رواية هيبه الفصل السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرين بقلم مريم محمد غريب حصريه وكامله جميع الفصول
رواية هيبه الفصل السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرين بقلم مريم محمد غريب حصريه وكامله جميع الفصول
( 16 )
_ ناعمة "2"_ :
حطّت الطائرة الخاصّة فوق قمّة المنزل الأشبه بالحصن في تصميمه الفريد، بناء مربّع الشكل، حوله أرضٍ زراعية محاطة بأسوارٍ خرسانية عالية مجللة بالأسلاك الشائكة ..
الحراسة موّزعة بكل مكان بنظامٍ دقيق، حتى عند مدخل السطح، ما إن سكن هدير محرّكات الطائرة "الهيلكوبتر" وإنفتح بابها المعلّق حتى هبّ فردٌ من الحراسة نحو القائد ..
يتصدّر "زين نصر الدين" المشهد، برز أولًا عبر باب الطائرة الصغير الذي لم يلائم قامته الطويلة وبنيته الضخمة، كان يحمل في يده حقيبة "ريهام" الكبيرة، ناولها للفتى الذي هرول إليه مطلقًا آوامره بصوته الأجش:
-نزل الشنطة جناح الأنسة ريهام وجهزوا مكان تحت في الجنينة عشان الكلبة بتاعتها.
أومأ الفتى صائحًا:
-أمرك يافندم.
واستدار موليًا لينفذ التعليمات حرفيًا ..
إلتفت "زين" ليرى "ريهام" تقف خلفه مباشرةً، منكمشة على نفسها كقطة تخشى بطش مخلوقٍ مخيف مثله، كانت تتمسك بسلسلة ذهبية موصولة بطوق عنق كلبتها الناعمة، كلبتها التي تشبه في نعومتها صاحبتها، وكأنها نسخة أخرى من روحها ..
لم يكن "زين" في مزاجٍ طيب ليسمح لنفسه بتأملها أو الوقوف عند حالتها الغريبة، ما كان ليهتم بأيّ شيء آخر الآن سوى تسليمها لوالدها، ثم الاستئذان منه والذهاب إلى قصر عائلته ليبدأ من هناك أولى خطواته الجديّة لإستعادة "ليلى".. ابنة عمته ...
-اتفضلي معايا يا أنسة ريهام! .. هتف "زين" بصوته الصلب
ارتعدت "ريهام" لمجرد مناداته بأسمها، لم ترد عليه، ولم تنظر نحوه أصلًا، ما أثار حفيظته ودفعه ليكرر بصوتٍ أكثر حدة:
-أنسة ريهام! مش هانبات هنا. يلا قدامي لو سمحتي والدك في انتظارك.
مرةً أخرى لا تنصت له ..
فما كان منه إلا أن اقترب منها خطوة ناويًا إرغامها على إطاعته، لولا أن رآها تتراجع بسرعة ملتصقة بإطار باب الطائرة وقد فرّت دمعة من عينها الزرقاء وهي تغمغم بنشيجٍ مكتوم:
-عمـر.. أنا عايزة عمرررررر ..
تجمدت يد "زين" قبل أن تصل إليها، ارتبك للحظة حين رآها على وشك أن تجهش في البكاء، لذا مارس على نفسه أقصى درجات ضبط النفس، تنفس بعمقٍ مبالغ فيه، ثم قال بصوتٍ أهدأ:
-من فضلك يا أنسة.. اسمعي كلامي.. اسمعي كلامي خمس دقايق كمان وأوعدك مش هاتشوفيني تاني قصادك. ممكن؟
رفعت رأسها ببطءٍ حتى إلتقت عيناها الدامعتين بعينيه الحادتين، لم تنطق، فأستطرد بلهجة فيها من الرفق لتطمئن له:
-أنا مش هضايقك تاني يا أنسة.. أوعدك. أنا بس عاوز أوصلك لوالدك.. وبعد كده ماليش علاقة بيكي.. اتفضلي لو تحبي امشي قدامي.. ولا تمشي ورايا؟
أفسح لها الطريق متنحيًا على الجانب، فلم تتحرّك، فخطى للأمام بضع خطوات وتوقف، ليراها أخيرًا تتقدّم تجاهه ببطء، تنفس الصعداء وواصل سيره على مهلٍ، بينما تتبعه "ريهام" برفقة كلبتها النشيطة التي طافت حولها تهز بذيلها ..
هبطا درج السطح الحلزوني، ثم أستقلا مصعد أخذهما إلى الطابق الأول، ما إن إنفتح باب المصعد المزدوج حتى صرخت "ريهام" من شدة المفاجأة والحماسة ..
رأت شقيقها "عمر" يجلس قبالة والدهما في البهو الأنيق، أسترخى وجه "عمر" المشدود وأشرق فور رؤيتها، قام واقفًا ببطء بينما تفلت سلسلة كلبتها وتركض صوبه، يتلقّاها "عمر" بين أحضانه معتصرًا إيّاها في عناقٍ محكم لدرجة أن قدميها لم تعودا تلمسان الأرض ..
غمغمت "ريهام" بسعادة وراحة غامرة:
-عمر.. انت جيت!
رد عليها "عمر" بلهجة حنونة لا ينالها سواها:
-وأنا أقدر أسيب ريري بردو؟ سامحيني يا حبيبتي إني سيبتك لوحدك.. بس ماتخافيش.. مش هاتتكرر تاني أبدًا!
وحانت منه نظرة نحو والده الذي لا يزال جالسًا في مكانه، يطالع ولديّه بنظراتٍ هادئة، كالعادة تعبيره غامض، لا يفصح عن شيء ..
أخيرًا برز صوته، مخاطبًا إبنته التي لم تفك عناقها بأخيها لحظة منذ رؤيته:
-إيه يا ريري.. إنتي ماشوفتيش بابي ولا إيه؟
أرخت "ريهام" ذراعيها حول عنق "عمر".. استدارت لتنظر إلى والدها ..
عبست وهي ترمقه بنظراتٍ مبغضة وقالت بنزقٍ طفولي:
-وحش. انت وحش انت مش بابي وأنا مش بحبك.
-ريـهــــــام!
جمدت على إثر صيحة "عمر" المعنفة ..
لم تخشاه بقدر ما إلتزمت الصمت مذعنة لتحذيره المبطن، بينما يأمرها بصرامة:
-عيب إللي قولتيه.. اعتذري لباباكي. يلا!!
زمجرت "ريهام" وهزت رأسها رفضًا، فضحك "عاصم" بخفةٍ وقال مخاطبًا ابنه:
-خلاص يا عمر.. سيبها براحتها.. أنا عارف إزاي اتعامل معاها. ريري دي حبيبة أبوها. مش مشكلة لما تدلع عليا شوية.
-عاصم بيه!
إلتفت "عاصم" نحو نداء "زين".. بينما يتحدث الأخير بلهجةٍ رسمية منضبطة:
-لو تسمح لي سيادتك. أنا جبت لك بنتك زي ما أمرت.. كنت عاوز أستأذن الليلة دي أمشي ومن بكرة هانسق مع حضرتك مواعيد حضوري وإنصرافي على حسب جدول أعمالك.
رد "عاصم" بهدوء:
-مافيش مشكلة يا سيادة الرائد. تقدر تمشي طبعًا.. ومتشكر جدًا تعبتك معايا.
زين بدماثة: لا شكر على واجب يافندم.. بالإذن.
وإنسحب في هدوءٍ وسرعة ..
بينما يهتف "عاصم" مستدعيًا فرد آخر من مستخدمي المنزل.. فجاءت فتاة يافعة ترتدي زيّ الخدمة الداكن وقد بدت عليها الاحترافية ..
امتثلت أمام "عاصم" مرددة باحترامٍ:
-تحت أمرك يا باشا.
أشار لها "عاصم" نحو ابنته قائلًا:
-دي بنتي يا أسما.. من فضلك خديها على الأوضة إللي قلت لك تجهزيها كويس عشانها.
-حاضر يا باشا.. إتفضلي معايا يا أنسة.
رابطت "ريهام" بجوار أخيها ولم تتحرّك، لينهض "عاصم" واقفًا في هذه اللحظة هاتفًا بسطوة أب لا يعرف العصيان:
-ريهام.. روحي مع أسما على أوضتك.. سمعتيني قلت إيه؟ مش هاطلب منك تاني بلساني!
نظرت له "ريهام" بكراهيةٍ شديدة، ذات النظرة تحاكيها عينا "عمر".. لم يكن قلقًا على أخته من والدهما على أيّة حال ..
كما لم تخشى "ريهام" منه، أقصى ما سيفعله "عاصم" هو إرغامها على طاعته، كأن يأخذها من يدها قسرًا إلى غرفتها، في حياته لم يمد يده إليها بسوءٍ، لكنه لطالما كان قاسيًا على كليهما.. "عمر" في صغره وحتى بلغ طور الرجولة.. و"ريهام" ما إن بدأ يشتد عودها ..
تنهد "عمر" بحرارة كاظمًا غيظه، أراد أن يحظى ببعض الوقت ليفصح عمّا بصدره أمام والده، وذلك لن يكون ممكنًا في وجود أخته ..
لذلك إلتفت إليها وقال بحزمٍ هادئ:
-ريهام.. اسمعي الكلام.. روحي دلوقتي. وأنا أوعدك إني مش هامشي. شوية وجاي لك.
تعلّقت عيناها به وهي تقول بحزنٍ جمّ:
-ماتسبنيش معاه.. عشان خاطري يا عمر مش عايزة أقعد معاه.
في الجهة الأخرى، يزدرد "عاصم" مرارة كلماتها في صمتٍ، كعادته لا يبدي ما بدواخله، بينما يؤكد "عمر" على وعده لها:
-ماتخافيش. أوعدك إني مش هاسيبك.. انتي جيتي لاقتيني هنا قبلك. صح؟
أومأت له ..
فابتسم قائلًا: يبقى تصدقي كلامي. وتقولي حاضر.. هتقولي إيه؟
رددت "ريهام" بانصياعٍ:
-هقول حاضر!
ربت على شعرها بحنانٍ، وأفلتته ماشية وراء الفتاة ذات الحركات الآلية ..
دقيقة واحدة وسكنت الأجواء بين الأب والابن مجددًا ..
تواجها ندًا بند، ونطق "عاصم" أولًا:
-أديك شوفت ريهام وأطمنت عليها.. جاهز نتكلم شوية كأب وإبنه؟ ولا لسا مصمم إني عدوك؟
رد "عمر" بلهجة جافة تناقض سعير نظراته:
-عمرك ما هاتكون غير عدوي.. قاتل أمي عمره ما هايكون غير عدوي لآخر يوم في عمري!!!
يتخلّى "عاصم" عن هدوئه في هذه اللحظة صائحًا بغضب بِيّن:
-إللي قتل أمك مرضها. إيّاك تلزق التهمة دي فيا تاني انت سامع؟ مش ذنبي إن ربنا رزقها بعقل ناقص!!
عمر بغضب أشدّ:
-بس ذنبك إنك أهملتها.. ذنبك إنك سافرت وسيبتها وهي لا شايفة ولا متعلّقة بحد غيرك.. مهما قلت مستحيل تقدر تنفي المسؤولية عن نفسك. انت من البداية اخترتها. اتجوزتها على حالها كده. وفي الآخر عملت إيه؟ سيبتها وكنت عارف إنها بتموت كل يوم منغيرك ومنعت كل حاجة.. حتى إحنا ولادها. بطلت تشوفنا.. لحد ما ماتت... بسببك!!!!
لم يستطع "عاصم" الرد على الفور.. ليتابع "عمر" بحقد سنوات طفى كله في لحظة:
-لا أنا ولا ريهام طلبنا وجودك في حياتنا يوم واحد طول السنين إللي فاتت. محدش فينا فكر فيك ولا أحتاجك وانت عارف ده.. بس هي احتاجت لك. إيه إللي منعك تاخدها معاك؟ إيه إللي منعك لما كلمتك وقلت لك إلحقها بتموت ماتجيش وتاخدها؟ انت مستوعب انت عملت فيها إيه؟ وجاي دلوقتي بتفكر تكرر نفس إللي عملته مع أختي؟ مع ريهام إللي للأسف قدرها تعيش زي ما عاشت أمها.. أنا مش هاسمح لك.. هاتلاقيني واقف في وشك.. صدقني.. عشان ريهام أنا مستعد أعمل أي حاجة. حتى لو نسيت إنك أبويا ولو على الورق!!
سأله "عاصم" بهدوء مقطبًا جبينه:
-انت متخيل إني ممكن آذي بنتي يا عمر؟
عمر بحدة: مش هاتكون أحسن من مراتك إللي سيبتها تموت بدم بارد.
صمت "عاصم" هنيهةٍ.. ثم قال بجدية:
-أنا حبيت غادة.. لو ماكنتش حبيتها ماكنتش اتجوزتها وأنا عارف هي بتمر بإيه.
عمر بمرارة: وياريتك ما اتجوزتها.. ماخوفتش صحيح إن ولادك منها يورثوا مرضها؟ ربنا ما أرادش أطلع زيها صحيح. لكن ريهام طلعت.. المنطقي إنك ماتبقاش عليها. وإنك تحمد ربنا إني في حياتها براعيها وباخد بالي منها بدالك.. انت جاي دلوقتي عايز إيه؟ فهمني عايز مننا إيـه ؟؟؟؟
جاوبه "عاصم" ببساطة:
-عاوزكوا.. عاوز ولادي.. انت ابني. وريهام بنتي.. مستحيل تتنكروا من الحقيقة دي مهما عملت يا عمر.. أنا هفضل أبوكوا.
هز "عمر" رأسه وهو يقول زامًا فمه بقسوة:
-انت اتأخرت أوي.. مابقاش ينفع الكلام ده.
لاحت على ثغر "عاصم" طيف ابتسامةٍ حزينة وهو يقول:
-طيب إديني فرصة.. فرصة أخيرة.. على الأقل عشان ريهام... فرصة أخيرة يا عمر!
ساد الصمت بينهما من جديد ..
لم يعد "عمر" يتحدث.. فقط ينظر إلى أبيه.. بينما يمر شريط حياته أمامه.. لم يكن معه تقريبًا ولم يراه في أحلك أوقاته أو حتى أسعدها.. رآى مرض أمه.. إحتضارها.. معاناة أخته.. وحدته.. إنجازاته التي حققها بمفرده مصارعًا منافسيه والحياة وكل شيء ..
لم يكن بجانبه ..
فلماذا يريده الآن؟
لا شيء يجبره على قبوله في حياته.. هو لا يريده ولا يحتاجه ..
ولكن ماذا عن "ريهام"؟.. أهي حقًا بحاجته؟
هل سيكون وجوده معها فارقًا إلى حدٍ ما؟ أم سينتهي بها الأمر كوالدتهما؟
لا.. "ريهام" ليست متعلّقة بوالدها ولا تحبه كثيرًا.. إذا تركها وغادر بأيّ وقت لن يشكل ذلك عائقًا بحياتها ..
إذن.. ما الذي سيخسره.. إذا منحه تلك الفرصة الأخيرة؟
إن لم يكن لأجله.. فلأجل "ريهام"! ................................................................................................................................................................................................................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ...
_ طوعًا إلى الهاوية _ :
فتح "نديم" باب الشقة بهدوء، أفسح الطريق أمام "ليلى" لتمر أولًا متمتمًا بإيماءة خفيفة من رأسه:
-ادخلي يا لولّا!
انصاعت له ودخلت بخطوات فيها من التردد، تبعها وهو يحمل حقيبتيهما في يديه، ثم أغلق الباب خلفه بهدوء ..
وقفت "ليلى" في منتصف الردهة، عيناها تجولان المكان دون تركيز، فقد رأته من قبل فعلًا، كتفاها مشدودان، لكن في عينيها ظلّ راحةٍ طفيف... راحة لوجوده معها فقط لا غير ..
وضع "نديم" الحقيبتين بجانب الجدار، ثم اقترب منها بخطى بطيئة، متأنية، كأنه يراعي كل اضطراباتها الظاهرة والباطنة ..
التفتت إليه مبتسمة ..
فقال بهدوء وهو يقرأ تعبها كأنه مسطرٌ في عينيها الآسرتان:
-إيه يا أميرتي.. لسا نعسانة ولا إيه؟ انتي نمتي ساعتين في الطريق.
أجفلت "ليلى" بينما يقف قبالتها، مد ذراعه محاوطًا كتفيها، وبيده الأخرى يمسك بيدها بلطفٍ ...
-مش نعسانة. بس مش عارفة ليه حاسة ان قلبي.. مقبوض!
رد بصوته الهادئ، عينيه على عينيها وهو يضم يدها في قبضته باحتواءٍ مدروس:
-مش قلت لك ممنوع تخافي يا ليلى؟ قلبك مقبوض وأنا معاكي معناها إني مش قادر أحميكي. معناها إني ماليش لازمة.
ليلى بصوتٍ مهزوز:
-أنا ماقصدتش كده يا نديم.. أكيد مطمنة طول ما انت جنبي. بس.. أنا خايفة لو بابا عرف.. حاسة إننا عملنا حاجة غلط!!
وأخفضت عيناها للأرض ..
تشكلت عقدة عميقة على جبين "نديم".. رفع يده بهدوء ولمس ذقنها دافعًا إيّاها للنظر له وقال بجدية:
-بُصيلي.. انتي دلوقتي مراتي يا ليلى.. فاهمة يعني إيه مراتي؟ محدش له سلطة عليكي غيري أنا. ولا حتى عمي.. هافترض معاكي لو عرف قبل ما أفاتحه رسمي هايزعل ويثور علينا شوية.. لكن في الآخر أنا واثق إنه هايبارك الجواز ده. لأنه عارف ومتأكد إني أكتر واحد هكون أمين عليكي.. وإني بحبك من قلبي ولآخر يوم في عمري.
رفعت عينيها إليه، لمعة خفيفة من الدموع تحتبس عند الحواف، ابتسمت ابتسامة صغيرة، فيها شكر وخوف، حب وضعف، كلها في لحظةٍ واحدة، ثم قالت:
-أنا مش ندمانة على أي حاجة عملتها معاك.. واثقة فيك يا نديم.. بس مش قادرة أمنع احساسي بالخوف. خابفة بابا يفهمني غلط!
1
هزّ راسه بتفهم وقال بهدوء:
-فاهمك ومقدر يا حبيبتي.. وبوعدك ان كل إللي انتي خايفة منه مش هايحصل.. أو على الأقل مش هاخليكي تواجهيه. إللي هايحصل هو إننا هانكون لبعض.. وقدام الدنيا كلها.
سكت لحظة يسكّن قلقها بابتسامة لطيفة، وأستطرد:
-تعالي نقعد شوية.. تشربي حاجة؟
أومأت له قائلة بصوتٍ به رجفة:
-آه... لو ينفع حاجة سخنة!
-طبعًا.. تعالي يا روحي.
أخذها نحو المطبخ المفتوح وأجلسها هناك بالقرب منه، تحرّك ناحية الموقد الكهربائي، خطواته تقطع الصمت، بينما هي تجلس بمكانها، تراقبه فقط، وتجد في ذلك متعة لا وصف لها ...
_______________________________________
باب الغرفة مواربًا، ما من صوت ينبئ بوجود أحدٍ من ورائه، لكنه يعرف أنها بالداخل ..
مد "عمر" يده دافعًا الباب ببطء حتى إنفتح عن آخره، وقف على العتبة لحظة مطوّلة، عيناه تجولان أرجاء الغرفة ..
كل شيء كان مبهجًا أكثر من اللازم، جدران بلون وردي فاتح يميل إلى لون حلوى القطن، مرسومٌ عليها أشكال متناثرة لغيوم صغيرة وطيور كرتونية بألون زاهية، ستائر شيفون بيضاء تحرّكها نسمات المكيّف لا الهواء الطبيعي، فالنافذة محكمة الإغلاق كما يرى ومجللة بسياجٍ حديدي كما لو أنها مسجونة!
السقف مزيّن بلصقات فسفورية على شكل نجوم وقمر فضّي، لا تُضيء إلا ليلًا حين يُطفأ الضوء كنوع من الطمأنة، الأرضية مفروشة بسجادة سميكة بلون أزرق سماوي، السرير في منتصف الغرفة، مغلف بمفارش ورديّة منقوشة بقلوب صغيرة، وفوقه دمية شقراء ترتدي فستانًا بنفسجيًا وتبتسم بجمود ..
ركنٌ في أقصى الغرفة وُضعت فيه مكتبة صغيرة متخمة بالكتب الخاصة بالأطفال وأقلام التلوين، بالإضافة إلى أرجوحة تتدلّى من السقف، تتهادى بهدوء رغم إن أحد لا يقربها ..
الغرفة كلها تفيض بالبهجة، نعم، لكنها بهجة مصطنعة، كأن شخصًا ما يحاول أن يصرخ من خلال الديكور، الألوان، كل شيء.. والأمر لا يحتاج تفكيرًا عميقًا ليدرك "عمر" بأن هذا الشخص ليس إلا والده!
هو "عاصم البدري".. لا غيره ...
-الأنسة هنا!
انتبه "عمر" لصوت الخادمة ..
إلتفت نحوها، ليراها تشير له صوب ستار النافذة، حيث اختبأت شقيقته هناك ..
ندت عنه تنهيدة عميقة وهو يطلب من الأخيرة الذهاب بإشارة من رأسه، أطاعت الخادمة أمره الصامت وخرجت من الغرفة مغلقة الباب خلفها، بينما يخطو "عمر" ببطء تجاه الستار المسدل ..
يمد يده ويسحبه على مهلٍ، لتظهر له "ريهام" كما عهدها في ظروفٍ مشابهة، رآها تجلس القرفصاء، تحتضن ساقيها، ودنوعها تسيل في صمتٍ ..
تقلّص وجه "عمر" من شدة الألم الذي تدفق بصدره، ضغط على نفسه كثيرًا ليخمده مؤقتًا لأجلها فقط، نزل لمستواها راكعًا على إحدى ركبتيه أمامها ..
رفع "عمر" كفّه ملامسًا وجهها، كفكف لها دموعها وهو يقول بصوتٍ خافت يكفي لتسمعه:
-إيه يا ريري! قاعدة كده ليه؟ مستخبية من مين
لم ترد فورًا، نطقت بصعوبة عبر تقويسة فمها المتشنّج:
-انت هاتسيبني وتمشي.. هاتسيبني معاه يا عمر!!
هز رأسه وهو يحتوي وجهها بين كفّيه الآن، ويرفعه لكي تنظر إليه، تألم لمرآى حزنها ودموعها المنهمرة بشدة، وقال بتأثرٍ بالغ:
-أنا عمري ما أقدر أسيبك يا ريهام.. وانتي عارفة؟ مستحيل. أنا بس ممكن أغيب شوية. لكن هارجع لك تاني.. يا حبيبتي انتي مش هاتكوني لوحدك.. وبابا وعجني إنه هاياخد باله منك. ومش هايزعلك أبدًا.
علّقت بصوتٍ يمزّقه النحيب:
-يعني صح.. انت ماشي وسايبني هنا.
وانفجرت في البكاء ..
أفلتت منه آهة عندما عجز لوهلةٍ على تحمّل آلامها، جلس بجوارها، ملاصقًا لها، ضمّها إلى صدره بقوة قائلًا:
-ريهام.. إهدي يا حبيبتي.. عشان خاطري. عشان خاطر عمر.. بطلي عياط.. والله ما هاسيبك. أنا عمري ما كدبت عليكي. كام يوم بس وراجع لك. ماتعملييش كده لو سمحتي. انتي كبيرة. انتي شاطرة.. ريهام!
ردت بصعوبة: أنا بخاف منه.. بيزعق فيا.
أخذ يدلّك فروة رأسها بأصابعه وهو يقول بلطفٍ:
-قبل كده ماكنش يقصد وأنا فهمتك صح؟ قلت لك إنه كان بيمر بفترة صعبة قبل ما يسافر ويسبنا.. لكن هو دلوقتي إتغيّر. بابا بيحبك يا ريري. وهو وعدني إنه مش ممكن هايزعلك أبدًا.. وهايعملك كل إللي انتي عايزاه. لو ماعملش كده قوليلي أول ما أرجع لك. وأوعدك. لأ أقسم لك إني مش هاخلّيه يشوفك طول عمره.. بس ممكن تصدقيني المرة دي؟ ممكن نديله فرصة أخيرة؟ عشان خاطري يا ريري!
كم كره الكذب عليها ..
كم كره استخدام كلمات والده نفسها.. أن يمنحه الفرصة الأخيرة التي يرجوها ..
على حساب من؟ شقيقته!
لا، لم تكن مجرد شقيقة بالنسبة له، إنها ابنته، هو الذي ربّاها وأحبّها، ولم يتأفف يومًا أو يملّ من مسؤوليتها ...
-هاترجع امتى؟.. سألته بلهجة مرتعشة
جاوبها بهدوء: يومين تلاتة بالكتير. هارجع الغردقة أظبط الشغل وهارجع لك يا روحي.. صدقيني. أنا مقدرش أبعد عنك كتير. ده أنا روحي فيكي يا ريري.
كان يخاطبها بصدقٍ عرف أنها لن تستوعبه، لكنه أفضى بما في صدره على أيّة حال، لتستقر اضطرابات "ريهام" مستجيبة لمحاولاته ..
مدفوعة بثقتها الفطرية به، ابتعدت عنه بعفوية وتطلّعت إليه عبر دموعها، كانت قد توقفت عن البكاء ورمقته بنظراتٍ متسعة قائلة:
-طيب هاتلي كاندي وشوكلاتة قبل ما تمشي.. ده شرطي عشان أقعد!
ابتسم "عمر" من قلبه وقال:
-عنيا ليكي يا حبيبتي.. بس هاتاكلي حاجة واحدة منهم الليلة دي. وبكرة الحاجة التانية.. عشان ماينفعش دكتور الأسنان يزعل مننا لو أكلنا كل ده مرة واحدة.. إتفقنا؟
أومأت له قائلة بابتسامة بسيطة:
-إتفقنا!
______________________________________
في صمتٍ ناعم كالبخار المتصاعد من فنجان الشاي ذي نكهة الخوخ، جلس "نديم" إلى جوارها من جديد، الآن الشقة نصف غارقة في الظل، وأضواء المدينة تتسلل من النوافذ مثل نسماتٍ خافتة، كانت "ليلى" ما تزال شاردة في أفكارها، وجهها شاحب والعتمة ترسم تحت عينيها خيوطًا لم تكن هناك بالأمس القريب ..
ناولها "نديم" الفنجان. لم تتكلم، بل اكتفت بأن تمسكه كأنما تتشبّث به لا لتشرب وتهدأ، بل لتتوازن، ارتشفت منه قليلاً، ثم إلتفتت إليه ببسمة واهية ..
بادلها "نديم" الابتسامة قائلًا بصوتٍ حنون:
-أهو.. وشك بدأ يروّق شوية.. الحمدلله.
ليلى بصوتٍ شبه هامس:
-تعرف إن عمري ما حبيت الشاي ولا فكرت أشربه.. بس طلع حلو أوي!
هز رأسه وهو يقول بتفاخرٍ ينم عن غرور:
-أنا إللي عملته.. لازم يبقى حلو طبعًا.
-دي ثقة ولا غرور؟
-غرور طبعًا!
ضحك كلاهما، ضحكة قصيرة، لكنها حقيقية ..
الزمن لوهلة بدا مجروحًا ،لكنه ساكنًا رغم ذلك، لم ينبسا بكلمةٍ حتى أنهت "ليلى" فنجانها تقريبًا ..
ليتنحنح "نديم" قليلًا، ثم ينظر في ساعته وهو يهمّ بالقيام قائلًا:
-أوكي يا لولّا.. أنا لازم أمشي دلوقتي!
تنتفض "ليلى" فجأة هاتفة بعينين واسعتين:
-هاتروح فين وتسيبني هنا لوحدي؟!
عاد للجلوس، ومسح برفقٍ على شعرها، كأنما يهدئ نوبة خوفٍ طفولي كثيرًا ما تداهمها ..
جاوبها مبتسمًا بلطفٍ:
-مش هاسيبك كتير يا حبيبتي. بس لازم أروح البيت وأشوف الدنيا هناك فيها إيه.. بعدين هارجعلك واخدك.
وضعت الفنجان على الطاولة بسرعة، ثم انحنت نحوه فجأة، تعلّقت به كالغريق وهي تقول بلهجةٍ متوترة:
-لأ... مش هاتمشي وتسيبني.. يا تفضل معايا يا تاخدني معاك!
نديم ضاحكًا وهو يمسك بوجهها برفقٍ شديد:
-إيه شغل العيال ده بس يا لولّا؟ انتي كبرتي على كده خلاص. قلت لك هاسيبك شوية بس.. بكرة الصبح هابقى عندك. هقول لعمي إني سيبتك تروحي مع ريهام عند باباها عشان خايفة تروح له لوحدها. دي حجة مقبولة أبرر بيها غيابك في حالة لو راندا ما قالتلوش حاجة.. إنما لو قالت ف هكون مطمن عليكي هنا. الدنيا هاتبقى تحت السيطرة.
هزّت ليلى رأسها بعنادٍ ناعم، عينيها تنزفان خوفًا وإصرارًا معًا، تمسّكت بيده، كأنها تمسك بحياتها، وقالت بتصميمٍ:
-قلت لأ. لأااااااا.. مستحيل أسمحلك تسيبني. مش هاسيبك تمشي.
عبس "نديم" وهو يرمقها بنظرة مطوّلة، ثم قال بجدية:
-انتي خايفة بجد يا ليلى؟
أومأت له بصمت ..
رفع يده ممررًا ظهر أنامله على خدّها وتمتم:
-مش قلت لك ممنوع الخوف؟ طول ما انا جنبك ممنوع تخافي.
تقو!س فمها بتلقائية طفولية وهي ترد عليه:
-ما انت مش هاتبقى جنبي دلوقتي.. انت عايز تمشي وتسبني!
سكنت اللحظة بينهما الآن، كأن الزمن انعطف في صمتٍ متآمر ..
يواصل "نديم" النظر إليها وابتسامة خفيفة مائلة تعرج على زاوية فمه، عينيه اكتسبتا لمعة لم تكن هناك منذ لحظة، نظرة تجمع بين العبث والرغبة انبلجت من بين جفونه الكثّة، وكأن الموقف برمّته انقلب ..
قال بصوتٍ خافت وعيونه تلصص على ملامحها:
-أنا ممكن أغيّر رأيي وأفضل معاكي الليلة دي.. بس لو العرض مغري. قوليلي.. ممكن تقدميلي إيه عشان أفضّل هنا يا ليلى؟
رفعت ليلى حاجبيها في ضيقٍ، وقلبت عينيها بتأفف خفيف، قبل أن تعبس وتقول بصوتٍ كالأنين:
-هاعملك إللي انت عايزه يا نديم.. بس خليك معايا. أنا بجد مش هاعرف أنام هنا لوحدي... أرجوك ما تسبنيش!
ساد صمت قصير، ثم تلاشى العبث من وجهه شيئًا فشيئًا، ليحل مكانه اهتمام حقيقي ..
اعتدل في جلسته قليلًا، وحدّق فيها بعينين أقل مزاحًا وأكثر جدية وهو يقول:
-أنا عمري في حياتي ما كنت عايز حاجة من الدنيا غيرك يا ليلى.. Once إنك بقيتي ملكي.. خلاص مش عايز غيرك.
ملأت البسمة وجهها عقب كلماته مباشرةًا، تنفّست الصعداء، وكأنها تحررت من سلاسل غير مرئية للتو، هذا بالضبط ما كانت تحتاجه طوال اليوم، منذ تم ضبطهما معًا في الفراش أمام "راندا".. كلامه هذا هو المسكن لجميع آلامها ...
ألقت برأسها على كتفه، تستند إليه وكأنها تلتمس الحياة في موضع صدره، ضمّها برفقٍ بين ذراعيه، وكأنها كنز هشّ لا غيره هو المؤتمن عليه، ثم مال برأسه إليها وتمتم قرب أذنها بصوت خفيض يحمل نصف ابتسامة ..
-بس على فكرة كده انتي دبّستي نفسك خلاص... مش هتعرفي تنامي كويس طول الليل!
ضحكت بخفة وراحت تضربه على صدره بكفها الضعيف، كأنها ترد المزاح بمزاح، ثم همست وهي تغمض عينيها بإطمئنانٍ:
-انت قليل الأدب.
ضحك بخفوتٍ، ثم قال وهو ينهض على مهلٍ ويسحبها معه من كفها:
-طيب تعالي.. انتي ماشوفتيش أوضة النوم.. تعالي أوريهالك ..
قامت معه طواعية، ليقودها في هدوءٍ عبر ممر الغرف، حتى وصلا إلى الغرفة الرئيسية بآخر الرواق ..
دفع الباب ودخلا معًا، لترى "ليلى" ما إن دخلت غرفة الأحلام، طلائها كريمي، والأثاث من الخشب الزان الصقيل، والأرض من الباركيه اللامع، في الوسط صالون صغير مكوّن من أريكة ومقعدين، وفي صدر الغرفة سرير ضخم بأعمدة تتدلّى منها ناموسية شفّافة بالكاد تُرى، على شمالها غرفة الملابس مواربة، وعلى يمينها منضدة زينة تراصت فوقها أغراض تخصّه، قنينتيّ عطر وفرشاة شعر علبة ومنفضة سجائر كرستالية ..
أهو مدخن!
تلك معلومة تكتشفها لأول مرة.. لم ترى أبدًا "نديم" يُدخن!!
أفاقت "ليلى" من تأملاتها مأخوذة بقبلة فجائية من "نديم" ..
طوّقتها ذراعاه وهو يسندها إلى إحدى أعمدة الفراش ولا تعلم كيف سارت معه إلى هذه النقطة ..
همس لها من بين قبلاته بصوته ذي البحة المميزة:
-أنا عارف إنك تعبانة.. وكنت بهزّر برا. أكيد هاسيبك ترتاحي طول الليل ..
ثم رفع رأسه ونظر في عينيها، وبابتسامة صغيرة فيها شيء من الاعتراف أردف:
-بس ده مايمنعش إني أحبك شوية.. وأحاول أشبع منك... على قد ما أقدر!
احمرّ وجهها كأن اللهب مسّه، وأجفانها انخفضت، تهرب من نظراته لكنها لا تبتعد ..
ليلى بصوت مرتجف خجول، وهي تنظر إليه من تحت رمشيها:
-يعني انت تقدر تشبع مني أصلًا؟
هزّ رأسه نافيًا وجاوبها بصوتٍ خافت:
-عمري.. أنا مدمنك!!
ثم انحنى من جديد، وقبّلها مرة أخرى قبلة عميقة، جائعة ..
أنفاسه تختلط بأنفاسها، وشفتيه تمتصّان منها كل تردد، كل شك، كل خوف كان يسكنها ..
تجاوبت معه ببطء، ثم بشغف، كما لو أنها كانت تنتظر هذه اللحظة لتذوب فيها ..
ذراعاها التفّتا حول عنقه، وكأنها لا تملك وطنًا غير هذا الجسد الذي يحتضنها، كان "نديم" يقبّلها بوعي عاشق لا يريد فقط أن يلمس جسدها ليطفئ شهوة، بل أن يُطمئن، أن يقول لها دون كلام أنه معها، ولن يتركها مهما حدث، وكانت "ليلى" تقبّله كأنها تود أن تذوب في جلده، تختبئ بين ضلوعه، وأن تُغرق كيانها كله فيه ...
-بتحبيني أوي كده يا ليلى؟ .. سألها "نديم" من بين قبلاته
أفلت شفتيها ليتسنّى لها أن تجيبه، فقالت بصوتٍ مرتعش:
-بحبك.. بحبك أوي. وانت عارف.. بحبك يا نديم!
علت زاوية فمه بابتسامةٍ مزهوّة، مفعمة بالنصر وهو يقول:
-أنا عارف.. عارف يا حبيبتي.
وسحبها لا تدري كيف حتى وجدت نفسها تستلقي فوق الفراش ذي الشراشف الناعمة، وما لبثت أن أحسّت بجسده يغطّيها بخفةٍ لا تخلو من الإثارة ..
كان السكون في الغرفة قد تحوّل إلى نَفَس مشترك، كل شيء يهمس بوجودهما وحدهما، الضوء الخافت ينسكب على وجهيهما يتيح لكلاهما رؤية الآخر بالقدر الكافي ..
أنفاس "ليلى" ساخنة، متلاحقة، تتصاعد وكأنها تحاول اللحاق بقلبها الذي يضرب صدرها بعنفٍ لم تختبره من قبل إلا معه فقط ..
لم تكن خائفة، لكنها مأخوذة. مأخوذة بتلك النظرة التي لا تكفّ عن حرقها، بتلك اللمسات التي تمر على جسدها وكأنها ترسُمها من جديد ..
مداعباته صارت أكثر حسّية بمرور الثوانِ، لم تستطع مجاراة خبرته، كل أطرافها بدأت ترتجف في صمت، حتى لم تعد تحتمل ...
أغمضت عينيها بشدة وارتفع صدرها بأنينٍ مكتوم، فالتفتت إليه، تشبثت بكَتِفَيه، ورفعت نفسها نحوه كمن يركض نحو مأواه الأخير ..
اقتربت من أذنه، وهمست بشفاهٍ تكاد لا تنطق، كلماتٍ تحترق خجلًا لم تجرؤ على إعلانها بصوتٍ عالٍ ..
ابتسم "نديم".. عينيه تلمعان بمزيجٍٍٍ من الحنان والمكر ..
ثم نظر إليها نظرةً طويلة، مسح على شعرها برفقٍٍ، ومال برأسه قليلًا وهو يهمس لها:
-متأكدة؟ عايزة كده بجد؟
نظرت إليه وقد برزت الدموع في عينيها وهي تقول بلهاثٍ متقطّع:
-انت بتسألني فعلًا؟
راوغها قليلًا متلذذًا برؤية الرغبة فيه بعينيها بهذا الإلحاح لأول مرة:
-عايز اتأكد إنك كويسة مش أكتر!
زفرت بضيقٍ حقيقي متمتمة:
-نديم!!
ابتسم بحب وقال بجدية لا تخلو من الرفق بها:
-مش هاتعيّطي طيب؟
هزت رأسها نفيًا ..
في تلك اللحظة، لم يبقَ شيء يُقال!
ضمّها إليه من جديد، هذه المرّة بشوقٍ لم يعُد يطيق المراوغة. قبّلها بشفاهٍ اشتاقت، بشغفٍ لم يعُد خفيًّا. لم يكن يقبّلها فقط، بل كان يعبّر بكل طريقه يجيدها عن حبّه، عن احتياجه، عن تمسّكه بها، حتى في ذروة الاحتراق ..
شفتيها تورّدتا، توّرمتا من ضراوة قبلاته، شهقتها اختلطت بأنفاسه، وذراعاها التفّتا حوله، كأنها تخشى أن يتبدّد من بين يديها ..
وكان هو يردّ على كل لمسة بلمسة، وعلى كل شهقة بهمسة، وعلى كل مقاومة غريزية من حينٍ لآخر بوعدٍ جديد يطمئنها ويردّها إليه طائعة ..
ولكنها لم تكن تعلم، بينما هي في ذروة العشق، بأنها تسير نحوه طوعًا إلى الهاوية، ولعله هو أيضًا لا يعلم!
__________________________________________
وقف "رياض نصر الدين" خلف مكتبه العريض، وعيناه تشتعلان كأنما انطفأت فيهما الحكمة وحلّ مكانها الجمر وهو يصيح بصوتٍ جهوري:
-إنت بتجول إيه يا زين؟ شوفتها معاه كيف؟ وحدهم؟؟؟؟؟؟؟
جاوبه "زين" بصوتٍ هادئ لكنه لا يقل عنه غضبًا مطلقًا:
-شوفتها بعنيا معاه في الفندق. وقبل ما أمشي سألت وعرفت إنهم نازلين في نفس الأوضة مع بعض يا جدي.
ينفجر صوت "رياض" وهو يضرب بكفه على المكتب بعنفٍ:
-يعني إيــــــــــه؟؟؟؟؟ شرفنا اتداس تانـي يا زيـن؟؟؟؟؟؟؟؟
يقترب "زين" منه خطوة، نبرة صوته تنخفض لكن عيونه تلمع بنذر الانتقام:
-أنا هارجّعها يا جدي... غصبٍ عن الكل. ولو حصل إيه هاترجع.. ومش هاسيب إللي اسمه نديم ده لو إللي في دماغي طلع صح. أقسم بالله ما لا ترجع يا جدي ولو على رقبتي.. بكرة هكون واصل لها.
تمتم "رياض" بصوتٍ يغلي ويختنق من شدة الحنق:
-البت ضاعت كيف أمها يعني؟ جولّي يا ولدي.. جول حاجة برّد لي جلبي يا زين!!!
زين بصرامة: كل إللي هقوله إني مسؤول أرجع لك حفيدتك يا جدي.. ولحظة ما ترجع لك.. أوعدك إن كل شيء هايتغيّر!
سكت "رياض" الآن ..
لم يعد لديه ما يُقال، كأنما أعياه الغضب واستنزفه الخذلان. حدّق في "زين" طويلًا، ورأى فيه صدى سنواته الأولى، حين كان الدم يغلي قبل أن يبرده العمر ..
في الخارج، الليل يهبط على القصر كستارة حداد.. لا أحد يعلم بعد.. أن هناك عاصفة قادمة.. لن تُبقي ولن تذر!........................................................................................................................................................................................................................................................................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
( 18 )
_ أنتِ أهلي "1" _ :
استفاقت "ليلى" من نومها ببطء، كما لو كانت تطفو في بحرٍٍ دافئٍ وثقيلٍ من الأحلام. أول ما شعرت به كان ملمس الملاءة الحريرية على بشرتها العارية ..
كأنها ما زالت تحت قبضته، فتحت عينيها قليلًا، ثمة ضوء صباحي خافت يزحف من خلف الستائر الشفافة، ينثر ظلالًا ذهبية فوق الجدران وعلى جانب السرير الآخر ..
لم يكن "نديم" هناك!
مدّت يدها بتلقائية إلى مكانه، تتحسس الدفء الذي خلّفه، لا يزال مرقده دافئًا، وكأن جسده كان هناك قبل لحظاتٍ فقط ..
ابتسمت وهي تتنفس بعمق، كأنها تعيد استنشاقه من ذاكرة الوسادة التي لا تزال تحمل أثر رأسه، كان كل شيء فيها يصرخ باسمه، جسدها، قلبها، وحتى جلدها الذي لا يزال يرتجف كلّما تذكرت كيف لامسه ..
تذكّرت كل تفصيلة، كل همسة، كل لحظة من الليل الذي مضى ببطء وكأنه لا يريد أن ينتهي ..
كان الليل طويلاً بينهما، ممدودًا كالقصيدة، وقد نسج جسده فوق جسدها سطورًا من لذةٍ وخضوعٍٍ كامل ..
تذكرت كيف كان يلامسها بصبرٍ رجلٍ يعرف تمامًا أين ينتهي عقلها ويبدأ جسدها بدلًا منه، لم يكن يعبث بها، بل يغزوها على مهلٍ، كمن يكتشف قطعة نادرة من كنزٍٍ دفين، وكلّما قضى معها وقت أكثر، كلما ازداد انبهارًا، كانت تتنفس من بين أنفاسه، تتأوّه بين يديه، تحترق لسماع صوته الخشن يناجيها ويغازلها غزلٍ صريح، تذوب تحت وطأته، دون أن تفكر، دون أن تقاوم ..
هو لم يجعلها تحبه فقط، بل جعلها لا تعرف كيف تعيش بدونه!
عيناها غامت للحظة، تلتمع، ليس بالدمع، بل بالإشباع ..
ذلك النوع الذي يجعل الجسد ينهض بثقل لذيذ، كما لو أن الليل ترك داخله أثرًا جسديًا لا يُمحى ..
اعتدلت في الفراش، وسحبت الملاءة عليها، تلفّها حولها بإهمالٍ محسوب، ووقفت ..
كانت عارية تمامًا، لكنها لأول مرة لا تشعر بالخجل، فكل شيء فيها صار يعرفه ويألفه، حتى الحياء صار طقسًا عابرًا لم يعد له مكان بينهما ..
سارت خارج الغرفة بصمت، قدماها العاريتان تلامسان الأرضية الباردة، وجسدها يتذكر الطريق إليه كأنما قوى غير مرئية تجذبها إلى مكانه ..
سمعت صوتًا يأتي من المطبخ، خافتًا، غير محدد، ربما كان صوت صنبور مياه، أو صحنٍ يُغسل ..
اقتربت أكثر، حتى وصلت عند عتبة المطبخ، فرأته ..
كان واقفًا أمام الحوض، عاري الجذع، لا يرتدي سوى سرواله الداخلي، وظهره لها ..
كانت عضلاته تتحرك تحت جلده كلّما حرّك ذراعيه، وكل تفصيلة في جسده مألوفة، لكنها لا تكف عن إدهاشها ..
الضوء المتسلل من نافذة المطبخ الصغيرة ألقى عليه ظلًا رقيقًا، جعل خصره يبدو أكثر نحولًا، وكتفيه أكثر اتساعًا، وبشرته البرونزية أكثر لمعانًا وجاذبية ..
استدار برأسه، وكأنه شعر بها قبل أن تصل، ابتسم تلك الابتسامة العفوية التي لا يراها سواها، كذا صوته الذي صار مألوفًا في كل أرجاءها حين قال:
-صحيتي!
ضحكت ومالت بجسدها على حافة الباب، تمسك الملاءة حول صدرها بإحدى يديها قائلة بصوتٍ به نبرة نعاس:
-كنت مستنية ألاقيك جنبي عشان أرجع أنام تاني. بس لقيت السرير فاضي.. ف صحيت.
اقترب منها بخطوتين، عينيه الخضراوان تلمعان في الضوء، وشعره البنّي أشعث قليلًا ...
-أنا قمت بدري عشان أحضر لك الفطار بنفسي!.. قالها بهدوء وهو يسحب طبق مسطّح من فوق الرخامة المجاورة
رفع قطعة الخبز المحمّص ومدّها نحو فمها، استجابت له وفتحت فاها وعضّت الخبز آكلة منه، لتتذوّق أشهى "فرنش توست" باللحم والبيض والخضروات ..
-امممممم!.. أصدرت صوتًا ينم عن تلذذها وهي ترفع حاجبها والابتسامة لا تفارق فمها
سألها مبتسمًا: عجبك؟
أومأت له بقوة، ليتشاركا الساندوتش، فيطعمها قضمة ويأكل هو قضمة، حتى أكلا اثنان بهذه الطريقة ..
صب لها كأسًا من العصير وجعلها تشربه كلّه جرعة واحدة وهو يقول بصوتٍ خفيض:
-إللي قلت لك عليه هو إللي حصل بالظبط. راندا ماتقدرش تفتح بؤها بعد ما شافت الوش التاني مني وعرفت إني مابهزرش لو الموضوع يمسّك.
تنفست الصعداء بعد أن أنهت كأس العصير، نظرت إليه بقوة وسألته بقلق:
-إيه إللي حصل؟
-صحيت لاقيت رسالة من أبوها.. بيقولّي أروحله عشان نخلّص الموضوع بهدوء.. ف عرفت إنها ماتكلمتش عننا.
-وعرفت ده إزاي؟
-راندا لو كانت قالت إللي شافته أبوها ماكنش هايسكت وعمي هو إللي كان هايكلمني والدنيا هاتتقلّب في لحظة.. لكن هي عملت إللي توقعته بالظبط.. خافت مني.. وعملت الصح. لأنها فعلًا لو كانت جابت سيرتك بكلمة واحدة ماكنتش هاخرجها من العلاقة دي سليمة.. انتي بالنسبة لي خط أحمر يا ليلى.. أنسف أي حد يفكر يئذيكي أو يقرب لك.
تلاشت علائم القلق عن وجهها فورًا وامتلأ محيّاها بالابتسامة ..
ابتسم لها بدوره واقترب أكثر، مدّ يده إلى طرف الملاءة، شدّها قليلًا، ثم تركها قائلًا:
-بس كنتي مبسوطة أوي امبارح.. مش كده؟
ابتسمت بخجلٍ حلو، لكن عينيها قالتا شيئًا آخر، أكثر عمقًا، وأكثر احتياجًا وهي تغمغم:
-انت عارف إنك كنت مجنون؟ مجنون بجد!
-وانتي كنتي بتطلبي الجنون بنفسك.. أنا ماعملتش أي حاجة غير إني نفذت لك رغباتك كلها.. حتى منغير ما تنطقي وتقوليلي.
نظرت إليه، لم ترد، فقط مشت نحوه حتى التصقت بصدره العاري، ألقت برأسها على كتفه، وهمست:
-أنا مش قادرة أصدق لحد دلوقتي.. أنا وانت مع بعض.. متجوزين.. أنا بحلم يا نديم صح؟
تمتم رادًا عليها وهو يمرر أنامله على خدّها:
-لأ يا حبيبتي.. دي حقيقة.. انتي معايا. انتي مراتي.. وأنا موجود دايمًا عشان أحافظ عليكي وأسعدك.. وهاسعدك. بكل طريقة. هاعلّمك. هاوريكي الدنيا. وهاديكي الحياة إللي تستاهليها.. هاخلّيكي أم!
ردت بجملة أدهشته:
-أنا جعانة!
ضحك بانطلاقٍ، صوته دافئ ومرح وهو يقول:
-جعانة؟ طب عايزة تاكلي إيه؟
رفعت عينيها له، ونطقت كأنها تبوح بسرٍ:
-حب.. جعانة حب.. حبك يا نديم!
توقفت الكلمات في الهواء بينهما لوهلةٍ، كأن الزمن انحنى احترامًا لتلك الجملة الصغيرة، تختزل كل العشق والمشاعر ..
لم تكن مجرد رغبة تصرّح عنها، بل اعتراف، احتياج ناضج، نابع من عمق العلاقة التي تجاوزت الجسد إلى شيء أعمق، شيء فيه انتماء وفضول وخضوع طوعي لذاك الرجل الذي دفعها نحو عالمٍ جديد لطالما جهلته ..
ضمّها "نديم" إليه دون أن يقول شيئًا، صدره دافئًا، نابضًا، رائحته ما زالت تحمل آثار الليل، خليط من العرق، العطر، وأنفاسها المتداخلة معه ..
مرّر أنامله على ظهرها فوق القماش الخفيف للملاءة، كأنما يتحسس حدود اشتياقها وقال بخفوت:
-انتي بتتعلّمي بسرعة.. أسرع من توقعاتي!
همست، ورأسها على عنقه:
-أنا بحبك.. هو ده كل إللي أنا عارفاه.. بحبك.
ابتسم، لكنها لم تكن ابتسامة كاملة، كان فيها شيء من التوّرط، من الانجذاب الذي لا يملك منه مهربًا ..
أمسك وجهها بين يديه، رفعه برفقٍ، وتأمل عينيها. كانت فيهما بقايا نعاس، بقايا دموع لذة، وبصمة واضحة من أثره ...
-وهاتفضلي تحبيني؟ مهما حصل؟
جاوبته بثقة مطلقة:
-لآخر يوم في عمري.
مرر يده خلف رأسها، جذبها إليه ببطءٍ، ثم قبّلها. لم تكن قبلة مفاجئة، بل امتداد لما بدأ بينهما منذ الأمس، قبلة فيها سكينة أولًا، ثم جوع ..
نفس الجوع الذي نطقت به منذ لحظة، جسده التصق بها أكثر، وذراعه انسلّت داخل الملاءة، تلامس جلدها مباشرةً، كأنما يطلب الإذن بالدخول من جديد إلى تلك الأرض التي فتحت له أبوابها أمس دون شروط ..
همس قرب أذنها، صوته منخفض وخشن:
-تيجي نكمّل إللي ماخلصش؟
ابتسمت، ثم نظرت إلى عينيه مباشرةً وقالت:
-كأنك خلّيت في حاجة فاضلة؟
-معاكي مافيش حاجة ممكن تخلص.. انتي لسا مش عارفة قيمة نفسك.. ومش عارفة أنا شايفك إزاي!
رفعها من تحت خصرها برشاقة، فلفّت ذراعيها حول عنقه في الحال، والملاءة انزلقت قليلًا لكنها لم تهتم، لم يعد هناك شيء تخفيه عنه، لا جسدها ولا ضعفها ..
حملها من المطبخ، عائدًا بها إلى الغرفة، مرّا بجانب مرآة الحائط، فرأت انعكاس جسده القوي وهو يحملها، وشيئًا ما في هذا المشهد جعل قلبها يخفق بقوة ..
ربما فكرة أنها ملكت هذا الرجل حقًا، ملكته حتى صار يعود لها بشوق طفل، وبقوة رجل ..
حين دخل بها الغرفة، ألقاها برفقٍ على السرير، وتبعها بجسده دون أن يمنحها فرصة لتستوعب شيء، وكأن ليلة أمس قررت أن تكرّر نفسها، لكن هذه المرة بصباح لا يعرف الاكتفاء!........................................................................................................................................................................................................................................................................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ...
( 19 )
_ أنتِ أهلي "2" _ :
كان على رأس الحراسة منذ بُكرة الصباح ..
قام قائد الحرس "زين نصر الدين" بالإشراف على خطة الأمن بنفسه، أخذ جولة حول الفيلا، تأكد من أن كل الأمور في نِصابها، ثم عاد إلى الباحة الداخلية حيث كان ينتظره زميله في العمل وصديقه المقرّب "عدي الشرقاوي" ..
تصافحا ما إن إلتقيا وتعانقا عناق الأخوة سريعًا، ثم تراجع "زين" وهو يقول عابسًا:
-أهلًا يا عدي.
رفع "عدي" حاجبه الكثيف قائلًا:
-أهلًا يا عدي؟ في إيه ياض هو أنا كنت بايت في حضنك؟ إيه المقابلة دي. ده أنا بقالي شهر ماشوفتكش.
زين باقتضاب: معلش سامحني بس أعصابي مشدودة أوي.. قولّي جبت لي المعلومات إللي طلبتها منك؟
أومأ له: حصل ..
وأستلّ من وراء طوق خصره المدجج بالسلاح ملفًا مطويّا بعناية، سلّمه إيّاه قائلًا:
-الفايل ده في كل حاجة عن رجل الأعمال نديم الراعي. تاريخه من يوم ما اتولد وتاريخ عيلته كلها.
كان "زين" يتصفّح الأوراق تباعًا وهو يقول عاقدًا حاجبيه بشدة:
-المهم عرفت لي مكانه فين؟ أنا ماعرفتش أوصله لحد دلوقتي.
-عيب يا باشا ده احنا أكبر جهات أمنية في البلد. عيب تسأل السؤال ده. جبت لك كل حاجة.. شوف كده!
رفع "زين" نظراته عن الأوراق وألقى نظرة مطوّلة على شاشة الهاتف المسلّطة أمام وجهه ..
رآى ابنة عمته، رآى "ليلى" في لقطةٍ تمشي في الشارع برفقة المدعو "نديم الراعي"متشابكي الأيدي.. وفي لقطات أخرى معه أيضًا يقفان بنافذة إحدى الشقق الفاخرة في مشهدٍ أثار حفيظته.. حيث كانا يتبادلان القُبل بحرارةٍ ..
يوشك ظنّه أن يتأكد، توشك الحقيقة أن تتكشّف أمام الجميع، و"ليلى" أول من سيدفع الثمن ...
-خير يا زين؟ .. تساءل "عدي" باهتمامٍ:
-مش هاتقولّي إيه الحكاية؟ مزعلك في إيه نديم ده؟
نظر "زين" له وعيناه ملؤهما الحقد والدماء، ثم قال بصوتٍ خافت ينذر بالهلاك:
-تخيّل إنه قدر يزعلني؟ الوحيد في الدنيا دي إللي قدر يعملها.. بس وعزة الله.. لا أزعله.. جامد!!
حاول "عدي" مرةً أخيرة معرفة أيّ تفاصيل أخرى عساه يعاضد صديقه إن كان يحتاجه، لكن "زين" رفض الإفصاح بتاتًا، فلم يصرّ عليه، ودّعه وذهب ليلحق بعمله الطارئ ..
بينما ذهب "زين" إلى الحديقة الخلفية، حيث يتناول جناب السفير "عاصم البدري" الفطور برفقة ابنته "ريهام" ..
أقبل "زين" نحوهما بانضباطه المعهود، كانت الفتاة الشابة تجلس بجوار أبيها، الرجل الذي بلغ احترامه طبقاتٍ ومستويات عُليا، ها هو يهبط لمستوى عقلها المتدني، فتارة يضمّها إلى صدره، وتارة يطعمها بيده، لكنه لاحظ كم إنها تنأى عنه قدر استطاعتها، وكأنها تخافه، أو تراه وحشًا رغم كل ما يفعله لها ...
-صباح الخير سيادة السفير!
تطلّع "عاصم البدري" نحو "زين" مبتسمًا، وقال:
-صباح النور يا زين.. انت مبدّر أوي افتكرتك جاي بعد الضهر.
-مقدرش أتأخر على معاليك أنا في خدمتك طول مدة وجودك في البلد.
-عمومًا أنا ماعنديش مشاوير إنهاردة ورجالتك قايمين بالواجب. لو حابب ممكن تمشي وتشوف أمورك براحتك وبعدين تعالى بكرة.. بكرة عندنا زيارة للقنصلية الساعة 10 الصبح.
-يافندم حضرتك ماتقلقش أنا مافيش ورايا غيرك وأكيد لما أعوز أطلع من الفيلا شوبة هاجي وأستأذن سيادتك زي ما عملت امبارح.. لكن حاليًا أنا تحت أمرك زيي زي رجالتي.
نظر له "عاصم" معجبًا بتركيبته الفريدة، بدا أمامه كضابط كفؤ ورجل قوي يعتمد عليه، هز رأسه قائلًا بلهجة كأنها توسمه بالتقدير الذي يستحقه:
-إللي تشوفه يا سيادة الرائد. وأنا إللي تحت أمرك والله لأني حقيقي منبهر بيك. رغم إني قضيت معاك أقل من أسبوع لكن ثقتي فيك مالهاش حدود.
ابتسم "زين" بخفة ابتسامة بالكاد لوحظت وهو يقول بصوته العميق:
-ده شرف ليا معاليك.. أي شيء تحتاجه أنا في الخدمة دايمًا ..
ونقل بصره نحو "ريهام" مكملًا:
-وكمان الأنسة ريهام.. أنا تحت أمرها في أي وقت.
أطلق "عاصم" ضحكة قصيرة وقال وهو ينظر إلى ابنته العابسة:
-الأنسة ريهام زعلانة منك على فكرة وأنا بقالي كام يوم بحاول أحسّن صورتك في عنيها. بس الظاهر مافيش فايدة.
هز "زين" رأسه مرددًا:
-أنا عارف. وعارف السبب تقريبًا. بس نفسي الأنسة تفهم إني كنت بعمل شغلي مش أكتر. وإني مش ممكن أكون قاصد أضايقها أو أزعلها.. أنسة ريهام. زعلك على راسي. أنا آسف.
لم ترد "ريهام" عليه وظلّت مُحدقة أمامها في اللاشيء ..
تنهد "زين" وهو ينظر لأبيها مستطردًا:
-أنا كنت عارف إن الأنسة زعلانة مني عشان كده كنت حابب أصالحها بطريقتي.. تسمح لي معاليك؟
وافق "عاصم" على الفور بإيماءة من رأسه، ليلتفت "زين" صوب أحد رجال بالقرب ويعطيه الإشارة، فيرى كلًا من "عاصم" وابنته فردان من الحراسة، أحدهما يجر فوق عربة صغيرة بيتًا خشبيًا قيّمًا مخصص للكلاب، والآخر يحمل فوق ساعديه باقة متنوعة من الشوكولاه البلجيكية المستوردة قد أرسل في طلبها خصيصًا لأجلها، مغلّفة بورق "كرافت" بلون العاج مزيّن برسومات كرتونية مستوحاة من قصص الأميرات، بالإضافة لصندوق خشبي أنيق يحتوي على أدوات تلوين، دفتر رسم، ألعاب صغيرة لشخصيات كرتونية شهيرة، و"ميني سلايم" بألوانٍ مُبهرة ..
ما إن رأت "ريهام" هذه الأشياء حتى هبّت من مكانها مُثارة لروعتها، لكنها لم تجرؤ على إتخاذ خطوة واحدة نحو "زين" أو رجاله ..
في المقابل يبتسم "زين" متيقنًا بنجاح مخططه، اقترب منها خطوة واحدة قائلًا بلطفٍ جمّ:
-أنسة ريهام.. دي هدية بسيطة أتمنى تقبليها مني. أنا ماكنتش أقصد أبدًا أزعلك أو أضايقك. أنا آسف جدًا وعمري ما هاعمل أي حاجة تزعلك تاني.
أخيرًا رفعت "ريهام" عينيها الزرقاوان إليه، شعّ بريقهما في ضوء الشمس ملتمعًا آسرًا، مرّت لحظات دون أن ينبس أحد بكلمة، حتى أفتر ثغرها الحلو عن ابتسامة رقيقة، بريئة ..
رفعت سبابتها قائلة بصوتها ذي الطابع الطفولي:
-مش هاتزعق في ريري تاني؟ وهاتخلّي ميمي تنام معايا في أوضتي!!
ابتسم "زين" لاعنًا من بين أنفاسه تلك الكلبة الشقيّة ذات النباح المستمر، نباحها ذاك الذي لا يجعله قادرًا على النوم لساعاتٍ طويلة في الليل وهي بالخارج، فكيف لو سمح لها بالدخول إلى المنزل؟
لكنه رغم ذلك رضخ لها وقال:
-عمري ما هازعق في ريري تاني.. وميمي تقدر تنام معاكي في أوضتك من الليلة.. خلاص صالحتيني؟
أومأت له بقوة، ثم قفزت مُصفّقة وهي تنطلق صوب هداياها التي وضعها الرجلين فوق الطاولة القريبة، جثت "ريهام" أمام الشوكولاه والألعاب الأخرى مستكشفة كل شيء، بينما يقترب "زين" من "عاصم" الذي ما فتئ يبتسم له، ثم شكره بامتنانٍ:
-أنا مش عارف أقولك إيه يا زين.. شكرًا بجد.. انت الوحيد إللي خلّيتها تضحك وتتنطط من الفرحة بالشكل ده. ده أنا بعاني معاها من ساعة ما وصلت ومقدرتش أخلّيها تبتسم حتى. شكرًا حقيقي.
حافظ "زين" على ابتسامته وقال:
-لا شكر على واجب يافندم.. الأنسة ريهام تستاهل كل شيء جميل. أنا عمري ما شوفت رقة وبراءة بالشكل ده. ربنا يحفظها لمعاليك. إللي هاتكون من نصييبه أكيد إنسان محظوظ جدًا.
وهنا تلاشت الابتسامة عن وجه "عاصم" شيئًا فشيء، استوقفته كلمات "زين" الأخيرة بشدة، لدرجة أنه حوّل بصره تجاه ابنته وتسمّر تمامًا، كأنه يرى أشياء لا أحد غيره يراها ..
بينما "زين" يبتسم باتساعٍ أكبر، فهو الوحيد الذي يعلم جيدًا ما يدور بعقل الأب، كما يعلم أن أيّ خطوة تالية ستكون من طرفه هو، إن شاء يتخذها في الوقت الذي يحدده.. ولعله يرجو ألا يتخذها مطلقًا ..
إلا إن أضّطُر ...
_____________________________________________
جاثية على ركبتيها منذ دقائق طويلة أمام المرحاض، يديها تستندان على طرف السيراميك البارد، وجسدها ينتفض مع كل موجة قيء تعصف بها ..
أنفاسها متقطعة، ودموع غير إرادية سالت من عينيها وهي تغمضهما بقوة، كأنها تحاول أن تحبس كل ما يؤلمها داخلها ..
في داخلها الآن فوضى لا صوت لها ..
هل يُعقل؟
هل ما تخشاه حقيقي؟
أن يكون هناك كائن ينمو في رحمها.. منها ومنه؟
ولكن كيف يحدث هذا دون علم أحد؟
لا أحد… لا أحد يجب أن يعرف قبل أن يتم إعلان زواجهما بشكلٍ رسمي كما وعدها ..
لن يعلم والدها قبل ذلك.. إن علم فستقتله الصدمة ..
وأمها، على الرغم من توتر العلاقات بينهما طيلة حياتها ولكنها ستنهار أيضًا ..
أخويها كذلك.. ستُصلب في أعينهم وتنحدر للأبد ..
ارتجف جسدها من جديد، ليست لبرودة الحمام وحدها، بل الخوف، الخوف وحده ينهش عظامها ..
ماذا فعلت؟ كيف طاوعته حين أخبرها أن لا حرج لو حدث وحملت منه؟
لقد فرحت حينها، ولكنها الآن مذعورة، ويراودها إحساس مُبهم بأن الأمور ستسوء، وإنها ما كان ينبغي أن تفعل ذلك منذ البادئ ..
ولكن قلبها من جهةٍ أخرى يسيطر عليها، لقد حصلت على حبيبها، من غيره يستحق أن تمنحه جسدها إن كان وحده الذي يملك قلبها؟
لقد تزوجها، لقد وعدها بأن يطلق زوجته ويعلنها هي زوجةً له، وفوق كل ذلك هو ابن عمّها، شرفها شرفه، عِرضها عِرضه، إنها تثق فيه كثيرًا، فهو لا يكذب، لا يخدع، حبيبها "نديم" هو مثال لكل صفات النبل والرجولة بالنسبة لها، إنها تحبه، توليه ثقتها العمياء كاملةً دون أدنى شك رغم كل الخوف بداخلها ...
-لولّا!
سمعت صوته، يتبعه طرق خفيف على باب الحمام ..
لقد عاد!
لم يتأخر كثيرًا، فقد تركها بعد تناول الفطور ونزل ليتسوّق قريبًا من المنزل إذ كانا بحاجة لأشياء كثيرة نفذت منهما، كالطعام والمستلزمات الشخصية الأخرى ..
طرق ثانيةً وهو يهتف بلطفٍ:
-ليلى؟ انتي لسا جوا من ساعة ما نزلت. بقالك كتير كده يا حبيبتي… انتي كويسة؟
رفعت رأسها ببطء، نظرت إلى انعكاسها في المرآة، رغم ضبابية نظرها، رأت وجه شاحب، عيون محمّرة، شعر مشعث ..
إنها حقًا متعبة ..
ردّت بصوتٍ مبحوح ومرهق:
-أيوة يا نديم.. طالعة.. طالعة اهو!
نهضت متثاقلة، فتحت الصنبور، غسلت وجهها مراتٍ عديدة، كأنها تحاول أن تمحو كل آثار الذعر، أن تُنكر، أن تُكذّب الجسد وما يبوح به ..
خرجت من الحمام بخطى بطيئة ..
رأت "نديم" جالسًا على طرف السرير، بهندامه المعتاد، الأنيق، عينيه عالقتان بهاتفه بينما يتحدّث إليها:
-عمي لسا مكلّمني يا لولّا.. فاكر إننا لسا في الغردقة طبعًا. قلت له يومين وراجعين عشان جامعتك.. أنا آخرتك عليها كتير. عارف. أسبوعين وزيادة ..
رفع عينيه أخيرًا ..
إلا إن الكلمات تجمّدت على لسانه عندما رآها ..
وجهها… شاحبٌ وشفتاها جافّتان.. وجسدها بالكاد يحملها ..
ساقاها ترتعشان، وعيناها تطلبان النجدة دون أن تنطق!
ألقى الهاتف جانبًا، ونهض بسرعة، اقترب منها كأن المسافة بينهما فجأة أصبحت أطول ممّا تحتمل ليصل إليها ..
صوته امتلأ بالقلق وهو يسألها بخشونة:
-مالك يا ليلى؟ فيكي إيه؟!
لم تستطع الرد فورًا، فحثها بنفاذ صبر ممسكًا بكتفيها:
-اتكلمي يا ليلى مالك؟ انتي تعبانة ولا إيه قوليلي!!!
باعدت بين شفتاها الشاحبتان، ونطقت أخيرًا بتردد:
-نديم.. أنا... أنا حامل!
ران الصمت للثوانٍ عديدة ..
وكأن وقع الكلمة على أذنيه له صدى غير الذي توقّعه، ثم جرت الكلمات على لسانه فجأة بمنتهى الهدوء:
-انتي عايزة تقولي يعني إنك شاكّة إنك حامل؟
ازدردت ريقها بتوتر وقالت:
-أنا مش متأكدة.. بس حاسة بنفسي.. جسمي متلخبط. وماليش نفس للأكل. ولو كلت معدتي مش بتستحمل. وحاسة بدوخة بقالي يومين وتقل.. أنا خايفة يا نديم!
ابتسم على الفور محاولًا تبديد مخاوفها، أمسك بيدها بين يديه وسحبها لتجلس فوق كرسي قريب، جثى امامها قائلًا بلطف:
-طيب إهدي.. إهدي يا حبيبتي. انتي خايفة من إيه؟ أنا مش قلت لك إني أصلًا عايزك تحملي؟ وأهو حصل. ده أحلى خبر ممكن أسمعه. لو صحيح كمان هكون أسعد راجل في الدنيا. هايكون ليا طفل منك. منك انتي يا ليلى.
عقدت حاجبيها بوهنٍ مرددة:
-بس.. بابا!
طمأنها بهدوء: عمي مش هايعرف غير بعد جوازنا.. أنا عايزك تثقي فيا.. مش هاخلّيكي تواجهي أي حاجة ممكن تئذيكي أو توجعك. هاحل كل المشاكل لوحدي. وبعدها هانتجوز رسمي والدنيا كلها هاتعرف.
نظرت له بحيرة وقالت:
-أنا خايفة بس كل ده يطول.. والحمل يبان عليا!!
شدد قبضته على يدها يبث فيها الأمان أكثر وهو يقول بثقة:
-مش هايطول.. وبكرة الصبح هاخدك ونعمل تحليل عشان نتأكد لو في حمل فعلًا ولا لأ. لو طلع صحيح ف ده مافيهوش أي مشكلة. بالعكس. دي هاتكون أحلى بداية لينا.
وقام ليجلس على يد الكرسي بجوارها، ضمّها إلى صدره بقوة متمتمًا:
-أنا وراندا تقريبًا انفصلنا.. مش فاضل غير حاجات صغيرة بس.. هاتتحل في أسرع وقت. وبعدها هاتبقي ملكي.. ومحدش أبدًا هايقدر ياخدك مني.. ولا حتى يقرب لك!........................................................................................................................................................................................................................................................................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ...
( 20 )
_ أريدها _ :
وصل موكب السفير في وقتٍ مبكر، إلتحق بمبنى القنصلية بمفرده، بينما انتظر "زين نصر الدين" وجميع رجاله أمام البوابات الرئيسية ..
لم يخرج "عاصم البدري" قبل مرور ثلاث ساعات، فتح له "زين" باب السيارة الخلفي، ثم أستقلّ بجوار السائق، ما إن عبروا الطريق الرئيسي حتى تنفس "عاصم الصعداء مرددًا:
-ياااااه يا زين.. أد إيه الواحد تعب في حياته. أد إيه الشخصيات المهمة حياتها بتبقى أصعب مليون مرة من المواطن العادي.. النفوذ له تمن صح؟
أومأ له "زين" ورد بصوته العميق:
-مظبوط يافندم.
كان "عاصم" يراقب الطريق والشوارع عبر زجاج السيارة بجواره، يلتهم تفاصيل الأحياء الشهيرة، وينظر بشوق المُحب إلى معالم المدينة العريقة قائلًا:
-القاهرة زي ما هي يا أخي.. ماتغيّرتش!
زين بلهجةٍ رسمية:
-شكليًا كل حاجة زي ما هي. لكن عمليًا المؤسسات الحكومية والجهات الرسمية كلها اتنقلت العاصمة الجديدة.. وده أوفر وأحسن بكتير.
نظر "عاصم" له معلّقًا بدهشة:
-كلها؟ أخر مرة زورت وزارة الخارجية من 3 سنين في قلب القاهرة.. معقول لحقوا يتنقلوا؟
جاوبه "زين" بلهجة تفيض فخرًا:
-المرحلة الأولى بدأت من سنتين مع 14 وزارة وهيئة حكومية زي الإسكان. النقل. الشباب والرياضة. العدل. الخارجية. التضامن الاجتماعي. الكهربا والطاقة. الاتصالات وغيرهم.. بعض الوزارات اتنقلت بالكامل والبعض الآخر اتنقل جزئيًا. لكن قبل أخر السنة كله هايكون اتنقل على العاصمة بشكل نهائي ان شاء الله.
ابتسم "عاصم" فخورًا بدوره وقال:
-هايل. خطة النقل دي هاتحل أزمات كتير.. الزحمة هاتخف. وهايتم استثمار المباني التاريخية في وسط القاهرة في التجارة والثقافة.
-ده أكيد يافندم. الدولة بالفعل ماشية في الخط ده. كل المباني القديمة إللي حوالينا دي تم نقل ملكيتها للصندوق السيادي. مش بس العاصمة الجديدة إللي بتشتغل. القاهرة في مدة قصيرة جدًا هاتطوّر للأحسن.
عاصم باعتدادٍ: أكيد ..
ثم قال آمرًا بلطف:
-أقف عند كازينو "......" يا زين.. نفسي أوي أشرب فنجان قهوة على النيل.
-أمرك يافندم.
وأرشد "زين" السائق إلى الوجهة المنشودة ..
أصر "عاصم" أن يجالسه "زين" إلى طاولته، وطلب قدحيّ قهوة لكليهما، بينما يتخلّى عن سترته ويحلّ ربطة عنقه مستنشقًا نسيم النهر العذب العظيم ...
-عندي ذكريات غالية أوي في المكان ده يا زين! .. قالها "عاصم" شاردًا في الأفق والابتسامة البسيطة تفترش ثغره
لم يقاطعه "زين" حين استطرد بحنبنٍ:
--أول خروجة مع البنت إللي حبيتها.. أول مسكة إيد.. حتى أول بوسة ..
وقهقه ضاحكًا بصوتٍ مجلجل، ثم نظر إليه مكملًا:
-قبل ما المكان ده يتوسع ويبقى كازينو كبير. كان كورنيش صغير.. كل ركن هنا بيفكرني بيها.
عقّب "زين" باهتمامٍ مبطن:
-والدة الأنسة ريهام؟
حدق "عاصم" فيه طويلًا، ثم قال بهدوء:
-لأ.. مش أم ريهام.. أم ريهام اتجوزتها بعد سنين طويلة من يوم ما انفصلت عن إللي بحبها. وكان جواز تقليدي جدًا.
بدا الفضول بعينيّ "زين" لكنه لم يجرؤ على السؤال، ابتسم له "عاصم" وقرر أن يروي القصة لأول مرة على مسامعه هو، إلا إن النادل قد أتى الآن واضعًا القهوة أمامها ..
رفع "عاصم فنجانه إلى فمه مرتشفًا منه جرعة كبيرة، ثم تنهد مسندًا ظهره إلى المقعد المنجّد ومضى يقول:
-البنت إللي حبيتها. كانت بنت الجيران. أبوها كان لواء وكانت دلوعته زي ما بيقولوا.. بنته الوحيدة بقى. درسنا في مدرسة واحدة. كنا بنروح ونيجي مع بعض.. كانت قصة حب كل زمايلنا بيتغنّوا بيها. وماكنتش شايف نهاية لينا غير الجواز. لكن.. وصل أبوها لسن التقاعد. وقرر ياخدها ويسافروا.. أنا وقتها كنت لسا مجرد طالب. مقدرتش أوقفه. مقدرتش أمنعه ياخدها.. وسافرت. وقررت أنا قلبي يموت بعدها من شدة حبي ليها. حطيت همّي في الدراسة. دخلت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. حققت حلم أمي الله يرحمها وبقيت سفير. طبعًا. عاصم ابن الباشمهندس يوسف البدري. حب عمرها والراجل إللي مافيش زيه في عنيها. لازم ابنه يطلع حاجة كبيرة. ابنه إللي اتيتّم وهو صغير أوي. وهي إللي ضيّعت شبابها كله عليا ووقفت جنبي لحد ما بقيت معالي السفير.. جمايلها كانت في رقبتي زي الطوق الحديد. وفوق كل ده هي أمي. ماكنتش بقدر أرد لها طلب.. عشان كده لما جت وطلبت مني أتجوز بنت أختها المعاقة ذهنيًا عشان أحافظ عليها وأصونها لأن محدش أبدًا هايرضى يتجوز بنت في ظروفها غير ابن خالتها إللي من دمها ولحمها.. مقدرتش أقول لأ. ومكنتش مهتم أصلًا بـ هاتجوز مين بعد حبيبتي.. بالعكس. رضيت في الأخر. واتجوزت أمل بنت خالتي.. كنت شارط عليهم كلهم إن مافيش خلفة نظرًا لظروفها. وإني لو حبيت أتجوز عليها محدش يعترض. وبالفعل. تم الجواز بالشروط دي.. أمل اتولدت وعاشت عمرها كله بعقل طفلة 6 سنين. لكن كانت زي الملاك. وذكية جدًا. اتعلّقت بيا بعد جوازنا بفترة قصيرة. وأجبرتني أتعلّق بيها أنا كمان. كنت حاسس إنها بنتي مش مراتي ولا بنت خالتي. لحد ما حملت فجأة واتوترت علاقتنا لأول مرة.. كنت غضبان. حتى فكرت إنها تجهض الطفل. ماكنتش متخيل إني ممكن أخلّف ولد أو بنت بنفس ظروفها. احتمال إن ده يحصل ولو بنسبة 1% خلّتني أحوّل حياتي وحياتها لجحيم رغم إن مالهاش ذنب.. بس كملت الحمل في كل الأحوال. وجه عمر. ولحد ما كبر وتم 4 سنين ماعملتي ليها ماتغيّرتش. إلا بس لما الدكتور بتاعه قالّي إنه مش وارثها وإنه طفل طبيعي جدًا وهايطلع كويس. ساعتها بس هديت ورجعت معاها أحسن من الأول.. عوّضتها عن قسوتي عليها. بقيت أراضيها بكل الطرق لأني اكتشفت بعدين إني حبيتها. حبيت أمل جدًا. حبيت كل حاجة فيها. وعشنا أنا وهي وعمر في سعادة لسنين.. لحد ما حملت لتاني مرة. واتكرر نفس إللي حصل أول مرة. بس الفرق المرة دي إن عمر كان موجود. وعاش كل ده معانا وشافه بعينه. كنت على أعصابي لحد ما ولدت ريهام. لمدة سنتين بس الدكتور حسم وضعها. طلعت هي إللي ورثت أمها.. وبقت زيها بالظبط. حتى إنها نسخة منها في الشكل.. اتصدمت في الأول صدمة كبيرة. لكن بمرور الوقت اتعودت. بس قررت إني مش هاخلّف من أمل تاني. ومابقتش أتعامل معاها كزوجة زي الأول لأن الحمل حصل في المرتين رغم احتياطاتنا.. ولأنها ذكية زي ما قلت لك. حست بتصرفاتي. وبدأت تتعب نفسيًا لما اتغيّرت معاها. وحالتها ساءت أكتر لما سافرت وسيبتهم.. فضلت تتدبل كل يوم. لحد ما ماتت من القهر... بسببي!
أفلتت من عينه دمعة ساخنة أزالها سريعًا بأنامله، ثم سحب نفسًا عميقًا كأنما يخرج من ذكرياتٍ تنهشه حيًا، تطلّع إلى "زين" ثانيةً وقال بابتسامةٍ مريرة:
-عمر بيكرهني من يومها.. وزي ما شوفته.. رافض إن ريهام تعيش معايا. وعنده حق. تفرق إيه ريهام عن أمل؟ وهو عارف كويس أنا عملت إيه مع أمهم. مش بلومه لأنه مش واثق فيا.
أجفل "زين" عدة مراتٍ محاولًا استيعاب كل هذه المعلومات، ثم رد أخيرًا بصوتٍ محايد:
-على الأقل يا باشا ريهام بنتك. حبك ليها طبيعي هايكون أضعاف حبك لمراتك.. لازم ابنك يفهم ده. انت عمرك ما هاتقدر تئذي بنتك بأي شكل من الأشكال.
أومأ له "عاصم" موافقًا وقال بنظرةٍ ذات مغزى:
-صح يا زين.. عندك حق.. عمري ما هئذيها... ولا هاسمح لمخلوق يئذيها!
حافظ "زين" على هدوئه وهو يسأله بثبات:
-أعتقد محدش يجيله خاطر إنه يئذي الأنسة ريهام أصلًا يا عاصم باشا.. دي مش بشر زينا.. دي. ملاك.
زم "عاصم" شفتيه وهو يشمله بنظرةٍ تقييمية وقال:
-أنا حابب بعد أذنك أفهم إيه سر اهتمامك الكبير ببنتي يا سيادة الرائد؟ مؤخرًا بقيت تغرقها هدايا. بتعرف إيه إللي بتحبه وبتيبهولها. حتى الكلبة بتاعتها بقيت تعاملها معاملة خاصة.. ليه كل ده؟ هل مثلًا عشان هي بنت معالي السفير؟ ولا عشان ظروفها؟ ولا عشان إيه بالظبط؟!
جاوبه "زين" بهدوءٍ مدروس:
-بصراحة ولا سبب من دول يافندم.. أنا معجب بالأنسة ريهام.
لم يندهش "عاصم".. بل سأله باقتضابٍ:
-انت فاهم انت بتقول إيه يا زين؟ عايز تفهمني ان ظابط كفؤ زيك. وراجل في كل المواصفات والمعايير إللي تخلّيه يختار أي بنت مستواها عالي في أي مكان. بنتي أنا تعجبك انت؟
هز "زين" كتفيه قائلًا ببساطة:
-ده إللي حصل يا باشا.. أنا صريح معاك.. الأنسة ريهام فعلًا عجبتني. لنفس الأسباب إللي خلتك تعجب بوالدتها زمان.
صمت "عاصم" للحظاتٍ.. ثم قال:
-والاعجاب ده له أخر؟ ولا هاتعالجه؟
رفع "زين" ذقنه قليلًا ورد بثقة:
-يمكن ماعنديش الجرأة. ولا كنت أقدر أتكلم قبل ما حضرتك تلاحظ وتفاتحني دلوقتي في الكلام ده.. بس بما إننا بنتكلم. وبما إني مش هقدر أفتح الموضوع لوحدي بعدين.. ف أنا بعرض نفسي. أو بتقدم رسمي وبطلب إيد بنتك يا معالي السفير ..
إلتزم "عاصم" الصمت هذه المرة ولم يرد بتاتًا ..
ليستطرد "زين" باسلوبه المنمّق:
-لو حضرتك رفضت أنا هكون متفهم تمامًا. وصدقني بعد القعدة دي عمري ما هفكر أقرب من بنتك ولا حتى هاتعامل معاها برا حدود مهمتي لحد ما تنتهي وأمشي وآ ..
-ولو وافقت؟ .. قاطعه "عاصم" بجمودٍ
أجاب "زين" بجدية:
-لو معاليك موافق عليا ف أنا بتعهّد لك أمام الله دلوقتي إني هاحافظ عليها وهاصونها.. وهاتجوزها وهاتعيش سعيدة طول عمرها معايا.. لكن جوازي منها هايكون بنفس شروطك لما اتجوزت والدتها.. مافيش خلفة.. ومحدش يمنعني لو حبيت أتجوز عليها.
لم تمض ثوانٍ بعد عبارته حتى جاء رد "عاصم" قاطعًا:
-موافق.
حدق فيه "زين" صامتًا، ظنّ بأنه لم يسمعه جيدًا، أو أنه يقصد معنى آخر ..
لكن "عاصم" أكدها عليه:
-أنا موافق يا سيادة الرائد.. عمري ما هالاقي لبنتي راجل زيك.. أنا موافق!................................................................................................................................................................................................................................................................................................................. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبــــــع ...
تكملة الفصل
_ إنها لك! _ :
تحت أشعة شمس الظهيرة الخفيفة، خرجت معه إلى جراج البناية التابعة لمركز الأشعات والتحاليل الشهير، الوجوم يفترش محيّاها منذ تيّقنت من الخبر ..
خبر حملها!
فتح لها "نديم" باب السيارة الأمامي، ثم أستقلّ أمام المقود، انتزع نظّارته الشمسية متنهدًا، أدار وجهه نحوها قائلًا بهدوء ضمني:
-ليلى.. ممكن أعرف إيه الوش ده؟ انتي مضّايقة إنك حامل مني؟
أجفلت "ليلى" غارزة أظافرها في راحتيّ يدها وهي تقول بتوتر:
-لأ. لأ مش مضّايقة.. بس الخبر.. موتّرني شوية!
نظر إلى يدها ملاحظًا اضطرابها الشديد، فمد يدها ممسكًا بها، شدّ عليها بحنوٍ وقال برفقٍ:
-مافيش أي داعي تتوتري. دي النتيجة الطبيعية في أي علاقة زوجية. الحمل طبيعي.. أنا قلت لك إني نفسي أخلّف منك.. انتي مش نفسك يا ليلى؟
نظرت له وردت بصدقٍ واضح:
-نفسي يا نديم.. نفسي أوي.
نديم مبتسمًا: خلاص. ماتفكريش بقى في أي حاجة تاني. فكري في إللي جاي ده ..
وحطّ بكفّه فوق بطنها المسطّح، وأكمل:
-فكري هانسمّيه أو هانسمّيها إيه؟ فكري حياتنا سوا هاتكون شكلها إيه. مش عايزك تشيلي هم إللي بيحصل أو إللي هايحصل. عايزك تعيشي حياتك وبس. وأنا بضمن لك إن استقرارنا ده عمره ما هايتهز.. أوعدك.
كلماته بثت فيها شيء من الطمأنينة، فابتسمت بخفة وهي تسحب نفسًا مرتعشًا، لتقول بغتهً بينما لا يزال يحدق في عينيها بقوة:
-نديم.. عاوزة فراولة!
ارتد وجهه وعبس وهو يقول مدهوشًا:
-فراولة! لأ يا لولّا انتي فاهمة غلط. لسا بدري على الوحم. وبعدين ده مش أوانها أصلًا!!
قطبت بطفولية قائلة:
-يعني إيه مش أوانها؟ وبعدين المفروض لما أقولك نفسي في حاجة تقلب الدنيا وتجبهالي. مش تقولّي كده!
ضحك منها وهو يقرص خدّها بلطفٍ وقال بنعومة:
-لأ عرفتي تغلبيني المرة دي.. صح عندك حق. نفسك في الفراولة يا لولّا؟ انتي تؤمري.
وأدار محرّك السيارة منطلقًا بها في الحال ...
_______________________________________
أعاد "زين نصر الدين" جناب السفير "عاصم البدري" إلى مقرّ أقامته سالمًا ..
عبرا معًا باب المنزل الداخلي، وطفق "عاصم" يسأل مستخدميه عن ابنته في الحال:
-ريري فين يا سُعاد؟
أجابت الخادمة المسنّة ببشاشة:
-الأنسة ريري بتلعب في الجنينة يا باشا ومعاه ميمي.
تبادلا الرجلين ابتسامةٍ مرحة، ليقول "عاصم" متجهًا نحو الباب الزجاجي المطلّ على الحديقة:
-تعالى يا زين.. تعالى نشوف الأستاذة بتعمل إيه!
تبعه "زين" متهاديًا في مشيته، حتى وصلا عندها، لاحت لهما بينما تجلس أسفل شجرة البرتقال المزهرة، تفترش ملاءة، ترتدي بذلة جينز قطعة واحدة أسفلها كنزة قصيرة الأكمام، شعرها الحريري مفرودًا حول كتفيها، تتحرّك خصيلاته كلّما باشرت أعمال التلوين والرسم خاصتها ..
ابتسم "زين" وهو يراها تستمتع بهداياه وتملأ أوقات فراغها بهم، ألقى عليها التحيّة ما إن صار قريبًا منها:
-مساء الفل على أحلى أنسة ريري في العالم كله!
رفعت "ريهام" رأسها ناظرةً إليه فور سماعها لصوته، لم تولي والدها اهتمامًا كبيرًا، فقط تعلّقت عيناها بـ"زين" وابتسمت له بصفاءٍ قائلة:
-مساء النور.. عامل إيه يا زين إزيك؟
زين بابتسامته الجذّابة:
-أنا تمام يا ريري.. انتي إيه أخبارك؟ مبسوطة معانا؟
أومأت له بقوة وهي تقول:
-إممممم مبسووطة أووووي.
قاطعهما "عاصم" مخاطبًا ابنته بعتابٍ:
-الله يا ريري هانم. انتي مش شايفة قدامك غير زين ولا إيه؟ مافيش إزيك يا بابي. وحشتني يا بابي!!
ضحكت "ريهام" بعفوية وهي تنظر إلى أبيها مرددة بصوتها ذي النغمة الآسرة:
-إزيك يا بابي!
استجابت له عندما لها ذراعاه، وثبت واقفة لتستقر بين أحضانه، بينم يتمتم لها وهو يضمّها بحنانٍ:
-وحشتيني يا روح بابي.
ردت عليه بذات العفوية:
-أنا أكتر.. بس زعلت عشان زين وانت مشيتوا وصحيت مش لاقيتكوا.
رمى أبيها "زين" بنظرةٍ خاطفة ليجده مبتسمًا فقط ويراقبهما، بينما يرد عليها بلطفٍ:
-معلش يا روحي. كنا في مشوار شغل. بس أهو رجعنا.. وعارفة في مفاجأة ليكي إنهاردة كمان.
ابتعدت "ريهام" عن حضنه فورًا متسائلة بحماسة:
-إيه إيه؟ مفاجأة إيه؟؟
عاصم بابتسامة: أخوكي عمر جاي إنهاردة.. إن شاء الله هايكون قاعد معانا على سفرة العشا.
تقافزت "ريهام" في مكانها مصفقة من شدة الفرحة صائحة:
-هيييييييييه عمـرررررر. عمر جااااي. عمر جاااااااي. وحشنييي أوووووووي.
ربت أبيها على رأسها وهو يقول مهدئًا حماستها:
-أيوة يا حببتي جاي. وكان عايز يعملها لك مفاجأة بس أنا جيت قلت لك.. إهدي بقى كفاية تنطيط. تتعبي يا حبيبتي.
وبالفعل جعلها تكفّ عن شقاوتها المفرطة، لكنها نظرت إلى "زين" مددة من بين أنفاسها:
-أنا عاوزة زين يلعب معايا بالـ Skate برا الفيلا شوية!
رفرف لها "زين" بأهدابه الكُة مبتسمًا، بينما يقول أبيها بلهجةٍ فيها من الحزم واللين معًا:
-دلوقتي مش هاينفع يا ريري لأني عايز زين في شغل.. خليها كمان شوية. بعد الغدا.. أو بكرة الصبح بدري.
عبست "ريهام" على الفور غاضبة وأطرقت برأسها في الأرض، حاول "عاصم" مراضاتها، لكنها أبت ورفضت محاولاته بشدة مصدرة صوتًا كالأنين كلّما حاول لمسها ..
ليسحب "زين" نفسًا عميقًا ويقترب منها خطوتين، يمد يده ملامسًا كتفها لمسًا خفيفًا للغاية وهو يقول بلطفٍ جمّ:
-ماتزعليش يا ريري. أوعدك إني هاخدك ونلعب بالـSkate بس مش برا الفيلا. هاوديكي بكرة الملاهي وهانلعب سوا لحد ما تزهقي.. إيه رأيك؟
رفعت عينيها إليه بطريقةٍ تؤسر القلوب، ابتسمت له وحده وتمتمت:
-أوكي!
راقبهما "عاصم" مشدوهًا من تأثيره عليها، لم يصدق بأن هذا الرجل الذي أخافها منذ الوهلة الأولى حتى نفرت منه، الآن ه صاحب الكلمة العليا بحياتها ..
كيف يفعل ذلك؟ بل ما الذي يفعله "زين" زيادةً عمّا يفعله "عاصم" لأجل إسعاد ابنته؟
لم يملك "عاصم" لإلا إن يستسلم لخطة القدر ..
استدار مولّيًا إلى داخل المنزل ثانيةً، فما هي إلا دقيقة وكان "زين" لاحقًا به، دخلا غرفة المكتب وجلسا بالصالون الجانبي قبالة بعضهما ...
-موضوع جوازك من ريهام ده هايكون سر بينّا! .. قالها "عاصم" بجدية
عقد "زين" حاجبيه مستوضحًا بصوته العميق:
-يعني إيه سر؟ هاتجوزها في الخفى؟
عاصم بصلابة: لأ طبعًا. بنتي هاتتجوز في العلن.. لكن عمر مش هايعرف حاجة إلا بعد كتب الكتاب. لأنه أكيد هايمنع الجوازة. عمره ما هايقىنع إن أخته تقدر تتجوز. مش هايشوف إللي أنا شايفه.
أومأ له "زين" قائلًا بتفهم:
-تمام يا باشا.. بس عادي أعرّف أهلي؟
-أكيد. لازم تعرّفهم أصلًا.
-طيب وريهام نفسها.. تفتكر هاتوافق ولا إيه؟
ضحك "عاصم" وهو يقول بتهكمٍ:
-ريهام قدرت تستغنى عن عمر كام يوم ولا جرّبت تزن وتسأل عنه.. بسبب مين؟ بسببك انت. انت معوّضها عن عمر إللي كان بالنسبة لها أخ وأب وأم في نفس الوقت.. بنتي بدأت تتعلّق بيك فعلًا يا زين. أكيد هاتوافق. مش على الجواز نفسه لأنها تقريبًا مش هاتستوعب. لكن لما تعرف إنها هاتعيش معاك انت أكيد هاتوافق.
تنهد "زين" وقال:
-تمام يا باشا.. خير.
-حاجة أخيرة! .. قالها "عاصم" وهو يسحب من فوق الطاولة المجاورة مغلّفًا ورقيًا، ثم أردف ملوّحًا به أمام عينيّ صهره المستقبلي:
-الظرف ده في نصيب ريهام من تِركتي.. 150 مليون جنية. وحتة أرض في غرب القاهرة تساوي أكتر من 100 مليون جنية. أنا قسمت أملاكي على ولادي قبل ما أسافر من 3 سنين لأني ماكنتش ضامن إني راجع. عمر بنيت له المنتجع السياحي وعملت له رصيد في البنك. أمنت له مستقبله كويس جدًا. بس حتى هو نفسه مايعرفش أنا عامل إيه لريهام. انت بس إللي عرفت دلوقتي من بعد المحامي بتاعي. أنا طلبت منه الورق ده عشان هاشيله في عهدتك يا زين لحظة ما تكتب على بنتي.
كان "زين" يستمع له ملتزم الصمت منذ البادئ، لكنه لم يستطع السكوت عند هذا الحد، ونطق بصوتٍ أجش:
-عاصم باشا. إللي حضرتك بتقوله ده مالوش أي داعي. ربنا يزيدك ويخلّيك لولادك. بس أنا ماليش علاقة بالورق ده. أفضل ترجعه للمحامي أو الأحسن تأتمن عليه ابنك لكن أنا!
قاطعه "عاصم" بصرامة:
-أنا هأمنك على بنتي يا زين.. بنتي إللي أغلى عندي من أي فلوس وأملاك. أغلى من كنوز الدنيا كلها.. مش شاغلني حاجة تاني بعد ما هاسلّمك ريهام بإيدي.. محدش غيرك له الحق يشيل مسؤوليتها ولا يراعي أملاكها. ولا حتى عمر.
لم يستطع "زين" ردًا، وكأنه نسى كيف يتحدث، بينما يضيف "عاصم" بوجهٍ يخلو من العبث:
-أهم حاجة عندي.. تعاملها كويس. وتحطها في عنيك. وماتزعلهاش أبدًا. أوعدني يا زين!
لا إراديًا، وجد "زين" نفسه ينطق بهدوء:
-أوعدك يا معالي السفير!
ابتسم "عاصم" راضيًا ..
لم يتخذ هذه الخطوة عبثًا، لقد علم بأنه يشتري سعادة وراحة ابنته طوال حياتها بتقديم أملاكها للزوج الذي أختاره لها، إن "زين" حتى ولو كانت له مآرب أخرى في زواجه من ابنته، إلا إنه قد قطع له وعدًا للتو ..
وهو أكثر من واثق من إنه لن يحنث به ..
يدق هاتف "زين" في هذه اللحظة، فيعتذر من "عاصم" ليرد على المكالمة العاجلة، يأخذ هاتفه ويقوم ليتحدث بالخارج ..
فتح الخط ورد بلهجته القوية:
-إيه الأخبار يا عدي؟
أجاب الطرف الآخر:
-الدليل بتاعي بلغني إنهم لسا واصلين فيلا الراعي حالًا.. بس كانوا في مشوار قبلها.
-مشوار إيه؟
-راحوا معمل تحاليل.
-عشان؟
-الدليل طلع وسأل. التحليل كان باسم ليلى الراعي.. تحليل حمل وطلع إيجابي.
اتسعت حدقتا "زين" فور سماعه لهذا ...
خرس لسانه تمامًا إلى الحد الذي أعجزه عن الرد على زميله بعد ذلك ..
"ليلى" ..
ابنة عمته التي يرها طوال حياته.. لكنها عِرضه وشرفه.. حُبلى!
التاريخ يُعيد نفسه!.............................................
يتبــــــع ...
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق