القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية هيبه الفصل الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بقلم مريم محمد غريب حصريه وكامله جميع الفصول

 رواية هيبه الفصل الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بقلم مريم محمد غريب حصريه وكامله جميع الفصول 

 




رواية هيبه الفصل الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بقلم مريم محمد غريب حصريه وكامله جميع الفصول 

 


( 11 )


على بعد همسة


الصمت يلفّ الغرفة منذ مدة طويلة ..


جلست "راندا منصور" على طرف سريرها، ظهرها منحنٍ كمن يحمل على كتفيه عُمراً من الخيبة، مرّ يومان منذ أن غادرت بيت الزوجية عائدةً إلى بيت أبيها ..


يومان من الانتظار العقيم، من الترقب الموجع، من التمسك بالأمل المبتور ..


نظرت إلى هاتفها المستلقي على المنضدة الصغيرة بجوارها، شاشته ساكنة، لم تضاء أبدًا طيلة هذا الوقت ..


لم يتصل، لم يبعث برسالة، إنه حتى عندما لفظت كلمة الطلاق أمامه، لم يهتز، تركها ترحل ببساطة وكأنه كان يتمنى أن تطالبه بها بلسانها.. "هو عمره حبّني أصلاً؟ ..




السؤال تردد في رأسها عشرات المرات كصدى لا ينتهي ..


تغور عيناها في الفراغ، ويعود كل شيء إلى بدايته، حيث اللقاء الأول، حيث الإعجاب الذي انقلب إعصارًا اجتاحها دون رحمة ..


"نديم الراعي" ..


رجلٌ صُنِع من هيّبة وغموض، تقدّم لخطبتها وكان الجميع يعرف السبب، كما كانت هي تعرف، لم تكن مغفّلة، كانت صفقة مثالية لرجل مثله، العائلة، المال، الاسم، والمظهر ..


لكنها ورغم وعيها، أعجبت به، سحرها حضوره، لفتها صمته، شدّها جبروته الهادئ ..


وفي بادئ الزواج، لم يكن عاشقًا، لكنه لم يكن بادرًا كذلك ..


كان يؤدي دوره بكفاءة. وفي الفراش، لأول مرة في حياتها، شعرت بأنها امرأة حقًا ..


كانت نظراته، لمساته، أنفاسه، كلها تقول ما لم يقله لسانه قط ..


كان يقترب منها بحسم ورغبة، وكانت تسلّمه نفسها لا لأنها زوجته، بل لأنها أرادت أن تكون له، كلها، بكل شغفها، بكل انكساراتها السابقة ..


معه كانت تنسى من تكون، تتركه ينزع عنها أثقال الأسماء والألقاب، ويُعيد تشكيلها من أنوثتها الخالصة ..


لكن ذلك لم يدم ..


مرّت الأشهر، وبدأت تلاحظ التحوّل، صمته أصبح أقسى، قربه تضاءل حتى تلاشى، أصبح يتجنبها في الليل، يتحجج بالتعب، بالعمل، بأيّ شيء كي لا يلامسها، كأنها أذى يخشى أن يقترب منه ..


سألته مرة، مرتين، ثلاث ...


هل هناك أخرى؟


أنكر في كل مرة، كان صامتًا كجدار صلد وبارد، ثابتًا كتمثال لا يعبأ بعواصفها ..


ومع كل رفض كانت تتآكل، إنها ليست قبيحة، ليست معدمة، ليست بلهاء ..


وليست أقل من نساءٍ يسعين خلفه حتى بعد زواجه ..


فلماذا؟.. لماذا يتهرّب منه؟ لماذا ينبذها هكذا؟


لم تجد جوابًا، ولا تفسيرًا، ولا حتى شفقة منه ..


عيناها امتلأتا بالدموع، ثم سالت بصمت، تتدحرج على وجنتيها كأنها تعرف طريقها مسبقًا ..


وانفجرت أخيرًا ..


شهقاتها مرتجفة، تصاعدت حتى صار بكاؤها نحيبًا حارًا يخترق السكون ويهز الجدران من الداخل ..




ضمّت جسدها بذراعيها، كأنها تحاول أن تحتوي نفسها الجريحة، لم تكن تبكي "نديم" الآن، كانت تبكي إحساسها بالرفض، تبكي السؤال المُرّ الذي لم تجد له إجابة: "ما الذي ينقصني؟ ..




طرقاتٌ خفيفة على الباب كسرت صمت الغرفة ..


لم تجب، كفكفت دموعها بسرعة، بينما تناهى إليها صوت والدها دافئًا كعادته وهو يناديها بهدوء:


-يا راندا.. ممكن أدخل؟


لم تُجِب أيضًا ..


فانفتح الباب ليدخل "منصور".. لم يكن بحاجة إلى إذن.. فهذه ابنته الكبرى.. والأقرب لقلبه بعد وفاة والدتها ..


وقف لحظة عند الباب، يتأمل المشهد، ابنته كما هي منذ يومين، بنفس الملامح المتيبسة، والعينين المحمرتين من السهر والبكاء ..


اقترب منها وجلس إلى جوارها على حافة السرير، مدّ يده رابتًا على ظهرها بخفة، ثم قال بابتسامة صغيرة يطغى عليها القلق:


-مالك يا حبيبتي؟ من ساعة ما جيتي حابسة نفسك في أوضتك ليه؟ وليه زعلانة أوي كده؟


هزّت رأسها بصمت دون أن تنظر إليه، أشاحت بوجهها كأنها تخاف أن يرى في ملامحها ما عجزت عن شرحه بالكلمات، فتابع:


-مش عايزة تتكلمي؟ طيب أنا هافضل قاعد كده. مش متحرك من مكاني إلا لما تفهميني مالك!


ابتلعت "راندا" غصّتها، ثم تمتمت بصوت واهن:


-مافيش حاجة يا بابا... بس تعبانة شوية!


-إيه إللي تاعبك يا راندا؟ أو مين إللي تاعبك؟


كان يعرف الجواب، لكنها محاولة أبوية لانتزاع اعترافٍ يفتح لها باب البوح ...


قاومت "راندا" إلحاحه بضعف:


-بلاش يا بابا. بلاش تضغط عليا أرجوك.


-ليه؟ مش من حقي أعرف بنتي مالها؟ ولا أنا ماليش لازمة دلوقتي؟


صمتت ..


امتدت لحظات الصمت بينهما، حتى كادت تخنقها، ثم قطعها صوته بنبرة أكثر حدة، ناقمة:


-هو إللي وصلك للحالة دي صح؟ نديم هو السبب يا راندا؟؟


رفعت عينيها إليه بسرعة، كأنها خافت أن يكمل، لكنه أكمل بغلظة:


-الراجل ده أنا من أول يوم ماكنتش موافق عليه. مش عشان أي حاجة غير إني كنت واثق إنه مابيحبكيش لا تى شوفت في عينه النيّة لكده.. انتي إللي أجبرتيني أوافق ليه. كنت ساكت. ساكت على حاجات كتير. ساكت عشان خاطرك. عشان كنتي شايفاه راجل أحلامك وكنتي متعلّقة بيه حتى من قبل ما يتجوزك.. بس أنا ماقدرش أسكت لما أشوفك بتنهاري كده قدامي!!




كان صوته يزداد غلظة، وكل كلمة منه تغرز في صدرها كالخناجر، وكأنها تعيش الانكسار مرتين: مرة بسبب "نديم".. ومرة بانكشافها أمام والدها ..




تدفق بكاؤها فجأة، أغزر من ذي قبل، وعلا صوت نحيبها كأن حروف أبيها مزّقت آخر سدود كتمانها ..


جذبها "منصور" إليه بحنوّ، واحتواها بين ذراعيه قائلًا بجمود يماقض لمسته اللطيفة:


-بصيلي... بصّيلي يا راندا.. إللي يزعلك بالشكل ده. إللي يكسر قلبك ويخليكي تبكي بالطريقة دي. مايستاهلكيش.. ده مش الراجل إللي كنتي بتتمنيه. ده مايتقالش عليه زوج.. ده خسارة حتى إنك تفكري فيه.




تمسكت "راندا" بقميصه كأنها تغرق، ثم قالت بصوت متهدج، يملؤه القهر:


-بس أنا.. أنا بحبه.. أنا بحبه يا بابا!




سكت ..


قلبه يعتصره، تنهد ببطء، وعيناه إلى الأرض، كأنها طعنته حيث لا حماية ..


لم يعلّق فورًا، كان يبحث عن شيء يقوله، شيء لا يُشبه الحقيقة التي قالتها ..


ثم قال بصوت خافت:


-أنا عارف إنك بتحبيه.. وده اللي كاسرني أكتر. بس أنا مش هاسيبك كده يا بنتي.. أنا هاعمل إللي أقدر عليه. كل إللي أقدر عليه.. عشان أشيل الحزن ده من جوّاكي. ونديم ده. أقسم بالله لالّيههيعرف قيمتك غصب عنه.. أصبري بس.


قبّل جبينها وهو يضمها، كأنه يحاول أن يمسح كل وجع تشعر به ..


لحظة صمت أخرى.. ثم رنّ الهاتف ..


قفز قلبها والتفتت نحوه بعنف، كأن كل كيانها صار أذنًا تترقب الاسم، لكن خاب أملها مجددًا ..


كانت "مشيرة" التي تتصل ..


انطفأت شرارة الأمل التي اشتعلت للحظة في عينيها، بينما ألقى والدها نظرة على اسم المتصل، ثم ابتسم لها، ربت على كتفها برقة وقال:


-أنا هاسيبك دلوقتي يا حبيبتي.. هانزل في مشوار وراجع بالليل. هانتعشى سوا انا وانتي وعمتك.. اتفقنا؟


أومأت له بإيجاب ..


نهض ببطء، ألقى عليها نظرة أخيرة، ثم خرج مغلقًا الباب وراءه في صمت ..


حدّقت في شاشة الهاتف لثوانٍ، مترددة بين الرفض والقبول، ثم ضغطت على زر الإجابة، سحبت أنفاسها في صمت تغطي على آلامها وردت:


-ألو!


جاءها صوت "مشيرة" المألوف، مفعمًا بالحياة كعادته:


-رانّود.. يا حبيبتي عاملة إيه وحشتيني أوي.


أجابت "رندا بصوت خافت بلا روح:


-أنا كويسة. انتي وحشتني أكتر يا مشيرة.. أزيك وأزيكوا كلكوا؟


-إحنا كلنا بخير الحملله. طمنيني عليكي انتي... عاملة إيه؟ وإيه إللي مقعدك ده كله عند باباكي؟ مش هاترجعي بيتك بقى؟


-لأ مش راجعة اليومين دول.. بابا وحشني أوي ف حابة أقعد معاه شوية. كمان عمتي زهقت من القاعدة لوحدها ومبسوطة إني رجعت.


-طب ناوية ترجعي امتى؟


-مش عارفة.. لما أقرر هاكلمك وأقولك.


صمتت "مشيرة" لحظة، ثم عادت بسؤال يبدو عابرًا، لكنه لم يكن كذلك البتّة:


-بس إنتي ليه ما سافرتيش الغردقة مع نديم؟


بلعت "راندا" غصتها، شعرت بالمرارة تسري في حلقها مثل سم بطيء، حاولت الحفاظ على تماسكها، وردّت بصوت هادئ:


-ماقدرتش أسافر.. وقلت لك بابا كان واحشني.


ضحكت "مشيرة" بخفة، تظن "راندا" بأنها لم تلتقط ما وراء الكلمات، ثم قالت بلهجة تطوي خبثها الأفعواني:


-بس غريبة.. يعني إزاي ليلى هي إللي سافرت معاه... وإنتي لأ!


تجمّدت ملامح "راندا" في هذه اللحظة ..


لسانها انعقد للحظة، كأنها ضُربت في مقتل، ثم قالت أخيرًا وقد خرج صوتها هامسًا، مرتجفًا:


-ليلى... سافرت مع نديم؟


ردّت "مشيرة" ببساطة، تعلم يقينًا بأنها قد فتحت باب الجحيم للتو:


-أيوة.. انتي ماتعرفيش؟ ده نديم هو إللي عرض عليها كمان وأخدها بطيارة خاصة وسافروا في نفس اليوم إللي مشيتي فيه.




لم ترد "راندا" ..


عيناها اتسعتا ببطء، وامتلأتا بغضب صامت، مزيج مرعب من الذهول، والاشمئزاز، والانكسار ..


الهواء صار ثقيلًا، والضوء باهتًا، والعالم كله انكمش في لحظة واحدة إلى اسم "ليلى" ..


"ليلى"!!!


الشكوك التي طالما راودتها... صارت حقيقة ...


تلك النظرات المراوغة، ضحكات خافتة في غير محلها، كلمات مبهمة لا تُقال على الملأ ..


كلها عادت الآن، تتجمع كقطع زجاج تنغرز في صدرها ..


لم تنطق بكلمة أخرى ..


حتى حين أتى صوت "مشيرة" متسائلًا بقلق:


-راندا؟... انتي كويسة؟


لكن الخط انقطع ..


قطعته "راندا" ..


مسحت دمعة قد فرّت من عينها بغتة، بينما بداخلها، قرار قد حسم ..


لن تبكِ هذه المرة.. لن تنهار ..


فهذا وقت الفعل، ولتؤجل إنهيارها، حتى تقطع الشك باليقين ...




__________________________________________________________


في اليومين الماضيين.. كانت "ليلى" أشبه بشخصٍ يسير في الضباب.. لا يدرك تمامًا إن كان يحيا في الحلم أم في يقظةٍ مائعة الحدود ..



شيءٌ ما فيها قد تغيّر، لم يكن الألم، ولا الندم، ولا حتى تلك الغصّة العابرة في الحلق ..


بل ذلك الإحساس العميق، الهادئ، بأنها لم تعد كما كانت ..


هناك شعور لا تستطيع تحديده بدقة ..


للمرة الأولى في حياتها، سلّمت قلبها وجسدها لـ"نديم" ..


الليلة التي أخذ فيها عذريتها لم تكن عابرة، ولم تكن مجرد لحظة شهوة، كانت نقطة فاصلة، نقلتها من ضفة إلى أخرى، حملتها من كونها فتاة.. إلى امرأة تعرف تمامًا لمن تنتمي ..


رغم وجعها، رغم ذلك الألم العنيف الذي قاومته بابتسامة خجولة وصمت مطبق، لم تكن حزينة لخسارتها غير المحددة ..


بل كانت مشغولة به، يلهيها اعتناؤه الدقيق به، لقد حممها بيديه، جلس معها في الماء الدافئ، أسندها إلى صدره، يهمس لها بكلمات لم تسمع مثلها من قبل ..


مسح عن جسدها آثاره وآثار خوفها كما لو أنه يغسلها من حياتها القديمة، لتستقبل حياتها الجديدة معه، قبّل جبينها أكثر مما قبّل شفتيها وهمس:


-أنا آسف... أنا آسف يا ليلى...

ماكنتش عايزك تتوجعي... سامحيني.


قالها مرات كثيرة، رغم أنها لم تُظهر له ألمًا، رغم أنها لم تشتكِ، رغم أنها ابتسمت له، وغمغمت بصوت واهن:


-أنا كويسة... بجد!


ومنذ تلك الليلة، لم يلمسها، لم يحاول الاقتراب منها مرةً ثانية، إنما قال لها بصدق لم تعهده في رجل غيره:


-خدي وقتك... ارتاحي.


وهكذا قضت وقتها بين ذراعيه، دون خوف، لكن شيئًا فيه لم يكن مستقرًا، كان حاضرًا جسديًا، غائبًا بنظراته أحيانًا ..


قاسيًا بلا سبب في لحظات، كأن شيئًا داخله يتخبّطه ..



أطلّ عليهما نهارٌ جديد، وأصرّ "نديم" على الخروج من الجناح، من العزلة، من حرارة الذكرى ..


بعد الإفطار أخذها إلى الشاطئ، هناك في الهواء الطلق المشبّع برائحة البحر المسكرة، حيث تتنفس السماء بسعادة، بدأت "ليلى" تسترخي، تتخلّى عن توترها قليلًا ..


الرمل أسفل قدميها ناعم، والشمس خفيفة، والماء يلمع كالألماس على مدّ البصر ..


جلست على الكرسي الخشبي الممدد، ورأته هو يجلس بصمتٍ إلى جوارها، تنظر هي للبحر وتتأمله، بينما ينظر هو إليها ..


كانت جميلة، جميلة حدّ الذهول، وهي ترتدي فستانًا من الشيفون الأبيض، رقيقًا كأن جسدها يتنفس من خلاله، مفتوح عند الكتفين، بأزرار صغيرة ذهبية تمتد حتى خصرها، مع قبعة قشّ مائلة تغطي جزءًا من شعرها المتروك بنعومة على ظهرها ..


حول عنقها قلادة بسيطة، ذهبية تحمل حروف أسمها بالعربية، وعلى معصمها سوار من لؤلؤ ناعم، يُكمل ملامح أنوثتها الجديدة التي باتت تلمع في عينيه أكثر من أيّ وقتٍ مضى ..




نظر إليها بتأمل عميق، إنها الآن له، تمامًا، لقد حصل عليها ..


مرّت في رأسه صور من الليلة الوحيدة التي جمعتهما ..


نظرة عينيها لحظة أن امتلكها، صوتها المرتبك، أنفاسها حين اختلطت بأنفاسه ..


كيف ارتجفت يداها في البداية وتشبثت به بخوف، ثم كيف استسلمت له كأنها تنتظره منذ عمر ..


كيف أغلق عليها ذراعيه بعد كل شيء، وهمس لها:


-أنا مش هاسيبك.. مهما حصل.


تلك الليلة محفورة في جسده، في ذاكرته، رغم إنها لم تكن مثالية، لكنها لحظات لا يقايضها بشيء في العالم ..


وفجأة التفتت "ليلى" عندما شعرت بنظراته تخترقها ..


نظرت إليه مباشرة، رمقته بابتسامة خجلى وقالت بنعومة:


-بتبصلي كده ليه؟


ابتسم "نديم" وقال بصوت خفيض:


-بحاول أصدق إنك بقيتي ملكي.. لحد دلوقتي حاسس إني بحلم. وخايف أصحى.


صمتت واكتفت بابتسامة صغيرة، فأردف وهو يرمقها بنظرة عميقة:


-ليلى.. البنت الصغيرة إللي جت تعيش في بيتي من وهي 3سنين.. كنت بشيلك على كتفي. وكنتي بتنامي في حضني

كنت بذاكرلك. بسرحلك شعرك.. بأكلك وأشربك وألاعبك.. ساعات كنت أوصلك المدرسة وأرجعك

أنا حبيتك إمتى وإزاي.. ماعرفش.. بس إللي متأكد منه إن حياتي ماينفعش كمل إلا معاكي.


بدأت ابتسامتها المتسعة في التلاشي تدريجيًا، ثم قالت بهدوء:


-رغم فرحتي بكلامك وبكل حاجة جديدة حصلت بينّا.. بس أنا مش قادرة أنسى ولا أسامحك على إنك اتجوزت واحدة غيري وانت بتحبني. مش قادرة أتخيل إنك لمست واحدة بنفس الطريقة إللي لمستني بيها.. إنك كنت معاها زي ما كنت معايا.. الأفكار دي بتنهش في قلبي يا نديم... بتوجعني بجد!


مد يده نحو يدها وأحكم قبضته عليها وهو يقول بجدية:


-راندا كانت أكبر غلطة عملتها في حياتي يا ليلى.. أنا كنت معاها بجسمي. بس قلبي كان معاكي انتي. ومن أول لحظة بقيتي فيها ليا بقيت ليكي إنتي كمان. بقلبي وجسمي وكل كياني.. أنا بوعدك تاني.. عنيا مش هتشوف واحدة غيرك. ولا إيدي هاتلمس ست غيرك.. وعد.


علت ابتسامتها متأثرة بكلماته، ليرد لها الابتسامة ويداعب ظهر يدها بإبهامه، ثم يسمعها تقول فجأة:


-أنا نفسي أوي أنزل البحر معاك.. عمرنا ما جربنا. رغم إننا صيفنا كتير بس ماكنتش بترضى إني أنزل البحر أصلًا!


وعبست كطفلة ضاعت منها لعبتها ..


ضحك "نديم" بخفة، ثم رد بحزم إلا إن صوته احتفظ بدفئه في آنٍ:


-ولا هارضى إنك تنزلي دلوقتي يا حبيبتي.. انسي قصة نزول البحر دي خالص.


نظرت له بصدمة قائلة:



-ليه يا نديم؟ أومال انت جايبني هنا ليه؟؟؟


أجابها بهدوء حاسم:


-جايبك عشان نغير جو ونكون على راحتنا.. نتبسط. مش عشان ألبسك مايوه وأنزلك البحر وإللي مايشتري يتفرج.. كان ممكن يحصل لو واخدين شاليه بشاطئ خاص. بس إنتي إللي قولتيلي الأوتيل هنا حلو.


زفرت "ليلى" بإنزعاج أدارت وجهها بعيدًا عنه، فابتسم قائلًا بصبر:


-طيب خلاص.. ماتزعليش أوي كده.. انتي نفسك تنزلي المايه معايا صح؟ أي مايه؟


عاودت النظر إليه فورًا وقالت:


-أي مايه إزاي يعني مش فاهمة!


رد بهدوء بينما ملامحه تحمل لمحة مكر طفيفة:


-الروف بتاع الأوتيل عليه بول كبير.. لو شوفتيه هايعجبك أوي. زي ما انتي عارفة شركتنا إللي منفذة الفندق. وأنا عارف جودة شغلي.


سألته بريبة: يعني عايز تقول إيه؟


قلب عينيه قائلًا بضجر:


-هكون عايز أقول إيه يعني؟ هاستأذن عمر يفضي الروف ونطلع أنا وإنتي.. تنزلي البول براحتك. ها.. إيه رأيك؟


ليلى بامتعامض طفولي:


-البول مش زي البحر يا نديم!


نديم بحدة: هو ده إللي عندي يا ليليى. مش عاجبك يبقى هاتفضلي قاعدة كده تتفرجي زي الشاطرة على البحر.. وممكن أسمح لك تدلدلي رجلك بس عليه.


زفرت بنفاذ صبر وقالت بغيظ:


-خلاص.. ماشي بول بول.. بس هالبس مايوه بيكيني.


ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة وقال:


-إلبسي إللي يعجبك يا روحي.. طالما أنا بس إللي هشوف.. براحتك.


أحمرّ وجهها وطأطأت رأسها في خجل، بينما ضحك بتسلية، وأستلّ هاتفه ليجري الاتصال بإبن خالته ...


_______________________________________________________


امتدت ساحة التدريب بقلب الصحراء محاطة بأسوار خرسانية، تفوح منها رائحة العرق والجهد والتصميم، الشمس تسطع بقوة، تصفع الجباه العارية ولا تجرؤ على زحزحة الرجل الواقف في منتصف الساحة ..


الرائد الأشهر بالجهاز الأمني قاطبة. "زين نصر الدين" منذ بُكرة الصباح يقف هكذا بصلابة كأن الأرض نبتته، كان يرتدي الأفرول الرسمي بلونه الداكن، مشدود على عضلاته البارزة حفرتها السنين فوق جسده كأنها شواهد من صخر أسفل جلده، عيناه المتقدتان تدوران بين أفراد فريقه بلا رحمة، في حين كانت قطرات العرق تتسلل فوق صدغه ببطء كأنها تهاب السقوط ..


يتقدم بين صفوفهم، لا يحمل سوطًا، لكنه لا يحتاج إليه؛ صوته كان السوط بذاته ..


هتف فيهم بصوت جهور مهيب:


-شد حيلك.. أنا مش شايفك بتجري.. يلا.. عايز أشوف غبار رجلك!


رفع يده وأشار لحلقات القتال بالأيدي، ثم التحق بهم، لم يكن مشرفًا فقط، بل مقاتلاً بينهم. ركض، سدد ضرباته، وقع وأعاد النهوض، شاركهم في كل حركة، فازدادوا حماسًا، فالقائد حين ينزل الميدان تُخلق الأسطورة ..


وبعد ساعة كاملة، وقف "زين" في المنتصف، أنفاسه عميقة، عيناه ثابتتان على وجوههم المرهقة، ثم قال بنبرة أهدأ ولكن مشتعلة:


-مافيش فرقة تاني هاتبقى أقوى من فرقتي. طول ما أنا بخدم الفرقة دي لازم تبقى الأفضل في الجهاز كله. انتوا مش هنا بالحظ ولا بالواسطة. لأ.. كل واحد فيكوا هنا عشان عندكم حاجة مختلفة. وأنا مش هقبل بأقل من الكفاءة في كل حاجة. التدريب مش رفاهية، ده سلاحكم الحقيقي. وإللي يكسل.. يطلع برا. ماعنديش تهاون. المهمة إللي جاية حساسة جدًا. أنا لسا ماعنديش معلومات عن الشخص اللي هنأمنه. لكن التأمين هنا مش لمجرد شخص واحد وهي دي اللعبة. انتوا صفوة فرق الأمن الوطني.. والمرة دي الاختبار صعب. كل ثانية في التدريب ده بتفرق.. كل تفصيلة بتصنع الموقف.. ولو حد هنا فاكر إن التأمين مجرد وجود يبقى غلطان. إحنا بنمنع الموت قبل ما يحصل. بثانية واحدة!


رفع أحد الأفراد يده وسأل بتردد:


-هو احنا هنأمن مين يا قائد؟


رد "زين" بصرامة دون أن يلتفت:


-قلت لكوا لسا ماعنديش معلومة. ومش مهم مين. المهم تركزوا.. والباقي ييجي لوحده.


في تلك اللحظة، انقطع الهواء من حولهم للحظة قصيرة، حين دخل رئيس الجهاز الساحة. وقف الجميع منتبهين، و تحرّك "زين" نحوه بخطوات حاسمة ..


صافحه بقوة، بحرارة الرجولة والصداقة وقال:


-نورت الساحة يافندم.


ابتسم الرئيس وقال بنبرة إعجاب صريحة:


-دي منورة بيك انت يا زين. ما شاء الله بطل من يومك. أنا فخور بيك.. من ساعة ما دخلت الجهاز وإنت رافع اسمنا لفوق.


ضحك "زين" وقال:


-بحاول على قد ما أقدر. بس حضرتك ماجيتش إنهاردة لمجرد التفتيش.. صح؟


رد الرئيس بعد أن خطف نظرة سريعة على الفريق:


-أكيد لأ. أنا جاي أبلغك شخصيًا بهوية الشخصية اللي هتأمنوها.


اقترب "زين" خطوة، نبرة صوته خفتت وهو يقول:


-مين يافندم؟


أجاب الرئيس وعيناه تلمعان بشيء من الجدية:


-وزير الخارجية السابق.. والسفير المصري الحالي في الأمم المتحدة... عاصم البدري!




___________________________________________


صعدا معًا إلى الجناح ..


دخلت "ليلى" إلى الحمام وارتدت رداء السباحة ذي القطعتين، لونه أزرق داكن، مزيّن بحواف ذهبية رفيعة تلمع تحت الضوء، يكشف من جسدها أكثر ممّا يستر، ألقت فوق كتفيها روب استحمام أبيض، طويل، لا يُخفي التفاصيل بقدر ما يزيدها إثارة ..


بينما كان نديم في الجهة الأخرى من الجناح، يرتدي سرواله الأسود القصير، يُبرز جسده الرياضي المتناسق، ويغطيه بروب مماثل، أضاف له وقارًا آسرًا ..


خرجا معًا، صامتين، متشابكي لأيدي، المصعد حملهما حتى أعلى طوابق الفندق، حيث القمّة ..


وترف لا يُوصف، أرضيات خشبية داكنة، أرائك فاخرة، نباتات استوائية تحيط بالمكان، وبركة سباحة واسعة كأنها قطعة من السماء انسكبت على الأرض ..


سارت "ليلى" أمامه بخطواتٍ خفيفة، تشع طفولة وفرح، توقفت عند حافة المسبح، نزعت الروب بحركة واحدة، كأنها تنزع عنها التردد والرهبة ..


وقف "نديم" خلفها، يلتهم تفاصيلها بعينيه، ردائها يكشف منحنياتها بدقة فادحة، والضوء المنعكس على بشرتها جعلها تبدو كأنها خرجت من حلم مستحيل، صدرها يعلو ويهبط من الإثارة والحماس، وخصرها المنحوت ينساب حتى فخذيها برشاقة خُلقت لإغوائه وحده، فهو لم ولن يسمح لها بالظهور هكذا أمام أيّ رجل غيره ..


إلتفتت له بنظرة عابرة، فارتبكت من شدة تركيزه عليها ...


-مش هاتنزل معايا؟.. قالتها بخجلٍ واضح


أومأ وهو يقترب، نزع روبه وألقاه فوق أحد الكراسي القريبة، ثم قفز في المسبح بقوة جعلت الماء يرتجّ ..


بعد لحظات، برز رأسه من الماء، ومدّ يده نحوها قائلًا من بين أنفاسه:


-تعالي.


مدت له يدها هي الأخرى ونزلت على الدرج على مهلٍ، حتى غمرتها المياه، وحين استقرّت بين ذراعيه شهقت بخفة من البرودة ..


ابتسم وهمس وهو يتأمل وجهها المضرج بحمرة طفيفة:


-مش كان أحسن لو فضلنا في الجناح؟ لو كنت شوفتك قبل ما تلبسي الروب ماكنتش سمحت لك تخرجي كده.. جبتي المايوه ده امتى؟


تلعثمت وردّت بتوتر:


-جالي هدية!


عبست ملامحه فجأة، واختفى لطفه كله بلحظة وهو يسألها بلهجة هادئة خطرة:


-نعم؟ هدية من مين؟


أجابته باضطراب واضح:


-نوران.. جابتهولي في عيد ميلادي. أصلي كنت قلت لها إن نفسي يكون عندي مايوه بيكيني!


هدأت نظراته تدريجيًا، لكن صوته ظل مشحونًا:


-آه.. نوران دي عمرها ما ريحتني والله... لو طلبت منك تقطعي معاها... هاتسمعي كلامي؟


هزّت رأسها نافية ..


فقال بإذعان ناعم، كأنه توقّع الرد:


-كنت عارف... ماشي.


ابتعد عنها قليلًا وبدأ يسبح بطول البركة برشاقة، تبعته "ليلى" حتى وصل إلى الحافة الخرسانية وفتح لها ذراعيه، جعلها أمامه، حاصرها بجسده، والماء يحيط بهما من كل الجهات ..


بدأ يُقبّلها على كتفها العاري، ثم عنقها، بشفاهه الدافئة، وهمس بين كل قُبلة وأخرى:


-انتي لسا زعلانة مني؟


تقطّعت أنفاسها، وقالت وهي تتمسّك بكتفيه:


-زعلانة من إيه؟ ليه بتقول كده؟


-أنا مش غبي يا ليلى.. أكيد حاسس بيكي... زعلتي مني بسبب طريقتي معاكي..وعندك حق.ما راعتش إنها أول مرة ليكي... أنا آسف!


-أنا.. مش زعلانة. بجد... مش... مش ده العادي؟


توقّف عن تقبيلها، رفع عينيه ونظر لها مباشرة قائلًا:


-لأ... كان لازم أكون أرقّ من كده.. بس حسيت إن القدر معاندني... وخفت تضيعي مني.. ف ماكنتش شايف غير إني لازم أخدك بأي تمن.


نظرت له بدهشة، وسألته بصوتٍ منخفض:


-ليه فكرت كده؟ أنا طول عمري معاك... وليك.. عمري ما كنت ولا هكون لحد غيرك!


كان يحدّق في عينيها، وكأن كل ما قيل لا يكفي، أحاط خصرها بيد، ووجهها باليد الأخرى، واقترب منها بهدوء مربك، حتى التصقت أنفاسه الساخنة ببشرتها المرتجفة ..


ثم قبّلها ...


قبلة طويلة، عميقة، جائعة، كل ما لم يُقال، كل ما لم أحسّه تجاهها الماضي والحاضر، تفجّر فيها ..


ضمّته مطوّقة عنقه، وغاصت في القبلة كأنها تغرق فيه ولا تريد خلاصًا ..


الماء يحيط بهما، وداخل هذا الحنين المنصهر، كانت "ليلى" تذوب ..


وتتوالى القبلات حتى آلمتها شفتاها ..


واحدة طويلة، واحدة خاطفة، واحدة حائرة، وأخرى جائعة ..


مزيج من الشوق والعطش، من الماضي والآن، من كل شيء حرما منه ..


إلى أن توقّف كلاهما عن التقبيل أخيرًا، ظلا قريبين، أنفاسهما متشابكة بحرارة، وجباههما تتلامس ..


همس في أذنها بصوت منخفض دافئ، وقد التصق صدره بكتفها:


-تعالي يلا... عايز أعتذر لك عن أول مرة.. عايزك تنسي أول مرة أصلًا. المرة دي هاتكون بالطريقة الصح.


عضّت شفتها السفلى بخجل، وابتسمت له بعينيها قبل شفتاها، وكالعادة منحته ثقتها العمياء ..


تركته يقودها خارج الماء، يلفّ حول جسدها الرطب روب الاستحمام بعناية كما لو كان يغلف هدية ثمينة، جفّف وجهها براحة كفه، وبحركات هادئة لبس روبه هو الآخر، ثم أخذ يدها وسارا معًا نحو المصعد ..


لم يتحدثا خلال الطريق، لكن الأعين كانت تبوح بكل شيء، وحين وصلا إلى جناحهما، ما إن انغلق الباب خلفهما، حتى تلاقت الشفاه من جديد ..


قبلة طويلة، أعمق من سابقتها، فيها وله واشتياق، شبق متبادل تخطّى كل الحدود، وفيها ما لا تصفه الكلمات ..


كان يُقبّلها كما لو أنه يحاول محو كل ألمٍ قديم، كل لحظة مرت دونها، وكان يُقبلها كما لو أنها الهواء الوحيد الذي يتنفسه ..


بدأت أصابعه تفكّ لها عُقدة الروب ببطء، يخلعه عنها برقة وكأنها وردة لا تحتمل اللمس، ثم خلع روبه هو الآخر، واقتادها إلى السرير الذي بدا لهما ملاذًا خاصًا، كأنهما وحدهما في هذا العالم، لا وجود لشيء سواهما ..


كانت تتنفس بصوتٍ متقطع، تتلوّن وجنتاها، وكل خلية فيها تنتفض تحت أنامله خلال الدقائق التالية ..


كم تمنّت لو أن بإمكانها السيطرة على نفسها، ولكن معه، لم يكن هذا خيارٌ متاح، لم تسيطر مطلقًا حين انتزع منها وبسهولة ما لم تتخيّل بأنه يسكنها، تفجّرت أنوثتها بين ذراعيه كما لم تعرفها من قبل، لم تصدق، ولم تعد تفكر أو تركز على أيّ شيء سواه ..


وحين عاد لشفتيها، كان قد احتواها بالكامل في حركة واحدة، اختلطت أنفاسهما، وتشابكت أعينهما، وتلاشى العالم من حولهما ..


لم يكن كأول مرة ..


كان أكثر رقة، أكثر احتواء، أكثر حباً ..


همسات "ليلى" ارتفعت، وأصوات تنهداتها امتزجت بصوته الرجولي بنغمات لم تسمعها منه قبل الآن، كأنهما يكتبان معًا سيمفونية لا تُعزف إلا في الظلام، لا تُفهم إلا بالشعور ..


مرّ الوقت.. وهدأ كل شيء ...


الآن هي مستلقية فوق صدره، منهكة، لكنها غارقة في سكينة تختبرها لأول مرة بحياتها ..


كان يُمرر يده في شعرها، يُقبّل جبينها، يلامس خدّها بشفاهه بين الحين والآخر، ويهمس بصوتٍ غارق في حبّها:


-إنتي حياتي كلها يا لولّا... أنا مستعد أموت عشانك!


رفعت يدها بسرعة، وضغطت على وجهه براحة كفها المرتجفة وهي بجزع:


-بعد الشر عليك... أوعى تقول كده تاني يا نديم.. انت سامع؟


ابتسم لها، ثم أدار وجهه ليلثم جبينها بقبلة حانية مطوّلة... لكن لحظة الدفء تلك لم تكتمل ..


صوت مفاجئ... مصدوم... آتٍ من ناحية باب الجناح الذي إنفتح في غفلةٍ منهما:


-نديـــم!................................................................................................................................................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!



( 12 )


_ لها فقط _ :


-نديـــــــم!


صوتها شقّ السكون كالسكين، وارتجّت الغرفة، وتحوّل دفء اللحظة إلى صقيع أشيب ..


وقفت "راندا" عند مدخل الجناح متجمّدة، أنفاسها لاهثة، وعيناها متّسعتان عن آخرهما تتدفق منهما نظرات مصدومة ..


رأت "ليلى" في أحضان زوجها، في أحضان "نديم" ..


عارية تمامًا، تنتفض وتغطّي جسدها المرتجف بملاءة السرير.. كذلك "نديم" عارٍ.. بلا غطاء.. بلا تبرير ...


مرّت ثوانٍ كأنها دهور، الزمن توقّف. الهواء داخل الغرفة أصبح ثقيلًا، خانقًا، نهض "نديم" وقام عن السرير دفعة واحدة وهو يرتدي سرواله الداخلي مسرعًا، وجهه فقد لونه، لكن عينيه ظلّتا على نفس القوة والقسوة المعهودة ..


صاح بخشونة وهو يتقدم نحو "راندا" بخطوات ثابتة:


-إنتي إيه إللي جابك؟ ودخلتي هنا إزاي؟؟؟


إلا إن "راندا" لم تردّ، كانت عيناها مشدودتين نحو "ليلى" المكوّرة على نفسها، تمسك بالملاءة كأنها تتشبّث بطوق النجاة، عاودت "راندا" النظر إلى راندا "نديم" وصاحت بصوتٍ انفجر من حنجرتها كصراخ امرأة تحترق:


-ده إللي فارق معاك؟ إيه إللي جابني ودخلت إزاي؟ ومش هامّك القرف إللي شايفاه قدامي ده؟؟


واندفعت كالمجنونة ناحية السرير، وجهها يشتعل بالدم، ودموعها تترقرق رغم الغضب وهي تصيح بجنون:


“إنت والسافلة دي.. إنت وبنت عمّك.. انت وهي في سرير واحد عريانيــــن ...


انكمشت "ليلى" أكثر مع اشتداد صراخ "راندا". تغرق وجهها في وسادة السرير، أصابعها ترتعش وهي تحاول أن تغطي جسدها كله بالملاءة الخفيفة ..


بينما "نديم" يقف في وجه "راندا". جسده العاري لا يتزحزح، كل ما يعنيه الآن أن يمنعها من الاقتراب من "ليلى" والمساس بها ..


مدّ ذراعه ومنعها من التقدم، ثم أمسكها من معصمها بقسوة ...


-ماتجيبيش سيرتها على لسانك. إنتي سامعة؟.. قالها بصوت منخفض لكنه مزلزل، وكأن كل حرف فيه يحمل وعيدًا


صرخت "راندا" بينما دموعها تسيل بغضب هستيري:


-بتدافع عنها؟ بتدافع عن إللي نامت معاك وهي عارفة إنك متجوز؟ آه صح. أنا ليه مستغربة؟ من أول يوم عرفتك فيه وأنا شاكة إن في حاجة بينك وبينها… بس ماكنتش أتخيل الحقارة توصل بيك انت والوسـ×× د ...


قبل أن تتم جملتها كانت الصفعة قد سبقتها ..


رفع "نديم" يده وصفعها صفعة صاخبة، ارتدّ لها وجهها، وتجمّدت في مكانها، تلهث وتبكي بصوت مكتوم ..


-قلت لك. وحذّرتك. ماتجيبيش سيرتها على لسانك!.. ثم أضاف بصوتٍ أشدّ حسمًا، كأنما يرمي عليها قنبلة مدمّرة:


-ليلى مراتي. سامعة يا راندا؟ مراتـي. وإنتي… هاتبقي طليقتي قريب جدًا.


شهقت "راندا" وقد تراجعت خطوة، تحملق فيه بقوة محاولة تصديق ما سمعت.. ورددت:


-انت.. اتجوزتها؟ اتجوزت عليا يا نديم؟؟؟


أطلق "نديم" ضحكة فجّة، ثم اقترب منها خطوة بخطوة، نظر في عينيها، وقال بصوتٍ يخلو من أيّ ذرة شفقة:


-ما اسمهاش اتجوزت عليكي. اسمها إني اتغابيت لما اتجوزتك وأنا قلبي مع واحدة تانية. انتي خدتي مكانها.. وأنا رجّعته ليها. ليلى مش بس مراتي… ليلى حبيبتي. الوحيدة إللي قلبي حبها.


لم تستطع "راندا" أن تنطق بحرف، وجهها مزيجًا من الذهول والانكسار، ودموعها تسيل بلا تحفظ ..


لكنه لم ينتظر ولم تأخذه بها شفقة حتى، أمسكها من ذراعها دفعها نحو باب الجناح وفتحه وهو يدفعها للخارج، ثم قال بتحذير حاد:


-تمشي حالًا.. ترجعي بيت أبوكي. ومن هنا ورايح اسم ليلى مايطلعش من بؤك. ولا حتى بينك وبين نفسك. فاهمة؟ لو عايزة إللي بينّا يخلص باحترام.. اسكتي. وأنا هانسى اللقطة إللي عملتيها إنهاردة. اوعي تنسي أنا قلت لك إيه. إنتي عارفاني… مابهزرش!!


ثم أغلق الباب خلفها بإحكام ..


استدار وهو يتنفس بصعوبة، كأن جسده كله يئن من التوتر والانفجار الذي دوى منذ دقائق ..


عاد إلى الداخل ونظر نحو السرير، لا زالت "ليلى" مكوّرة على نفسها، صوت بكائها مكبوت في الوسادة، تنهار بصمت، لكن جسدها كله يهتز ..


اقترب منها بسرعة، جلس على طرف السرير، سحبها لحضنه رغم ارتجافها، ضمّها لصدره، يداه تغطي جسدها وشفتيه تهمسان قرب أذنها:


-ليلى… ليلى حبيبتي.. في إيه مالك؟ ماحصلش حاجة.. بس اهدي. أنا معاكي. أنا جنبك… مافيش حاجة ممكن تحصلك وأنا موجود. مستحيل اسمح لحد يلمسك.


تعلّقت "ليلى" بعنقه رافعة رأسها لتنظر إليه، لفحت أنفاسها المرتعشة ذقنه وهي تقول من بين دموعها:


-هو إللي إحنا عملناه ده غلط يا نديم؟


قطب حاجبيه بشدة قائلًا بصوت أجش:


-هو إيه ده إللي غلط؟ لأ طبعًا.. إنتي مراتي يا ليلى. وإللي عملناه ده حقنا. تفتكري لو كانت راندا مكانك كانت ممكن تقول زيك كده؟

اوعي تفكري كده تاني. مافيش حاجة غلط حصلت بينّا.. بالعكس. ده كان لازم يحصل من بدري. إنتي إللي كنتي لازم تبقي مراتي من الأول مش هي.


واصلت النظر إليه وقالت بضعف كبير:


-أنا خايفة!


-من إيه؟؟


هزت رأسها مرددة بصوت يخنقه النشيج:


-من كل حاجة.. من كل حاجة يا نديم!


زفر "نديم" مطوّلًا وضمّها إليه بقوة، مسح على رأسها بحنو وقال بهدوء:


-ماتخافيش يا ليلى.. طول ما إنتي في حضني ماتخافيش.. وعمرك ما هاتبعدي عن حضني يوم واحد.. ماتخافيش يا حبيبتي!


________________________________________________________________


نزلت "راندا" درجات السلم واحدةً تلو الأخرى، بخطوات مرتعشة، وكأنها تفرّ من انهيارٍ أكبر ينتظرها إن استمرّت واقفة أمام الجناح الذي شهد لحظات الخزي والخيانة ..


آثرت الهبوط على المصعد، ربّما لتهرب من إحساسها بالاختناق، أو لتجد في الحركة فرصة لالتقاط أنفاسها التي تسارعت كأنها تهرول داخلها دون وجهة ..


كان شعرها مبلولاً بعرقٍ باردٍ التصق بجبهتها، وكحل عينيها قد سال بفعل الدموع، فترك على وجهها أثر امرأة اصطدم قلبها بجدار الحقيقة الأليمة فجأة، نظراتها شاردة، كأنها لا ترى الدرجات التي تهبطها، بل تهوى داخل نفسها، داخل لحظة واحدة حطّمت فيها كل تصوّرها عن الحب والأمان ..


وفي أسفل الدرج، كان “عمر البدري” ينتظر، جالسًا على إحدى الدرجات، كتفاه منحنيتان قليلًا، ووجهه شارد، لكنه ما إن لمحها حتى نهض على الفور، وكأن شيئًا صفعه على وجهه ..


حدّق فيها ..


ذُهل ..


تجمّدت عيناه عليها، لم يتوقّع هذا المشهد، بل لم يكن مستعدًا لأن يرى "راندا منصور" أيقونة الأنوثة والكبرياء بهذا الشكل ..


الوجه الذي رآه قبل دقائق كان مشدودًا واثقًا، متماسكًا بقوةٍ حتى وإن كانت متكلّفة، لكنه قد تحوّل الآن إلى وجهٍ آخر ..


وجه مكسور، متّسع العينين، تائه، وجه امرأة خرجت من قلب عاصفة لا تزال تُمزّق بقاياها ..


في تلك اللحظة.. عاد ذهنه إلى الوراء ..


________________________________


قبل نصف ساعة تقريبًا ...


وصلت "راندا" إلى فندق "عمر البدري" ابن خالة زوجها متبعة فتنة "مشيرة" التي أفشت لها تفاصيل رحلة "نديم" و"ليلى" ..


كانت ترتدي بذلة أنيقة بلون عاجي، شعرها مرفوع بعناية كعادتها، وملامحها مرسومة بإتقان بالقليل من مساحيق التجميل، في المجمل بدت هادئة لكن عيناها وحدهما كشفتا كل شيء ..


شرودٌ، توتر، وهزيمة لا تزال تقاومها، حتى الآن ..


مرّت مسرعةً عبر ردهة الفندق الفاخرة، حتى بلغت مكتب الاستقبال، وضعت حقيبتها الصغيرة على الكاونتر، وقالت دون تمهيد بلهجتها الأرستقراطية الفطرية:


-s'il te plait. عايزة أعرف رقم غرفة نديم الراعي!


رفعت الموظفة عينيها نحوها، وردّت بلطف مهني:


-حضرتك تقربيه؟


أخرجت "راندا" ورقة مطويّة من حقيبتها، فردّتها على سطح المكتب قائلة بحزم:


-أنا مراته.. ودي قسيمة الجواز.


توقّفت الموظفة للحظة، قرأت الوثيقة سريعًا، ثم ابتسمت بحذر قائلة:


-لحظات يا فندم!


ثم انسحبت إلى غرفة جانبية ..


في تلك اللحظة، ظهر "عمر البدري" عرضيًا بالجوار، كان يحمل كوب قهوة بيده ويتجه للخارج عيناه تائهتان بين الوجوه.. حتى وقعتا على "راندا" ..


تجمّد ..


الزمن توقف للحظةٍ بالنسبة له، ثم سرعان ما بدّل تعبيره، وأخفى صدمته بابتسامة متفاجئة وهو يقترب منها هاتفًا:


-معقول راندا! إيه المفاجأة دي؟


استدارت إليه، نظرت إليه كأنها بالكاد تراه، ثم ابتسمت مجاملة وقالت:


-هاي ياعمر.. إزيك!


هز "عمر" رأسه قائلًا بذات الابتسامة:


-ازيك إنتي؟ جاية لوحدك ولا إيه؟


-آه. جاية لنديم.. هو في أوضته؟ ولا خرج؟


ارتبك "عمر" لوهلة، نظر حوله، ثم ردّ وهو يحاول أن يهدّئ من ارتباكه:


-ماعرفش بصراحة. بس ما تيجي نشرب حاجة. وترتاحي شوية من السفر.. وأنا أكلمه أشوفه فين؟


عادت الموظفة الآن وهي تحمل بطاقة المفتاح الاحتياطي، دفعته إلى "راندا" قائلة بابتسامة:


-اتفضلي يافندم.. نسخة من مفتاح الجناح.


مدّت "راندا" يدها وأخذت البطاقة، وشكرتها بلطفٍ، ثم التفتت إلى "عمر" ثانيةً وقالت ببرود:


-اتبسطت إني شوفتك يا عمر. هاطلع ارتاح شوية في أوضة نديم… وبعدين هاشوفك تاني إن شاء الله.. باي باي!


ومشت من أمامه، ثابتة الخطوة، بينما "عمر" ظل واقفًا في مكانه، حائرًا، عاجزًا عن اللحاق بها أو منعها، كأن الكلمات قد تجمّدت في حلقه ..


أخرج هاتفه على عجل، ضغط رقم "نديم" متصلًا به، لكنه وجده مغلقًا ..


رفع الهاتف عن أذنه وتمتم بين أنفاسه بغيظٍ:


-غبي.. غبي يا نديم!!!

__________________________


أفاق "عمر" من الذكرى القريبة، في نفس اللحظة وصلت "راندا" إلى أسفل الدرج، وقفت أمامه على الأرضية الرخامية اللامعة، تنفّست ببطء، وكأنها تكتم شهقة ..


ظلّ "عمر" واقفًا، يحدّق فيها، بين الدهشة والشفقة، بين الرغبة في مواساتها.. والعجز عن التقدّم خطوة ..


لم تعد كما كانت، انكسارها واضح، وصمتها أعلى من أيّ صراخ.. هل هذه هي حقًا "راندا منصور"؟


ماذا فعل ابن خالته بهذه المرأة بحق الله؟ إلى أيّ نسخة حوّلها؟


ولماذا؟


إلتقت عيناها بعينيه للحظة.. وفهم "عمر" ..


من نظرة واحدة فقط، فهم كل شيء، شفتيه انفرجتا قليلًا، وجفنه الأسفل ارتجف ..


ارتسم على وجهه الجزع، لم يكن الألم فيها وحدها، بل امتدّ إلى قلبه هو أيضًا، فهو أعرف الناس بشعور الخيانة، ويعلم جيدًا أثرها، كما أنه لم يتمناها لأحد، خاصةً لأمرأة مثلها ..


لم يكن يتخيّل أن تتحطم "راندا" بهذا الشكل، أو إنها واقعة بحب "نديم" إلى هذه الدرجة، لقد نجح بكسرها عن جدارة ..


وهي في المقابل، تجنّبت النظر إليه، كأنّ عينيه تحملان اعترافًا ما لا تريد أن تراه، لا تريد أن تسمعه من أحد ..


اقترب أكثر، وصوته خرج هامسًا، مجللًا بالقلق:


-راندا… إنتي كويسة؟


رفعت عينيها إليه ببطء، رمقته بنظرة واحدة، مشبّعة بالخيانة والانكسار، وقالت بصوت مبحوح:


-إنت كنت عارف؟


لم يُجب على الفور، بل ساد بينهما صمت كثيف، كأنه يفكر مرتين قبل أن يتحدّث إليها عن هذا، ثم حسم أمره وقال بصوته العميق وقد تثاقلت عليه الكلمات:


-الأعمى بس هو إللي مايقدرش يشوف حقيقة علاقة نديم وليلى يا راندا.. كل الناس كانت عارفة.. وإنتي كمان… إنتي كمان كنتي عارفة.


نظرت إليه بمرارة، بعينين أثقلتهما الخيبة، وراحت دموعها تنهمر بلا انقطاع ..


لم تحتاج إلى الصراخ، ولا اللوم، كان البكاء وحده كافيًا لقول كل شيء بداخلها ..


وفجأة، تأرجحت في مكانها، كأن الأرض قد انسحبت من تحت قدميها ..


مدّت يدها دون وعي، تتعلّق بالهواء، وجسدها بدأ يهوى ببطء، لولا "عمر" الذي  اندفع نحوها في لحظة، مدّ ذراعيه وإلتقطها قبل أن ترتطم بالأرض وهو يهتف بقلق:


-راانــدااا !


ضمّها إلى صدره، وحملها دون تردّد، وسط نظرات عابرة من بعض نزلاء الفندق دون أن يلتفت لأحد ..


ركض بها، جسدها ساكن، أنفاسها متقطعة، وذراعها متدلٍ على جانب كتفه ..


شقّ بها الطريق سريعًا، وعيناه تتقدان بنار الاستعجال، حتى بلغ باب الاستراحة الخاصة به، فتح الباب بعجلة ودخل ..


كانت هناك أريكة عريضة تصلح كسرير، أنزلها برفقٍ عليها، وأسند رأسها إلى الوسادة، ثم استقام ويداه ترتجفان وهو يخرج هاتفه ..


ضغط رقم معيّن وصوته خرج حادًا قاطعًا:


-آلو! اطلبيلي الدكتور محمود فورًا. هاتيه على الريست هاوس بتاعي حالًا… دلوقتي حالًا!


ثم ألقى الهاتف على الطاولة، وعاد ينحني بجزعه فوقها، نظر إلى ملامحها الشاحبة، شعرها المبعثر، وجسدها المنهك ..


امتد الحزن في صدره كأمواجٍ بلا شاطئ، لم يكن ينقصه هذا، لماذا جئتِ يا "راندا"؟


لماذا؟


________________________________________


المكان: مطار القاهرة الدولي – صالة كبار الزوّار – 

الزمان: تمام الخامسة مساءًأ


هبط الليل على المطار، فاختلط بريق الأضواء بانعكاسات الزجاج المُعقّم، وهدير الطائرات تناثر كصدى بعيد، أمام بوابة الخروج، اصطفّ صفٌ من رجال الحرس بالزيّ الرسمي، كأنهم جدارٌ من الصمت والانضباط ..


على جانب السجادة الحمراء، وقف الرائد "زين نصر الدين" بجسده المنتصب المفتول كتمثال من حديد، يرتدي زيّه الرسمي الداكن، وقبّعة رأس تغطّي نصف وجهه، عينيه تمشطان المكان في صمت مدرّب، إلى جواره رئيس الجهاز، اللواء "صفوت نصير" بملامح قاسية ونظرة لا تُقرأ ..


إنفتح باب الطائرة الخاصة وهبط منها الوافد المنتظر.. السفير المصري "عاصم البدري"..

 

رجل جاوز الخمسين من عمره، أنيق الطلّة، ملامحه الوسيمة حيادية التعبير، وجهه دبلوماسي لا يفصح عن شيء، لكن عينيه تفحّصت كل التفاصيل في ثانية قبل أن يطوي آخر درج الطائرة ..


اقترب رئيس الجهاز، مدّ يده بابتسامة محسوبة يحييه:


-حمدلله على السلامة.. نوّرت مصر يا سعادة السفير.


صافحه "عاصم" بدوره قائلًا بابتسامة دبلوماسية:


-مصر منوّرة دايمًا بأهلها يا سيادة اللوا.. يااااه.. دي وحشاني بشكل. أنا مانزلتش من سنين!


-بلدك بترحب بيك يافندم وجاهزة لإستقبالك من اللحظة دي! .. وتابع مشيرًا نحو "زين" خلفه:


-اسمحلي أقدّم لك الرائد زين نصر الدين… من إنهاردة هو المسؤول عن تأمين حضرتك في كل حركة وكل خطوة طول فترة وجودك في البلد.


ينظر "عصام" نحو "زين" باهتمام، ثم يمد يده ليصافحه قائلًا:


-أهلاً بيك يا سيادة رائد.. باين عليك بطل. ومحدش يقلق في وجودك.


يصافحه "زين" بثبات، وعينه في عينه قائلًا:


-حضرتك في رقبتنا يافندم.. أطمن. أنا مش بسيب حاجة للصدف.


أومأ له "عاصم".. بينما قال اللواء "صفوت" بهدوء:


-حضرتك هاتتفضل دلوقتي مع الرائد زين. في موكب خاص برا الصالة هاينقل حضرتك من المطار لمقر إقامتك. وأنا هاطلع من البوابة الرئيسية.


استوقفه "عاصم" قائلًا بجدية:


-أنا محتاج طيّارة تانية قبل ما اتنقل مقر إقامتي.. لازم أسافر الغردقة عشان أجيب بنتي.


عبس "صفوت" وهو يرد مجفلًا:


-أيوة يافندم بس احنا لازم نرتب للرحلة قبلها بفترة.. سيادتك مستهدف!


عاصم بصرامة: أنا ماشوفتش بنتي من 3 سنين.. والرحلة مش مالهاش أيّ ضرر غير عليا وأنا موافق. بس هشوف بنتي إنهاردة!


رفع "صفوت" حاجبيه حائرًا، بينما تدخل "زين" قائلًا بهدوء:


-بعد إذن معاليك.. ممكن تقولّي مكان بنت حضرتك وأنا بنفسي هاروح أجيبها. بس بعد ما أنقلك مقر إقامتك.


نظر له "عاصم" مطوّلًا كأنه يفكر، ثم قال بثبات:


-تمام.. ماعنديش مانع.. بس هي مع أخوها وممكن مايرضاش يسيبها لك بسهولة.


ابتسم "زين" بثقة وقال:


-حضرتك إديني الإذن وسيب الباقي عليا.. وإن شاء الله بنتك هاتكون في حضنك الليلة! ....................................................................................................................................................................................................................................................... !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...

_ براءة الغزال _ :



لا تزال "راندا" ممددة على الأريكة، جفناها مغمضان، وجسدها ساكن، إلا من أنفاس متقطعة بدأت تعود إلى انتظامها ..


بينما الطبيب يباشر فحصه الروتيني عليها، فابتعد عمر قليلًا ليمنحه مساحته الكاملة، اكتفى بمراقبة المشهد بصمتٍ والقلق يعلو ملامحه ..


وبعد دقائق من الفحص السريع، فتحت "راندا" عينيها ببطء، رمشت مرة، ثم الثانية، ثم نظرت حولها في ارتباكٍ، ارتسمت علامات التيّقظ على وجهها، ووضعت يدها على جبينها كما لو كانت تستعيد توازن ذاكرتها قبل أن تنطق ...


-أنا فين؟ .. تمتمت "راندا" بصوتٍ غائم


اقترب "عمر منها قليلًا، ابتسم ابتسامة باهتة وقال:


-حمد لله على السلامة.. ماتقلقيش انتي بخير.. صح يا دكتور؟


وإلتفت نحو الطبيب الأربعيني، ليرد الأخير ببشاشة:


-صح طبعًا يا مستر عمر.. المدام زي الفل وشوية وتقدر تقوم عادي جدًا.


لكنها أرادت أن تجلس في الحال، إلا إن "عمر" أسرع وأشار لها وهو يدفع بكتفها برفق:


-استني شوية. خليكي مرتاحة!


أومأت برأسها دون رد وأراحت ظهره إلى الوسادة ثانيةً، بينما الطبيب انحنى يلتقط حقيبته ثم أشار لـ"عمر" بالعروج إلى زاوية جانبية من الغرفة ..


تبع "عمر" الإشارة، وقف معه على بُعد خطوات من الأريكة، ثم سأله:


-طمني يا دكتور.. فيها حاجة؟


جاوبه الطبيب بابتسامة خفيفة:


-مافيش حاجة تقلق أطمن.. بس واضح إنها كانت تحت ضغط عصبي شديد. إللي حصل ده أقرب لانهيار مؤقت نتيجة توتر نفسي حاد. محتاجة راحة وهدوء. ويفضل تبعد شوية عن أي صدمة أو مواجهة الفترة دي.


أومأ "عمر" بامتنان، وصافحه قائلًا:


-متشكر يا دكتور محمود.. تعبتك معايا.


-لا شكر على واجب يا عمر.. وبعدين احنا اصحاب مافيش بينا الكلام ده. يلا بالإذن بقى.


وغادر الطبيب، ليعود "عمر" إلى "راندا" التي كانت قد جلست الآن وتمدّ يدها لتعدل ثيابها ..


ابتسم لها بهدوء، لكنها بادرت بتحريك جسدها وكأنها تهمّ بالنهوض، ليقول بسرعة:


-هاتقومى ليه دلوقتي؟ خليكي مرتاحة شوية كمان.


ردّت بصوت متعب يحمل عزيمة مكسورة:


-أنا ماقلتش لبابا إني جاية هنا.. لازم أرجع. ولازم يعرف إللي حصل.


عبست ملامحه، وحدّق فيها بقلق قائلًا:


-وهو إيه إللي حصل يا راندا؟ وهاتقوليله إيه؟ احنا مش عايزين فضايح... أرجوكي!



نظرت إليه بحدّة، عيناها لا تزالان تلمعان بالدموع، ثم ردّت بانفعال:


-نديم خانّي يا عمر! ومش بس كده.. ده وقف قصادي بمنتهى البجاحة وقال إنه هايطلقني.

وأنا فعلاً عايزاه يطلقني. خلاص.. مستحيل أعيش أصلًا معاه بعد إللي شوفته بعيني.


أطرق "عمر" رأسه لثوانٍ، ثم رفع رأسه لها ثانيةً وقال بهدوء:


-أنا معاكي إن نديم غلط. غلط كبير كمان.. بس الغلط مايقعش على ليلى معاه يا راندا. ليلى لسا صغيرة. اللوم كله على نديم. أرجوكي. لو عايزة تنهي علاقتك بيه. ده حقك..لكن ماتحاوليش تبوّظي سمعة ليلى.. أرجوكي!


نظرت إليه بدهشة وقالت باستنكارٍ:


-إنت كمان بتدافع عنها يا عمر؟


هزّ رأسه نافيًا، وقال مبررًا:


-مش بدافع صدقيني. قلت لك ليلى غلطت. بس في نفس الوقت مش هاعلّق لها المشَنقة لأني عارف ابن خالتي وفاهم دماغه. يا راندا افهمي.. ليلى مش بس بتحب نديم. دي اتربّت على إيده. كبرت معاه. بتثق فيه أكتر من أي حد.. يعني نديم مسيطر على عقلها. لما أقنعها بإللي بينهم مافكرتش لأنها واثقة إنه بيعمل الصح ايمًا.. ليلى ضحيّة... زيك يا راندا.




كادت "راندا" تفقد عقلها، قفزت من مكانها واقفة وقد ترنّحت للحظة، عيناها متسعتان بالغضب والذهول وهي تصيح:


-مين دي إللي ضحيّة؟ إنت ماشوفتش إللي أنا شوفته يا عمر! دي كانت.. كانت في حضنه.. وكانت ...


بترت عبارتها، الكلمات اختنقت في حلقها، بينما الصورة التي رآتها لا تزال تنهش قلبها وتحرق عقلها ..


اقترب "عمر" منها خطوة، وقال بصوتٍ هادئ متألم:


-أنا فاهمك... فاهمك يا راندا. بس صدقيني. صدقيني لما أقولك.. ليلى ضحيّة.. ونديم نفسه هايندم على إللي عمله ده. هو لسا مش مدرك المصيبة بس.


رمقته بنظرة باردة مشبّعة بالخذلان، ثم قالت:


-وأنا مش ملزمة أُسهّل عليه أو عليها أي حاجة. الخاين يتحمل عملته. وأنا هاطّلق. وهقول أسبابي يا عمر..

عن إذنك!


استدارت لتغادر، فمدّ يده سريعًا وأمسك بمعصمها قائلًا:


-راحة فين؟ أنا مش هاسيبك تمشي لوحدك وإنتي كده!


انتزعت يدها من قبضته بلطف وقالت بصلابة:


-لازم أرجع القاهرة دلوقتي حالًا. ماينفعش أستنى هنا أكتر من كده.


نظر إليها لحظة كأنه يفكر في أمرٍ ما، ثم هزّ رأسه وقال بحزم:


-طيب... هاوصلك.. هاوصلك لحد بيتك كمان.. مش هاسيبك تمشي لوحدك!


_____________________________________________________________


تزامنًا مع خروجهما، عبر "زين نصر الدين" بوابة الفندق الداخلية بجوار "عمر البدري" مباشرةً، لكن كلاهما لا يعرفان 


اتجه "زين" من فوره تجاه مكتب الاستقبال بخطى واثقة، حذاؤه الجلدي يقرع الأرض الرخامية بإيقاعٍ ثابت، عينيه الصارمتين تمسحان المكان بنظرة رجلٍ لا يُفوّت تفصيلة ..


اقترب من مكتب الاستقبال، حيث وقفت موظفة في أواخر العشرينات، ترتدي بذلة أنيقة بلون خمري، وابتسامة مهنية لا تنكسر ...


-مساء الخير.. بسأل عن الآنسة ريهام عاصم البدري. ألاقيها فين من فضلك؟


رفعت الموظفة رأسها، لم تُجبه على الفور، بل تأملت هيئته لحظة قبل أن تسأل بتحفظ:


-حضرتك مين يا فندم؟


أخرج "زين" بطاقته الميري في الحال ووضعها أمامها بهدوء، ثم قال بنبرة ثابتة:


-أنا الرائد زين نصر الدين.. من الداخلية!


تغيّر وجهها فورًا، عدلت وقفتها بانضباط أكير وانحنت برأسها باحترام قائلة:


-أهلاً وسهلاً بسيادتك.. لحظة واحدة بس ..


ومدت يدها إلى سماعة الهاتف، ضغطت زرًا، وانتظرت، بينما راح "زين" ينظر إلى بهو الفندق في صمتٍ ثقيل، يتابع بعيناه حركة العاملين والضيوف، والهدوء المصطنع الذي يغلّف كل شيء ..


تحدثت الموظفة لدقائق قليلة بصوتٍ خافت، ثم أنهت المكالمة وأعادت السماعة إلى مكانها، التفتت إليه من جديد وقالت بلباقةٍ:


-الآنسة ريري فـ آ ...


زين مقاطعًا : ريري!!


حاجباه ينعقدان في دهشة لغرابة الاسم ..


أومأت الموظفة بثقة وقالت:


-أيوه يا فندم... إحنا هنا كلنا بنناديها كده. الآنسة ريري موجودة حالًا في الـ Adventure Zone مع الناني بتاعتها.. بتشارك في Color Festival للأطفال. تحب أبعت مع حضرتك حد يوصلك عندها؟




رد "زين" ولا يزال مأخوذًا بغرابة ما يسمع:


-آه... ياريت.


أشارت الموظفة بيدها إلى أحد العاملين بالجوار، شاب يرتدي زيّ الفندق الأسود ويحمل بطاقة تعريف فضية فوق سترته، أمرته بلطفٍ:


-وصّل سيادة الرائد عند الآنسة ريري.. حالًا.


انحنى الشاب قليلًا، وأشار بيده مرددًا باحترامٍ:


-من هنا يافندم. اتفضل معايا!


تحرك "زين" خلفه، خطواته الثقيلة الواسعة تسير فوق سجادة سميكة لا تمتص صرامة حضوره، وملامحه التي ما زالت متوجسة لما يجري هنا، الرجل قال له بأن ابنته بالغة، فلماذا يؤكد من هنا بأنها محض طفلة؟


سيرى الآن!


____________________________________________________


أفضل وسيلة للدفاع.. الهجوم!


هذا المبدأ الذي سار عليه منذ حداثته، لا يبدله حتى في خضم مرحلته الرجولية المكتملة، لأجل حبّه سيفعل أيّ شيء، سيدافع، بل سيهاجم كل من تسوّل له نفسه الاقتراب من حرم ذلك العشق، حتى لو اضطر لتدنيسه عن آخره، لأنه لا يستطيع تخيّل الباقي من عمره دونها ..


الآن ارتأى أن الهروب بعقلها من التفكير في ما حدث هو الحل الأمثل لتخفيف وقع الصدمات عليها، أخذها "نديم" إلى الحمام دون تفكير، البخار يملأ الفراغ حولهما، يعتم المرايا، ويطمس الملامح، كأنّه يحاول ستر ما هتك بالفعل ..


صوت رذاذ الماء المنهمر فوق المغطس بدا كأنّه إيقاع داخلي، إيقاع لقلوبٍ مضطربة، لعقلين أحدهما يسأل "ماذا فعلنا؟".. والآخر يهمس "لا تفكري" ..


كانت "ليلى" واقفة تحت الدش مباشرةً، الماء ينساب فوق جسدها كما لو أنه يحاول غسل عارها ..


عيناها ساكنتان، تحدّقان في اللا شيء، جسدها يتحرّك فقط بضغط الماء، أما روحها فكانت عالقة هناك، في اللحظة التي ضُبطت فيها بين أحضان "نديم". في اللحظة التي سمعت أحطّ النعوت توّجه لها، كما لو أنها ليست زوجته، كما لو أنها.. عاهرته!


يلج "نديم" إلى المغطس في هذه اللحظة، لم يكن فيه ذرة تردّد، كان يعرف تمامًا ما يفعل، أو على الأقل.. يقنع نفسه بذلك ..


اقترب منها، وقف خلفها دون أن يلمسها في البادئ، عينيه مرّتا على تقاطيع ظهرها المرتجف، على خيوط شعرها المبتل، على عنقها المشدود كوترٍ على وشك الانفجار ..


ردد بصوتٍ خافت أقشعر بدنها له:


-لسا بتفكري في اللي حصل؟


لم تجب، لكن شهقة صغيرة أفلتت من صدرها، تشبه البكاء، الندم ..


اقترب أكثر، ورفع يده ببطء، ثم وضعها على كتفها، لمسة خفيفة، لكنها كانت كافية لتجعل جسدها كله ينتفض ..


بينما يغمغم "نديم" بصوتٍ مكتوم:


-إحنا ماعملناش حاجة غلط يا ليلى.. سامعة؟ بقولك ماعلمناش حاجة غلط. راندا غيرانة منك. راندا حاسة من أول يوم بإللي جوايا ناحيتك.. ماتخليهاش تلعب بعقلك.. إنتي مراتي.. كل حاجة حصلت بيني وبينك من حقي. ومن حقك إنتي كمان.. وهاثبت لك تاني!


أنفاسه لامست أذنها، ونبرته كانت خليطًا بين الذنب والعناد لكنها لم تميّز، قبّلها هناك، قبلة خفيفة، ناعمة، لكن وراءها نارٌ خامدة تنتظر شرارة لتندلع ..


ثم انسابت شفتاه على عنقها، كتفها، ظهرها ..


كل قبلة كانت وعدًا، وكل لمسة كانت محاولة لتشتيتها، لخلط الخوف بالرغبة، للحفاظ على سطوة العلاقة وسط العاصفة ..


لم تتكلم "ليلى"" لكنّها لم تتراجع أيضًا ..


كان استسلامها لا يشبه الرضا، بل يشبه الغرق، الغرق في شخصٍ تعرف أنّه خطر، لكنها لا تملك النجاة منه، لأنه يمثل لها النجاة بعينها، حتى لو كان هو بذاته حتفها، لا يمكنها إلا أن تسير نحوه ..



يهمس لها "نديم" بغلظة من بين قبلاته:


-إنتي مش هاتصدقي حد غيري.. مش هاتسمعي كلام حد غيري.. عشان أنا لوحدي إللي بملكك.. أنا إللي بحبك.. أنا يا ليلى!!




ثم شدّها نحوه بغتةً حتى التصقت به وشهقت، عانقها من الخلف بقوة، صدره يسند ظهرها، كأنه يخلق لها عالمًا جديدًا، بلا أبواب، بلا نظرات، بلا قبح أو ذنب ..


لمساته صارت أجرأ، لكنها ظلّت ناعمة، تعرف طريقها إلى النقطة التي تذوّب فيها شكوكها ..


ومرّت اللحظات، تليها دقائق طويلة، صوتها خرج متقطعًا، شهيق خافت، وارتعاشه تنبئ بانهيارٍ وشيك ..


تلاحمت أنفاسهما كما جسديهما، أصوات خافتة انبعثت من بين الشفاه، آهات متبادلة، ارتجافات متلاحقة، كلّها كانت تقول إن الجسد سبق العقل، وإن العقل أُسكت عن عمد ..


نظرت له "ليلى" من خلال جفونها المتثاقلة، وردتدت بهمس متعب:


-نديم.. أنا تعبت!


تألقت عيناه بعكسها وهو يلتهم تفاصيلها المغرية غير مصدقًا حتى الآن بأنها صارت له، كلّها، ثم قال بعنادٍ:


-لسا بدري.. لسا بدري على الكلمة دي.


واستمر، رغم ارتجاف نبراتها، رغم ما في عينيها من توسّل صامت ..


تشبّثت "ليلى" بحافة المغطس ببيدٍ، ولفّت الأخرى حول عنقه تحاول إلتماس شيء من قوته بلا جدوى، تضعف وتُستنزف بمرور الوقت، بينما يرأف قلبه لأجلها عندما لمح دمعة كبيرة تسيل على جانب عينها، استعجل اللحظة، كأنّه يخشى أن تنهار قبل أن يُنهي ما بدأ ..


صوت الماء أصبح أسرع، وأكثر فوضى، كأنّه يترجم ما بين جسديهما من تصعيد ..


وفجأة... دقّ الهاتف في الغرفة وتمكن من سماعه للمرة الثالثة ..


لكنه تجاهله مجددًا، شدّ ذراعيه حولها، كأنّه يثبتها، لم يتوقّف حتى إلتهبت اللحظة بكل ما فيها من عنفٍ هادئ، ورغبةٍ مرتبكة، واحتياجٍ مشوّه ..


ثم.. أخيرًا.. سكون ...


فتح عينيه بعد لحظة مطوّلة، ونظر إليها ..


أنفاسه العميقة تلفح بشرتها، بينما هي مغلقة العينين، ذراعاها متراخيتان، وجسدها ساكن كمن أنهكته معركة غير متكافئة ..



رفع رأس الدُش بتكاسل متوقع، وبدأ يغسلها بيديه، حركاته بطيئة، حنونة، نظّفها جيدًا كأنه يحمم طفلته أو ما شابه ..


ثم لفّها بروب الاستحمام الأبيض، رفعها بين ذراعيه وسار بها خارج الحمّام عائدًا للغرفة، وضعها فوق السرير بلطفٍ أبويّ مرعب التناقض _ نامت على الفور _ ثم التفت نحو الهاتف الذي ما زال يرنّ ..




التقطه، ثم ضغط زر الرد وأجاب بصوتٍ أجش:


-آلو!


أتاه صوت إحدى موظفات الفندق:




-نديم بيه.. بحاول أوصل لمستر عمر ومش عارفة موبايله مغلق.. آسفة بس حضرتك لازم الأقرب لينا لازم تنزل حالًا يافندم.


نديم عابسًا: في إيه؟


-في ظابط جه وسأل على الأنسة ريري. وهو حاليًا وصل عندها.. ماعنديش معلومات تاني!


-أنا نازل حالًا!!


ولم ينتظر "نديم" لحظة أخرى، توجه نحو الخزانة، فتحها وأخرج منها ما وجده أمامه، قميص داكن وسروال جينز، ارتدى ملابسه على عجلٍ وهو ينظر في السرير حيث كانت "ليلى" قد غطّت في نومٍ عميق، مدفوعة بإرهاقها وصدماتها التي حتمًا أراجت الفرار منها بالنوم ..


تنهد بحرارة وهو ينتعل الحذاء مسرعًا، ثم سحب هاتفه وهرول مغادرًا الجناح من فوره ...


____________________________________________________


جالسة القرفصاء وسط حلقة من الأطفال، حولها فوضى من الألوان والورق الممزق، وأصابعها الصغيرة ملوّنة بالأحمر والأزرق والأخضر ..


وجهها الطفولي مضيء بانعكاسات أضواء القاعة الفسيحة، شعرها الأسود المنسدل على كتفيها المتسخين ببقع الطباشير منحها هيئة ملاكٍ هبط لتوّه من السماء ..


في الجهة المقابلة، وقف "زين نصر الدين". مختلفًا عن جميع الرواد بلقائه الرسمي الضيّق على قوامه المفتول ..


يراقبها في صمتٍ مضطرب، عيناها الزرقاوان الواسعتان، كانتا خاليتين من أيّ إدراك.. وكأن ما بداخلهما لا ينتمي لهذا العُمر.. لهذا العالم ...


لا يمكن أن تكون تلك في العشرين من عمرها!


اقترب "زين" بخطى حذرة حاسمًا أمره، وبصوت هادئ ناداها:


-آنسة ريهام!


لم تلتفت ..


ظلّت ترسم بدقة طفولية، كأن لا أحد ناداها، كأن الدنيا ما وُجدت إلا داخل دائرتها الصغيرة ..


اقترب خطوة أخرى، علت نبرته قليلًا وكرر ندائه مستخدمًا اسمها المتداول:


-آنسة ريري!!


وهنا رفعت رأسها فجأة، عيناها اتسعتا حين وقعتا عليه، لم يكن في نظرتها ذعر، بل اندهاش صافي، كطفلةٍ ترى لعبة جديدة، أو مخلوق عجيب خرج من إحدى الأساطير التي تقرأها كل ليلة قبل أن تخلد للنوم ..


وقف أمامها بثبات وقال:


-مساء الخير يا آنسة.. والد حضرتك. سيادة السفير عاصم البدري. كلّفني آجي وآخدك معايا للقاهرة. من فضلك. لازم تيجي معايا دلوقتي حالًا.


نظرت له "ريهام" ببلاهة ناعمة، ثم قطّبت حاجبيها بتعبيرٍ طفولي وقالت بنزق:


-مين إنت؟


شدّ "زين" على فكّه، يحاول كتم ضيقه وجاوبها:


-أنا الرائد زين نصر الدين. والدك سيادة السفير عايزك تروحي له. وأنا مكلف أوصلك لحد عنده قبل بُكرة الصبح.. ممكن تقومي تتفضلي معايا من فضلك؟



هزّت رأسها برفضٍ عنيد، وقالت بذات اللهجة الطفولية التي لا تلائم شكلها البتّة:


-عمر قالّي ماتمشيش مع حد غريب!


ابتلع "زين" ضيقه وهو يحدّق فيها، بدأت تتضح له الحقيقة، هناك خلل، شيء ما في هذه الفتاة الجميلة لا ينتمي لمظهرها ..


زفر وهو يحكّ جبينه مرددًا:


-طيب.. أنا ممكن أكلم لك سيادة السفير. وهو يقولك بنفسه تيجي معايا. إيه رأيك؟


قالت بعناد أكثر، وعينها تلمع بدمعة مباغتة:


-للللللللأ!!


حدّق "زين" فيها للحظة، ثم تراجع خطوة صغيرة، وهو يغمغم من بين أسنانه:


-لأ أنا إللي مش فاضي للعب العيال ده ..


مدّ يده فجأة، وبحركة واحدة جذبها من الأرض، نهضت "ريهام" بفزع، يديها ترتجفان، عيناها الزرقاوان اتسعتا بالرعب الخالص ..


بينما يقول "زين" بصرامة:


-حضرتك هاتيجي معايا. ودلوقتي حالًا.. اتفضّلي لو سمحتي!!!


صرخت "ريهام" من فورها، صوتها عالٍ ومذعور، وبدأت تحاول الافلات من قبضته بكل ما تملك من قوتها الضعيفة ..


الناس حولهم بدأوا يلتفتون، يراقبون المشهد في صمتٍ متواطئ، لا أحد يجرؤ على التدخل مأخوذين بهيبة ذاك الرجل الذي بدا كوحش بشري مخيف ..


وفي اللحظة التي همّ "زين" بسحبها خلفه، جاء هو من الخلف كعاصفة، سدد لكمة عنيفة في وجه "زين" جعلته يتراجع مترًا كاملًا إلى الوراء ..


يتأرجح "زين" للحظة وهو يمسح الدم عن زاوية فمه، بينما يحدّق في القادم الجديد بذهولٍ واحتقان متسائلًا من ذا الذي تجرأ وباغته بهذه الطريقة!!!


كان نديم هو من ظهر من بين الجموع، لم تكن لكمته فقط التي أحدثت الصدمة، بل حضوره الفارض، نظراته الحادة، وقامته التي وقفت كجدارٍ منيعٍ بين ابنة خالته وذاك الرجل الذي لا يقل عنه ضخامة، بل لعله يتفوّق عليه جسديًا بشكل طفيف ..


احتمت "ريهام" بـ"نديم" فورًا دون أن تنطق، اختبأت خلفه كما تفعل الطفلة بخوف غريزي، ودفنت وجهها في ظهره كأنها تعرف أن الأمان لا يُوجد إلا هنا، حيث يقف هو ..


ثبت "نديم" قدميه، انكمش فكه، عينيه تضربان كالسكاكين في عيني "زين" بينما يقول بنبرة جافة، مشتعلة:


-إنت شارب حاجة صح؟ أيًّا كت مين إيدك إللي اتمدت عليها دي هاقطّعهالك لو فكرت تمدها تاني!!!


حدق "زين" فيه طويلًا، نظرة ضارية لا تهتز، فَتَّاكة لكنها منضبطة... ثم رد بصوتٍ مكتوم بالغضب:


-إنت مين أصلاً؟


ردّ "نديم" فورًا بخشونة:


-أنا أخوها. إنت إللي مين؟ وإزاي تتجرأ وتلمسها؟



بدأ الغضب ينحسر تدريجيًا من وجه "زين". حدة الموقف، صدمة الضربة، ووضوح الرابطة بين "ريهام" وذلك الرجل، كلها أشياء جعلته يلتقط أنفاسه على مهلٍ ..


لكنه لم يخفِ احتقانه الداخلي من أثر المباغتة التي تعرّض لها لأول مرة بحياته، ثم قال وهو يضغط على كل كلمة تخرج من فاهِ:


-أنا الرائد زين نصر الدين. جاي بتكليف من سيادة السفير عاصم البدري أجيب له بنته الأنسة ريهام.


أمال "نديم" رأسه، ازدراءه ظاهر في صوته وهو يقول:


-تجيبها له إزاي يعني؟ مش فاهم؟


جاوبه "زين"بصوتٍ منخفض، محمَّل بنفاد صبرٍ واضح:


-سيادة السفير رجع إنهاردة البلد ونزل في مقر إقامته في القاهرة.. أول حاجة عملها لما نزل من الطيارة طلب إن بنته تيجي له فورًا.


هز "نديم" رأسه ببطء، كأن الكلام لا يستقيم في أذنه وقال:


-عاصم البدري مسافر وأخباره مقطوعة من ٣ سنين. حضرتك مستني مني أسلّمك أختي بكلمتين زي دول؟ أنا ماشتريتش!


زفر "زين" وقد أخرج من جيبه بطاقة عمله ومدها له قائلًا:


-ده الكارنيه بتاعي.. وحالًا هاتسمع معالي السفير بنفسك ..


أستلّ هاتفه، أجرى الاتصال برقم خاص، وضعه على مكبر الصوت، لم تمضِ ثوانٍ حتى جاء صوت رجلٍ عميق من الطرف الآخر:


-آلو؟ سيادة الرائد؟


-أيوة معالي السفير. أنا حاليًا في الفندق وقدامي الأنسة ريهام وأخوها.. لكن حضرته مش عايز يسلّمها لي وبيطلب دليل إنك أنت إللي مكلفني.. أنا بكلمك عشان أحل معاه الموقف ودّي يافندم. لكن أنا أقدر آخد الأنسة ريهام على أي حال.


صمت بسيط، تخللته نظرات "نجيم" المتحدّية وتأهب "زين" الواضح من لغة جسده.. ثم رد "عاصم" بثقة على الطرف الآخر:


-ادهولي يا سيادة الرائد.


مد "زين" الهاتف نحو "نديم" ..


لم يحرك "نديم" ساكنًا للحظة، ثم أخذه ببطء، وضعه فوق أذنه ورد بصوتٍ جلف، جاف:


-عاصم بيه.


صمت الطرف الآخر برهة مدركًا بأن هذا الصوت ليس لإبنه، ثم تساءل:


-مين معايا؟


رد "نديم" وهو ينظر لـ"زين" دون أن يرمش:


-معاك نديم الراعي.


نظرة الذهول التي ارتسمت على وجه "زين" ما إن سمع الأسم لم تكن لحظية، لم يستوعب.. هذا هو "نديم الراعي"؟


لكن "نديم" لم يُبعد عينيه عنه، لم يرفّ له جفن ..


جاء صوت "عاصم" بعدها أهدأ وأكثر مرونة:


-أهلاً يا نديم. إزيك يا حبيبي.. عمر مش عندك ولا إيه؟


نديم بجمودٍ: أنا مكانه في غيابه يا عاصم بيه. وحتى لو موجود.. أنا بردو جنب ريهام دايمًا.


-أكيد ما عنديش شك إنك جنبها وبتحميها زي ما طول عمرك بتعمل.. بس المرادي ما فيش مبرر لحمائيتك عليها. أنا أبوها.. وعايزها يا نديم!


في تلك اللحظة، بدا "نديم" كمن شُلّ داخليًا. كلمة "أبوها" اخترقت كل حججه، مزّقت حمايته، وبترت اعتراضه ..


ظلّ صامتًا، عينيه عالقتان في فراغٍ داخليّ... ثم همس:


-بس عمر مش هنا... إزاي أسلّمها بإيدي لشخص غريب وهو مش موجود؟


رد "عاصم" بحزم لا يحتمل أيّ هوامش للرفض:


-ده مش أي شخص يا نديم. إللي قدامك ده من أكفأ ظباط الداخلية والمسؤول شخصيًا عن تأميني.. يعني ريهام عمرها ما هاتلاقي أمان زي معاه. حتى جوا فندق عمر.. من فضلك سلّمها له حالًا. ريهام كده كده هتكون عندي الليلة دي.. حتى لو اضطرّيت أجي بنفسي وأخدها.


السكون بعد تلك الكلمات كان حادًا.. مشحونًا ..


ظل "نديم" ممسكًا بالهاتف، عينيه مسمرتين بعينيّ "زين". ملامحه محاصرة ..


لا يستطيع تحدّي أب، ولا يثق في هذا الرجل الغريب، ولا يجد مخرجًا، حتى "عمر" لا يمكنه الوصول إليه ..


أين هو بحق الله؟


لم يرد "نديم" بعد ذلك ..


مدّ الهاتف بصمت إلى "زين".. أخذه الأخير دون أن يزيح عينيه عن وجه "نديم".. خاطب "عاصم" باقتضاب:


-تمام معالي السفير.. إن شاء الله على وصول.


ثم أغلق الخط ..


الصمت بينهما أمتد بثقل.. وظل عالقًا للحظات قبل أن يقطعه "نديم" بجفاء جاف كحد السكين:


-لازم ريهام تجهز الأول.. ماينفعش تمشي معاك كده منغير شنطة هدومها ومتعلّقاتها الشخصية.


أومأ "زين" وصوته أكثر هدوءًا ممّا يتوقعه "نديم":


-أنا في الانتظار.


أشاح "نديم" بوجهه عنه دون كلمة أخرى، إلتفت ناحية "ريهام" وقد انخفض صوته قليلًا وهو يمدّ لها يده:


-تعالي معايا يا ريري.


وضعت "ريهام" يدها الصغيرة في يده دون تردد وهي تصوّب نظرة عداء نحو "زين". كانت ترتجف قليلًا، لكن ثقتها في وجود "نديم" لا تهتز ..


سارت معه وعبرا أروقة الفندق، تسير خلفهما مربّيتها الأسيوية المسنّة، وفجأة، توقف "نديم" قبل أن يبلغا الممر المؤدي لجناحها الخاص ..


تجمّد كأنه أدرك كارثة ..


أراد رأسه بقوة ناظرًا خلفه، وأستلّ هاتفه مجريًا الاتصال بعمّه، لحظات وأتاه صوت "مهران":


-نديم!


سأله "نديم" على الفور بصوتٍ جليدي:


-حفيد رياض نصر الدين إللي جالك البيت.. إسمه إيه يا عمي؟


جاوبه "مهران" بصوتٍ مشبّع بالقلق:


-اسمه زين.. زين. ابن طاهر.. ابن رياض نصر الدين.. بتسأل ليه يا نديم؟ في إيه؟


لم يكن "نديم" يسمعه بعد أن أكد له أسم غريمه.. بل لم يعد يسمع شيء.. صوت عقله كان طاغيًا على كل الأصوات ..


وعشرات الظنون تتراص أمام عينيه!.............................................................................................................................................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


( 14 )


_ فتيل الحرب _


ترك ابنة خالته في عهدة مربيتها، ثم إتجه على الفور عائدًا إلى الجناح حيث زوجته، ولج مغلقًا الباب خلفه، نظره سقط فورًا على السرير، لا زالت "ليلى" ممددة كما تركها، ملفوفة بروب الاستحمام الأبيض، خصلات شعرها المبتلة تلتصق بجبهتها وعنقها ..


كانت تغط في نوم ثقيل، صدرها يعلو ويهبط ببطء، وجهها بدا مفرغًا من اللون، وجسدها بلا أيّ حركة، كأن الإرهاق استنزف منها حتى ملامح الحياة ..


اقترب "نديم" وجلس على طرف السرير بهدوء، لم يشأ أن يوقظها فجأة، ظل لحظة يتأملها، وجهها الهادئ، شفتيها المتورمتين قليلًا من جرّاء قبلاته، عظام كتفها البارزة أسفل الروب، كل شيء فيها يهمس بالإرهاق والرضا معًا ..


مدّ يده ببطء ومررها على شعرها الرطب، ثم انحنى نحوها وهمس في أذنها بلهجة أقرب للرجاء:


-يا لولّا… فوقي يا حبيبتي.. مش معقول تفضلي كده نايمة طول النهار!


لم تتحرك في البداية ..


فقط شفتاها انفصلتا قليلًا، ثم انغلقتا من جديد، تقرّب إليها أكثر حتى لامس صدره صدرها، قبل جبينها برقة، ثم لامس شفتيها بقبلة دافئة، قصيرة، لكنها مليئة بالعاطفة ..


كرر الهمس من جديد، كأنه يحاول جذبها من بُعدٍ آخر:


-ليلى… قومي يا أميرتي.. فتحي عنيكي بقى.


أخيرًا تحرك جفنها، ثم الآخر، عينان عسليتان نصف مغمضتين ظهرتا ببطء، نظرتها ضبابية، كسولة، وكأنها لا تفرق بين الحلم والواقع ..


عضّت شفتها السفلى بخفة، كأنها تعيد لنفسها الإحساس بجسدها، ثم تمتمت بصوتٍ خافت بالكاد يُسمع:


-نديم.. أنا… تعبانة أوي!


على الفور انعقد حاجباه. تغيّرت ملامحه في لحظة، وسألها بقلقٍ جمّ وهو يحدق فيها بتركيز أكثر:


-مالك يا ليلى؟ حاسة بإيه؟ أجيب دكتور؟


أدارت وجهها للجانب الآخر، كما لو أن الكلام مرهق بقدر الواقع، همست برفض خافت:


-لأ.. مش عايزة دكتور.. أنا بس عايزة أنام سيبني أنام شوية.


تردد للحظة، يده التي لا تزال على شعرها، عينيه تتنقلان بين وجهها وعنقها وصدرها، حائرًا وهو يراها بالفعل بحاجة للراحة، لكنه في نفس الوقت يودّ تنفيذ الخطة التي طرأت على باله، قهذا الوقت الأمثل، هذه فرصته، والضربة الأولى التي نوى تسديدها لعائلتها، ستكون اليوم.. اليوم بداية الحرب الحقيقية بينهم ..


تنهد ببطء، وصوته انخفض أكثر وهو يخبرها:


-أنا مش هاتعبك يا حبيبتي. أنا بس محتاجك معايا.. ريهام عندها مشكلة كبيرة ومش هاعرف أتعامل معاها لوحدي!


مرّت ثوانٍ، ظن أنها ستعود للنوم، أو ستدير وجهها من جديد، ولئن فعلت ما كان ليضغط عليها، لكنه لاحظ تغيرًا في نظرتها، عيناها اتسعتا قليلًا، ووجهها انكمش بشكل طفيف، ثم سألته بنبرة مهتمة رغم تعبها الجلي:


-مالها ريهام؟


امتقع وجهه حقيقةً وهو يجاوبها:


-أبوها رجع من السفر.. وباعت حد ياخدها عنده القاهرة. عمر مش موجود وأنا مش عارف إزاي هاقنعها تمشي.. مش عارف أعمل إيه.. محتاج لك.


بدون تردد، شحذت "ليلى" قواها وقامت نصف جالسة وهي تقول بجدية:


-هالبس هدومي وجاية معاك.. ماتقلقش يا حبيبي.


وقامت بمساعدته من الفراش، تركها مذعنًا لرغبتها، فسارت بعرج طفيف صوب الخزانة، أخرجت ثوبًا طويل فيروزي اللون، وسترة بيضاء قصيرة، إرتدت ملابسها أمامه وصففت شعرها بسرعة، ثم إنتعلت خفّيها المكشوفان، وإلفتت إليه حيث كان يجلس على حافة السرير يراقبها في صمت ...


-أنا جاهزة!.. قالتها بلهجة لا تخفي تعبها بالكامل


سار "نديم" ناحيتها، أمسك بيدها ونظر في عينيها قائلًا بلهجة اعتذار:


-أنا آسف يا ليلى.. كان نفسي نقضي وقت أحلى من كده. بس أوعدك قريب جدًا هاعوضك.. هاخدك ونسافر بعيد.. وهانسيكي كل حاجة.. كل حاجة غيري أنا.


ابتسمت له بشحوب وقالت بصدق:


-ومين قال إني ممكن أنساك أصلًا؟ أنا مش ببطل تفكير فيك.. حتى وانت معايا!


رد لها الابتسامة ورفع كفّه ليضم جانب وجهها بحنانٍ، ثم همس:


-طيب أجلي بقى باقي الكلام ده لما نرجع تاني.. عشان أنا عايز أسمعك واحدة واحدة.


تغضن وجه "ليلى" بتعبيرٍ متوسل وهي تقول:


-لأ أرجوك يا نديم.. أنا تعبانة بجد. ومش عايزة غير إني أنام يومين تلاتة ومحدش يصحيني.. انا ماشية معاك بالعافية أصلًا.


ربت على رأسها بعطفٍ وقال مازحًا وهو يغمز لها:


-أنا ماغشتكيش.. افتكري قلت لك إيه.. مش قلت لك هاخلّيكي ماتقدريش تمشي على رجليكي؟ كنتي فكراني بهزر؟


تضرج وجهها بحمرة الخجل وقالت بنزعة عصبية:


-خلاص بقى.. بطل تحرجني.. أنا مش ناقصة!!


فهم مقصدها من مجرد تلميحٍ غير مقصود، وعدها قائلًا بجدية:


-مش عايزك تخافي أو تقلقي.. راندا مش هاتقدر تفتح بؤها بكلمة.. وبمجرد ما نرجع البيت هابدأ في اجراءات الطلاق. وبعدها علطول هاعلن جوازنا.. وهاعملك فرح ماحصلش كمان.. مش هاخلّي في الدنيا دي كلها واحدة زيك.. لا قبلك ولا بعدك.. إلا لو جبتي لي بنت.. هاسمّيها ليلى. وهاحبها أد ما بحبك بالظبط.


بوغتت بجملته الأخيرة، وكأن هذا الأمر كان غائبًا عنها من اول وهلة، فغرت فاها مرددة بتوتر كبير:


-إحنا إزاي مافكرناش في كده؟ أنا ممكن أبقى حامل!


ابتسم لها مطمئنًا وقال:


-وإيه يعني لما تحملي.. ده ياريت. أنا طول عمري نفسي أخلف منك إنتي.. وكنت شارط من قبل جوازي من راندا إن مافيش خلفة منغير إذني.. وده عمره ما كان هايحصل.


حدقت فيه مشدوهة وتساءلت ببلاهةٍ:


-منعتها من الخلفة.. ليه؟


ضحك بخفة وهو يضمّها إلى صدره أشدّ، قبّلها على شعرها وهو يجاوبها مرةً أخرى هامسًا:


-عشانك.. عشان مافيش واحدة هاتشيل ولادي غيرك إنتي… إنتي يا ليلى!


ورفع يدها ليلثم باطن كفّها دون أن يحيد بعينيه عن عينيها ..


أنعشتها كلماته الرقيقة ووعوده الموثوقة، فتناست تعبها، وسارت معه إلى الخارج متشبّثة بيده، لا تطيق أدنى إنفصالًا عنه ..


هبطا إلى الأسفل، حيث الطابق الذي يحتلّه "عمر" بالكامل ويُخصص به جناحٌ كامل لأخته الصغيرة، دلفا معًا إلى الجناح، ليجدا "ريهام" تجلس فوق الأريكة الملاصقة لمقدمة السرير،  تداعب كلبتها وعلائم الضيق تجلل ملامحها كما لو إنها تشعر بما يجري من حولها ..


نظر "نديم" نحو مربيتها التي كادت تنتهي من جمع أغراضها داخل حقيبة سفرٍ كبيرة، ثم قال بصلابة:


-Did you finish "Anya"؟


تطلّعت الأخيرة له مجيبة:


-I'm almost done sir, only dolls and toys are left.


-Hurry up.


أومأت له طائعة وواصلت جمع الأغراض أسرع، ليتوجه بعد ذلك صوب "ريهام" هو و"ليلى" ..


جلست "ليلى" بجوارها محيطة كتفيها بذراعها وقالت بلطفٍ:


-إيه يا ريري.. مالك يا قلبي مكشرة كده ليه؟


فعليًا "ريهام" تكبر "ليلى" بعامين، لكن بطبيعة الحال فإن "ليلى" تفوقها عمرًا بمراحل، لذا عمدت إلى مخاطبتها كما لو إنها طفلة صغيرة ..


أدارت "ريهام" رأسها نحو "ليلى" قائلة بحزنٍ طفولي:


-نديم عايز يمشيني مع الراجل الوحش إللي تحت يا ليلى.


ردت عليها "ليلى" برفقٍ:


-يا حبيبتي هو بس هايوصلك عند باباكي.. يعني حتى إنتي مش مجبورة تكلميه.. هايوصلك بس. فاهماني؟


نظرت لها "ريهام" بأعين قلقة على وشك البكاء.. ارتبكت "ليلى" وتطلّعت إلى "نديم" تلتمس منه المساعدة ..


تنهد "نديم" وشد كرسي قريب ليجلس قبالتها، أمسك بيدها الصغيرة وأطبق عليها بلطفٍ قائلًا:


-ريري.. إنتي بنت كبيرة وشاطرة.. ينفع تقلدي تصرفات الأطفال دي؟ إنتي بقيتي أنسة كبيرة.


كشرت وجهها بطفولة نقية وهي تحوّل بصرها إليه، ثم قالت بحدة:


-أنا مش عايزة أروح عند بابي.. بابي وحش. أنا مش بحبه!!


ضمّ "نديم" كفّها في قبضته أكثر كأنه يبثها الحماية الكافية وهي يوبّخها في آنٍ:


-عيب يا ريهام.. ماينفعش تقولي كده على باباكي. ده أكتر حد بيحبك في الدنيا دي.. وإنتي كمان بتحبيه ولا نسيتي؟


رمقته بريبة طفيفة، لا تستطيع محو صورة ابيها الطيّبة، ولكنها في نفس الوقت لا يمكنها نسيان قساوته بأيامه الأخيرة، فقالت بترددٍ:


-بس هو كان بيزعق كتير.. ودايمًا وشه مكشر.. وأنا بخاف منه!


هزّ "نديم" رأسه بابتسامة نصفها مرارة وقال:


-هو بيحبك.. بس مش بيعرف يبيّن ده. جايز عشان طبيعة شغله.. إنتي مش هاتفهمي قصدي كويس.. لكن عايزك تصدقيني. باباكي بيحبك جدًا. وأول حاجة عملها لما رجع إنه فكر يرجعك عنده.


-يعني هو بيحبني.. زي ما أنا بحب ميميي ومش بعرف أقول لها كل يوم؟


ضحك بخفوت لبراءتها، ثم قال وهو يهز رأسه:


-بالظبط كده.. بيحبك بس مش بيقدر يعبّر بالكلام.


سكتت "ريهام" قليلًا، كانت عيناها تدوران كأن عقلها الصغير يحاول ترتيب المشهد، ثم همست:


-هو هايبقى في عنده بول زي إللي عمر عمله عشاني في الـKids Club؟


-أكيد.. وأكبر كمان.


تنهّدت برضا طفولي، ثم مالت عليه فجأة، واحتضنته مغمغمة:


-خلاص.. أنا هاروح له.. بس خلي عمر يجي هناك عشان يرجعني. لو مش حبيت أقعد هناك عنده.


شدّها "نديم" إلى صدره أكثر، ضمّها بشدة، مرّر يده على رأسها برفق، في حركة متكررة، صامتة، ولم يقل شيئًا ...


_______________________________


لقرابة الساعتين بقى "زين نصر الدين" منتظرًا بقاعة الاستقبال بالفندق، احتسى فنجان القهوة الثاني وبدأ يفقد صبره فعليًا.. لولا ظهورها الآن عند اعتاب المصعد ..


تنفس الصعداء وتأهب للقيام، لكنه يتسمّر فجأة، عندما يتوّهم شبيهتها، إلا إنه ما لبث أن تأكد، لقد كانت هي، هي بذاتها، ابنة عمته التي لم يعرف بوجودها إلا منذ فترة قصيرة جدًا، وهو الآن موكل من جده بإحضارها له، لكنه أيضًا مكلّف بإحضار "ريهام البدري" لأبيها، السيد السفير، فماذا يصنع؟


لم يحوّل بصره عنها، حتى اقتربوا جميعهم وصاروا أمامه، وقد إنتبهت "ليلى" بدورها لنظراته، وإذا بها تتذكره هي الأخرى، لكنها تلتزم الصمت ..


ليقاطع صوت "نديم" تلك الأجواء المضطربة بصوته الفاتر الأجش:


-ريهام جاهزة يا سيادة الرائد.. لكن مش هقدر أسلمها لك إلا لما أعرف هتاخدها على فين. عشان أبلغ أخوها لما يرجع.


الآن فقط أزاح "زين" عيناه  عن "ليلى".. نظر إلى "نديم" بتعبيرٍ مكفهر وقال باقتضاب:


-معالي السفير لسا مكلمني.. ساب الرقم ده للتواصل معاه. ماعنديش أوامر أكتر من كده.


أستلّ "زين" من جيبه ورقة صغيرة مدوّن عليها رقم هاتف، ثم ناولها لـ"نديم" الذي أخذها على مهلٍ بسلوكٍ استفزازي، كان يرمقه بنظراته فيها من البرود الشديد، مستمتعًا بنجاح خطته حتى الآن، وممتنًا للصدف التي تدعمه في موقفٍ كهذا ..


انحنى يخاطب "ريهام" التي كانت تتحاشى النظر إلى "زين" طوال الوقت:


-خلاص يا ريري.. إتفقنا تبقي كويسة وتسمعي الكلام؟ أنا وعمر مش هانطول عليكي. إنتي هاتروحي الأول وإحنا هانحصلك.. تمام يا روحي؟


أومات له "ريهام" موافقة، فقبّلها على وجنتها بأبوّة، سلّمها سلسلة الكلبة في يدها ونظر إلى "زين" مكملًا:


-الكلبة دي مش بتفارق ريري.. عشان كده هاترافقها في رحلتها مع سيادتك.. لو في مانع سيبها وسيب لي عنوان عاصم بيه وأنا هاوصلها لحد عنده بنفسي.


زين بحزمٍ: الأنسة هاتيجي معايا.. ومافيش مانع لو الكلبة رافقتها.. عندنا مكان في الطيّارة.


أومأ له "نديم" قائلًا:


-عظيم.. خلاص كده مافيش حاجة تانية.. تقدر تاخدها.


تحوّلت أنظار "زين" نحو "ريهام" وقال بلهجته الصلدة:


-اتفضلي معايا يا أنسة!


هنا فقط نظرت له "ريهام".. أجفلت قليلًا.. لكنها شعرت بلمسة أخيرة من "نديم" تشجعها وتطمئنها ..


شدّها "نديم" ليعانقها مرةً أخيرة، ثم أطلقها مرددًا:


-خلّي بالك من نفسك يا ريري.. أنا هاكلمك أول ما توصلي.


أومأت له بوجوم، لوّحت له مودعة بصمت هو و"ليلى". ثم سارت خلف "زين" الذي حمل عن مربيتها الحقيبة الكبيرة ..


كان ظهره متوترًا وهو يمشي بخطوات متسعة، غير قادرًا على التفكير في سواها، إنها "ليلى" التي يعرف فعلًا بأمر سفرها مع ابن عمها المزعوم ..


لم يستغرب الأمر، بقدر ما أثار ربيته ظهورها بجواره هنا، يستشعر بينهما رابطة أعمق من كونها رابطة فتاة بابن عمها.. ترى ماذا يحدث؟


ماذا يحدث بحق الله! ................................................................................................................................................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...



( 15 )


_ ناعمة "1"_ :


توقّفت سيارة الأجرة أمام بوابة الفيلا الكبيرة، تلاشى ضجيج الطريق خلفهم، بينما ظلّ صمتٌ ثقيلٌ يملأ المقعد الخلفي ..


أدار "عمر البدري" رأسه نحوها، كانت "راندا منصور" ما تزال تبكي، الدموع تنساب على وجنتيها في هدوء، بلا صوت، بلا رجفة ..


زفر ببطء، ونادى صوته الهادئ باسمها:


-راندا!


رفعت يدها، مسحت آثار الدموع، ثم التفتت إليه بنظرة متعبة، منهكة، لكنها صافية، ثم قالت بصوتها ذي البحة المميزة:


-شكراً يا عمر.


رفع حاجبيه قليلاً وردد:


-شكراً على إيه؟


ابتسمت رغم أن حزنها كان أسبق من أيّ تعبير، وقالت:


-على كل حاجة.. على التوصيلة على الأقل… شكراً!


ردّ لها الابتسامة وقال بكياسته المعهودة:


-العفو يا راندا هانم. دي أقل حاجة ممكن نقدمها لبرنسيس في رقتك وجمالك.


سكتت لثوانٍ محيّاها يصطبغ خجلًا، أشاحت بوجهها عنه للحظات عيناها على باب المنزل، نظرت له من جديد وقالت بلطفٍ:


-طيب انت لازم تنزل معايا.. لازم تدخل تشرب حاجة وترتاح من السكة.. مش هقبل أعذار.


رد "عمر" مبتسمًا بدعابة:


-بصراحة لو ماكنتيش عرضتي عليا كنت أنا هطلب منك.. موبايلي فصل شحن ومشيت من الفندق منغير ما أبلغ حد. وكمان قلقان على ريهام عاوز أطمن عليها.


-طيب اتفضل معايا بقى لو سمحت!


وفتحت باب السيارة من جهتها مترجلة منها بهدوء، سارت تجاه المنزل، بينما يدفع "عمر" أجرة السائق، ثم يلحق بها، تفتح لهما إحدى المستخدمات ..


-حمدلله على السلامة يا مدام راندا.


-بابي فين رجاء؟


-البيه خرج من الصبح بدري واتصل من شوية وقال راجع على العشا.


-وعمتو فاتن؟


-الست فاتن في أوضة المكتب بتاخد قهوتها.


أومأت "راندا" ملتفتة نحو "عمر" وأردفت:


-طيب خدي عمر بيه الصالون وقدميله حاجة يشربها! .. ثم خاطبته هو بلهجتها الرقيقة التي لم تخلو من الحزن بعد:


-عمر هستأذنك هاروح أشوف عمتو وراجعة لك.


عمر بابتسامته الجذّابة:


-اتفضلي.. مستنيكي.


قبل أن تتركه أمرت الخادمة بجلب شاحن لهاتفه، أخذته الأخيرة إلى البهو الفسيح، جلس "عمر" فوق أحد المقاعد الوثيرة، دقائق وجاءت الخادمة حاملة صينية صغيرة، قدّمت له قهوته ثم ناولته الشاحن الذكي وذهبت ..


تجرّع "عمر" كأس الماء أولًا، ثم ارتشف فنجان قهوته على  ثلاث مراحل، سرعان ما أستعاد نشاطه، رفع هاتفه عن الشاحن ليجري الاتصال بشقيقته، لكنه تفاجأ بكمّ هائل من إشعارات الرسائل والمكالمات الفائتة جميعها تقريبًا من ابن خالته "نديم" ..


فتح الرسالة الأخيرة وقد كانت صوتية، برز صوت "نديم" الخشن محتدًا وثائرًا: "عمـر.. كلّمني حالًا بقولك. أبوك مصمم ياخد ريهام.. أنا حضرت لها شنطتها فعلًا وأخرتها بما فيه الكفاية. مش هقدر آخرها أكتر من كده!!" ..


شخصت عيناه بينما يستمع لكلمات ابن خالته، ولا إراديًا هبّ واقفًا وهو يجري الاتصال به مباشرةً، رد "نديم" من الجرس الثالث:


-عمر!


-إيه إللي حصل؟ .. باغته "عمر" بصوتٍ خافت متخم بوحشيةٍ دفينة


جاوبه "نديم" بصوته الأجش:


-إللي حصل زي ما حكيت لك. أبوك بعت حراسة مخصوص عشان تاخد ريهام.. انت فين أصلًا يا بني آدم كل ده؟؟؟


تخطّى "عمر" سؤاله تمتم من بين أسنانه المطبقة بشدة:


-سيبتهم ياخدوها يا نديم؟ سيبتهم ياخدوها؟؟!!


رد "نديم" بصرامة قاطعة:


-ده أبوها إللي طلبها.. كنت عايزني أعمل إيه؟ أنا لو عندي بنت وطلبتها هاخدها غصبًا عن عين أي حد.. مقدرش أمنعه يا عمر. انت الوحيد إللي كنت هتقدر تعمل ده.


لم يستطع "عمر" ردًا عليه، من شدة غضبه المتفاقم كالنار في الهشيم، أخبره "نديم" باقتضاب:


-في أخبار كتير لازم تعرفها. بس أهمها إن أبوك رجع وأخد أختك. وساب لك رقم عشان تتواصل معاه. هاتلاقيني سايبهولك في رسالة.


لم ينتظر "عمر" لسماع المزيد، أغلق الخط معه واستعرض من جديد قائمة الرسائل، عثر على بُغيته، أجرى الاتصال بالرقم الذي تركه له "نديم".. ثوانٍ وأجابه صوتٍ يعرفه جيدًا، بل يحفظه عن ظهر قلب:


-عمر!


عمر بصوتٍ كالجليد:


-أختي فين؟


-مش هي دي ازيك يا بابا إللي كنت مستنيها.. أينعم ماكنتش مستني منك واحشني. بس ماتخيلتش جحودك يوصل لكده!


تمالك "عمر" أعصابه بصعوبة بالغة وهو يرد عليه:


-عاصم يا بدري.. انت من زمن جدًا خسرت صفتك كأب بالنسبة لي.. دلوقتي حالًا في اللحظة دي. كل إللي بيربط بيني وبينك حاجة واحدة بس.. ريهام. ف قولّي ودّيت أختي فيــن؟؟؟


عاصم بهدوء: أختك دي تبقى بنتي.. وأنا مقدر مشاعرك ومش هافتح مواضيع مالهاش لازمة دلوقتي. وكمان مش ناوي أسلبك حقك في أختك أطمن.. لو عايز تشوفها هابعت لك التفاصيل في رسالة. قدامك نص ساعة.


وأغلق معه ..


في اللحظة التي عاودت "راندا" الظهور ثانيةً، كان يتأهب للمغادرة، فأستوقفته مشدوهة:


-إيه يا عمر!


خاطبها "عمر" بلهجة حادة على قدر من التوتر:


-أنا لازم أمشي يا راندا. كده اطمنت عليكي إنك في بيتك وبخير.. أشوفك على خير.


-طيب استنى بس فهمني. حصل حاجة؟


-مافيش حاجة بس ريهام محتاجالي.. لازم أروح لها حالًا.


هزت "راندا" كتفيها ببطءٍ قائلة:


-طيب يا عمر.. عمومًا انا متشكرة جدًا على كل حاجة.. شكرًا على وقفتك جنبي.


في ظرفٍ آخر ما كان ليذهب ويتركها على هذا الحزن البيّن، خاصةً وهو يرى الدموع تتلألأ بعينيها، لكن نداء الدم الذي صدح بأعماقه طغى على كل مشاعره، فأكتفى بابتسامة مؤازرة منحها إيّاها قبل أن يصافحها ويسارع في الخروج ..


بقيت "راندا" مكانها تحدق في إثره الفارغ، ما إن اختفى تمامًا حتى تحررت من تحفظها، سمحت لنفسها بالانهيار الآن ..


ارتمت فوق أريكة الصالون مجهشة ببكاءٍ حار لم تعرف سجيته من قبل قط.. الآن فقط تختبره بفضل زوجها.. الرجل الوحيد الذي تمكن من قلبها ..


وهو "نديم الراعي".. لا غيره ...


________________________________________________


كان الهدوء يخيّم على الجناح الفندقي، يثقل الهواء بصمتٍ مشحون، لا يشوبه سوى صوت أنفاس "ليلى" المتوترة ..


وقفت أمام المرآة، تنظر لانعكاسها بعينين شاردتين، بينما "نديم" اقترب منها بهدوء، يحمل الحسم، يحمل القرار ..


مدّ يده بثبات، تناول السترة من على المقعد ووقف خلفها، يساعدها في ارتدائها كأنما يحاول أن يحميها لا أن يلبسها فقط، أنامله مرّت على ذراعيها، تغلّفت بالعناية ..


قال بنبرة خافتة وهو يضمّها بحنانٍ من الخلف:


-فكّي بقى. ماتكلضميش كده.. قلتلك هاعوضك بأجازة أطول وبرا مصر كمان. 


استدارت ببطء تنظر له دون أن يفك ذراعيه حولها، بعينين امتلأتا قلقًا وكأنهما تستنجدان باليقين في ملامحه تساءلت:


-طيب أنا مش فاهمة.. انت بتقول مش راجعين البيت. يعني رايحين فين؟


جاوبها وهو يمسح على شعرها برفقٍ:


-رايحين الشقة إللي كتبنا فيها عقد الجواز.. فاكرة؟ هناك محدش هايعرف يوصل لك.. ده مجرد تأمين ليكي عشان لو راندا اتجننت وفتحت بؤها بأي كلمة انتي تكوني في أمان لحد ما أتفاهم أنا وعمي.


عبست بوهنٍ قائلة بصوتٍ كالأنين:


-وليه ده كله كان من الأول يا نديم؟ ليه بابا يعرف بالطريقة دي؟ ليه؟


نديم بجدية: ليلى.. مش قلتلك لازم تثقي فيا؟ أنا وعدتك إن حتى لو عمي عرف مافيش أي حاجة هاتتغيّر بينك وبينه. وهايوافق وهايبارك جوازنا كمان.. أنا بتعهد قصادك بكده.. أنا عمري كذبت عليكي؟


هزت رأسها نفيًا وقالت:


-بس أنا.. أنا خايفة يا نديم.. كل حاجة بتحصل بسرعة أوي!


نظر في عينيها بقوة قائلًا بصوته الواثق:


-ممنوع تخافي. طول ما أنا معاكي. مش هسيبك.. فاهمة؟ ولا ثانية.


وأمسك بيدها في قبضته الكبيرة، يده دافئة، مطمئنة، كأنها تحتوي نبضها قبل أن تحتوي جسدها، همّت أن تقول شيئًا… لكنه باغتها هامسًا قرب أذنها:


-أنا بحبك!


ودنى ببطء ليضع فوق شفتيها قبلة بطيئة، عميقة، لا تشبه قبلاتهم السابقة ..


لم تكن لحظة حميمية عابرة، بل وعدٌ طويل بالاستمرار، بالبقاء، بالحماية. شفتاه لامستا شفتاها في رفق، ثم شدّة آنّت على إثرها، ثم إذعان تام منها ..


إذعان ممزوج بالثقة، بالحب، بالرغبة في الذوبان داخله ..


رفعت ذراعيها مطوّقة عنقه، بادلته القبلة كأنها تُسلّمه مفاتيح قلبها كلها، يديها تمسكتا بوجهه، فمها يذوب ويمتزج في شفتيه كليّةً، تنفست أنفاسه كأنها تبحث فيها عن الإجابة التي عجزت الكلمات عن نطقها ..


بينما همس لها وشفتاه لا تزالا تلامسان بشرتها:


-ثانية كمان وهانبات هنا للصبح. مش هقدر أقاوم الحضن والرقة دي كلها.. يلا أحسن لك!!


ابتسمت رغم القلق، عيناها انطفأ منهما الخوف قليلاً، وهي تهز رأسها في صمت موافق .. 


مدّ يده، شدّ على كفها، وقادها خارج الغرفة ..


خلفهما كانت حقائب السفر تُدحرج على الأرض، يحركها عمال الفندق في صمتٍ معتاد ..


أمّا هما فكانا يسيران في ممر الطابق متشابكي الأيدي، وصولًا للأسفل، سجلا الخروج عبر قاعة الاستقبال، ركبا السيارة المجهزة لهما، جلسا في الخلف ..


وتقرّبت "ليلى" من "نديم".. أفسح لها في حضنه فتكوّرت ملقيّة برأسها فوق صدره الصلب ..


النافذة عكست وجهها المستند إلى كتفه، بينما تنكمش أكثر بحضنه، كأنها تلتمس حصنًا يُشبه الوطن، دفنت وجهها في عنقه، شمّت عطره، وابتلعت تنهيدة خافتة وهي تهمس له بضعف على قدر عشقها:


-أنا كمان بحبك.. أنا بحبك يا نديم!


في هذه اللحظة لم يكن يسمعها جيدًا.. كان يفكّر بينما عيناه تنظران عبر النافذة المغلقة ..


اللعبة بدأت للتو.. والخطوة التالية هيّ الأصعب.. الأصعب على الإطلاق! ...

يتبع ...

تكملة الرواية من هناااااااا 


لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا




تعليقات

التنقل السريع
    close