القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثلاثون 30بقلم سيلا وليد حصريه

 


رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثلاثون 30بقلم سيلا وليد  حصريه  




رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثلاثون 30بقلم سيلا وليد  حصريه  




وكأنها لى الحياة 


الفصل الثلاثون


"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "


ولولا الهوى ما ذلّ في الأرض عاشق، ولكن عزيزُ العاشقين ذليل...


يقولون إن لكل قاعدةٍ استثناء،

ولعلّي كنتُ ذاك الاستثناء الذي كُتب عليه أن يحبّ، أكثر مما يُحتمل.


يا ليتني ما ذقتُ الهوى،

فما ذلّ في الأرض عاشقٌ...

إلا أنا.


مهما حاولتُ الهرب، أجدك هناك...

بين روحي العاشقة وقلبي الولهان، تسكنُ أنت، لا كعابرٍ في الشريان، بل كنبضٍ خُلِقَ ليذكّرني أنك الحياةُ في دمي،

وأنك.. رغم البعد.. ما زلت الأقرب.


ولولا الهوى...

ما كنتُ أنا.


فقربكِ دواءٌ لروحي إن أثقلها الوجع، وملاذٌ لقلبي إن خاصمه النور.


اقترب منها بخطواتٍ بطيئة تحمل شيئًا من التحدِّي، بينما هي تتراجع غريزيًا، تتَّسع عيناها بتوجُّسٍ وارتباك:

_يوسف، إنتَ ناوي تعمل إيه، أنا مش موافقة، هتقرَّب منِّي غصب عنِّي؟


ابتسم ابتسامةً مشوبةً بالوجع، ثم مدَّ ذراعيه يحاوط جسدها رغمًا عنها وهو يقول بصوتٍ خافتٍ لكنَّه متهدِّج:

_ليه يا آنسة، مش جوزك؟ دا حقِّي...

إيه مش عايزة تبقي مدام؟ 


انحنى نحوها، وقبل أن تلامس شفتاه عنقها، دفعت صدره بكلِّ ماأوتيت من قوَّة، وقد ارتجف صوتها بالغضب والقهر:

_ممكن أعرف آخِر اللي بتعمله دا إيه؟ أنا مش موافقة على اللي عايزه، خلاص، خلصت كده..عرفت نواياك.


تجمَّد مكانه، وكأنَّ كلماتها صفعت قلبه لا وجهه، ابتلع ريقه بصعوبة وقال بصوتٍ منكسرٍ ضائع:

_نواياي!! تمام، اللي إنتي عايزاه يا ضي..


كأنَّها تلقَّت صفعة من كلماته، ضجَّ قلبها قبل عقلها، وصرخت بعنفٍ لا يشبهها:

_أيوه صح! إنتَ صح دايمًا، وأهي نفِّذت كلام عمِّي، وسكت علشان تسافر، وبعد كده تسيب البِتِّ الهبلة اللي صدَّقتك!

شهقت بأنفاسٍ متقطِّعة، ودموعها بدأت تبلِّل وجهها:

_دلوقتي عرفت ليه ماكنتش عايز ولاد..عايز ليلة حلوة من غير مسؤولية، من غير أثر وراك بس خلاص بنت عمَّك وهتستحمل.


صرخ بغضبٍ حاول كبحه:

_اخرسي يا بت..وبطَّلي هبَل!


خلعت حجابها بعنف، سقط على الأرض كرمزٍ لانكسارها، وانهمرت دموعها أكثر كلَّما تذكَّرت مافعله بها، اقتربت منه بخطواتٍ متوترة تضربه على صدره، تدفعه بجنون، تصرخ:

_ليه بتقتلني كده!! ليه تقابل لهفتي ببرودك؟!


حاول الإمساك بيديها المرتجفتين وهو يحاول السيطرة على غضبه وخوفه عليها:

_ضي..اهدي، صوتك، الناس هتسمع.


لكنَّها كانت خارج حدود وعيها، تبكي وتلكمه على صدره، تصرخ بصوتٍ مبحوحٍ ممزوجٍ بالعشق:

_عايز تهرب يا يوسف؟! تهرب وتسبني من غير رابط.

شهقت بأنفاسٍ متقطِّعة وانفجرت:

_هونت عليك كده؟!


لم يتمالك نفسه، جذبها بعنف إلى صدره، ضمَّ رأسها بقوَّة حتى كادت تختنق بأنفاسه:


_باااس..إنتي بتغلطي، اهدي..مفيش حاجة من دي


لكنَّها لم تسمع، كانت تبكي بصمتٍ مكتومٍ على صدره، والدموع تتساقط بحرارةٍ خافتة على قميصه، بينما هو يقبض عليها كمن يخاف أن تنهار إن أفلتها.

كلُّ الغضب الذي بينهما تهاوى في تلك اللحظة، ليكشف عن خوفٍ أعمق، خوفٍ من الفقد..ومن الوجع الذي لا يُقال.


لكنَّها مالبثت أن دفعته بقوَّة، وهرعت إلى الحمَّام، تُغلق الباب خلفها كمن تهرب من نفسها قبل أن تهرب منه.

أمَّا هو، فخرج بخطواتٍ متثاقلة، جسده يترنَّح وثقله ينوء بحملٍ لم يعد يحتمله.

كانت كلُّ مشاهد طفولته تمرُّ أمام عينيه كشريطٍ لا يريد أن ينتهي؛

بكائه وهو يصحو مفزوعًا ينادي على والدته، صرخاته التي كانت تُفزع نوم والده، حتى صار الأخير يضطَّر أن ينام بجواره..علَّه يُسكته حين يهمس باسمه وهو يطلب امه كلِّ ليلة.


ظلَّ يسير في شوارع شرم الشيخ حتى أنهكه التعب، ووجعه أكبر من أن يُحتمل.

وحين صدح الأذان من مسجدٍ قريب، توقَّف قلبه قبل قدميه، شعر بأنَّ النداء يُناديه

دخل المسجد وأقام صلاة الفجر... صلاة الخاشعين، لا صلاة المنافقين.

خرج بعدها، يلفُّه سكونٌ غريب، وراحةٌ مؤقَّتة تشبه الهدنة بينه وبين نفسه.


عند ضيّ:

ظلَّت تنتظره في الشرفة والبرد يتسلَّل إلى جسدها الهش، حتى خذلتها أطرافها من شدِّة البرودة.

لحظات، وسمعت صوت الباب يُفتح..

التفتت، فرأته يدخل بخطواتٍ صامتة، ينزع ثيابه دون أن ينظر إليها، ثم تمدَّد على الأريكة بجسده المرهق


كانت تعلم أنَّه لم يغفُ.

اقتربت بخفوتٍ متردِّد:

يوسف...


ردَّ بصوتٍ خافتٍ خالٍ من الحياة:

_عايز أنام.


قالها وذهب بنومه، حتى أنَّه لم ينزع حذائه، ظلَّت تتابعه بصمتٍ حتى ذهب بنومٍ عميق، نظرت إلى هدوئه المستكين بمرارة، بعدما علمت أنَّه تناول إحدى المهدِّئات.. توقَّفت وتحرَّكت إليه، نزعت حذائه، وقامت بإعدال رأسه، جلست بجواره تمسِّد على خصلاته بحنان، ثم وضعت رأسها على صدره علَّها تطمئنُّ أنَّه مازال بجانبها، همست لنفسها:

_ياترى إيه حكايتك يابنِ عمِّي، وإيه الكلام اللي إنتَ كاتبه دا؟ 

تذكَّرت أمر ذاك الدفتر، نهضت بهدوء وسحبته تكمل قراءة مابه..اتَّجهت إلى الفراش وجلست بجواره، تستمدُّ منه الدفء، فيبدو أنَّ طقس اليوم يختمها ببروده.. في هذا الشهر من السنة، إنَّه شهر نوفمبر المتقلِّب..التفتت إلى نومه ثم فتحت الدفتر تقرأ مايحتويه. 


"يوسف السيوفي..أم يوسف الشافعي؟

سؤالٌ واحدٌ كفيلٌ بأن يُربكني حتَّى النخاع.

كلاهما لم يُمثِّلني يومًا.

قضيت طفولتي أختبئ خلف لقبٍ أثقل ظهري قبل أن أشتد،

لقبٌ صاخبٌ كالسيوفي، كأنَّ الحروف فيه تُشبه السيوف...تقطع ولا ترحم، 

ثم..في لحظةٍ عابرة، محَوا اسمي القديم،

ورسموا لي هويَّةً جديدةً بلونٍ غريبٍ عن ملامحي.

صرتُ الشافعيّ...

دميةً تبتسم حين يُطلبُ منها،

وتنحني لتنجو،

بينما في داخلي صبيٌّ صغيرٌ يصرخ:" من أكون، وأين والدتي، ولماذا اختفت ضحكتي"


أنا لست قويًا مثل والدي،

ولا ضعيفًا مثل والدتي...

أنا خليطٌ صُنعَ من الخوف والكبرياء

من صمتٍ يئن، ووجعٍ لا يجد سبيلًا للخروج.

بل أنا العقاب يا نفسي...

عقابٌ يمشي على قدمين،

لم يُقيِّدوه بالسلاسل،

لكنَّهم ربطوا عنقي بقيودٍ من ذهب..

تُبهر العيون ببريقها،

لكنَّها تخنق أنفاسي كلَّما حاولت أن أتنفَّس بحريَّة.


بدأت أتساءل..ولا ينتهي السؤال،

لماذا حُرمتُ من أشيائي الصغيرة التي كانت تُشبهني؟

لماذا كان عليَّ أن أعيش في جلد إنسانٍ آخر لا أعرفه؟

كنت طفلًا..نعم، لكن قلبي كان يُنادي باسمٍ لم أجد له صدى.


كلُّ يومٍ يمضي أتساءل…

ولا ينتهي السؤال الذي يطاردني في كلِّ لحظة سكون:

لماذا تُركتُ؟

لماذا خُلقتُ لأحمل هذا الفراغ الشاسع الذي لا يمتلئ؟


كطفل، لم أكن أطلب الكثير…

كنت أريد يدًا تُمسك بيدي.

حضنًا أختبئ فيه حين أخاف.

وجهًا أعرفه، وصوتًا يخصُّني.


لكنَّني استيقظت في الحياة بلا أم.

قالوا إنَّها غادرت لتتلقَّى العلاج…

فكنتُ أنتظرها كمن ينتظر المعجزة.

أحسب الأيام، أعدُّ الليالي، وأبني في خيالي ألف لحظة لعودتها.

كنتُ أركض إلى الباب كلَّما سمعت طرقًا…

ظنًّا منِّي أنَّها هي.


ياالله..كم انتظرت.


كبرتُ وأنا أحضن ظلَّها فقط.

أحادث غيابها، وأتوسَّل للسماء أن تعيدها ولو لثانية…

ثانية واحدة فقط لأقول لها: "لا تذهبي مرَّةً أخرى."


لكنَّها لم تعد!!..

ولا أحد أخبرني لماذا!!


كنتُ أرى الأطفال يتشبَّثون بأمَّهاتهم،

يختبئون خلف أثوابهنّ،

ويبكون في حضنهنَّ حين يوجعهم أحدًا

وأنا؟

كنتُ أبكي وحدي.

أضمُّ ركبتيَّ إلى صدري…

وأخشى أن يسمع أحدٌ صوت انكساري.


فالآن أتساءل يا أمِّي…

هل كنتِ تعلمين كيف تركتني؟

هل كنتِ تعلمين أنَّ غيابِك لم يكن غياب جسد…

بل غياب وجود…

غياب هويَّة…

غياب معنى..


لم يصمت الألم لهذا الحدّ، بل تفوَّق على قسوة المرار حين انتزعني أبي من مدرستي ومن ذكريات بيتي،

شعرتُ كأنَّ العالم كلُّه يتآمر على محو كلِّ أثرٍ لكِ في حياتي.

كنتُ أصرخ داخلي:

"لا تأخذوا عنِّي رائحتها..لا تأخذوا عنِّي ماتبقَّى منها."


ثم جاء ذلك اليوم…

حين اتَّهمني رفيقي بالتزوير،

وقال:

"أنتَ تسرق حياةً ليست لك."


حينها فهمت شيئًا واحدًا:

أنَّني لم أفقد أمِّي فقط…

بل فقدتُ نفسي معها.


عدتُ إلى أبي أحمل خوفي،

فأعطاني شهادة ميلاد لا تحملني،

واسمًا لا يشبهني،

وأصلًا لم أعشه.


وعندما قال لي صوته المكسور: "جدُّك ليس جدَّك!..وأبيه الحقيقي رحل قبل أن يراه."!!


سألته بصوتٍ ظننتُ أنَّه لن يخرج منِّي أبدًا:


"وأمِّي؟

ماذا عن أمِّي؟

هل كانت تعرف؟

هل تركتني وهي تعلم أنِّي سأكبر بلا ماضٍ، بلا اسم، بلا صدرٍ أعود إليه؟

لماذا تركتني أواجه العالم بهذه القسوة؟"


لم يجبني أبي.

ظلَّ الصمتُ ينهش ماتبقَّى من صبري…

حتى جاءت خالتي، تلك التي حسبتُها يومًا مرفأ أمان،

فإذا بها تُلقي بي في غياهب الجُبِّ بيدٍ واحدة.


قالتها ببرودٍ لا يشبه البشر،

كمن يبصق حقيقةً كانت تنزُّ في الظلام:


أمَّك ماتت..وتركتك وحدك تذبل.


في تلك اللحظة…

انشقَّ داخلي صوتٌ لم يسمعه أحد غيري.

سقط الماضي من كتفي،

وانكسر الحاضر بين ضلوعي،

وانمحى المستقبل كأنَّه لم يكن.


كنت طفلًا…

لا يعرف من الدنيا إلَّا رائحةُ حضنٍ لم ينله.

كنت أبني لعودتها ألفَ حكاية،

أحلم بها وهي تفتح الباب،

تعانقني بقلبٍ يعرفني…

ولو من بعيد.


كنت أعلم في قلبي أنَّ احتمال العودة ضئيل…

لكنِّي كنت أعيش على هذا الاحتمال.

كان حلمي بها هو الهواء الذي أتنفَّسه كي لا أموت.


فلماذا؟

لماذا قالت لي هذه المرأة تلك الكلمات القاسية؟! 

لماذا سحقَت آخر نافذةٍ كنت أطلُّ منها على الحياة؟


ليتها سكتت.

ليتها لم تقتلني وأنا مازلت حيًّا.


بعد تلك الحقيقة،

لم يعد اسمي يشبهني،

ولا وجهي يعرفني،

ولا قلبي قادرًا على حمل نفسه.


سرتُ وحيدًا،

أجمع شظايا هويَّتي التي وُئدت قبل أن تكتمل.

مرَّت أيَّام…وشهور…وسنوات،

وأنا أعيد خلق نفسي من الرماد،

أدوِّن لنفسي حياةً لا يشرف عليها أحد،

ولا يرسم معالمها سواي.


نعم..عانيت... تهت..بكيت حتى جفَّ الملح من عيني.

تعثَّرت بذاكرةٍ مشوَّهة..

وبقلبٍ نصفه حيّ ونصفه قبر.


لكنَّني مع الوقت..وقفت.


لم أعد الطفل الذي ينتظر العودة.

لم أعد الوجه الذي يبحث عن ملامحه في الآخرين.


أنا…صنعت نفسي بيدي.

من دمي... من وحدتي.

من سؤالي الذي لم يُجاب.


حتى أصبح كلُّ من يراني اليوم…


يظنُّون أنِّي بخير...

لكنَّهم لا يرون الدم الذي يختبئ تحت لمعان الذهب، ولا يسمعون صرير القيود حين أبتسم."

اليوم أنهيت دراستي الثانوية،  أتمنَّى أن أحقِّق حلمي وأن أدخل الكليَّة التي أريدها، حلمت بأن أكون طيَّارًا حربيًا، ولكن والدي اعترض على هذا المجال، لا أعلمُ لماذا، ولكنِّي تمنَّيته كثيرًا.

فهل سينجو بي القدر وأحقِّق حلمي؟. 


بدأت تقلِّب ببعض الصفحات إلى أن جاءت بيوم تخصُّصه بالكليَّة، فلقد دوَّن بعض الكلمات التي شعرت بأنَّها تزهق روحها.


أنا طبيب قلبٍ يا سادة،

أُعيد الحياة لمن يموت،

لكنِّي..

أعيش ميتًا بنبضٍ لا يخصُّني.

أعرف كيف أُرمِّم شريانًا متعبًا أو أُوسِّع صمَّامًا ضاق عليه العُمر…

لكن هناك وجعًا آخر لا يُقاس بالضغط،  ولا يُرى على شاشة الإيكو..وجعٌ يسكن خلف الضلوع، يتسلَّل بين النبضات كأنَّه يختبئ من المجهر والعلاج.


أتجاهل صدى صدري أنا.

وأتظاهر بالثبات، أكتب الوصفات بثقة، وأنا في داخلي أحتاج وصفةً تُعيد لي القدرة على التنفُّس دون وجع.

كم مرَّةٍ أنقذت حياةً وأنا عاجزٌ عن إنقاذ نفسي؟

كم مريضٍ شكرني على شفائه، بينما قلبي أنا يترنَّح في غيبوبةٍ لا تفيق؟


القلوب يا سادة لا تموت بالسكتات فقط، بل بالخذلان، بالحنين، بالخوف من الوداع.

تموت وهي تنبض…وتتنفَّس وهي تختنق، تُخفي وجعها خلف ابتسامةٍ متعبة وصوتٍ يقول: أنا بخير.

ومامن دواءٍ يُعيد نبضها كما كان، سوى صدقٍ يعيد إليها الأمان،

فبعض القلوب لا تحتاج طبيبًا…بل رحمةً تحتضنها حتى تهدأ.. 


قلبت صفحة اخرى، وشهقةٌ خرجت مع دموعها وهي ترى تاريخَ عقد قرانهما على أعلى الصفحة، يدوِّن فوقه..لقد حدث ماكنت أخشاه.


فاليوم..لا أعلم هل هو يوم حياتي أم يوم مماتي.

لا أفرح…ولا أحزن.

هناك شعورٌ غريبٌ يشبه الوقوف على حافَّةٍ لا ترى مابعدها.

تمَّ عقد قراني على ابنة عمِّي.


كبرنا معًا…

كنت أعدُّها أختًا لا أكثر،

روحًا تتنفَّس بجانبي دون أن أفكِّر يومًا بما وراء ذلك.

لم تكن بيننا مشاعر تشبه مايُكتب في الكتب عن الحب، لكنَّني كنت أحبُّ شيئًا فيها لا أعرف كيف أسمِّيه.


كنت أحبُّ تمرُّدها.

عنادها الذي يشتعل إذا فُرض عليها شيء.

غرورها الذي يشبه كبرياء من يرفض الانكسار.

ثقتها بنفسها التي كانت تسحق خوفي وتُظهر هشاشتي في داخلي.

كنت أراقب كلَّ هذا بصمت،

وأقول بيني وبين نفسي:

“إن تزوجت يومًا..فليكن شبيهًا لها.”


لكنَّني لم أكن أريد الزواج أصلًا.

كيف أنجب طفلاً يشبهني فيأتي إلى هذا العالم حاملاً مرارتي؟

كيف أسمح لروحٍ صغيرةٍ أن تتذوَّق الفقدَ نفسه؟

كنت أريد أن أكرِّس حياتي لمرضايا فقط…

لإنقاذ مايمكن إنقاذه من الآخرين…

بعدما فشلت في إنقاذ نفسي.


لذلك..بدأت أبتعد عنها.

على الرغم من أنَّها كانت ضيائي الوحيد في تلك الوحدة الخانقة،

على الرغم من أنَّها كانت تقتحم حزن روحي بشقاوتها…

وتغسل جراح قلبي بضحكتها…


إلَّا أنَّني شعرت بشيءٍ آخر حين رأيت الأعين كلَّها تتَّجه نحوها في احدى الحفلات هنا وخز قلبي.

وكأنَّ شيئًا داخلي انتفض خوفًا..أو غيرةً..أو اعترافًا مُبكَّرًا لم أجرؤ أن أراه.


هل هذا نذير؟!

هل هذا إنذار؟!

هل هي ضوءٌ يسبق العتمة..أم العتمة نفسها؟


أنا لا أعلم.

لكنِّي أعلم شيئًا واحدًا:


أشعر أنَّها يومًا…

ستكون عتمتي الكبرى.

العتمة التي لا أهرب منها…

ولا أستطيع النجاة منها…

ولا أريد النجاة منها... 

انسابت دموعها وهي تقرأ كلماته التي تسلَّلت إلى قلبها، راحت عيناها تنظر إلى نومه العميق، انحنت تطبع قبلةً على خاصَّته، طالت قبلتها تدعو الله أن يصحو الآن، ولكن تبًّا لتلك المسكِّنات التي أصبحت جزءًا من حياته، مرَّرت أناملها على وجهه تهمس بأذنه:

_أنا بحبَّك أوي يا يوسف، وزي ماقولت عليَّا متمرِّدة، أوعدك تمرُّدي دا هيخلِّيني حياتك كلَّها، وزي ماقولت ياحبيب قلبي، أنا قدرك اللي مكتوب مش عتمتك أبدًا، يعني مكنتش عايز تتجوز علشان متخلِّفش؟!

استندت على مرفقيها وعيناها تحتضن وجهه، ابتسامةٌ لمعت بعينيها وهي تهمس: 

_هنخلف ونجيب أحسن أولاد، وهنربِّيهم مع بعض، وعد يا يوسف، أوعدك هتكون أحسن أب في الدنيا.

وضعت رأسها على صدره وأغمضت عيناها ومازالت تهمس:

_وبوعد نفسي مستحيل أبعد عن حضنك حتى لو كلَّفني أغلى ماأملك.

اعتدلت تكمل مادوَّنه.. 


لقد فعلها أبي…

فهمني من بين السطور التي مزَّقتها ورميت بها بعدما قرأ الكلمات التي حاولت إخفاءها…

ورأيت آثار الدموع في عينيه.


حينها فقط…كَرِهتُ نفسي.


كيف استطعتُ أن أجرح رجلاً مثله؟

كيف سمحتُ ليدي أن تكتب وجعًا يطعن قلبه؟

أيُّ عقوقٍ هذا الذي يتخفَّى باسم الألم؟

أيُّ حزنٍ هذا الذي يجعلني أقتل من احتواني حين تخلَّى عنِّي العالم؟


قلت لنفسي:

هل هذا جزاء إلياس الشافعي؟

الرجل الذي حملني حين كنت هشًّا،

وحاول أن يبني لي حياةً من أنقاضٍ لم يكن هو سببها؟


كيف أردُّ له الحياة..بالموت؟!

كيف أكسر سندي؟


شعرتُ بألمٍ ضاغط في صدري،

كأنَّ ضلوعي تنكمش لتبتلع قلبي.

ذلك الألم الذي لا يأتي من جرحٍ خارجي…

بل من خيانة النفس لنفسها.


كنت أظنُّ أنَّني أفكِّر بنجاتي فقط،

أنَّ الرحيل حلٌّ صامت…

حتى أدركت أنِّي كنت على وشك قتل أبي قبل أن أموت أنا.


ولم يكن أبي وحده من انتشلني من تلك الحافَّة…


كانت هي.نعم…عيناها.


عيناها التي كانت تُغلق على قلبي بطريقةٍ لا أستطيع الهروب منها.

كلَّما فكَّرتُ في الرحيل كدت أختنق…

كمن غاص تحت الماء وفقد تنفُّسه.


كلَّما أغمضتُ جفنيّ، رأيت تلك النظرة…النظرة التي لم تَعُد عابرة،

ولا بريئة، ولا عادية.


كانت نظرةُ حياة.


هي لم تكن ضيائي فقط…

بل كانت الحياةُ نفسها.


وأنا…لأوَّل مرَّة…

لم أرغب في الرحيل.


لم أرغب إلَّا بنظرةٍ واحدة…

نظرة عيناها التي أصبحت لي الحياة، 

تضمُّني بين ذراعيها وتقول: 

"لا أريد سواك، إنَّني أحبُّك، أحبُّك فقط" 


لحظة صمتٍ باغتتني وأنا أدوِّن هذه الكلمات…

وقفتُ أمام وجعٍ لا أملك اسمه،

وتخيَّلت عينيها وهي تقول لي: "أنا أحبُّك."

هل ستقولها كما كانت تُلقيها سابقًا بلا وعي؟

أم ستقولها هذه المرَّة بطعم العشق؟. وقد عرف القلب طريقه..


لا أعلم.

كلُّ ماأعلمه أنَّ قلبي يخفق بعنفٍ يهدِّد صدري بالانفجار.

تمنَّيت في تلك اللحظة فقط…

أن تكون أمامي.

لو كانت أمامي ماتركتها تمرُّ دون أن أبوح:


"لقد أصبحتِ خطرًا على قلبي…

فقد بدأتُ أراها زوجةً، لا أختًا كما كنت أحاول خداع نفسي."


من سيخبرها؟

من سينطق بالسرِّ الذي يضجُّ داخلي؟

كيف ستكون المواجهة بعد شهرٍ من عقد القران؟

كيف أواجه نظراتها التي تعرفني أكثر ممَّا أعرف نفسي؟


صفحةٌ أخرى تنزلق بين أناملها ومازالت تقابل كلماته بالدموع


اليوم..قبلتي الأولى لها.


اقتربتُ من ثغرها الذي مثل لي الهواء للحياة، فحين التصقت شفتاي بشفتيها، شعرت أنَّ روحي تُعاد إليَّ.

كأنَّني لو ابتعدت ثانيةً واحدة…

سأفقد الحياة من صدري.


ولكنَّني..أفسدت كلَّ شيء.


أحزنتها... كسرت كرامتها.

وأطفأت تلك الأنثى التي كانت تتورَّد خجلاً بين يدي.


ندمت…نعم ندمت لأنَّني خفت من شدَّة الحبّ.

خفت حتى ظننت أنَّ نجاتي في الهرب..

فأبعدتها بكبرياءِ الرجل الذي ظنَّ أنَّه قادرًا على السيطرة على النار.


لكنِّي كنت…شيطانًا أحمق.


باليوم التالي، نزعت عنِّي ثوب الغرور، وسرتُ إليها…

ولكنَّها كانت قد عاهدت قلبها على أن تُذقني مرارة البعد.


ثلاثةُ أيَّام…

ولم أرَ ملامح وجهها التي صارت سمائي.... ثلاثةُ أيَّام…

لم أسمع صوتها الذي أصبح نبضًا يجري في صدري.


ثلاثةُ أيَّام…

كانت أعوامًا تُميت... تساءلت:

كيف فعلت بي كلُّ هذا!! من شهرٍ واحد فقط؟

كيف صار وجودها هو حياتي؟


وكان الجواب أقسى من الاعتراف:

كنت أعشقها منذ طفولتي…

ولكنَّ قلبي الأحمق…

كان يخاف أن يقول الحقيقة.

شهقت تضع كفيها على فمها، تمنع صوتها، وكأنه سيصحو، تهمس لنفسها

_هل مااقرأه صحيح... تابعت القراءة


بالأمسِ كان زفافي..


اليوم الذي طالما تخيَّلته ثقيلًا كجبلٍ يُوضع فوق صدري، ورغم ذلك ابتسمت، لا أدري كيف..كنت أحاول أن أُخرس الارتجاف الذي يسري في دمي، والخوف الذي كنت أحمله منذ كنت طفلًا أراقب أبي، كيف كان يضع رأسه بين يديه ليخفي انكساره، وكيف كان يضحك بضحكةٍ باردة تخفي خلفها اشتياقًا يصرخ لأمِّي.


كنت شاهدًا على الوجع كلِّه.

وكنت أخشى أن أكون أنا امتداده.


فبعد عودة أمِّي..شعرت بشيءٍ يشبه الفرح، لكنَّه كان فرحًا موجوعًا، كمن شرب ماءً بعد عطشٍ طويل لكنَّه نسي كيف يبتلع..حاولت أن أحبَّ نفسي مرَّة، وكرهتها مرَّات..كنت متعبًا من محاربة ظلِّي.


أوصاني الطبيب أن أدفن الماضي..

_ادفن الماضي…واصنع لنفسك حياةً جديدة."


أومأت…وكذبت عليه…

لأنَّ الماضي لم يكن جثَّةً لأدفنها، كان حيًّا في صدري..يتنفس.


وفي ليلة الزفاف..

أخرجت مانع الحمل.

كان قراري الجاهز..قراري الذي اتَّخذته منذ اجبرت على الزواج:

لن أنجب أحدًا يشبه وجعي..لن أكرِّر الدائرة.


قدَّمتُ المانع لها..

وكان ذلك كمن يكتب شهادة وفاته، التي رأيتها بعينيها.


لم أحتج إلى كلماتها لأفهم غضبها…

لم أحتج أن أسمع شيئًا.

الصدمة كانت في عينيها…

كانت كافيةً لتعيدني إلى السنوات التي كنت فيها الطِّفل الذي يخشى التعلُّق، خشية الفقد.


في تلك اللحظة شعرت أنَّني خذلت شيئًا طاهرًا.

كأنَّني كسرت الطاولة التي وضعت عليها حياتي الجديدة.


انهار شيءٌ بداخلي..

شيءٌ كنت أظنُّه صلبًا.


لم أستطع الدفاع عن نفسي…

ولا شرح خوفي…ولا تبرير ندُبي.


فقط هربت من مواجهة ضعفي وضعفها.

وأدركتُ أنَّ السعادة التي ظننت أنِّي قبضت عليها…

كانت هشَّةً كرمادٍ يتناثر عند أوَّل نفس.


لم تكن هي المخطئة..

ولا أنا المخطئ.

كان الجرح هو الذي حضر قبلنا…

وجلس بيننا…وقسم القلوب نصفين.


وهكذا…

تحوَّلت ليلة الزفاف إلى مرآةٍ كبيرة…

أرَتني أنَّني مازلت واقفًا عند 

باب الماضي الذي مازلت أرتجف أمامه.


ولكنَّني لم أضعف، ولم أنكسر كعادتي.


فكم من مرَّةٍ ظننت أنَّني بلغت الأمان، فإذا بالقدر يصفعني صفعةً تُسقطني من وهمي، تُجبرني أن أتعلم كيف أتنفَّس وأنا مكسور، وكيف أبتسم وأنا أنزف بصمت.

كلُّ صفعةٍ كانت تُوجِعني أكثر، لكنَّها كانت أيضًا تُنضجني أكثر..تُطفئ في داخلي شيئًا طفوليًّا، وتُشعل مكانه رجلًا يعرف أنَّ البكاء لا يُعيد ماانكسر، وأنَّ الله وحده يجبر ماعجزت عنه الأيام.


وها أنا اليوم..لم أعد كما كنت..

الصفعات علَّمتني ألَّا أثق بوعودٍ تشبه النسيم، ولا أركن إلى قلوبٍ تتبدَّل.

علَّمتني أن أبتسم وأنا أحتضن وجعي، لأنَّ أقسى مايفعله القدر، أنَّه يربِّينا بطريقته القاسية..حتى نصبح أقوى ممَّا كنَّا نتخيَّل.


أغلقت الدفتر، وانسابت دموعها بصمت..هنا شعرت وكأنَّها بقبرٍ مهما تصرخ لا أحدٌ يسمعها.

وضعت الدفتر، وقامت تنزع روبها، ثم تمدَّدت بأحضانه وظلَّت تراقب نومه بدموعها، هل أذنبت؟.أم مثل مادوَّنَ أنَّ للقدر نصيب..


ظلَّت بقربه، دقائق طويلة وهي تراقب سكونه، وفي صدرها وجعٌ ينهش ويأكل ماتبقَّى من صلابتها.

كانت دقائق..لكنَّها بدت دهورًا وهي تراقب صمته النائم وهي تريد أن يشعر بها. 


رفعت يدها المرتجفة تلامس وجنته بخفّّة، وهمست بصوتٍ متقطِّع:

_إزاي كنت شايل كلِّ دا جوَّاك.. وبتضحك؟!

_إزاي ماحسِّتش بيك؟

هوَّ إحنا كنَّا بعيد للدرجة دي؟!


ارتعشت أنفاسها، كأنَّ كلَّ كلمة تنزف من داخلها.

اقتربت أكثر حتى شعرت بحرارة أنفاسه تلامس شفتيها، أغمضت عينيها كمن يستسلم للانهيار..

تتمنَّى لو يفتح عينيه الآن..

يتشبَّث بها..يضمُّها إليه بقوَّة..

ويقول لها أنَّه لن يتركها لحظة.


لكنَّ الصمت أوجعها، حتى خشيت أنَّ نومه مسافةٌ اتَّخذها للبعد، فعصرت قلبها وتسلَّلت لقربه أكثر، كأنَّ قربه هو الملجأ الأخير من الخراب الذي يسكنها، دفنت وجهها بعنقه تستنشق رائحته التي أصبحت لها أكسجين الحياة، هنا شعرت بالطمأنينة لأوَّل مرَّة منذ أن كُتب قدرهما معًا.

فالآن فقط فهمت ماذا كان يحارب،

ولماذا كان قاسيًا لدرجةٍ أوجعتها.


نامت أخيرًا…لا لأنَّها ارتاحت،

بل لأنَّ قربه كان الأمان الوحيد الذي لم يخنها يومًا..نامت وهي تتمتم بحبِّه، بل بعشقه الذي أقسمت أن تحارب ذاته لتنعم به.


مضت ساعاتٌ طويلة قبل أن يفتح عيناه أخيرًا.

شعر بأنفاسٍ دافئة وهادئة تُلامس عنقه.

رفع يده يحكُّ جبينه، يحاول استعادة وعيه، لكنَّه شعر بثقلٍ على ذراعه..


تنهَّد ببطء، ثم استدار قليلًا.


لتسقط الصدمة على قلبه.


كانت نائمةً في أحضانه.

جسدها الصغير ملتصقٌ به، ووجهها نصف مخفيٍّ خلف خصلات شعرٍ منسابة، تكاد تتنفَّس على جلده.


مدَّ يده بحذر، يمرِّر أصابعه بين تلك الخصلات ببطءٍ شديد، يخشى أن يوقظها.

تململت قليلًا، ثم دفنت وجهها أكثر عند عنقه.


ابتسم ابتسامةً خافتة..منكسرة..مشتاقة، احتضنها كمن يحتضن آخر ماتبقَّى له من الحياة.


هنا تذكَّر…

تلك الليلة التي انهار فيها كلُّ شيء..

حين استيقظ ووجدها هكذا، بين ذراعيه..ولكنَّ قلبها كان بعيدًا عنه آلاف الأميال.. أمَّا الآن..هي تنام بقميص يظهر مفاتنها، كأنَّها رسالة له انها ملكه


مرِّر أنامله بهدوء، يسترجع كلماتها ليلة الأمس…


عيناه تعلَّقتا بشفتيها..شفاهٌ نصف منفرجة..وكأنَّها تدعوه لتقبيلها.

أغمض عينيه بقوَّة..يحارب قلبه الذي بدأ يخبط في ضلوعه بجنون.


صراعٌ بين قلبٍ يريد أن يلتهمها عشقًا،

وعقلٍ يصرخ: هي محرَّمة عليك..الآن.


حاول أن يحرِّر ذراعه من تحت رأسها، يهرب من لعنتها..من سطوتها التي تفتكُ به، لكنَّها فتحت عيناها.


كلُّ شيءٍ توقَّف..نظرتها تلك مابين النوم واليقظة.


ابتسمت قليلًا، وهمست بصوتٍ مبحوحٍ رقيقٍ خفيف:

_صباح الخير…


هل جرَّب أحدكم أن يكون العاشق أقرب إلى روحك من الدم،

ولكنَّك لا تملك حقَّ لمسه؟


هنا شعر وكأنَّه يختنق..نبضه يدوي في أذنيه، هي أمامه وبينهما حرمانٌ لا يرحم..أغمض عينيه..

يحاول السيطرة على الانهيار الذي يتشكَّل داخله، لقد شعرت بصراعه

دون كلمة.


اعتدلت بهدوء..لم تسأله، لم تُكثر الكلام، فقط اقتربت..

وطبعت قبلةً صغيرة وهادئة على وجنته، بينما هو مايزال مغمض العينين، يحاول ألَّا يسقط.


قبلةٌ أطفأت كلَّ شيء، وأوقدت كلَّ شيء.


همست بصوتٍ خافت:

_صباح الخير…

هنا ارتعش شيءٌ خفيٌّ داخل صدره.


لكنَّها لم تمنحه فرصة للهرب أو المراوغة، اقتربت أكثر، كأنَّها تلملم ماتبعثر منها ومنه.


_طيب ردِّ الصباح…

رفعت رأسها تنظر له نظرةً تحمل من العتاب أكثر ممَّا تحمل من الكلام:

_هوَّ مش الرسول وصَّاكم بالضعيفين؟

طب ماأنا قدَّامك..ضعيفة..ومكسورة القلب، وكلِّ يوم جوزي يسيبني أنام لوحدي في البرد…


كانت كلماتها تسقط عليه كطعنةٍ بطيئة، لا تقتل، بل تُبقيه حيًّا ليحترق.


هو لم يكن يتابعها بعينيه، بل يراقبها بنبض قلبه..يتمنَّى أن ترى الألم الذي يخفيه، أن تلمسه، أن تفهمه…

ولكن كيف يُترجم الجرح لُغة؟


اقتربت أكثر..

استندت على ركبتيها أمامه..

واختلطت أنفاسها المتسارعة مع أنفاسه التي بدأت تضيق من شدَّة قربها، ورفعت وجهها تنظر في عينيه مباشرةً..وقالت بمشاعر الغيرة وارتعاش الحبِّ لحبيبها:


_كنت فين إمبارح؟

ماتكدبش وأوعي تكون مع بنات، أنا عارفة إنَّك مش من النوع ده، بس دكتور حلو وهيبة، وأي واحدة تشوفك بالليل هتعرف تغريك، تجذبك، تشدَّك، وأنا..تمتمت بنبرةٍ خافتةٍ مقتربةٍ منه حدَّ تلامس الشفاه ونظرت لداخل عينيه، ووضعت كفَّها على صدره:

_أنا بغير، وبغير أوي كمان، وهشوف لو لقيت ريحة واحدة هموِّتك على قدِّ وجع قلبي.

قالتها والتصقت به تدفن رأسها عند عنقه، تسحب رائحته، 

كأنَّها تحاول أن تثبت له أنَّه لها، 

وأنَّه لم يبتعد، هي تعلم أنَّه لم يكن ذلك، ولكن تريد قلبه.


مرَّت بأنفها على عنقه بجرأةٍ منها

ولم يستطع هذه المرَّة..لم يستطع المقاومة.

رفع ذراعيه فجأة، سحبها لحضنه بقوَّةٍ بعدما انهارت حصونه دفعةً واحدة.


رفرف قلبها لفعلته، فرفعت ذراعيها تحيط عنقه، وقالت بصوتها الذي ينطق بالعشق:

_يوسف، أنا بحبَّك، بحبَّك أوي..

ومش عايزة غير أكون في حضنك وخلاص.


تراجعت قليلًا، تنظر مباشرةً في عينيه، تنتظر ردًّا..

مازال صمته يحرق قلبه، يخشى اذا تحدث ان يبوح مافي صدره، اخيرا اردف وقال بصوتٍ خرج منخفضًا، متعبًا، مستسلمًا:

_عايزة إيه يا ضي؟

_قولي..قولي اللي يريَّحك وأنا هعمله، متفكَّريش إنِّي مبسوط اللي بيحصل بينَّا، بس إنتي عندك حق..

أنا كنت أناني، فكَّرت في نفسي، وفي سعادتي أنا…


لم تنتظر أن يُكمل.


أطبقت شفتيها على شفتيه.

وبمجرد أن شعر بدموعها تلمس فمه…

انتهى كلُّ جفاءٍ واختناق، رفعها بين ذراعيه وقبَّلها. 

قبَّلها كمن ينهار، لا كمن يعترف.


نسي كلَّ شيء..نسي كلَّ العالم…

لم يعد هناك سوى نبضين، وذراعين، وعشقٍ لا يعرف النجاة.


ظلَّا هكذا، حتى فقدا أنفاسهما.

ابتعد عنها مرغماً، كانت تنظر في عينيه بنظرةٍ حاسمة، غير متردِّدة.. فقالت بنبرةٍ خافتة:

_أنا موافقة.

ضاقت عيناه…

قبل أن يسألها «على إيه؟»

رنَّ الهاتف، لا يعلم لماذا شعر أنَّ العالم عاد يقسو عليه، حينما ابتعدت عنه. 


نظر إلى الشاشة، رفع الهاتف وعيناه تحاصر نظراتها إليه، نظراتٍ كانت تبوح باعترافٍ لم يكتمل فقال:

_صباح الخير يا ابني، إيه..بتحلم بيَّا؟

_يوسف اسمع…لازم ترجع فورًا..

جدُّو مصطفى حالته بقت خطيرة، ونقلناه المستشفى، التحاليل وحشة، والقلب النبض ضعف، والكبد بدأ ينزف.

أنا دخلت شفت الحالة..بس إنتَ عارف..لسة في أوَّل الطريق…


لم يكمل بلال..

انتفض واقفًا وقال بتقطُّع:


_مسافة السكَّة.

نهضت هي أيضًا، مذعورة من تغيُّر ملامحه:

_فيه إيه؟

_البسي بسرعة..جدُّو تعب..دخل المستشفى.

_حاضر..حاضر..بس اهدى شوية…


لكنَّه لم يرَ شيئًا.

كلُّ ماأمامه صورةٌ واحدة:

انهيار والده، ذمَّّ نفسه

كيف أتى إلى هنا؟

كيف سمح لنفسه أن يكون بعيدًا؟


بالمشفى عند حمزة: 

هدأت الأصوات عقب عودة النبض مرَّةً أخرى، لكنَّ الهدوء لم يكن إلَّا ستارًا هشًّا يخبِّئ عاصفةً لتمرَّ تلك اللحظات العصيبة، حيث شعر إسحاق وكأنَّ جزءًا منه يُنتزع.

الموت لم يكن يحوم حول حمزة فقط..بل كان ينهش روح أبيه ببطء.


خرج الطبيب أخيرًا من غرفة العناية، ركض إليه عمران وأرسلان، بينما  إسحاق لم يستطع التحرُّك نحوه.. شعر وكأنَّ قدماه ثقُلت، وصدره يرتفع وينخفض كمن يسحب الهواء من الماء.

لقد فقد السيطرة على جسده تمامًا.. بعد تلك اللحظات التي أشبه بخروج الروح، ليهوي على المقعد.


أوقفه فاروق، بينما توقَّف أرسلان  ينطق بالسؤال المختنق:


_ليه القلب وقف يا دكتور؟


أجاب الطبيب بنبرةٍ مهنيَّةٍ هادئة، لكنَّها انغرست في قلوبهم كسكِّين:


_ده طبيعي يحصل في العمليات الكبيرة..لكن الحمد لله قدرنا نسيطر.. حالة المريض مستقرَّة نسبيًّا، وهنراقب بدقَّة..سلامته إن شاء الله.


قالها ثم غادر..تاركًا خلفه قلوبًا تتشبَّث بالحياة. 


ارتجف جسد اسحاق، وسقطت دموعه ببطءٍ شديد…

دموعًا لم تكن بكاءً بقدر ماكانت انهيار أب.


اقترب أرسلان منه سريعًا، أمسك كتفيه بقوَّةٍ تشبه الرجاء:

_عمُّو لازم تقف، أنا عارف إنُّه صعب، والله عارف..بس بصِّ حواليك..بابا بيحارب علشان ماينهارش، عمران خلاص بيموت خايف على أخوه، ودينا مش قادرة توقف على رجليها…لو إنتَ وقعت إحنا كلِّنا هنقع..

_فين إسحاق الجارحي؟


رفع اسحاق عينيه ببطء، كانت عيون رجلٍ رأى العالم كلِّه يتهاوى أمامه:


_حمزة عايش يا أرسلان؟


هزَّ أرسلان رأسه بإصرارٍ مؤلم:

_عايش وهيقوم بإذن الله.


أسند إسحاق رأسه على كتفه، وخرج صوته مبحوحًا:

_عايز أدخلُّه.


تحرَّك بخطواتٍ ثقيلة…

كلُّ خطوةٍ وكأنَّها تُسحب من قلبه لا من قدميه، أشارت له الممرِّضة:

خمس دقايق بس يا فندم.


هزَّ رأسه ودخل، وقف عند الباب، 

تجمَّد..وهو يرى ابنه هناك على الفراش الأبيض، قطعةً من روحه ممتدَّة أمامه كجسدٍ بلا روح، جسدًا ينازع..


تقدَّم، وهنا ركبته لم تحتمل المشهد، فسقط عليها بقوَّةٍ جعلت صوت ارتطامها كأنَّه صرخةٌ مكبوتة.


مدَّ يده المرتجفة وأمسك يد ابنه

وقبَّلها، كمن يحاول أن يعيد النبض بيده.


قبَّلها..قبلةُ أبٍ لو استطاع أن يزرع الحياة بأنفاسه لفعل.


اقترب من وجهه..وخرج صوته متقطِّعًا، كأنَّه يخرج من صدرٍ يموت:


ماتكسرش أبوك يا حمزة…

أبوك مات كتير…وكان كلِّ مرَّة يقوم لأنُّه كان قوي، بس المرَّة دي، هتوصل لروحي هتكسرها، وتدفنِّي وأنا حي.


وضع رأسه عند طرف الفراش…

وانفجر بكائه بكاءً لا يخصُّ رجلًا، بل يخصُّ اب ينهار أمام قطعةٍ منه.


آااه يا حبيبي، يا وجع قلبي، ياريتني أنا… ياريتني أنا وإنتَ لأ.


مضت ساعاتٍ طويلة وهو ينتظر أن يفتح عينيه…كان الوقت أثقل من الروح.

كلُّ فترةٍ يدخل إليه..مرَّةً أرسلان، ومرَّةً فاروق..كلاهما يخرج بنفس النظرة، رجاءً لا يملك أن يتحقَّق..وخوفًا لا يمكن الهرب منه.


إلى أن خرج الطبيب أخيرًا…

لكنَّ صوته هذه المرَّة لم يحمل أي طمأنينة:

_كنت متأمِّل يتحسَّن، لكن للأسف دخل في غيبوبة.


الكلمة سقطت كالسيف، صرخة دينا شقَّت جدار المستشفى، لم تكن صرخة..كانت احتضارًا.

سقط جسدها أرضًا تبكي بنحيبٍ يمزِّق قلب إسحاق، أسرعت ملك إليها، احتضنتها بقلبٍ يخاف أن ينهار هو الآخر:

_طنط دينا..إن شاء الله هيفوق.


لكن دينا لم تسمع، كانت تغرق في ألم الخوف من فراق ابنها وهي تتخيَّل أنَّه لن يعود.


أمَّا إسحاق…

فاستدار ببطءٍ شديدٍ نحو الزجاج، نحو الجسد المسجَّى هناك.. 

لم ير فراشًا، لم ير أجهزة، بل رأى ابنه..روحه..قلبه المعلَّق 


اقترب أكثر…

وكأنَّه يخاطبه من خلف جدار الغرفة:


ماتعملهاش يا بني..ماتعملهاش…

أنا اللي بموت!! 

إنتَ سامع؟

إنتَ اللي ماسك روحي، لو سبتني… هتموِّتني..أنا مش قدِّ فراقك يا حمزة…


انسابت دموع دينا بلا توقُّف، اختلطت بحشرجتها ولم تعد قادرة على التنفُّس من الألم.

انحنى إسحاق إليها، رفعها من على الأرض بذراعين مرتجفتين، وكأنَّهما يحملان ثقل عمرٍ كامل.


اقتربت الممرِّضة بسرعة، تحقنها بإبرةٍ مهدِّئة…

بينما كانت عيناه معلَّقتان على فراشه.


هناك…

حيث تنام الروح التي إن غابت

تنهار الحياة كلَّها.


عند مصطفى: 

كان يجثو بجوار والده، يشعر بثقل جسده من شدَّة الوجع، بينما إسلام على الجانب الآخر، يحتضن أنامل والده المنهكة كمن يرجو الحياة أن تبقى فيها قليلًا.

لم يعد يرى أحدًا…ولا يسمع إلَّا صوت أنفاس أبيه البطيئة، بعدما لم يشعر به. 


هنا يأتي القَهر…

قارئاتي، الوجع ليس في جسد المريض فقط.

الوجع الحقيقي يسكن قلوب من يحاولون أن يتماسكوا أمامه.

أحبَّائه الذين يتمنُّون لو يُدفَنون أحياءً معه بدلًا من أن يشاهدوا روحه تنطفئ أمام أعينهم.


كان ينظر إلى جسد والده…

ذلك الجسد الذي عرفه يومًا قويًّا، ثابتًا، لا يميل ولا ينكسر.

أمَّا الآن..

كأنَّه ظلّ، كأنَّ الحياة تُسحب منه قطرةً بعد قطرة.


إسلام يقبِّل أصابعه بارتجاف…

لم يكن رجلاً حينها.

بل طفلًا فقد حضنه الأوَّل..والأخير.


بينما إلياس شعر بأنَّ الهواء يضيق، وأنَّ شيئًا في صدره يتفتَّت ببطءٍ موجع، وكأنَّ حياته كلَّها تُسحب من حوله، من عظامه، من لحمه..من قلبه.


ومن يخبر الناس…

أنَّ فقدان الأب ليس حدثًا..

بل انهيار عالمٍ كامل..

الأبُ ليس كلمة، الأب بداية الحياة..

أوَّل ضحكة، أوَّل سند، أوَّل يقين بأنَّ هذا العالم آمن.


ومن فقد أباه، فقد نصف الحياة..

ونصفه الآخر يمشي بعدها مشوَّهًا.


نزل برأسه على رأس مصطفى…

لم يكن يريد وداعًا.. كان يريد عودة.


خرجت منه "آااه"لم تكن صرخة..

لم تكن كلمة، كانت نارًا تخرج من قلبٍ يُنتَزع منه أبيه، وتحرق ماتبقَّى منه حيًّا.. وهو يعلم أن الموت علينا حق 


وصل يوسف من المطار إلى المشفى، كان يخطو بخطواته كأنَّه يريد أن يقطع المسافات بخطوةٍ واحدة، بينما تتحرَّك بجواره ضي دون حديث، فالوضع لا يحتمل شيئًا، توقَّف بالمصعد وقال:

_هتطلعي نطمِّن عليه وخلِّي السواق يوصَّلك للبيت، قعدتك هنا مالهاش لازمة، وكمان علشان ترتاحي من السفر.

احتضنت ذراعه وقالت:

_مش همشي غير معاك. 

خرج من المصعد وردَّ باعتراض: 

_ضي مش قادر أجادل لو سمحتي، قعدتك هنا مالهاش لازمة. 

_لأ ليها، جوزي هنا. 

_احتمال كبير نسافر، الموضوع هنا مش نافع

_علشان خاطري، خليني هنا لحد مانشوف عمو هيعمل ايه 


قبض على كفَّها وتحرَّك بصمت، فهو في حالة لايريد جدالها.

وصل إلى الغرفة التي يُحجز بها مصطفى، كان بالخارج بلال وميرال وغرام. 

اقتربت ميرال تضمُّ ابنها: 

_حمد الله على السلامة حبيبي. 

_بابا فين؟ 

أشار بلال للداخل، ثم سحب ذراعه وتحرَّك به:

_باباك كلِّم الدكتور، والدكتور رافض يجي، المهمِّ حاول تتواصل معاه وتقنعه

ربت على كتفه ودلف للداخل بعدما ألقى نظرةً على زوجته التي قبعت بأحضان والدتها. 

بالداخل دلف وكأنَّه يعلم حالة والده وعمِّه. 


مرَّت الأيام بل والأسابيع والحال كما هو، سوى من عملية مصطفى التي أتمَّها ودخوله في غيبوبة مابعد العملية رغم نجاحها، رغم سفره للخارج بطائرة مجهزة، بينما اختلف الوضع عند حمزة الذي فاق من غيبوبته وكلُّ مايردَّدُ على لسانه اسم محبوبته.

مسَّدت على خصلاته بحنانٍ أموميٍّ وهي تتابع همساته، دلف إليها إسحاق: 

_دينا روحي ارتاحي شوية وأنا هبات معاه. 

_مش مبطَّل يجيب سيرتها يا إسحاق..ماتكلم الياس 


جلس بجوارها وسحب رأسها تحت ذراعيه:

_الياس سافر، يقوم بالسلامة وبعد كدا نشوف اللي ربِّنا يقدِّمه. 

اعتدلت تنظر إليه: 

_يعني هتوافق على جوازه من شمس؟رفعت كفَّيها وتسلَّلت دموعها:

_إسحاق أنا عايزة سعادة ابني وبس، مش عايزة أي حاجة تانية..ولا مستقبل ولا ماضي، المهمِّ ابني يكون كويس. 

أومأ لها وتنهَّد بألمٍ قائلًا:

_ربِّنا يقدِّم اللي فيه الخير يا دينا. 

_إن شاءلله حبيبي. 


شهرًا آخر…


دلفت الممرِّضة بابتسامةٍ رقيقة:


_صباح الخير يا كابتن.


لم يرد..فقط رمش بعينيه ببطء، كأنَّ الكلام يحتاج قوَّة لم تعد تسكن جسده.. اقتربت تفحص نبضه، حرارته، مؤشِّر الجهاز…


_النهاردة أحسن بكتير..الدكتور هيجي دلوقتي.


رفع ذراعه بصعوبة..كأنَّه يرفع جبلًا:


_تليفون.


انحنت نحوه لتسمع، كرَّرها بأضعفِ من الهمس…

فأخرجت هاتفها وقالت برفق:


_والدتك كانت هنا..لسة نازلة من دقيقتين، لو عايز أكلِّمها تيجي فورًا.


هزَّ رأسه، هو لا يريد أمِّه..

هو يريد قلبه.


أمسك الهاتف بيدٍ مرتعشة…

كتب الرقم الذي يحفظه القلب قبل العقل وانتظر للردّ.


عند شمس:


كانت مستغرقةً بنومٍ ثقيل، كأنَّ الجسد يعرف مالا تقوله الروح.

رنَّ الهاتف طويلًا…

دخل إلياس الغرفة يطمئنُّ عليها.


جلس بجوارها، مرَّر أصابعه على خصلاتها..انحنى وطبع قبلةً على جبينها…

فتحت عينيها تبتسم له، تلك الابتسامة التي تشبه أمَّها تمامًا.


_صباح الخير يا بابا.


_صباح النور يا روحي…تليفونِك بيرِن من بدري، إنتي كويسة؟


_الحمدُ لله…

نظرت للساعة قليلًا، تنهَّدت:


_عندي محاضرة بعد ساعتين..بس بجد مليش نفس أروح، ممكن أروَّح بكرة.


سحبها إلى حضنه دون أن يسأل لماذا:


_ولو مش عايزة الكليَّة خالص… متروحيش.


ضحكت وهي تُخفي وجهها في صدره:


_لا مش للدرجة دي…النهاردة بس.


ضحك عليها ضحكةً هادئة،

ثم أمسك وجهها بين كفَّيه:


_ضحكتِك عندي بمال الدنيا يا شمس.


قبَّلته على وجنتيه تغمز بخفَّة:


_ده علشان شموسة..ولَّا علشان شبه مامي؟


_حد جايب في سيرتي؟


قالتها ميرال وهي تدخل الغرفة بابتسامةٍ هادئة.


رنَّ الهاتف مرَّةً أخرى.


مدَّ إلياس يده والتقطه..

نظر إلى الشاشة التي ظهر الاسم عليها من خلال معرفة الأسماء:


"صفاء." 

_مين صفاء دي؟


هزَّت كتفها بعدم معرفة، وكأنَّ السؤال لا يعنيها، لكن إلياس أشار لها أن تردّ.

التقطت الهاتف، وضعت الهاتف قرب أذنها، وقالت بصوتها الناعم:


_السلام عليكم…


لم تنتظر كثيرًا حتى جاء صوته…

ذلك الصوت الذي تعرفه الروح قبل الأذن:


_وحشتيني.


تجمَّدت..فالكلمة لم تكن حرفًا..كانت سهمًا.. ارتفعت عيناها سريعًا إلى والدها.. رأت عيونه المستفهمة.. 


تابع حمزة حديثه:


_هستنَّاكي قدَّام الجامعة…

عارف عندك محاضرة بعد ساعتين…

ولو ماشفِتِكيش، هزعَّلك.

شمس..سمعاني؟


جفَّ حلقها..صوته على الهاتف، نظرات والدها..عيون ميرال التي تراقبها..

والقلب بينهما يختنق ولا يجد مخرجًا.


_شمس..حبيبتي، هاتي التليفون مين اللي بيكلِّمك؟


قالتها ميرال التي اقتربت، لكنَّ شمس سحبت الهاتف للخلف كمن يحمي شيئًا سينكشف... ارتجفت يدها، وارتجف الصوت مع خوفها من أن ينكشف أنَّه هو.


_دي..صحبتي..أقصد..أختها…

بتقولِّي عندنا محاضرة مهمَّة…فكانت..كانت بتسألني هاروح ولَّا لأ علشان تقنع أختها.


كانت الكلمات تتعثَّر لأنَّها تكذب بقلبٍ يرتجف.


مسحت ميرال على شعر ابنتها في حنان، غير مدركةٍ لِما تخفيه:


_وطبعًا بعد تخطيطك إنِّك هتنامي وتغيبي عن المحاضرة، زي بابا ماهو مدلَّعك.


قالتها ميرال وضحكت  ضحكةً صغيرة خرجت من فمها..

بينما شعرت شمس بالاختناق كأنها لا تتنفَّس.


أغلقت الهاتف..

حاولت أن تنظِّم أنفاسها..

لكنَّ صدرها كان ضيِّقًا..ضيِّقًا جدًّا…

حتى إنَّها لم تستطع الكلام فاكتفت بتحريك رأسها.


اعتدل إلياس وقال بصوتٍ هادئ، لكنَّه مراقب:


_لو هتروحي..خلِّي السوَّاق معاكي..

أنا هعدِّي على عمِّك قبل ماأروح المستشفى.


أومأت بلا كلمة.


خرجت ميرال خلفه.

ظلَّت شمس وحدها…


هنا تركت الهواء يدخل أخيرًا، كأنَّها كانت غارقةً في الماء..

أمسكت الهاتف بيدٍ باردة، همست:


_معقول..خرج من المستشفى؟


ارتسمت ابتسامةٌ صغيرة…

ابتسامةُ وجعٍ لا فرح.


تذكَّرت يوم ذهبت لزيارته…


بعد توسُّلاتها لميرال، وبعد سفر والدها مع مصطفى ويوسف، وإفاقته بعد زيارتها..ابتسمت، وتذكَّرت عينيه يومها..التي أقسمت أنَّها له حتى لو باع العالم.

أغمضت عيناها مبتسمة: 

_معقول حبِّيته؟!


عند يوسف: 

بعد عودته من السفر بيوم، لم يذهب لمنزله بسبب مرافقته لمصطفى بالمشفى للاطمئنان على حالته، ولكنَّه أصرَّ على ذهاب والده للرَّاحة، تحرَّك إلياس إلى منزله مع إسلام على وعدٍ له أنَّه سيعود بالمساء، وهو يعود إلى منزله الذي غادره منذ أكثر من شهر.


جمع أشيائه لاستعداده للعملية، استمع إلى رنين هاتفه، نظر إلى الشاشة التي أنيرت باسمها، سحب نفسًا يحاول أن يسيطر على ارتعاشة دواخله، فلقد فاض القلب بالاشتياق، فمنذ عملية مصطفى ومرافقته له اتَّخذها هروبًا منها، بعدما ضعف وانهار كيانه أمامها، رفع الهاتف وأجابها:

_أيوة يا ضي؟

_الحمدلله إنَّك لسة فاكر اسمي. 

_ضي أنا مشغول وعندي عملية، ممكن نتكلم بعد العملية، اسف بجد مشغول 

صرخت به:

_أه وبعدين يا دكتور، تقدر تقولِّي هنفضل على الوضع دا لإمتى، طيب إنتَ رجعت من السفر إمبارح بالليل، هل قولت أشوف مراتي اللي هتموت من القلق عليَّا؟.. 

_ضي إنتي شايفة الوضع، إحنا جينا من المطار على المستشفى على طول، مكنش ينفع أسيب جدُّو لحدِّ مانطمِّن على وضعه. 

صرخت به بعدما فقدت السيطرة:

_وأنا فين من حياتك يادكتور، قولِّي أنا  فين؟..شهرين سفر،  ويوم ماترجع ماتحاولش تطمِّن عليَّا. 

_طيب ممكن تهدي، انا كلمتك اول ماوصلت، بس ماردتيش 

_لاني زعلانة، فكرتك هتيجي على البيت

_ضي ممكن نتكلم بعدين،  عندي عملية مهمة دلوقتي وعايز تركيز بالليل نتكلِّم، أنا مضغوط وإنتي عارفة.

_إنتَ مش مضغوط يا يوسف، إنتَ عايز تهرب منِّي، بدليل جيت من إمبارح ماحاولتش تيجي، لو اهمك كنت تركت كل حاجة، يوسف أنا تعبت من العلاقة دي، حاولت والله بس تعبت، أنا خلاص قرَّرت ننفصل أحسن، ولحدِّ لمَّا تبقى جاهز أنا في بيت أبويا، مش مستعدَّة أجري ورا واحد كلِّ اللي بيعمله بيصدِّني وخلاص. 

قالتها وأغلقت الهاتف دون أن تسمع ردِّه.

نهضت رولا من جوارها

_دقيقة وهتلاقيه هنا، عبيطة معرفش ازاي تسكتي اصلا على كدا، انتي ناسية انك لسة عروسة

_دماغي هتتفجر يارولا، أنا عذرته بعد ماقرأت مذكراته، بس طاقتي خلصت، شهرين وكأني مش مراته 

ربتت على ظهرها 

_هو بيحبك صدقيني، بس الراجل مش بيحب اللي دايما تقول حاضر ونعم، شوية وهتلاقيه جاي، المهم لازم امشي عندي مقابلة شغل، واخوكي اتأخر كالعادة 

عند يوسف نظر للهاتف الذي أُغلق، شعر بتوقُّف أنفاسه..تراجع على المقعد محاولًا أن يسيطر على ارتعاشة أعصابه، قاطعه دلوف الممرضة مرَّةً أخرى:

_جاهز يا دكتور؟ دكتور حمدي وصل. 

أومأ لها دون حديث يحاول أن يسيطر على آلامه من كلماتها التي تصدح بأذنه كإنذار حرب، نهض بهدوء يهمس لنفسه:

_انسى..إنتَ دلوقتي بين إيدك حياة شخص.


خرج من مكتبه بخطواتٍ واثقة واعتدادٍ لا يخفى، هيبته تُوحي لكلِّ من يراه أنَّه تجاوز الأربعين، بينما لم يزل في ربيع الثامنة والعشرين.

تلقَّاه أحد الأطباء العاملين تحت إشرافه، ملامحه متوتِّرة:

-دكتور يوسف، حضرتك اتأخَّرت.. المريض جاهز للعملية.


أومأ يوسف بجديَّة، وقال بنبرة هادئة لكنَّها تحمل حزمًا:

-آسف..خمس دقايق وهكون في غرفة العمليات.


توقَّف..أغمض عينيه ثوانٍ يسحب نفسًا عميقًا، كأنَّما يستدعي كلَّ ماتبقَّى فيه من قوَّة.

فتح عينيه وعلى جفنيه الأرق، وقال بنبرةٍ منخفضةٍ ثابتة:


"ماينفعش تغلط..قلبه أمانة في رقبتك."


ومضى بخطواته..خطوات يُعرف أنَّها أحيانًا تُقرِّر حياة.


دلف فأومأ لأستاذه الذي كان يعطي تعليماته بنبرةٍ حاسمة لبعض الممرِّضات، بعد أن أنهى طبيب التخدير حقن المريض بالمخدِّر.

اقترب يوسف من صدر المريض… عيناه تستقرَّ


المحذوف من الفصل👇🏼


بعد عودته من السفر بيوم، لم يذهب لمنزله بسبب مرافقته لمصطفى بالمشفى للاطمئنان على حالته، ولكنَّه أصرَّ على ذهاب والده للرَّاحة، تحرَّك إلياس إلى منزله مع إسلام على وعدٍ له أنَّه سيعود بالمساء، وهو يعود إلى منزله الذي غادره منذ أكثر من شهر.


جمع أشيائه لاستعداده للعملية، استمع إلى رنين هاتفه، نظر إلى الشاشة التي أنيرت باسمها، سحب نفسًا يحاول أن يسيطر على ارتعاشة دواخله، فلقد فاض القلب بالاشتياق، فمنذ عملية مصطفى ومرافقته له اتَّخذها هروبًا منها، بعدما ضعف وانهار كيانه أمامها، رفع الهاتف وأجابها:

_أيوة يا ضي؟

_الحمدلله إنَّك لسة فاكر اسمي. 

_ضي أنا مشغول وعندي عملية، ممكن نتكلم بعد العملية، اسف بجد مشغول 

صرخت به:

_أه وبعدين يا دكتور، تقدر تقولِّي هنفضل على الوضع دا لإمتى، طيب إنتَ رجعت من السفر إمبارح بالليل، هل قولت أشوف مراتي اللي هتموت من القلق عليَّا؟.. 

_ضي إنتي شايفة الوضع، إحنا جينا من المطار على المستشفى على طول، مكنش ينفع أسيب جدُّو لحدِّ مانطمِّن على وضعه. 

صرخت به بعدما فقدت السيطرة:

_وأنا فين من حياتك يادكتور، قولِّي أنا فين؟..شهرين سفر، ويوم ماترجع ماتحاولش تطمِّن عليَّا. 

_طيب ممكن تهدي، انا كلمتك اول ماوصلت، بس ماردتيش 

_لاني زعلانة، فكرتك هتيجي على البيت

_ضي ممكن نتكلم بعدين، عندي عملية مهمة دلوقتي وعايز تركيز بالليل نتكلِّم، أنا مضغوط وإنتي عارفة.

_إنتَ مش مضغوط يا يوسف، إنتَ عايز تهرب منِّي، بدليل جيت من إمبارح ماحاولتش تيجي، لو اهمك كنت تركت كل حاجة، يوسف أنا تعبت من العلاقة دي، حاولت والله بس تعبت، أنا خلاص قرَّرت ننفصل أحسن، ولحدِّ لمَّا تبقى جاهز أنا في بيت أبويا، مش مستعدَّة أجري ورا واحد كلِّ اللي بيعمله بيصدِّني وخلاص. 

قالتها وأغلقت الهاتف دون أن تسمع ردِّه.

نهضت رولا من جوارها

_دقيقة وهتلاقيه هنا، عبيطة معرفش ازاي تسكتي اصلا على كدا، انتي ناسية انك لسة عروسة

_دماغي هتتفجر يارولا، أنا عذرته بعد ماقرأت مذكراته، بس طاقتي خلصت، شهرين وكأني مش مراته 

ربتت على ظهرها 

_هو بيحبك صدقيني، بس الراجل مش بيحب اللي دايما تقول حاضر ونعم، شوية وهتلاقيه جاي، المهم لازم امشي عندي مقابلة شغل، واخوكي اتأخر كالعادة 

عند يوسف نظر للهاتف الذي أُغلق، شعر بتوقُّف أنفاسه..تراجع على المقعد محاولًا أن يسيطر على ارتعاشة أعصابه، قاطعه دلوف الممرضة مرَّةً أخرى:

_جاهز يا دكتور؟ دكتور حمدي وصل. 

أومأ لها دون حديث يحاول أن يسيطر على آلامه من كلماتها التي تصدح بأذنه كإنذار حرب، نهض بهدوء يهمس لنفسه:

_انسى..إنتَ دلوقتي بين إيدك حياة شخص.


خرج من مكتبه بخطواتٍ واثقة واعتدادٍ لا يخفى، هيبته تُوحي لكلِّ من يراه أنَّه تجاوز الأربعين، بينما لم يزل في ربيع الثامنة والعشرين.

تلقَّاه أحد الأطباء العاملين تحت إشرافه، ملامحه متوتِّرة:

-دكتور يوسف، حضرتك اتأخَّرت.. المريض جاهز للعملية.


أومأ يوسف بجديَّة، وقال بنبرة هادئة لكنَّها تحمل حزمًا:

-آسف..خمس دقايق وهكون في غرفة العمليات.


توقَّف..أغمض عينيه ثوانٍ يسحب نفسًا عميقًا، كأنَّما يستدعي كلَّ ماتبقَّى فيه من قوَّة.

فتح عينيه وعلى جفنيه الأرق، وقال بنبرةٍ منخفضةٍ ثابتة:


"ماينفعش تغلط..قلبه أمانة في رقبتك."


ومضى بخطواته..خطوات يُعرف أنَّها أحيانًا تُقرِّر حياة.


دلف فأومأ لأستاذه الذي كان يعطي تعليماته بنبرةٍ حاسمة لبعض الممرِّضات، بعد أن أنهى طبيب التخدير حقن المريض بالمخدِّر.

اقترب يوسف من صدر المريض... عيناه تستقرَّان عليه كأنَّه يرى فيه أبًا، روحًا، اخًا

رفع الأدوات بين يديه، وهمس ببداية العملية:


"بسم الله..."


مرَّت الدقائق بتثاقل..حتى أصبحت ساعات تستهلك من أعصابه، من قلبه..

كلُّ خيط، كلُّ جرح، كلُّ حركةٍ كانت معركةٌ صامتةٌ بينه وبين الموت.


ولكن جسده..جسده كان يخونه.

بدأ الدوار يفقده الرؤية للحظات... صوته الداخلي يصرخ: "اسند..امسك نفسك..كمِّل، لكن يده ارتعشت.


توقَّف، ونظر إلى أستاذه الذي التقط أداته قبل أن يكمل جملته، تراجع خطوةً بعدما ثقُلت أنفاسه، وتهاوت ملامحه..

حتى اصطدمت به الغمامة السوداء كستار يُسدَلُ فجأة.


و سقط، سقط بكلِّ وزنه وأوجاعه على أرض غرفة العمليات.

هرع إليه الممرِّضون..وأصوات متداخلة ترنو من بعيد:

دكتور يوسف!!

اغلق عيناه على صوتها 

_تعبت ولازم ننفصل


عند إلياس:

_الحمد لله المؤشرات بتستجيب، الولاد تعبوا الشهر دا جدًّا.

ربت أرسلان على ركبتيه: 

_الحمدلله حبيبي ربِّنا يبارك في صحِّته.

_الحمد لله عارف الموت علينا حق ياأرسلان، بس الفراق صعب، الحمدلله، بس مش معنى كدا إنُّه خلاص بقى كويس، هوَّ طلب يكمِّل علاجه بالمستشفى هنا في مصر، قطع حديثه عندما وجد ضي تركض إلى سيارتها:


-فيه إيه، ضي بتجري كدا ليه؟!!

توقَّف أرسلان يهزُّ رأسه بجهل وردّ:

-معرفش..استنى هكلِّمها. 

لحظات وأجابت والدها: 

-مالك يا بابا بتجري ليه كدا؟! 

-يوسف أُغمى عليه وهوَّ في العمليات، بلال لسة مكلِّمني. 

-يعني إيه؟! 

-معرفش..قالتها صارخة وهي تقود سيارتها، اتَّجه بنظره إلى إلياس الذي يتابع حديثه بصمت، ثم سألها: 

-العملية فين، المستشفى ولَّا في الجامعة؟ 

-المستشفى يا بابا. 

-طيب اهدي يا بابا وخلِّي بالك وإنتي سايقة وأنا وعمِّك وراكي.

نهض إلياس من مكانه يتطلَّع له باستفهام: 

-مفيش حبيبي متقلقش، أكيد مجرَّد إجهاد، إنتَ عارف عمليات القلب بتاخد وقت، وكمان سفره كان طويل، وانت لسة بتقول... قاطعه الياس بحزم

-إنتَ بتذوَّق في الكلام ليه..إيه اللي حصل؟..لم يكمل حديثه بعدما وجد آسر يقود سيارته بسرعةٍ جنونيَّة وخلفه شمس.

تكملة الرواية من هناااااااا 

 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا




تعليقات

التنقل السريع
    close