه، نظرةٌ طويلة احتواها بصمتٍ يقول كلَّ مالا يُقال.

همس بخفوتٍ وهو ينظر إليها: 

_اللهمَّ آمين. 

لوهلةٍ، تمنَّى أن يتوقَّف الزمن هنا... عند ضحكتها، عند دفءِ يدها، التفت إلى البحر تمنَّى أن يشهد نبضات قلبه إليها، لكن القدر كعادته، كان له رأيٌ آخر.. 


ضحكت بخفَّة وهي تميل برأسها نحوه:

_طيب مفيش دعوة كمان لحد خايف ربِّنا يحرمك منُّه؟

رفع حاجبيه بدهشةٍ متصنِّعة، ثم ابتسم وقال وهو يلتقط نفسًا عميقًا:

_ماما، أكيد..أمِّي دي الحنان كلُّه، دي مش محتاجة أقولِّك عليها أصلًا.


تأمَّلته للحظة ثم قالت:

_على فكرة..إنتَ بارد.


ضحك بخفوت وهو ينهض من مكانه، يهرب من عينيها أكثر ممَّا يهرب من الحوار:

_هشوف الجرسون شكلهم قفلوا المطبخ، وإحنا كده هنبات من غير غدا ولا عشا.


قالها بخفَّةٍ مصطنعةٍ وانسحب، بينما نظراتها ظلَّت معلَّقةً به حتى ابتعد، يترك خلفه قلبها يهمس:

_نفسي تحسِّ بحبَّك قدِّ إيه يا يوسف... نفسي تعرف إنَّك بالنسبة لي الدنيا كلَّها.


بعد فترةٍ ذهب إلى مكانٍ آخر، ومازال محتضنًا كفَّها، كان المكان يضجُّ بموسيقى هادئة تملأ أجواء الفندق بنعومةٍ حالمة.

أشار إلى مكانٍ هادئ، اتَّجه إليه وسحب مقعدًا برفق أجلسها عليه دون كلمة، ثم جلس بمقابلتها يحاول أن يبدو طبيعيًّا:

_المكان دا حلو وهادي، بعيد عن دوشة الرقص الخليع. 

_باين حافظ المكان.

_جيت كتير هنا.

التفتت إلى بعض الذين يتراقصون على الموسيقى الهادئة فقالت:

_طيب ينفع نرقص ولَّا هتقولِّي لأ؟


نظر لمكان الرقص، ثم إليها:

_عايزة ترقصي؟ 

تنهَّدت وردَّت: 

_أي حاجة بس مش عايزة أقعد.

قاطعهما رنين هاتفه فجأة، نظر إلى الشاشة ثم إليها:

_ده باباكي..هوَّ كلِّمك؟

هزَّت رأسها نفيًا وقالت بهدوء:

_رد، علشان مايقلقش.


ابتعد قليلًا، اتَّجه نحو النافذة المطلَّة على البحر، وتحدَّث مع أرسلان..

كانت تنظر إليه بصمتٍ، تتابع ملامحه وهو يتكلَّم، تبتسم دون أن تشعر.


اقترب شابٌّ أنيق الملبس، تفوح منه رائحة العطر الباهظة، ابتسامة غرور على وجهه، مدَّ يده نحوها قائلاً بثقةٍ متصنِّعة:

_تسمحي لي بالرقصة دي يا آنسة؟


توسَّعت عيناها، والتفتت حولها تبحث عن يوسف، ثم ردَّت بسرعة:

_لأ، شكرًا.


لكنَّه أصرّ، اقترب أكثر ونظراته تتنقَّل على وجهها بوقاحةٍ خفيَّة يضع كفِّه على كتفها:

_أتمنَّى ترقصي معايا..صدَّقيني مش هتندمي.


قبل أن تُكمل رفضها، جاءه الردَّ من قبضةٍ حديديةٍ اخترقت المكان، لكمةٌ قويَّةٌ من يوسف أسقطته أرضًا قبل أن يفهم ماحدث.

شهقت ضي وتجمَّدت مكانها، 

أمسك بكفِّها وسحبها بقوَّةٍ، خرج بها من القاعة بسرعةٍ جعلت كلُّ من في المكان يلتفت إليهما.


فتح باب الغرفة بعنف دفعها إلى الداخل، انفجر بصرخةٍ مكتومة:

_إنتي هتفضلي متساهلة بالشكل دا لحدِّ إمتى؟!


ارتجفت، وحاولت الاقتراب منه بهدوءٍ مذعور:

_يوسف..اهدى، محصلش حاجة تستاهل دا كلُّه.


ضحك بسخريةٍ مرَّة، وعروقه تنتفض من الغيرة:

_محصلش والله!! أنا شوفت الحيوان  حاطط إيده على كتفك، كان بيقولِّك إيه.. 


رمت حقيبتها أرضًا وصرخت بدموعٍ محتقنةٍ في صوتها:

_كان بيقولِّي "تسمحي لي بالرقصة دي يا آنسة"!


جحظت عيناه، واشتدَّت قبضته، كأنَّها ستنقضُّ على وجهها:

_آنسة!! ليه مش شايف الدبلة؟


ارتفع صوته أكثر، وكأنَّ كلَّ خوفه من فقدها يتحوَّل إلى هجومٍ أعمى.

بينما هي رغم ارتجافها، رفعت رأسها بكبرياءٍ مجروح:

_يمكن معدوم النظر والاحساس يا حبيبي..زيَّك تمامًا.

قهقهت تنظر إليه: 

_وبعدين ماكذبش يعني..ماهو أنا آنسة، احذف من الخانة الفرح. 


صمته كان أخطر من صراخه، عيناه تشعَّان بنارٍ من الغيرة والحبِّ والخوف، يخطو نحوها خطوة..ثم ثانية...

وهي تتراجع، وصدرها يعلو ويهبط بأنفاسٍ متلاحقة، تنتظر أيًّا كان القادم: 

_ قبلة..أم انفجار.


تصدِّقي عندك حق؟ تقولي إيه يا آنسة معدوم النظر، قدَّامي واحدة جميلة وحلوة وكمان مراتي..عيب تكوني آنسة بعد الفرح.


اقترب منها بخطواتٍ بطيئة تحمل شيئًا من التحدِّي، بينما هي تتراجع غريزيًا، تتَّسع عيناها بتوجُّسٍ وارتباك:

_يوسف، إنتَ ناوي تعمل إيه، أنا مش موافقة، هتقرَّب منِّي غصب عنِّي؟


ابتسم ابتسامةً مشوبةً بالوجع، ثم مدَّ ذراعيه يحاوط جسدها رغمًا عنها وهو يقول بصوتٍ خافتٍ لكنَّه متهدِّج:

_ليه يا آنسة، مش جوزك؟ دا حقِّي...

ثم تابع بهسيس مرعب 

_ايه ياآنسة.. مش عايزة تبقي مدام 

_يوسف متبقاش مجنون.. كانت تلك اخر كلمات تنطقها


بفيلا السيوفي


دلفت ميرال تحمل صينية الطعام بين يديها، بخطواتٍ هادئة. ما إن فتحت الباب حتى تجمدت مكانها للحظات وهي ترى ابنتها تجلس بالشرفة شاردة النظرات، تحدّق في نقطةٍ بعيدة لا وجود لها


اقتربت ميرال ببطء، ووضعت الصينية على الطاولة، ثم جلست إلى جوارها، ترفع يدها تمسد على خصلاتها بخفوتٍ حنون:

_حبيبتي... عملت لك الأكل اللي بتحبيه.


ارتعشت أنفاس شمس، واهتزت شفتاها وهي تهمس بصوتٍ متقطعٍ يشبه بكاءً مبحوحًا:

_لسّه عايش يا ماما؟ ولا... خلاص؟


جفلت ميرال بألم، تضم رأسها إلى صدرها كأنها تحاول أن تُخفيها من العالم كله، تبكي معها بنفس الانكسار:

_هيكون كويس يا روحي، بابا كان عنده وقال هيقوم، إن شاء الله هيقوم...


لكنها دفنت وجهها في صدر والدتها، وانفجر نحيبها المتقطع:

_هو بين الحياة والموت بسببي يا ماما... ليه بابا كسره كده؟

صرخت فجأة بوجعٍ فاض من جوفها:

_آااه يا ماما... قلبي بيوجعني... بيوجعني أوي!


في تلك اللحظة...

كان إلياس واقفًا عند باب الغرفة، ملامحه منطفئة، عيناه غارقتان في حزنٍ صامت، يسمع صراخ ابنته كأنه صفعات على قلبه...

كل تنهيدة منها كانت خنجرًا في صدره، رفع كفه إلى فمه يكتم أنفاسه الموجوعة، ثم استدار هاربًا من بكائها، خطواته متعثّرة كمن يهرب من جريمته، من نفسه، من صوته الداخلي الذي لا يتوقف عن اللوم.


وقبل أن يبتعد كثيرًا، اخترق اذنه صوت فريدة المرتجف من الداخل:

_مصطفى!! رد عليا يا حبيبي... سامعني؟!

انقبض صدره، وارتفع صوتها أكثر:

_مصطفى... 


ركض إسلام كالمجنون ناحية الصوت، بينما توقف إلياس مكانه، وجسده ينتفض من الفزع، والذكريات تضربه كالرعد... كأن المصائب تتتابع لتنهشه دون رحمة

بالمشفى


وقف إسحاق أمام النافذة الزجاجية لغرفة العناية، وجهه شاحب كأن العمر غادره في يومين. يداه ترتجفان وهو يحدق في جسد حمزة الممدّد وسط الأجهزة.

ربت فاروق على كتفه بحنوٍّ مثقل:

_إسحاق... لازم ترتاح شوية، بقالك يومين وانت واقف كدا


لم يلتفت إليه... عيناه عالقتان على ابنه وهو يصارع الموت. تمتم بصوتٍ منكسرٍ كأنّه اعترافٌ بالذنب أمام الله:

_ابني بيموت يا فاروق... أنا اللي قتلته بإيدي.


اقترب أرسلان بعد عودته مسرعًا، قلبه يتخبط، وصوته يرتعش:

_عمو إسحاق...!


التفت إليه إسحاق، وسقط بين ذراعيه باكيًا كطفلٍ ضائع:

_قتلت حمزة بإيدي يا أرسلان... أنا السبب... أنا السبب!

فجأة... شقّ صوت الجهاز الحادّ المكان، يعلن توقف القلب.

ارتبك الجميع، وهرع الأطباء والممرضون، والأنين اختلط بالصراخ.

_كهربا!.. صدمة تانية!.. بسرعة!..

تحوّل المكان إلى فوضى، أصوات الأوامر، خطوات مسرعة، وصفير الأجهزة.


نظر ارسلان إلى إسحاق، الذي كان يقف متجمّدًا في مكانه، ينظر إلى الشاشة وهي تصرخ بخطٍ مستقيمٍ لا حياة فيه، وعيناه تنزفان دموعًا تشبه الموت.

 تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا




تعليقات

التنقل السريع
    close