القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل التاسع والأربعون 49بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

 

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل التاسع والأربعون 49بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات






رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل التاسع والأربعون 49بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات




 


 


 


٤٩ ـ كذبة بيضاء




أحيانًا نُقنع أنفسنا أن الكذبة البيضاء لا تُؤذي،

وأنها مجرّد محاولة لتجميل الحقيقة أو لتسكين وجعٍ عابر.

لكنها تبقى كذبة، مهما تلونت بالنيات الطيبة.

تُنقذ لحظة، لكنها تجرح عُمرًا.

تُغلق باب الخلاف، لكنها تفتح ألف بابٍ للشك.

فالكذب، حتى وإن بدا ناعمًا كالحرير،

يظل هشًّا، ينهار عند أول ريحٍ من الصدق،

لأن ما يُبنى على زيفٍ، لا يمكن أن يصمد طويلًا.



~~~~~~~~~~~~~~


ـ عاصم... أنا حامل!


تلك الكلمات الثلاث بالرغم من بساطتها، ولكنها سقطت على أذنه كالصاعقة، كأنها اخترقت سكون اللحظة، وجمّدته في موضعه.


نظر إليها بذهولٍ تام، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الدهشة والارتباك معًا، كأن الهواء قد سُحب من صدره فجأة، ولم يعد قادرًا على التقاط أنفاسه.


ظلّ صامتًا لثوانٍ امتدت كدهر، ثم تمتم بصوتٍ خافتٍ مرتجف، خرج كأنما يُنتزع من أعماقه:

ـ حامل؟!!


أومأت برأسها بارتباكٍ وهي تتحرك ببطء لتجلس نصف جلسة، تراقبه بعينين تملؤهما الحيرة والقلق.


كان الشرود يكسو وجهه، وعيناه لا تزالان معلّقتين بها في صمتٍ يفيض بالذهول. ثم تمتم بنبرةٍ خافتةٍ وكأنما يرجوها :

ـ بجد ؟


هزّت رأسها مرةً أخرى، وابتسمت ابتسامة هادئة، بينما تسلّل إلى قلبها إحساسٌ عميق بالشفقة عليه، وهي ترى ملامحه تتبدّل بين الدهشة والفرحة والارتباك.


أخفض عيناه تلقائيا نحو بطنها، ثم رفع بصره إليها من جديد، وصوته بالكاد يُسمع وهو يقول:

ـ من امتى؟ قصدي.. من امتى وانتي عارفة بالحمل ؟


ابتلعت ريقها بارتباكٍ، والتفتت بعينيها بعيدًا عنه للحظات، كأنها تبحث عن الكلمات التي قد تنقذها من مأزقٍ لم تستعد له بعد، بينما قلبها يضجّ بالأسئلة:

هل تُصارحه بالحقيقة كاملة؟ أم تكتفي بجزءٍ منها لتجنّب العاصفة التي قد تندلع بينهما؟


فكّرت للحظة وهي تتأمل ملامحه المرتبكة، فغمرها الخوف من أن تبوح بكل شيء.

كانت تعرفه جيدًا، تعرف حدّة انفعاله حين يشعر بالاستخفاف به أو قلة الثقة، وتدرك أن أي كلمة غير محسوبة الآن قد تهدم ما بدأ يتماسك بينهما بصعوبة.


لذا، في لحظة ضعف، قررت أن تُخفي الحقيقة، فإن أخبرته بأنها كانت تعلم بحملها منذ فترة، حتى وإن كانت قصيرة، فسيغضب بالتأكيد ويسألها لماذا أخفت عنه الأمر، ولن تستطيع وقتها أن تشرح له شكوكها التي كانت تنهش عقلها وظنونها التي كبّلت لسانها.

وإن صارحته بأنها لم تُرد إخباره إلا بعد أن تأكدت من براءته، فسيعتبرها إهانة، وسيتهمها بأنها لم تثق به يومًا.


تنهدت بإرهاق وقالت:

ـ عرفت وإحنا في أثينا .. لما كنا على اليخت و دُخت فجأة بعدها رحت لدكتورة وعرفت إني حامل .



لم يكن قرارًا صائبًا، لكنها خافت أن تخسره، خافت من ردة فعله أكثر من كل مرة .


كانت تدرك في أعماقها أن الصدق هو الطريق الوحيد للنجاة، لكنّ الخوف أعمى بصيرتها، فاختارت الصمت .


اقترب منها، وأحاط وجهها بين كفيه برقةٍ تحمل كل مشاعر الحب والامتنان، ثم قال بصوتٍ خافتٍ يختلط بالدهشة والحنان:

ـ أنا كنت حاسس إن فيكي حاجة متغيّرة، بقيتي عصبية وقماصة ودي مش طبيعتك.


تنهدت بهدوء، وهزّت رأسها بابتسامةٍ واهنة، فما كان منه إلا أن انحنى نحوها ليمنح ثغرها قبلةً شغوفة، قبلةً حملت في طيّاتها شكره وامتنانه، ودفء اللحظة التي لم يتخيلها إلا حلمًا بعيدًا.


الآن… شعر بأن شيئًا بداخله يُشفى… جرحًا عميقًا يلتئم.


شعر حيالها بالامتنان.. نعم، الامتنان هو ما يفيض في صدره الآن.

امتنانٌ لأنها تحمل بداخها جزءًا منه، دمًا من دمه.

طفلٌ منه هو… حلمٌ طالما راوده في الليالي القاحلة التي كان ينام فيها على جمر الفقد والذكريات.


كان يتوق لطفلٍ يسمّيه حازم، ليكون له عوضًا عن أخيه الذي رحل.

وها هي الآن، دون أن تدري، تمنحه أعظم ما يمكن أن يُوهب لإنسان.. بداية جديدة، وسببًا للحياة.


أخذ يحدق فيها بعينين غارقتين بالعشق، ثم بدأ يغمر وجهها بقبلاتٍ متلاحقة، قبلاتٍ تشبه في رقتها ذلك النسيم الذي داعب قلبه حين تلقى ذلك الخبر .


ثم تمدّد بجوارها، وأسند رأسه على بطنها، أحاط خصرها بذراعيه، فنزلت من عينيه دمعة دافئة، انسابت حتى لامست بشرتها .. وهمس بصوتٍ خفيض:

ـ بكرة نشوف دكتور ونروح له .. لازم أشوفه .


ابتسمت بحنان، وربتت على وجنته بكفها الرقيق وقالت:

ـ مش هتشوف حاجه يا حبيبي، ده لسه صغير جدا يدوب بيتكون .


اهتزت ابتسامته وهو يطبع قبلة شغوفة فوق بطنها ويقول:

ـ مش مهم .. بردو عاوز أشوفه .


أومأت بابتسامة عريضة ، فأغمض عينيه وهو يركن رأسه إلى طفله من جديد، وقد اجتاحه شعور غامر بالانتشاء، كأن كل ما فقده في عمره قد عاد إليه دفعة واحدة.

شعر بأنه أخيرًا انتصر على كل وجعٍ قديم، وعلى كل خوفٍ كان يطارده، وأن الحياة – رغم قسوتها – منَحته لحظةً يستحقها.


كان يحتضنها كمن يحتضن المعجزة، يتنفسها بعمق، ويبتسم كطفلٍ ظفر بأمانٍ طال انتظاره.


غير أنها، وهي تغمض عينيها في تلك اللحظة، وتمرر يداها بين خصلات شعره بحنان، شعرت بوخزٍ خفي في قلبها، يهمس بصوتٍ خافت:

ما يُشيَّد على الكذب، لا يصمد طويلًا... يكفي أن تمرّ عليه عاصفة واحدة، ليتهاوى كله.


༺═────────────────═༻


منذ أن غادر عمر الدار تاركًا وراءه ميرال، لم تهدأ أنفاسه، ولم يجد للطريق نهاية. ظلّ يقود سيارته في دوائر لا تنتهي، كأنما يحاول الهرب من صوته الداخلي الذي يطارده أينما اتجه. كان يشعر بثقلٍ يجثم على صدره، ثقل الذنب الذي يأكل روحه ببطء، وهاجس الخوف الذي لا يفارقه من أن يأتي اليوم الذي تكتشف فيه ميرال كذبه الصغير… ذلك الكذب الذي ارتكبه ببساطة، لكنه يعلم يقينًا أنه سيكون جرحًا عميقًا في قلبها الطاهر.


كان يعرفها جيدًا، يعرف كم هي بريئة ونقيّة، وكم أن الغشّ في عالمها جريمة لا تُغتفر. ولو حدث واكتشفت الحقيقة، فلن تُسامحه، مهما كانت نواياه.

لقد كانت ميرال بالنسبة إليه أكثر من مجرد فتاة؛ كانت طوق النجاة الذي أرسله القدر لإنقاذه من تيهٍ طال أمده، من ضياعٍ يوشك أن يبتلعه تمامًا. هي النور الذي يرى من خلاله ملامح الأمان، والدفء الذي يطفئ صقيع وحدته القديمة.


لكنه، رغم كل ذلك، وجد نفسه سجين الكذب الذي لجأ إليه خوفًا من فقدانها. وكلّما فكر في مواجهتها بالحقيقة، ارتجف قلبه كطفلٍ خائف من الاعتراف بخطيئته.

فهو لا يريد أن يخسرها… ولا يستطيع أن يخدعها أكثر.

وهكذا ظلّ عالقًا بين ذنبٍ ينهشه، وخوفٍ يكمّمه، وسكون الليل الذي يشهد على عجزه عن أن يكون صادقًا كما كانت هي دومًا.


قرر أخيرًا أن يتجه نحو الفيلا. لم يكن ذاهبًا ليستأذن أو يطلب رضاهم، بل ليُعلن قراره بنفسه. لم يعد الصمت يجديه، ولا التردد يحميه. لقد حان وقت المواجهة.

سيقف أمام أبيه وأمه ويقولها بوضوح لا يقبل الجدال:

إنه يحب ميرال، وسيخطبها.


كان يعلم أن تلك الخطوة لن تمرّ بسهولة، وأنها ستفتح عليه أبوابًا من الرفض والغضب وربما القطيعة. لكنه — ولأول مرة — لم يشعر بالخوف، بل بإصرارٍ غريب يمنحه قوة لم يعرفها من قبل.

إنها ليست مجرد فتاة أحبها، بل هي الاختبار الحقيقي لرجولته وصدقه، والفرصة الوحيدة ليبرهن أنه قادر على تحمّل المسؤولية التي منحتها له ميرال بثقتها.


زاد من سرعة السيارة، كأنما يحاول أن يسبق تردده، وتوهّجت عيناه بإصرارٍ صامت. هذه المرة، لن يهرب.

هذه المرة، سيقف في وجه الجميع… من أجلها هي.


وبعد دقائق من القيادة المجنونة، توقّف عمر أمام الفيلا فجأة، مدّ يده يطفئ المحرك، وبقي للحظة ممسكًا بالمقود، كأنما يستمد منه بعض الثبات.

زفر بقوة، تمتم لنفسه أنه لا تراجع ولا استسلام… !!


فتح باب السيارة بخطواتٍ متوترة، نزل وهو يحاول أن يخفي اضطرابه خلف ملامح جامدة. كانت يداه ترتجفان قليلًا، لكنه أجبر نفسه على التماسك.


دلف إلى الحديقة، وعيناه تتفحّصان المكان، حتى لمح والده جالسًا على الكرسي المتحرك في طرف الحديقة، يحتسي قهوته بهدوءٍ شديد، وكأن لا شيء في هذا العالم قادر على أن يزعزع وقاره أو سلطته.


توقف عمر للحظة، راقبه من بعيد، فاشتعل بداخله مزيجٌ غريب من الريبة والخوف الذي لم يمت رغم كل شيء.


تنفّس بعمق، شدّ كتفيه، ومشى بخطواتٍ ثابتة، حتى صار أمامه تمامًا.


رفع سالم نظره ببطء، التقت عيناهما، وصمتٌ ثقيل هبط كستارٍ يفصل بينهما، إلى أن قطعه عمر وهو يقول :

ـ مساء الخير ..


انحنى سالم في هدوء، وأسند قدح القهوة على الطاولة الصغيرة أمامه، ثم رفع رأسه إلى ابنه من جديد، وعيناه تلمعان بسخريةٍ باردة، وقال بنبرةٍ متعالية:

ـ يادي النور.. عمر بيه بنفسه جاي يطمن عليّا!


قاطعه عمر بحدةٍ لم تخففها رهبة الموقف:

ـ لأ، مش جاي أطمن عليك.. جايلك في موضوع.


رمقه سالم بنظرةٍ طويلة متفحصة، ثم أطلق زفرةً بطيئة، وتحدث بسخريةٍ ثقيلة:

ـ أؤمرني.. خير؟ عايز فلوس؟


ألقاها وفي نبرته استخفافٌ متعمّد، كأنّه يهوّن من شأنه أمام نفسه قبل غيره.

لكن عمر لم يمنحه لذة الرد الغاضب، واكتفى بنبرةٍ صارمةٍ قصيرة:

ـ لأ، شكرًا.. مش عايز منك حاجة.


أومأ سالم بابتسامةٍ مائلة وقال ببرودٍ مستفزّ:

ـ طب كويس، طمّنتني إنك بقيت راجل ومش محتاج لي، وقادر تعتمد على نفسك.. بصراحة شِلت عني الذنب.


تطلّع إليه عمر بحيرةٍ خافتة، لم يفهم ما يقصده تحديدًا، لكنه لم يشأ أن يطيل في الجدل. تنفّس بعمق، ثم قال بثباتٍ جاف:

ـ أنا جيت علشان أبلغك بقرار خدته.


رفع سالم حاجبيه متصنعًا الاهتمام، وقال وهو يلوّح بيده في تظاهرٍ بالترحيب:

ـ يا سلام! اتفضل بلّغني.


كبح عمر شعوره بالضيق واستهزاء والده به، وأكمل بجديةٍ متزنة:

ـ أنا نويت أتجوز.


ظل سالم ينظر إليه لحظاتٍ دون أن يطرف له جفن، ملامحه ساكنة كأنها وجه تمثال حجري، ثم فجأة انفجر ضاحكًا بقوة، ضحكة أججت في نفس عمر الغضب والمهانة، وأشعلت بداخله شعورًا بالضيق الممزوج بالمرارة.


ـ هو إيه اللي بيضحك مش فاهم ؟! ده أنا حتى لأول مرة أتكلم بالجدية دي .


قالها عمر متسائلا بضيق شديد ، وتابع:

ـ على العموم أنا جاي أبلغك من باب الاحترام يعني.. لكن أنا واخد قرار خلاص ومش هرجع فيه .


ـ ومين بقا صاحبة النصيب ؟!


ـ ميرال .. بنت كويسة ومحترمة شغالة مشرفة في الدار بتاعة فريد .


مط سالم شفتيه باستنكار وقال :

ـ أكيد يعني .. مش معقولة هتكون دكتورة ولا مهندسة .. ماهو إنت واخد أخوك الكبير قدوة ، ولما قدوتك يتجوز حرامية يبقا كتر خيرك إنك قررت ترقى بمستوى العيلة شوية وتجيبلنا مشرفة في دار .


أومأ عمر متصنعًا التفهم وقال بهدوء يناقض شعوره :

ـ أهو على الأقل محدش فينا فكر يتدنى لمستوى الخدامات .


طالعهُ سالم بصدمة جعلت عينيه تتسعان، وتتسمران عليه قليلا، ثم أشاح عنه بمنتهى الثبات وقال :

ـ عندك حق ..


حمحم ليجلي حلقه بهدوء، ثم تساءل:

ـ ويا ترى بقا العروسة دي بتحبك وعاوزة تتجوزك علشان شخصك الكريم ولا علشان إنت عمر سالم مرسال الشاب الغني اللي هينتشلها من الفقر ..


ابتسم عمر ابتسامة ساخرة، وقال :

ـ للأسف ميرال مش زي ما انت متخيل .. ميفرقش معاها أنا مين وابن مين ..


ـ متأكد ؟


ـ جدا ..


مط شفتيه بهدوء وقال :

ـ طمنتني .. ده يأكد إنها هتفضل معاك وانت غني.. ووانت على الحديدة مفيش حيلتك جنية … أتمنى يعني .



ـ متشغلش بال حضرتك ، عن إذنك عشان أطلع أبلغ نادية هانم .


أشار إليه والده بترحاب وقال :

ـ اتفضل الله يكون في عونك ..


غادر عمر المكان بخطواتٍ متوترة، يختلط فيها الارتباك بالدهشة، إذ كان يتوقع أن يثور والده ويقلب الأمور رأسًا على عقب كعادته، لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا. فوجئ ببرودٍ وهدوءٍ لم يكونا في الحسبان، بقبولٍ ظاهري لم يدرك أسبابه، وهو ما بعث في نفسه شيئًا من الطمأنينة، وجعله يظنّ أن ما تبقّى أمامه أهون مما تخيّل.


أما سالم، فبمجرد أن غادر ابنه، انقلبت ملامحه إلى طيفٍ من الغضب المكتوم. أخذ يرغي ويزبد في سكون، وهو يستعيد كلمات عمر ونبراته الجريئة التي خلت من الخوف والرهبة التي اعتادها منه. كانت تلك الجرأة كافية لتشعل بداخله نيران السخط. ومع ذلك، حاول أن يهدّئ نفسه ببعض المنطق البارد، متمتمًا في سره أن ما يفكر فيه عمر لن يتمّ أبدًا. فبمجرد أن تدرك تلك الفتاة أنه حُرم من ميراث والده، وأنه أصبح لا يملك شيئًا، لا شكّ أنها ستبتعد عنه بنفسها، دون حاجة إلى أي مجادلةٍ أو صدامٍ لا طائل منه.


صعد عمر إلى غرفة والدته، طرق الباب ودخل بهدوء، فوجدها تجلس في سريرها، ترتدي نظارتها الطبية وتمسك كتابًا تقرأه في هدوء، ما إن رأته حتى ألقت الكتاب من يدها، وهمّت بالنهوض لتركض إليه، ولكنه استوقفها حين قال :

ـ خليكي مكانك لو سمحتي .


تجمدت مكانها فعلا، ونظرت إليه باستفهام يشوبه الاستنكار ، فقال :

ـ أنا جاي أتكلم معاكي كلمتين على السريع وماشي..


طالعته بهدوء يعكس غضبها وضيقها وخيبة أملها، وقالت :

ـ خير ؟ محتاج حاجة ؟


هنا انفجر غاضبًا وقد تبخر ثباته في لحظة وقال :

ـ هو أنا مينفعش يكون بيني وبينكم كلام غير لو محتاج فلوس ؟! للدرجة دي علاقتنا مشوهة وقايمة على الانتفاع فقط لا غير ؟


قطبت جبينها بتعجب وقالت:

ـ إيه لزمة الكلام ده دلوقتي يا عمر ؟! ومالك داخل علينا بزعابيبك كده ليه ؟!


زفر نفسًا مهمومًا، ثم قال :

ـ معاكي حق، الكلام ملوش لزمة لا دلوقتي ولا بعدين ، ما علينا.. أنا جيت أبلغك بقرار ، أنا هتجوز .


ـ تتجوز ؟


سألته باستنكار فأومأ وهو يرد منفعلا :

ـ هو ليه نفس ردة الفعل واحدة لما قولتلكم اني هتجوز ؟! هو أنا مفيش مني أمل للدرجة دي ولا ايه ؟


ـ لأ مش المقصود ، بس .. أصله قرار مفاجئ بصراحة .. ويا ترى ناوي تتجوز مين ؟! حد نعرفه ؟!


اهتزت حدقتيه قليلا بتوتر، وقال :

ـ لأ .. بنت اتعرفت عليها عن طريق الدار بتاعة فريد .


ضيقت عينيها باستفهام وسألته:

ـ مش فاهمة ، يعني بيزنس وومن مثلا وكانت في حفلة الافتتاح ولا كانت بتزور الأطفال وشفتها.. ؟



ـ لا ده ولا ده .. شغالة مشرفة هناك .


اتسعت عيناها بصدمة، وهتفت بحدة:

ـ مشرفة ؟!!


أومأ مؤكدا فقالت :

ـ إنت اتجننت ؟


ـ لسه .. بس على وشك .


نهضت من مكانها أخيرًا، واتجهت نحوه بحدة وهي تقول:

ـ عاوز تتجوز مشرفة ؟! إنت أهبل ؟! إنت مش عارف إنت مين وابن مين؟ أمك مين وأختك مين ؟! يا حبيبي إنت ليه مصمم تحط من قدرك بالطريقة دي ؟!


في تلك اللحظة .. كان حسن قد وصل إلى الڤيلا ، وبينما هو يصعد الدرج بهدوء استوقفه الشجار الحاد بين عمر ووالدته … تزامنًا مع وصول چيلان إلى الڤيلا حيث جاءت لتأخذ بقية أغراضها .


ما إن رآها حسن تصعد الدرج بهدوء متألق كالعادة، حتى انبثقت ابتسامته العريضة، وأخذ ينظر إليها متفحصًا هيئتها المهلكة وهو يردد بعبث صريح :

ـ يا مراحب .. الشرّاني بتاعنا وصل .


رمقته چيلان بهدوء ولم تأبه لكلماته، والتفتت نحو عمر ووالدتها وهي تتسائل :

ـ خير ؟! صوتكم عالي ليه ؟!


على الفور حاولت والدتها أن تستنجد بها، فهتفت وهي تشير نحوها :

ـ إلحقيني يا چيچي .. جيتي في وقتك ..


هزت چيلان رأسها باستفهام، فقالت نادية وهي تشير نحو عمر باستنكار :

ـ البيه قال عاوز يتجوز واحدة شغالة في الدار عند فريد .. يعني خدامة …


قالتها وهي تنظر بطرف عينها نحو حسن الذي تلقى الإشارة فورا، وابتلع ريقه بصمت وهو يحاول التحلي بالهدوء قدر المستطاع.


لكن نادية لم تتوقف عند ذلك، بل أطاحت بالقليل المتبقي من صبره وتريثه حين قالت :

ـ يظهر إن الجواز من الخدامات كيف عندكم في العيلة دي .


هنا نظر إليها حسن بنفاذ صبر، اشتعلت عيناه وتأججت، غامت نظراته وأظلمت.. برقت بشرٍ مستطر وهو يرد بثبات :

ـ ما بالراحة على نفسك يا خالتي أم عمر ، على الأقل الخدامات شغالين بشرفهم ، الدور والباقي على اللي عاملين فيها هوانم وهما لا مؤاخذة .. !


ونظر إلى چيلان التي تتابع الموقف بملل ونفاذ صبر، وغمز متسائلا بتلاعب :

ـ ولا أنا كلامي غلط يا چيلان هانم عبدالعزيز باشا ..


وأطرق برأسه متصنعًا التفكير، وهو يطرق بسبابته على ذقنه ويقول:

ـ المرحوم كان اسمه عبدالعزيز إيه … أه .. عبدالعزيز الهاجري ..


ونظر إلى نادية بطرف عينيه، مع ابتسامة ماكرة وهو يقول :

ـ أبويا حكالي عنه كتير .. 


ابتلعت نادية ريقها بوچل، اضطربت أنفاسها وطالعته بصدمة جمدت أطرافها، ولكنه لم يشأ أن يتمادى احترامًا لعمر الذي كان يتابع ذلك التصعيد بعدم فهم، وزفر بانفعال كاد يودي بحياتهم، هم بالانصراف ولكنها أشعلت فتيل الأزمة من جديد حين قالت موجهةً حديثها لعمر :

ـ مش غريب إنك تبص لواحدة زي دي .. إذا كان أخوك الكبير سبق واتجوز حرامية .. !



توقفت خطوات حسن فجأة، واستدار نحوها ببطء، يحدجها بنظرات جعلت ريقها ينزلق دون وعي، ثم نظر نحو عمر وأشهر سبابته في وجهه كَفوهة مدفع وقال :

ـ سكت أمك يا عمر عشان أنا مش عاوز أغلط ..


هم عمر بالحديث ولكن نادية اندفعت نحوه من جديد تتساءل بتهكم وغضب أشد، تنوي الإطاحة به:

ـ بكدب ولا بقول حاجة محصلتش ؟! هي مش نغم هانم بنت خالتك ومرات أخوك اللي عامل فيها لورد وياما هنا ياما هناك … تبقا نشالة بردو ؟ وعلى حد علمي إن ليها فيديو بيثبت ده مع باباك …


ـ لو سمحتي كفاية …. هتف بها عمر بنفاذ صبر … !!


فيما اندفع حسن نحوها من جديد بغضب أعمى ولكن عمر أسرع يواجهه وهو يقول بغضب :

ـ إنت هتعمل ايه يا حسن إنت كمان ؟! هتتهجم على أمي وأنا واقف ؟


نظر إليه حسن بغضب شديد، كتم غيظه بقوة حتى بدت عروقه بارزة في جبينه، وشرر الغضب يتطاير من عينيه، ثم هتف بصوتٍ يختنق بين الغضب والاحتدام:

ـ أنا عامل لك إنت اعتبار يا عمر .. ورحمة أمي في تربتها لولاك ما كنت هعديها وانت عارف .


توجه باندفاع نحو الدرج ليغادر، في حين نظرت إليه نادية بشيء من الانتصار إذ علمت أنها نجحت في إثارة غضبه، ورددت وهي تنظر إلى عمر:

ـ على العموم اعمل اللي تعمله، عايز تتجوز مشرفة اتجوز.. انشالله حتى تتجوز رد سجون ، مش فارقة.. وأنا عن نفسي همشي مع چيچي وهسيب البيت ده خلاص لأنه بقا لامم من الخدامين والبلطجية والنشالين ما يكفي ..


مرر حسن يده على وجهه بغضب ونظر إليها وهو بمنتصف الدرج وصاح غاضبًا :

ـ ما بلاش انتوا يا حرامية الخِزن ..


ونظر إلى چيلان التي التفتت إليه بحدة ، وقال :

ـ ولا إيه يا چيچي هانم ؟! هي الوالدة باشا مفيش عندها علم إنك سرقتي خزنة أبويا ومصورك فيديو انتي كمان ولا إيه ؟!


قطبت نادية جبينها بدهشة، وأخذت تنظر إليه في ذهول، ثم التفتت ببطء نحو ابنتها التي أثبتت صحة ما يقوله حسن بصمتها وصدمتها، وقالت :

ـ إيه التخريف اللي انت بتقوله ده ؟!


فأجابها حسن بحدة :

ـ والله اسألي بنتك وهي تجاوبك .. وإن كنت كداب تكدبني وأنا أثبت .


سحبت چيلان نفسًا عميقًا ملأت به رئتيها، قبل أن تسرع نحو غرفتها بغضب، وتقوم بصفق الباب خلفها بقوة .


بينما هتف حسن بصوتٍ حاسم، جهور بما يكفي لكي يصل إلى مسامع والده بالخارج، وكأنه يُصدر أمرًا لا يمكن تجاهله للجميع :

ـ من هنا ورايح.. أي حد هيفكر يتطاول عليا، أو يجيب سيرتي أو سيرة أي حد يخصني بالعاطل هياخد فوق دماغه، أيًا كان هو مين .


وأكمل طريقه نحو الخارج، ليلتقي بوالده الذي كان يجر كرسيه ليدخل الڤيلا .. وقف حسن أمامه، يرمقه بهدوء يخفي خلفه غصة خانقة، ثم تجاوزه وسار نحو سيارته بصمت، فيما ركض عمر فوق الدرج مسرعًا لكي يلحق به، تاركًا والدته تقف في منتصف الردهة تطالعه بخزيٍ وازدراء .



رأت سالم جالسًا على كرسيه، ينظر للأعلى، نحوها، وعينيه تلمعان بالكراهية والحقد .


همت بقول شيئا ما، ولكنها انتبهت لچيلان التي خرجت من غرفتها للتو، تجر حقيبة كبيرة خلفها، فقالت:

ـ استنيني يا چيچي .. أنا هجهز شنطتي وجاية معاكي .


ولكن چيلان طالعتها بهدوء، وبعينين تخضبتا بالغضب، ثم هتفت وهي تترجل :

ـ سوري يا نادية هانم بس أنا مشيت من هنا مخصوص علشان أتجنب المشاحنات و الـ stress اللي كنت عايشة فيه ، والحقيقة مش مستعدة دلوقتي أبدا أرجع لنقطة الصفر من تاني.. عن إذنك .


وقفت نادية تطالعها بصدمة كبيرة عقدت لسانها ومنعتها من النطق، تتبعت أثرها بعينين يترقرق فيهما الدمع ، ثم نظرت إلى سالم الذي أخذ يطالعها بعينين تلمع فيهما شماتة وانتصار لم تكن تتوقع رؤيتهما فيه. نزلت الدرج بخطوات هادئة، ثم توقفت أمامه، تحدّق فيه بعينين ثابتتين، تحاول أن تخفي توترها وتجمع شجاعتها لمواجهة تلك النظرة الحادة.


ــــــــــــــــــ


ـ حسن … !!


هتف بها عمر مناديًا حسن الذي شرع بإدارة محرك السيارة، فتوقف، وترجل من السيارة، وسار نحوه ...


وقفا سويًا ينظران لبعضهما البعض بصمت، فأسرع حسن يعانق أخاه، وهو يتمتم معتذرا :

ـ أنا آسف يا عمر ..


وقبّل أعلى رأسه وهو يضيف:

ـ حقك عليا بس أنا معرفتش أسكت أكتر من كده .


ـ أنا اللي آسف يا حسن .. عارف إنها تمادت أوي و زودتها .. وأنا كالعادة مش بعرف أخد أي رد فعل .


ربت حسن على كتفه وقال :

ـ متشغلش بالك .. بقولك إيه، تعالى نروح نسهر سوا في أي مكان ..


أومأ عمر برفض وقال :

ـ لأ، أنا مش في المود خالص.. تعالى نروح نسهر مع فريد أحسن .


طالعه حسن بشك وقال :

ـ إنت متأكد ؟ أنا بقول كفاية اللي عملناه الصبح .. مش عايزين نشيل ذنبه أكتر من كده .


ـ لا متقلقش .. أنا متأكد إنه محتاج لنا زي ما إحنا محتاجينه .


ـ طيب اللي تشوفه .. يلا هات عربيتك وحصلني .


هم كلا منهما بدخول سيارته، ولكن خروج چيلان من الڤيلا، تجر حقيبة كبيرة خلفها، هو ما استوقفهما .


طالعتهما چيلان بازدراء واضح، ثم توجهت نحو حقيبة السيارة، فتحتها وحاولت رفع الحقيبة فعجزت، حينها تقدم عمر نحوها مبادرّا، ولكنها استوقفته وهي تقول :

ـ خليك مكانك مش عاوزاك تساعدني!


حينها طالعها حسن مبتسما وهو يراقص حاجبيه مشاغبًا، قاصدًا استفزازها وهو يقول :

ـ طب أساعدك أنا ؟


رفعت الحقيبة كيفما اتفق، ونظرت إلى حسن بغِل واضح وهي تُخفض الباب بقوة أطلقت معها بعضًا من غضبها، ثم فتحت الحقيبة، وعاودت إغلاقها بنفس القوة من جديد ، وعاودت الكرة للمرة الثالثة، مما جعل حسن يطالعها بدهشة وهو يتمتم مصعوقًا :

ـ يخربيت جنانك !


تحركت نحو الباب، فتراجع عمر على الفور خطوة للخلف، فتحت الباب ودخلت السيارة ثم صفقت الباب وأدارت المحرك، وغادرت الڤيلا تحت أنظارهما .


ـ إيه المجنونة دي ؟! أنا مشفتش في حياتي واحدة بالجنان ده والله.. الله يكون في عونك.


زفر عمر باستياء، ودخل سيارته دون رد، وفعل حسن المثل، ثم انطلقا في طريقهما نحو منزل فريد .


ـــــــــــــــــــــــــــــــ


وقفت نادية تطالع سالم بنظراتٍ يتحد فيها الغضب بالحقد، وقالت باستنكار :

ـ شمتان فيا يا سالم مش كده ؟! من أول ما فريد عصي عليك وسابك ومشي وانت بتحقد عليا لأن ولادي جنبي وتحت طوعي .. كنت بشوف الغيرة والحقد في عينيك لأنك فاقد السيطرة على ابنك وأنا ولادي في حضني.. إنما دلوقتي.. بعد ما ماتت چوليا، وعمر اتمرد عليا.. وچيلان اللي كانت آخر أمل فاضلّي سابتني هي كمان.. شفت الشماتة في عينيك .


واقتربت منه خطوة، وقالت بحقدٍ دفين:

ـ لكن أنا مش هكون زيك أبدا يا سالم، انت ولادك بقوا يكرهوك من ظلمك ليهم وجبروتك اللي ملوش حدود، لكن أنا ولادي مش هيكرهوني، أيوة بيزعلوا وياخدوا جنب لكن أنا واثقة إنهم هيرجعوا لي تاني في أقرب وقت .


مالت شفتيه في ابتسامةٍ ساخرة، ثم قال بهدوء :

ـ احلمي يا نادية .. مش عيب، بس عايزك تعرفي حاجة أنا كمان عرفتها وأدركتها لكن متأخر أوي .. الطير المحبوس لما بيجيله الفرصة يخرج من القفص عمره ما بيفكر يرجع له تاني .


وحرّك كرسيه، واستدار ليتوجه إلى غرفة المكتب، وتركها تقف في مواجهة كلماته، تتأملها بقلبٍ نازف، وهي تقر رغمًا عنها… بصدقها !!


༺═────────────────═༻


كان فريد يجلس في غرفة المعيشة أمام حاسوبه المحمول، تحيط به أوراق متناثرة يحاول من خلالها فك خيوط ما حدث.

عيناه تتنقلان بين الملفات والملاحظات، بينما ذهنه يربط بين المواقف القديمة التي بدت له غامضة وغير منطقية.

كان يعيد ترتيب الأحداث في ذهنه بهدوء متوتر، ويدوّن ملاحظات دقيقة في مذكرته، كمن يجمع أجزاء لغزٍ معقد لم تُكتشف حقيقته بعد.


وفجأة، استمع الى رنين جرس الباب فنهض بخطواتٍ متثاقلة، يجرّ قدميه كما لو كان يسير فوق جمرٍ مشتعل، إلى أن بلغ الباب وفتحه ببطء. كانت هي تقف أمامه، تتأمله بقلقٍ بادٍ في ملامحها، وما إن وقعت عيناها على هيئته المُتعبة حتى سألت بصوتٍ مرتجف:

ـ فريد... أنت كويس ؟


لكن ملامحه لم تُجبها؛ الإرهاق العميق في وجهه، الشحوب الذي غزا بشرته، والعتمة التي خيّمت على عينيه، كلّها كانت أبلغ من أي رد.


لم ينطق بكلمة، فقط مدّ يده إليها وسحبها نحوه برفقٍ مثقلٍ بالألم، ضمّ رأسها إلى صدره، وأسندها إلى قلبه كمن يبحث عن طوق نجاةٍ من غرقٍ وشيك. أمال رأسه حتى لامس شعرها، وأغمض عينيه بقوة، كأن وجودها وحده يمنحه شيئًا من الاتزان المفقود.



بادَلته العناق بعفويةٍ دافئة، رفعت ذراعيها والتفّت بهما حوله في احتواءٍ كامل، كأنها تحاول أن تُعيد إليه أنفاسه.. ثم همست بصوتٍ خافتٍ يمتزج بين الخوف والحنان:

ـ كلمتك أكتر من مرة، ليه مش بترد عليا ؟ قلقت جدا ومعرفتش أنام إلا لما أطمن عليك .


ـ معلش مكنتش مركز مع الموبايل ..


رفعت عيناها إليه، وهي تقول برجاء:

ـ أنا حاسة بيك يا فريد … حاسة إن في حاجة مضايقاك، ومتأكدة إنك مخبّيها عني... علشان خاطري، طمّني، إيه اللي حصل؟


ـ أنا كويس .. متقلقيش .

قالها وهو يحتضنها بقوةٍ غريبة، وكأنها آخر ما تبقّى له من أمان هذا العالم، بينما جسده كله يرتجف من الداخل.


ضمّها أكثر، إذ أن اقترابها يمنحه بعض السكينة، لكن صوته الداخلي ـ ذلك الصوت الملعون الذي يعرف طريقه دومًا إلى أعماقه ـ بدأ يهمس في أذنه بنغمةٍ حادّة، مزعجة، لا تُخطئها أذن، أن يُبعدها عنه، أن يُنهي ذلك العناق فورا .. عناقه لها بذلك الشكل سيؤذيها، وربما يؤذيه هو … !


أغمض عينيه بشدة، كأنه يحاول أن يطرد الصوت من رأسه، لكن الوسواس اشتدّ عليه أكثر، كأفعى تلتف حول صدره وتمنعه من التنفس.


زفر أنفاسه بعنف، وأخذت أنامله ترتجف فوق ظهرها، يريد أن يبتعد لكنه لا يستطيع، شيء ما في داخله كان يقاوم، يصيح بكل ما تبقّى من إرادةٍ لديه أنه لن يبعدها عنه مهما كلفه الأمر .


ضغط عليها أكثر، كأنه يتحدّى ذلك الصوت، كأنه يحتضنها ضدّ جنونه هو نفسه.


شعرت بشيءٍ غريب في حضنه، تلك الذراعان اللتان كانتا دومًا مصدر دفءٍ وأمان، باتتا الآن تضغطان عليها بقوةٍ تفوق الحد، كأنهما تحاولان حمايتها من خطرٍ لا تراه، أو كأنهما تخشيان أن تفلت منه للأبد.


رفعت رأسها قليلاً، نظرت إلى وجهه، فوجدت ملامحه جامدة، مشدودة، كأن بين عينيه معركةً صامتة لا تراها، لكن آثارها تشتعل على قسماته. كان نبضه يضطرب، أنفاسه تتلاحق، وهو يضمها بقوة ساحقة حد الاختناق.


ـ فريد…

قالتها بصوتٍ خافتٍ مرتجف، وهي تضع كفها على صدره محاولة أن تخلق بينهما مسافةً صغيرة، لكنه لم ينتبه، أو لعله لم يستطع أن ينتبه.


ـ فريد!

رفعت صوتها هذه المرة، فانتفض كأن أحدهم أيقظه من حلمٍ ثقيل، تراجع خطوة إلى الخلف، وراح ينظر إليها بذهولٍ، كأنه لا يصدق أنه هو من كان يحتجزها بتلك القوة.

ـ أنا ضايقتك ؟


هتف بها مذهولًا، فعاجلته بهزة رأسٍ نافية، تتطلع إليه بعينين تملؤهما الدهشة ..


ازداد اضطرابه، وعاد يسأل بخوفٍ أكبر :

ـ وجعتك طيب؟! أنا خنقتك من غير ما أقصد؟


تأملته بنظرةٍ غامرةٍ بالأسى، كأنها تقرأ ما يدور في أعماقه حرفًا حرفًا، ثم اقتربت أكثر ودفنت رأسها في عمق صدره من جديد، وهمست بصوتٍ مطمئنٍ دافئ:

ـ لأ ... ولا وجعتني ولا خنقتني.



تجمد للحظة، صار جسده كله مشدود كوترٍ على وشك الانفلات، يخشى أن يخطئ في لمسها، أو يترك وسواسه يجرّه إلى فوضاه القديمة. تراجع بنصف خطوة، يتهيّب قربها، لكنها فاجأته، حين قبضت على يديه بقوةٍ حنونة، وسحبتهما إليها، ثم أحاطت خصرها بذراعيه من جديد، وهمست في أذنه بصوتٍ خافتٍ يشبه الرجاء:

ـ خلينا نروح للدكتور مع بعض .. لو سمحت .


لكنه زفر زفرةً عميقة وهمس إليها بلوعةٍ :

ـ أنا مش محتاج دكتور .. أنا محتاجك انتي .


ولكنها قالت بعناد:

ـ بلاش مكابرة عشان خاطري.. إنت تعبان وده واضح جدا.. النهارده وانت بتتغدا معانا كنت حاسة إنك تعبان ومش قادر تاكل ..


تبادلا الصمت للحظةٍ طويلة، ثم أبعدها عنه ببطء، رفع عينيه إليها بتردّدٍ وارتباك. لم يفهم هو نفسه ما يدور داخله؛ كان صوته الداخلي يصرخ به أن يبتعد، أن يتطهر، أن يغتسل، أن يتراجع… بينما قلبه يصرّ على العكس، يدفعه لأن يقترب أكثر، ليؤكد لنفسه أنّها ليست خطرًا، وأنّه ليس مريضًا كما يهمس له عقله كل ثانية.


تقدّم نحوها ببطء، كمن يخوض اختبارًا ضد الخوف، مدّ يده المرتجفة، ووضعها على وجهها برفقٍ، ثم همس كمن يناجي نفسه:

ـ  أنا ببقى كويس جدا وانتي معايا .


أحنى رأسه أكثر، حتى التقت أنفاسهما، كانت عينيه تتقلّب بين الذعر والإصرار، ثم أغمضهما وأطبق شفتيه على شفتيها في قبلةٍ مرتجفة، طويلة، مشبعة بالاحتياج أكثر من الرغبة.


لم تكن قبلة عادية، كانت أشبه بمحاولة شفاء…

قبلة رجلٍ يثبت لنفسه أنه ما زال طبيعيًا، أن وساوسه لا تملك جسده، ولا قدرته على الحب.

قبلة ممزوجة بالخوف، والتحدي، والاحتياج في آنٍ واحد.


وحين ابتعد أخيرًا، بقي يلهث كأنه خرج من معركةٍ خفية، وابتسم ابتسامة واهية فيها انكسار خفي، وقال بصوتٍ متحشرج:

ـ انتي دوايا الوحيد .


أما هي، فوقفت أمامه تائهة النظرات، لا تدري أتواسيه أم تقلق عليه أكثر، مدت كفيها تحيط بهما وجنتاه، ثم سألته وهي تتوغل بعينيها الدافئتين داخل عينيه:

ـ طيب مش هتحكيلي إيه اللي مغيرك كده ؟! وإياك تكدب عليا وتقول مفيش .


ابتسم وهو يسند كفيه فوق كفيها، ابتسامة خرجت مهزوزة، مهزومة، ثم تنهد وقال:

ـ حاجات كتير يا نغم .. أنا تعبان بجد ..


صمت لقليل، فنظرت إليه وهي تقاوم عيناه الحزينة لئلا تنخرط في نوبة بكاء عاتية، فيصبح مشغولا بتهدئتها بدلا من أن تكون هي من تواسيه .. وقالت :

ـ سلامتك يا حبيبي ..


ابتسمت عيناه لا إراديًا لكلمتها ونبرتها الدافئة، وازداد اتساع ابتسامته حين رآها تشبّ بأطرافها لتصل إلى مستوى طوله، ثم تغمر خده بقبلةٍ حانية للغاية.. قبلةٍ لم يشعر بمثلها يومًا، تحمل حنانًا خالصًا يشبه حنان الأم الذي افتقده طويلًا.

تراجعت قليلًا لتنظر إليه بعينيها المفعمتين بالصدق، وقالت:

ـ أنا معاك، مش هسيبك أبدا.. مهما حصل.




تأملها بعينين مهزومتين، بينما كان بين كل إيماءةٍ وأخرى يستنجد بعينيه أن تصدق وعدها، أن تفي به، ألا تتركه وسط الظلام الذي صار يغرقه أكثر كل يوم.

رفع عينيه إلى الأعلى، وعيناه مختنقتان بالدموع، يتحرك بروز عنقه في هدوءٍ قاتل يخفي خلفه غصّةً ثقيلة لا تمر. زفر ببطءٍ، كأنه يحاول تهدئة نفسه قليلًا، ثم نظر إليها وهمس وهو يسحب يدها ويتحرك نحو الداخل:

ـ تعالي.


سارت خلفه في استسلامٍ كامل، لا تعرف المغزى ولا النية، لكنها كانت مطمئنة إلى ما سيحدث، فقط لأنها معه.

اقتربا من الأريكة الكبيرة، فجلسها عليها برفق، ثم استدار نحو غرفته بخطواتٍ متسارعة، التقط حاسوبه وعاد إليها تحت نظراتها المتسائلة.

جلس بجوارها ووضع الحاسوب على ركبتيه، ثم فتحه واستدعى المجلد الخاص بالصور. وما إن ظهرت الصور أمامهما، حتى تجمدت ملامحها على صورٍ تجمعه بسيلين.

نظر إليها، فرأى في عينيها غضبًا متأججًا كالجمر، وقبل أن تنطق بادرها قائلًا:

ـ فاكرة الصور دي؟


تطلعت إليه في صمتٍ مفعمٍ بالمرارة، قبل أن تهز رأسها وتقول بحدةٍ متحشرجة:

ـ إنت شايف إن دي حاجة تتنسي!!!


أومأ برأسه بهدوءٍ متعب، ثم عاد بنظره إلى الحاسوب، يعرض مجلدًا آخر يضم عقودًا ومستنداتٍ كثيرة لم تفهم منها شيئًا. رفعت عينيها إليه باستفهام وقالت:

ـ دي حاجات خاصة بالشغل بتاعك؟


هز رأسه بإيماءةٍ خافتة وقال:

ـ المفروض إن دي العقود الخاصة بالشراكة اللي بيني وبين جيرالد، عليها تواقيعي أنا وهو.. وتواقيع نادر بصفته المحامي.. وفي كمان ملف كامل مليان معلومات عن جيرالد من بداية نشأته وتعليمه وشغله إلى آخره.


هزت رأسها في صمتٍ لتدعوه للمتابعة، فتابع وهو يغلق الحاسوب ببطء وينظر إليها قائلاً بنبرةٍ مثقلة:

ـ السي دي ده، باللي عليه وبما فيه صور سيلين.. حسن جابهولي من خزنة أبويا.


ساد الصمت للحظةٍ طويلة، وكأنه يستوعب حجم الكلمة التي نطق بها، ثم ابتسم ابتسامةً ساخرةً ممزوجةً بالمرارة، فبادرت تسأله بخفوتٍ:

ـ مش فاهمة..


رفع رأسه وبدأ يشرح بصوتٍ متهدجٍ يحمل الغضب والخذلان:

ـ أبويا.. سالم باشا مرسال.. متفق مع نادر من البداية.. جابوا جيرالد وحطوه في طريقي واستغلوا إني كنت مشتت وقتها بعد اللي عمله عاصم الدالي.


تقلصت ملامحها بدهشةٍ متزايدة، بينما تابع بانفعالٍ واضح:

ـ بمعنى أوضح.. استغفلوني وخلّوني شاركت جيرالد على أساس إنه بيدوّر على مستثمر ناجح فعلاً.. لكن في الواقع هو مأجور ومتفق معاهم.. وكل ده علشان يبعدني ويربطني بشغل في اليونان، وبالشكل ده أبعد عن هنا.. و"عنك" بالتحديد.


ارتفع حاجباها بدهشةٍ أكبر، بينما تابع هو بنبرةٍ يملؤها المرار:

ـ وطبعا كل ده مكانش كفاية علشان يدمر اللي بيني وبينك.. قال يحط سيلين في النص وتلعب لعبة حقيرة زي دي، وتتعمد إنها تظهر معايا في كام صورة يعملوا بلبلة زي اللي حصلت، وبكده يضمن إنك تبعدي عني للأبد.


ثم أرخى جسده داخل المقعد، وأسند رأسه للخلف بتعبٍ واضح، وأغلق عينيه للحظات قبل أن يمرر يديه على وجهه، وقال بصوتٍ مبحوحٍ متهالك:

ـ أنا تعبت، يمكن دي أكتر كلمة بكرهها ومبحبش أقولها، بس خلاص.. مش قادر أتماسك ولا أبان قوي تاني.. أنا طاقتي خلصت وجبت آخري من كل حاجة.


تأملته بعينين دامعتين، يغمرهما الحزن والشعور بالعجز، ثم مدت يدها برفقٍ وأمسكت يده، تربت عليها بحنانٍ وهمسٍ صادق:

ـ ناوي على إيه دلوقتي؟


أجاب بصوتٍ خافتٍ يائس:

ـ مش عارف.


تنهدت هي أيضًا بعجزٍ مماثل، بينما رفع رأسه ينظر إليها، وقال بنبرةٍ تحمل شتاتًا بين الحيرة والإصرار:

ـ المفروض اني اتكلمت مع مستشار قانوني وعرضت عليه الموضوع من كل الجوانب وهو قاللي اني لازم أعمل محضر إثبات حالة ..


ونظر إليها شارحًا :

ـ يعني عبارة عن توثيق رسمي يثبت إنّي لاحظت وجود أوراق ومستندات مش مطمئن ليها وأنا بفحصها، قبل ما يحصل أي مشكلة أو أزمة.

يعني لو في يوم حصلت مشكلة قانونية، أو حد حاول يورّطني، أقدر أقدّم المحضر ده علشان أثبت إني مش طرف في اللي حصل .


ـ طيب وده كفاية إنه يخرجك من الورطة دي يعني ؟


تنهد وهو يتابع :

ـ للأسف مش كفاية، هي مجرد خطوة احترازية مش أكتر ، بتديني وقت ومساحة إني أتحرك بحرية شوية قبل ما أواجههم .. فهماني ؟


هزّت رأسها بهدوء وقالت:

ـ يعني .. إلى حدٍ ما.


أومأ، وصوته خرج أكثر هدوءً وهو يتابع:

ـ على كل حال هو نازل مصر بعد بكرة، وهروح له مكتبه ونشوف بقا هنوصل لإيه.


نظرت إليه نغم بعينين تحملان قلقًا دفينًا، قبل أن تسأل بنبرةٍ مترددة:

ـ طيب مش ناوي تتكلم مع أبوك؟! أقصد يعني تواجهه وتعرفه إنك عرفت؟!


أجابها بجمودٍ حاسم، وبرز صوته منخفض لكنه قاطع:

ـ لأ مش دلوقتي.. لما أوصل لحل الأول.


ترددت لحظة ثم قالت:

ـ طيب وجيرالد؟


تبدّل وجهه فجأة، وكأن النار اشتعلت خلف عينيه، فالتماعهما صار أقرب إلى الغضب الكامن، وقال بنبرة رخيمة يغلفها الوعيد:

ـ جيرالد ده بالذات محتاج أفكر وأخطط له كويس، لأنه وراه بلاوي وأنا مش ناوي أسيبه يفلت منها كده.


اقتربت منه بخوفٍ واضح، وصوتها خرج متوجسًا:

ـ ناوي تعمل إيه ؟


رفع نظره نحوها، وفي عينيه مزيجٌ من الهدوء الحذر، ثم أحاط كتفيها بذراعه بحركةٍ حنونة ومطمئنة، وقال بصوتٍ منخفض لكنه ثابت:

ـ متخافيش.. أنا عاقل جدًا في المواضيع دي وبعرف أتصرف بهدوء.


هزّت رأسها باستسلامٍ صامت، و ما زال الخوف يتسلل إلى ملامحها رغم كلماته، ثم ظلّت تنظر إليه طويلاً، نظرةً غامضة تجمع بين الذنب والندم، حتى أثارت فضوله. فمال قليلًا نحوها وقال متسائلًا:

ـ عاوزة تقولي إيه؟




همست بعد ترددٍ طويل:

ـ أنا آسفة.. متزعلش مني.


انعقد حاجباه بدهشةٍ ممزوجة بالقلق، وقال متسائلًا وقد انقبضت ملامحه تدريجيًا:

ـ آسفة على إيه؟!


أسقطت رأسها للحظة قصيرة، وفي صمتها هذا كان هناك ما يكفي لزرع آلاف الشكوك في صدره، وكأن أفكارًا غامضة بدأت تتكاثر داخله وتتوغل كوباء سريع الانتشار.


رفعت عينيها أخيرًا نحوه، ورمقته بنظرة مشوبة بالندم، وقالت بصوتٍ خافت :

ـ آسفة إني شكيت فيك ساعة موضوع الصور بتاعتك انت وسيلين، آسفة إني كنت متسرعة كالعادة، ومديتلكش فرصة، ولا صدقتك، وبعدت عنك في أكتر وقت كنت محتاج لي فيه.


عندها فقط، تنفس الصعداء ببطء، وكأن صدره أُفرغ من حملٍ ظلّ يؤرقه طويلًا.. وربت على كفها وهو يقول :

ـ خلاص اللي حصل حصل ، ملوش داعي نفكر فيه ، المهم إننا دلوقتي مع بعض .


أومأت بهدوء، فابتسم وقال مغيرًا مجرى الحديث :

ـ إمتا هنتجوز ؟


لمعت عينيها بحماس يشوبه الخجل، بينما هو تابع بهمسٍ أسرى الحرارة في خديها :

ـ محتاج لك أوي يا نغم .. أنا بمر بفترة صعبة، ووجودك معايا هيساعدني وهيفرق لي جدا ..


ابتلعت ريقها بتوتر وهي تتحرك بهدوء خطوة للخلف، وتقول :

ـ المفروض يعني إننا نستنى شوية لحد ما المشاكل دي تتحل .


قاطعها متذمرًا ، صائحا بكل ما في داخله من انفعال:

ـ أيّ مشاكل بالظبط اللي هتتحل ؟! الورطة اللي أنا فيها ؟! ولا محاولاته إنه يبعدك عني ؟! ولا الوسواس اللي بيموتني بالبطيء، ولا مستقبلي اللي كل ما أحاول أبنيه أرجع لنقطة الصفر من تاني ؟! ولا زينب اللي طلعت عمتي والمفروض أثبت ده وأرجع لها حقوقها ..


نظرت إليه ببلاهة، تحاول استيعاب ما قاله عن زينب، وهتفت:

ـ زينب تبقا عمتك ؟!


ابتسم ساخرا وهو يقول :

ـ تخيلي .. إنسانة عايشة في بيتنا بقالها ٣٥ سنة على إنها خدامة وفي الآخر يتضح إنها عمتي .. وما خفي كان أعظم .. وتيجي انتي تقوليلي لما تحل مشاكلك، مشاكل ايه اللي هتتحل يا نغم؟! المشاكل في حياتي بتزيد مش بتقل..


شلت الصدمة لسانها، وأفقدتها قدرتها على التعبير، فبقت تحدق فيه بصمت مطبق، بينما هو يتابع بمرارة :

ـ اللي في حياته شخص زي سالم مرسال مش مكتوب له يعيش من غير مشاكل، ولو استنيت لما كل حاجه تتحل صدقيني مش هنتجوز ولا بعد عشر سنين كمان ..


ـ بس ..


هتف منفعلا بحدة أجفلتها  :

ـ بس إيه تاني ؟؟


فابتلعت كلماتها وهتفت بدون نقاش :

ـ خلاص اللي تشوفه .


نظر إليها بنفاذ صبر، وتمتم محاولا تهدئة أعصابه المنفلتة :

ـ أيوة كده اتعدلي ..


زفر نفسًا مهمومًا، ثم مرر يده على شعره ونظر إليها وقال :

ـ أنا هبدأ بالتحضيرات من دلوقتي.. شوفي محتاجة تغيري إيه في البيت وأنا تحت أمرك .. عايزة بيت تاني أنا معاكي .. شوفي ترتيباتك وعرفيني عاوزة إيه بالظبط عشان ننجز .



قاومت ابتسامة انبثقت على شفتيها، وكتمت حماسها وهي تقول :

ـ طيب هبقا هفكر ..


نظر إليها ورفع حاجبه وهو يقول بحدة من جديد:

ـ هتبقي تفكري ؟!


وبرز صوته حاسمًا لا يقبل النقاش :

ـ النهارده بالليل تكوني واخدة قرار وعارفة انتي عايزة إيه بالظبط مش هستناكي تفكري كتير ..


ـ طيب .. حاضر .


مط شفتيه متعجبا وهو يقول :

ـ حاضر .. عشت وشفت اليوم اللي بتقولي فيه حاضر .


تنهدت بتوتر، ثم نهضت، وقالت :

ـ أنا ماشية ..


بينما أخذ هو يطالعها وهي تقف أمامه، تعبث بشعرها بتوتر، وتمرر يدها على جانب عنقها بارتباك، فنهض، ووقف أمامها ومد يده يمسك بخصرها، قربها منه قليلا وبات يطالعها بولهٍ باتت تعرفه، فقال وهو يمعن النظر داخل عينيها الجميلتين :

ـ خليكي معايا شوية ..


ابتعدت عنه خطوة للوراء، وهي تتمتم بارتباك :

ـ لأ مش هينفع ، عاوزة أنام .


تنهد بإحباط، وهز رأسه باستسلام وهو يقول :

ـ روحي نامي يا نغم ..


ـ تصبح على خير ..


قالتها وهي تتملص من بين قبضته بتشتت، وبالرغم من أنها ترغب في البقاء، لكنها لن تجازف أبدًا وتنتظر لثوان إضافية بعدما شعرت بكل أعصابها تتحول إلى أسلاكٍ كهربائية مشتعلة .


أطلقت ساقيها للريح، وغادرت مسرعةً، وتركته يقف كشجرة غُرزت في موضعها، يقف على ساقين لا يثق بهما دون دعمها، قلبه يدق في صدره بلا رحمة، يشعر بالبرد يتسرب إلى دمه في ظل غيابها .


تنهد وهو ينفض رأسه، طاردًا تلك الأفكار الماجنة التي عاثت فسادًا به، وتمتم مستغيثا :

ـ يا الله.. يا ولي الصابرين .


عاد يجمع تلك الأوراق والمستندات ، فاستمع إلى رنين جرس الباب ، ذهب ليفتحه فإذ به يرى كلا من حسن وعمر يقبلان عليه والوجوم يسيطر على ملامح كلا منهما .


دلف عمر بصمت وهو يدس يديه في جيبيّ سرواله، يعقبه حسن الذي كان صامتًا بدوره، فأغلق الباب وتقدم منهما، تمدد كلا منهما فوق أريكة من الأرائك، فوقف فريد يرمقهما بحيرة، ثم تساءل :

ـ انتوا عاملين كده ليه ؟!


أجابه عمر بوجوم :

ـ اتخانقت مع أمي .


فحوّل بصره نحو حسن وسأله :

ـ وانت ؟


ليرد حسن بتلقائية وبمنتهى الثبات:

ـ اتخانقت مع أمه .




ارتفع حاجبيّ فريد بدهشة، وكبح ابتسامة كادت لتنفلت إلى شفتيه، ثم أومأ بهدوء وقال :

ـ واضح إن الموضوع كبير .. هعمل قهوة ، حد عايز ؟


ليجيبه عمر بهدوء :

ـ أنا جعان وعايز أتعشى .


اتسعت ابتسامة فريد وأخذ يهز رأسه بيأس، ثم أومأ وقال:

ـ من عينيا الاتنين .. نخلي القهوة بعد العشا ..


وانحنى ليلتقط حاسوبه، ثم بدأ بجمع أوراقه، فقال عمر :

ـ عملت إيه مع كريم ؟


تنهد فريد وأجاب :

ـ طلب مني أقدم محضر إثبات حالة وأجمد أي تعامل مالي للشركة مؤقتا ..


نظر إليهما حسن وقال بهدوء :

ـ إيه الحوار ؟


زفر فريد نفسًا مرهقًا وقال :

ـ عمر هيحكي لك على ما أحضر العشا .


وانصرف متجهًا نحو الغرفة، فيما بقي حسن ينظر إلى عمر الذي ينظر أمامه بشرود، وقال :

ـ إيه الحكاية يا عمر ؟


تنهد عمر بضيق، وقال :

ـ السي دي اللي انتي جبته لفريد ..


ابتلع حسن ريقه بتوتر، وسأله :

ـ ماله ؟!


ـ فريد عرف من خلاله إن سالم وديل الكلب نادر هما اللي ورا جيرالد وسيلين وموضوع الصور اللي حصل في أثينا ، وهما اللي مأجرين جيرالد اصلا عشان يدخل لفريد من باب الشراكة وكل ده علشان يربطوه بشغل في اليونان ويفضل بعيد ..


حدق فيه حسن مذهولا وقال :

ـ الكلام ده بجد ؟!!!


ـ للأسف .


ـ يابن ال**** يا نادر !! طب وساكتين ليه ؟! محدش قاللي ليه من ساعتها وأنا أجيب إتنين معرفة ونطلع على مكتبه ندشمل وش أمه ..


لوّح عمر بيده غير عابئًا وهو يقول :

ـ يا عم اتنيل هو انت أد نادر ؟


فصاح حسن باستهجان :

ـ أخوك أد أي حد بعون الله، ولا نادر ولا عشرة من صنفه، تليفون صغير مني لـ " الكردي " و " القن " عليا الطلاق من بيتي أكون منيّمه في قبره وقتي .


التقط فريد كلماته وهو يقوم بتجهيز المائدة، فتبادل النظرات المستفهمة مع عمر، الذي بادر قائلا :

ـ إيه دول يا حسن ؟!


ـ دول ولاد منطقتي .. عيال جدعان ومستنيين مني إشارة عشان يوجبوا معايا ..


ابتسم عمر بحماس وهتف :

ـ amazing  .. إبقى عرفني عليهم يا حسن من فضلك .


صاح فريد معترضًا :

ـ يعرفك عليهم إيه يابني انت كمان ..


ونظر إلى حسن وتابع :

ـ وانت يا أستاذ .. إزاي لحد دلوقتي مقطعتش علاقتك بالمجرمين دول ؟!


رفع حسن حاجبه باستنكار وقال:

ـ لأ يا كبير معلش .. الكردي والقن مش مجرمين .. هما سوابق أه بس مش لدرجة الإجرام ، وبعدين هو أنا يعني عشان ما عليت وربنا فتحها عليا من وسع أقوم أتنطط على اللي مني ؟!


شعر فريد بوخزٍ في صدره، وأحس بضغط دمه يتصاعد، فتنهد بصمت، وردد :

ـ يا الله .. يا ولي الصابرين .


ونظر إلى حسن وهتف محذرا :

ـ ممنوع تختلط تاني بالعيال دي يا حسن لأنهم خطر عليك ..


لوّح حسن باحتجاج :

ـ يا عم مين دول اللي خطر عليا، صلي على اللي يشفع فيك، أخوك حاكم بأمره في أي حته ..



كتم عمر ضحكاته، بينما تنهد فريد بقلة حيلة ، فنظر إليه حسن وقال مبتسما :

ـ بس على العموم نصيحتك أمر وواجب النفاذ ، إنت على راسي يا كبير .


زم فريد شفتيه وتمتم بهدوء :

ـ متشكر جدا .. يلا اتفضلوا ..


اجتمع ثلاثتهم حول المائدة، كلا منهم يتناول طعامه في صمت، وبداخل كلٌ منهم عالم قائم بذاته..


رن هاتف عمر فاتسعت ابتسامته وهو ينهض قائلا :

ـ أنا شبعت الحمدلله ..


طالعه حسن بنظرة ماكرة وهو يقول :

ـ على أساس إنك جعان يعني ؟؟؟


ليجيبه عمر قائلا بابتسامة بلهاء :

ـ رجعت في كلامي، بقول أنام خفيف أحسن، تصبحوا على خير .


ـ وانت من أهله .. الله يسهل لك يا عم .


أسرع عمر نحو غرفة فريد ، قفز قفزةً هوجاء فوق الفراش، وتمدد على بطنه وهو يمسك بالهاتف، يجيب المكالمة قائلا بابتسامة حالمة :

ـ حبيبة قلبي .. وحشتيني .


ابتسمت ميرال بهدوء، وقالت :

ـ حبيت أطمن عليك وأعرف عملت إيه مع والدك ووالدتك.


تنهد بضيق، وقال :

ـ كل خير ..


ـ يعني وافقوا ؟


سألته بنبرة تشع فرحًا وحماسًا، فتنهد وقال :

ـ أكيد .. مفيش عندهم إختيار تاني أصلا ..


تنهدت براحة، وقالت :

ـ طيب الحمدلله .. أنا كنت قلقانة جدا من رد فعلهم .


التفت واستلقى على ظهره، وضع ساقا فوق ساق وهو يقول بثقة مجهولة المصدر:

ـ قلقانة إيه بس ؟ حبيبتي أنا مستحيل حد يقدر يعارض قراراتي، متقلقيش .. حبيبك حاكم بأمره في العيلة .


ـ مش فاهمة ؟


تنهد مسرعًا وقال :

ـ والله ولا أنا بس ما علينا .. قوليلي بقا؟ هشوفك بكرة؟



ـ والله أنا موجودة في الدار وقت ما تحب تشوفني اتفضل .


ـ أنا أحب أشوفك في كل وقت وكل حين يا جميل انت ..


ـ عمر …… نطقتها بتحذير .


ـ عمر إيه بقا ! ما تسيبيني أعبر عن مكنونات قلبي يا حبيبة قلبي ، هو الواحد مننا إيه يعني غير شوية مشاعر وأحاسيس .


زفرت بنفاذ صبر وقالت :

ـ لما نتجوز إن شاء الله قول اللي تحبه ، دلوقتي لأ .


مسح على وجهه بضيق ونفاذ صبر، ثم أومأ وقال :

ـ حاضر يا ميرال .. اللي تشوفيه .


صمتت للحظة، ثم قالت بابتسامة وبصوتٍ ليّن :

ـ متشكرة جدا يا عمر لأنك مش بتضغط عليا ومقدر ومتفهم موقفي ..


تنهد بجدية، وابتسم وراح يسرد بطلاقة وقد فقد السيطرة على زمام لسانه :

ـ أنا بحبك يا ميرال ومش عايز أخسرك .. إنتي الإنسانة الوحيدة اللي حسيت معاها اني عايز أتغير وأكون إنسان كويس ونضيف، لما عرفتك قلت يا ريت حاجات كتير محصلتش .. يا ريتني قابلتك من زمان .


صمتت، بعد أن أثارت كلماته ريبةً شديدة في أعماقها، وتساءلت :

ـ تقصد ايه يا عمر بكلامك ده ؟!


أدرك في تلك اللحظة أنه قد تفوه بأكثر مما ينبغي، فتنحنح بهدوء ، وقال متراجعًا :

ـ مش قصدي حاجة يا ميرال متاخديش كلامي على محمل تاني ..


لكنها تساءلت بقلق :

ـ تقصد إيه إنك عاوز تتغير وتكون إنسان كويس ونضيف ؟! عمر لو سامحت صارحني.. لو ليك ماضي لازم أعرف ، مينفعش تخدعني أو تداري عليا أبدا .


اضطرب صوته، وهو يقول مترددًا بوجل :

ـ يا حبيبتي لو على الماضي فهو نضيف ومشرّف وزي الفل، الخوف من المستقبل لو انتي مش فيه .


تنهدت ميرال بحذر، لم تستطع أن تُفرج عن كل أنفاسها المحتجزة داخل صدرها، فأخذت تتنفس باضطراب، ثم قالت :

ـ إنت متأكد ؟


ـ جرا إيه يا ميرال ، هو أنا هكذب عليكي يعني ؟


ـ يا ريت يا عمر، لأني لو اكتشفت إنك خدعتني مش هسامحك أبدا .


جمد الدم في عروقه، وتصاعدت أنفاسه بخوفٍ، بينما هي أنهت المكالمة بهدوء ، وتركته يموج في دوامةٍ من الحيرة والقلق، يعرف أنه قد أخطأ، ومن المفترض أن يصحح هذا الخطأ في أسرع وقت، لكنه يتراجع محاولا طمأنة نفسه أن ما يفعله هو الصواب ، فليس عليه أن يعاود نبش ماضٍ مخزٍ يحاول تجاوزه، ليس عليه أن يخسرها ويتهاوى إلى قاع الظلام بعدما وصل إلى القمة أبدا .. !!!!!


༺═──────────────═༻


#يتبع


تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close