رواية هيبه الفصل الأول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم مريم محمد غريب حصريه وكامله جميع الفصول
رواية هيبه الفصل الأول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم مريم محمد غريب حصريه وكامله جميع الفصول
#إقتباس حصري 🔐
كان يقف على بُعد أنفاس منها، قريبًا لدرجة أربكتها، لكنها لم تتحرك للخلف. إن أعطته لحظة ضعف، سينقضّ عليها كذئب وجد فريسته أخيرًا.
وقفت أمامه، ظهرها مستقيمٌ كأنها قطعة من الجليد، وعيناها تتوهجان بجمرة التحدّي. رغم اضطراب أنفاسها، لم تمنحه متعة رؤية ضعفها.
-انت فاكر نفسك مين عشان تفرض عليا أوامرك؟
رد بهدوء مستفز:
-أنا مش محتاج افرض وأنتي عارفة.. أنا بنفذ اللي أنا عايزه فورًا.
قالت بعنادٍ: وأنا عمري ما كنت لعبة في إيد حد.
يقترب خطوة واحدة واثقة مغلقًا المسافة بينهما، يخفض صوته أكثر وهو يقول:
-ده لحد ما وقعتي في طريقي.. وخلّيني أقولك. أنا مش أي حد.
كانت تشعر بأنفاسه تقترب، ليس بالمسافة فقط، بل بالتأثير. كلّما نطق بكلمة، تسلّلت إلى عقلها كسمّ بطيء، يثبّت أقدامها رغمًا عنها، يقنعها دون أن تدرك كيف. هو لم يكن مجرد رجل غطرسته تسبقه، بل كان خصمًا يجيد اللعب بالأفكار قبل الأفعال.
أما هي، فقد تعلّمت طوال حياتها أن لا تنكسر، أن تبقى صامدة كأنها وُلدت من نار الكبرياء. لكنها الآن أمامه، تُدرك أن مقاومتها ليست مجرد معركة قوة، بل معركة كرامة، شرف.
راقبها بتمعن، وكأنه يستمتع بتمزيق دروعها واحدًا تلو الآخر. لم يكن رجلاً يمكن العبث معه، لم يكن من النوع الذي يُردّ له طلب أو يُرفض له أمر. لكنّها لم تكن أيضًا ممن يُروَّضون بسهولة.
-أنا متجوزة دلوقتي!.. قالتها محاولة الحفاظ على ثباتها.
صوته الهادئ يزداد خطورة وهو يرد عليها:
-وإنتي فاكرة إن ورقة جواز هاتحمِيكي مني؟
تشيح بوجهها بعيدًا عنه، تحاول التحكم في أنفاسها قائلة:
-ده الواقع.. وده قراري.
يمسك بذراعها فجأة، يجبرها على مواجهته:
-حياتك مش ملكك للأسف. ومش إنتي اللي بتقرري.. أنا إللي بقرر.
تحاول التملص من قبضته مغمغمة:
-سيبني!
تجاهل عمدًا رغبتها وصار يضغط على ذراعها أكثر، بينما نبرته تزداد قسوة:
-إنتي أجبن من انك تعصيني.. وأجبن من انك تسمحي لأي حد يلمسك أو يقرب منك.. انا عارف وواثق انك هاترجعيلي زي ما سيبتك.
تحاول كتم ارتجافة صوتها وهي تقول باستفزازٍ:
-ماتبقاش واثق من نفسك أوي كده.. مش جايز ماكنش زي ماسيبتني!
يغمر السواد بؤبؤيه الخضروان، يميل نحوها، ثم يهمس بنبرة لا تخلو من تهديدٍ صريح:
-لو عندي شك واحد على مليون ماكنش زمانك واقفة قدامي دلوقتي.. لا انتي.. ولا أهلك كلهم.. انتي ملكي يا ".....".
ترفع ذقنها بعنادٍ رغم الخوف الذي بدأ يتسلل إليها:
-عمري ما كنت ملكك.. ومش هكون.
يضيق عينيه، يبتسم ببطء قاتل ويقول:
-إنتي نسيتي إن حياتك كلها في إيدي؟ نسيتي إني قادر أهدّ كل حاجة حواليكي وأخليكي ترجعيلي برجلك ومنغير ذرّة ضغط منّي!
تزدرد ريقها، لكن تحاول أن تبقى قوية:
-انت مش هتقدر تعمل حاجة.
يضحك ضحكة قصيرة، لكنها باردة كأنها وعد بالموت ويقول:
-طيب جرّبي تعصيني وشوفي اللي هايحصلك.. شوفي لو جوزِك نفسه هايعرف يحميكي.
ردّت بصوتٍ ينخفض رغماً عنها:
-انت.. انت مجنون!!
تحجّر وجهه الوسيم وهو يحدق في عينيها المرتجفتين، لم يكن الغضب وحده ما يشتعل في نظراته، بل مزيج غريب من الهيمنة والعاطفة الكاسحة، لم يمنحها فرصة للتحرّك، إذ أطبق يده حول عنقها، والأخرى قيّد بها معصمها الأيسر ورائ ظهرها.
ثم مال يهمس عند أذنها منذرًا بخشونة:
-وإنتي مراتي.. سواء بورقة أو من غيرها. إنتي عارفة ده كويس.
___________________
"تمهيد"
ذكرى ميلادها الثامن عشر، إنها الأسوأ على الإطلاق، لم تراه طيلة الليلة. ظنّت بأنه عندما قال لن يحضر حفلها إنما فقط قالها نكايةً بها كما يفعل عادةً.
لكنه فعلها، حقًا فعلها و لم يحضر، ولماذا؟
لأجل زلّة وقع بها، خطأ أقترفه بحقها، لكنها سامحته، تقسم بأنها سامحته.
إلا إنه لم يسامح نفسه على ما يبدو. لهذا لم تراه منذ تلك الليلة، ولم تسمع عنه، من يُعاقب يا ترى؟
يعاقب نفسه أم يعاقبها هي!؟
ما ذنبها؟
لقد ألقى ثقلًا على قلبها لم تحتمله، لقد عرفت في لحظتها، لكنّها كذبت على نفسها.
منذ اللحظة الأولى، منذ أن قال لها إنه لن يحضر حفلها، كانت تعرف أنّ الأمر ليس مجرد مكيدة عابرة منه لإغاظتها كما اعتاد، بل عقاب. عقاب لها.. وعقاب له. لكنه لم يدرك أنّ الغياب عقاب أقسى مما يتصوّر.
كيف استطاع أن يبتعد بعد ما حدث؟ كيف استطاع أن يُقصيها، وهي التي لم تعرف الحياة إلا من خلاله؟
لقد كانت صغيرة جدًا حين بدأ قلبها ينبض باسمه. وهو، كان كبيرًا، ربما يكبرها بعدة سنوات، عشرة أو أكثر، كان "نديم".. ابن عمّها الكبير، اليتيم، القاسِ بالفطرة، الذي يملك كل شيء حتى هذا المنزل.
إنه كلّ عالمها. لم ترَ فيه أبدًا صورة الأب الثاني فحسب، بل الرجل الأول والأخير، الرجل الذي تعلّقت به دون أن تدرك أنّ في تعلّقها خطيئة لم تنتبه إليها إلا بعدما أيقظها بنفسه.
لكن بأيّ صورة أيقظها؟
لم يكن يجب أن يحدث ذلك. لم يكن يجب أن يخطئ بحقها، ولا أن تفهم هي—أخيرًا—أن ما شعرت به نحوه لم يكن مجرد إعجاب طفلة بظلٍّ قويّ تحتمي به. كان شيئًا أكبر، أعمق، وأخطر.. شيء لم تسعَ إليه يومًا، ولم تتوقعه، لكنه سكنها على أيّ حال، حتى قبل أن يحدث ما حدث.
قبل ثلاث ليالٍ. كعادتها بقيت ساهرة بجوار النافذة حتى مطلع الفجر، كانت قلقة عليه للغاية، وتتساءل أين قد يكون حتى الآن؟
ليست المرة الأولى التي يتأخر على أيّة حال، لكن موطن قلقها يكمن بحالته هذه الفترة، لم يكن بخير، تشعر بذلك، كثير العصبية فوق عادته، سريع الغضب، حتى إنه تشاجر مع شقيقها البارحة لسببٍ تافهٍ جدًا متسببًا بقطع أبيها سُبُل الترفيه كلها عنه.
لعلها كانت نعسة قبل سويعاتٍ، لكن كلّما مرّ الوقت دون عودته يُصيبها أرق أشدّ، حتى لاح لها من بعيدٍ، أخيرًا، عاد!
تنفست "ليلى" الصعداء وهي تراقب مرور سيارته بالممر المعبّد بالحجارة وصولًا إلى باحة المنزل، رأته يترجل من السيارة ملقيًا سترة بذلته فوق كتفه، لم يغلقها حتى وسار متجهًا صوب باب المنزل.
استدارت مسرعة نحو خزانتها، سحبت روبًا وارتدته فوق قميص نومها القطنيّ، ثم هرولت خارجة من غرفتها، متوجهة نحو جناحه بالطابق العلوي.
كان هناك، بالكاد خرج من المصعد بينما استخدمت هي الدرج، مشيت نحوه وقد عبر عتبة جناحه راكلًا الباب خلفه بقدمه، إلا إنها اعترضته دافعة إيّاه ثانيةً قبل أن يُقفل تمامًا.
انتبه لحركتها من خلفه، ليلتفت نحوها مترنّحًا، بدا متفاجئًا لرؤيتها وقال بصوتٍ مشوّبًا بآثار الثمالة:
-ليلى! عايزة إيه؟ وإيه إللي جايبك هنا الساعة دي؟
ازدردت ريقها بتوترٍ، وقفت أمامه مباشرة متمتمة:
-جيت أطمن عليك. ماجاليش نوم لحد ما شفتك رجعت.. انت كويس؟
رفع رأسه ببطءٍ. التقت عيناه بعينيها، وسرت في جسدها قشعريرة لم تفهمها.
لم يكن يشبه نفسه. عيناه كانتا مثقلتين، باردتين، مشوّشتين، لكن هناك شيء في نظراته جعلها تشعر بالخطر، كأنّها أمام شخصٌ آخر، شخص لم تعرفه من قبل.
مرر يده في شعره بعصبية، ثم ضحك بصوتٍ خافت، لكن ضحكته كانت فارغة، مريرة ..
-إيه اللي جابك هنا يا ليلى؟.. كرر بصوتٍ أجشّ، ثقيل، كأنه خرج بصعوبة من بين شفتيه.
-أنا!.. ترددت. لم تعرف بماذا تجيبه، لكنها تشبّثت بذريعة قلقها:
-قلقت عليك.
ارتفع حاجبه بسخرية، وكأن كلامها استفزه:
-قلقتي عليا؟.. ضحك مجددًا، وهز رأسه مكملًا:
-ليه بقى؟ بقيتي ماما وأنا ماعرفش!؟
زادت نبضاتها. لم تكن معتادة على هذه اللهجة منه. كان دائمًا ما يغيظها، يسخر منها، لكنه لم يكن قاسيًا معها بهذا الشكل من قبل.
-طبعًا خايفة عليك!.. عقدت ذراعيها بقلق، وتساءلت:
-انت كنت فين طول اليوم؟ محدش كان عارف عنك حاجة!
رفع نظره إليها بحدة. صوته انخفض، لكنه صار أشد خطورة:
-وانتي مالك؟
ارتبكت: أنا.. أنا بس كنت عايزة أطمن عليك.
حدّق بها طويلًا. طويـــــلًا. نظرة لم تستطع فكّ شيفرتها، لكنها جعلت الدماء تتجمّد في عروقها.
ثم، فجأة، ارتدت خطوة للوراء لا إراديًا حين بدأ يتقرّب إليها، لم يتوقف، اقترب منها حتى صارت بينهما مسافة ضئيلة جدًا، وحتى شعرت بحرارة جسده أمامها، برائحته التي اختلطت برائحة الخمور التي فاحت منه.
لم تستطع التنفس لوهلةٍ. بينما يقول بصوتٍ خافت:
-ليه مهتمة بيا أوي كده يا ليلى؟
-لأنك مهم بالنسبة لي فعلًا!.. قالتها بتلعثمٍ.
نظر إليها بتمعن. ظلّت عيناه تبحثان عن شيء في وجهها، ثم ابتسم بسخرية.. ابتسامة جعلت معدتها تنقبض بخوف.
-ويا ترى اهتمامك بيا ده.. بريئ؟
عقدت حاجبيها: انت بتقول إيه؟
ردد بصوته القاسِ:
-فاكراني مش شايف؟ فاكرة نفسك لسا عيّلة صغيرة.. ومش عارفة إللي جواكي؟
ابتلعت ريقها بصعوبة. هناك شيء في كلماته نكأ جرحًا لم يكن يجب لمسه، حقيقة حاولت إنكارها طوال السنوات القليلة الماضية، لكنه الآن يُلقي بها في وجهها بكل وقاحة.
تراجعت خطوة أخرى للوراء قائلة بصوتٍ مرتعش:
-نديم.. انت مش في وعيك.. بليز لازم ترتاح.
وجاءت لتنسلّ من أمامه هاربة، لكنه مدّ يده فجأة، وأمسك برسغها. لم يشدّها إليه، لم يقبض عليها بقوة، لكن لمسته كانت كفيلة بأن تجعل أنفاسها تتسارع ..
-أقفي هنا. أنا لسا ماخلّصتش!!
شهقت، وحاولت سحب يدها، لكنه شدّها نحوه بخفة، جعلها تتعثّر بخطواتها حتى كادت تصطدم بصدره.
شعرت باضطراب غريب في داخلها، برغبة جامحة في الهروب، لكنها لم تستطع التحرّك.
ثم رفع يده الأخرى، ووضعها برفقٍ على وجنتها هامسًا:
-بقالك سنين بتبصيلي بطريقة مش بريئة. بتعامليني بأسلوب جديد. وفكراني مش فاهم.. مش كده؟
اتسعت عيناها برعب، وأخيرًا، شعرت بأنها تختنق.
-سيبني يا نديم!.. همست بصوتٍ مرتجف، لكنه لم يتحرّك.
نظر إليها للحظاتٍ بدت كالأبد، ثم خفّض رأسه قليلًا حتى اقترب وجهه منها أكثر، كأنه يختبر صبرها، كأنه يستمتع برؤيتها تنهار.
وفجأة، حنى رأسه وقبّلها.
قبلة عميقة، متطلّبة، خاطفة للأنفاس. لم تمنحه الإذن، لم تتوقعها، لكنّها حدثت.
أنّت باعتراضٍ وهي تشعر بجسده يضغطها إليه أكثر، بيديه تمسكان بوجهها، بأنفاسه الحارّة تذيب مقاومتها. كان طعم الخمر في فمه مُرًا، لكنه لم يكن أكثر مرارة من إحساسها بالعجز.
أرادت أن تدفعه، أن تصرخ، لكن كل ما فعلته هو أن تصلّبت في مكانها، متجمّدة بين ذراعيه، بين شفتيه.
ثم، حين كاد الأمر يتحوّل إلى شيء لا يمكن إصلاحه، حين شعرت بأن حدودها تُسحق تحت سطوته.. استيقظت.
تمكنت من رفع يدها أخيرًا، وصفعته.
صوت الصفعة شقّ الهواء كالسيف، والصدمة جمّدته في مكانه.
ظلّ واقفًا، ينظر إليها بعينين متسعتين، كأنه استعاد وعيه فجأة. كأنه رأى نفسه في المرآة لأول مرة.
أما هي، فتراجعت بسرعة، وضعت يدها على فمها والدموع ملء عينيها، اندفعت خارج الغرفة قبل أن يجرؤ أيٌّ منهما على نطق كلمة أخرى.
ركضت إلى غرفتها، أغلقت الباب خلفها، وسقطت على الأرض تبكي.
ظلت تبكي حتى جفّت دموعها، حتى تحجّرت بداخلها. لم تكن تبكي خوفًا، ولا حتى صدمة، بل وجعًا.. وجعًا مغمورًا بخيبة لم تفهمها تمامًا. كانت ترتجف، تتلمّس عنقها الذي امتدت إليه يده، وجسدها الذي كاد يضيع تحت ظلّه الثقيل.
لكن الأسوأ لم يكن ما فعله.
الأسوأ كان أنها، للحظة، شعرت بشيء آخر.. شيء حاولت قتله فورًا، شيء أرعبها أن يكون موجودًا.
حين استيقظت في الصباح بعد ليلة مليئة بالقلق والأحلام المزعجة، تحضّرت للذهاب إلى مدرستها، نزلت إلى الأسفل ظانّة بأنها سوف تراه على مائدة الفطور، لكنها لم تجده. كأنّه اختفى مع كوابيس ليلتها، كأنّ وجوده نفسه صار وهمًا. بحثت عنه بعينيها في كل زوايا البيت، رغم أنها لم تكن تجرؤ على أن تنطق باسمه أمام الآخرين.
تخطّت ما حدث بالليلة الماضية، وهاتفته ما إن صارت خارج المنزل، ولدهشتها رد على اتصالها. فسألته إن كان بخير بعد ليلة الأمس.
لم يرد سوى بلهجته الجافة المعتادة، كأنّ شيئًا لم يحدث.
لكنه حدث، وهي تعرف، إلا إنها لم تشأ تذكيره بحدث سخيف لعله نسيه اًصلًا.
وحين حلّ الليل، حين مرّت ساعات ليلة ميلادها باردة، فارغة، دون أن يأتي.. عرفت الحقيقة.
كان في وعيه إذن. كان يعرف ما يفعل. وكان يعرف بأن غيابه سيفضح ذلك أمامها أكثر ممّا قد تفضحه الكلمات.
تساقطت دموعها ببطءٍ، كما لو كانت تستسلم أخيرًا للحقيقة التي حاولت الهروب منها منذ وقت طويل. "نديم".. إنها تحبّه.
ولكن ماذا عنه هو؟
ألقت نظرة أخيرة عبر نافذتها، بحثًا عنه في العدم، لقد بزغ الفجر فعلًا ولم يعد، والأحرى أنه لن يفعل مثل البارحة والليلة التي قبلها أيضًا.
تنهدت بحرارةٍ، ثم استدارت إلى سريرها، استلقت محتضنة وسادتها، وهمست باسمه:
-نديم!
____________
استيقظت "ليلى" على صوت أختها الكبرى "لُقى" قائلة بحماسة:
-ليلى. قومي بسرعة!
فتحت عينيها ببطء متمتمة:
-إيه يا لقى في إيه بتصحيني كده ليه؟
-قومي يابنتي نديم جامعنا تحت ومعاه مفاجأة.. باعتني أصحيكي مخصوص يلا قوووومي.
طار النعاس ما إن سمعت أسمه، نهضت من سريرها بينما كلمات أختها تتردد في رأسها. "نديم" عاد؟
شعرت بقلبها يقفز داخل صدرها، ودفعة من الحماس تجتاحها. أخيرًا عاد!
ابتسمت كأنها لم تكن مغمورة في بحرٍ من الحزن ليلة أمس. هرعت إلى الحمام، فتحت صنبور المياه، وغسلت وجهها سريعًا بالماء البارد، علّه يزيل آثار الدموع التي جفّت على وجنتيها طوال الليل. نظرت إلى انعكاسها في المرآة، عينيها متورّمتين قليلًا، لكنها لم تهتم.. المهم أنه هنا، وأنه بعث في طلبها، ترى ما هي المفاجأة؟
فرشت أسنانها على عجل، ثم خرجت تبحث عن شيء مناسب لترتديه. اختارت فستانًا رقيقًا بلون الخوخ الناعم، قماشه الخفيف ينساب على جسدها النحيل بانسيابيةٍ رقيقة، أكمامه قصيرة، وفتحة عنقه تُبرز عظمتيّ الترقوة برقة.
مشّطت شعرها البني الطويل، وتركته ينسدل على ظهرها، تموّجاته الطبيعية تزيده جاذبية. وضعت لمسة خفيفة من أحمر الشفاه الوردي، ثم استدارت تغادر الغرفة، وقلبها يخفق بقوة.
تذكر نفسها لحظةً بلحظة.. "نديم" ينتظرها بالأسفل.
نزلت الدرج بخفة، وكل خطوة تأخذها تزيد من تسارع أنفاسها. دخلت إلى غرفة الطعام أخيرًا، وقفت للحظة عند العتبة، تتأمل المشهد أمامها.
رأته. "نديم" يجلس على رأس الطاولة كالمعتاد، وسيمًا كعادته، بهيبتــــه المألوفة، لكن.. لم يكن وحده.
كانت بجواره "راندا".. "راندا فؤاد منصور".
ابنة رجل من أكبر رجال الأعمال، والشريك الأهم لابن عمّها بشتّى أعماله.
الابتسامة التي كانت تتراقص على شفتيها تلاشت، وكأن أحدهم أطفأ نورًا بداخلها فجأة. لم تكن تعرف لماذا، لكنها شعرت بغصّة ثقيلة تسكن صدرها.
ثم التقت عيناها بعينيه.
لمحت في نظراته شيئًا لم تفهمه، أو ربما لم ترد أن تفهمه. كان هناك شيء غريب، لكن قبل أن تستطيع فك رموزه، قطع صوته أفكارها:
-تعالي يا ليلى.. تعالي اقعدي.
هزّت رأسها ببطءٍ، وتحركت لتجلس.. إلا إن مقعدها المعتاد بجواره كان مشغولًا.
كانت "راندا" تشغله جالسةً بجوار رجل العائلة وكبيرها مقامًا.
ترددت للحظة، ثم اتخذت كرسيًا بعيدًا، جلست عليه بهدوءٍ، بينما عيناها تراقبان تلك الفتاة.
لطالما كانت "راندا" مشهورة بين الطبقة العليا. جذّابة.. بطريقة لم تستطع إنكارها.
بشرتها برونزية متألقة، عيناها سوداوين، واسعتان، تضجّان بأنوثةٍ طاغية، شعرها الأسود ينسدل بسلاسةٍ على كتفيها، وملامحها تشعّ سحرًا خفيًا. كانت ترتدي فستانًا زهري بسيطًا لكنه يبرز جسدها بكل إغراء ممكن. حركتها، ضحكتها، حتى طريقة جلوسها، كلها كانت تشير إلى امرأة تعرف جيدًا كيف تجذب الأنظار إليها.
شعرت "ليلى" بشيءٍ مزعج يتسلل إلى قلبها.. شيء أشبه بوخزة غيرة.
لكنها تجاهلت إحساسها، وأجبرت نفسها على التركيز فيما يحدث أمامها.
يلتفت "نديم" إلى عمه الآن، ويتحدث بنبرةٍ هادئة، لكنها محمّلة بالمشاعر:
-عمي.. أنا حبيت أشكرك قدام الكل. قدام مشيرة. قدام ولادك. إللي هما اخواتي.. على كل حاجة عملتها عشاني انت ومشيرة. من يوم ما أبويا وأمي ماتوا. وأنا عمري ما حسّيت إني وحيد وانت موجود.. انت كنت دايمًا الأب التاني ليا. ومشيرة كانت أم. ولادك مش بس أخواتي انا بحس انهم ولادي كمان.. والبيت ده قبل ما يكون بيتي هو بيتكوا. وماينفعش يتفتح إلا بيكوا.
ابتسم "مهران" بحنانٍ، ونظر إليه بعينين مليئتين بالفخر:
-انت مش محتاج تشكرني يا نديم. انت ابني.. مش بس ابن أخويا. أنا عمري ما شفتك غير كده.
ساد الصمت للحظاتٍ، قبل أن يفاجئهم جميعًا بما لم تتوقعه "ليلى" أبدًا.
أمسك بيد "راندا" وضغط عليها برفقٍ، ثم نظر إليها نظرةً خاصة.. نظرة لم ترَها في عينيه من قبل ..
-عشان كده.. أنا حبيت يكون الخبر ده لأول أشاركوا معاكوا.. مع عيلتي.
ابتلعت "ليلى" ريقها، والقشعريرة تتسلل إلى أطرافها بينما تسمعه يعلن بصوته القوي:
-أنا وراندا.. اتخطبنا إنهاردة. وفرحنا هايكون آخر الأسبوع.
كلماته سقطت كالصاعقة عليها. بينما ضجّ المكان بهتافات السعادة والمباركات، شعرت "ليلى" بالأرض تميد تحت قدميها، والهواء يختفي من حولها.
تبتسم "راندا" بخجلٍ وهي تتلقّى القبلات من السيدة مشيرة وابنتها الكبرى "لُقى".. بينما "نديم" قد وقف ليعانق عمّه وابن عمه الأصغر ..
-أخيرًا عملتها يا دونجوان!.. قالها "ليث" مشاكسًا.
ضحك "نديم" بخشونة معانقًا إيّاه عناق أخوي رجولي، وسمح لنفسه بتسديد نظرة حادة صوب ابنة عمّه الصغيرة، نظرة ملؤها المعاني المبهمة.
ولأول مرة لا ترى "ليلى" الدفء بعينيه الخضرواين اللتين لطالما عشقتهما، بل العكس، كانت بالكاد تستطيع التنفس.
حدّقت إليه بشحوبٍ، وشعرت بحرقة تلتهم صدرها. بينما يرتد قليلًا هاتفًا وهو يخاطبها مباشرةً:
-إيه يا لولّا! مافيش مبروك؟
أجفلت متمتمة على الفور بصوتٍ مهزوز:
-مبروك!
هز رأسه قائلًا بهدوئه المعهود:
-لأ. مبروك حاف كده ماتنفعش.. تعالي في حضني. ولا بقيتي تتكسفي منّي؟
تدخل "مهران" ضاحكًا بموّدة:
-تتكسف منك؟ ده انت إللي مربيها. ده أنا فاكر أول ما جينا نعيش معاك كان عندها 3 سنين. وماكانتش بتنام غير في حضنك.. قومي يا ليلى احضني نديم وباركيله. ده أخوكي الكبير.
أجفلت للمرة الثانية، وكأن الكلمات أصابتها في مقتل، كأن وقعها على أذنيها أشدّ قسوة من كل ما سبق. للحظة، شعرت أنها غير قادرة على الحراك، قدماها تثقلتا فجأة، وقلبها يخفق كطائرٍ مذعور. لكن نظرات العائلة، المنتظرة، لم تترك لها خيارًا.
أجبرت نفسها على النهوض، ارتباكها يفضحها، خطواتها نحو "نديم" كانت مترددة، ثقيلة، وكأنها تسير على جمرٍ لا يُرى. كان هو ثابتًا في مكانه، لم يتحرك، فقط راقب اقترابها بصمتٍ مريب، كأنه ينتظر أن تصل إليه بنفسها.
وعندما وقفت أمامه مباشرةً، رفعت عينيها إليه، للحظةٍ تلاقت النظرات، فاشتعل شيءٌ ما في قلبها، إحساسٌ غامض، مجهول المصدر، لكنه خانق. لم تمنح نفسها وقتًا لتحلّل ما يحدث بداخلها، فقط مدّت ذراعيها ببطءٍ، وشبّت على أطراف أصابعها، تحيط عنقه بذراعيها في عناقٍ بدا وكأنه محاولة يائسة للامتثال لما يُطلب منها، أكثر من كونه فعلًا نابعًا من قلبها.
إلا إن الكلمات التي خرجت من بين شفتيها.. كانت الأثقل على روحها، الأشد إيلامًا:
-مبروك يا أخويا.
وما إن نطقتها، حتى شعرت بذراعيه تلتفّان حولها فجأة، بقوةٍ لم تتوقعها، كأنهما قيدٌ أحكم إغلاقه عليها، كأنهما يرفضانهما معًا، هذا اللقب الذي منحته إيّاه وبادلها ذاته بدوره.
جاء صوته منخفضًا، لكنّه نفذ إلى أعمق نقطةٍ في روحها، محملًا بشيءٍ لم تستطع تفسيره:
-الله يبارك فيكي.. يا أختي.
ذلك الرد، كان بمثابة الضربة القاضية لأيّ مشاعر أحسّتها تجاهه.. انتهى كل شيء.. حتى قبل أن يبدأ!
يتبع ...
( 1 )
_ من أنا _ :
تتأمل انعكاسها بذهول، كأنها ترى نفسها لأول مرة. انسدلت خصيلاتها الجديدة على كتفيها بنعومة، تتراقص تحت الضوء بلونها الأشقر الذي أضفى على ملامحها وهجًا دافئًا. مرّرت أناملها على شعرها برفقٍ، تتحسس نعومته المعهودة بلا تموّجات، ثم أمالت رأسها قليلًا تتفحص زوايا التغيير، تراقب كيف يعكس الضوء لمعان اللون الجديد المدمج بلون شعرها الكستنائي الأصلي ..
-إيه رأيك أنسة ليلى؟ زي ما كنتي عايزة؟
إلتفتت "ليلى" صوب خبير التجميل الأشهر بالمدينة، ابتسمت له قائلة:
-انت بتهزر يا ريكو؟ ده تحفة. الهايلايت طلع فكرة تجنن زي ما قولتلي.
وافقها الأخير مغلغلًا أصابعه بشعرها ينتثره لتراه بالمرآة:
-أنا عملت إللي تخيّلته هايكون لايق جدًا عليكي. لما قولتيلي عايزة لوك جريئ يمحي آثار فتاة المدرسة وفي نفس الوقت مايشوّهش شكلك الأصلي.. دلوقتي بقيتي Lady بجد!
لم تستطع كبح ابتسامتها، تلك الابتسامة التي زيّنت ملامحها بثقةٍ لم تعهدها من قبل. رفعت ذقنها قليلًا، عبثت ببعض الخصيلات بيدها وكأنها تستكشف مدى تأثير هذا التغيير على حضورها، على إحساسها بذاتها. أزاحت الكرسي للخلف بخطواتٍ رشيقة، دارت نصف دائرة أمام المرآة، ثم عادت تتأمل ببطءٍ، وكأنها تود أن تحفظ هذا الوجه الجديد في ذاكرتها. لم يكن مجرد تغيير في الشعر، بل كان شيئًا أعمق، كأنه إعادة تعريف لنفسها، لمظهرها، لصورتها أمام العالم.
وقفت أمام المرآة تتأمل انعكاسها بذهول، كأنها ترى نفسها لأول مرة. انسدلت خصلاتها الجديدة على كتفيها بنعومة، تتراقص تحت الضوء بلونها الأشقر الذي أضفى على ملامحها وهجًا دافئًا. مرّرت أناملها على خصلاتها برفق، تتحسس النعومة التي لم تعهدها من قبل، ثم أمالت رأسها قليلًا تتفحص زوايا التغيير، تراقب كيف يعكس الضوء لمعان اللون الجديد.
لم تستطع كبح ابتسامتها، تلك الابتسامة التي زينت ملامحها بثقة لم تعهدها من قبل. رفعت ذقنها قليلًا، عبثت ببعض الخصلات بيدها وكأنها تستكشف مدى تأثير هذا التغيير على حضورها، على إحساسها بذاتها. أزاحت الكرسي للخلف بخطوات رشيقة، دارت نصف دائرة أمام المرآة، ثم عادت تتأمل ببطء، وكأنها تود أن تحفظ هذا الوجه الجديد في ذاكرتها. لم يكن مجرد تغيير في الشعر، بل كان شيئًا أعمق، كأنه إعادة تعريف لنفسها، لمظهرها، لصورتها أمام العالم.
وأمامه هو خاصةً. الرجل الذي كان ومازال عقدة حياتها، المتسلّط الغامض، والذي لم تستطع يومًا فهمه، لم يكن ما تفعله مجرد تغيير بسيط في مظهرها، بل كان ثورة صامتة، إعلانًا غير مباشر عن تحوّلها.
كم كان يضايقها بكلماته التي توحي بأنها طفلة، كم استهان بنضجها، حتى حين كانت تحاول أن تثبت له العكس. والآن؟ الآن لن يرى الطفلة التي طالما وضعها في قالب البراءة والصغر، بل سيجد أمامه امرأة، ربما تفوق زوجته الفاتنة إثارةً وجمالًا!
زفرَت "ليلى" ببطءٍ، تذكرت ليلة زفافه واقترانه بتلك الأخيرة. تذكرت الفترة العصيبة التي عاشتها لاحقًا، وهي تراه معها، ملاصقةً له، تستحوذ عليه وتهتم بتفاصيله، تشاركه كل شيء، ألا يحق لها؟
لقد صارت زوجته، ما يحدث بينهم غير ما ذكرت أكثر بكثير، وبمجرد تفكيرها به تشعر وكأنها على وشك البكاء، ولا تعرف السبب على وجه الدقة!!
لطالما أعجبت بـ"نديم". وربما تحرّكت مشاعرها تجاهه بالآونة الأخيرة، لكنه لم يفعل، فلو فعل ما كان ليتجاهلها بهذا الشكل، ما كان لينظر لأخرى.
ابتسمت بسخرية، وكأنها تُذَكِّر نفسها بأنها لم تعد تحتاج لمقارنات واهية. لقد تجاوزت كل ذلك منذ لحظة إعلانهما زوجًا وزوجة.
ما يهمها الآن هو كيف إنها سوف تبهره، وستكون أشدّ الناس سعادة لمحو نظرة الاستخفاف بها من عينيه، اليوم، حين يراها، سيعلم بأنها لم تعد تلك الفتاة التي تركها خلفه، بل باتت امرأة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأكثر ممّا كان يتخيل ...
-ميرسي أوي يا ريكو. بجد ميرسي على كل حاجة.
حدجها الشاب الوسيم مبتسمًا بلطفٍ وقال:
-أنا ماعملتش حاجة كبيرة. انتي إللي جمالك مش عادي.
رفرفت برموشها الطويلة تشكره برقةٍ من جديد، ثم ألقت على نفسها نرظة أخيرة بالمرآة، مرّرت أصابعها على شفتيها ذات الحمرة الصارخة، رفعت ذقنها قليلًا دافعة شعرها للوراء، ثم استدارت برشاقة، وكأنها تُودّع النسخة القديمة منها، ماضية بثقة نحو حياة لن يكون "نديم الراعي" جزءًا منها بعد الآن ...
-لأ !.. تمتمت "ليلى" بتعجب ما إن صارت أمام السيارة التي بعثت في طلبها عبر الهاتف
لم يكن تعليقها يخص أحدًا غيره بالطبع، ما إن اهتز الهاتف بيدها أنبأها حدسها مسبقًا، وتأكدت عندما ألقت نظرة على الشاشة المضاءة، لترى أسمه الذي يُكثّف خفقات قلبها بمجرد سماعه أو حتى رؤيته ..
وللمرة الثانية يخبرها حدسها سبب إتصاله بها في هذا التوقيت تحديدًا، تطلق نهدة عميقة، تتمالك أعصابها جيدًا، ثم ترد عليه بثباتٍ:
-آلو!
جائها رده الهادئ حادًا بشدة:
-100 مرة قلت لك. لما تخرجي من البيت لوحدك يكون معاكي السواق.. حصل ولا لأ؟
تريّثت "ليلى" للثوانٍ قبل أن ترد عليه بضجرٍ:
-نديم.. من فضلك أنا مبسوطة جدًا دلوقتي. ومش في مود أسمع أي أوردر. عمومًا أنا راجعة البيت دلوقتي.
سمعت نبرة الخطر الخفيّة في صوته الخافت:
-أسمعي يا ليلى.. انتي كده كده هاتتحاسبي. ماتزوّديش فاتورتك أحسن لك
فضل السواق هاتلاقيه مستنيكي قدام المكان إللي انتي فيه. تروحي زي الشاطرة وتركبي معاه حالًا. ولينا كلام لما ترجعي.
لم تنتبه "ليلى" لآخر كلماته، إذ كانت مذهولة وهي ترفع عيناها باحثة عن أثر السيارة الفضّية التي تعرفها جيدًا، وبالفعل، وجدتها تقف على الجانب الآخر من الطريق المواجه للمركز التجميلي ..
كيف عرف بحق الله؟.. كيف عرف بمكانها وهي التي رفضت اصطحاب السائق لها صباحًا وجاءت بسيارة أجرة.. أيراقبها!؟
-سمعتي يا ليلى؟
أفاقت على صوته واعية لما يحدث، تجاهلت لهجته التحذيرية وقالت مدفوعة بحنقها بأسلوبه الأبوي الخانق:
-معلش هاتسمعني انت يا نديم.. أنا جيت هنا لوحدي وهاروّح البيت كمان لوحدي.. ولما أرجع فعلًا لينا كلام. انت بقيت بتخنقني بأوامرك وتحكماتك ومش فاهمة عشان إيه أصلًا.. بص. أنا جايّة.
صوت ما بأعماقها جمّدها قبل أن تتحامق وتغلق بوجهه، بينما قال عقب كلمتها الأخيرة مباشرةً بنبرةٍ أرجفتها:
-لو كلمتي ماتسمعتش يا ليلى وماروحتيش تركبي العربية مع فضل.. مش هاكتفي بتأديبك بشوية كلام. وهاتندمي!
ردت باستهزاءٍ غريزيّ:
-تصدق خوّفتني فعلًا يا نديم.. ده بابي نفسه مش بيخوّف زيك.. باي عشان الكابتن مستني وأنا اتأخرت عليه.
وأغلقت الآن قبل أن تسمع منه أيّ رد، سحبت نفسًا مرتعشًا عبر شفتيها، ثم سارت صوب السيارة المستأجرة بخطواتٍ بدت واثقة، ولكن من داخلها كانت عكس كل ما حاولت التظاهر به.
__________________
في جناحه المَلكي الفاخر ..
وقف "نديم الراعي" أمام المرآة الضخمة، يغلق أزرار قميصه الداكن بحركةٍ رتيبة، يضبط ياقته المفرودة، ويحرص على أن يكون مظهره لا تشوبه شائبة كعادته. الضوء الخافت المنبعث من الأباجورة الجانبية رسم ظلالًا ناعمة على ملامحه الحادة، لكن عينيه الخضراوين كانتا بعيدتين تمامًا عن انعكاسه في المرآة، كانتا غائصتين في بُعدٍ آخر.
وعقله في مكانٍ آخر… معها.. مع "ليلى"!
تلك الفتاة التي ربّاها بنفسه، وقد ظن بأنه يشكّلها كما يريد، لكنه الآن يدرك بأنها أفلتت من قبضته، تسلّلت بعيدًا عن الصورة التي رسمها لها، واكتسبت من شخصيته أكثر ممّا ينبغي. العناد، التمرد، الرغبة في فرض إرادتها… كلها صفات لم يكن يجب أن تكتسبها، لكنها فعلت، وبسببه هو. فهل يلومها؟
لكن الأمر لم يعد يحتمل. تجاوزت كل الحدود، وتمادت في تحدّيها له. كان عليه أن يضع حدًا لهذا العبث. هو "نديم الراعي"… وهي، من بين الجميع، هي بالذات، لا يمكن أن يسمح لها بتخطي الخطوط التي رسمها. لا يمكن أن تتحداه، أو أن تخرج عن طوعه. هي بالذات.
فجأة، شعر "نديم" بذراعين ناعمتين تلتفان حوله من الخلف، وصوت دافئ يهمس من وراء كتفه:
-بحبك!
لم يلتفت. لم يرد حتى. مدّ يده إلى زجاجة عطره المفضّل، ورشّ منه بوفرة على عنقه ومعصميه، بينما "راندا" زوجته، تقف في مكانها خلفه، تحتضنه وتنتظر… لكن دون جدوى.
تحرّكت لتقف إلى جانبه، نظرت إليه عبر المرآة، قبل أن تمسك بذراعه برفقٍ وتقول بنبرة عتاب:
-انت مش سامعني؟ بقولك بحبك يا نديم!
أخيرًا إلتفت إليها، لكن نظرته كانت باردة، وابتسامته لم تصل لعينيه ...
-مالك يا راندا؟ خير. هاتي اللي عندك.
قطبت جبينها بانزعاجٍ، تركت ذراعه ونظرت إليه مباشرةً قائلة:
-هو أنا لازم أكون عايزة حاجة لما بقولك كده؟ في إيه يا نديم؟ انا مابقتش عارفة مالك. بقالك فترة طويلة مش معايا. مش حاسس بيا.. نديم.. انت حتى بطّلت تلمسني!
ألقى نظرة سريعة على ساعته، ثم زفر بنفاذ صبر، وعاد لضبط أكمام قميصه قائلًا بصلابة:
-راندا. مش وقته الكلام ده.
ردت بنزعة عصبية:
-أمال إمتى وقته؟ كل مرة نفس الرد!
أدار وجهه إليها أخيرًا، نبرته حملت ضيق ممزوجًا بحزمٍ واضح:
-خلاص قلت.. هانتأخر على الغدا.. زمانهم مستنيّنا تحت. يلا.
تشنجت ملامحها، وكأنها على وشك الرد بغضب، لكنها تراجعت في آخر لحظة. هزّت رأسها قليلًا، ثم استدارت بصمت، تاركةً له الإجابة التي لم تحصل عليها، والفراغ الذي بدأ يكبر بينهما دون أن يكترث.
__________________
في غرفة الطعام ..
هناك صمت ثقيلٌ لم يقطعه سوى صوت الأطباق وهي تُوضع على الطاولة بعنايةٍ. بينما جلس "مهران الراعي" في مكانه المعتاد، عاقدًا ذراعيه وهو يراقب زوجته، السيدة "مشيرة العقّاد" التي كانت توزّع الطعام برفقة مستخدميها على الأطباق بانشغالٍ واضح. تردد قليلًا قبل أن ينطق، لكنها كانت فرصته، لم يحضر أحد بعد، وهذا الحديث ضروري خاصةً بعد الذي حدث صباحًا ...
-مشيرة.. واحنا لوحدنا كده. ممكن تفهميني باختصار ليه أسلوبك بقى جاف جدًا مع ليلى مؤخرًا؟
لم تتوقف مشيرة عن عملها، لكن حاجبيها ارتفعا قليلًا قبل أن تدير رأسها نحوه ببطءٍ لترد بنبرةٍ باردة:
-أسلوبي بقى جاف؟ لأ مش فاهمة يا مهران. جبت منين الفكرة دي. أو إيه الجديد إللي شوفتني عليه معاها؟
قطب "مهران" وهو يقول بلمحة غاضبة:
-انتي بقيتي قاسية عليها.. بتكلّميها بجفاء عكس أي حد هنا في البيت حتى راندا مرات نديم. وكأن ليلى هي الغريبة. كأنها مش بنتك!
وضعت الملعقة على الطاولة بقوة، ورفعت عينيها لتلتقي بعينيه مباشرةً، وكأنها تتحداه أن يقترب أكثر من هذه المنطقة ...
-أديك قلت.. بنتي.. بنتي يا مهران زي ما قلت.. وأنا أدرى بمصلحتها. انت دلّعتها دلع ماسخ أوي من صغرها. ومعاملتي ليها إللي مش عاجباك دي محاولة أخيرة.. قبل ما عيارها يفلت.
صاح "مهران" بدهشة لا تخلو من الغضب الصريح:
-عيار مين إللي يفلت؟ كل ده عشان إيه؟ انتي عارفة أصلًا بتتكلمي عن مين.. دي ليلى.. ليلى يا مشيرة. دي لسا طفلة!!
-طفلة رايحة الجامعة كمان كام يوم.. صحيح!
ضيّق عينيه متفحصًا ملامحها، باحثًا عن إجابة خلف هذا العداء المستتر في كلماتها. وقال:
-عارفة يا مشيرة.. يارب أطلع غلطان.. وتكوني فعلًا بتتصرفي بدافع خوفك عليها. عشان لو إللي في دماغي صح.. هاتزعلي مني أوي.
ابتسمت ابتسامة صغيرة، لكن عينيها ظلّتا باردتين وهي ترد عليه:
-انت زعلتني خلاص يا مهران.. وماظنش إن أي حاجة ممكن تعملها دلوقتي أو بعدين ممكن تزعلني.
اشتد فكه غضبًا، وهتف من بين أسنانه محتدًا:
-أنا بحذرك يا مشيرة.. وده أخر تحذير.. ليلى خط أحمر ومش هاسمح لك حتى تجيبي سيرتها بكلمة بطّالة انتي سامعة ..
-إهدى يا عمّي!
إنتبه "مهران" لصوت "نديم" المباغت، أمسك لسانه بينما يستطرد الأخير ماشيًا صوب مائدة الطعام بجواره زوجته:
-مين يقدر يجيب سيرة ليلى بكلمة بطّالة بس؟ محدش يقدر طول ما أنا موجود طبعًا.
وجلس على رأس الطاولة متابعًا وهو يوّزع ناظريه بين عمّه وزوجته:
-إيه الحكاية بقى؟
بادرت "مشيرة" وهي تضع له صحنه الخاص أمامه:
-ولا حاجة يا حبيبي.. عمّك كالعادة بس.. شايف ليلى ملاك مابتغلطش.
راقب "نديم" عمّه وهو يرمق زوجته بنظرة كانت لتحرقها لو أن لها تأثير.. سحب نفسًا عميقًا وقال بهدوء:
-مافيش حد مابيغلطش أكيد.. وخاصةً ليلى يا عمي!
نظر له "مهران" مشدوهًا ولم يرد، فأكمل "نديم" بصوتٍ أجش:
-ماتبصليش كده يا عمي.. بص أنا ماعرفش إيه مشكلة مشيرة مع ليلى. لكن إللي أنا واثق منه إنها واخدة وش على الكل الفترة دي ولازم يتعاد رسم حدودها.
عبس "مهران" قائلًا:
-انت هاتعوم على عوم مشيرة يا نديم. يابني ليلى لسا عيّلة. كل ده عشان سايبها تعيش سنّها؟ البنت مابتعملش حاجة غلط.
هز "نديم" رأسه وقال بمنطقه المقنع كالمعتاد:
-ما هو ده أول طريق التمرّد يا عمي.. لما إنهاردة تسمح لها تمشي على كيفها. تخرج وتدخل وقت ما تحب. تلبس إللي يعجبها. تكلّم أي حد منغير ما نعرفه على الأقل.. هاتاخد على كده ومحدش هايعرف يحاسبها بعدين.. ليلى محتاجة يتشدّ عليها شويتين وده إللي أنا ناوي أعمله.
لو كان أي أحد غيره قال هذا الكلام ربما كان "مهران" ليعارضه بقسوة، لكنه ولدهشة زوجته وزوجة ابن أخيه وافقه قائلًا وقد اقتنع بكلامه:
-جايز انت شايف حاجة أنا مش شايفها فعلًا.. خلاص يا نديم.. اتصرف معاها وأنا مش هاتدخل نهائي.
غمغمت "مشيرة" من مكانها متهكمة:
-لو ماكنش نديم قالها ماتبقاش كلمة حق صحيح!
صوّب "مهران" نحوها نظرة محتقنة، بينما ابتسم "نديم" متسائلًا فجأة:
-أومال فين ليث ولُقى؟
أجابت "مشيرة" وقد اشرق وجهها بالابتسام الآن:
-لُقى سافرت اسكندرية عشان تاخد قياسات فستان فرحها وليث طبعًا راح معاها.. يومين وهايرجعوا إن شاء الله.
-تمام بس ماتنسيش إن العريس اسكندراني. يعني عايش هناك. وليث لازم يفتّح عنيه على أخته كويس ومايسبهاش تتوارب عن عينه. مش هانيجي في الآخر ونخيب.
-لآ ماتقلقش.. ليث من الناحية دي طالع لك بالظبط. دي كانت هاتروح لوحدها وهو راسه وألف سيف رجله على رجلها.
-راجل!.. قالها مزهوًا بالفتى الذي كبر في كنفه وتعلّم منه الكثير على مرّ السنون
وأمسك بالملعقة وكاد يبدأ بتناول طعامه.. إلا إن صوتها جمّد كل شيء من حوله للحظة:
-Hello Humans!
أطلّت "ليلى" على أعتاب غرفة الطعام بغتةً، رأت الجميع كما توقّعت _ عدا شقيقاها _ والدها "مهران" في زاوية المائدة، وأمها مشيرة إلى جانبه، وعلى الجانب الآخر كانت "راندا". أما "نديم" فكعادته، في الصدارة.
متجهمًا كالمعتاد، لم تسمع لأحد صوتًا بعد ظهورها، رغم أن أصواتهم تناهت إلى سمعها قبيل دخولها، عينيها لم تفوّت أيّ تفصيلة للأجواء المشحونة.
توقفت عند المدخل للحظة، كأنها تستجمع قواها قبل أن تتقدم، تحاول أن تبقي رأسها مرفوعًا رغم التوتر الذي بدأ يزحف إلى صدرها. لم يكن التوتر نابعًا من وجود الجميع بقدر ما كان بسبب نظرات "نديم" الحادة التي التقت بعينيها للحظة واحدة فقط… لكنها كانت كفيلة بأن تعيد إلى ذاكرتها وعيده القاسي لها عبر الهاتف قبل ساعة واحدة، حين عصت أوامره ولم تعد مع سائقه.
ورغم أنها كانت مغرورة بما يكفي لعدم إظهار خوفها، فإن ارتباكها كان حقيقيًا. ومع ذلك، تماسكت، وواصلت طريقها نحو الطاولة ...
-مساء الخير!.. خرج صوتها هادئًا.
لكنه لم ينجح في كسر الجليد الذي خيّم على المكان. شعرت بتشنج "نديم" بمجرد أن نطقت، وكأن وجودها في حد ذاته كان مستفزًا له. تجاهلته تمامًا واقتربت من والدها، قبّلته على خده بمحبة، فردّ عليها بابتسامة دافئة. ثم التفتت إلى والدتها، فطبعَت قبلة خفيفة على خدها، لكن "مشيرة" لم تُظهر أيّ استجابة، اكتفت بإيماءة باردة وكأنها بالكاد تتسامح مع وجودها.
أدارت "ليلى" رأسها نحو كلًا من "نديم" و"راندا". ألقت عليهما تحيّة مقتضبة، لا دفء فيها ولا عداء، مجرد كلمات رسمية خالية من أيّ مشاعر. لم تتوقع ردًا حارًا، ولم تحصل عليه، فاكتفت بأن تسحب الكرسي لتجلس…
لكن فجأة، جاءها صوته، حادًا، قاطعًا، لا يقبل الجدل:
-ماتقعديش!
تجمّدت يدها على ظهر الكرسي، وحدّقت فيه بذهول. لأول مرة منذ دخلت، نظرت إليه مباشرةً… وإلى ذلك البرود القاسي الذي يغلّف ملامحه.
-إيه؟
تقاطعت نظراتهما للحظاتٍ طويلة، قبل أن يتكئ إلى الخلف في مقعده، واضعًا ذراعه على الطاولة بلامبالاة مستفزة وهو يقول ببرودٍ:
-واضح إنك متخيّلة إن تصرفاتك هاتعدي ببساطة. وإنك ماعملتيش حاجة تستاهل العقاب.. كنتي فكراني بهزر؟
شعرت بالدماء تصعد إلى وجهها، تذكّرت المكالمة بحذافيرها وهي تنظر إليه… تذكّرت لهجته القاسية فيها والتي تحاكي لهجته في هذه اللحظة بإسلوبٍ مبطن. لكنها لم تكن لتتراجع الآن. انتصبت في مكانها، تحاول أن تحافظ على هدوئها رغم غليانها الداخلي، وقالت:
-عقاب؟ انت شايفني طفلة يا نديم؟ ثم أنا عملت إيه؟ أنا خرجت روحت الكوافير زي ما بعمل كل فترة عادي. إيه المشكلة يعني؟
-المشكلة إنك مش هاتعملي كده تاني!.. قالها بوضوحٍ، وأردف:
-أقصد ماعادش في فرص ليكي تعملي أي حاجة تيجي على بالك.. لا خروج ولا حتى نزول من أوضتك.
احتدت عيناها، واستدارت نحو والدها، متوسّلة تدخله:
-بابي انت ساكت ليه؟ مش هتقول حاجة؟!
زفر "مهران" بخفة، قبل أن يهز رأسه بأسفٍ، ويرد عليها بحزمٍ خذلها:
-أنا آسف يا ليلى… مقدرش أتدخل بينك وبين نديم. ده أخوكي الكبير. وأكيد عارف بيعمل إيه والأهم إنه عارف مصلحتك.
أخيها!!!
تراجعت خطوة للخلف، وكأنها تلقّت صفعة. نظرت إلى والدها بذهول، ثم إلى "نديم" الذي لم تفارق ملامحه تلك البرودة المستفزة.
صاحت بوجوههم فجأةً:
-ده مش أخويا!
خرجت الكلمات منها بعنفٍ، وكأنها تحاول بها كسر تلك السلطة التي فرضها عليها الجميع دون إرادتها. لكن "نديم" لم يتأثر، لم يغضب حتى. فقط ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة، أججت غضبها، قبل أن يرد بهدوءٍ مستفز:
-فعلًا… أنا مش أخوكي. بس ده مش معناه إنك تقدري تخرجي عن طوعي. أو تعملي اللي في دماغك أيًا كان. وبالمناسبة حسابك على إللي روحتي عملتيه في شكلك ده منغير ما تستأذني أنا شايله لقدام.. بس هاتعرفيه في وقته.
كانت إشارة صريحة لمظهر شعرها الجديد، لقد لفتت نظره إذن، وكانت لتغتبط في ظرفٍ آخر.
لكنها بدلًا من ذلك قبضت يديها بقوة، تحاول أن تكبح رغبتها في الصراخ بوجهه باسلوبٍ أكثر ضراوة، إلا إن "نديم" لم يمنحها فرصة للرد، وأكمل بصوتٍ ثابت:
-بما إنك شايفة نفسك ناضجة كفاية عشان تتحديني.. يبقى تستحملي نتيجة أفعالك.
صمت للحظة، ثم أنهى قراره بصرامة:
-هاتطلعي أوضتك.. مش هاتنزلي منها غير لما أسمح لك. مفهوم؟
اتسعت عيناها بدهشة وغضب ورددت:
-أفندم! أنت بتتكلم جد؟!
-جد جدًا. وده آخر كلام.
تلفتت حولها، منتظرة أن يتدخل أحد… لكن الصمت كان سيد الموقف. "راندا" بدت مستمتعة بما يجري ولم تستغرب، ووالدتها لم تحرك ساكنًا، أما والدها… فقد اكتفى بالصمت، كأن الأمر لا يعنيه.
عجزت عن كبح انفعالها أكثر، فصرخت بانفعالٍ:
-مش طالعة! ومش من حقك تمنعني من الخروج أو النزول. ولا تتعامل معايا بالطريقة دي أصلًا أنا ماسمحلكش!!
أطبق صمت مريب على الجميع، لم يجرؤ أحد على النطق، فقط حالة من الترقّب، ثم نهض "نديم" ببطءٍ.
رفع رأسه لينظر إليها نظرة ثابتة جعلت قلبها يضطرب رغمًا عنها. اقترب منها قليلًا، حتى أصبحت المسافة بينهما ضئيلة، ثم قال بصوتٍ خفيض، لكنه كان أشبه بحكمٍ نهائي:
-اطلعي أوضتك يا ليلى… دلوقتي.
وقفت "ليلى" في مكانها، أنفاسها تتسارع، وعيناها تشتعلان بالغضب والعناد. لم تكن معتادة على أن يُملى عليها شيء، لم تكن تقبل الأوامر من أحد، فكيف به؟! كيف يجرؤ على فرض سلطته عليها بهذه الطريقة المهينة؟
لكن "نديم" لم يكن في مزاج يسمح له بتقبّل مقاومتها. تقدّم خطوة أخرى، حتى بات الفارق بينهما معدومًا تقريبًا، وحدّق في عينيها بنظرة ثقيلة، كأنها تهوي بسوط على كبريائها ...
-قلت لك اطلعي أوضتك!.. صوته منخفضًا، لكنه يحمل في نبراته تهديدًا لا يمكن تجاهله.
رفعت رأسها بتحدٍّ، جمعت كل قوتها كي لا تبدو ضعيفة أمامه، بينما عقلها يُعيد استرجاع مواقفه السابقة معها… كان دائمًا يُنذر قبل أن يعاقب، لكنه اليوم، لم يكن في مزاج للإنذارات ...
-ولو ماطلعتش؟ هاتعمل إيه يعني؟
كانت تعرف أن استفزازه أكبر خطأ يمكن أن تقترفه، لكنها لم تستطع منع نفسها. أرادت أن تريه بأنها ليست فتاة ضعيفة، وأنه لا يستطيع التحكم بها كما يتحكم بالآخرين.
لكن رد فعله كان أسرع ممّا توقعت.
في لحظة، امتدت قبضته إلى وتحوّلت إلى طوق حديدي حول معصمها، شدّها نحوه بعنفٍ جعلها تترنّح قليلًا، قبل أن يهمس في أذنها بنبرةٍ باردة تقطر تهديدًا:
-مش هاتجبَريني أوريكي هاعمل إيه لو ماسمعتيش الكلام. بس لو حابة تتهاني بجد يا ليلى.. كمّلي عناد!
تجمدت في مكانها، قلبها ينبض بعنف، ليس خوفًا، وإنما صدمة من حدة تصرفه. رفعت عينيها إليه، محاولة أن تجد أيّ أثر للين أو تراجع في ملامحه، لكنها لم تجد سوى القسوة المطلقة.
حاولت أن تسحب يدها من قبضته، لكن أصابعه ضغطت أكثر، فأدركت أن لا فائدة. نظرت حولها مستنجدة، فوجدت والدها ينظر بعيدًا كأنه غير معنيّ بالأمر، ووالدتها صامتة، و"راندا" لأول مرة ترتبك منذ رأتها، لكنها بالطبع لن تنبس بكلمة!!
شعرت بغصّة في حلقها… لا أحد سيقف بجانبها. كانت وحدها في هذه المعركة، والمعركة قد حُسمت بالفعل لصالحه.
لقد خسرت.
الرضوخ كان مُرًا، لكنه كان الخيار الوحيد الآن.
أخفضت عينيها، وأجبرت نفسها على ابتلاع عنادها، قبل أن تهمس بصوتٍ خرج مختنقًا رغمًا عنها:
-سيب إيدي!
لم يفلتها فورًا، كأنه أراد أن يتأكد من استسلامها تمامًا، ثم بعد لحظاتٍ أطلق سراحها ببطء. تراجعت خطوة إلى الخلف، تشعر بالذل يغلي في عروقها، لكنها لم ترفع رأسها، لم ترد أن يرى في عينيها أثر الانكسار الذي نجح في زرعه داخلها.
ثم، دون أن تنطق بكلمة أخرى، استدارت واتجهت نحو الدرج.
لكن قبل أن تختفي تمامًا، جاءها صوته مرةً أخرى، بنفس الصرامة التي أنهت كل جدال معها:
-غداكي وعشاكي إنهاردة في أوضتك.. مش عايز ألمحك حواليا في أي مكان لحد ما أقرر إمتى تخرجي.
تسارعت خطواتها دون أن ترد. لم تكن تريد أن تمنحه أيّ انتصار آخر… لكنه كان يعلم، كما تعلم هي، أن انتصاره الأكبر قد تحقق بالفعل.
لقد كسرها.
أغلقت "ليلى" باب غرفتها خلفها، وأسندت ظهرها إليه، ثم انزلقت ببطءٍ حتى جلست فوق الأرض. انفجر بكاؤها في لحظة، ليس بكاء ضعف، بل قهر. قهر من كل ما تمر به، من قسوة "نديم". من إحساسها بالخذلان، من عجزها عن فهم ما الذي تغيّر، ولماذا تغيّر؟
لطالما كان "نديم" هو الرجل الذي نظرت إليه بانبهار، وكأنه خُلق ليكون فارسها. أحبّته في صمت، رسمت له في خيالها صورة البطل الذي لن يخذلها أبدًا، حتى صدمها قراره بالزواج من أخرى، فحطم أحلامها الورديّة دفعة واحدة. لكن رغم كل شيء، لم تستطع أن تكرهه، وما يؤلمها أنها لا زالت تحبّه.
تكاد تجن، لماذا تغيّرت معاملته لها؟ لم يكن هكذا معها في السابق. أجل، كان قويًا، حازمًا، لكنه كان يعرف كيف يحتويها أيضًا، كانت مدللته.. والآن؟ ماذا حدث؟ لماذا يعاملها بكل هذه القسوة؟ كيف نسى كل شيء؟
ألزوجته هذا التأثير الكبير عليه؟ هل نجحت بأخذه من الجميع حتى منها هي؟ اللئيمة. حتمًا هي من أشعلت نيران البغض في قلبه تجاهها، أجل هي لا غيرها!
زحفت "ليلى" نحو سريرها بصعوبةٍ، وكأن الحزن استنزف كل طاقتها، واستلقت عليه وهي تحضن وسادتها، تبكي حتى شعرت أن الدموع قد جفّت في عينيها. ظلّت على هذه الحال حتى اهتز هاتفها فجأة، نظرت إلى الشاشة بعينين محمرتين فرأت اسم "نوران". صديقتها المقرّبة يضيئ الشاشة.
ترددت لثوانٍ قبل أن ترد بصوتٍ مبحوح، مثقل بالبكاء:
-آلو!
نوران بلهجةٍ قلقة:
-ليلى.. مالك في إيه؟ إنتي كويسة؟
ليلى بصوتٍ مختنق:
-كويسة؟ آه طبعًا.. كويسة جدًا. لدرجة إني مش عارفة أنطق!
نوران بحدة: إنتي بتعيطي؟! إيه اللي حصل؟
بكت "ليلى" بمرارة وهي تصارحها باحتياجٍ للإفصاح:
-نديم.. نديم بقى حد تاني يا نوران.. أنا مش عارفة ده مين! من ساعة ما اتجوز الزفتة دي وهو بيعاملني أسوأ معاملة. ودلوقتي بيحبسني. أنا.. أنا مش مصدقة إن ده هو نديم اللي كنت أعرفه طول عمري!
نوران بغضب: إيــه؟ حابسك؟ ليه إنتي عملتي إيه أصلًا؟؟؟
ليلى بسخرية أليمة:
-ماعملتش حاجة. بس واضح إن ده هايكون أسلوبه معايا من هنا ورايح.. سواء عملت حاجة أو ماعملتش!
نوران بحزم: خلاص يا ليلى.. خلاص إهدي وماتعيّطيش. أنا جاية لك دلوقتي!
ليلى بإسرعٍ: لأ يا نوران.. بلاش. ده فارض عليا عقاب.. ممكن مايخلّكيش تشوفيني أصلًا.
نوران بتصميمٍ: ولا تقلقي. هاجي ومش هاتحرّك إلا لما أشوفك.. أنا مش هاسيبك لوحدك الليلة دي. فاهمة؟
رضخت "ليلى" إلى صديقتها تحت إصرارها، أغلقت الهاتف وهي تحاول كتم شهقاتها. جزء منها كان يحتاج "نوران" بشدة، والجزء الآخر كان يخشى أن تنهار تمامًا حين تراها. لكن هل هناك ما تبقى لتنهار أكثر؟
____________
في غرفة المكتب ..
جلس "نديم" خلف مكتبه، ينظر إلى "مشيرة" التي اتخذت مقعدًا قبالته بوجهٍ متحجّر، كما لو أنها تحمل بداخله صخورًا من مشاعر دفينة لا ترغب في كشفها. فتح درج مكتبه بهدوءٍ، أخرج علبة سجائره، مدّ يده بها نحوها، فشكرته وهي تأخذ سيجارة بإصبعين رفيعين، ثم مالت قليلًا لتشعلها من ولاعته التي كان يمسكها بثباتٍ. تراقص انعكاس اللهب على ملامحها التي لم تهتز لحظة، وكأنها اعتادت الاشتعال دون أن تحترق.
راقبها وهو يضع سيجارته بين شفتيه، يسحب نفسًا بطيئًا، ثم ينفث الدخان برويّة، وكأنه يمنحها المساحة لتبدأ الحديث، لكنها لم تفعل. فقرر هو أن يبدأ.
نديم بنبرة هادئة:
-كنتي مبسوطة أوي وأنا بقرص على ليلى يا مشيرة.
بمجرد ذكر الاسم، انقبضت ملامح "مشيرة". وتبدّلت عيناها إلى نظرة مشتعلة بعدائية مكبوتة. أخذت نفسًا من سيجارتها، ثم زفرته بعنفٍ، قبل أن ترد بلهجة باردة متحفزة:
-فعلًا يا نديم! ليلى؟ ليلى هي الموضوع المهم إللي جايبني هنا نتكلم فيه؟
نديم بصبر: مشيرة.. أنا جيت في صفّك إنهاردة قدام عمي عشان كنت مقتنع ان ليلى محتاجة يتشد عليها فعلًا.. لكن ده مش معناه اني موافق على طريقتك معاها. أنا كنت مستني منك تجري وراها بعد إللي أنا عملته فيها.. كنت مستني منك تحتويها بعد الموقف ده.
مشيرة بسخرية لاذعة:
-أحتويها؟ يا سلام! على أساس إنها ناقصة احتواء. ما عمّك بسم الله ما شاء الله قايم بالواجب. لما خلاص مابقاش حد قادر عليها.. غيرك انت يعني!
راقبها نديم، يحاول أن يسايرها، لا يريد أن يصطدم بها مباشرةً. يعلم أن "مشيرة" لطالما كانت دائمًا صارمة مع "ليلى" بالذات، لكنه لم يتخيّل أن الأمر قد يكون أعمق من مجرد الصرامة النابعة من قلق أم على ابنتها ...
-مش شايفة إنك مزوّداها شوية يا مشيرة؟ على رأي عمي.. بقيتي قاسية عليها. كأنها غريبة.. كأنها مش بنتك!
مشيرة بحدة: البنت دي لو ما اتربتش بالعصاية. هاتمشي في سكة مالهاش آخر. وهاتتعبنا يا نديم. عمك مبوّظها بدلعه ليها!
نديم بإصرار: بس دي بنتك..
ضحكت "مشيرة" ضحكة قصيرة، خالية من أيّ دفء، قبل أن تنظر إليه بعينين لامعتين بغضبٍ غريب، ثم ردت ببطءٍ، كأنها أفعى تلقي سُمًا:
-مش بنتي.. وانت عارف!!
ساد الصمت لثوانٍ. لم يرد "نديم".. فقط ثبت نظراته عليها، يراقب ارتجافة عينيها، تلك اللهجة التي لم تكن لهجة أم تخاف على ابنتها، بل لهجة امرأة تحمل في قلبها شيئًا أشبه بالكراهية.. لا، بل هو الكراهية نفسها.
نديم بصوت منخفض، لكنه حاد كحد السكين:
-أنا عارف.. وعارف حاجات كتير انتي ماتعرفيهاش يا مشيرة.. بس الاتفاق اتفاق.. وانتي ملزمة بيه.. عمّي قالها زمان.. وأنا بكررها دلوقتي.. ليلى مش من دمي.. لكن هاتفضل على أسمي لحد آخر يوم في عمرها.. ماينفعش ألمح في عنيكي نظرة كره ليها.
لم تهتز "مشيرة". لم تصرخ ولم تنكر، بل على العكس، نظرت إليه مباشرةً، وعيناها تحترقان بنيران أقدم ممّا يتخيّل، ثم قالت بجمودٍ:
-الكره مش بإيدينا.. زي الحب تمام يا نديم.. مش بإيدينا!
لم ينبس "نديم" ببنت شفة، لم يعلّق على تلميحها حتى، فقط استمع، بينما أكملت هي، كأنما نزعت قيدًا ظل يخنقها لسنوات:
-انت فاهم يعني ايه أربي بنت الست إللي حبّها مهران؟ دي حتى مش بنته. مش صلبه. ده جابها هنا عشان يربيها وسط عياله واداها اسمه بعد ما أمها ماتت.. ماخافش لما جالي وقالّي دي بنت دهب. بنت الست إللي أنا بحبها. وماحبتش غيرها. لو عايزة تعيشي وسط ولادك يا مشيرة هاتعتبريها بنتك من اللحظة دي. وهاتربّيها مع ولادك.. بس أنا. أنا عمري ما شفتها بنتي يا نديم. ولا عمري هاعملها!
تلاشت الكلمات في صمتٍ ثقيل، بينما ظل نديم يحدق فيها، غير مصدق مدى الجفاء الذي يحمله صوتها. كان يعلم كل شيء منذ مجيئهم إلى هنا من أجل العيش معه، وعرف بأن "ليلى" لم تكن ابنة عمه منذ اليوم الأول حين جلس معه عمه وتحدّثا طويلًا حول كل شيء تقريبًا.
هذا الحديث لم ينساه أبدًا، كما لم ينسى كل موقف سابق تفوّهت فيه "مشيرة" بكلماتٍ قاسية تجاه "ليلى". كل مرة تعاملت معها بغلظة غير مبررة، كل نظرة امتعاض ألقتها نحوها دون سببٍ واضح، لعله لم يكن واضحًا للطفلة، لكنه في داخله كان يراه كوضوح الشمس.
بالطبع "مشيرة" لم تحببها، ولم تراها يومًا كإبنة لها، لكنه لن يسمح لهذا الجحيم بالاستمرار، لن يترك "ليلى" فريسة لقسوة هذه المرأة.
رفع عينيه نحو "مشيرة".. ابتسم ببرودٍ وقال بأكثر نبراته هدوءًا:
-يبقى ماينفعش الحبل يتشد من الطرفين يا مشيرة.. طالما انتي هاتشدي.. أنا هارخي.. وخلّيني أقولها لك تاني عشان تبقى وتضحة أكتر.. ليلى ماتقلش أهمية عن أي فرد من عيلتي.. وماينفعش ألمح في عنيكي نظرة كره ليها.. عشان لو حصل.. هاتزعلي مني أوي.. واضح؟
تجمّدت ملامح "مشيرة" للحظة، لكنها سرعان ما استعادت تماسكها، كأنها تحاول استيعاب التهديد المختبئ خلف نبرة "نديم" الحاسمة. نظرت إليه بعينين ضيقتين، عينيه تلمعان ببريقٍ حاد، يشبه تمامًا ذلك البريق الذي يسبق اندلاع النيران.
لا أحد يهددها، لا أحد يجرؤ على الوقوف في وجهها، خاصة في أمر يخص "ليلى".. الطفلة التي لم تتقبلها يومًا، ولن تفعل.
لكن هذه المرة، شعرت بأن الأمور خرجت عن سيطرتها. لم يكن "نديم" مجرد شخص عابر، ولم يكن ممن يطلق كلمات فارغة. كان حازمًا، ثابتًا، ونظرته التي التقت بعينيها أخبرتها بأنه جاد.. جاد لدرجة جعلت شيئًا باردًا يتسلل إلى أطرافها، كأنما أدركت أن الحرب التي لطالما خاضتها في الخفاء، أصبحت الآن في العلن، وأن خصمها ليس بالسهل.
شدّت ظهرها، رفعت ذقنها في تحدٍّ صامت، لكن أصابعها المرتجفة وهي تطفئ السيجارة بقوة فوق المنفضة، فضحت جزءًا من اضطرابها. لم ترد.. فقط أطلقت ضحكة قصيرة، خالية من أيّ مرح، ثم نهضت، تعدل وقفتها كأنها ترتدي درعها المعتاد قائلة:
-واضح يا نديم.. واضح جدًا.. لو خلصت كلامك تسمحلي أخرج؟
أجابها بدماثة لم تخفي شراسته الدفينة:
-اتفضلي.
ابتسمت له قبل أن تستدير وتغادر، واختفت ابتسامتها بمجرد أن أولته ظهرها.
خطواتها رغم ثباتها الظاهر، لم تكن بالثبات نفسه، لأول مرة منذ سنوات، شعرت بأن الأرض التي تقف عليها لم تعد صلبة كما كانت!
يتبع ...
( 2 )
_ ظنون _ :
كان الليل قد أسدل ستاره على أرجاء القصر، حين صعد "نديم" الدرج بخطواتٍ ثابتة بعد أن أنهى أعماله العالقة بمكتبه. خفتت الأضواء في الممر الطويل المؤدي إلى غرف النوم، والهدوء الذي يخيّم على المكان لم يكن سوى قناع، يخفي تحته عواصف من المشاعر التي لا تهدأ هنا بين جدران هذا البيت.
عندما اقترب من باب غرفة "ليلى". استوقفه صوتها، كانت تبكي، ونبراتها المتحشرجة تشي بحزنٍ متراكم، لم تجد له متنفسًا سوى في حديثها مع شخص تثق به. وأيّ شخص سواها، صديقتها المقرّبة "نوران عيّاش".
توقف في مكانه، وقلبه يخفق على إيقاع أنفاسها المضطربة. ألصق راحة يده بخشب الباب مصغيًا، بينما صوتها يتسلل إلى أعماقه يوخزه بالشعور بالذنب :
-بقى حد تاني.. بقى شخص ماعرفوش يا نوران.. نديم إللي أنا طول عمري أعرفه مابقاش موجود. قبل كده ماكنش يقدر يزعلّني ولا حد كان يقدر وهو موجود.. دلوقتي مابقاش يفرق معاه احساسي.. اتحوّل مش فاهمة إيه السبب.. أوقات بكون عايزه أسأله ليه.. ليه بيحاول يخلّيني أكرهه. وأنا مش قادرة. مهما حاولت.. مهما وجعتني تصرفاته.. قلبي مش راضي يكرهه!!
استقرت كلماتها فوق صدره كصخرة ثقيلة، ألقت به في دوامة من المشاعر المتضاربة. لم يكن بحاجة إلى سماع المزيد. كل حرف نطقته كان كافيًا لإشعال نيران لم تنطفئ داخله يومًا، حتى وإن حاول إقناع نفسه بعكس ذلك.
حسم أمره، ووضع يده على مقبض الباب قبل أن يفتحه بهدوء. لم يكن بحاجة إلى إصدار أيّ صوت، فوجوده وحده كان كفيلًا بإعلان حضوره الطاغي.
التفتت "ليلى" إليه فورًا، وعلى الرغم من أن الدموع ما زالت تلمع في عينيها، إلا أنها أسرعت بمسحها في إصرار، كأنها تخشى أن يراها ضعيفة. رفعت رأسها، وعادت ترتدي قناعها المعتاد، قناع الكبرياء والعناد الذي لطالما واجهته به.
كانت جالسة فوق سريرها، مقابل صديقتها نوران، التي بدا عليها بعض الارتباك لرؤيته. لكن "ليلى" لم تمنحه سوى نظرة ثابتة، نظرة تتحدّى ضعفها أمامه، كأنها تريد أن تثبت له بأنها لا تزال صامدة، حتى وهو يحاول كسرها.
أما هو، فقد وقف عند الباب يراقبها بصمت، عينيه تلتهمان تفاصيل وجهها الذي يعرفه جيدًا، يعرف كل انفعالاته، كل محاولاتها لإخفاء ألمها خلف جدار من الصلابة. شعر بشيء يشبه الإعجاب، إعجاب بذلك التمرّد الذي لا ينكسر فيها، حتى وهي في أضعف حالاتها.
مرر بصره نحو "نوران". قبل أن ينطق بصوتٍ هادئ لكنه يحمل أمرًا لا يقبل الجدال:
-نوران.. ممكن تسيبينا لوحدنا شوية من فضلك؟
كلماته كالسهم، أصابت جو الغرفة فأثقلت الهواء بحالة من الترقب، نظرت "نوران" إلى "ليلى". وكأنها تنتظر منها إذنًا غير منطوق، لكن "ليلى" لم تقل شيئًا، فقط اكتفت بتشديد أصابعها حول الغطاء، وكأنها تستعد لمواجهة لا تعرف كيف ستنتهي.
ترددت "نوران" قليلًا، وكأنها كانت تخشى أن تترك "ليلى" وحدها معه، لكن في النهاية استجابت للصمت الذي فرض نفسه على الغرفة. نهضت من مكانها بخطوات مترددة، ألقت على صديقتها نظرة أخيرة تحاول طمأنتها، قبل أن تتجه إلى الباب وتفتحه بهدوء، ثم تخرج مغلقة إيّاه خلفها برفق.
حلّ السكون بينهما، ثقيلًا، ممتدًا كأنه يتحدى أيّ محاولة لكسره. لم يتحرك "نديم" من مكانه، ولم تتزحزح "ليلى" عن وضعها، لكنها كانت تشعر بتوتر غريب يتسلل إلى أوصالها، يجبرها على التظاهر بالتماسك أكثر. مرّت لحظات، قبل أن تأخذ نفسًا عميقًا، وتقرر قطع هذا الصمت بنفسها ...
-شكرًا !.. نطقت بصوتٍ جاف.
نديم بهدوء: على إيه؟
-كنت قلقانة أحسن تطرد نوران.. يعني. عشان انت معاقبني.. بس شكرًا إنك مأحرجتنيش و ...
لم تكمّل جملتها، إذ بادرها "نديم" بردٍ هادئ لكنه قاطع:
-عقابي ليكي عمره ما يوصل إني أطرد صاحبتك.. خصوصًا وأنا عارف إنها أقرب صديقة ليكي.
نظر إليها نظرةً مباشرة، نظرة لم تستطع أن تفهمها تمامًا، لكنها شعرت بها تتغلغل تحت جلدها. بدا كأنه على وشك أن يضيف شيئًا آخر، لكنه صمت لوهلة قصيرة، ثم رفع يده بإشارة خفيفة نحو شعرها المصبوغ بالأشقر، وعاد يتحدث بصوتٍ منخفض، لكنّه لا يخلو من التلميح:
-إلا لو كانت هي السبب ورا إنك غيرتي ستايل شعرك.. ساعتها هايكون ليا تصرف تاني معاها.
رفعت حاجبيها ببطء، وكأنها تفاجأت بإدراكه للأمر. مررت أصابعها بين خصلاتها، ثم هزّت رأسها بقليل من الحدة وهي تردد بجمودٍ:
-نوران ملهاش أي علاقة.. الفكرة كانت فكرتي أنا.
لم يعلّق "نديم" على الفور، فقط أومأ برأسه ببطء وكأنه يستوعب ردّها، ثم زفر أنفاسه في هدوء. ظلّ يحدق بها لثوانٍ أخرى، قبل أن يتحرك أخيرًا. اقترب منها بخطوات هادئة، حتى جلس على حافة السرير، في مواجهتها تمامًا.
تصلّبت "ليلى" في مكانها، لكنها لم تبتعد. فقط راقبته بعينين مليئتين بالحذر، تنتظر ما سيقوله، ما سيفعله. نظراتهما تلاقت في صمتٍ جديد، لكنه هذه المرة لم يكن صمتًا فارغًا، بل كان مزدحمًا بكل ما لم يُقال بعد.
رفع يده قليلاً، وكأنه يفكر في لمس شعرها، لكنه توقف في اللحظة الأخيرة، فقطع المسافة بينهما بالكلمات بدلًا من ذلك:
-ليه؟ ليه قررتي تغيري شكلك فجأة؟
لم ترد "ليلى" مباشرةً، وكأنها تزن كلماتها قبل أن تنطق بها. ثم، بعد لحظة قصيرة، زمت شفتيها وردت بإجابة أذهلته:
-عشان أعجبك!
لم يُزح "نديم" عينيه عنها، لقد نجحت وباغتته بجوابها، لكنه مارس على نفسه أقصى درجات ضبط النفس وقال بهدوء:
-ومين قال إن شكلك في الأول ماكنش عاجبني؟ والسؤال الأهم.. ليه عايزة تعجبيني أنا بالذات يا ليلى؟
رمشت "ليلى" باضطرابٍ للحظة، لكنّها استعادت تماسكها سريعًا، وردّت بلهجة طبيعية:
-انت طول عمرك كنت مرايتي.. من وأنا صغيرة كل حاجة عملتها كنت باخد رأيك فيها. لون التوكة. شكل الجزمة. تسريحة الشعر.. في الفترة الأخيرة لما كنت باخد رأيك كنت بشوف نظرة غريبة في عينك.. كأنك مابقتش شايفني حلوة.. كأنك مش طايق تشوفني أصلًا.. كنت موجوعة.. متغاظة!!
ارتسمت على شفتيه ابتسامة خافتة، لكنها لم تكن ابتسامة مرح، بل ابتسامة تحمل معاني لا تُفهم بسهولة. مال بجسده قليلًا للأمام، ليقلّص المسافة بينهما أكثر، وعيناه ثابتتان على عينيها وهو يردّ بنبرة منخفضة:
-منّي.. ولا من نفسك؟
ارتجفت أنفاسها للحظة، لكنها لم تسمح لنفسها بالتراجع. حافظت على تماسكها قدر استطاعتها، رغم أن نظراته كانت تفكك شيئًا بداخلها دون أن تدري.
لكنها، كعادتها، لم تكن مستعدة للاعتراف.. ليس بعد.
ظلّ الصمت معلقًا بينهما، مشحونًا بما لا يُقال. "نديم" ينظر إليها بعمق، يراقب الاضطراب الذي حاولت جاهدة إخفاءه خلف عينيها، ذلك الاضطراب الذي يعرفه جيدًا، الذي لم يعد بإمكانها التستر عليه مهما ادّعت القوة.
ثم، دون أيّ مقدمات، كسر الصمت بشيء لم تتوقعه، بكلمات لم تتخيّل أنها ستسمعها منه أبدًا:
-أنا آسف يا ليلى!
اتسعت عيناها في دهشة حقيقية، وكأن أذنيها لم تستوعبا كلماته للوهلة الأولى. رمشت ببطء، وحدّقت فيه كأنها تنتظر تفسيرًا لما قاله، لكنه لم يمنحها فرصة للسؤال، بل أكمل بصوت منخفض لكنه محمّل بثقل ما يشعر به:
-اسمعي كويس الكلام ده عشان يمكن مقدرش أقوله تاني.. أنا آسف على كل حاجة.. على قسوتي. على معاملتي ليكي الفترة إللي فاتت.. عارف إني وجعتك. وعارف إنك مستحقتيش مني ده.. كنت فاكر إني لازم أبعد. لازم أخلّيكي تكرهيني.. بس حتى ده ما نجحتش فيه. صح؟
بقيت "ليلى" صامتة، لكن عينيها قالتا كل شيء. نظرتها المرتعشة، الطريقة التي شحبت بها ملامحها، الاضطراب الذي ظهر على وجهها للحظة قبل أن تسارع بإخفائه، كل ذلك كان أكثر من كافٍ ليخبره بما لا تقدر هي على قوله بصوتٍ عالٍ.
استمرّ "نديم" وكأن هناك ثقلًا جاثمًا على صدره، لن يزول إلا إن أفرغ كل ما بداخله:
-لأول مرة حاسس إني مش واقف على أرض ثابتة.. وانتي السبب.. شوفي انتي سنّك وخبرتك كلها في الدنيا كام سنة.. لكن قادرة تهزّي كيان راجل زيي.. قادرة تهزّي كيان نديم الراعي.. عرفتي ليه كنت بعاملك كده؟
في اللحظة التي انتهى فيها من كلماته، لم تستطع "ليلى" الصمود أكثر. غامت عيناها بالدموع، رغم محاولتها العنيدة لكبحها، لكنها لم تنجح. تساقطت دمعة، ثم أخرى، كأنها إفراج متأخر عن ألم ظلّ محتجزًا لفترة طويلة، أرادت أن تتكلّم، أن تعاتبه على أشياء كثيرة، لكن الكلمات التي أرادت قولها إن خرجت فستكون بمثابة كوارث، فأسرّتها في نفسها مكتفيّة بنشيجها الحار.
شعر "نديم" بشيء ينقبض داخله عندما رآها تبكي، إحساس مرير بالذنب تسلل إلى قلبه، فأبعد المسافة المتبقية بينهما، رفع يده في رفقٍ، وإصبعه يلامس وجنتها برقة، يزيل آثار دموعها التي خانتها. لم يقل شيئًا في البداية، فقط لمسها كما لو كان يحاول محو الألم نفسه، ثم همس بصوت أكثر لينًا ممّا اعتادت عليه منه:
-الأميرة ماتعيّطش.. أميرة بيت الراعي عيونها تضحك وبس.. عشان خاطري كفاية عياط!
رفعت "ليلى" وجهها إليه، نظرتها تحمل ألف شعور متناقض، عتاب لم تقله بعد، وجع لم يهدأ تمامًا، لكنها رغم ذلك لم تبعده، لم تحاول الانسحاب. بل على العكس، تركت نفسها تنظر إليه بعمق، وكأنها تحاول التأكد إن كان يعني كلماته حقًا أم لا.
وأخيرًا، بعد صمتٍ قصير، خرج صوتها مرتجفًا قليلًا لكنه يحمل شيئًا من القوة:
-كنت فاكرة إنك عايزني أكرهك. كنت فاكرة إنك بتبعدني بعيد عنك متعمد وعملت كل ده عشان أنا بالذات أبعد كأني شيء مُقزز بتهرب منه.. بس أنا..
توقفت، حبست أنفاسها، ثم أضافت بصوت أضعف:
-أنا مقدرتش أكرهك يا نديم. بالعكس.. لو ماكنتش جيت وقلت الكلام ده كله كنت كرهت نفسي لأني مش فاهمة سبب كرهك ليا!!
يشعر "نديم" بشيء داخله يتحرّك، إحساس لم يختبره منذ وقت طويل، ذلك الشعور الدافئ الذي كان يحاول الهروب منه. لم يعرف بماذا يرد، أو كيف يخفف عنها، لكنه لم يحتاج للبحث عن الكلمات، لأن ما حدث في اللحظة التالية كان كافيًا لقول كل شيء.
فجأة، ودون أيّ مقدمات، رمت "ليلى" نفسها بين ذراعيه، كما لو أن جسدها سبق عقلها في اتخاذ القرار.
تجمّد "نديم" في مكانه للحظات، وكأن عقله لم يستوعب ما يحدث. شعر بيديها تحيطان به، بأنفاسها المتلاحقة عند عنقه، بذلك الارتجاف الطفيف في جسدها وهي تلجأ إليه.
استغرق الأمر ثوانٍ فقط قبل أن يستسلم، قبل أن يتخلّى عن تردده، ويفعل الشيء الوحيد الذي كان يرغب في فعله منذ وقتٍ طويل، ضمّها إليه، بقوة، كأنه يحاول أن يحتويها كلها، أن يمحو كل المسافات التي وضعها بينهما بإرادته.
دفن وجهه في شعرها، استنشق رائحتها الطيّبة كما لو كان يلتقط أنفاسه لأول مرة منذ شهور، وهمس بصوتٍ خافت لكنه مشبع بالصدق:
-لو كرهتك.. أبقى كرهت نديم الراعي.. أبقى كرهت نفسي يا ليلى. اوعي تفكري إني ممكن أكرهك.. اوعي.. مهما عملت.. مهما شوفتي مني.
ظلّت "ليلى" بين ذراعيه، تتشبّث به كما لو كان طوق نجاتها الوحيد، بينما هو يضمّها إليه وكأنه يحاول حمايتها من كل ما ألقاه عليها من ألم في الماضي. لم يكن هناك شيء في هذه اللحظة سوى دفء احتضانها، سوى الإحساس بأنها قريبة أخيرًا بعد كل المسافات التي وضعها بنفسه بينهما.
لكن هذه اللحظة لم تدم طويلًا.
دُفع باب الغرفة فجأة، ليتبعثر الصمت في الهواء، ومعه تبعثرت اللحظة بأكملها.
ظهرت "راندا" عند العتبة، وقفت للحظة متجمّدة مكانها، وعيناها تتّسعان برؤية ما أمامها. زوجها يحتضن ابنة عمّه الصغرى، الأميرة المدللة كما يطلقون عليها، بينما "ليلى" متشبّثة بظهره بقوة، كأنها ترفض أن تتركه.
تحوّلت نظرتها في لحظة إلى صقيع قاتل، تجهمت ملامحها بشدة، ونقلت بصرها بينهما بعينين مشتعلتين بالغضب، بينما ظلّ "نديم" جامدًا في مكانه، باردًا وكأنه لم يُفاجأ بوجودها، ولم يهتز لمراقبتها وهي تراهما معًا.
من جهة أخرى "ليلى" لم تفوّت الفرصة. بل على العكس، رسمت ابتسامة صغيرة، تحمل من الشماتة والانتصار أكثر ممّا تحمل من البراءة، وهي تنظر إلى "راندا" نظرة تحدٍّ صامت، كأنها تهمس لها دون أن تنطق بكلمة واحدة: "إنه لي أنا!".
حاولت "راندا" كبح ثورة الغضب التي اجتاحتها، لكنها فشلت. اشتعل صوتها حدة وهي تخاطب زوجها:
-دوّرت عليك في البيت كله مالقتكش.. ماكنتش أعرف إنك هنا!
لم يحرّك "نديم" ساكنًا، ظلّ محتفظًا بجموده المعتاد، وكأن وجودها أو عدمه لا يفرّق لديه كثيرًا. أبعد ذراعيه عن "ليلى" بهدوء، ولم يعطِ "راندا" أكثر من نظرة جانبية قبل أن يخاطب ابنة عمّه بصوتٍ خافت لكنه قاطع:
-هاسيبك دلوقتي يا لولا.. شوفي هاتعملي إيه مع صاحبتك. تصبحي على خير.
هزّت "ليلى" رأسها وهي لا تزال محتفظة بابتسامتها، وألقت عليه نظرة هادئة، دون أن تهتم برد فعل "راندا" المتجهمة.
تقدم "نديم" نحو "راندا" بخطواتٍ هادئة، لم يبدُ عليه أيّ ارتباك أو تردد، مدّ يده وأمسك بمعصمها برفق حازم، ثم قادها للخارج دون أن ينطق بكلمة أخرى.
لم تفتح "راندا" فمها حتى وصلا إلى غرفتهما، وما إن أغلق "نديم" الباب خلفهما حتى انفجرت فيه:
-ممكن تفهمني إيه إللي أنا شوفته ده؟ انت بجد كنت حاضن بنت عمك بالشكل ده! وعملت كده قدامي وبكل برود. ما ترد عليا؟؟!!
لم يتحرّك "نديم" من مكانه، لم يبدُ عليه حتى أنه متفاجئ من نبرتها الغاضبة. فقط خلع ساعته من معصمه ووضعها على المنضدة القريبة، قبل أن يلتفت إليها أخيرًا ويرد بصوتٍ هادئ جدًا، لكنه يحمل في طياته شيئًا خطيرًا:
-راندا.. خدي بالك من كلامك.. إللي بتتكلّمي عنها دي بنت عمي الصغيرة.. يعني أختي.. ومن قبل ما تدخلي حياتي شوفتي بعينك الطريقة إللي بعامل ليلى بالذات بيها.. ليلى دي أنا إللي ربّيتها على إيدي.. ف نبرتك في الكلام عليها ماتعجبنيش وتتحاسبي عليها كمان.
اتسعت عينا راندا أكثر، وشعرت لوهلة أن شيئًا في صدرها سينفجر من شدة الغضب:
-انت بتقلب الترابيزة يا نديم.. يعني أنا إللي غلطانة؟ مش انت صح؟ أنا إللي غلطانة عشان دخلت أوضة بنت عم جوزي لاقيته ماسكها في حضنه.. ده انت مابتعملهاش معايا أنا وأنا مراااتك!!
رفع حاجبه قليلًا، وكأنه يسخر من منطقها، قبل أن يرد ببرود:
-إللي بيحصل بيني وبينك أكتر من حضن يا راندا.. معلش بتقارني إيه بإيه؟ انتي كلامك مابقاش موزون ومحتاجة وقفة تراجعي نفسك.. وإلا هاضطر أحط حد لحياتنا مع بعض.
شعرت "راندا" وكأن الهواء سُحب من رئتيها، حدقت فيه غير مصدقة، وكأنها تستوعب للتو ما لم تكن تودّ الاعتراف به منذ البداية. مدت يدها نحوه، وكأنها تحاول التشبث بشيء ما، قبل أن تقول بصوتٍ مرتجف، لكنه لا يزال غاضبًا:
-انت بتهددني يا نديم؟ عاوز توصل لإيه بالكلام ده؟
تقدم نحوها خطوة، نظراته ثابتة، باردة حدّ القسوة، ثم قال بنفس النبرة المنخفضة التي زادت من توترها:
-أنا مش بهددك يا راندا.. أنا بواجهك بالواقع إللي انتي رافضة تشوفيه.. وأظن دلوقتي. بعد اللي سمعتيه. فهمتي اللي كنت بحاول أوصلهولك من زمان.. الاختيار في إيدك انتي.
رمقها بنظرة جافّة مطوّلة، ثم ولّى من أمامها ساحبًا بيجامته في بده متجهًا بها صوب الحمام، أغلق الباب خلفه بقوة وأطبق الصمت من بعده.
بينما تشعر "راندا" بوخزة في صدرها، وكأن شيئًا ما تحطّم بداخلها. لم تكن تتوقع هذه المواجهة، لم تكن مستعدة لسماع الحقيقة منه بهذه الصراحة المؤلمة. لكن الأسوأ من ذلك كله، هو أنها لم تكن تملك أيّ رد لتواجهه به.
لم يربط بينهما الحب يومًا، على الأقل من جهته، و ها قد اعترف للتو ولو بطريقة غير مباشرة بأنه لم يرتبط بها حبًا أو حتى رغبة، بل لأنها فقط.. واجهة!
بالطبع، هذا هو السبب، وهذا ما يفسّر بُعده المتزايد عنها، إنه يزهدها، لا يراها امرأة بما يكفي ليعاملها كزوجة بينه وبينها.
ولكن ما ذنبها؟ هل لأنها أحبّته؟
وقد قال أن الخيار لها. ما يعني أنه لن يغيّر طريقته معها، يسدّ الطريق عليها، وفي نفس الوقت يدفعها لتتخذ هي القرار بدلًا عنه.
فهل ستفعل؟
_________
بعد مرور أسبوع ...
تصل "ليلى" إلى الجامعة لأول مرة، قلبها يخفق بمزيج من الحماس والتوتر. كانت ترتدي ملابس محتشمة بسيطة، مؤلفة من تنورة صفراء واسعة، وكنزة بيضاء بأكمام قصيرة مطعّمة ببتلات زهور "دوّار الشمس". تنسدل خصيلات شعرها الناعمة بتسريحة هادئة بعيدة عن أيّ صخب.
إلتقت بـ"نوران" عند البوابة، سارت نحوها بخفة كالفراشة، بينما تتأملها الأخيرة من رأسها حتى قدميها بنظرة طويلة قبل أن ترفع حاجبيها بدهشة مصطنعة وتقول بمكر:
-يا نهار أبيض! إيه ده؟! أنا شايفة ليلى الراعي بجد؟ ولا دي واحدة شبهها وأنا مش واخدة بالي؟
نظرت إليها "ليلى" بضيقٍ، لكنها لم ترد، فاسترسلت "نوران" بمرحٍ، وهي تميل نحوها لتهمس كأنها تكشف سرًا عظيمًا:
-يُحكى أن نديم باشا رجّع الهانم قطة تاني.. مش بس خلّاها تسمع كلامه. لااااا. دي بتنفذه برضا وطيب خاطر كمان. حقيقي نديم باشا مسيطر!
زفرت "ليلى" في ضيق، توقفت عن السير والتفتت إلى صديقتها وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها، نبرتها حازمة هذه المرة:
-محدش يقدر يسيطر عليا يا نوران.. فاهمة؟
رفعت "نوران" حاجبًا ساخرًا، لكن قبل أن تفتح فمها لترد، أكملت ليلى بنفس النبرة الواثقة:
-أنا إللي قررت ألبس واسع.. لما كنت بلبس بشكل ملفت قبل كده. ده ماكانش عشان حاجة غير إني كنت عايزة أغيظه لأنه كان بيقول عليا لسا عيّلة صغيرة. انتي عارفة إني لو عايزة أعمل حاجة لا نديم ولا عشرة زيه يمنعوني. بدليل شعري لسا ستايله زي ما هو ماغيرتوش.
رفعت "نوران" يديها باستسلام مصطنع قائلة:
-ياستي محدش قال حاجة.. أنا بضحك معاكي.
أخذت "ليلى" نفسًا عميقًا قبل أن تكمل بصوتٍ أكثر هدوءًا:
-زي ما قلت لك قبل كده. هو اعتذر لي. وخلاص. الخلافات إللي بيننا خلصت. ف مابقاش في داعي أمثل شخصية غير شخصيتي. أنا ماعرفش أكون مبتذلة أصلًا.
ساد الصمت لثانية، قبل أن تبتسم "نوران" في خبثٍ وتغمز لها بمكر:
-اممم.. وإيه كمان؟ كمّلي.. عارفة يا لولو.. أنا متعتي ماتتوصفش وأنا سامعاكي بتأفلمي عليا.. وأنا أصلًا عارفة الفولة.. نديم ده مخلّص عليكي رسمي والله. انتي متأكدة إنه متجوز؟ طيب هايخطبك إمتى بقى؟
ضحكت "ليلى" رغمًا عنها، دفعتها في كتفها بخفة وهي ترد:
-يا بنتي بلاش غلاسة. نديم ده أخويا.. إيه عمرك ما شوفتي اخوات؟؟
قهقهت "نوران" وهي تحاوط ذراع "ليلى" قائلة:
-طيب نبقى نشوف الحوار ده بعدين.. يلا بقى أحسن هاننطرد من أول يوم لو اتأخرنا أكتر من كده على أول محاضرة!
ضحكتا بخفةٍ وأسرعتا معًا نحو المبنى. تشعر "ليلى" أن هذا اليوم لن يكون مجرد بداية لدراستها الجامعية، بل بداية لمرحلة جديدة تمامًا في حياتها!
__________
في المقرّ الرئيسي لمجموعة "الراعي للحديد والصلب" ...
جلس "نديم" خلف مكتبه الضخم، تتراص أمامه ملفات هامّة، بينما كان عمّه "مهران" يجلس على الجانب الآخر، يقلب في بعض الأوراق استعدادًا لعقد الاجتماع الإداري بعد قليل.
كان الجو مشحونًا بالتركيز، صوت الأوراق يُقلَّب في هدوء، و"نديم" يراجع آخر التفاصيل بعينٍ حادة لا تفوّت شيئًا. لكن فجأة، قطع "مهران" هذا التركيز بكلماته التي نزلت كالصاعقة على "نديم" رغم نبرته العادية:
-في عريس متقدِّم لليلى!
توقفت أصابع "نديم" للحظة عن تقليب الأوراق، شعر بقبضة غير مرئية تعتصر صدره، وكأن الأكسجين قد نُزع من الغرفة للحظات. لكن وجهه ظل جامدًا، لم يبدُ عليه شيء، وكأنه لم يتأثر بكلام عمه إطلاقًا. رفع عينيه ببطء، ونطق بنبرة هادئة لكنها قاطعة:
-ليلى لسا صغيرة.
ابتسم "مهران" ابتسامة خفيفة، كأنه كان يتوقع هذا الرد، وأكمل دون أن يتراجع:
-مش بس تعرف العريس مين؟
هزّ نديم رأسه في برود مصطنع، وعاد ينظر إلى الأوراق كأنه لم يعد مهتمًا بالحديث:
-مش مهم يا عمي.. ليلى بدري أوي عليها عشان تاخد خطوة زي دي.. ده حتى إنهاردة أول يوم ليها في الجامعة. خلّيها تركز في الدراسة. بالنسبة لي أهم من موضوع العريس ده أيًّا كان هو مين.
لم يستسلم "مهران" بسهولة، مال بجسده للأمام قليلًا، وأردف بصوتٍ يحمل نبرة إقناع:
-أنا عارف ان الدراسة مهمة. لكن الجواز مش هايضرّها ما عندك لُقى في السنة الأخيرة وهاتتجوز قريب. أسمع يا نديم. انت عارف ليلى بالنسبة لي إيه.. عايز أطمن عليها وأوصلها لبر الآمان. وبعدين. العريس مش أي حد. ده ابن فايز نصار أهم شريك لينا. والعرض ده مايترفضش بسهولة.
في تلك اللحظة، وكأن شيئًا انفجر داخل "نديم". أغلق الملف الذي بين يديه بحركةٍ حادة، ورفعه قليلًا قبل أن يضعه على المكتب بقوة، رفع عينيه إلى عمّه، نظراته هذه المرة أكثر حدة، أكثر صرامة وهو يقول بنبرةٍ قطعية لا تحتمل الجدل:
-ليلى لسا صغيرة.. والموضوع ده مقفول خلاص. سامعني يا عمّي.. من 16 سنة انت حطّيت مسؤوليتها في إيدي أنا. وأنا بقولك لأ.. فكرة جوازها دلوقتي مرفوضة.. نهائي.
توقف "مهران" عن الكلام للحظة، تأمل "نديم" الذي بدا أكثر حزمًا ممّا توقع، ثم زفر ببطء وهو يهز رأسه، بينما "نديم" لم يغيّر من وضعه، ظل محتفظًا بجموده الظاهري، رغم أن داخله كان يغلي.
لم يكن يعرف حتى الآن لماذا شعر بهذه الثورة تجتاحه، لماذا شعر بالغضب لمجرد أن هناك رجلاً آخر يفكر في "ليلى" بتلك الطريقة. لكنه لم يكن مستعدًا لمواجهة مشاعره في هذه اللحظة. كل ما كان يعرفه أنه لن يسمح بهذا الأمر أن يحدث، لا الآن، ولا في أيّ وقت قريب.
يدقّ باب المكتب، يعقبه دخول السكرتيرة الشابّة وهي تخبر "نديم" بلهجة رسمية:
-رياض نصر الدين برا يا فندم.
لم يكد الاسم يُلفظ!
حتى بدا التوتر واضحًا على وجه "مهران". التفت إلى "نديم" بسرعة، وكأنه لم يتوقع سماع هذا الاسم على الإطلاق.
أما "نديم" فقد رفع حاجبه ببطء، كأنه يحاول استيعاب الخبر للحظات. لم يكن يتوقع هذه الزيارة نهائيًا.
"رياض نصر الدين"!
رجل الأعمال الطاعن في السن، الاسم الذي ظل لعقود رمزًا للثروة والسلطة، لكنه تقاعد منذ سنوات، بعد أن سلّم مقاليد أعماله لورثته. لم يعد يظهر في المشهد كثيرًا، لذا، ما الذي جاء به إلى هنا اليوم؟ ولماذا تحديدًا يطلب مقابلته هو الآن؟
تخلّص "نديم" من أفكاره سريعًا، وبتعبير محايد أمر السكرتيرة:
-دخّليه يا مروة.
غادرت الفتاة بسرعة، ولم تمر سوى لحظاتٍ حتى فُتح الباب مجددًا، ليدخل رجل عجوز، لكن هيبته كانت كافية لفرض الصمت في الغرفة.
كان يرتدي عباءة سوداء أنيقة، باهظة الثمن، صنعت بحرفية واضحة. يعلوها مئزر من نفس القماش الداكن مُحدد بشريطٍ ذهبي.
رغم تقدّمه في العمر، إلا أن ظهره ظل مستقيمًا، يحمل في يده عصا فاخرة، منحوتة بدقة من خشب داكن، رأسها من الفضّة الخالصة، منحوت عليها رمز عائلته العريق.
تقدم الرجل في خطوات محسوبة، تنبئ عن شخص اعتاد أن يتحرك وسط الكبار دون استعجال، ورفع بصره نحو الرجلين بتحية هادئة ذات وقار:
-مساء الخير!
نهض "نديم" من مكانه ليحييه باحترامٍ، وقد حافظ على وقفته الواثقة ونظراته الثابتة وهو يرد بنفس الهدوء:
-مساء النور. رياض باشا بنفسه.. نورت الشركة.
مدّ "رياض" يده ببطء لمصافحته، استجاب "نديم" باحترامٍ، دون أن يفقد شيئًا من هيبته المعتادة. ثم انتقل نظره إلى "مهران" الذي لم يبدُ مرتاحًا على الإطلاق، بل كان متوتّرًا بطريقة لم تخفَ على أحد.
جلس "نديم" أولًا، وأشار إلى أحد المقاعد:
-اتفضل يا باشا.
جلس "رياض" ببطء، وضع عصاه إلى جانبه، ثم التفت إلى "مهران" بنظرة ذات مغزى، قبل أن يقول بنبرة محمّلة بالكثير من الإشارات غير المفهومة حتى الآن:
-أنا جيت مخصوص عشانك يا مهران.. بس لما سألت قالولي إنك في مكتب نديم بيه.
ظلّ الجو مشحونًا لثوانٍ، بينما "مهران" يحاول أن يخفي توتره، و"نديم" يراقب ما يحدث بعينيّ صقر، محاولًا أن يفهم المغزى الحقيقي من هذه الزيارة الغير المتوقعة.
ساد الصمت للحظات أخر، لكنه لم يكن صمتًا عاديًا، بل كان ممتلئًا بالتوتر، كأن الهواء في الغرفة أصبح أثقل.
لم يستطع "مهران" إخفاء اضطرابه، يده التي كانت تستند إلى المكتب انقبضت في توتر واضح، بينما "نديم" ظل ثابتًا في مكانه، يراقب المشهد بعينين حادتين، يحاول أن يفهم ما يجري."رياض نصر الدين" لم يكن رجلًا يأتي بلا سبب، ولم يكن ممّن يضيعون وقتهم في المجاملات الفارغة. لذا، حين فتح فمه أخيرًا بعد لحظات الصمت، كان صوته ثقيلاً، واضحًا، وكلماته سقطت في الغرفة كحجر ثقيل في ماء راكد:
-أنا ليا عندك أمانة يا مهران. وجاي أخدها.
كلماته كانت كافية لتجعل كل شيء يتجمّد للحظة. "مهران" بدا وكأن الدم قد انسحب من وجهه، بينما "نديم" لم يتحرك، لكن عينيه ضاقتا قليلًا في حذر.
ثم أكمل "رياض". هذه المرة بصوتٍ أشد صرامة، كأنه لا يترك مجالًا للنقاش:
-أنا عايز حفيدتي… عايز بنت دهب… عايز ليلى يا مهران!
يتبع ...
( 3 )
_ حرب باردة _ :
امتدت لحظة الصمت بين الرجال الثلاثة، مشحونة، ثقيلة، كأن الهواء نفسه صار متحجّرًا بينهم.
بقى "رياض نصر الدين" ثابتًا صلبًا في مكانه، وجهه مزيج من الصرامة والسلطة المكتسبة عبر السنوات. بينما بدا "مهران" متوتّرًا، أصابعه تطرق على حافة مقعده بحركة لا إرادية، لينفلت صوته فجأةً مندفعًا بنزقٍ فيه من الغضب:
-حفيدتك إيه إللي عايزها يا رياض بيه؟ انت متخيّل لما تجيلي بعد أكتر من 18 سنة تطالب ببنتي إني هاوافق بسهولة كده وأقولك اتفضل خدها؟ وبعدين انت ناسي عملت فيها إيه وفي أمها زمان !!؟؟
نظر "رياض" نحو "مهران". لم يرتفع صوته، لم يتغيّر حتى إيقاعه الهادئ، لكن الهواء نفسه صار أكثر كثافة بينهما وهو يقول:
-لا انت. ولا أي مخلوق في الدنيا دي يا مهران له حق يحاسبني على حاجة عملتها في حياتي.. ودهب كانت بنتي. بنتي أنا.. زي ما بنتها حفيدتي. ومهما لف الزمن ولا دار. الحقيقة دي مش هاتتغيّر.
ارتفعت أنفاس "مهران" وهو يقول بصوتٍ خشنٍ أبلغ من أيّ صراخ:
-الحقيقة دي ماتلزمنيش. أنا إللي ربّيت وكبّرت. ليلى بنتي أنا.. من أول ساعة ليها في الدنيا وهي مسؤليتي أنا بعد ما سيادتك أمرت بقتلها. هانت عليك الطفلة إللي بتقول عليها حفيدتك زي ما هانت عليك بنتك.. انت موهوم لو فكرت إني ممكن أسايرك. وهاتبقى مجنون لو حاولت تفتح الموضوع ده تاني لأني مش هاتردد في إني أدافع عن بنتي حتى لو وصلت للقتل.. هاقتلك يا رياض بيه!!!
-عـمــي!
أخيرًا ..
طغى صوت "نديم" الحاد على الأجواء المضطربة بغتةً ..
نظر "مهران" إليه بأعينٍ متأججة، كاد أن يفتح فاهه مجددًا، لكن "نديم" لم يمنحه فرصة لقول المزيد. قطع الجمود المطبق بصوته الواثق، مقاطعًا عمه قبل أن يتفوه بكلمة أخرى:
-رياض باشا.. انت في مكتبي. يعني ليك احترامك لأخر لحظة. لكن عشان أضمن لك ده 100% من فضلك وضح لي سبب الزيارة. أو بمعنى أصح.. صلّح لي إللي أنا سمعته منك ومن عمّي.
لم يرمش الأخير، لم يتهزّ حتى لنبرة التهديد في صوت خِصمه.. فقط اكتفى بإمالة ذقنه قليلًا وقال بصوته الثقيل:
-أظنك سمعت كويس.. وأظنك بردو عارف. زي ما أنا شايف من عنيك.. إن ليلى مش بنت عمّك ولا حتى تقرب ليعلتك!
أومأ له "نديم" قائلًا بصلابة:
-أيوة عارف.. ليلى مش بنت عمّي.. لكن ده ماينفيش صلتها بيا. بالدم لأ. لكن على الورق هي فرد من عيلتي. و واجب عليا حمايتها من كل حاجة. وتحديدًا منك انت.
تجلّى الغضب في زوايا عينيّ العجوز، وقال من بصوتٍ مكتوم دون أن تطلق شفتاه أيّ وعود بالتصعيد.. بعد:
-أنا جدّها.. يمكن مهران ماقالكش الحقيقة دي. لكن سواء عرفتها بدري أو متأخر ماتفرقش معايا.. أنا ليا حق عندكوا.. ليا حفيدتي وهاخدها.. أظن محدش يقدر يمنعني ولا حد يقدر يلومني.
مال "نديم" بجسده قليلًا للأمام، مجرد بوصات بسيطة، لكنها حملت ثقل التحدّي كما حملها صوته الهادئ وهو يرد عليه:
-وأنا مفروض أعمل إيه لما أسمع كلامك ده يا سيادة الباشا؟ وفاكرني هاقتنع مثلًا. إنك ظهرت فجأة بعد السنين دي كلها. لمجرد إنك عاوز تاخد ليلى؟
رفع "رياض" حاجبًا بالكاد، وكأنه يتفحص "نديم" كما يتفحص رجل أعمال شابًا مغرورًا يبالغ في تقدير نفسه. لكنه يعرف في أعماقه بأن "نديم" أكثر ممّا يظن.
فقد سمع وعرف عنه الكثير طوال السنوات الماضية، فهو له سمعة ذائعة الصيت في أنحاء ممتدّة بوسطهم الراقي وحتى خارجه، إنه ببساطة يُشكل التجسيد الحيّ لمعنى الهيبة والإرادة، قوته لا تقتصر على نجاحاته المالية فحسب، بل تتجلّى في سلوكه المسيطر، حيث يُظهر في كل تصرفاته لمسة من الفخامة الممزوجة بالوحشية، مرسخًا بذلك سمعته كرجل لا يُستهان به في ميادين الحياة كافة..
لكن الأمر مقضيًا الآن، وهو لم يأتي للجدال، بل أتى ليحسمه، مهمت كانت قوة "نديم الراعي". لن تقف حائلًا بوجه كهل مصمم كـ"رياض". وخاصّة إذا كان يوازيه قوةً ونفوذًا ..
يقول "رياض" بصرامة جافة:
-أنا مش بقول عاوز. أنا بقول هاخدها. ليلى حفيدتي.. ومن حقي أرجّعها لبيتها. لاسمها. في أي وقت أعوزه.
في الداخل، كان قلب "نديم" ينبض ببطءٍ غير طبيعي، منذ بادئ الحوار كأن روحه تحاول استيعاب الصدمة رغم أنه يرفض التصديق. "ليلى"… حفيدة "رياض نصر الدين". ليست مجرد طفلة ربّاها، ليست مجرد حب خبأه بين ضلوعه في السر.. بل حفيدة هذا الرجل؟ كيف لم يرَ هذا الاحتمال من قبل؟ كيف لم يربط الخيوط؟
لطالما علم بقصة الحب المتطرّفة التي جمعت بين عمّه وإبنة هذا العجوز، قبل أن يتزوج "مهران الراعي" من "مشيرة". أحب "دهب نصر الدين" وكان مقررًا لهما الزواج، لكنه لم يتم لسببٍ لم يفصح عنه "مهران" ولم يحاول "نديم" معرفته، لكنه يرى الآن بأن عمّه ملزمًا بإطلاعه على كل شيء، طوعًا أو كرهًا ..
أفكاره تلك لم تصل إلى ملامحه. بل على العكس، راح يحدّق في "رياض" بثباتٍ، عينيه الخضروان قاتمتان، باردتان كالمعدن المصقول. ثم مال للأمام أكثر، مستندًا إلى مكتبه، صوته أكثر انخفاضًا لكنه أشدّ وقعًا وهو يقول:
-طلبك مرفوض يا رياض باشا.. مافيش حاجة اسمها تاخدها.. ليلى مش شيء بتملكه. ولو ليها مالك فهو أنا.. لا انت ولا حتى عمّي إللي مكتوبة على اسمه!
بدا العم مستنفرًا بجواره، حاول التدخل في هذه اللحظة:
-نديم. اسمع كلامي وآ ا ..
لكن نظرة واحدة من ابن أخيه أسكتته. عاد "نديم" بعينيه لـ"رياض". يواجهه، يتحدّاه بصمتٍ ثقيل.
ليقول "رياض" بهدوء أشد خطورة:
-على فكرة أنا مش جاي أتناقش معاك. ولا كل الكلام إللي إتقال ده يعتبر طلب. أنا جاي أخد حفيدتي.. بالحسنى.
رد "نديم" بابتسامة جانبية باردة:
-والحسنى دي عندك معناها إنك تطلب بنت ماعرفتهاش قبل كده من شخص ربّاها عمرها كله. لمجرد إنك قررت إن ليك حق عليها؟ ده كمان معلوماتي الجديدة بتقول إنك حاولت تقتلها. يا رياض باشا.. انت تعبت نفسك بالزيارة على الفاضي. محدش هنا ممكن يساعدك.. نوّرتنا!
تغيّر وجه "رياض" قليلًا، وكأن غروره تعرّض للخدش. لكنه تمالك نفسه بسرعة. وقال بثقة:
-أنا مش محتاج إذنك.. خليك فاكر ده كويس.
يرد "نديم" بتحدٍّ، وصوته يزداد حدة تدريجيًا:
-وأنا مش هاديك فرصة حتى تحاول. ليلى مش حفيدتك. ولا هاتكون حفيدتك. ولو قرّبت منها بأيّ شكل هاتلاقيني أنا في وشك.
يضيّق "رياض"عينيه، نبرته تتحول لتحذيرٍ صريح وهو ينطق بلهجته الصعيدية الأصلية:
-جومتي من إهنا وإحنا مش متفجين معناها إنك الخسران انت وعمّك.. وبتلعبوا بالنار!
ينهض "نديم" ببطءٍ، نبرته قاطعة، وقراره بلا رجعة:
-وانت مش فاهم إن النار دي ولّعت من زمان. ومش هاتطفيها بكلمتين تهديد. عيبك مسألتش عني قبل ما تيجي. نديم الراعي مابيتهددش.. وليلى مش هاتعرف أي حاجة وأنت مش هاتشوفها. مش هاتحاول. ومش هاتفكر حتى. دي الحقيقة الوحيدة اللي تقدر تاخدها معاك وانت خارج من هنا.
امتد الصمت من جديد، لكن هذه المرة لم يكن ثقيلًا فحسب.. كان قاطعًا، كأنه السكين الأخير في معركة غير متكافئة ..
وفجأة ينهض "رياض" واقفًا، يجمع طرفيّ عباءته في يد، ويمسك برأس عصاه بيدٍ أخرى، يحدق بعينيّ "نديم" مباشرةً متناسيًا أمر "مهران". بل مخرجًا "مهران" من حساباته، إذ تيقن بأن معركته من الآن فصاعدًا لن تكون إلا بينه وبين رجلٌ واحد ..
هو "نديم الراعي". لا غيره ...
-هانتجابلو تاني يا ولد رشيد! .. قالها "رياض" بابتسامةٍ جانبية:
-بالمناسبة.. بوك كان يشبهلك تمام.. وكان عنيد جوي كيفك.. بس ماكنش غبي.. سلام.
واستدار موليًا إلى الخارج ..
ظل "نديم" يحدق في إثره ثائر الأعصاب، بينما يدور "مهران" حول المكتب ليقف بجواره قائلًا بتوتر:
-نديم.. من فضلك.. أرجوك قولّي إنك هاتقدر تساعدني أتفادى المصيبة دي.. قولّي إن رياض مش هايقدر ياخد مني ليلى.. أرجوك!!
أدار "نديم" رأسه نحو عمّه متمتمًا بصرامةٍ:
-محدش يقدر يقرب لها طول ما أنا عايش.. وعايزك تنسالي رياض ده دلوقتي خالص. عشان هاتحكيلي الحكاية من أولها.. زي ما حصلت بالظبط.. فاهمني يا عمّي؟
أجابه "مهران" مطرقًا رأسه بانكسارٍ واضح:
-فاهمك.. هاحكيلك.. هاحكيلك كل حاجة يا نديم!
_________________
خرجت كلٌ من "ليلى" و"نوران" من قاعة المحاضرة الأولى، تعرفتا على فتاة بالمدرج واصطحبتاها معهما للخارج، النسيم يرافقهن بخفةٍ على وقع خطواتهن الرشيقة وصولًا إلى الوجهة المنشودة ..
تجمّع الضوء الخافت في الكافيتيريا حولهن، حيث جلسن على طاولة زجاجية في زاوية هادئة. في البداية، علت ضحكات "نوران" مستهجنة من تصرف المعيد الذي بدا وكأنه يرقص على إيقاع سخريته الخاصة. فقالت بنبرةٍ مرحة:
-أهو الواد ده من إللي بيسمّوهم دحيحة.. هو شاطر بس يا عيني دماغه باظت من العبقرية!
ضحكت "ليلى" بانطلاقٍ وقد لفتت ضحكتها الجذّابة إنتباه الطلبة من حولها، أثارت أعجاب الشباب منهم وغيرة الشابّات لتميّزها عنهن في الشكل والأسلوب، بينما ردّت رفيقتهما الثالثة بدعابةٍ:
-طيب مش هاتصدقي لو قلت لك إنه كان دفعة أخويا هنا وعاد أخر سنة مرتين بسبب إنه كان مصمم على مجموع معيّن.
سألتها "ليلى" بفضولٍ شديد:
-وجاب المجموع ده يا رنا؟
جاوبتها "رنا" مسيطرة على ضحكتها:
-لأ.. بس استسلم في الأخر وبقى زي ما شوفتي كده.
انطلقت الضحكات منهن، بينما نزلت المشروبات المرطّبة إلى طاولتهن، كانت الأجواء تزدان بخفة الحديث وتداخل ظلال الضحك مع لمسات الضوء ...
-أوباااااا !
استرعت صيحة "نوران" الخافتة إنتباه "ليلى" لتسألها باهتمامٍ:
-إيه يابنتي مالك؟
نوران وهي تشير خلسة لمقدّمة الكافيتيريا:
-بصي القمر إللي سقط من السما علينا ده.. الواد الحليوة إللي لابس جاكت جلد إسود.. يخربيت جمال أمه!!
ضحكت "ليلى" منها مستخفّة، لكنها ألقت نظرة بدافع الفضول، لترى شابًا وسيمًا بالفعل، يحمل في ملامحه الثقة وجاذبية لا تخفى، ارتدى جاكيتاً ضيقاً من الجلد اللامع وبنطلوناً من الجينز الداكن، وحذاء رياضي ناصع البياض كأسنانه التي بدت متألقة ما أن ابتسم باتساعٍ لإحداهن في هذه اللحظة ..
برز صوت "رنا" وهي تقول مصوّبة نظراتها نحوه بلا تحفظ:
-ماعرفوش ده للأسف.. رغم إني كنت باجي هنا كتير مع اخواتي وعارفة كل الطلبة.. بس أعرف البنت إللي ماشية جنبه.. دي شهد سليمان. كانت معايا في المدرسة. بس بت مغرورة أوي وشايفة نفسها.. محدش كان بيطقها بصراحة حتى المدرسين.. كانت بتتعامل حلو بس عشان أبوها حد مهم وكان موصّي عليها.. أعوذ بالله على الصدف.. لو كنت أعرف إنها جاية هنا كنت حوّلت!
رفعت "ليلى" حاجبًا قائلة بأريحية:
-ليه يا حبيبي ولا يهمك.. كأنها مش موجودة. محدش يقدر يجبر حد يتقبل أي شخص. ف انتي كأنك مش شايفاها.
وابتسمت ..
لكنهما لم تبادلاها الابتسامة.. كلٌ من "نوران" و "رنا".. نظرتا إلى نقطةٍ ما وراء "ليلى" وقد انتابتهما حالة من الخرس والبلاهة ..
نظرت "ليلى" تلقائيًا حيث تنظران، فإذا بها ترى ذاك الشاب، وقف أمامها مبتسمًا بلباقةٍ، وكأن الزمان توقف ليستمع لصوته الذي جمع بين الحزم والنعومة وهو يخاطبها مباشرةً:
-صباح الخير.. آنسة ليلى. صح؟
تراجعت ليلى قليلاً خلف حجاب تحفظها، وأجابته بخفةٍ لكن ببرود اكتسبته من ربيبها وحبيبها.. "نديم":
-أيوة أنا.. أفندم!؟
طرف الشاب بأهدابه الطويلة قائلًا بلهجةٍ حيادية:
-ممكن أخد من وقتك خمس دقايق.. محتاج أكلمك على إنفراد.. على فكرة أنا جاي هنا مخصوص عشانك.
حانت من "ليلى" إلتفاتة إلى "نوران" و"رنا" المذهولتين، ثم عاودت النظر إلى الشاب قائلة بجدية:
-فعلًا! جاي عشاني؟ بس أنا ماعرفكش!
رمقها الشاب بابتسامةٍ واثقة، مدّ يده للمصافحة بلطفٍ كأنه يمد جسرًا من الثقة وقال:
-بسيطة. أنا أعرفك بنفسي… زين نصر الدين!!!
يتبع ...
ترقبوا فصل الغد إن شاء الله ❤️
( 4 )
_ رائحة الأمس _ :
غرفة المكتب يغمرها الهدوء التام.. بعد أن شدد "نديم" على ألا يقاطع أحد اجتماعه الخاص بعمّه ..
الضوء الأصفر الدافئ تنعكس إضاءته على سطح المكتب الزجاجي. "مهران" يجلس على الأريكة الجلدية المواجهة للمكتب على بُعد أمتار قليلة، جسده مسترخٍ لكن عيناه تحملان ثقل الماضي. "نديم" يجلس خلف مكتبه، يراقبه في صمت، كأنه ينتظر أن يستكمل حديثه من حيث توقف ..
إلا إن "مهران" لا يزال صامتًا، في عينيه شرود، كأنما يُعيد مشاهدة شريط قديم لم يُمحَ رغم مرور السنين. التفت برأسه قليلًا، لا يريد أن يلتقي بعينيّ "نديم" مباشرةً، كأن الحكي بصيغة الماضي لا يكفي ليجعله أقل ألمًا ...
-بيت العمدة! .. ردد "مهران" بصوت هادئ متعب، وأردف:
-أهلها كانوا جيراننا قبل ما نسيب البلد من زمان ونيجي نعيش في القاهرة.. دهب. أصغر بنات رياض نصر الدين. أحلاهم. أقربهم لقلبه.. أو كانت أقربهم لقلبه!!
بتر جملته متنهدًا بعمقٍ، وأكمل:
-كنت أشطر طالب في البلد. والأهالي كانوا بيحبوني أوي. عشان كده لما كانوا بيجوا يطلبوا من ابويا أساعد عيالهم في المذاكرة ماكنتش بمانع وبقنعه كمان.. لحد ما دخلت بيت رياض.. كان العمدة وقتها.. دهب مادخلتش مدارس. على أيامها كان ممنوع بنت في بيت رياض نصر الدين تخرج من بيتها وتروح المدرسة.. كان واثق مني ومن أخلاقي زيه زي كل أهل البلد. فسمح لي أدرس لها.. أعلّمها تقرأ وتكتب.. كانت بتستجيب.. كانت شاطرة.. كانت جميلة ورقيقة أوي.. واحدة واحدة لاقيتني بحبها… حب مش طبيعي… حب خلّاني أعمل حاجات عمري ما فكرت إني أعملها عشانها.. زي إني أتنازلت عن حلم دخولي الجامعة وأختارت أقعد جنب ابويا أدير شغله وأراعي مصالحنا في البلد ..
يلتقط "نديم" سيجارة من العلبة الفضيّة بجواره، يشعلها ببطء دون أن يقطع عليه الحديث. لم يكن في حاجة لسؤاله، فالرجل أمامه غارق في الذكرى، ولن يتوقف حتى يصل للنهاية ..
يهز "مهران" رأسه مسترجعًا:
-لما طلبت من ابويا يجي معايا عشان أخطبها مارفضش.. ولما روحنا رياض رحب جدًا.. وفعلًا. اتخطبنا.. بس بعد فترة قصيرة صدمتني بحاجة ماتوقعتهاش!
لم يحتاج "نديم" لتفسيرٍ لما هو واضحٌ أمامه وضوح الشمس، وقال برتابة لكنه مهتم:
-كانت بتحب حد تاني.
يبتسم "مهران" بسخرية باهتة وقال:
-أيوة… واحد مش من مستواهم على حد قول أبوها… ده إللي قالته لما واجهتني بالحقيقة. أنا إللي كنت ابن عيلة كبيرة وابن أصول. لكن قلبي كان صغير قدامها.. يومها عيّطت. اتوسلِت لي أسيبها لأنها وعدت حبيبها ماتكنش لحد غيره. قالت لي إن أبوها طول عمره عنيف وشديد. وإن مهما كانت غلاوة أي حد عنده لا بيسمعها ولا بيسمع لحد. إللي في راسه بيعمله.
فجأة ينهض "مهران" من مكانه، يتقدم ببطء ناحية النافذة، يرفع الستار قليلًا وينظر إلى المدينة الممتدة أمامه، كأنما يبحث في أنوارها عن شيء من ماضيه. ويستطرد بصوت منخفض كأنه يحدث نفسه:
-وافقت تيجي من ناحيتي… حبها كان ضارب بجدوره في قلبي وماكنش سهل أنزعه. بس خدت القرار وانسحبت. روحت لرياض وطلبت فسخ الخطوبة منغير ما أشرح أسباب.
يميل "نديم" للأمام قليلًا، أنامله تتلاعب بالسيجارة بينهما، يراقب عمه كأنه يراه للمرة الأولى.يحدق فيه بقوة متحفزًا لمعرفة أهم جزء بالحكاية:
-وبعدين؟
رد "مهران" بمرارة، وصوته يثقل أكثر:
-مشيت… سيبت البلد كلها ونزلت القاهرة لوحدي. وبعد فترة قصيرة سمعت إنها اتجوزت ابن عمها… وأنا. أنا اتجوزت مشيرة جواز تقليدي جدًا.
يميل بجسده للخلف، يتنهد وكأنه يطرد حملًا ثقيلًا من صدره، لكنه لا يزال يشعر به جاثمًا ..
يتابع بصوت أكثر هدوءًا، لكنه يضغط على كل حرف كأنه يحفره في ذاكرة ابن أخيه بدوره لكي لا ينسى مثله تمامًا:
-بعد سنتين… في يوم ماكنتش متوقعه أبدًا… دخلت دهب عليا المكتب… كانت حامل… وبتعيّط.. كانت منهارة.
يرفع "نديم" نظره ببطء، هذه المرة ملامحه مشدودة، حواسه متيقظة، عيناه تتشرّبان انفعالات عمّه كما لو أنه يعايش الوضع ذاته من خلاله، بينما "مهران" يسكت، عيناه تغيم للحظة، يشيح بوجهه مجددًا وهو يقول بصوتٍ متحشرج:
-استنجدت بيا.. قالت لي إني الشخص الوحيد إللي فكرت تلجأ له في المصيبة دي.. ولما سألتها إيه هي المصيبة.. قالتي إنها هربانة من بيت أبوها من يوم كتب كتابها على ابن عمها.. راحت تعيش مع حبيبها بعيد.. حملت منه.. لكن مع الوقت حياتها معاه بقت مستحيلة.. اكتشفت إنه صايع.. حرامي.. بتاع ستات.. وكان بيمد إيده عليها ويعايرها إنها وسخت نفسها وحطت راس أبوها في التراب لما وافقت تهرب معاه وتعيش في الحرام.. هربت منه هو كمان.. وجت لي أنا.. أنا كنت قاعد بسمع منها ومش بنطق.. لحد ما سكتت.. لاقيت نفسي بقولها إني مش هاخذلها.. وإنها في أمان طالما لجأت لي.. أجرت لها شقة مفروشة واهتميت بيها طول الشهور إللي بقيت من حملها.. وقبل الولادة بكام يوم قررت أروح لرياض وأحكيله إللي حصل.. لما فكرت المدة دي كلها لاقيت إني لسا بحبها.. رغم كل إللي حصل.. رغم إللي عملته.. والطفل إللي شايلاه في بطنها ده.. كنت مقرر إنه يتكتب بأسمي.. عشان كده ماترددتش.. نزلت البلد.. روحت لرياض وحكيت له كل حاجة.. زي ما توقعت ثار عليا وهددني لو ماقولتلوش على مكان دهب هايدمر ويحرق في عيلتي وأملاكنا في ابلد وكل حاجة.. بس أنا ماتهزّتش.. قلت له إني مش بس هقوله على مكانها.. أنا هاخده من إيده ونروح لها.. بشرط يطلّقها من ابن اخوه ويجوزهالي.. بصراحة كنت فاكره هايوافق.. وما هايصدق عشان يستر على بنته إللي حتى ابن عمها عمره ما كان هايوافق ينسب طفل مش من صلبه لأسمه.. بس اتفاجئت إنه رفض.. وسحب سلاحه وأقسم لي إنه أول بس ما هايلمحها هايقتلها ويغسل عاره بإيده.. حتى حفيده إللي منها.. مش هايشفق عليه وهايقتله هو كمان.. مشيت من عنده وكنت عارف إني متراقب.. عشان كده ماحاولتش أرجع لدهب.. كلّمتها بس في التليفون وطمنتها إني هاجيلها في أسرع وقت.. ماعدّاش يومين وكلّمتني وهي بتصرخ.. كانت بتولد وأضطريت أجري عليها.. شيلتها على إيديا للمستشفى.. وهناك ولدت بنتها.. ساعة واحدة بعد الولادة ودخلت في غيبوبة بسبب نزيف حصل لها وهي بتولد.. وماتت في نفس اليوم.. ماتت في اللحظة إللي رياض وصل فيها المستشفى هو وسليمان ابن أخوه.. عمري ما هانسى نظرة القسوة إللي شوفتها في عينه لبنته وهو شايفها ميتة.. زي عمري ما هانسى لما سلم سلاحه لسليمان وأمره يخلص على البنت.. ساعتها أنا إللي وقفت له.. قلبت المستشفى.. طلبت البوليس وخدت عليهم تعهّد بعدم التعرّض لعيلتي كلها.. بعدها شلت البنت على إيديا وروحت لمشيرة.. والباقي انت عارفه.
أدار "مهران" رأسه ناظرًا نحو "نديم". رآه يجلس كما هو، لا يزال متكئًا بجسده للأمام، شرايين يده أكثر بروزًا، فكّه مشدود، عيناه تضيقان كما لو أنه لم يعد يستمع إلى حديث عمّه ..
رغم أنه قد سمعه كله، هذه الفتاة التي اختتم بها عمّه قصته، إنما هي "ليلى". "ليلى" صغيرته، الفتاة التي تسللت إلى قلبه لا يعرف متى وكيف، حتى جعلته مجنونًا بها وإن لم يفصح بذلك، مجرد فكرة أن يودّ أحدهم إيذائها تجعله يكاد يفقد السيطرة على عقلانيته، لقد حماها "مهران" في طفولتها، وتسلّم هو مسؤوليتها منذ مجيئهم للعيش ببيته قبل سنوات ..
إنها ليست من دمه، لا تقربه بصلة، لكنها ملكه هو، لن يأخذها أحد، لن يسمح بهذا حتى لو اضطر لمواجهة الشيطان بنفسه.. "ليلى" له هو.. لطالما كانت.. وستكون للأبد ...
يدق هاتفه الآن منتزعًا إيّاه من أفكاره، إلتقطه بخفة من أمامه، مرر عيناه على اسمها وصورتها التي تصدّرت الشاشة المضاءة، فتح الخط وحاول أن يرد بصوتٍ حياديّ:
-آلو!
أتاه صوتها الموسيقي مرددًا برقة محببة:
-ممكن أزعج نديم باشا دقيقتين.. لو عنده وقت أكلمه!؟
لم يقاوم طيف الابتسامة التي لاحت على ثغره الدقيق، رد عليها بهدوئه المعهود:
-أكيد.. انتي بالذات إللي بتقدري تزعجيه في أي وقت ومش بيضايق بالمناسبة.. انتي فين كده الأول؟ إيه الدوشة دي؟
-أنا بكلمك من قلب الحدث. من أول يوم جامعة ليا.. وكنت عايزة أخد أذن ساعتين بس.
-خير عشان إيه؟
-هاروح عند نوران شوية.. مش هتأخر.
انتباه انزعاجًا طفيف وهو يقول:
-ليلى.. انتي عارفة رأيي في المواضيع دي.. أنا مابحبكيش تروحي بيوت حد.
ردت باستجداءٍ: دي مش حد.. دي نوران انت تعرفها من سنين وتعرف أهلها.
-ولو بردو.. هاتيها وتعالي على بيتنا واقعدوا براحتكوا. لو عايزة تجيبي صحباتك كلهم ينوروا لكن مرواح ليكي عند أي حد لأ.
بدا الحزن في صوتها وهي تقول لأخر مرة:
-عشان خاطري يا نديم.. هما ساعتين بس.. عشان خاطري!!
كان على وشك أن يقول لا بصرامة حاسمًا الأمر، لكن صدى صوتها الحزين طرق بقوة على وتره الحسّاس، الشيطانة، تعرف جيدًا كيف تؤثر عليه ..
تنهد "نديم" بحرارةٍ وقال على مضضٍ:
-ماشي يا ليلى.. روحي.
ابتسم بلطفٍ وهو يستمع لصياحها المرح، ثم صوتها وهي تقول بامتنانٍ شديد:
-انت أحلى نديم في الدنيا.. شكرًا بجد.. وماتقلقش والله مش هتأخر وهاكلم فضل السواق يجي ياخدني.
حذرها قائلًا: أهم حاجة موبايلك يفضل في إيدك. لما أكلمك تردي فورًا.. ومش هأكد عليكي إللي انت عارفاه. مافيش سلام وكلام مع أي راجل. لا بابا صاحبتي ولا أخوها سامعة؟
-يا نديم بابا نوران مسافر أصلًا. وأخوها عنده 10 سنين!
-إن شالله يكون عنده سنة.. اسمعي الكلام ونفذيه بس.
-حاضر.. أنا يعمل إللي بتقول عليه كده كده.. ماتخافش انت مربي راجل ..
وضحكت بانطلاقٍ مكملة:
-صحيح نسيت أقولك ده انت هاتتبسط أوي.
-قولي!
-إنهاردة جالي واحد ظريف كده وقال إيه ظابط وحاول يكلمني بس صديته طبعًا.. قبل ما يمشي قال على فكرة احنا قرايب. شكله عبيط ده عيلتنا مافيهاش دكتور حتى. احنا عيلتنا صغيرة أوي يا نديم!
تغيّرت تعبيرات وجهه لسماع كلماتها، وانتبه "مهران" لذلك، فاقترب وهو يصوّب نحوه نظرة متسائلة، بينما يخاطبها "نديم" مباشرةً بلهجةٍ صلدة:
-انتي لسا في الجامعة؟
ردت بأريحية: أيوة بتمشى مع نوران وصاحبتنا الجديدة رنا.
ينهض "نديم" ساحبًا سترته من فوق المشجب قائلًا بصوتٍ آمر:
-خليكي عندك ماتتحرّكيش.. اوعي تخرجي من بوابة الجامعة.. أنا جاي لك.
سألته بقلقٍ: في إيه يا نديم؟
كرر بصوتٍ أكثر حدة:
-قلت خليكي عندك.. سامعة؟ أنا مسافة السكة وهاتلاقيني قصادك.
وأغلق معها ملتفتًا إلى عمّه الذي تساءل من فوره:
-حصل إيه؟؟
يرتدي "نديم" سترته على عجالة جامعًا متعلّقاته الشخصية وهو يقول من بين أسنانه:
-لسا ماحصلش.. بس رياض ده مش ناويها خير معايا.. أنا رايح أجيب ليلى.. أسبقني على البيت!
وتركه مغادرًا مبنى شركاته.. متجهًا رأسًا إلى وجهته المحددة.. إليها !......................................................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ...
( 5 )
_ عشق أعمى _ :
جلست" ليلى" في ساحة الحرم الجامعي، تحت ظل شجرة معمّرة، إلى جوارها كلٌ من "رنا" و"نوران" صديقتاها ..
شمس الظهيرة ترسل خيوطها الناعسة فوق المقاعد الأسمنتية، بينما تتناثر الضحكات والهمسات حولهن من الطلاب المتناثرين في المكان ..
كانت "نوران" تتحدث بعجبٍ وهي تضحك كعادتها:
-أنا مش فاهمة إزاي معرفة البت رنا دي بقالها 5 ساعات بس.. دي ليلى لوحدها حكت قصة حياتها مرتين لحد دلوقتي.. وكمان إيه. فضفضت بالسر إللي أنا نفسي ماعرفتوش إلا من شهرين بس!!
ضحكت "ليلى" بخفة، تهز كتفيها كأن الأمر لا يستحق الدهشة، لكن "رنا" لم تبتسم. كانت نظراتها جادة، وصوتها منخفضًا لكنه حاد وهي تقول:
-لأ هو الموضوع مايضحكش خالص يا نوران. واهدي شوية عشان عاوزة أقول لـ ليلى كلمتين مهمين ..
بالفعل صمتت "نوران" وأصغت "ليلى" عابسة، بينما تستطرد "رنا":
-بصي يا ليلى… السر ده لازم يتنسي. حتى ماتفكريش فيه في سرك. إللي بتعمليه في نفسك ده أكبر غلط.
رفعت "ليلى" حاجبيها بدهشة، لكنها ردّت بهدوء مُنهك:
-هو الحب بقى غلط يا رنا؟ ولا أنا اللي باختار أحب مين أصلاً؟
زفرت "رنا" بضيق، ثم قالت بحزم:
-أيوة غلط. لأن إللي بتحبيه مش مناسب ليكي بأي شكل… أولًا ابن عمك إللي مربيكي. وثانيًا أكبر منك بكتير.
عشر سنين بس! .. قاطعتها "ليلى" بعنادٍ طفولي
تابعت "رنا" رغم ذلك:
-وثالثًا ودي أهم واحدة… متجوز! فاهمة يعني إيه متجوز؟ يعني مافيش أمل. حتى لو حاولتي تحققيه.
صمت خفيف خيّم بينهن. نظرت "ليلى" إلى الأرض، بينما كانت كلمات "رنا" تتردد في رأسها، تضرب مشاعرها كسهام لا تُخطئ ..
إنها محقّة، تعلم ذلك جيدًا، لا أمل لها وراء عشقها لـ"نديم". ولن تجني شيئًا من حبّها له سوى المرارة والعذاب، لكنه قلبها المتعلّق به، كيف تردعه؟
ليس بيدها حيلة، إنها تحبّه، تحبّه وكأن حياتها تتوقف عليه، تحبّه رغم زواجه، رغم فرق العمر بينهما، تحبّه رغم المستحيل الذي يحول بينهما، فهل يمكنها حقًا أن تتراجع؟
لا تتخيّل مجرد المحاولة، لأنها تعتقد بأنها ستموت لو فعلت، لا يمكنها انتزاع "نديم" من قلبها، لا يمكن ..
ظلّت صامتة للحظات، تنظر في اللاشيء، تغرق في دوّامة من أفكارها وحبّها المستحيل… "نديم" ...
فجأة، قطعت "نوران" شرودها بصوتٍ حماسي:
-ليلى! نديم جه!!
ارتفعت عينا "ليلى" تلقائيًا نحو البوابة الرئيسية، وهناك… لمحت السيارة الفضيّة تقف بانتظارها، ثم دق هاتفها وقد كان يناديها فعليًا ..
خفّت أنفاسها، وارتسمت ابتسامة صغيرة على ثغرها رغمًا عنها، وقفت فجأة، وهي تلوّح لهما بسرعة:
-باي باي أشوفكوا بكرة.
ثم هرولت نحوه مشرقة الوجه.. كأن كل ما قيل لتوّه قد تلاشى في الهواء ...
_____________
بلغا أبنيّ العمومة "زين طاهر نصر الدين" و "شهد سليمان نصر الدين" بوابتيّ
القصر العريق الذي ورثت جدرانه وقاره من الزمن، كانت أروقته المنمّقة تنبض بهدوءٍ ثقيل، يحمل في طيّاته أسرار العائلة ومآسيها ..
-اوعى تمشي قبل ما أنزل أشوفك! .. قالتها "شهد" ممسكة بكفّ "زين" ونظرة اغواء بعينها
رمقها "زين" بنظرة فاترة، وقال ببرود ساحبًا كفّه من بين يديها:
-إن شاء الله يا شهد.. أبوكي لسا هنا ماسافرش البلد صح؟
أومأت له عابثة بخصلة شعر أفلتت أمام عينيها:
-هاتلاقيه عند جدو.. أي استفسار تاني يا حضرة الظابط؟
امتقع وجهه وهو يدير عيناه عنها قائلًا بضجر لم يحاول اخفاؤه:
-لأ شكرًا يا شهد.
وتركها متجهًا نحو غرفة مكتب الجد ..
فتح "زين" باب غرفة المكتب الفسيحة ودلف بخطى واثقة. كان الضوء الخافت ينساب من المصابيح النحاسية فوق المكتب العتيق، حيث جلس جده، أمامه "طاهر" والده. و"سليمان" ابن شقيق "رياض" والرجل الذي تربّع عرش العمدة بعد أن تنازل "رياض" عنه بمحض إرادته قبل سنواتٍ طويلة ..
-مساء الخير! .. هتف "زين" ممرًا نظرة سريعة على وجوه الجالسين
ثم توجّه مباشرةً إلى جده، انحنى يقبّل يده الهرمة بخشوع قائلًا:
-واحشني يا جدّي.. طمني عليك وعلى صحتك.
ابتسم "رياض" وربّت على رأس حفيده قائلاً بفخر:
-حفيدي الغالي. زين عيلة النصروية.. كيف ماكونش بخير وانت موجود يا ولدي.. يا ضهري وعكازي.. أجعد يا زين.
جلس "زين" في المقعد المقابل، ابتسم لجده بطلفٍ بينما تبادل كلًا من "طاهر" و"سليمان" النظرات، حتى قال "رياض" بنبرةٍ حازمة:
-جولّي عملت إيه.. عايز البشارة.
رد "زين" برصانته المعهودة:
-لسا شوية يا جدي.. قلت لك الموضوع ده ماينفعش يجي فجأة. واحدة واحدة.
رياض بنفاذ صبر:
-كيف واحدة واحدة بس.. أنا صبرت أكتر من 18 سنة. لساني هاصبر كمان؟
زين بهدوء: معلش يا جدي.. ليلى ماتعرفناش.. وماينفعش تاخد الصدمة مرة واحدة. إديني فرصة بس. أنا إنهاردة وريتها نفسي ورميت لها كلمة.. المرة الجاية الكلام هايبقى مكشوف.
لم يتسنّى الرد للجد، ارتفعت حرارة الأجواء فجأة، حين اندفع "طاهر" قائلًا بنزقٍ محتدم:
- يا حاج. أنا سايبك تعمل إللي على كيفك.. بس لازم تسمع مني الكلمتين دول. مش المفروض البت دي تكون هنا أصلاً. أمها غلطت. بتّك غلطت يابا ومرّغت شرفنا في الطين والخلج لساهم مانسيوش. دهب جابتها من الحرام…
قاطعه "سليمان" مؤيدًا:
-طاهر بيتكلم صوح يا عمي. وإللي اتعمل زمان ماينفعش نرجع نكرره تاني. العيلة دي ليها اسمها. والبت دي مش مننا من أساسه ولا تعرفنا ولا عمرنا عرفناها. ده انت المفروض تشكر ربنا إنه نجانا من عارها هي كمان.
انقبض وجه "رياض" لسماع كلماتهم، وارتعشت يده قليلاً وهو يضعها على المكتب، ثم يقول بصرامة وصوته كأنما يخترق الجدران:
-اسمع يا طاهر انت وسليمان. دهب بتّي خاطية. دهب تستاهل الحرج. بس ليلى حفيدتي. دمي ولحمي. وكفاية سمعت كلامكوا العمر إللي فات بحاله وسيبتها. ماعدتش هاسمع كلام حد غيري. ليلى راجعة. مش هاسيبها للغُرب طول العمر. دي مهما كان شرفي وعرضي.. وإللي مش عاجبه كلامي يشرب من المالح!!!
ساد صمت ثقيل، تبادلت فيه الأعين صراعًا خفيًا ..
ليقترب "زين" قليلًا من جده، ويقول بصوتٍ منخفض لكنه حاسم:
-ماتقلقش يا جدي… أنا مش هاسيبها. هرجع لها تاني… وهارجّعها ليك.. ده وعد مني!
نظر إليه "رياض" مطوّلًا بعينين مملوءتين بكبرياء الرجل العجوز الذي يخوض آخر معاركه. ويأمل أن ينتصر بها، هز رأسه بصمتٍ كأنّه يسلّمه الراية ..
فتنهد "زين" ناظرًا إلى "سليمان" مباشرةً كأنما هناك تحدّ قائمٌ بينهما ...
_____________
تجلس إلى جواره في السيارة، وملامحها مزيج من الحيرة والارتباك. نظرت إلى الطريق الممتد أمامهما، وقد لاحظت أنه لا يؤدي إلى المنزل ..
-إحنا رايحين فين؟ .. تساءلت "ليلى" بصوتٍ خافت، بينما عيناها تتبعان اللافتات والخط النيلي على يمينها
ردّ "نديم" بهدوئه المعهود دون أن يحوّل نظره عن الطريق:
-ماتستعجليش.. هاتعرفي دلوقتي.
ساد بينهما صمتٌ ثقيل، كأن الطريق يبتلعهما. لا صوت سوى همهمة المحرك والموسيقى الخافتة المنبعثة من سمّاعات السيارة الحديثة ..
وأخيرًا، توقفت السيارة أمام بناية حديثة ذات واجهة زجاجية أنيقة في أحد أحياء المدينة الراقية. التفت إليها وقال آمرًا:
-انزلي.
فتح الباب ونزل، ثم دار حول السيارة، أمسَك بيدها دون أن ينتظر إذنًا، فأمسكت بها بعفوية، كأن جسدها سبق عقلها في القرار ..
دخلا البناية، وركبا المصعد حتى الطابق السادس. طابق كامل يحتوي على شقة واحدة فقط. أخرج "نديم" مفتاحًا وفتح الباب بهدوء ..
-ادخلي.
إنصاعت "ليلى" مدفوعة بثقتها العمياء به، وعيناها تتجولان بدهشة داخل الشقة. كانت فسيحة، يغلب عليها اللونين الأبيض والرمادي، بقطع أثاث حديثة الطراز. السقف عالٍ تتدلّى منه ثريا زجاجية أنيقة، والجدران مزيّنة بلوحاتٍ فنية هادئة. الأرضيات لامعة، والهواء معطّر برائحة خشب فاخر ممزوجة بعطر ذكوري خافت ..
تقدّمت خطوات بطيئة، ثم التفتت، فوجدته يقفل الباب ويستدير نحوها ...
-إحنا فين يا نديم؟ وإيه الشقة دي؟.. سألته والشك يتسلل إلى صوتها
ابتسم "نديم" وبدأ في خلع سترته ببطءٍ، ثم فكّ ربطة عنقه، وتبعها بأزرار معصميّ قميصه، دون أن يبعد عينيه عنها ..
-تعالي نقعد هنا… وهافهمك.
تقدّم نحو الصالون الجانبي، بإضاءة ناعمة وأريكتين واسعتين، فتبعته بخطى ثقيلة، بينما قلبها يتقافز من سؤال إلى سؤال دون إجابة ..
جلست بجواره على الأريكة الرمادية الناعمة، بينما استرخى بكامل هدوئه، واضعًا ساق فوق الأخرى، ونظره مستقرًا عليها، يبتسم لها ببساطة ..
ابتسمت له دون تفكير، كأن ابتسامته سحبتها من توترها، ثم عادت لتسأله بهدوء وعيناها تتفحصان المكان من جديد:
-الشقة دي… بتاعتك يا نديم؟
رد مبتسمًا دون أن يغيّر شيئًا من نبرة صوته الهادئة:
-أيوة يا ليلى.. بتاعتي. إيه رأيك فيها؟ عجبتك؟
هزت رأسها بإعجاب قائلة:
-جميلة جدًا… بس مش فاهمة.. ليه عندك شقة زي دي أصلاً؟
-اشتريتها من ٣ سنين!.. قالها، ثم أكمل بعد لحظة صمت قصيرة:
-لسبب أكيد… هقولك عليه. بس مش وقته دلوقتي.
نظرت إليه بدهشة، لكنها لم تسأل مرةً أخرى.. سكتت ..
مال "نديم" بجسده قليلًا للأمام، ونبرة صوته أصبحت أكثر جدية، لكن بهدوءه الشهير قال:
-بصي يا ليلى… أنا جايبك هنا عشان في كلام مش هعرف أقوله لا في البيت ولا في أي مكان تاني. هنا… هنا بس أقدر أتكلم. وانتي تسمعيني من غير ما تقاطعيني.. فاهمة؟
نظرت إليه باهتمام، شعرت بقلبها يضرب أسرع وقالت بتوتر:
-قول طيب.. انت قلقتني.
لم يزيح عينيه عنها. لكن نظراته تلك المرة كانت أعمق، كأنها تحمل شيئًا ثقيلًا أخيرًا أفرج عنه ...
-أنا بحبك! .. قالها بثباتٍ، لكن عينيه كانتا تشي بتوترٍ دفين
كلمة واحدة… كانت كافية لتقلب داخلها كل شيء ..
شهقت بصمت، كأن قلبها انكمش فجأة. لم تصدّق… رغم كل شيء، لم تتوقعها منه ..
تلعثمت، عيناها تبحثان عن تفسير وهي تقول:
-بتحبني؟ قصدك يعني… بتحبني عـ عشان أنا بنت عمك؟ زي ما أنا كمان بحبك يعني…
قاطعها بهدوء حاسم وهو يقترب أكثر ممسكًا يدها فجأة دون تمهيد:
-بحبك يا ليلى! ..قالها مرةً أخرى، بصوتٍ منخفض لكنه صارم:
-بحبك… ومش قادر أكتّم اللي جوايا أكتر من كده.
ضغط على يدها بخفة، وعيناه لا تزال معلّقة بعينيها وأضاف هامسًا:
-أنا بحبك.. وعايزك.. عايزك أكتر من أي حاجة في الدنيا.. معقول عمرك ما حسّيتي بده؟
صارت الغرفة ضيّقة رغم اتساعها، الهواء مثقل بأنفاسهما، والنبضات المتسارعة تدوي في أذنيها كطبول حرب. وقفت "ليلى" فجأة، لكنه اجتذبها من معصمها معيدّا إيّاها بمكانها بقوة، أفلتت منها شهقة بينما يحاصرها بين ذراعيه المفتولتين ..
نظرت له مشدوهة، غير قادرة على استيعاب ما يحدث. "نديم" كان أمامها، لأول مرة، بل للمرة الثانية، أقرب ممّا ينبغي لأبن عمّها!
عيناه الخضراوين تخترقانها كأنهما تحاصرانها في زاوية لا مهرب منها، وصوته الخافت يغوص عميقًا بداخلها:
-الهروب مش هو الرد على كلامي يا ليلى.. أنا عمري ما كنت هاكلمك في حاجة زي لو كنت لامس ذرة رفض منك.. لكن أنا شايف في عنيكي.. شايف مرايا بتعكس كل إللي جوايا ناحيتك.. جواكي انتي كمان.
حاولت أن تتكلم، أن تفهم، أن تضع حدًا لهذا التوتر الخانق، لكن الكلمات خرجت ضعيفة، متعثّرة، كأنها لا تصدق نفسها ...
-بس. انت متجوز! .. قالتها بصوتٍ خافت، تحاول أن تُذَكِّره… أو ربما تذكّر نفسها
لم يرمش حتى، لم يبتعد، بل ارتسمت على شفتيه ابتسامة باردة، خطيرة، قبل أن يجيب بنبرة ناعمة لكنها تحمل في طيّاتها خشونة لا يمكن إغفالها:
-وإيه المشكلة؟ راندا مجرد صورة.. لكن انتي.. انتي عارفة مقامك عندي.
ارتجفت أنفاسها، تشوّشت أفكارها، كأن كلماته صفعتها دون أن تلمسها يداه. حاولت أن تتراجع، ولاحظ هو ذلك، فضغط جسدها بجسده أكثر ممسكًا معصمها بيد ومحيطًا خصرها بالأخرى، المسافة بينهما أصبحت معدومة تقريبًا ...
-أنا مش فاهمة!… همست بها، وصوتها بدا واهيًا حتى في أذنيها
رفع يده ببطء، ولا زال لا يمنحها فرصة للهرب وهو يرفع أصابعه إلى وجنتها، يلمسها بجرأة لم يعهدها من نفسه معها من قبل. ارتعشت، شهقت بلا وعي، لكنها لم تتحرك، لم تستطع حتى أن تتنفس بشكلٍ طبيعي ..
-فاهمة. بس مش عايزة تصدقي! .. قالها بثقة وهو يمرر إبهامه فوق بشرتها، لمسته كانت ناعمة، لكنها حارقة، تترك أثرًا لا يُمحى
بلعت ريقها بصعوبة، استجمعت ما تبقى من شتات عقلها وقالت بعناد بلهجةٍ مرتعشة:
-لأ مش فاهمة يا نديم.. انت عايز إيه بالظبط؟ أنا حاسة ان في حاجة غلط.. ممكن تسيبني دلوقتي؟
أظلمت عيناه، وكأن الغضب تسرّب إليهما دون سابق إنذار، اقترب أكثر حتى كادت أن تشعر بدفء أنفاسه على وجهها وهو يتمتم ببطء، بصوتٍ أجش:
-وانتي عايزة تسيبيني؟
كانت إجابتها جاهزة، كان يجب أن تقول "أجل". أن تضع حدًا لكل هذا، لكنها لم تستطع، لم تجد الكلمة… وكأنها علقت في حلقها، وكأن شيئًا أقوى منها منعها من الكذب عليه.
رأى التردد في عينيها، رأى الحقيقة قبل أن تنطق بها، فابتسم… تلك الابتسامة الواثقة التي لطالما رأتها عليه على مر السنون، قبل أن يهمس قرب شفتيها، صوته كان أقرب لاعترافٍ خطير:
-انت ليَّا يا ليلى… من زمان. من قبل حتى ما تفهمي ده.
ارتجفت بين يديه، نظرت إليه بعينين تملؤهما الفوضى، وحين نطق بالسؤال القاتل، لم تستطع إلا أن ترنو إليه بصدقٍ موجع:
-بتحبّيني؟
تلعثمت شفتاها، حاولت أن تنكر، أن تتراجع، لكن شيئًا ما انتزع الحقيقة منها قبل أن تمنعها:
-بحبك… بحبك أوي!
أغمض "نديم" عينيه للحظة، كأنه يستوعب وقع كلماتها عليه، قبل أن يعود لينظر إليها مجددًا، عيناه تلمعان بانتصار لم يحاول حتى إخفاءه، ثم تمتم بصوتٍ خافت، لكنه تسلل إلى عظامها:
-ده هايبقى سرنا… اللي بينا ده محدش هايعرفه غيرنا!!
تجمّدت للحظة بين ذراعيه، كأن الهواء انقطع عن صدرها، وكأنها لا تصدق ما سمعته للتو. ثم ارتج جسدها فجأة، واندفعت تقاوم قبضته بيدين مرتعشتين، تدفعه بصدرها وكتفيها حتى أفلتها، لا عن عجز، بل عن رغبة في منحها فرصة للكلام ..
نهضت كمن يهرب من حافة هاوية، ووقفت أمامه تتنفس بسرعة، عيناها مشتعلة، وخدّاها يغليان من الذهول ..
قالت بصوتٍ مرتجف:
ـانت بتقول إيه؟ يعني إيه إللي بينا سر ومحدش هايعرفه غيرنا؟؟!!
قام واقفًا بدوره تنهد مودعًا يداه بجيبيه، كأن الأمر لا يستحق الانفعال وقال:
-كلامي واضح يا ليلى.. قلت لك بحبك.. وعايزك.. وانتي كمان قولتيها.. بتحبيني.. يبقى مش ناقص غير دليل يثبت إللي بينّا. الدليل هو إنك تكوني ليا.
نظرت له بذهول وقالت بصدمة:
-وعايزني أكون ليك إزاي يا نديم؟ عايزني أعيش معاك كده. متصاحبين؟ ترضاها لي؟؟!!
عبس قائلًا بانزعاجٍ:
-إيه إللي انتي بتقوليه ده؟ أكيد لأ.. انتي بنت عمي. وأغلى إنسانة عليا في الدنيا دي كلها.. تفتكري ممكن آذيكي؟
أجفلت قائلة باضطرابٍ:
-طيب فهمني.. أنا مابقتش فاهمة حاجة من كلامك!
قطع المسافة بينهما ممسكًا وجهها بين راحتيه، وقال بخفوتٍ:
-أنا هاتجوزك يا ليلى.. هاتجوزك.. خلاص مابقتش قادر اصبر ولا أخبي مشاعري ليكي.. ده إللي لازم يحصل.
كان قلبها يرقص سعادة من كلماته، لكنها طرحت السؤال الذي يؤرّقها بشدة:
-طيب وراندا.. وبابا والناس ..
قاطعها باسلوبه المقنع الذي لا يخيب معها أو مع غيرها أبدًا:
-لا راندا ولا عمي ولا جنس مخلوق هايقدر يمنعني منك.. انتي وبس إللي حبيبتي.. انتي إللي اتمنيت تكوني شريكة حياتي وأم ولادي.. كل حاجة هاتتحل ماتشليش هم طول ما أنا موجود.. المهم دلوقتي إنك عرفتي. وإنك هاتكوني ليا.. ده الأهم بالنسبة لي يا ليلي.
حدقت فيه غير مصدقة، إنه يقول كل هذا الكلام، لا تتوّهم، لا تحلم ..
حبيبها "نديم".. صرّح بحبّه لها.. بل وقد وعدها بالزواج.. ستكون له ..
ستكون له وهذا ما يهمها حقًا ! ..
يتبع ...
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق