رواية هيبه الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم مريم محمد غريب حصريه وكامله جميع الفصول
رواية هيبه الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم مريم محمد غريب حصريه وكامله جميع الفصول
( 6 )
_ بأيّ ثمن _ :
في الصالون المترف. ساد صمت ثقيل بين الحضور القليل، الأوراق مبسوطة على الطاولة الخشبية أمامهم، ونسختان من عقد الزواج تنتظران توقيعات أصحابها ..
يجلس المحامي قبالتهم، عيناه تنتقلان بين الوجوه بترقُّب معتاد، رجلان من رجال "نديم الراعي" المقرّبين كانا يجلسان في الخلف، يتبادلان النظرات دون كلام ..
حين وقعت عينا "ليلى" على الأوراق مرةً أخرى، ارتجف جفنها، وحدّقت في "نديم" بتوترٍ قائلة:
ـ-هو الجواز العرفي ده رسمي يا نديم؟
ابتسم بهدوء بثقة، ومدّ يده ليمسك يدها وقال بثقة:
ـ-طبعًا رسمي. وهانوثّقه في المحكمة كمان.. ماتقلقيش.
صوته كان هادئًا، مطمئنًا، وفيه نبرة حنان زائدة لم تعتدها. ارتاحت نظرتها تدريجيًا، وارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهها ..
أمسك "نديم" بالقلم، وقام بالتوقيع على النسختين. ثم نظر المحامي إلى "ليلى" وقال:
ـ-اتفضلي يا عروسة.. امضي في خانة الطرف التاني الاسم رباعي.
ترددت لحظة، ثم تناولت القلم ووقّعت. بعدها رفعت وجهها ونظرت لـ"نديم" قائلة ببلاهة الطفلة:
-طيب.. احنا مش هانبصم بالحبر الأزرق؟ زي العريس والعروسة ما بيعملوا في الفرح؟
ضحك "نديم" وقد ارتد صوته في أركان الحجرة، ثم قال بفكاهة:
-مشكلتك في البصمة يعني؟
ثم التفت إلى المحامي قائلًا:
-معاك بصّامة يا متر؟
ابتسم المحامي وأخرج بصّامة صغيرة من حقيبته الجلد وقال مبتسمًا بدوره:
-معايا كل حاجة يا باشا.. أوامر ..
ومدها ناحية "ليلى" قائلاً:
-اتفضلي يا عروسة.. ابصمي.
وضعت ليلى إصبع إبهامها على البصّامة وهي تبتسم بفرحة طفولية، ثم طبعت بصمتها على النسختين. فعل "نديم" المثل ليس إلا إرضاءًا لها، ثم نظر لها قائلًا وعيناه لا تفارقان وجهها:
-قوليلي نفسك في إيه تاني؟ طلباتك أوامر.
نظرت إلى الأرض دون أن ترد، وراح ظل ابتسامتها يختبئ وراء وجنتيها، سحب منديلًا ورقيًا ليزيل آثار الحبر عن إبهامها أولًا، بينما نهض المحامي من مكانه ملتقطًا العقدين، واتجه ناحية الشاهدين، وقّع الرجلان كلٌ في دوره، دون كلمة، فقط نظرات صامتة متبادلة بين بعضهما البعض ..
كانت "ليلى" ما تزال مطأطأة الرأس، وجنتاها مشرّبتان بحمرة الخجل، وعيناها تتجنبان العيون من حولها ..
عاد المحامي إلى الطاولة، جمع أوراقه بعناية في حقيبته الجلدية، ثم نهض وهو يقول باحترام:
-عن إذنك يا باشا. لو تسمح لي ألحق أمشي عشان أوصل الأوراق دي مكتبي وإن شاء الله الصبح هاكلمك.
صافحه "نديم" بحرارة، ثم قام ليصافح الرجلين اللذين باركا له ولعروسه بابتسامةٍ واسعة:
-ألف مبروك يا نديم باشا.. مبروك يا عروسة.. تتهنوا يارب.
شكرهم "نديم" بابتسامته الفاترة:
-شكرًا يا رجالة.. ألف شكر.. نورتوا.
أوصلهم جميعًا حتى باب الشقة، ثم عاد إلى "ليلى" بخطوات هادئة ..
مدّ يده إليها، فنظرت إليه بخجل قبل أن تضع كفّها الصغيرة في يده الكبيرة الدافئة. شدّها برفقٍ، لتقف أمامه ..
أمسك يدها الأخرى، ثم رفع رأسه لتتلاقى أعينهما في صمتٍ مشحونٌ بالمشاعر، ثم وقال بصوتٍ خفيض:
-مبروك يا حياتي… بقيتي مراتي خلاص يا ليلى.
ازداد خجلها أكثر، وابتسامة متوترة ارتسمت على محيّاها، لكنها ما لبثت أن تلاشت حين همست له بارتباكٍ:
-أنا خايفة يا نديم!
تبدّلت ملامحه، وسألها عابسًا:
-خايفة؟ وإنتي معايا؟ خايفة من إيه؟
-خايفة من إللي عملناه… بابا لو عرف… كنا ممكن نقوله على الأقل ..
تنهد "نديم" ثم قال بهدوء:
-ليلى… حبيبتي… قلت لك إن الظروف دلوقتي ماتسمحش إن أي حد يعرف. حتى عمي. وبعدين لما هاجي أقوله مش هاقوله إننا اتجوزنا من وراه… أنا هاطلبك منه رسمي. وهانتجوز تاني قدام الناس وعلى إيد مأذون.
نظرت له بعينين قلقتين وسألت:
-نتجوز تاني؟ هو ده ينفع؟
جاوبها باسلوبه المقنع الشهير:
-أيوه طبعًا ينفع. إحنا إنهاردة كتبنا عقد مدني رسمي. ده بيكون موثق ومعترف بيه في الدولة. أما الجواز الشرعي إللي على إيد مأذون ده للشكليات. وأنا فهّمتك وشرحت لك… أول ما أخلص من جوازي من راندا. هانكون مع بعض قدام الدنيا كلها.. أنا اتجوزتها وكنت فاكر إني بهرب من مشاعري ناحيتك أتاريني أتوّرطت بقلبي معاكي أكتر.. لكن خلاص مابقتش قادر.. وعيشتي معاها تقريبًا انتهت.. كل إللي طالبه منك إنك تثقي فيا أكتر.. وتعرفي إني إستحالة أضرك.
كلامه دخل قلبها بسلاسة، وكدأبها صدقته، فتراجع التوتر من عينيها، وابتسمت له من جديد متمتمة:
-أنا بثق فيك أكتر من نفسي.. طول عمري بثق فيك.. وانت عارف.
بادَلها الابتسامة واقترب منها أكثر، وهمس:
-عارف.. أنا بحبك!
لم تجد "ليلى" ما تقوله. وقفت متسمّرة، مستسلمة بين يديه، حتى دنى بوجهه معانقًا وجهها بكفّيه، لامس شفتيها بشفتيه في قبلة هادئة، رقيقة في البادئ، ثم اشتدّت شيئًا فشيئًا دافعة إيّاها إلى الذهول ..
هذا شيء تختبره للمرة الأولى، فضلًا عن أنها محظوظة للغاية، فهذا الرجل الذي تحب، لم ولن تعشق غيره وهي واثقة تمام الثقة من ذلك ..
تثاقلا جفناها لا شعوريًا، بينما تقودها خبرة "نديم" وتتيه هي في دفئها. شفاهه تلامسها، وتتعرّف على فمها برفقٍ ثم بجُرأة، كما يداه حين أحسّت بلمساته تستكشف معالم جسدها لأول مرة بطريقة مختلفة لم يسبق لأحد أن فعلها ..
ولولا إنه قد شعر بحاجتها للتنفس لما قطع القبلة الآن. أنفاسه حارة ولاهثة حين همس لها مسبلًا عيناه:
-تعالي أوريكي أوضة النوم.
لكن "ليلى" رفعت يدها وأمسكت بكفه وهو يتحسس خصرها ويشدّها بنفس الوقت، ثم قالت بسرعة:
-نديم. من فضلك… مش هاينفع.
نظر لها بدهشة:
-ليه؟
عضّت شفتها وقالت بترددٍ:
-معلش… أنا مش جاهزة.. مش المرة دي.. لو سمحت!
صمت للحظة، ثم سحب نفسًا عميقًا، تراجع بهدوء، قبضته ترتخي عن خصرها. ثم قال بلهجته الباردة:
-ماشي يا ليلى… بس ياريت تجهّزي في أسرع وقت. عشان أنا… مش هقدر على كده كتير.. معاكي كام يوم مش اكتر.. فاهمة؟
أومأت برأسها. فمدّ يده، ولمس شفتها السفلى بإبهامه، ثم انحنى عليها وقبّلها من جديد على فمها، قبلة أطول، أعمق، داخت بها كأنها تُسحب من العالم ..
ثم ابتعد، التقط سترته من على الكرسي، وارتداها بسرعة. نظر لها وقال بنبرة آمرة ناعمة:
-يلا بينا… هانرجع البيت.
استوقفته "ليلى" عند الباب قبل أن يفتحه، وقالت بخفوتٍ:
ـ-استنى.. دقيقة بس!
اتجهت نحو مرآة معلّقة في جانب المدخل. عدّلت بلوزتها سريعًا، فتحت حقيبتها الصغيرة، وأعادت وضع لمسة خفيفة من الحمرة على شفتيها وخدّيها. مرّرت يدها على شعرها لتعيد ترتيب خصلاته بعناية ..
ثم استدارت نحوه ثانيةً، وجدته واقفًا كما هو يراقبها بصمت، يبتسم لها بنظرة مفعمة بالحب ..
مدّ يده إليها مجددًا، فابتسمت وأمسكتها. هذه المرة تشابكت أصابعهما كأنهما يحتضنان بعضهما بأياديهما ..
خرجا من الشقة، ونزلا إلى الشارع. فتح لها باب السيارة، ثم دار إلى جهة السائق وركب. شغّل المحرك، لكن قبل أن ينطلق، سمع ضحكة خافتة بجواره ..
نظر إليها مستغربًا وسألها:
-بتضحكي على إيه؟
حدقت فيه بقوة وقالت بعدم تصديق:
-مش مصدقة إللي حصل… لحد امبارح كنا بنتعامل على إننا ولاد عم وأخوات. دلوقتي إحنا متجوزين فعلًا؟
ابتسم، أمسك يدها وقال بهدوء:
-لا صدقي… عشان دي الحقيقة الوحيدة في حياتي.. صدقي عشان انتي حب عمري.. أنا ماحبتش غيرك يا ليلى.. وكنت بتعذّب وأنا مش قادر أصارحك ولا عندي أمل نكون سوا.
نظرت له بجديّة وسألته:
-من إمتى اكتشفت إنك بتحبني يا نديم؟ وإزاي؟ إزاي حبّتني؟
ابتسم من جديد وهو يقرص وجنتها برفقٍ قائلًا:
-إنتي بتسألي كتير… ماتخافيش. هاجاوبك على كل الأسئلة دي وأكتر. قدامنا الوقت… العمر كله.أنا مش هاسيبك أبدًا يا ليلى. هاتفضّلي جنبي وتحت جناحي.. لحد ما أموت.
ردّت بسرعة، بعاطفة فائرة:
-بعد الشر عليك!
ثم أمسكت بيده وقبّلت باطن كفّه برقة ..
نظر لها بحنانٍ، ومسح على خدّها بالكف نفسه، قبل أن يبتعد قليلًا وينطلق بالسيارة نحو البيت ..
حين وصلا، أوقف السيارة أمام البوابة. ترجلا منها، وأمسك بذراعها برفقٍ وهو يوقفها في الباحة، ثم قال بلهجة تحذيرية:
-ليلى… مش محتاج أكرر وآكد عليكي… إللي حصل إنهاردة سر بيني وبينك. ماينفعش أي حد يعرف. حتى نوران… سامعاني؟
أومأت له بطاعة، فابتسم برضا ودلف أمامها إلى الداخل ..
في غرفة الطعام، كانت العائلة مجتمعة. حيّاهم كلٌ من "ليلى" و"نديم" فردّ الجميع التحيّة. وخاصة "لُقى" عروس العائلة المنتظرة:
-نديم باشا. ابن عمي المهم إللي فاضيلي خالص ولا كأني عروسة!
تصنّعت "لُقى" الحزن، فقال "نديم" بلطفٍ زائد:
-أنا أفضي نفسي مخصوص عشانك يا لمضة.. وبعدين أنا قلت لك جهزي كل طلباتك وأحلامك كمان وليكي عليا أنفذ كل إللي انتي عايزاه أحسن من خيالاتك كمان.. إيه رأيك؟
نظرت له قائلة بامتنانٍ:
-يخليك ليا يارب.. أخويا الكبير بصحيح.
تدخل شقيقها "ليث" مشاكسًا:
-أيوة هي دي لُقى.. مصطلح المصلحة.. انتي مصلحجية أوي يا حبيبتي.
وكزته "لُقى" بقبضتها في كتفه، بينما تبادلت العائلة الضحكات، لكن "مهران" حدّق في "نديم" بنظرة حذرة فيها من التساؤل الدفين. أدرك "نديم" رسالته الصامتة، فرد عليه بنظرة مطمئنة، قبل أن يسأل بعشوائية:
-راندا مش موجودة؟
ردّت "مشيرة" زوجة عمه، وهي تشير بيدها للأعلى:
-طلعت أوضتها من شوية يا حبيبي… قالت هاتستناك لما ترجع عشان تتغدوا سوا.
تنهد "نديم" وحانت منه نظرة خاطفة إلى "ليلى". فوجدها تنظر إليه بوجوم، وكأن الغيرة قد لسعت قلبها بسؤاله عن زوجته ..
ابتسم لها بلطفٍ، ثم اتجه إلى رأس الطاولة وجلس قائلاً:
-بصراحة أنا جعان جدًا ومش هقدر أستنى دقيقة كمان.. حد من الخدم يطلع يقول لها إني وصلت وبتغدى معاكوا. عاوزة تنزل أهلاً وسهلاً. مش عاوزة… براحتها.
جلست "ليلى" بدورها في مكانها المعتاد، تحاول أن تمنع ابتسامة صغيرة من التسلل إلى وجهها، فخاطبت أبيها وهي تتلقّى بعض الحساء من يد إحدى المسخدمات:
-بابا لو سمحت.. أنا هاخرج كمان شوية وهاخد فضل السواق معايا.
لم يكد "مهران" يرد، إلا وقاطعه صوت "نديم" متحدثًا إليها مباشرةً:
-رايحة فين يا ليلى؟
نظرت له بشيء من الارتباك مدركة سلطته الجديدة عليها، كانت لتضايقه بتمرّدها لولا الحقيقة التي حفرت بعقلها بطريقة لا يمكن نسيانها ولو لوهلةٍ. جاوبته بلهجة غير واثقة:
-كنت محتاجة أروح البيوتي سنتر.. ده معادي بتاع كل شهر!
وزجرته بنظرة ذات مغزى، لم يبدو عليه أيّ تأثر، لكنه قال بنبرة حيادية واسلوبٍ حازم:
-الوقت متأخر يا ليلى. ولما تخلصي وترجعي هايتأخر أكتر.. كلّمي البيوتي سنتر يبعتوا لك الارتست إللي بتتعاملي معاها وأنا هحاسبها كويس.
ارتجف قلبها لأسبابٍ عدة، لم تستطع ردًا، فأومأت له وعادت لتنكب فوق صحنها، بقيت هكذا طوال الوقت على المائدة، حيث خشيت لو نظر أحدهم بوجهها فسيعرف حتمًا ما جرى ...
_________
تسللت نسمات المساء عبر أشجار الحديقة الغنّاء لقصر آل"نصر الدين".. حيث كان "سليمان" يسير في الهواء الطلق إلى جوار ابن عمه "طاهر" ..
خطواتهما هادئة، لكن التوتر يسكن بينهما في صمتٍ ثقيل يسبق الكلام. ليقول "سليمان" بنبرة حازمة وهو ينظر للأمام دون أن يلتفت:
-أبوك كنّه كبر وخرف يا طاهر.. أنا دمي فاير.. كيف العيّل الصغير إللي شبطان بلعبة.. هو نسي البت إللي عايز يئويها دي جت إزاي؟ نسي إنها بت حرام؟
ردّ "طاهر" بنبرة هادئة وممتعضة في آنٍ:
-أني كمان مش اموافج على إللي بيعمله… بس في لاخر ده رياض نصر الدين.. عمر ما حد كسّر له كلمة وإللي في راسه هايعمله.. أيوة عارف إنها بت حرام. بس زي ما جولت يا سليمان شبطان.. وماعرفش ليه؟ عنده بدل الحفيد 10.. رجالة وبنات!!
توقف "سليمان" بغتةً، استدار ليواجه ابن عمه، وضع يده فوق كتف الأخير وقال بنبرة أبطأ:
-إللي عمله أبوك إنهاردة غلط كبير. البت دي مالهاش مكان وسطينا… ولا ينفع تاخد اسمنا.. تبجى فضيحة بجلاجل يا واد عمي.. ترضاها لي؟ ده أنا عمدة البلد. وبكرة هانبجى نسايب أنا وانت بتّي شهد وولدك زين!
تنهد "طاهر" ثم قال بصوتٍ خافت فيه شيء من الانكسار:
-وأنا يدّي إيه بس يا سليمان.. أنا أقدر أمنعه؟ من ساعة ما دهب ماتت وهو ماشلش البت من راسه أصلًا… دلوجتي مش هايهدا إلا لما ترجع.
رمقه "سليمان" بنظرة طويلة، ثم استأنف السير وقال:
-بس المرة دي… إللي عاوزه عمّي مش هايحصل بالطريقة اللي هو متصوّرها.
رفع "طاهر" حاجبه متسائلًا:
-كيف يعني؟
-يعني إللي ناوي عليه… هايتعمل بس بطريقة مختلفة. وبترتيبات تانية خالص.. وأني إللي هكون مسؤول عن ده.
صمت "طاهر" وعيناه تراقبان ملامح "سليمان" التي أصبحت أكثر صلابة، كأن القرار اتخذ… ولا رجعة فيه ...
_________________
دخلت خبيرة التجميل إلى غرفة "ليلى" التي استقبلتها بابتسامةٍ خفيفة. كانت الغرفة مرتبة بعناية، أجواؤها تعبق بعطر زهري ناعم ..
أغلقت "ليلى" الباب خلفها، وأشارت إلى الطاولة المجهزة بكل ما يلزم وقالت:
-بصي بقى يا دودي.. أنا عايزاكي تخلّيني زي البيبي.. عايزة أبص في المرايا ماعرفش نفسي.
ابتسمت الأخيرة قائلة بمجاملة صادقة:
-انتي الله أكبر مش محتاجة أصلًا.. بس يلا بينا!
وضعت حقيبتها وأمرت مساعدتها ببدء التحضيرات ..
أخذت "ليلى" إلى حمامها المستقلّ، كان هناك ما يلزم لصنع حمّام بخار للجسم أراح عضلاتها المتوترة، تبعته جلسة ماسكات بروائح اللافندر والعسل، ثم عناية دقيقة بيديها وقدميها، وباديكير ناعم أنهى لمسة العناية ..
ثم خرجتا وتسلّمت شعرها، صُفف بخصلات متموّجة، تنسدل على كتفيها بنعومةٍ متقنة ..
رفعت الخبيرة حاجبيها وقالت ناظرة إلى "ليلى" بدهشة:
-إنتي عروسة ولا إيه لولو؟
ارتبكت "ليلى" ونظرت نحو الأرض لثانية، ثم رفعت رأسها سريعًا وهي ترد بصوت خافت مرتبك:
-لأ.. عروسة إزاي؟ وبعدين ده سكين كير يعني وعملتيلي شعري.. مافيش بنات عادية بتعمل كده؟
ابتسمت الخبيرة وردت بهدوء فيه شيء من المكر:
-لأ طبعًا في بنات كتير بيعملوا كده.. بس أول مرة ألاقي واحدة بالحماس ده… كأنك عروسة ورايحة لحبيبك!
لم ترد "ليلى". فقط رمشت بعينيها في صمت. من داخلها كانت تعلم أن المرأة على حق.
هي فعلاً عروس… فعلاً تحضّر نفسها لأجل "نديم". ولابد أن يراها بأحلى شكل، أجمل من كل الفتيات اللاتي مررن بحياته ..
أنهت الخبيرة عملها، رتّبت أدواتها، ثم قالت وهي تهمّ بالمغادرة:
-يلا يا لولو باي باي.. وبالمناسبة… الحساب واصل من زمان. نديم باشا دفع وزيادة.
ابتسمت "ليلى" لها.. وتابعتها حتى خرجت ومعها مساعدتها ..
وأخيرًا. بقيت "ليلى" وحدها. وقفت أمام المرآة وهي ترتدي بيجامة قصيرة من الساتان عاجيّ اللون، جسدها يلمع بنعومة، بشرتها صارت أكثر إشراقًا، وشعرها يسقط بانسيابية حول وجهها الذي تزيّنه ابتسامتها العريضة ..
أخذت تدور حول نفسها في المرآة، تستعرض جسدها كأنها ترى نفسها لأول مرة. أجواء الغرفة كانت مشبّعة بعطرها، أنوثة كاملة تملأ المكان ..
وفجأة… انفتح باب الغرفة ...
استدارت بسرعة، ووجنتاها تشتعلان. لتتفاجأ بـ"نديم" واقفًا عند الباب، ينظر إليها نظرة مبهورة، صامتة ..
وفجأة رأته يلج مغلقًا الباب خلفه، أنفاسه ثقيلة، عيناه تتفحصانها بجرأة صامتة ..
ثم قال أخيرًا بصوتٍ خفيض، مشحون:
-أنا غيّرت رأيي… مش هاسيبك كام يوم. انتي بتاعتي الليلة دي!
وأدار المفتاح في القفل ..
خطا نحوها بسرعة، بينما هي واقفة في مكانها، لم تستوعب بعد ما يحدث. قبّلها مباشرةً، بلا مقدمات ..
لم تنطق، لم تستطع… فقط تقهقرت إلى الخلف تحت ضغط حضنه، حتى اصطدمت قدماها بحافة السرير ..
همست بصوتٍ لا يكاد يُسمع:
-نديم… ماينفعش… أرجوك.. احنا مش لوحدنا!!
لكنه لم يتوقف، كان مصرًا، صلبًا، عنيدًا ..
يلتهمها بنظراته، بقبلاته، بصوته الذي تسلل إلى أعماقها:
-كل ده عشاني.. صح؟ انتي عملتي كل ده عشاني… قوليها!
بدأت تنهار، أنفاسها تتسارع، لم تحتمل مقاومته ولا صدقه ولا احتياجه ..
نطقت بشفافية خجولة، بصوتٍ مبحوح:
-أيوة… عملت كل ده عشانك!
الكلمة كانت كافية لتشعل داخله نارًا عالية. بدفعة واحدة استلقت فوق سريرها، وبلحظة كان يعتليها ..
هذا جنون محض ..
أحداث سريعة مذهلة.. مدهشة.. لا يصدقها عقل!!!
اقترب منها أكثر، أصابعه تمر فوق قماش بيجامتها الناعم بلمسات مشتعلة.. ارتعش صوتها من جديد، تتوسل بحياء لا يمنع اشتياقها:
-نديم… عشان خاطري كفاية… إللي بنعمله غلط… ماينفعش… أي حد ممكن يدخل!
ضمّها إلى صدره ومسح على شعرها بحنو وهو يهمس في أذنها:
-ماتخافيش… طول ما أنا هنا.. محدش يقدر يدخل… ولا يقرب.
ارتجف قلبها تحت صدره… وكانت تعرف بأنها لن تقاوم أكثر ...
استسلمت "ليلى" لزوجها.. لـ"نديم". جسدها بين ذراعيه صار هشًّا، كأن كل مقاومة سابقة تلاشت في الهواء. كانت عيناه تمطرانها بنظرات رغبة لا لبس فيها، وملامحه مشتعلة، تنطق بكل ما أخفاه عنها لسنوات ..
نهض عنها للحظة، خلع كنزته السوداء بحركة واحدة، جزعه العاري في ضوء الغرفة الكتيم بدا أكثر قربًا ممّا توقّعت حتى بأحلامها به… أكثر جاذبية ...
راقبت حركاته وهي تشهق دون وعي، ولم تملك إلا أن تتبعه بعينيها، بجسدها، وحتى بأنفاسها المتقطعة ..
عاد إليها بثقة رجل يملكها… لمسة، قبلة، ثم أخرى، يزيح الحواجز التي تفصل بينهما كما لو كان يزيل ما تبقّى من حذرها ..
كانت بين يديه كمن ينصهر، كمن يُعاد تشكيله على مهل ..
فمه اقترب من أذنها، صوته. مغمغمًا بدفء واهتمام نادرين:
-هدّي خالص… لحظة وهاتعدي. الألم مش هايستمر. أوعدك!
كانت كلماته مطمئنة، لكنها أربكتها، فتحت فمها لتسأله، لتفهم… عن أي ألم يتحدّث؟
لكنها لم تكد تنطق، حتى اجتاحها شعور خاطف، غريب، مباغت ..
شهقة مترددة ارتجفت على شفتيها… وجسدها انتفض للحظة، كأن شيئًا غير مألوف بدأ يحدث، ضغط مؤلم ومصمم ..
لكنه لم يكتمل ..
إذ دق الباب ..
دقّة واحدة.. لا ثلاث دقات متتابعات ..
كأن الزمن تجمّد، وكأن البرودة اجتاحت الغرفة من لا مكان ..
انتفضت "ليلى". قلبها خفق بقوة، وكأنها سُمعت… كأن سرها انكشف ..
توسعت عيناها، وتعلّقت بـ"نديم"! ....................................................................................................................................................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ...( 7 )
_ خطة محكمة _ :
كان السكون يسود الغرفة، والأنفاس المتلاحقة لا تُسمع سوى بينهما. كان جسداهما ملتحمان، و"نديم" ماضٍ في تصميمه الذي لا يقبل تراجعًا، يوشك أن يجعلها له… إليه بالكامل. لم تكن يفصل بين قراره وبين لحظة التمام إلا ثوانٍ معدودة، قبل أن يُقرَع الباب فيجمد الزمن ..
تخشّب جسدها بين ذراعيه، رفعت عينيها تنظر إليه، وقد تجمّد تعبيره، وجهه واجم، مشدود، كمن بين نارين ..
خفض صوته دون أن يلين، وأمرها بثباتٍ:
-ردي… قولي مين.
ارتعش فكّها، وكانت نظرتها لا تزال معلّقة بعينيه، لكنها عاجزة عن النطق. فعاد يرمقها بنظرة أكثر زجرًا وهو يقول:
-ردي يا ليلى!
امتثلت "ليلى" له، وقد خرج صوتها بحشرجة لا تخلو من الرجفة:
-مين؟
جاء الرد من خلف الباب، صوت أنثوي مألوف:
-أنا لُقى يا ليلى ..
وحاولت الأخيرة فتح الباب، ولكن المقبض يدور بلا فائدة، فتذمرت بشدة:
-انتي قافلة الباب ليه يابنتي؟ افتحيلي… عاوزة أشوف عملتي إيه عشان لو عجبتني الارتست أجيها قبل فرحي.
لم تتحرك "ليلى". ظلّت مشدوهة، تطالع "نديم" كأنها تستجدي منه حلاً ..
همس لها ببطءٍ، ونبرة هادئة في صوته تخفي تحتها نيرانًا مستعرة:
-قوليلها بكرة. قولي تعبانة من نهار الجامعة وهاتنامي.
ازدردت ريقها، وترددت لحظة قبل أن تنفّذ أمره مجددًا:
-معلش يا لُقى. بكرة تشوفيني… أنا تعبانة جدًا وهانام. انتي عارفة إنهاردة كان أول يوم جامعة.
ردت "لقى" بضيق غير مقتنعة:
-يا بنتي هابص عليكي بسرعة. يلا قومي افتحي بطلي تبقي بايخة.
ردت "ليلى" هذه المرة من تلقاء نفسها، تستجمع ما بقي لها من حزم:
-معلش يا لقى. أنا حتى مش قادرة أقوم من السرير… هانام. تصبحي على خير.
جاءها صوت شقيقتها من الخارج ناقمًا، ممزوجًا بغيظٍ واضح:
-وانتي من أهله يا باردة.. طول عمرك باردة يا ليلى.
ثم ساد الصمت ..
بعد لحظاتٍ. أطلق "نديم" زفرة حانقة، بينما ترفع "ليلى" كفّيها تحاول إبعاده دافعة إيّاه في صدره، تتوسله بصوتٍ مرتعش:
-نديم… خلاص أرجوك. لازم تخرج حالًا. مش هاينفع.
لم يتحرك. لم يطرف له جفن، نظر إليها بعينيه المشتعلتين وقال بحِدة:
-مافيش سبب يمنعني يا ليلى… اهدي. قلت لك محدش يقدر يدخل.. حتى لو عارفين إني جوا معاكي.
تجهّمت ملامحها، وقالت بعصبية:
-يعني إيه؟ إزاي تقول كده؟ لو حد عرف إنك معايا في أوضتي والباب مقفول بالمفتاح… هاتبقى فضيحة.. لو سمحت يا نديم… عشان خاطري. اخرج… عشان خاطري.. ماينفعش هنا… أرجوك.. لو بتحبني!
امتعض وجهه، وزفر بنفاد صبر قائلًا:
-خلاص يا ليلى. أنا مش هاغصبك… طالما مش عايزاني.. براحتك.
أجفلت، ونظرت إليه باضطراب وهي تقول:
-لأ مش كده… بس.. أنا خايفة… ومش مرتاحة… انت مش فاهمني.
تبدّلت ملامحه ما إن رأى الدموع تلمع في عينيها، فتراجع قليلًا وصار أكثر لينًا، رفع كفه ليمسح دمعة سالت من حافة عينها، ثم قال بهمسٍ يشوبه الحنو:
-مين قال مش فاهمك؟.. أنا أكتر حد بيفهمك. ومايرضينيش أعمل حاجة تضايقك.. ولا يرضيني تكوني مش مرتاحة.
ودنى منها ببطءٍ، وكأن المسافة بينهما باتت عالماً كاملاً وهو يحاول محوها. طبع على شفتيها قبلة عميقة، دافئة، مشبّعة بكل ما يحمله لها من مشاعر قوية، متراكمة، تتحيّن لحظة إطلاق عنانها ..
لم تقاوم "ليلى". بل بادلته قبلاته، بشوقٍ خجول أولاً، ثم بانسياقٍ خالصٍ كأنها تُسلّم نفسها إليه، وتخبره بأنها تثق به، بل وتعشقه ..
تعانقا، وتحرّكت أناملها بخفة فوق ظهره، كأنها تصبو لحفظ ملامحه عن ظهر قلب ..
لكنه توقف فجأة، وانسحب ببطءٍ، وكأن جسده يأبى الابتعاد، ومع ذلك نهض بخفة، كما لو أن لا شيء كان ..
شعور بالوحدة تسلل إلى قلبها فورًا، تبعه خجل طفيف؛ فقد تركها مجرّدة من كل شيء تمامًا، فسحبت الغطاء بسرعة على جسدها، وعيناها لا تفارقان حركاته وهو يرتدي ملابسه مجددًا، يعيد ترتيب هندامه كما لو إنه لم يُمسّ ..
لم تستطع كبح سؤال خرج منها رغمًا عنها وهي تنظر إليه بقوة:
-لما تخرج من عندي… هاتروح فين؟
نظر إليها باستغرابٍ لحظي، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة لم تخلُ من مراوغة، فهم قصدها دون أن تسأله صراحة، فقال بهدوء:
-كنت قاعد من شوية مع عمي تحت في المكتب بنراجع شوية حاجات وخلصنا.. ودلوقتي الساعة دخلت على ١٢ ف هاروح أوضتي أنام.. انتي عارفة بصحى بدري.
ابتسم أكثر، حين لمح الغيرة الصريحة في نظرتها، وسألها بنبرة مداعبة:
-مالك يا لولّا؟ ماتقوليش إنك غيرانة!
نظرت إليه بثباتٍ، وبصوت لم يكن متوقعًا، خرج منها الكلام واضحًا، لا خجل فيه:
-وماقولش ليه؟ مش أنا دلوقتي مراتك؟ من حقي أغير عليك!
هز رأسه قائلًا بجدية:
-طبعًا من حقك… بس هي كمان مراتي. على الأقل قدام العيلة والناس.
نظرت إليه بصدمة، فاقترب منها فجأة، واحتوى وجهها بين كفّيه هامسًا وهو ينظر إلى عينيها مباشرةً:
-راندا مراتي فعلًا… بس أنا بقالي شهور ما لمستهاش. عارفة ليه؟ عشان مش قادر أشوف واحدة غيرك. ولا ألمس ست غيرك.. صدقيني يا ليلى.. كل يوم بنام جنبها… بس مابيحصلش بينا أي حاجة.. أنا قلبي وجسمي عايزينك انتي… انتي وبس.
ظلّت تحدق فيه، لا تعرف بماذا تشعر، هل تبكي؟ أم تبتسم؟ كانت متفاجئة، مشوشة، لكن دفء عينيه وصوته وهمسه جعل قلبها يهوي أكثر إليه ..
طبع على شفتيها قبلة خفيفة مطوّلة، وكأنها وعدٌ صامت، ثم قال بهدوء:
-الوضع ده مش هايطول… أوعدك.
أومأت له، بثقة عمياء، كأن لا شيء في العالم بامكانه دفعها للتشكيك في كلماته ..
مسح على شعرها بحنانٍ وتمتم مبتسمًا:
-تصبحي على خير.
ردت وأنفاسها ما تزال مضطربة:
-وانت من أهله.
استدار مبتعدًا ببطء، سار نحو الباب، أمسك بالمفتاح وأداره بالقفل، لكن قبل أن يفتحه التفت نحوها، يشير بيده نحو البيجامة الملقاة بجوار السرير، وقال بنبرة صارمة:
-ماتناميش كده طول ما أنا مش معاكي… قومي البسي حاجة.
أومأت بصمت، فابتسم لها ابتسامة أخرى وأضاف:
-وصحيح.. بكرة ماتروحيش الجامعة.. وألاقيكي قاعدة على سفرة الفطار الصبح.
سألته بدهشة: ليه؟ ماروحش الجامعة ليه؟
-كده. اسمعي الكلمة.. بكرة هافهمك. اتفقنا؟
أومأت له من جديد، رمقها بابتسامة راضية وفتح الباب وخرج بمنتهى الثقة الأريحية… وكأنه لا يخشى شيئًا لو رآه أحد خارجًا من غرفتها!
ظلّت تنظر نحو الباب المغلق، نحو الفراغ الذي خلّفه وراءه، مشدوهة، مذهولة من كم المشاعر المتدفقة. لكنها رغم كل التوتر، كانت.. سعيدة ..
سعيدة لأنه اعترف، وأكد، وقال بصدق بإنه لا يريد سواها، وأنه لم يعد يمّس زوجته.. بسببها.. لأنه يبحبّها هي ..
همست لنفسها وهي تغوص في اللحاف الدافئ:
-بحبك يا نديم… بحبك أوي.. بحبـــك!
ثم قامت بعد قليل، فتحت خزانتها، أخرجت بيجامة أطول، وارتدتها على مهلٍ. ثم عادت إلى السرير ..
استلقت وابتسامة دافئة ترتسم على ملامحها المرهقة.. لكنها مطمئنة.. متشوّقة لحياة أخرى معه لطالما تمنّتها ...
_____________________
صباح اليوم التالي ..
يخرج "نديم" من جناحه بحلّته الرسمية الثمينة، يسير بخطواتٍ ثابتة، إلى جانبه زوجته "راندا". كانت ملامح وجهها واجمة كعادتها، جامدة كأنها لم تعرف طعم الراحة يومًا ..
حانت منه إلتفاتة نحوها، فانتابه الضيق وهو يسألها:
-مالك على الصبح يا راندا؟ قالبة وشّك ليه؟
نظرت إليه، ومرارة عميقة تغلي خلف عينيها، لكنها كتمت الحقيقة بين ضلوعها وقالت ببرود:
-ولا حاجة… بس بما إنك مسافر ومش محتاج لي معاك. أنا هالم هدومي واروح أقعد في بيت بابي.
هز كتفه بلا اهتمام، ورد بجفاف:
-براحتك عايزة تروحي روحي. بس لعلمك ممكن يكون أفيد لك والله تغيري جو. يمكن مشتاقة لأهلك وقعدتك معاهم كام يوم تحسّن مودك. بدل جو النكد إللي معيشة نفسك ومعيشاني في.
توقفت فجأة عن السير، ومدّت يدها تمسك بذراعه ..
نظر نحو يدها باستنكار مستخف، ثم رفع عينيه نحوها. بينما قالت بصوتٍ مكتوم، يكاد يختنق بين شفتيها:
ـ-بقى أنا نكدية يا نديم؟ يعني بقيت أنا اللي منغّصة عليك حياتك؟ مش انت اللي حوّلت حياتي لجحيم؟
أبعد يدها عنه بحزم واضح، ثم قال بنبرة تحمل تحذيرًا صريحًا:
-راندا… أنا مش عايز أتخانق على الصبح. قولتي عايزة تروحي عند أبوكي؟ قلت لك ماشي. مالك بقى؟
ردّت بعينين تمتلئان بالخذلان:
-أنا مش هقعد كام يوم يا نديم.. أنا هقعد على طول.
قطّب حاجبيه وسألها:
-لا مش فاهم… يعني إيه؟
جاوبته بصوتٍ مخنوق، ودمعة خائنة انسابت على وجنتها:
-يعني طلّقني. طالما مابقيتش شايفني خالص… ولا كأني مراتك أصلاً. طلّقني..
عشان سبب جوازنا… إللي كل الناس كانوا عارفينه إلا أنا. ماصدقتهمش. خلاص… ما بقاش له قيمة.. وانت قاصد توصل لي الرسالة… وأنا خلاص فهمتها. واتأكدت منها.
ظل صامتًا للحظات، ثم رفع حاجبه وقال بهدوءٍ يحوي الكثير:
-انتي كمان بتفترضي أسباب من نفسك… وطالبة الطلاق يعني مش كده؟
عموماً أنا ليا كلام مع أبوكي لما أرجع. عشان لما جيت اتجوزك رحت له هو… ولما أجي أطلّقك برضو هاروح له هو.. بالإذن.
تركها واقفة وولّى من أمامها، صعدت تنهيدة ثقيلة من صدره وهو يهبط الدرج بخفة، كأن جبلاً يزن العالم كله قد أزيح عن كاهله ..
في الأسفل، بالحديقة، كانت العائلة تستقبل الفطور في الطقس المشمس اللطيف، قلّما يأتي نهارٌ بديع كهذا بفصل الخريف ..
لمح "ليلى" تجلس إلى جوار شقيقتها "لُقى". يدور بينهما حوارٌ صاخب كعادتهما. ألقى تحيّة الصباح بصوته الرجولي الهادئ، رد عليه الجميع، ثم جلس على رأس المائدة كالمعتاد ..
سألته "مشيرة" بنبرة فضول ناعمة:
-أومال فين راندا؟ مانزلتش معاك ليه يا حبيبي؟
رد "نديم" ببساطة وهو يأخذ لنفسه قطعة خبز محمّص:
-بتجهز شنطتها… أصلها رايحة تقعد كام يوم عند أبوها.
ثم التفت إلى "ليلى" وسألها وهو يحدّق فيها بنظرة جادة:
-إيه يا لولّا؟ مش لابسة وجاهزة ليه؟ عندك محاضرات بعد الضهر ولا إيه؟
نظرت "ليلى" إليه بارتباك خافت، وقد شعرت بنظراته تحاصرها، فخفضت عينيها قليلاً قبل أن ترد:
-أنا… أنا مش رايحة الجامعة إنهاردة.
سألها باهتمام: ليه؟
نظرت إليه بدهشة طفيفة، فهو نفسه من طلب منها البقاء. لكنها سرعان ما تداركت الأمر وأجابت بصوتٍ خفيض:
-أصل أول أسبوع بيبقى زحمة يعني… وتعارف وكده… الأسبوع الجاي هانزل بانتظام إن شاء الله.
أومأ لها باقتناع صامت، ثم بدأ يتناول فطوره، بينما "مشيرة" تصبّ له فنجان شاي بصمت، تتابعهم جميعاً بعين متفحصة لترى من يحتاج شيئًا فتعطيه بيدها ..
وبينما أوشك أفراد العائلة على إنهاء فطورهم، انضم "مهران" ثانيةً إلى المائدة بعد مكالمة هاتفية قصيرة، إلتفت نحو "نديم" وسأله بصوته الجهوري الهادئ:
-نديم. أنا نازل إنهاردة زيارة لمصنع الواحات… هاتيجي معايا؟
رفع "نديم" عينيه نحوه ورد بهدوء:
-لا يا عمي أنا مسافر… لما أرجع إن شاء الله أبقى أبص عليه.
قطّب "مهران" حاجبيه وسأله بفضول:
-مسافر على فين كده؟
قال "نديم" وهو يضع فنجان الشاي جانباً:
-طالع الغردقة لعمر ابن خالتي… اشترى حتة أرض جنب القرية بتاعته وعايزني أروح أشوفها… يعني زيارة قصيرة أسبوع كده.. منه شغل ومنه أفصل شوية.
ثم رفع بصره فجأة ناحية "ليلى" التي كانت تنظر إليه طوال الوقت، وعيناها تتابع كلماته بشغف لم تحاول إخفاءه. خاطبها بنبرة عفوية:
-إيه رأيك يا لولّا… تيجي معايا؟ ريهام بتسأل عليكي ونفسها تشوفك أوي.
لم تصدق أذنيها، سألت وقد اتسعت عيناها:
-بجد… ممكن أروح؟
-آه طبعاً. وبعدين مش بتقولي مش نازلة الجامعة طول الأسبوع؟ دي فرصة مناسبة.
ابتسمت "ليلى" بفرح حقيقي، وهزّت رأسها بحماس قائلة:
-أوكي.. أنا موافقة طبعاً.
بادلها ابتسامتها وقال بنبرة عملية:
-طيب جهزي نفسك بقى… هعدي على الشركة ساعتين وراجع. أجي ألاقيكي جاهزة عشان هانتحرك على طول.
بقيت "مشيرة" تتابع الحوار بوجهٍ ممتعض، خالٍ من التعبير… أيّ شيء يُسعد "ليلى" كان يُثير في نفسها مرارة خفيّة لا تقدر على إخفائها. عزاؤها الوحيد هذه المرة أن "ليلى" ستبتعد عن ناظريها أيامًا، علّها تتنفس قليلًا بعيدًا عن طيف خيانة لم تتخطَّها بعد، ولن تفعل ..
___________________
تحرّك "نديم" مع عمه "مهران" واستقلا السيارة متجهين إلى مقر الشركة ..
في الطريق، خيّم صمت ثقيل قبل أن يقطعه "مهران" بنبرة قَلِقة:
-إزاي هتسافر يا نديم وتسيب المصيبة اللي إحنا فيها هنا؟
التفت له "نديم" للحظة ثم نظر إلى الطريق أمامه ثانيةً وقال:
-مصيبة إيه يا عمي؟
رد "مهران" وقد استبدّ به التوتر:
-ما انت عارف.. أهل ليلى… رياض نصر الدين.. وحفيده الظابط ده… لو جم أو عملوا أي حاجة في غيابك.. أنا هاتصرف إزاي؟
أجابه "نديم" ببرودٍ شديد:
-ماتتصرفش.. ولا تعمل أي حاجة.. اقعد واتفرج بس.. وبعدين عشان كده أنا واخد ليلى معايا وأنا مسافر.. أكيد مش هابعد وأسيبها هنا بعد إللي حصل. اطمن.
هزّ "مهران" رأسه بعدم اقتناع، وقال بصوتٍ منخفض:
-طيب قولّي سبب يطمني… هاتمنعهم إزاي لو طالبوا بيها؟ ده سليمان نصر الدين مش بس عمدة… ده كمان عضو في البرلمان.. يعني عيلة واصلة… أنا مش هاستحمل ليلى تعرف… أو ياخدوها مني… دي بنتي يا نديم أنا اللي ربّيتها.
فجأة، أوقف "نديم" السيارة على جانب الطريق، التفت إلى عمه بوجه شديد الصرامة، نظراته كسكين قاطع كلهجته وهو يقول:
-ونديم الراعي مش حاجة قليلة يا عمي.. خلّي حد يقرب بس.. أنا كفيل أكبر راس فيهم. واستحالة أسمح لمخلوق ياخدها يا عمي… على جثتي.
ثم أكمل، ونبرته تغلفها عزة وقوة لا تقبل الجدال:
-أطمن… ليلى عمرها ما هاتخرج برا عيلة الراعي.. برضاهم أو غصب عنهم! ............................................................................................................................................................................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ...
( 8 )
_ لأكون معك _ :
للمرة الثانية على التوالي. يزور "زين نصر الدين" الجامعة التي تلتحق بها ابنة عمته، الهواء دافئ لكنه يحمل شيئًا من توتر المدن، كأن المدينة نفسها تحبس أنفاسها لما يحدث يوميًا بين ساكنيها، لم يكن "زين" معتادًا على هذا النوع من الأماكن، لا طلاب ولا محاضرات ولا هذه الوجوه المتناثرة من دون هدف، لقد إلتحق بكلية الشرطة وتعامله منذ سنوات مع رجال فقط، وقبل ذلك تلقى تربية صارمة للغاية صنعت منه رجلًا صلبًا مجرّد من أيّ عواطف ..
لكنه جاء، جاء اليوم أيضًا بحثًا عنها، "ليلى" اسم صار ينطقه كصيرًا بالأونة الأخيرة، وفي الليلة الماضية ظل صوت جده يرن في رأسه بإلحاحٍ لا يرحم:
"عاوزك تروحلها تاني. كلمها وفهمها.. قولها الحقيقة.. كفاية غُربة." ..
كان "زين" يرفض فكرة المواجهة. يرفض أن يصدمها بماضي أمها دفعة واحدة، أن يخلّ بتوازنها ويخبرها بأن تلك العائلة التي شبّت وكبرت معهم ليسوا بعائلتها، وأن لها عائلة أخرى بمكانٍ آخر ..
لكن… جدّه، ذلك الجبل الذي لا يهتز، لأول مرة يراه بهذا الضعف والهوان، وكأن يخوض آخر وأهم معارك حياته إن خسرها فسيموت حسرةً ..
لقد طلب منه جدّه أن يتولّى الأمر، طلب منه أن يأتي له بحفيدته، وهو لا يستطيع رفض أيّ طلب له، فكيف وهو يشعر وكأن هذه آخر رغباته بالحياة؟!
خطى "زين" في ممرات الكلية المزدحمة، يبحث عنها كمن يبحث عن ظلٍ في زحام. سأل، تفحّص، تجوّل بين القاعات، لكنه لم يجدها ..
أخيرًا هداه تفكيره إلى الكافيتيريا، لقد أوشك موعد استراحة الطلبة، ربما تأتي مثل البارحة ..
جلس في ركنٍ بعيد، عيناه تمسحان المكان بدقة الصقر. مرّت دقائق… ثم دخلتا القاعة فتاتان هما نفسهما من رآهما معها اليوم السابق ..
ضحكتاهما سبقتهما إلى الداخل، الحديث بينهما خفيف، مشرق، لا يوحي بأن شيئًا يعكر صفوهما. لكن "ليلى".. لم تكن معهما ..
اعتدل "زين" في جلسته. ثم وقف واتجه نحوهما، خطواته محسوبة، اقترب منهما، ورفع صوته بلطفٍ:
-لو سمحتي يا آنسة!
رفعت الفتاتان رأسيهما في وقتٍ واحد، لكنه لم ينظر إلا إلى واحدة. "نوران" ..
وجهٌ مألوف، بدت الأكثر قربًا "ليلى" بالأمس، ركّز عينيه عليها وسأل بنبرة رسمية:
-ممكن أسألك عن ليلى الراعي؟ انتي صاحبتها مش كده؟
نظرت إليه "نوران" طويلًا، ولم تمر ثوان حتى تذكرته، هذا هو الشخص الذي حاول مطاردة صديقتها البارحة، لكنها صدّته ..
ارتفع حاجبها باستغرابٍ ساخر وقالت ببرود:
-أفندم؟ حضرتك جاي تسألني على ليلى بعد ما تقريبا هزأتك امبارح؟ أكيد مش هقولك!
ابتسم "زين" بهدوء، لم يغضب، كان يعلم بأنها كانت على مقربة بينما أمعنت "ليلى" باحتقاره، لعلها سمعت، وربما أيضًا حكت "ليلى" لصديقتاها عنه مبدية انطباعها السيئ عنه ..
ورغم ذلك قال "زين" بدماثة:
-يا آنسة أنا مش بعاكس والله.. ولو حبيت أعاكس مش فاضي صدقيني. أنا جاي لحد هنا مخصوص عشان أتكلم مع ليلى في موضوع مهم. بس مش لاقيها.. ف ياريت تساعديني.
اكتفت بهز رأسها وقالت بنبرة حادة:
-آسفة جدًا.. صاحبتي كان موقفها واضح منك. مش هقدر أفيدك بحاجة ولا أكون مرسال.
الكلمة ضايقته بشدة، كما لو أنها طعنت كبرياؤه، عبس وجهه، وتغيّرت نبرة صوته مكتسبة خشونة خفيفة وهو يقول:
-مرسال؟!
يا آنسة أنا بقولك عايزها في موضوع مهم… أنتي شايفاني مراهق قدامك؟
أنا زين نصر الدين. أنا رائد في الداخلية. وأدي الكارنيه بتاعي ..
أخرج محفظته الجلدية الفاخرة بهدوء، فتحها أمام وجهها لتقع عيناها على بطاقته الرسمية ..
شخصت عينا "نوران" ورفعت نظرة مرتبكة نحو "زين". تبادلت نظرة خاطفة مع "رنا" ثم قالت بنبرة أقل حدة:
-طيب حضرتك عاوزها في إيه؟ هي ليلى ممكن تكون عملت إيه عشان ظابط يمشي دور عليها كده؟
ضيّق "زين" عينيه قليلًا، كأنّه يقاتل كي لا ينفجر وقال:
-انتي حقيقي مفكراني واحد فاضي. معلش.. بصي. الموضوع شخصي جدًا ومايتحملش تأخير.. من فضلك قوليلي ألاقيها فين؟
صمتت "نوران" للحظة، وكأنها تزن الأمور، ثم قالت على مضضٍ:
– ليلى ماجتش الكلية النهاردة… ومش هاتيجي غير أول الأسبوع.
انعقد حاجباه، قلبه خفق فجأة وهو يسألها:
-ليه؟ خير حصل لها حاجة؟
ردّت "نوران" باقتضاب، وهي تتجنّب النظر في عينيه الحادتين:
– مافيهاش حاجة. بس سافرت مع ابن عمها.
مرّت ثانية ..
ثم أخرى ..
والجملة: "سافرت مع ابن عمها".. ظلّت تتردد في ذهنه كالرصاص ...
-سافرت مع ابن عمها؟ لوحدها؟ سافرت فين؟
زفرت "نوران" بقوة وقالت بحدة:
-ماعرفش.. وكفاية أسئلة بقى أنا مش في تحقيق على فكرة.. عن إذنك. يلا يا رنا.
وغادرتا الكافيتيريا.. تتركان خلفهما صمتًا كثيفًا لا يُحتمل ..
بينما "زين" ظل واقفًا مكانه. لم يتحرك، فقط نظرته تغيّرت، احتدّت، اتسعت حدقتاه وهو يتنفس ببطء. ليس غضبًا، بل شيء أعمق، أقوى، شيء يشبه الحريق ..
هذا الرجل حتمًا هو من حكى له "رياض" عنه، حتمًا هو.. "نديم الراعي" ..
أيعجل الآن بالتصرف؟ أيظن بأنه قادرٌ على إخفائها؟
بل إنه سوف يجدها حتى ولو ذهب بها إلى أقصى الأرض، سيعثر عليها ويعيدها إلى جدّه، سيوفي بوعده هذا مهما كلّف الأمر ...
_________________________________
كانت الطائرة الخاصة تُعد للإقلاع. الجو بالخارج صافٍ، والسماء مائلة إلى زرقة هادئة. الداخل أنيق للغاية، المقاعد الجلدية بلون رمادي فاخر، أضواء ناعمة تسقط على الخشب اللامع للمقصورة، صوت المكيف بالكاد يُسمع ..
دخل "نديم" أولًا يجرّ حقيبته الجلدية السوداء بإحدى يديه، بينما الأخرى تمسك بحقيبة "ليلى". خطواته واثقة كالمعتاد، متزنة، كأن الأرض تمهد له الطريق أينما ذهب ..
فتح باب خزانة الأمتعة بأعلى المقصورة ووضع الحقائب بعناية. أدارت "ليلى" عينيها في المكان، كان فخمًا، مريحًا، لكنه لم يُشعرها بالطمأنينة، هناك شيء يخنق أنفاسها، لعله خوفها من الطيران، فهذه هي أولى تجاربها!
أشار لها "نديم" بلطف:
-أقعدي هنا يا لولّا.
كانت نبرته دافئة، لكن عقلها كان مشوّشًا، جلست على أحد المقاعد القريبة من النافذة، خفضت رأسها قليلًا، تقلب أفكارها كما لو كانت تتوقع شيئًا مفاجئًا ..
بينما هو قد اتجه إلى مقدمة الطائرة. فتح باب المقصورة، دخل يسلّم على الكابتن، ومن بعيد سمعته يضحك.. ضحكته القصيرة المشهيرة.. ابتسمت بمجرد سماعها وأخذت تراقبه عبر الباب الموارب ...
كان الحديث يبدو وديًا، واضحٌ أنهما يعرفان بعض جيدًا، أصدقاء على ما يبدو ..
وفجأة حركت "ليلى" رأسها بحذر عندما لاحظت شيئًا غريبًا، رأته يقف الآن بجوار المضيفة، أو الأحرى أنها هي من جاءت لتقف أمامه ..
كانت شابة، جذابة، بتنورة قصيرة وضيّقة جدًا تكشف عن ساقين طويلتين، وسترة أنيقة تبرز مفاتنها ..
اقتربت منه بابتسامة متلاعبة، تكلمت بثقة، وضحكت بصوتٍ ناعم، كانت تنظر إليه كأنها تحاول خطف انتباهه ..
إلا إن "نديم" لم يُبدِ انفعالًا، فقط ابتسامة هادئة وثابتة على وجهه، ذلك الوقار الذي لا يتخلّى عنه، بل الهيبة التي يخطئها أيّ من ينظر إليه ..
ظل واقفًا معها… ثوانٍ طويلة بما يكفي لتتسلل الغيرة إلى صدر "ليلى" ..
ثم تحرّك، تجاوزها، واتجه مباشرة عائدًا نحوها ..
جلس بجانبها، مالت الطائرة قليلًا استعدادًا للتحرك، نظر إليها بابتسامة خفيفة وسأل:
-لولّا.. إيه الأخبار؟ متحمسة ولا خايفة؟
تنهدت "ليلى" ببطء، تحاول تمالك انزعاجها، وقالت بلهجة خافتة:
-تمام.. أنا كويسة.
لم يقتنع، عبس قليلًا، ومال برأسه ناحيتها قائلًا:
-مالك يا ليلى؟ انتي كويسة؟
نظرت له طويلًا… كان صامتًا، ينتظر جوابها ..
فقالت بجديّة ناعمة تحمل تحتها نبرة مُحبطة:
-ممكن لو سمحت… ما تبقاش تدي فرصة لأي بنت تقرب منك؟
ولا حتى تضحك لك؟ ولا تهزر معاك؟
ارتفع حاجبه قليلًا، وفهم على الفور مشكلتها، ابتسم في هدوء، وأشار بإبهامه ناحيّة مقصورة القيادة حيث دخلت المضيفة منذ لحظات وقال:
-انتي قصدك يعني لما وقفت 10 ثواني مع البنت دي؟
تنهد بخفة، ثم أردف بروية:
-ليلى… أنا عايز أفهمك إن غيرتك عليّا بتفرحني أكيد.. بس في نفس الوقت عشان تكوني مرتاحة الغيرة دي ملهاش أي مبرر. لأني مش شايف غيرك. أيوه دي بنت.. وحلوة.. والدنيا مليانة بنات حلوين. بس أنا… أنا مش عايز غير بنت واحدة بس. أنتي. لا مراتي. ولا أي ست خلقها ربنا تيجي جنبك حاجة في نظري.. اطمني يا حبيبتي.
مد يده بهدوء ليمسك بيدها الصغيرة، رفعها لفمه وقبّل باطن كفها ببطءٍ.. بعمقٍ… كأن كل مشاعره انسكبت في هذه القبلة ..
شعرت "ليلى" بأنفاسها تثقل، كلماته اخترقتها، لكنها لم تكن كافية لتمحو ما في قلبها، فقالت له بتحذيرٍ ضمني:
-بردو تعمل اللي بقولك عليه. أنا كفاية عليا عشت سنة وأكتر وأنا شايفاك مع راندا.. رايح جاي معاها. جنبها. بيتقفل عليكوا باب واحد… أنا كنت بنام معيّطة كل يوم وأنا بفكر نفسي مجنونة.. بغير عليك من مراتك.. بغير على راجل عمره ما قالّي حتى إنه بيفكر فيّا.. لما انت بتحبني يا نديم ازاي اتجوزتها؟ ليه عملت فيّا كده؟
لمعت الدموع بعيناها، لكنها تمالكت نفسها حتى لا تنهار، بينما يشد "نديم" على يدها، كانت عينه تلمع بانفعال مكبوت هو الآخر وهو يقول:
-راندا ماكنتش اختياري يا ليلى. راندا اتفرضت عليا لأسباب كتير. لكن أهم سبب… كان أنتي.
ليلى بدهشة: أنا؟!
أومأ رأسه ببطء، وقال:
-أيوة.. انتي. فاكرة ليلة ما رجعت متأخر… وانتي جيتي عندي الأوضة؟
أجفلت… قلبها هوى فجأة!
تلك الليلة.. أيعقل أنه يشير إليها؟ هل يذكر؟ هل ظنّت طوال هذا الوقت بأنه ما كان يعي ما حدث وما الذي فعله حينها؟
لم ترد، لكن عينيها ضاعتا بين الخوف والارتباك، فاستطرد:
-أنا بوستك… وأنا سكران.. تعرفي إن عمري ما دوقت الخمرة؟ بس كنت قاصد أشرب ليلتها. كنت عارف إنك كل يوم بتستني رجوعي… في الفترة دي كنت بفكر فيكي وعايزك… عايزك أوي ومش عارف إزاي أوصل لك. كنتي بعيدة أوي… مهما عملت.. مش قادر ألمس حتى شعرة منك..ف قررت إن ده مش هايحصل غير وأنا مش في وعيي.. أو أنتي تبقي فاكرة إني مش في وعيي ...
نظر لها للحظة، ثم أكمل:
-زي ما حسبتها بالظبط… جيتي.. وما صدقت لاقيتك قريبة.. بوستك.. وكنت ناوي على أكتر من كده.. لولا القلم إللي نزل على وشي من إيدك.. فوقتيني.. وجريتي على أوضتك. وأنا… ما نمتش طول الليل.. كنت بفكر.. وقلت لازم أحط حد لنفسي لأني لو فضلت كده هادمر كل حاجة بيني وبينك.. ماكنش في حل.. غير إني أتجوز وأجيب واحدة تكون دايمًا جنبي.. تحوشني عنك.. تحرسك مني بس لما اتجوزتها اكتشفت ان ظنّي غلط تمامًا إللي أنا عايزه بعمله يا ليلى ومحدش يقدر يمنعني.. وأنا عايزك. لا راندا ولا غيرها يقدروا يمنعوني عنك!
سكت ..
و بقيت "ليلى" صامتة لثوانٍ، كأن صوت "نديم" وكلماته أعادت ترتيب كل ما فسد بداخلها طوال عامًا وأكثر بسبب زواجه ..
ربما كلماته ثقيلة، لكنها مشبعة بالمشاعر، لم تعتد أن تسمع منه شيئًا بهذه الجرأة والوضوح ..
نظرت له بدهشة، مزيج من الذهول والوجع وهي تقول بعتابٍ:
-طيب كنت مخبي عني كل ده ليه؟ كان ليه من الأول يا نديم؟ كنا ممكن نكون مع بعض!
كادت تقول شيئًا آخر، فرفع إصبعه ووضعه برقة على شفتيها، أسكتها وقال فقط بخفوتٍ:
-ششش.. خلاص. كفاية.. أوعدك غني هافهمك كل حاجة. بس مش وقته.. انتي دلوقتي معايا… وده أهم شيء بالنسبة لي.. بقيتي مراتي كمان.. ماتخافيش يا ليلى.. وخليكي واثقة إن إللي جاي لينا مش هايكون في غير الفرح.. والسعادة.
نظرت له "ليلى" بثقة لم تهتز، كأنها نسيت كل شيء إلا وجوده، ابتسمت وقد كانت نظرتها هادئة مطمئنة، وابتسامتها خجولة، لكنها حقيقية، حين قبّل جبهتها بحب، أغمضت عينيها وصدقت على حديثه بكل ذرة فيها ..
كيف لا تفعل؟ لطالما كان "نديم" صادقًا، لم يقل في حياته رأيًا إلا وكان الصواب، حتى في صمته يكون حكيمًا ..
كان مرشدها… ودليلها… وحبيبها ...
وهي تصدقه.. بالتأكيد تصدقه ...
جاءت المضيفة الآن، بابتسامة خفيفة على وجهها، وقفت أمامهما متنحنحة:
-من فضلك يا فندم.. ياريت تربطوا أحزمة الأمان الطيّارة هاتتحرك بعد دقايق.
قبل أن يُجيبها، كانت "ليلى" قد وجهت لها نظرة حادة وسريعة، صريحة في معناها:"ابتعدي."!
تفاجأت المضيفة وتراجعت بسرعة، بينما ضحك "نديم". لم يُعلّق.. فقط مد يده وربط لها الحزام بنفسه، ثم ربط حزامه ..
وبعدها مرّر ذراعه حول كتفها وجذبها ناحيته بهدوء، حتى استقرت في حضنه ...
-أنا عارف إن دي أول مرة تركبي طيارة.. بس ماتخافيش.. أنا جنبك.
نظرت له بابتسامة خفيفة على شفتيها، ثم قالت:
-أنا مش خايفة.
لكنها كانت كاذبة وتعلم ..
في داخلها، كانت خائفة جدًا من الارتفاع، من الطيران، ومن كل شيء إلا هو ..
شدّت نفسها عليه، عانقته كأنها تبحث عن أمانها بين ضلوعه، ضمّها "نديم" أكثر وقال بصوته العميق:
-ساعة واحدة وهانكون في الغردقة. كده أحسن من العربية. كنا هنقعد 6 ساعات في الطريق.
وفي هذه اللحظة اهتزت الطائرة اهتزازها الخفيف الأول. ثم سارت ببطء نحو السرعة وارتفعت.. تدريجيًا ...
شهقت "ليلى" بصوت مكتوم، شدّت أصابعها على قميصه، نظر لها "نديم" دون أن تفارق ابتسامته ملامحه وقال:
-خلاص.. اللحظة الصعبة عدّت.. ماتخافيش يا حبيبتي. لو عاوزة تنامي شوية أفرد لك الكرسي وأجبلك بطانية!
هزّت رأسها ببطء، عينيها نصف مغمضة وتمتمت:
-لو نمت.. هانام كده.. في حضنك.
ضمّها إليه أكثر، وصمت بعد ذلك، لكنه يشعر بها، ويحميها من كل شيء ..
تثقل أجفان "ليلى" بالكامل بمرور الوقت، قلبها يهدأ لأول مرة منذ شهور ولا شيء في الخارج يهم، ما دام هو معاها، كل شيء بخير، وهي بخير ...
مرّت الساعة كأنها لحظة، وصوت نديم كان أول ما تسلل إلى وعيها:
-ليلى.. اصحي يا حبيبتي. وصلنا.
فتحت عينيها ببطء، وعلى الفور التقت نظرتها بعينيه القريبتين، الدافئتين ..
ابتسم لها، وساعدها تفك حزام الأمان بلطف، أومأت له بخجل، وجمعت حقيبتها الصغيرة بجوارها، بينما هو أخرج حقيبتيهما الكبيرتان من الرف العلوي بسهولة، ونزلا معًا من الطائرة ..
خارج المطار كانت سيارة فاخرة في انتظارهما، بسائق خمسيني استقبلهما مبتسمًا بترحيبٍ مهذب، فتح لهما الباب الخلفي، ركبا بهدوء، وانطلقت السيارة وسط شوارع المدينة الساحلية الهادئة، والشمس تلامس واجهات البيوت بألق ذهبي ناعم ..
التزمت "ليلى" الصمت، تنظر من النافذة تارة، وتسرق نظرة له تارةً أخرى ..
أما هو، فكان بجانبها، مسترخٍ وهادئ كعادته ..
خمسة عشر دقيقة وصارا عند بوابة المنتجع السياحي الفخم، توقفت السيارة أسفل لوحة أنيقة "AL BADRY GARDENS" ..
ترجل "نديم" أولًا، مد يده لها لتخرج، فأمسكتها بقوة كأنها لم تعد تثق في الأرض تحت قدميها دونها ..
دخلا بهو الفندق، وكان هادئًا أنيقًا، تفوح منه رائحة الزهور والمكيّفات الباردة، رُخام لامع، ونخيل صناعي، وعمال بهندام مميز، هذا هو "عمر البدري". رمز الدقة والتميّز ..
حرّك عامل الاستقبال عربة الحقائب خلفهما بصمت ..
جلسا في اللوبي، بينما "نديم" يخرج هاتفه ويجري اتصالًا، صوته مرتفع وواضح:
-أيوة يا عمر. أنا وصلت.. مع ليلى.. مستنيك.
خمس دقائق فقط.. ثم ظهر "عمر البدري" ..
كان رجلاً في أواخر الثلاثينات، يمتاز بجاذبية طاغية، بشرته سمراء، حُفّت بها تجاعيد دقيقة تعكس حياته المشبّعة بالشمس والبحر. شعره أسود، قصير، ومصفف بعناية، لكنه لا يخلو من لمسة فوضوية تدل على طبيعة شخصيته المندفعة، طوله يفوق المتوسط، وجسمه الرياضي يوحي بمجهود متواصل في صالة الرياضة، قميصه الكتّان الأبيض محلول الأزرار، وسرواله الجينز باهت قليلًا، أناقته غير المتكلفة تزيده جاذبية، كما عيناه، نظراته تحمل شحنة من الثقة التي يصعب تجاهلها، ابتسامته كانت صادقة، أشرقت على وجهه فور رؤية ابن خالته، تُظهر التواصل الحميم بينهما ..
وقف "نديم" ما إن رآه وابتسم له بنفس الاتساع، تلاقيا في عناقٍ أخوي صاخب، بينما "عمر" يهتف:
-أهلاً أهلاً بابن خالتي الواطي.. إللي بقالي سنة بشحت منه الزيارة.. ما كنت وفّرتها يا عم جاي على نفسك ليه!
ضحك "نديم" وهو يبعده عنه بعفوية:
-ياض صعبت عليا.. وعامل حساب إنك يتيم وأمك موصيانى عليك. كان لازم أجي بقى معلش.
شدّ "عمر" على كتفه بخشونة متكلّفة وهو يقول:
-انت بتعايرني ولا إيه؟ ما أنت كمان يتيم من الناحيتين. أنا أبويا لسه عايش ..
رد "نديم" ساخرًا:
-عايش ومش عايش! آخر مرة سأل فيك امتى يالا؟
تنحنح "عمر" بحرج وهو يقول:
-من 3 سنين!
فانفجر "نديم" ضاحكًا ..
قال "عمر" بغيظ مصطنع:
-اضحك اضحك…انت إيه إللي جابك؟ أنا مني لله إني قلت لك تعالى!
لم يتوقف "نديم" عن الضحك، فقلب "عمر" عيناه بضجر، ثم نظر لليسار حين لمح "ليلى" تنهض بهدوء، مد لها يده للمصافحة قائلًا:
-أهلًا إزيك يا ليلى؟ نوّرتي القرية والله!
صافحته وهي تقول برقة:
-إزيك انت يا عمر… عامل إيه؟ وريري. إزيها دلوقتي؟
-ريري الفرحة مش سايعها من الصبح من ساعة ما قلت لها إنك جاية!
-طيب هي فين؟ دي وحشتني أوي.
-يا ستي راحت مع الدادة بتاعتها تغيّر هدومها… أصلها وقعت البول وهي بتلعب مع الكلبة بتاعتها.
عبس "نديم" وهو يقول فجأة بصوتٍ حاد:
-إزاي سايبها من غير رقابة يا عمر؟ إزاي سايبها تلعب أصلاً؟ دي كبرت خلاص!
مرّت نظرة حزينة على وجه "عمر" وقال بهدوء:
-مابحبش أزعلها. وبعدين هي معاها الدادة طول الوقت… أنا مش سايبها.
رد "نديم" بحزم صريح:
– ولو.. أختك عندها ظروف خاصة. وكبرت. ومش وحشة خالص.. يعني أي عيّل ابن حرام ممكن يصطادها وهي مش عارفة حاجة!
شدّ "عمر" على فكه، وقال ونبرته قد تحوّلت لقسوة نادرة:
-ماتوصلش لكده يا نديم. محدش يقدر يقربلها. أنا موصي الكل عليها…
وكل اللي شغالين هنا عارفينها وبياخدوا بالهم منها.
ثم غيّر الموضوع سريعًا:
-عملت تشيك إن؟ ولا لسا؟ أنا محضرلكوا أوضتين جنب بعض.
-لأ أوضتين إيه.. أنا عايز جناح.
رفع "عمر" حاجبه بدهشة:
-جناح؟ ليه؟
أمسكه "نديم" من ذراعه وسحبه بهدوء ناحيّة الريسبشن وهو يخاطب "ليلى":
-خليكي هنا شوية يا ليلى… راجعلك.
عند الريسبشن، قال "عمر" بصوتٍ منخفض:
-جناح إيه اللي عايزه؟ هي ليلى مش قاعدة معاك؟ ولا أنت مش ناوي تقعد أصلاً؟ مش فاهمك!
رد "نديم" بحسم:
-أنا وهي قاعدين أسبوع زي ما قلت لك. بس هاناخد جناح واحد. أنا وهي.
تجمّد "عمر" للحظة، ثم نظر له قائلًا بحدة:
-ازاي يعني؟ هاتناموا في مكان واحد؟!
أومأ له "نديم" بثبات وقال بثقة:
-أيوة. إيه مشكلتك؟
-المشكلة إن في رولز.. ما ينفعش أي اتنين ياخدوا جناح أو حتى أوضة منغير ما يكون في ارتباط رسمي. يعني قرابة من الدرجة الأولى… أو قسيمة جواز. انت مصمم ليه تقعد معاها في جناح لوحدكوا؟
زفر "نديم" بنفاذ صبر قائلًا:
-هاتصدعني ليه يا عمر؟ قلت لك عايز جناح مش أوضتين. لو متمسك بالرولز أوي. خلاص هاخد ليلى ونشوف مكان تاني نقعد فيه!
رفع "عمر" يده كأنه يهدئه وقال بمرونة:
-إيه يا نديم بالراحة.. ما قلتش حاجة. أنا عايز راحتكوا بس يا سيدي… إن شالله تاخد الفندق كله. خلاص.. هاعملك اللي أنت عايزه ...
ثم سأله بهدوء:
-بس سؤال أخير.. هي ليلى عارفة كده؟ يعني مرتاحة؟
أحسن تفكر إن أنا اللي عامل الحركة دي!
رد "نديم" بضيق:
-لأ يا سيدي.. أطمن.. عارفة. انجز بقى… خلقي بدأ يضيق.
أومأ "عمر" بيأس، وطلب من موظفة الاستقبال مفتاح أحد أجنحة الـ VIP وسلّمه لـ "نديم" ..
التفت "نديم" فورًا مناديًا على "ليلى" بالإشارة ..
جاءت له، فأمسك بيدها وفي يده الأخرى مفتاح الجناح، قال عمر وهو يلوّح لهما:
-الشنط هاتطلع وراكوا حالًا.. وماتنسوش… الليلة دي هانتعشى سوا!
غادرا اللوبي سويًا ..
بينما ظل "عمر" واقفًا ينظر في إثرهما مشغول البال، حاجبه مرفوع، ونظرة غريبة في عينيه ..
ثمة ما يجري بين "نديم" وابنة عمّه.. هناك أمر مريب.. وسيعلمه... إنه بطريقةٍ ما يعلم.. لكنه لن يصدق حتى يتأكد! ............................................................................................................................................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ...
_ محمّلة بالآثام _ :
دفع "نديم" باب الجناح بخفة. فانفتح بسلاسة، وكأن المكان بأكمله كان في انتظارهما، وقف لحظة عند العتبة، ثم التفت إليها وأشار لها أن تتقدّم ..
ولجت "ليلى" بخطى بطيئة، يديها متشابكتان أمامها، وعيناها تجولان في أرجاء الجناح كطفلة صغيرة تطأ عالمًا لا تعرفه، وقد بدا المكان أمامها أشبه بملاذ سري، غارقٌ في سكينة مترفة ..
الضوء خافت، ينبعث من مصابيح جانبية موزّعة بعناية على الجدران، فتنساب إضاءتها الناعمة على الأثاث المخملي بألوانه الترابية الدافئة. الجدران مكسوّة بخشب لامع في منتصفها، وفوقها لوحات زيتية صغيرة توحي بالهدوء والعزلة، الأرضية مغطاة بسجادة وثيرة بيضاء تميل إلى العاجي، تخفف من صوت الخطوات وتُغرق الجو بصمتٍ رقيق ..
في أقصى الجناح شرفة زجاجية واسعة، خلفها بحر أزرق يمتد حتى الأفق، بدا في تلك الساعة الهادئة كمرآة تلمع تحت ضوء الغروب المتأخر، النسيم يتسلّل عبر فتحة صغيرة في الباب الجرار حاملاً برودة خفيفة ورائحة ملح خفيّة ..
ولكن مركز كل هذا البذخ كان السرير!
سريرٌ ملكي، عريض بشكل مبالغ فيه، قوائمه من خشب داكن مصقول، مزخرف بنقوش دقيقة على أطرافه الأربعة. الوسائد مصفوفة بعناية، والملاءات البيضاء الناعمة تمتد عليه كما لو أنها سحابًا نزل من السماء، عند حافته بطّانية سميكة بلون خمري تتدلّى حتى الأرض ..
كان السرير وحده كافيًا ليختصر فكرة الجناح بأكملها؛ هذا مكان للخصوصية... للعزلة... وربما لشيء أكثر من ذلك بكثير!
استدارت "ليلى" حين سمعت صوت الباب يُغلق خلفها. كان "نديم" قد تبعها، وأغلق الباب خلف العامل الذي وضع الحقائب وانصرف، حين التقت عيناهما، ابتسمت له بخجل، فبادلها ابتسامة أكثر هدوءًا وسأل:
-ها.. إيه رأيك في المكان؟
أجابت بنبرة خافتة، وهي ما تزال تدور بنظرها:
-حلو أوي.
اقترب منها بهدوء، خطواته لا تُسمع على السجادة الناعمة، وقال بصوته الدافئ:
-لو مش عاجبك نغيّر على طول.. ممكن نأجر بيت لوحدنا أو شاليه على البحر. إللي يريحك.
ضحكت بخفة محاولة تخفيف التوتر الذي بدأ يتسلّل إلى صدرها وقالت:
-لأ بجد الأوتيل حلو قوي.. والجناح كمان يجنن. كفاية السرير ده... كبير جدًا!
ضحك هو الآخر، مدّ يده وأمسك يدها برفق، ثم قال وهو ينظر مباشرةً في عينيها:
-عشان كده اخترت جناح. الأوض العادية سرايرها بتبقى أضيق وأصغر... لكن هنا؟ ده مكان يليق بعرسان زينا... وسرير يستحملنا الأسبوع اللي قاعدينه.
كلماته سقطت على أذنها كجرس إنذار خفيف، لكن تأثيرها في قلبها كان عنيفًا. ارتعشت يدها في قبضته، وكأن حرارة جلده أيقظت فيها شيئًا كانت تحاول كتمانه ..
نظر إلى يدها المرتجفة، ثم رفع عينيه إليها ثانيةً، فوجدها تحدّق فيه بخوف مبهم، ثم همست وصوتها بالكاد خرج:
-هو انت.. جبتني هنا ليه؟ يعني انت عندك شغل فعلًا مع عمر وحبيت تاخدني عشان ريري نفسها تشوفني؟ ولا في سبب تاني؟
صمت للحظة، ثم قال بنبرة ذات معنى ممزوجة بابتسامة جانبية خافتة:
-يعني معقول انتي بالسذاجة دي؟
أنا جيت هنا عشانك.. وجبتك معايا عشان نبقى لوحدنا. عشان ناخد راحتنا بجد
يا ليلى.. انتي شفتي لما حاولت أقرب منك في البيت إيه إللي حصل. وفوق كده
حضرتك جبانة وبتخافي.. هنا احنا في هدوء ومحدش ممكن يزعجنا.
تخطّت كلماته الأخيرة بصعوبة، وقالت بتوتر واضح وعيناها لا تجرؤان على الثبات في عينيه:
-يعني... إحنا... هنعمل كده كل يوم؟ طول الأسبوع؟
انفجر ضاحكًا، ضحكة مجلجلة أربكتها أكثر، وقال:
ـ-إحنا هانعمل كل حاجة يا حبيبتي.. انتي مش معقولة يا لولّا والله.. بصي. أنا هاريّحك. اسمعي كلامي و انتي هاتبقي تمام. إللي أقول عليه تنفذيه بالحرف اتفقنا؟
نظرت إليه بدهشة ممزوجة برهبة، وعيناها اتّسعتا بشكل واضح، ثم همست:
-طيب.. انت هاتعمل فيا إيه دلوقتي؟
رمقها بنظرة تحمل من الخبث ما يكفي لتفهمه، ثم اقترب منها أكثر، كان واقفًا أمامها تمامًا. انحنى قليلًا، ثم همس في أذنها بكلمات جعلت عيناها تشخصان في صدمة خجولة، وقد احمرّ وجهها بشدة، وكأن الدم صعد فيه دفعة واحدة ..
ثم تراجع قليلًا، نظر في عينيها وابتسامة مشبّعة بكل ما يمكن أن يقال دون كلام، ثم أضاف بصوتٍ هامس تخالطه نغمة مشاعر ملتهبة:
-دلوقتي... وبكرة... وكل يوم... هعمل كده... هاخليكي ماتقدريش تمشي على رجليكي.. ولا تخرجي من الجناح ده لحد آخر يوم لينا هنا!
انسكبت الكلمات الأخيرة من فمه على مسامعها كصعقاتٍ مباغتة، فتراجعت "ليلى" بخطوة تلقائية إلى الخلف، كأنها تحتمي من المجهول المتقدّم نحوها باصرار ..
اتسعت عيناها وفيهما لمعة خوف لم تستطع إخفاءها، بينما صدرها يعلو ويهبط في توتر متسارع، إلا أن "نديم" لم يتراجع، بل لم يترك لها مساحة للهرب ..
تقدّم منها ببطء، بخطوات ثابتة ومليئة بعزم لا يلين، حتى باتت ملتصقة بالجدار، وصدرها يكاد يذوب فيه ..
مدّ يده قابضًا على ذراعها برفق فيه من القوة، منعها من التملّص أكثر، صوته خافت لكنه يحمل ثقلاً لا يُقاوَم:
-إيه يا لولّا مالك؟ انتي خوفتي مني؟
أجفلت، تنفّسها متقطع، صوتها خرج متحشرجًا بين شفتاها:
-نديم.. أنا.. أنا مش ...
قاطعها بصوته الواثق وهو يجذبها بخفة حاسمة، ويدفعها بهدوء نحو السرير الكبير خلفها:
-انتي هاتهدي خالص... وهاتسمعي الكلام بالحرف.. فاكرة قولنا إيه؟ ده لمصلحتك يا ليلى.
ارتعش جسدها وهو يقرّبها من الفراش أكثر، خطواتها تتبع دفعه لا إراديًا، حتى شعرت بظهر ساقيها يصطدم بحافة السرير، لم تنتبه إلا وقد جلست، ثم وجدت نفسها مستلقية مستجيبة لدفعه القسري، رمقته بتوتر بينما ينظر إليها من علو بعينين لا تعرفان المزاح، لكنهما محمّلتان بشغف لا لبس فيه ..
دنى منها بروية، ولم يترك لها فرصة للتفكير، قبلاته جاءت حارّة، متأنية، تتنقّل بين وجهها وعنقها، تحاول فكّ أقفال الخوف المتجمّعة داخلها. وكل لمسة منه كانت تُربكها أكثر، تُسكت صوت العقل، وتوقظ شيئًا آخر، شيء غريبًا، ومربكًا، ومطلوبًا في آنٍ ...
عيناها زائغتان، وصدرها يعلو ويهبط، أناملها تقبض على أطراف الملاءة كأنها تتمسّك بثباتها الأخير ..
همس في أذنها، صوته منخفض لدرجة الارتجاف:
-ماتخافيش مني يا ليلى.. سيبيني أعلّمك إزاي تحسّي!
ثم تابع بهدوءٍ وجرأة وكأنه قد منحها الإنذار، ينزع عنها قطعة ملابس، تلو الأخرى، دون استعجال، دون قسوة، فقط بحضور طاغٍ يملأ الغرفة ويجعل الزمن يتباطأ ..
كل نظرة منها كانت ترجوه أن يتوقّف، وكل ارتعاشة كانت تفضحها أنها لم ترد ذلك فعلاً، كانت "ليلى" تتحرك تحت جسده في ارتباكٍ صامت، كأنها تتمزّق داخليًا بين شيئين لا يلتقيان، بين قلبٍ ينبض له، وروحٍ تخاف منه، بين حبٍ اختبأ طويلًا، واشتهاءٍ جديد لم تعرفه طوال حياتها يتسلّل إليها بنعومة قاتلة ..
2
وكل لمسة من "نديم" كانت تشعل فيها شيئًا جديدًا لا يشبهها، يداه كانتا تتحركان على جسدها بثقة من يعرف ماذا يفعل، ومتى يفعل، قبلاته باتت أعمق، أبطأ، أقرب لوعودٍ خفية تُهمَس بين الأنفاس، وكلّما ازداد اقترابه، كلما بدا وكأنه يُخدر مقاومتها رويدًا، حتى بدأت تتنهد دون أن تشعر، وأصابعها الخجولة صارت تلامسه، تتعرّف عليه، تكتشف حرارة جلده المشدود بقلبٍ متردد ..
ما إن تأكد بأنها صارت مُهيئة له بالكامل، همس في أذنها بصوتٍ عميق فيه لمحة من اعتذار مسبق:
-معلش يا لولّا.. ده هايكون مؤلم غالبًا. في البداية بس.
خدي نفس... وركّزي معايا أنا.. اتفقنا؟
رفعت عينيها إليه، نظرتها مشوّبة برهبة واضحة، لكن في داخلها شيء وافق، شيء لم يعد يقاوم، بل يشتهي، يتوق للحبيب الذي لم يدق القلب لسواه ..
أومأت له بإيجاب، ببطء، فابتسم ابتسامة دافئة، ابتسامة رجل عرف أنه ربح المعركة، لكنه لا ينوي أن يؤذي، حتى لو كان هذا في حقيقته هو الأذى بعينه!
همّ بالاقتراب مجددًا، وأفلتت من فم "ليلى" شهقة مرتعبة حين بدأت تحس ببدايات الوجع الذي وعدها به ...
لكن فجأة ..
دقّ الباب!
من جديد!!
تجمّد "نديم" ..
ظلت هي تحت جسده، أنفاسها مضطربة، ونظراتها لا تزال مشوّشة ..
دقّ الباب مرة ثانية، أكثر إلحاحًا، رفع "نديم" رأسه بحدة، نظر إلى الباب، ثم إلى "ليلى" وقال بصوتٍ ممتعض فيه نبرة غليظة من الضيق:
-لأ.. ده تهريج. وتهريج رخم كمان!!!
كان وجهه محتقنًا بالفعل عندما دق الباب للمرة الثالثة، وعيناه تحوّلت إلى سواد مقيّد بالغضب، نهض "نديم" وهو يزفر من الغيظ، كأن الهواء نفسه يخرج محمّلاً بانفعال مكبوت ..
أدار وجهه نحوها، نظراته لا تزال متأججة، وغمغم بنبرة منخفضة لا تخفي غضبه الدفين:
-خليكي زي ما انتي.. هاروح أشوف مين. وأحط إشارة عدم الإزعاج... وراجع لك.
ثم التفت ومدّ يده إلى القميص المُلقى على طرف السرير، ارتداه بعجلة وهو يُزرّر أزراره بعنف ظاهر، لم يُصلح سوى الأزرار القريبة من منتصف صدره، تاركًا الأعلى والأسفل محلولة، كأن وقته لا يتّسع للتأنّي، مرّر كفّه بين خصلات شعره المبعثرة، يحاول أن يُعيد إليه بعض النظام، لكن غضبه من المقاطعة كان أوضح من أيّ شيء آخر ..
فتح الباب بقوة، عينيه تقدحان شررًا، مستعدًا أن يُفرغ كل امتعاضه في وجه الطارق، لكن ما إن انفتح الباب... حتى تجمّد لوهلة!
أمام عينيه كان "عمر،" ابن خالته، يقف رامقًا إيّاه بنظرة متفحّصة، هادئة على السطح، لكن فيها شكٌ صامت ..
نطق "نديم" محتدًا بصوت لا يُخفي انزعاجه:
-في إيه يا عمر؟ عايز إيه؟
مرر "عمر" نظرة أخرى سريعة، تفحصه من أعلى لأسفل وقد لاحظ بدقة قميصه غير مُحكم الغلق، شعره الأشعث، وجهه المحتقن.. كل شيء كان ينطق بما لا يُقال علنًا ...
ابتسم عمر ابتسامة صغيرة، ثم قال بنبرة فيها مزيج من التلميح والمداهنة:
-إيه يا نديم... عامل إيه؟
ردّ "نديم" باستهجان واضح:
-يا راجل! وحشتك يعني؟ ده أنا لسا سايبك من ربع ساعة!!
صمت "عمر" لبرهة، كأنه يُعيد ترتيب كلماته، ثم قال بحزمٍ خافت:
-تعالى يا نديم.. تعالى معايا تحت شوية.. عايزك في كلمتين.
رفع "نديم" حاجبه مرددًا بصوت أجش:
-مالك ياض انت.. كلمتين دلوقتي؟ حبكت؟ ماينفعش نأجلهم يعني؟
لكن "عمر" لم يتزحزح، بل زادت نبرته صلابة وهو يقول:
-لأ يا نديم ماينفعش. أنا عايز أقولك كلام مهم... ومش ماشي من هنا إلا وإنت معايا.
ظل "نديم" ينظر له لثوانٍ مشدوهًا، كأن بينهما حوارًا صامتًا لا يسمعه أحد. ثم تنهد أخيرًا وأغلق باب الجناح وراءه بهدوء ..
أكمل إعادة تقفيل أزرار قميصه بحركات سريعة، قبل أن يمرّر يده في شعره مرة أخيرة قائلًا باقتضاب:
-تمام.. اتفضل يا عمر.
ثم خطى بجانبه، وملامحه قد عادت للجمود، لكن داخله كان يمور بالغضب، ترى ماذا يريد منه "عمر"؟
___________________
في قصر "رياض نصر الدين" ...
يجلس فوق أريكته المخصوصة، أشبه بملك فقد زمام مُلكه، لكنه لا يزال يقاوم الهزيمة بكبريائه ..
دبّ بعصاه الغليظة على الأرض الرخامية، فدوّى صوتها في الصالة الواسعة كصرخة غاضبة من زمن قديم، ثم هتف بصوتٍ أجشّ حادّ:
-سافرت مع ولد المحروج ده بصفة إيه؟ كيف اتسافر امعاه؟؟؟
وقف "زين" أمامه ثابتًا، هادئًا، وفي عينيه لمعة ساخرة كعادته، قال ببرودٍ لاذع يخفي خلفه نفاد صبرٍ متنامي:
-أنا مش فاهم يا جدي.. انت مندهش ليه؟ ليلى عايشة عمرها كله معاهم.. وأكيد دي مش أول مرة تسافر مع حد فيهم أو كلهم. إيه مشكلتك دلوقتي تحديدًا؟
لم يخفت الغضب في ملامح الجد، لكنه بدا أقل حدّة، كأن نظره قد لامس شيئًا من المعقول في كلام حفيده ..
أطلق تنهيدة ثقيلة، وأشاح بعينيه للحظة قبل أن يعاود التحديق في وجه "زين" ثم قال بنبرة أكثر توجسًا منها غضبًا:
-نديم ده مش مريحني يا زين.. أنا شوفت نظرة في عينه مش ناسيها واصل. الراجل ده ناوي على نية... وأنا خايف على البت!
جلس "زين" أخيرًا على الكرسي المقابل له، وبدت عليه علامات الإرهاق، كأن الهم أثقل منكبيه أكثر ممّا يحتمل. تنهد وهو يمرر كفّه فوق صفحة وجهه قائلًا:
-هايعمل إيه يعني يا جدي؟ إللي واضح قدامي إن عيلة الراعي بيحبوا ليلى أوي.. من كبيرهم لصغيرهم. بس أنا وعدتك إني هارجّعها. رغم إن ده هايكون صعب... بس هانفذ وعدي يا جدي.
راقب الجد حفيده، ولم يقل شيئًا للحظات، كأن شيئًا خفيًا كان يعتمل في صدره، لا يجد له مخرجًا ..
ثم قال بصوت منخفض، ممزوج بألمٍ دفين:
-أنا جلبي مش مرتاح.. البت دي ماكنش لازمن أسيبها للغرب أبدًا يا زين. البِت دي حفيدتي من دمي.. كيف همّلتها؟ كيف سمعت كلام سليمان وطاهر؟
ردّ "زين" بهدوء يشوبه الحسم وهو يعتدل في جلسته:
-يا جدي.. إللي حصل حصل خلاص.. وأنا قلت لك ليلى هاترجع. والموضوع ده هايخلص في أقرب وقت. انتهى!
ساد صمت ثقيل، لم يقطعه إلا صوت الهواء المتسلل من النوافذ العالية، وكان وجه "رياض نصر الدين" يزداد غموضًا ..
لم يكن يشك في حفيده ولا بقدرته على تنفيذ وعده.. لكنه كان يعرف الرجال أمثال "نديم الراعي".. ويخشى أن" ليلى" لا تعرفهم ..
يخشى أن ترث أمها ...
_________________
في زاية من زوايا الكافيه الفخم الملحق بالفندق، جلَسَ "نديم" إلى إحدى الطاولات المطلة على البهو، ملامحه مشدودة، والصمت يلفه كستار كثيف ..
لحقه عمر بعد لحظات، جلس قبالته وأشار للنادل الذي مر بجواره هاتفًا:
-هاتلي قهوة سادة يا ميجو.
نظر النادل نحو "نديم" وسأله مبتسمًا:
-وحضرتك يافندم!
رفع "نديم" عينيه إليه بنظرة فاترة تحتهما نار لا تهدأ، أصرفه بتلويحة من يده، ثم نظر صوب ابن خالته مرددًابنبرة هادئة ظاهريًا:
-ممكن تنجز يا عمر وتقول عايزني في إيه.. أنا مش فاضي لك!
رفع "عمر" حاجبه في تحدٍ ساخر، وخاطبه دون أن يشيح ببصره عنه:
-مش فاضي لي وراك إيه يعني يا نديم؟ ليلى صح؟
لم يتغيّر وجه "نديم". بقي متماسكًا، واثقًا كعادته، ثم قال ببرود:
-لآخر مرة بقولك.. هات إللي عندك. عاوز إيه؟
انحنى "عمر" قليلًا للأمام، وصوته قد اكتسب جديّة لم يعهدها "نديم" فيه:
-عاوز أعرف.. إيه الحكاية؟
انت وليلى جايين لوحدكوا وعدت عليا ماشي. لكن إنك تاخدها في سويت وتقضوا أسبوع كامل وباب مقفول عليكوا؟ لا.. دي مافهماش. ومحتاج تفهمني... إيه اللي بيحصل بينك وبين ليلى يا نديم؟
حدجه "نديم" بابتسامة باردة، لكنها لم تكن ساخرة.. كانت إنذارًا من استمراره بالتدخلُ ثم قال:
-إللي بيني وبين ليلى مايخصكش يا عمر ولا يخص حد.. لكن بما إن دماغك ماشية في سكة غلط.. وأنا ماقبلش حتى مجرد التفكير ده عن ليلى فـ هاقولك معلومة واحدة بس لو طلعت برانا. اعتبر إن مالكش أي علاقة بنديم الراعي.. سامعني؟
تجمّد "عمر" مكانه، نظراته متوترة، لكنه لم يقاطع.. انتظر ...
استطرد "نديم" بثبات، نبرة صوته لا تحمل أيّ تردد وهو يخبره بثقة:
-ليلى مراتي يا عمر.
صُعق "عمر" بلحظتها، وشخصت عيناه وهو يسأله مذهولًا:
-نــعــم؟ ليلى مراتك؟ إزاي؟
إتجوزتها إمتى؟
أجاب "نديم" دون أن يحيد بعينيه عن وجه الأخير:
-إمبارح.. اتجوزتها عرفي امبارح.
1
تدلّى فك "عمر" من قوة الصدمة، وردد:
-انت بتقول إيه؟ إيه اللي أنا سمعته ده؟ اتجوزت بنت عمك عرفي يا نديم؟ انت اتجننت؟؟؟!!
رفع "نديم" سبابته أمامه بتحذير صارم، عينيه تلمعان بشراسة وهو يقول:
-قسماً بالله لو نطقت بكلمة يا عمر. ولا لو حد عرف عن طريقك.. مش هاعرفك تاني.
محدش هايعرف القصة دي. ولا حتى بعد ما نتجوز رسمي أنا وليلى.
قطب "عمر" حاجبيه وهو يقول:
-وانت ليه عملت كده أصلًا؟ مش انت متجوز راندا منصور؟ واشمعنا ليلى؟
ليلى بنت عمك؟!
ردّ "نديم" من بين أسنانه:
-مش بنت عمي!!
تسمّرت نظرات "عمر" عليه، كأن عقله توقف عن الفهم وقال:
-أفندم؟ ليلى مش بنت عمك؟
أجاب "نديم" بثقل وهو ينطق بالحقيقة التي دُفنت طويلًا:
-لأ.. ليلى مش بنت عمي.. ليلى ولا تقرب لي حتى.. ليها عيلة كاملة غير عيلة الراعي..
ومحدش يعرف السر ده غير عمي ومشيرة وأنا.. وأهلها الحقيقيين.. وسيادتك دلوقتي.
وقف الزمن بالنسبة لـ"عمر" لبرهة، نظر إلى ابن خالته وأخيه الروحي بدهشة خرساء، ثم قال:
-انت.. انت بتتكلم جد يا نديم؟ أنا مش مصدق وداني. إيه الكلام ده؟!
أطلق "نديم" زفرة طويلة، أسند ظهره إلى المقعد، نظر إلى السقف للحظة ثم أعاد عينيه إلى "عمر" قائلًا:
-هاحكي لك.. بس زي ما قلت لك.. الكلام ده ماينفعش مخلوق يسمعه منك. فاهمني يا عمر؟
أومأ "عمر" ببطء، لا تزال عيناه متسعتين، وعقله يلهث خلف الأسرار الثقيلة التي بدأت تتكشف إليه ...
وما لبث أن غرق في صمتٍ ثقيل بعد أن سمع من "نديم" قصةً فاقت حدود تصديقه، عيناه تائهتان، نظراته زائغة كأن الأرض فقدت معناها تحت قدميه ..
ثم قال، صوته منخفض يشوبه الذهول:
-معقول اللي سمعته ده؟ أنا مش مصدق.. طيب ليه ماقولتليش من بدري القصة دي؟ خبيت عني السنين دي كلها سر بالأهمية دي؟ احنا مش اخوات يابني انت؟
شدّ "نديم" أنفاسه بقوة، كأن الكلام يخنقه، وردّ بنبرة حادة فيها من الألم ما يفيض عن الغضب:
-مافيهاش إخوات دي يا عمر. كنت عاوزني أقولك إيه؟ أقولك ليلى مش بنت عمي؟ بنت حرام؟ وإني بحبها... وعايزها... ومش قادر أطولها؟ كنت عايزني أقولك ده؟
صمت "عمر" لحظات، ترك له المساحة ليهدأ، ثم قال بنبرة أكثر رزانة:
-طيب فهمتك.. بس دلوقتي انت عملت مصيبة يا نديم.. سيبك من كل اللي حكيته.
جوازك العرفي من ليلى ده غلط.. ومن ورا عمك.. وكمان مراتك لو عرفت ..
قاطعه "نديم" بلهجة تحدٍ خالص في صوته:
-راندا دي آخر اهتماماتي.. وجوازي منها مسيره ينتهي.. هي نفسها عارفة أنا اتجوزتها ليه. أنا عمري ما حبيتها.. أنا ماحبتش غير ليلى.. ويا ويله إللي يفكر ياخدها مني... أو يبعدها عني.
عبس "عمر" قائلًا:
-انت مش قادر تفكر غير في نفسك ليه يا نديم؟ ليه مابتفكرش في ليلى؟
ما سألتش نفسك لو جه يوم وعرفت تحت أي ظرف هايبقى موقفها منك إيه؟ فكّر شوية.. انت مصمم تعمل منها نسخة أمها الخاطية في نظر أهلها.
هز "نديم" رأسه بإصرار، وابتسم ابتسامة خبيثة، ثم ردّ بثقة فجّة:
-وده إللي أنا عايزه بالظبط.
نظر إليه "عمر" بذهول، فتنهّد "نديم" وأكمل بصوتٍ مفعم بالتحدي:
-جدها جالي لحد عندي وطلبها.. قلت له لأ مالكش عندي حاجة.. اتحداني وبعت حفيده ليها الجامعة. مفكر إنه ممكن ياخدها مني؟ أنا هاخليه من نفسه لو حاول يمد إيده يرجع يسيبها فورًا.. ومايجرؤش يطلبها مني تاني.
أضاف "عمر" عنه مدركًا خطة ابن خالته المظلمة:
-ولو رجع لك وصمّم ياخدها.. هتقول إنك متجوزها عرفي. ساعتها جدها هايشوفها زي أمها... ويتبرّا منها.
أومأ "نديم" قائلًا بابتسامة مكرٍ خفيفة:
-بالظبط.. أنا مش هاسيب حاجة للصدفة ولا هاسيبها لها اختيار لو ظهر جدها وحبت تروح له. ليلى ملكي أنا. أنا بحبها وهي كمان بتحبني. ومستحيل أسيبها أو أسمح لحد يفرّق بيني وبينها.
ابتسم "عمر" وهو يقول ساخرًا:
-للأسف يا نديم.. انت بنفسك إللي هاتفرّق بينك وبينها. ليلى صغيرة.. بس مسيرها تكبر.
ضاق وجه "نديم" وهو يقول بخشونة:
-هاتكبر تحت جناحي. وهاتعرف إن مالهاش في الدنيا غيري.. قريب هطلّق راندا وهاتجوز ليلى يا عمر. وكل ظنونك دي هاتخيب لما تشوف بعينك إنها تحت إيدي. وبتسمع كلمتي وبتصدقها أول ما أقولها من غير مجهود ..
ثم قام من مكانه دون أن يمنح "عمر" فرصة للرد، وقال ببرود:
-عن إذنك.. لازم أرجع لمراتي.. مايصحش أسيبها وهي عروسة جديدة. ولا إيه؟
تركه وغادر بخطى واثقة نحو المصعد، والشرر يتطاير من عينيه، كمن قرر ألا يخسر الحرب مهما كانت التضحيات ..
دلف "نديم" ثانيةً إلى الجناح، كل شيء كان كما تركه، حتى "ليلى". وجدها ممددة فوق السرير كما تركها، غفت في هدوء، ملامحها تفيض براءة وطمأنينة نادرة ..
اقترب منها، ابتسامة دافئة ارتسمت على وجهه، جلس بجوارها على طرف السرير ومد يده بحنان، يلامس كتفها العاري، شعر برجفة خفيفة في جسدها ..
-بردانة؟.. تمتم بصوت خافت، لكنها غارقة بالنوم ولم ترد
فشدّ الغطاء عليها برفق، ثم انحنى وقبّل خدّها قبلة هادئة لا توقظ، وهمس في أذنها:
-وبعدين يا ست لولّا؟ هاتغلّبيني كتير لحد ما أوصلك؟
ولو.. أنا مش سايبك.. ده أنا مستني اليوم ده من زمان أوي ...
ضمّها بحنان إلى صدره، دون أن يزعج نومها، وعيناه تطوفان على وجهها كمن يحتفظ بكنزه الثمين... لن يفرّط فيه، مهما كان الثمن! ...................................................................................................................................................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
( 10 )
_ هذا قيدكِ _ :
في ساعة لاحقة من المساء ..
أفاقت "ليلى" على صوت خافت يهمس باسمها، فتحت عينيها ببطء، لترى "نديم" جالسًا على طرف السرير، نظراته تلتهم ملامحها بشوقٍ لا تخطئه العين ..
ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة وهو يهمس أمام شفتيها دافعًا إيّاها للنهوض:
-لو ماقومتيش دلوقتي حالًا مش هاضمن لك تخرجي من هنا الليلة دي.. قدامك 5 ثواني تقومي من السرير!
لم يلبث العد لثاني ثانية إلا وقفزت "ليلى" من الفراش ضاحكة، دلفت إلى الحمام واغتسلت بسرعة، عادت إلى الغرفة لتجده جاهزًا وقد ارتدى قميصًا من الكتّان الأبيض تفصيله دقيق، يبرز عرض كتفيه وعضلات صدره وذراعيه، مع سروال شينو بلون خردلي أنيق، وحذاء رياضي مريح، وساعة فاخرة تلمه على معصمه ..
ارتدت "ليلى" تحت أنظاره فستانًا طويلًا بلون رملي ناعم، بكتفٍ واحد، ينحت تفاصيل جسدها بدقة، ما دفعه أن يناولها وشاح ساتر لتضعه حول كتفيها، فعلت ما أراد، ثم صففت شعرها تاركة إيّاه ينسدل بحرية على ظهرها، تتلألأ خصلاته الذهبية بلمعةٍ خفيفة، ارتدت زوجيّ حذائها المكشوف وهي جالسة، بينما أحضر لها "نديم" حقيبتها الصغيرة وأمسك بيدها لتقوم معه ..
خرج الاثنان من الجناح بخطى متوازنة، أنوار الممر الطويل انعكست على الأرضية الرخامية مبرزة ظلالهما، كل شيء من حولهما بدا صامتًا كأن الفندق بأكمله يحبس أنفاسه لرؤيتهما معًا، إذ بديا أكثر من مثاليان لبعضهما البعض ..
دفعها "نديم" برفق داخل المصعد وتبعها، كانا وحيدان ولفّ ذراعه حول خصرها يجذبها إليه برقة، ثم قال بصوت منخفض قرب أذنها:
-نمتي وسبتيني إنهاردة.. مع إني قلت لك خليكي زي ما أنتي.
احمرت وجنتاها، ونكست عينيها وهي ترد بخجل:
-انت اتأخرت عليا… ومش عارفة إزاي نعست!
ضحك بخفوت ونبرته تحمل مكرًا رقيقًا وهو يمرر أطراف أصابعه على بشرتها العارية من عند الكتف:
-المهم تعرفي إن دي تاني مرة ما تظبطش معانا.. بس التالتة تبتة يا لولّا.
أوعدك لو مصر كلها وقفت على باب الأوضة.. الليلة هاندخل يعني هاندخل.
لم تستطع الرد، شعرت بالكلمات تحترق على لسانها من شدة الخجل فلم تنطق، بينما التمعت عيناه بمرح، ومال مقبّلًا خدّها بعمق، ثم همس بحب عند حافة فمها:
-بحبك.. بموت فيكي يا ليلى.
انفتح باب المصعد في هذه اللحظة ..
وتعلّقت عيناها بعينيه الخضراوين ذات البريق اللامع، وقالت بنبرة عاشقة:
-وأنا بعشقك يا نديم.
خرجا متشابكي الأيدي.. خطواتهما تسير بتناغمٍ واحد ..
في ردهة الفندق الرئيسية شاهدا "عمر البدري" وشقيقته بانتظارهما في زاوية قريبة من حائط الرخام ..
لكن صوت "عمر" كان مرتفعًا بنفاد صبر، ويده ترتفع وتنخفض بعصبية وهو يوجه الحديث لأخته التي وقفت أمامه كطفلةٍ تتلّقى توبيخًا قاسيًا من والدها ..
توقفت خطوات "نديم" و"ليلى" للحظة، نظرة سريعة مرّت بينهما، ثم تابعا السير نحوهما ...
-إيه ده يا عمر؟ في إيه؟ مالك بتزعق لريهام كده ليه؟.. قالها "نديم" وهو يقف حائلًا بين "عمر" وأخته، وقد جاء صوته هادئًا بنبرة فيها جديّة كافية لتهدئة ابن خالته المنفعل بوضوح
أدار "عمر" وجهه بانزعاج، نظراته مشتعلة، وأصابعه تضغط على جانب رأسه كأن الصداع يداهمه للتو ..
أشار برأسه ناحية "ريهام" دون أن ينظر إليها وقال بعصبية مكتومة:
-الهانم.. مطلعة عيني كالعادة. وبالذات الفترة دي… مابقتش بتسمع الكلام نهائي.
كانت "ريهام" واقفة على بعد خطوات قليلة، ذراعاها معقودتان بقوة، وفمها مشدود كأنها تحبس الدموع بأسنانها، حاجباها معقودان بطفولية غاضبة، وعيناها تحومان بين الثلاثة بحدة طفلة تشعر بالظلم، طفلة في جسد فتاة شابّة أوشكت على بلوغ العشرين من عمرها ..
نظر "نديم" إليها للحظة، ثم عاد ببصره إلى "عمر" وقال بلطف متماسك:
-طيب بالراحة بس.. حصل إيه؟
أشار "عمر" بإصبعه نحو بوابة الفندق الزجاجية، حيث كانت أسرة صغيرة تخرج الآن، وصبي صغير ينزلق بحذاء تزلج على الرخام اللامع، ضاحكًا لا يدري عن الفتنة التي أشعلها على الجانب الآخر ...
-أول ما شافت الولد إللي هناك ده بيلعب بالـskates.. شبطانة! جريت ناحيته عايزة تلعب معاه. وأنا قولتلها لأ. كسرت كلامي وجريت بردو ناحيته. لولا بس مسكتها على آخر لحظة!
وما كاد يُنهي جملته حتى انفجرت "ريهام" بصوت طفولي مليء بالانفعال:
-قلت لك عايزة واحدة ومش جبتلي زيها!
ارتفع صوتها إلى حد جذب أنظار رواد المكان ..
فرفع "عمر" سبابته بسرعة يحذّرها وصوته قد ازداد خشونة مخيفة:
-ريــهام! صوتك ده مايعلاش انتي فاهمة؟.. و اسمعي بقى لما أقولك. قسماً بالله إن ما سمعتيش الكلام لأكون حابسك في أوضتك أسبوع. ولا هاديكي تاب أو موبايل. ولا هاسيب معاكي ميمي!!
وهنا زمجرت الكلبة "الجولدن" الرابضة أسفل قدميّ شقيقته وكأنها فهمت تهديده ..
بينما ظهر القهر في عينيّ "ريهام" وبدأت تهتز في مكانها، ليتدخل "نديم" بسرعة، هذه المرة نبرته صلبة وقاطعة فيها حسم لا يحتمل جدالًا:
-الله! ما قلت لك بالراحة يا عمر.. ريري شاطرة وبتسمع الكلام. مالكش دعوة بيها لو سمحت.
ثم غمز له بطرف عينه محاولًا خفض التوتر، قبل أن يلتفت إلى "ريهام" وهو يقول بابتسامة واسعة مرحة:
-إيه يا ريري.. انتي مش شايفاني ولا إيه؟ أنا ماوحشتكيش؟ أومال فين تعالي يا نديم.. نفسي أشوفك انت وليلى يا نديم.. أهو. أهو جيت وجبت لك ليلى معايا!
وأشار بيده نحو "ليلى" التي ابتسمت بمحبة حقيقية، وانحنت قليلًا نحو ريهام:
-ريري حبيبتي.. وحشتيني أوي يا روحي. عاملة إيه؟
لكن "ريهام" ظلّت صامتة، شفتاها مزمومتان ووجهها متيبّس بشدة ..
زفر "عمر" بضيق وهو يشيح بوجهه بعيدًا، أما "نديم" فاخترق الجمود وتقدم نحوها خطوة، طوّق كتفيها بذراعه في حنو، وقال برقة فيها كثير من الأبوة:
-طيب يا حبيبتي. ما تزعليش.. انتي مضايقة يعني عشان عمر ماجبلكيش سكيت؟
ولا يهمك ياستي. بكرة الصبح يكون عندك. ولا تزعلي نفسك.
شهقت "ريهام" بقوة غير مصدقة، نظرت له بعينين واسعتين وهي تسأله:
-صحيح يا نديم؟؟
ابتسم وهو يهز رأسه بإيجاب قائلًا:
-صحيح يا روح نديم.. أنا عمري وعدتك بحاجة وخلفتها؟
قفزت عليه فورًا، ضحكة صاخبة خرجت منها ممزوجة بصراخها المرح، أحتضنه بقوة وهي تقبّله في خده، بينما هو يضمّها بين أحضانه الدافئة، يمسح على شعرها بحنان وكأنه يحضن الطفولة ذاتها، النقاء الحقيقي ..
ثم تركها ومررها ناحية "ليلى"، ابتسمت لها هذه المرة لأول مرة وقالت بصوت أنعم:
-إزيك يا ليلى.. انتي وحشتيني أوي.
ضحكت "ليلى" وهي تصافحها، ثم جذبتها لحضنها قائلة:
-انتي وحشتيني أكتر يا قلبي.. إيه القمر ده؟ بقيتي قمر يا ريري!
ضحكت "ريهام" بخجلٍ طفولي، وانخرطت في حديث عشوائي مع "ليلى". تثرثر بكلمات غير مرتبة، تحكي وتعيد التفاصيل بينما "ليلى" تسمعها وتردّ بصبر ومحبة كأخت أكبر ..
سار "نديم" للأمام ممسكًا بيد "ليلى" التي أمسكت يد "ريهام" بدورها، بينما "عمر" يسير إلى جوارهم، وجهه لا يزال محتقنًا بالعصبية ..
خاطبه "نديم" بصوت منخفض، لكن نبرته لم تخلُ من العتاب:
-إيه يا بني الأسلوب ده؟ بالراحة على أختك شوية.. أومال إيه أنا ما بحبش أزعلها!
تنهد "عمر" وهو يرد بنبرة مُتعَبة:
-بقت عنيدة أوي يا نديم.. بمعنى أصح رزلة. وأنا ما بقاش عندي طولة بال زي زمان.. مش عارف أعمل معاها إيه أكتر من إللي بعمله!!
رمقه "نديم" بغضب وقال بحدة:
-هاتعمل إيه يعني؟ هاترميها؟ مالك يا عمر بجد. لو مابقتش مستحملها سيبهالي. هاخدها تعيش معايا وأوفر لها كل احتياجاتها كمان.
أدار "عمر" رأسه نحو ابن خالته، حدجه بنظرة مستنكرة وهو يقول بغلظة:
-أسيب مين يا نديم؟ ريهام دي أختي. لا مش بس أختي. دي بنتي أنا اللي ربيتها.. ومش بقول إني مابقتش مستحملها. أنا بس تعبت.. وزعلان عليها.. هو وضعها ده يعجب حد؟ يعجبك انت يا نديم؟
ساد صمت قصير، تبادل فيه الرجلان النظرات، ثم قال "نديم" بصوت أهدأ، وعيناه تلمعان بالتعاطف:
-أنا فاهم يا عمر.. أنا حاسس بيك.
هزّ "عمر" كتفه قائلًا في تعب حقيقي:
-لأ انت مش حاسس بيا. ومحدش هايحس بيا.. أنا بكبر. وهي لسا صغيرة.. خايف عليها لو جرالي حاجة في أي وقت هاتعمل إيه منغيري؟ هاتعيش إزاي ومين هاياخد باله منها!!
ربت "نديم" على كتفه بلطف وقال بلهجة لوم صلبة:
-طيب روّق… روّق وماتشلش هم حاجة.. وأنا مش هاحسبك على الكلام إللي قولته ده.. ولا هافكرك إن انت وريهام ليكوا ضهر في الدنيا دي. ومن دمكوا. زي ما انتوا ضهري ومن دمي ..
ثم تنهد بعمق وهو ينظر حوله وقد خرجوا من بواية الفندق، عاود النظر إلى "عمر" ثانيةً وقال:
-احنا جايين نتبسط كام يوم معاكم.. فك كده يلا. شوف هاتودينا فين الليلة دي.. وبكرة الصبح لينا كلام تاني وكل حاجة هاتتحل.. ماتقلقش.
_______________________________________
في فيلا عائلة "الراعي" ..
الجو مزيجًا من السكون الفخم وأصوات فناجين الشاي على الطاولات المصقولة، في "الترّاس" الخارجي المطل على الحديقة، جلس "مهران الراعي" متصدرًا المجلس، تحيط به أسرته، زوجته "مشيرة" بجوارها "ليث" الابن الأوسط، وعلى الطرف الآخر جلس "حازم مدكور" رجل الأعمال الشاب، شريك المستقبل في العائلة وخطيب الابنة الكبرى "لُقى الراعي" ..
تجلس "لُقى" بجواره، تهتم به عى أكمل وجه، تضع في طبقه بعض أصناف الحلوى، بينما يتنصت الأخير باهتمامٍ إلى "مهران":
-الخطوبة ماطوّلتش ولا حاجة يا زوما.. بس معلش نديم حدد معاد يناسب الكل. انت عارف انه اكتر واحد حريص على مصلحة العيلة دي مش بيأخرها رخامة يعني.
يبتسم "حازم" قائلًا بدماثة:
-لا يا عمي ومقدرش أقول عليه كده.. أنا فاهم طبعًا ومحترم تصرفات نديم. لكن معلش بقى.. أعذر حماس الشاب إللي جوايا ما أنا مش بزنس مان طول الوقت.
ضج المجلس بالضحك، لتواري "لُقى" وجهها بكفّها بخجل، بينما تقول "مشيرة" بسعادة:
-ربنا يسعدكوا يا حازم يا حبيبي.. ماتقلقش لما يرجع نديم من الغردقة مش هاسيبه إلا لما نحدد معاد الفرح في أسرع وقت. وانت يا مهران نفسك معايا بردو.
ابتسم "مهران" لها واضعًا فنجانه جانبًا، وقبل أن يرد، اقترب منهم أحد الخدم هاتفًا بلهجة مهذبة:
-مهران بيه.. في ظابط برا طالب يقابل حضرتك!
توقف الحديث فجأة، كأن الهواء انسحب من "الترّاس". النظرات إلتفتت كلها نحو "مهران" الذي ظل للحظة صامتًا، قبل أن يدير رأسه نحو الخادم قائلًا:
-دخله وخليه يستناني في أوضة المكتب… أنا جاي حالًا.
انحنى احترامًا الخادم وابتعد، بينما العيون لم تفارق "مهران". خاصة "ليث" الذي عقد حاجبيه وسأل بصوت فيه نبرة استغراب:
-مين الظابط ده يا بابا؟
أجاب "مهران" بابتسامة مراوغة ضاعت وسط قلق ظهر للحظة في عينيه:
-ماعرفش يابني… أديني هقوم أشوف مين!
تدخل "حازم" بكياسة:
-تحب أجي معاك يا عمي؟
بوّح له "مهران" بكفه وهو يقول هازًا رأسه ببرود مصطنع:
-لا لا خليك زي ما انت يا حازم.. أنا هشوف بس إيه الحكاية. وإن شاء الله مش هطوّل.. راجع علطول.
ثم اتجه إلى الداخل، خطواته بطيئة، وظهره المتصلّب يشي بتوتره المكتوم، فتح باب غرفة المكتب، فوجد فيها رجلاً شابًا واقفًا ينتظره وقد أولاه ظهره ..
استدار ناحيته ما إن فتح الباب، ليراه "مهران" جيدًا، بالتأكد هو.. هو لا غيره ..
"زين نصر الدين" ..
بدا شابًا في أواسط العشرينات، بنيته ضخمة، أكتافه عريضة وصدره مفرود، بشرته قمحية، عيناه ضيقتان لكن حادتان كأنهما تلتهمان المكان في ثوانٍ بحدة نظر صقر ...
-مساء الخير يا مهران بيه!.. ألقى "زين" التحيّة بلطف
رد "مهران" بحذر وهو يغلق الباب خلفه:
-أهلاً وسهلاً.. اتفضل يا حضرة الظابط.
وأشار له ليجلس في إحدى كرسيّ المكتب، ثم جلس هو أمامه، تنهد "زين" وهو يجلس بهدو، أستلّ محفظته ومدّ له بطاقته الرسمية قائلًا:
-زين نصر الدين.. رائد في وزارة الداخلية.
تناول "مهران" البطاقة، قرأها بسرعة وأعادها، ثم جلس خلف المكتب بتأني من جديد وقال:
-خير؟
أومأ "زين" مرةً واحدة وقال، نبرته واثقة لكنها خالية من الاستعراض:
-خير يا مهران بيه.. أكيد خير طالما أنا جيت بصفة غير رسمية. بس أظن الأول إنك عارف أنا مين… وجاي ليه.. صح؟
مال "مهران" بجسده قليلًا، وصوته صار أكثر جفافًا وهو يقول:
-مش متأكد.. بس قول اللي عندك. طلباتك؟
ابتسم "زين" ابتسامة دقيقة، وخفض صوته وهو يرد عليه بهدوء:
-أنا جاي بشكل ودّي. وبالذوق.. عشان نحل الموضوع إللي بينا منغير ما نوصل لنقطة مانحبش نوصل لها.
زم "مهران" فمه وقال:
-أمم.. والموضوع ده هايتحل إزاي في رأيك يا حضرة الظابط؟
-ببساطة.. ليلى لازم تعرف مين أهلها الحقيقيين.. ولازم ترجع. ترجع لعيلتها. ودي مش دعوة أو طلب.. دي خطوة جاية جاية سواء حصل تفاهم ودّي أو ماحصلش.
رمش "مهران" بعينيه، كأن الكلمة خدشته، فرد بجفاف حاد:
-بس أنا شايف إن ده كلام مالوش أي لزوم ونبش على الفاضي هايقلق الكل.. ليلى دلوقتي بخير ومرتاحة. وليها بيت وعيلة فعلًا.. ليه نهد كل حاجة فوق دماغها ونصدمها؟ هل ده في مصلحتها؟
رد زين بنظرة صلبة ونبرته قد بدأت تنفد منها المجاملة:
-مصلحتها مش انت إللي تقررها. أيًّا كان دورك في حياة ليلى زمان أو دلوقتي ده مش هايديك سلطة عليها بمجرد ما أهلها يقولوا هاترجع. حضرتك نسيت هي مين؟ لو نسيت افكرك. ليلى حفيدة رياض نصر الدين. حفيدة راجل عمره ما اتنازل عن حقه. ومش هايتنازل المرة دي بردو جدي كان عندكوا امبارح. وأنا جيت إنهارده بقول نفس كلامه.. عشان نختصر وقت مش أكتر.. وإلا ماوعدكش إن إللي جاي هايكون بسيط.
نظر "مهران" له طويلًا، ثم تراجع في مقعده قليلًا ويده تمسك بحافة المكتب، وقال باقتضاب:
-يعني بتهددني؟
زين بحزم: أنا بوصف لك إللي هايحصل لو الموضوع اتكتم عليه أكتر من كده.. انت راجل فاهم وعارف كويس إننا مش جايين نساوم ولا نلعب في الضلمة. ليلى لازم ترجع لأهلها.. ونديم ده كمان لازم يفهم إن اللي بيعمله ده مش في مصلحتها. لما ياخدها ويسافر ويفكر إنه ممكن يخبّيها.. فهمه إني لو عوزت أجيبها هاجيبها. وإني ساكت كل ده عشانها هي.. عشان ماتتصدمش زي ما حضرتك قلت.. ف لو قلبك عليها فعلًا فكر إزاي ممكن تفتح معاها الموضوع. عشان لما أشوفها المرة الجاية هاتكون هي المرة إللي هاخدها من إيدها وأوصلها بيت جدها وأكون أدّيت واجبي ناحيتها وناحية عيلتي كلها.
سكت لحظة، ثم أضاف للمرة الخيرة بصوت به لهجة حادة:
-وصدقني يا مهران بيه لو حاولتوا تبعدوها أو تخفوها. أنا هاخد موقف محدش فيكم هايعرف يتخيله.
نهض "مهران" من كرسيه ببطء، نبرة صوته الآن جامدة، لكنها متماسكة:
-كلامك واضح ورسالتك وصلتني.. هارد عليك قريب يا حضرة الظابط.
ابتسم "زين" برصانة ووقف بهدوء قائلًا:
-وأنا واثق إنك هاتتصرف صح.. لأنك راجل عاقل. وفاهم... عن إذنك!
ثم غادر الغرفة، تاركًا خلفه هواءً مشبعًا بالتهديد ووقع كلمات لم يحمل "مهران" مثل ثقلها بحياته قط!!
______________________
في المطعم المكشوف الذي يطل على البحر مباشرةً ..
الأمسية هادئة، الهواء مشبعًا برائحة الملح والنسيم، والمكان مضاء بفوانيس صغيرة المعلّقة في كل الزوايا ..
جلس كلٌ من "نديم" و"ليلى" متجاورين، قبالتهما "عمر" و"ريهام". جميعهم حول طاولة دائرية أنيقة، على مقاعد واطئة من الخيزران، يتبادلون الضحكات، وأصواتهم تتناغم مع خرير البحر في الخلفية ..
كانت "ليلى" تميل برأسها قليلًا نحو "ريهام". تتابع حديثها العبثي بانتباه ووجهها يتوهّج بابتسامة حانية ..
بينما "نديم" قد انشغل بحديث جانبي مع "عمر". أصواتهما بدأت تنخفض تدريجيًا حتى صارت أكثر جدية ..
-بص يا نديم.. إللي حصل ده مينفعش بكل المقاييس.
لم يتبدّل تعبير "نديم" الفاتر وهو يرد عليه:
-أنا ماعملتش حاجة غلط.. أنا بحبها يا عمر. وهي كمان بتحبني. انت متخيّل إني أقدر أقنعها بكل ده لو ماكنتش بتحبني؟
هزّ عمر رأسه قائلًا:
-أنا مصدقك.. وعارف إنك بتحبها على فكرة ومن زمان. كان باين عليك… بس المهم دلوقتي. خليني أسألك بصراحة. قربت منها؟ يعني… حصل حاجة بينكوا؟
زفر "نديم" وهو يقول بضيق:
-لأ.. لسا ماقربتلهاش.
رفع "عمر" عينيه للسماء في لحظة راحة، ثم مدّ يده إلى كتف "نديم" قائلًا برجاء:
-طيب بالله عليك اصبر… ماتعملش كده. استنى شوية لما تحل الموضوع.
رمقه "نديم" بنظرة حانقة وقال بصوت مكتوم:
-الموضوع ده مش هايتحل إلا كده. انا فكرت له كتير وماوصلتش لحل غير ده.
-إزاي بس يا نديم.. أكيد في حل تاني.
-بقولك جدها جالي. وفي نفس اللحظة إللي كان عندي فيها كان باعت لها حفيده الجامعة. شوفت بنفسك بيحاولوا يرجعوها إزاي وبيلوا دراعي.. هي نفسها… أنا مش ضامن هاتفكر إزاي لو عرفت الحقيقة.. ممكن كل حاجة تتغيّر في لحظة.. وأنا ماعنديش أيّ نيّة أسيبها تشرد من دايرتي.
-مش هايحصل حاجة صدقني. انت مكبّر الموضوع. ويمكن لو عرفت ماتحبش تروح لأهلها أصلًا.. بس لو حصل وعملت إللي في دماغك وبعدين عرفت هاتكون انت السبب في وجعها. بلاش تبوّظ الدنيا. سيبها زي ما هي. اصبر لحد ما تحل العقد دي كلها.. لحد ما تتجوزها رسمي. صدقني يا نديم هو ده الصح… وأنت عارف إن ده الصح!
سكت "نديم" للحظات مطوّلة، اتكأ في مكانه، بصره سارح ناحية البحر، بينما كلمات "عمر" بدأت ترن في أذنيه، جزء منه يقاوم صحتها، وجزء آخر يدرك أنه لابد أن ينفذ خطته إن أراد حقًا ضمان "ليلى" إلى الأبد ..
وقبل أن يحسم أمره إلى أيّ الجهتين سيميل، اهتز هاتفه على الطاولة، نظر للشاشة، فإذا باسم عمّه يضيئها ..
ضيّق "نديم" عينيه وقام بهدوء قائلًا:
-ثواني وراجع!
ابتعد قليلاً، وفتح الخط:
-أيوه يا عمي!
أتى صوت "مهران" على الطرف الآخر جاد ومضغوط بشدة:
-زين نصر الدين لسا ماشي من عندي. كان جاي يهددني يا نديم تخيّل؟ قال لو ليلى ماظهرتش خلال يومين هايتصرف تصرف مايعجبناش!
شدّ "نديم" قبضته، صوت أنفاسه علا فجأة وهو يقول من بين أسنانه:
-وماله… يخبط دماغه في الحيط.. هو وأهله نفر نفر. محدش هايقرب من ليلى. ولا حد يقدر يلمسها طول ما أنا عايش.
-الواد ده مش سهل يا نديم ومركزه مقوّيه. انت ماشوفتش كان بيكلمني إزاي.. لو مش أدها ماكنش جده صدّره بالذات في وجود سليمان العمدة وطاهر.
اخشوشنت لهجة "نديم" وقد تحوّلت تعابير وجهه إلى علائم وحشية صِرف:
-خلّيه يجرب.. وعزة الله ما هايلحق يعمل حاجة.. أنا هاخلّيه هو وجدّه إللي يبوسوا إيدي عشان أخلّي ليلى عندي وعايشة تحت سقف بيتي طول عمرها.. ماتقلقش يا عمي. روح نام وأطمن.. ليلى مش هاتخرج من بيتنا!
وأنهى المكالمة، ورجع للطاولة، لكنه لم يجلس ..
وقف وراء "ليلى" هانفًا بلهجة آمرة:
-يلا يا ليلى!
رفعت عينيها بدهشة نحوه، وابتسمت بخفة قائلة:
-على فين؟ العشا لسا ماجاش!
تدخل "عمر" مستغربًا:
-إيه يا نديم؟ مستعجل على إيه؟
أجاب "نديم" بصرامة وعينيه لم تترك "ليلى" لحظة:
-هانتعشّى في الجناح.. جاتلي مكالمة شغل مهمة ولازم أتابعها دلوقتي.
مدّ لها يدًا ثابتة وملحّة، نظرت "ليلى" ليده، ثم لعينيه، وفي صمت مدت يدها بخفة لتستقر براحته، فشدّها بقوة محسوبة، حرص ألا تتعثر، لكنه لم يتح لها التراجع ..
سحبها من المكان بهدوء ومشوا في ممرات الفندق بخطى متسارعة، لم يتحدث، خطواته سريعة، مشدودة، وكفه قابض على يدها كأنما يخشى أن تتبدّد ..
تتبعه "ليلى" في صمت، أنفاسها متقطعة، ونبضها يطرق أذنها بصخب، لم تنطق، لم تسأله أيّ شيء ..
حتى وصلا إلى الجناح ..
فتح الباب بقوة، ثم أدخلها قبله وأغلقه خلفهما بإحكام، سكن كل شيء، حتى الهواء بدا ساكنًا، متوتّرًا كوتر مشدود على وشك أن ينفجر ..
استدارت "ليلى" نحوه، وفتحت فمها لتسأله، لكن نظراته سبقتها ..
وفجأة رفع يديه ممسكًا وجهها بين كفيه، نظر في عينيها نظرة طويلة، لا تُفهم، لا تُفسّر، ثم همس بصوت أجش، خفيض، مخنوق:
-ماينفعش أستنى أكتر من كده!
ثم دنى بلحظة، واجتاح فمها بقبلة جائعة، بشغف انفجر بعد كبح طويل ..
وما كان ليقطع قبلته لولا أن شعر بحاجتها للتنفس، شهقت "ليلى" باضطرابٍ شديد، تراجعت خطوة، وهي تلهث متمتمة:
-نديم… في إيه؟”\
جاوبها وقد تغيرت نبرته، صارت أكثر خشونة، أكثر رغبة وهو يقول:
-في إني عايزك… عايز مراتي.. خلاص زهقت وأنا شايفك كل يوم قدامي ومش قادر أطولك.. الليلة دي هاحسم القصة دي يا ليلى.. مافيش حاجة ممكن تبعدك عني.
اقترب منها من جديد، دون أن يترك لها فرصة للتراجع أو التفكير، لف يده على خصرها وسحبها إليه ..
لم تهرب ولم تحاول، كانت تريده كما يريدها، لكن قلبها كان يخبط كطبل صغير في صدرها، هناك أمر غريب، لم يكن هو "نديم" الذي تعرفه!
همس قرب أذنها، وشفتاه تمرّان على عنقها بقبلات رطبة:
-أنا مش بخوفك.. بس أنا صبري نفد.. سيبي لي نفسك يا ليلى.
لم تكن تعرف ما الذي يخيفها!
هو؟
نفسها؟
اللحظة؟
التيه؟
حاولت التراجع، همست وهي تضع يدها المرتجفة على صدره:
-طيب استنى… دقيقة واحدة.. أنا.. أصبر بس ...
لكنه لم ينصت، ولم تخف قبضته عليها ولو قليلًا، قبّلها من جديد ويداه تزيحان عنها ملابسها قطعة قطعة، وكأنه لا يريد أن يترك بينها وبين جسده حائلًا ..
ثم رفعها بين ذراعيه، ومشى بها نحو الفراش، أنزلها بحذر، لكن سرعته كانت تخونه، لم يكن متزنًا كعادته، كان كمن يحاول الإمساك بشيء يتسرّب من بين أصابعه ..
تجرّد من ثيابه وتسلل فوقها يحدّق في عينيها، ثم قال بهمس غليظ:
-اثبتي وخليكي هادية.. الموضوع بسيط. اسمعي الكلام.. انا مش هآذيكي.. أنا عارف بعمل إيه.
شهقت "ليلى" حين شعرت بجسده يثقل فوقها، يقيّدها ..
حاولت أن تتنفس، لكن أنفاسها تعثرت، فهمست بتلعثمٍ:
-نديم.. ده.. انت..
لكن الكلمات خرجت بلا صوت تقريبًا ..
لحظة ..
فلحظة أخرى ..
ثم شعرت بالألم ..
ألم اخترقها كالسيف ..
كتمت صرخة حادة وهي تعضّ شفتها السفلى بقوة، ودمعة ساخنة انسلت من زاوية عينها، بينما الألم في تواصل، مستمر ..
أمسكت بذراعه بقوة، كأنها تستنجد بثباته، تناشده أن يتوقف ..
لكن "نديم" لم يتوقف، همس لها من بين أنفاسه:
-أنا آسف… استحملي.. أنا معاكي... أنا بحبك يا ليلى.. بحبك!
كان صوته يهمس، وشفاهه تمر على جبينها، وعنقها، يحاول أن يهدّئها ..
لكن الألم كان أقوى من كلماته، وكانت تبكي في صمت، تصدر منها أنات قصيرة، متقطعة، لا تُشبه تلك التي انتزعها منها برضا وانتشاء نهار اليوم وليلة الأمس ..
ماذا حدث؟
لماذا؟
وبعد وقت خالته دهرًا ..
رفع رأسه، نظر في وجهها، كانت عيناها مفتوحتين، لكنها لا تنظران إليه ..
همس لها من جديد:
-ليلى!
نظرت إليه الآن، عيناها ملؤهما الدموع، لم تُجبه، فقط نشيجها علا بصدرها دون بكاء ..
زفر "نديم" مطوّلًا وتمدد بجانبها، ضمّها إلى صدره بحنان، جسدها باردًا رغم دفء حضنه ..
وارتعشت وهي تسمعه يقول بخفوتٍ:
-بحبك… ماكنتش عايز أوجعك… أنا آسف!
همسها الوحيد، جاء بعد دقائق طويلة:
-أنا كمان بحبك! ...................................
يتبع ...
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق