القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية هيبه الفصل الحادي والثلاثون والثانى والثلاثون والثالث والثلاثون والرابع والثلاثون والخامس والثلاثون بقلم مريم محمد غريب حصريه وكامله جميع الفصول

 

رواية هيبه الفصل الحادي والثلاثون والثانى والثلاثون والثالث والثلاثون والرابع والثلاثون والخامس والثلاثون بقلم مريم محمد غريب حصريه وكامله جميع الفصول 







رواية هيبه الفصل الحادي والثلاثون والثانى والثلاثون والثالث والثلاثون والرابع والثلاثون والخامس والثلاثون بقلم مريم محمد غريب حصريه وكامله جميع الفصول 




( 31 )


_ مذاقُ الندم _ :


في زمنٍ خلى ..


كانت كالأميرة، مُدللة، محبوبة، عرضةً للأعين الحاسدة والحاقدين ..


كل ذلك بسبب محبّة أبيها التي نالتها وحدها كاملةً، خاصةً بعد رحيل أمها، باتت كل شيء بالنسبة له ..


ولعل ذلك كاد ينسيها طبيعته، وأنه أبدًا لن يتساهل مع ذلّتها، بل خطيئتها، تلك الخطيئة التي لا يمكن أن تغتفر في هذا المكان الذي تعيش فيه، وسط عائلة كعائلتها ..


من هي؟


إنها "دهب" ..


الإبنة الصغر للعمدة "رياض نصر الدين" ..


أجمل من أنجب، الأذكى، الأرق، والأكثر جموحًا ..


الجميع يظنّها تعشق ذاك الشاب الذي جاء لخطبتها ورفضه أبيها لحقارة جذوره ومكانته، أجل وافقت عليه وأبدت اصرارًا كبيرًا ..


ولكن كل هذا لم يكن إلا غطاءٌ لتخفي ورائه دوافعها الأصلية، لم تكن تحبه، ولم تكن تريد "سليمان" ابن عمها الذي فرضه أبيها عليها ..


بل أحبّت آخر، رجلٌ واحد فقط هو الذي استولى على مشاعرها وأمتلك قلبها، والوحيد الذي لم يتوقعها أحد ..


صباح باكر، بعد مكالمة تلفونية شديدة الاختصار، جاء ليقابلها ها هنا، مكانهما الخاص، حديقة سرّية بجوار مزارع آل"نصر الدين".. والتي شهدت كل شيء محرمٌ بينهما ...


-ديـاب! .. هتفت "دهب" بأسمه ما إن رأته على مقدمة العشّ المهجور


أقبل "دياب" نحوها والقلق واضحٌ على محيّاه الوسيم ..


كان يشبه جدّهما إلى حدٍ كبير، عيناه رماديتان، صاحب بشرة قمحية صافية، طويل القامة وضخم البنية، له شعر داكن ناعم فيه تجعيدة بسيطة ..


ولم تكن مواصفاته الشكلية كل ما يميّزه فقط، بل كان ذا مكانة رفيعة، يدير ميراثه من أبيه بكفاءة منقطعة النظير وهو بالكاد يبلغ العشرون من عمره ..


إنه حلم كل فتيات العائلة، بل البلدة كلها، ولكن دون الكثيرات، وقع بغرامها هي.. ولم يكن ينبغي له أن يفعل!!!


-دهب. مالك في إيه؟ وشك أصفر وبتترعشي كده ليه؟


تطلّعت "دهب" إليه عاجزة عن النطق لبرهةٍ، تقترب منه أكثر ملتمسة العون، لكنها أحسّت من صلابته عدم إمكانية حدوث أيّ تقارب آخر بينهما ..


عندما لم ترد عليه كرر بشيءٍ من العصبية:


-اتكلمي في إيه؟ من امبارح وأنا قلقان بعد ما كلمتيني

حصل إيه؟


رزح الخوف الشديد من صوتها وهي تخبره أخيرًا بنظراتٍ دامعة:


-دياب. أنا.. أنا حامل!


توّسعت عيناه بصدمة كبيرة في هذه اللحظة، وردد في الحال:


-حامل؟ يا نهار أغبر.. إزاي؟ حامل إزاي يا دهب؟؟؟


هزت كتفيها قائلة بينما ساقاها ترتعشان من شدة التوتر:


-حامل. والله حامل يا دياب.. أنا مش عارفة أعمل إيه!


برزت حبيبات عرقٍ فوق جبينه وهو ينظر لها بقوة مغمغمًا من بين أسنانه:


-لا.. انتي بتشتغليني.. أنا ماقربتش منك إلا مرة واحدة

وفات عليها شهرين. حملتي إزاي فهميني؟؟


وقيض على ذراعيها بعنفٍ آلمها ..


تأوهت "دهب" وهي تخبره باكية:


-والله منك. أنا حامل منك. انت عارف ومتأكد إن محدش لمسني غيرك

أبوس إيدك اتصرف. أعمل حاجة يا دياب.. أبويا لو عرف هايد. بحنى!


أفلتها فجأةً وهو يسألها بغلظةٍ:


-عرفتي إزاي إنك حامل؟ اتأكدتي؟؟


أومأت له وهي تدلّك موضع قبضته حول ذراعها وردت:


-وردة بنت عم نعمان الجنايني. انت عارف إنها دكتورة.. كشف عليا. بس أنا بثق فيها

وردة زي أختي. مش هاتقول لحد.


تنفس "دياب" الصعداء وهو يتراجع عنها خطوةً واحدة، ثم قال بجدية لا تخلو من القسوة:


-يبقى الحل في إيد وردة.. طالما صاحبتك وستر وغطا عليكي.


دهب ببلاهةٍ: قصدك إيه؟


دياب بصرامة: قصدي واضح ومفهوم. الحمل ده لازم ينزل. لازم تنزليه يا دهب!


شحبت وهي تردد بخوفٍ:


-أنزله!

إزاي وفين؟ أنا ممكن اتفضح لو عملت كده.


-يعني لو خلّتيه مش هاتتفضحي؟ اسبوع في التاني وبطنك هاتكبر

ساعتها هاتقولي إيه؟؟


ازدردت ريقها بصعوبةٍ ولم تجد ردًا، فشدد على كلماته بحزمٍ أكبر:


-دهب.. أنا مش بخيّرك

العيّل إللي في بطنك ده كده كده لازم ينزل. احنا اتصرفنا غلط من الأول

ماكنش لازم أغلط معاكي الغلطة دي ولحد إنهاردة مش قادر أصدق إزاي عملت كده معاكي

معاكي انتي بالذات.. احنا أخوات!!


نظرت له والدموع تسحّمن عينيها، بينما يكمل:


-أنا وانتي رضعنا من نفس اللبن. أمي رضّعتك. وكبرنا مع بعض فاهمين إننا اخوات.


-بس انت مش أخويا! .. قالتها بصوتٍ كالأنين وهي تضم يديها إلى فمها


تنهد "دياب" بحرارة قائلًا وهو يتقرّب إليها على مهلٍ:


-في شرعنا. في عرفنا.. انتي أختي يا دهب ..


ثم أضاف ممسكًا بكتفيها بقوة وهو يعني كل كلمة يقولها:


-أنا حبيتك. لسا بحبك. بس الحب ده مستحيل.. أقسم بالله لو ماكناش اخوات

ماكنش حد قدر يمنعني عنك. كنتي بقيتي مراتي من زمان.. بس ماينفعش.. ماينفعش يا دهب أفهمـي!!!


وتركها ..


استعاد وجهه صرامته القاسية مجددًا وهو يقول:


-المرة الجاية لما أشوفك عايزك تقوليلي ان الحمل خلاص اختفى.. وماتقلقيش

أنا مش هاسيبك. الغلطة إللي عملناها سوا. أنا هاصلحها بمعرفتي.


وأولاها ظهره راحلًا ..


لتجد نفسها وحيدة.. وحيدة بكل ما للكملة من معنى ...


______________________________________________


اجتاز بوابة القصر بسيارته الفارهة.. أصغر رجال الجيل الأقدم للعائلة.. والأفضل في كل شيء على كافة الأصعدة ..


فخر عائلة "نصر الدين".. "دياب نصر الدين" ..


يحضر اليوم بدعوة خاصة من عمّه، علق أعماله كلها وجاء ملبيًا نداء الواجب، سلّم السيارة للسائس الشاب، وتوجه للداخل رأسًا ...


-أهلًا بولد العمي الغالي!


استقبل "دياب" ترحيب "سليمان نصر الدين" ابن عمّه بابتسامته الواثقة، تبادلا عناقًا أخويًا، ثم تراجعا بينما يقول "دياب" بحبورٍ لا يقلّ من هيبته:


-أهلًا بيك انت يا سيدة النائب. كيفك يا سليمان توحشتك بالله.


 سليمان بابتسامةٍ عريضة:


-الحمدلله بخير. مش امصدج (مصدق) الدنيا كيف واخدنا من بعض 

بس توك ما جيت مانتاش متحرك من هنا غير بعد سبوعين تلاتة إكده.


قهقه "دياب" بقوة قائلًا:


-ياريت والله الوحد يكره يعني يجعد وسط أهله وناسه.


ونظر حوله متسائلًا:


-مال البيت ساكت!

عمي فينه أومال؟ جلجني (قلقني) لما كلّمني وجال (قال) تعالى حالًا.. خير يا سليمان حصل إيه؟


تلاشت ابتسامة "سليمان" الآن، وأيّ مظهر من مظاهر مزاجه الطيب، تنهد وقال باقتضابٍ:


-يبجى أحسن لو سمعت من عمّك. تعالى معاي!


وأصطحبه خلفه نحو الردهة الجانبية المؤدية لغرفة المكتب ...


________________________________________________


قدّمت الخادمة القهوة للضيفة، ثم انسحبت بأدبٍ ..


سادت لحظة من أخرى من الصمت، قبل أن تقطعه "راندا منصور" مخاطبة "مشيرة" بهدوءٍ:


-بصراحة يا مشيرة مش عايزة أخيّب أملك. بس لازم تعرفي إن علاقتي بنديم خلاص انتهت

ف لو جاية في أي وساطة بيني وبينه ..


-أنا مش جاية أتوسط له! .. قاطعتها "مشيرة" بحدة


تفاجئت "راندا" من لهجة العدائ الواضحة في صوتها تجاه "نديم".. بينما تتمالك "مشيرة" أعصابها بسرعة وتستطرد:


-نديم أتغيّر يا راندا. من زمان مش من قريب. ومش معاكي انتي بس

وهي السبب.. هي السبب في كل المصايب إللي احنا فيها دلوقتي كلنا.


أغمضت "راندا" عيناها للحظاتٍ وهي تطلق نهدة حارة من صدرها، ثم نظرت لها من جديد وقالت بصبرٍ:


-انتي جاية ليه يا مشيرة؟ أنا خلاص مابقاش ليا علاقة بعيلة الراعي

وبقالي كام يوم مستنية نديم باشا يتكرّم ويجي يطلقني.. مش فاهمة ليه ماجاش لحد دلوقتي؟ مع إنه اتفق مع بابا على كل حاجة!


مشيرة بابتسامةٍ ساخرة:


-طبعًا ماجاش عشان مش فاضي يا حبيبتي. وراه الأهم.


عبست "راندا" بعدم فهم ..


لتكمل "مشيرة" بغلٍ سافر:


-ليلى.. ليلى إللي من أول ما ظهرت في حياتي ماشوفتش يوم عدل

ليلى إللي اتمنيت كل يوم تموت وأخلص منها. زي ما خدت مني مهران زمان. خدت مني بيتي وكل إللي بنيته طول سنين عمري.


راندا بذهولٍ: إيه ده يا مشيرة؟ إيه إللي بسمعه ده؟

انتي إزاي بتتكلمي كده عن بنتك؟


-مش بنتـي! .. هتفت "مشيرة" بغضبٍ مكبوت لدرجة انسكبت القهوة حول الفنجان من شدة اطباقة يدها


نظرت لها "راندا" غير مصدقة ..


زفرت "مشيرة" بقوة وهي تضع الفنجان من يدها فوق الطاولة أمامها، ثم نظرت مباشرةً إلى عينيّ "راندا" قائلة:


-بصي يا راندا. أنا هاحكي لك على كل حاجة. لأن خلاص القصة اتكشفت والكل هايعرف الحقيقة قريب جدًا

بس في الأول عايزة أنصحك. أوعي تضيعي نديم من إيديكي. أوعي تخلّي السا/ فلة دي تنتصر عليكي

انتي مراته. سامعة؟ اوعي تخسريه او تسمحي لها تاخده منك. ماتغلطيش غلطتي!


_____________________________________________


وصلت الدماء بشرايينه إلى درجة الغليان، لم يجده في البيت كله عندما أستيقظ، فجلس ينتظره في البهو ملتجئًا إلى متنفسه الوحيد بأوقات الغضب ..


أخذ يدخن بشراهةٍ اللفافة تلو الأخرى، حتى امتلأت المنضفة عن آخرها.. وبعد قرابة الساعتين ..


أخيرًا عاد أبيه ..


هبّ "عمر البدري" واقفًا، بينما يقبل والده ناحيته وهو يحلّ ربطة عنقه منفرج الأسارير:


-أهلًا يا عمر.. انت قاعد كده ليه؟

مستني حد؟


لوى "عمر" شِدقه قائلًا بجفافٍ:

تر

-مستنيك.


رفع "عاصم" حاجبيه بدهشةٍ وقال:


-فعلًا! خير في حاجة؟


تواجها قبالة بعضٍ، وتحدث "عمر" بنزقٍ:


-ريهام.. بمناسبة إيه بتخرجها مع الظابط إللي بيحرسك؟

إزاي تآمن عليها مع حد ماتعرفوش أصلًا؟؟


حدجه "عاصم" بنظرةٍ مطوّلة، ورد بعد برهةٍ بلهجةٍ غامضة:


-انت قلت بلسانك. ده ظابط. وبيحرسني.. ولو ماتعرفش كويس أبوك يبقى مين

أحب أعرفك بزين نصر الدين. زين مش بس ظابط له أسمه ومكانته. ده من عيلة كبيرة. وأهله كلهم رتب.


عمر برعونة: ان شالله يكون ابن العيلة الحاكمة. ماله ومال أختي؟؟


عاصم بهدوءٍ: أنا مش فاهم انت عصبي بالشكل ده ليه يا عمر؟

يعني إيه إللي حصل لكل ده يابني؟ أختك قعدت فترة في البيت مابتخرجش وزهقانة. ف طلبت من زبن ياخدها يفسحها

إيه الغلط في كده؟


-الغلط إنك بتحاول تتعدى سلطتي عليها. في الأول خدتها غصب من عندي. وبعدين بتستغل بُعدي عنها وبتحاول تعملها غسيل مخ.


-غسيل مخ!! .. كرر "عاصم" متعجبًا:


-إيه يابني إللي بتقوله ده؟ أنا هاعمل لبنتي غسيل مخ؟

ما تعقل الكلام يا عمر.


زفر "عمر" بنفاذ صبرٍ وكبح موجة عاتية من الانفعال بصعوبةٍ، تريّث حتى هدأ قليلًا، ثم أشار له بسبابته وهو يقول محذرًا:


-أسمع يا عاصم بيه. يا معالي السفير.. ريهام. أختي. خط أحمر

أنا سايبها هنا عشانها مش عشانك. عشان لعل وعسى تحس منك بحنيّة الأب إللي عمرها ما داقتها

لكن الواضح وإللي أنا شوفته بعيني إنك مش فاضي لها أصلًا ومعيّن لها ناس يقوموا بدورك.. لكن أنا مش هاسمح بكده. طول ما أنا عايش. أختي هاتفضل في حمايتي ورعايتي. ف لو عاوزها تفضل معاك أحسن لك تنتبه لها بنفسك. أو هاخدها وأرجع مكان ما جيت. أنا بحذرك للمرة الأخيرة.. أبعد رجالتك عنها. ريهام خط أحمر!


ولم يرف له جفن وهو ينظر له بقوة للحظاتٍ طويلة ..


ثم إلتفت مبتعدًا عنه تجاه الخارج، بينما يراقبه أبيه مبتسمًا بتهكمٍ واضح، إلى أن أختفى ..


تمتم "عاصم" لنفسه بتلك اللهجة ذات السلطة العلية:


-بكرة نشوف يا عمر.. بكرة نشوف مين صاحب الكلمة والقرار

أنا.. ولا انت!


________________________________________________


صدمة قوية اجتاحته ..


وهو يستمع إلى أسرار يعرفها لأول مرة، مشاعر عنيفة تعتمل بصدره، بقلبه ..


جلس أمام أبناء عمومته، أمام عمّه، لم يجسر على النطق بكلمة، طوال الوقت صمت يستمع إليهم ..


حتى سكت الجميع وبقى عمّه ينطر إليه، مطالبًا إيّاه بالإدلاء بأيّ شيء!


سحب "دياب نصر الدين" نفسًا عميقًا وقال بصوتٍ أجش به هزّة واضحة:


-يعني إزاي.. إزاي العيلة كلها تبقى عارفة ان دهب مخلّفة وأنا الوحيد إللي ماعرفش يا عمي؟


تولّى "سليمان" الرد عن عمه في هذه اللحظة:


-كنا هانجول إيه يا دياب؟ هانفضحو نفسنا؟

احنا ما صدجنا خلصنا من المصيبة دي. ومش فاهم ليه عمي عايز يحيها تاني دلوق؟!


نظر "دياب" إلى عمه منتظرًا التبرير منه هو ..


هز "رياض" رأسه في ندمٍ قائلًا:


-غلط زمان مش هايتكرر تاني يا دياب.. أنا كنت مستعد أجتل بتي بيدي

والكل عارف دهب عندي كانت إيه. إللي باجي لي في الدنيا مش كتير. عشان اكده جمعتكم

وبطلب منكم واحد واحد. اجفوا (اقفوا) في ضهري. رجعولي بتّي.. جلبي (قلبي) ماعادش يتحمل الحزن ده كله يا ولدي

مش جادر.. لا عاد يهمني عار ولا تار.. ريحوني ..


ورفع رأسه ناظرًا إلى "دياب" مباشرةً وهو يقول بصوتٍ متألم:


-ريّحني يا دياب.. ريّحني ولدي

رجع لي دهب. رجع لي ليلى.. بتّي!


بينما يستمع "دياب" إلى عمّه، يشعر كمن تلقّى على رأسه ضربةً قوية، أيريد أبنته؟


لكنها حقيقةً ابنته هو.. الآن وبعد سنواتٍ طويلة.. يكتشف أن "دهب" لم تمت قبل ولادتها ..


بل إنها أنجبت.. ثم ماتت بعد أن وضعت طفلتها.. طفلته.. طفلتهما ..


رباه!


لديه ابنة.. "ليلى الراعي".. بل "ليلى دياب نصر الدين"!............................................................................................................................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...

( 32 )


_ جرحٌ بارد _ :


طبقّت حالة من الصمت والسكون التام.. طوال الاسبوع المنصرم منذ عودتها إلى البيت الذي ترعرعت به ونشأت وعاشت ..


إنها في الحقيقة عادت بفضله، هو الذي لم يهدأ له بال أو قلب إلا حين جاء من أجلها وأعادها إليه، إلى منزله، وها هي الآن بجناحه، جالسةً فوق سريره ..


تنام كل ليلة بجواره، يطعمها بيده قسرًا عنها، لكن ما من كلمة واحدة يتبادلاها ..


كانت تلوذ بالصمت ولم يشأ أن يثقل عليها، تركها حتى تهدأ، حتى تزول الصدمات عنها واحدة تلو الأخرى ..


فالأمر لم يكن سهلًا على الإطلاق، أن تكتشف بين ليلة وضحاها إنتمائها لعائلة غير عائلتها التي تبنّتها، وأنها أيضًا ابنة غير شرعية، والطامّة الكبرى.. كانت خيبة أملها بالرجل الوحيد الذ أحبّته وعشقه قلبها!


"نديم" ..


إنه لم يكن فقط رجلٌ أحبّته وتعلّقت به، لقد كان درعها الحامي طوال سنوات عمرها، كان يمثل لها كل أدوار الرجال بحياتها ..


أحيانًا أبٌ، أخٌ، صديق، حتى أفضت بها مشاعرها تجاهه نهائيًا إلى حقيقة لا يمكن أن تنكرها ما حيت.. حقيقة أنها أحبّته ..


أحبّته، وتحبه، وستظل تحبه رغم كل شيء ..


كيف يمكنها ألا تفعل؟


حتى وهي تحاول أن تكرهه، تطرق عقلها وقلبها كل لحظة قضتها في كنفه، محاطة بالحماية والحب والأمان ..


إلا إنها لا تنفك حينها أن تتساءل وهي تكاد تفقد عقلها ..


لماذا؟


لماذا زج بها إلى تلك الحفرة؟ لماذا طعنها بخنجر الغدر؟ لماذا أحطّ من قدرها وقال عنها هذا الكلام؟


كلماته التي لم ولن تنساها:"حفيدتك لا مراتي ولا بنت عمي. إيه إللي يخليني أتنازل وأتجوزها رسمي؟ إيه الجديد إللي هاكسبه بعد ما سلّمتني نفسها منغير جواز ولا أيّ مجهود؟" ..


تصك أذنيها بكفّيها في محاولة يائسة لإسكات الصوت الذي يصدح بعقلها باستمرارٍ ..


وتنتبه الآن عندما انفتح باب الجناح ..


أنزلت يديها ونظرت، لتجده يلج بهيّبته المعهودة، كلاهما تغيّرا خلال هذا الأسبوع، وخاصةً هو ..


صار أشدّ قساوةً، أكثر ضخامة، ربما لأنه لا يجد متنفسًا يفرغ فيه شحنات غضبه إلا ارتياد صالة ألعابه الرياضية التي أقامها هنا بمنزله وخصصها لنفسه ..


اليوم كان يرتدي أكثر الألوان الملائمة إلى تفاصيله قاطبةً، قميصًا أبيض من الكتّان محلول الأزرار العلوية، مبرزًا عضلات صدره السمراء القوية، وبنطالًا من القماش الخفيف بلون العاج الباهت ..


شعره البنّي استطالت خصيلاته قليلًا، لكنه مرتبًا ممشطًا بعنايةٍ، لحيته ازدادت كثافةً وقد برز شاربه بشكلٍ ملحوظ، والآن اشتبكت عيناهما معًا وكان قد دلف وأغلق الباب خلفه ..


أخذ يقترب منها بتوأدة، شدّ كرسي في يده بطريقه إليها، ثم جلس أمامها مادًا جسده صوبها، لم تعيره اهتمامًا على الإطلاق، حتى سمعته يقول بصوته الهادئ الأجش:


-أخيرًا.. إنهاردة خلصت اجراءات الطلاق بيني وبين راندا

أول وعد وعدته لك. نفذته.


تظاهرت بعدم سماعه واستمرت تنظر أمامها في اللا شيء.. ليكمل متنهدًا:


-كنت مرتب إننا نعمل حفلة عائلية بكرة ونكتب كتابنا.. بس اضطريت آجلها.. بسبب جدك!


الآن أدارت رأسها نحوه، نظرت مباشرةً إلى عينيه الخضراوين الأشبه بعينيّ نمرٍ سيبيري متأهب، ثم فتحت فاها وقالت بحدة شديدة:


-أنا مش هاتجوزك.. تحت أيّ ظرف.. مش هاتجوزك!!


نظر لها بتمعنٍ للحظاتٍ، ثم قال بنفس الهدوء:


-انتي أصلًا مراتي يا ليلى. ومعايا إللي يثبت ده قانونًا

كل إللي هاعمله إني هاعلن جوازنا بشكل شرعي .. وتابع ملوّحًا بمظروفٍ ورقي:


-بس رياض نصر الدين مصمم يتحدّاني ويقف قصادي. تخيّلي.. رافع قضية إثبات نسب

مفكر إنه حتى لو أثبت نسبك لعيلته ممكن يقنعك تروحي له.


هزت رأسها قائلة بتحدٍ:


-ما أنا هاروحله فعلًا. وقصة جوازنا دي. أنساها

أنا عمري ما هكون مراتك لا في السر ولا في العلن.. ليلى الضعيفة خلاص ماتت. إللي قدامك دي واحدة تانية. واحدة عمرك ما هاتقدر تمتلكها تاني.


كم كانت كلماتها استفزازية، كم بدت متمردة أكثر من أيّ وقت مضى، أكثر من أيّ مرة حاولت تحدّيه وعصيانه ..


لكنه لم يسمح لإنفعالات مشاعره بالإفلات منه الآن، ابتسم لها ببطءٍ وقال بفتورٍ:


-الواضح إن ليلى إللي قدامي دي نسيت نفسها. ونسيت أنا مين

لو نسيتي يا ليلى أنا مستعد أفكرك. أفكرك مين هو نديم. نديم إللي ربّاكي.. إللي فتّحتي عينك وانتي ماسكة فيه ومش شايفة حد في العالم غيره.


وقام من مكانه فجأة مائلًا صوبها حتى صار وجهه قبالة وجهها تمامًا ..


لم يرتد لها طرف وبقيت تحملق في عينيه بقوةٍ، بينما يستطرد بلهجةٍ خافتة تختلج بمشاعره العنيفة:


-أنا نديم يا ليلى.. أنا حبيبك.. أنا إللي علّمتك معنى الحياة في كل مرحلة من مراحل عمرك

أنا واقف قدامك أهو وبقولك. لو عندك ذرة شك في حبّي ليكي قولي دلوقتي.. قولي إن دي كلها عمايل راجل مابيحبش مراته. قولي إني حاولت أسيبك أو أتخلّى عنك.. قـولــي يـا ليلــــى!!!


ضغطه عليها بهذا الشكل واستثارة عاطفتها لم يجلبا إليه إلا ثورتها التي إندلعت فجأةً وهي تلكمه في صدره صارخة باهتياجٍ:


-لأااااااا. لأ ماحبتنيش.. أنا سمعتك بوداني.. سمعتنك قلت عني إيــه

مش أنا سلمتك نفسي منغير مجهود؟ مش أنا رخيصة أوي كده؟ سيبني في حالي. سيبني أمشي من هنا

أنا بكرهـك يا نديـم.. أنا بـكــــرهــــــك!!!!


استمرت محاولاتها المستميتة لردّه عنها، لكنه بدا كالصخر لا يتحرّك، ثم أعتقل معصميها في قبضته بقوة وانتظر بصبرٍ حتى استهلكت قواها ولم تعد قادرة على مصارعته ...


-أنا قلت كده لرياض بس! .. قالها من بين أسنانه بينما يضمها تقريبًا إلى صدره دون أن يقطع إتصالهما البصري:


-قلت له كده.. عشان يسيبك

زي ما ساب أمك زمان.. لكن أنا عمري ما شوفتك رخيصة. إزاي وانتي أغلى حاجة بملكها؟ أكتر إنسانة بحبها!


تجمعت الدموع بعينيها في هذه اللحظة، ليعترف ويقرّ نادمًا:


-أنا عارف إني اتصرفت غلط. وإن كان في مليون طريقة عشان تكوني معايا غير إللي حصل

لكن أنا كنت أناني. وما زلت.. أنا لما عملت كده كنت عايز أشوّه صورتك في عيون أهلك الحقيقيين.. مش لأيّ سبب غير إنهم يسيبوكي وينسوا إنك موجودة تمامًا.. أنا عايزك ليا لوحدي يا ليلى. أنا بحبك لدرجة اني عايز أروح أهدّ بيت رياض نصر الدين على دماغه هو عيلته كلها. وإللي آذاكي منهم. عمري ما هسامحهم. وعدتك إني هاخد لك حقك.


-انت إللي آذتني! .. همست بصعوبة تحت وطأة التعب


عبس بشدة، بينما تكمل من بين أنفاسها:


-محدش غيرك آذاني.. وأنا إللي كنت فكراك بتحبّني.. أخرتها حصل إيه؟

خدوا إبني مني... قتلوه قبل حتى ما اشوفه.. عرفت انت وجعتني وكنت سبب في إيه؟

انت السبب في موت ابني يا نديم... انت السبب!!


أحسّ بغصّة بقلبه لأول مرة بحياته عندما نطقت ذلك، إن هذا لم يكن فقط شيئًا يخصّها، لقد كان قطعةً منه، طفله ..


كان ليصير أبًا بدوره.. ما أدراها بأنه لا يتألم لفقدانه؟


رغم ذلك، وعدها مداعبًا خدّها بإبهامه:


-هادّيكي غيره..  وغيره.. أوعدك. هايكون عندنا ولاد كتير

جيش صغير نسخ منّي ومنك!


هزت رأسها بالكاد وهي تقول بصوتٍ هامس:


-مستحيل... عمري ما هاسمح لك تلمسني تاني.. حتى لو فيها موتي!


_______________________________________________________


في فيلا السفير ..


يستدعي "عاصم البدري" حارسه الشخصي  بمجرد خروج ابنه "عمر" من المنزل، كان يجالس ابنته في غرفة المعيشة، يشاركها شغفها بمشاهدة الرسوم المتحرّكة ..


عندما أتى "زين نصر الدين".. ابتسم ما إن رآها وقد كانت أول شيء لاحظته عيناه ...


-مساء الخير!


انتبهت "ريهام" لصوته الذي تحفظه عن ظهر قلب ..


وفورًا قفزت من مكانها صائحة وهي تلتفت نحوه:


-زيــــن!!!


ابتسم لها "زين" متأملًا هيئتها الطفولية المتمثّلة برداء منزلي زهري اللون بنقوش على شكل دببة، بالإضافة لجمالها الفريد الذي لا تخطئه الأبصار أبدًا، ليس لديه أدنى شك بجاذبيتها وبراءتها، لكن من قال أن هناك وجود للمثالية؟


لديها كل شيء.. لكنها تفتقر إلى الحظ.. إلى النضج ...


-أهلًا يا زين تعالى.


يلبي "زين" أمر السفير ويقترب أكثر دون أن يزيح ناظيه عنها، لاحظ اختفاء ابتسامتها ومرحها كله، بل إن عبوس شديد افترش محيّاها الجميل وقد قلبت شفتها السفلى دلالة على انزعاجها ...


-إزيك يا ريري؟ .. قالها "زين" بأريحية وهو يقف على بُعد خطوتين منها


ريهام بحدة طفولية:


-ريري مش بتكلّمك يا زين.. ريري مخمصاك!


لم يستطع "زين" إلا أن يضحك على خطأها اللغوي بينما يزداد اعجابه ببراءتها أكثر فأكثر، ثم سألها باهتمامٍ دون أن يتخلّى عن ابتسامته:


-يا خبر أبيض. معقول ريري مخمصاني؟

ده أنا مقدرش أزعلك أبدًا يا حبيبتي.. قوليلي أنا عملت إيه غلط؟


-بقالك يومين كتير مش جيت ولا سألت عليا.


-صح. فعلًا أنا كنت غايب عنك شوية.. بس صدقيني يا حبيبتي غصب عني

كان عندي مشكلة بحلّها وأول ما لاقيت نفسي ماعنديش سبب قوي يمنعني عنك جيت فورًا.


رفعت حاجبها متسائلة:


-يعني انت خلاص حلّيت المشكلة؟ طيب المس أدت لك كام من عشرة؟


ضحك بقوة للمرة الثانية وجاوبها بلطفٍ:


-لأ يا حبيبتي ده مش امتحان. أنا قصدي ان أهلي كانوا محتاجين لي اليومين إللي فاتوا. عشان كده فضلت معاهم لحد ما بقوا كويسين.


همهمت بإدراكٍ: اممممم.. ماشي.. طيب انت مش هاتفسحني بقى؟


حانت منه نظرة نحو والدها الذي وقف يراقب ما يجري بصبرٍ وآناة ..


ابتسم لها "زين" من جديد وقال بهدوء:


-أنا طبعًا جاي عشانك مخصوص. وهافسحك وهاعملك كل إللي نفسك فيه يا حبيبتي

بس الأول نستأذن بابا!


عقدت حاجبيها ملتفتة نحو أبيها، ثم قالت ناقلة عينيها بينهما:


-بابي موافق. مش بيقول حاجة لما بتفسحني.. صح يا بابي مش انت موافق؟


رمقها "عاصم" بنظرة ملؤها التعاطف والتأثر، بينما يقترب "زين" خطوة أخرى قائلًا:


-باباكي كان بيوافق لما بفسحك شوية وأرجعك.. لكن أنا عاوز أفسحك شوية كتير.. عاوز أخدك ونسافر

مش انتي نفسك تشوفي ديزني لاند؟ والأكواريوم؟ وكاندي سبيس سنتر؟


إلتمعت عيناها وصاحت من شدة الحماسة:


-أيـوووة. ديزني لاند فيها إلسا وربونزل. وأكواريوم فيها إيرييل. وكاندي سبيس سنتر فيها بااااظ.. أيوة عايزة أروح يا زين

خدني هناك بلييييزززززز خدني!!!


أومأ لها واعدًا:


-هاخدك.. هاوديكي كل الأماكن دي

بس لازم الأول ناخد أذن باباكي بالطريقة الصح.


تلاشى مرحها من جديد وهي تسأله بضيقٍ:


-إيه الطريقة دي يعني؟!!


أقترب "زين" الخطوة المتبقيّة مغلقًا المسافات بينهما، نظر بعينيها مباشرةً، بينما أضطرت لرفع عنقها عن آخره لتتمكن من رؤيته ...


-تتجوزيني يا ريري؟ .. سألها بصوتٍ رخيم هادئ


أجفلت غريزيًا وهي تشعر بشيء غريب يدغدغ معدتها، لكنها استوضحته ببراءة:


-يعني إيه تتجوزيني؟!


زين مبتسمًا بوداعةٍ:


-يعني تفضلي جنبي. وتعيشي معايا علطول.. موافقة؟


الحقيقة إنها لم تفكر مرتين ..


أومأت له قائلة على الفور:


-أيوة.. ريري موافقة!


اتسعت ابتسامته وهو يرد عليها بنفس الهدوء:


-يبقى هانتجوز إنهاردة.


أمالت رأسها وسألته بشيء من الاضطراب مجهول المصدر:


-وهاتيجي تعيش معايا هنا؟


-لأ يا حبيبتي. انتي إللي هاتيجي تعيشي معايا.


-فين؟


-في بيتي.. بمجرد من ما نكتب كتابنا.. هاتيجي معايا على هناك.


تراقصت الابتسامة فوق ثغرها الدقيق، وقالت بحماسة:


-ماشي!............................................................................................................................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...


( 33 )


_ بضعةٌ مني _ :


توافد المسافرون عبر باب خروج الميناء الجوّي.. من بينهم أطلّت "وردة نعمان" ..


أستاذة ودكتورة أمراض نساء بجامعة "القـاهرة" ..


تطأ اليوم أراضي الوطن بعد بعثتها المثمرة بجامعة "زيورخ" السويسرية ..


لا تلمح زوجها بين حشود المنتظرين، لكنها لا تتذمر، لقد اعتادت فتوره منذ سنوات، بل حتى قبل زواجهما ..


لم تكن يومًا اختياره.. لم تكن المرأة التي رغبها.. أو بالأحرى لم تكن المرأة التي أحبّها!


جرّت "وردة" عربة حقائبها إلى خارج بوابة المطار الرئيسية، كانت لتأخذ سيارة أجرة، فإذا بها ترى سيارة ميّزتها على الفور تنتظرها، إنها سيارة زوجها ..


إذن لقد أتى لاستقبالها!!


انفتح باب السايرة الخلفي قبل أن تتخذ خطوة تجاهها، سارت على الفور في خطٍ مستيمٍ، حتى جاء السائق الخاص لزوجها وتسلّم منها الحقائب ليضعهم بالصندوق الخلفي ..


بينما تصعد "وردة" وتستقلّ بجواره، زوجها.. "دياب نصر الدين" ...


-ماتوقعتش تيجي بنفسك! .. قالتها "وردة" دون أن تحاول اخفاء سعادتها بمجيئه


كانت تنظر إليه بشوقٍ كبير، تتأمل جانب وجهه وتستنشق رائحته المنتشرة في الحيّز المحدود حولهما، لم تحيد عنه بنظراتها ..


حتى أدار وجهه ونزع عويناته الشمسية، حدجها بنظراتٍ تشبه السهام، ثم قال بصوته ذي البحّة الجاذبة:


-إزاي ماجيش؟ ده انتي سيبتي شغلك ورجعتي أول ما قلت لك عايزك!


رمقته "وردة" بنظراتٍ ولهى وقالت:


-أنا أسيب دنيتي كلها وأجيلك يا روح قلبي وحياتي.. انت مش عارف أصلًا وحشتني أد إيه!


رد بنصف ابتسامة:


-كلها ربع ساعة ويتقفل علينا باب واحد.


وأشاح بوجهه عنها للأمام هاتفًا في السائق:


-أطلع على شقة زايد يا فتحي!


_______________________________________________________


-هاتفضل باصصلي وساكت كتير؟!


انتزعه صوتها من شروده المطوّل بها ..


أجفل "عمر البدري" مرددًا بشيء من الحرج:


-أنا آسف. معلش سرحت شوية يا راندا!


جلسا متقابلين في مقهى هادئ بضاحية عريقة بوسط المدينة، الإضاءة الخافتة تلامس ملامحها المرهقة والجميلة في آنٍ برقة، بينما عيناه لا تغادرانها ..


لا يزال يراقب كل تفاصيلها كمن يخشى أن يضيع منه حضورها النادر ثانية واحدة، يداه مشدودتان تحت الطاولة وفي عنينيه شغفٌ مكتوم ..


لا يصدق إلى الآن أنها أمامه، حتى عندما هاتفته في ساعةٍ مبكرة من الصباح، ارتبك كثيرًا قبل أن يرد عليها، تفاقمت حيرته بعد مكالمتها، فقط لأنها طلبت منه أن يلتقيا!


لم يغامر بسؤالها على الهاتف لماذا تطلب لقائه، فضّل أن يراها أولًا ثم يمكنها قول ما تشاء، لكنها حتى الآن لم تقل شيئًا ..


وهو أيضًا، لقد جاء قبل الموعد بنصف ساعة وجلس ينتظرها، وما إن ظهرت أمامه حتى نسى كل شيء عداها، تصافحا وجلسا قبالة بعضٍ ولم ينطق كلاهما، ظل "عمر" يحدق فيها مأخوذًا بها، بالفتاة التي أعجب بها من أول نظرة، قبل حتى أن يلتقي بها ابن خالته ..


لكنه أبدًا لم يوفّق للأفصاح عن اعجابه، حتى هذه اللحظة، ما زال يسرّه في نفسه ...


-أنا تايهة يا عمر! .. تمتمت "راندا" بلهجةٍ متعبة كملامحها تمامًا


عبس "عمر" قائلًا:


-مالك يا راندا؟ حالتك مش عجباني

أنا عمري ما شوفتك كده.. قوليلي!


تنهدت بثقلٍٍ وهي تنظر بعيدًا لبرهةٍ، ثم عاودت النظر إليه وقالت ببطءٍ:


-انت عرفت ان نديم طلّقني؟


أكفهر وجهه الآن وهو يجاوبها ببرودٍ:


-آه عرفت. أنا هو بنتكلم كل يوم تقريبًا.


رفعت حاجبها وهي تقول محتدة:


-ويا ترى بقى عرفت الجديد؟ عرفت ان البرنسيس ليلى بنت عمه ماطلعتش بنت عمه ولا من أهله أصلًا؟

عرفت انه كان عارف من الأول؟ وخانّي معاها. خانّي مع بنت مشكوك في نسبها وفضّلها عليا. عرفت ده كله يا عمر؟!


أومأ لها وقال بذات البرود:


-آه عرفت. بس من قريب.. هو قالّي بنفسه لما جابها عندي الفندق وقضوا فترة مع بعض.


عقدت "راندا" حاجبيها بشدة قائلة باستنكارٍ:


-كنت عارف كل ده وساكت يا عمر؟ 


رد وهو يسحب لفافة تبغٍ ويشعلها بتأنٍ:


-إيه إللي كان ممكن أعمله؟ ليلى بتحب نديم ونديم كمان بيحبها

الدنيا كلها كانت شايفة الحقيقة دي حتى انتي يا راندا. مع ذلك غامرتي بمستقبلك و وافقتي تتجوزيه

بالنسبة لي محدش غلطان في القصة دي غيرك انتي.


راندا بحدة: بس هما عملوا زي الحرامية. الاتنين سفلة. وبالذات إللي اسمها ليلى

أنا مش مصدقة إنك وافقت تشترك في القذارة دي حتى لو بسكوتك؟ إزاي تسكت عن حاجة زي دي يا عمر؟ معقول انت؟؟!


ينفث دخان سيجارته قائلًا بجمودٍ:


-نديم وليلى متجوزين. حتى لو عرفي بس في ورقة بينهم ومتوّثقة. يعني ماليش حق اعترض

لما راجل يجيب مراته عندي الفندق ويختلي بيها.. ماينفعش أمنعه أو أقوله لأ مايصحش.


رددت بينما الدموع متحجّرة بعينيها:


-بس انت كنت عارف انهم بيعملوا حاجة غلط.. انت كنت عارف يا عمر!!


لم يتمالك "عمر" أعصابه أكثر، أطفأ سيجارته بحركاتٍ عصبية وهو يهتف بها من بين أنفاسه:


-كل القهرة إللي انتي فيها دي بسبب إللي عمله فيكي نديم. وانه فضّل ليلى عليكي زي ما قولتي

انتي مابتحبّيش نديم يا راندا. انتي كرامتك وجعاكي ومش متقبلة فكرة ان ليلى المشكوك في نسبها زي ما قولتي تملك قلب نديم وتخلّيه خاتم في صبعها. عكسك انتي راندا منصور بنت الحسب والنسب. بالنسبة لكل الناس ألف راجل زي نديم يتمناكي. كل مشكلتك مع ليلى بالذات يا راندا

انتي عارفة لو كانت واحدة تانية غير ليلى انتي ماكنتيش نزّلتي دمعة واحدة من إللي في عيونك دي. وكنتي اتطلقتي من نديم في أول يوم عرفتي المستخبي. كنتي هاتمسحيه من حياتك نهائي. لكن حتى بعد ما طلّقك انتي لسا تايهة زي ما قولتيلي. وعمرك ما هاترسي على بر طول ما نديم لسا مفضّل ليلى عليكي.. بس عارفة المفاجأة بقى؟ ليلى عمرها ما كانت نزوة في حياة نديم. وهو عمره ما هايسبها!


كانت كلماته كأنها صفعاتٍ واجهتها بحقيقتها تمامًا، كل الكلام الذي لم يجرؤ أحدٍ على قوله لها، حتى أبيها وعمتها ..


قاله "عمر" الآن دون تكلّفٍ أو تجميل، ولم يراعي حتى حداثة جرحها، أغفلتها صدمتها بكلامه عن مدى الحدة والاسلوب الانتقامي الذي غلّف كلماته ...


-ده رأيك فيا يا عمر؟ .. سألته مخطوفة الأنفاس


رد بصوتٍ حاد:


-وانتي عارفة إنه صح.. أنا عايز أفهم انتي طلبتي تقابليني ليه؟

إيه عاوزاني أتوسط بينك وبين نديم؟ عاوزة ترجعي له يعني؟


راندا بغضبٍ مفاجئ:


-لأ طلبت أقابلك عشان كنت فكراك حقاني. كنت فكراك غير نديم

بس للأسف انتوا الاتنين زي بعض.. حتى لو حاولت تنكر ده انت وهو فيكوا من بعض كتير.


ثم أردفت وهي تشدّ حقيبتها وتتهيّأ للذهاب:


-والسبب الأول إللي خلّاني أجي أقابلك هو إني محضرة لابن خالتك فضيحة هو البرنسيس بتاعته هاتهز البلد كلها. كنت جاية وبفكر إني لو قعدت معاك واتكلمنا انك ممكن تقنعني ماعملش كده.. بس للأسف يا عمر. انت خلتني مصممة ومستحيل حاجة توقفني عن إللي هاعمله.


وهبّت واقفة أمام عينيه ..


تبعها بسرعة بينما تمشي مهرولة تجاه باب الخروج ...


-أستني هنا! .. قالها ممسكًا برسغها بقوةٍ يستوقفها


أدارت رأسها نحوه، فتلاطمت خصيلات شعرها الداكنة على وجهه، حملقت فيه بعينين مستعتين وقالت بخفوتٍ تحذيري:


-سيب إيدي يا عمر!


استقطبا نظرات رواد المكان بالفعل ..


إلا إنه لم يذعن لها، نظر لها من علوٍ وقال بهدوءٍ ضمني:


-انتي مش هاتعملي حاجة يا راندا.. سامعة؟


ابتسمت له متحدّية:


-Watch Me!


عمر بانفعالٍ مكبوت:


-ليلى مالهاش ذنب في كل ده. ليلى مش ناقصة.. انتي ماتعرفيش فيها إيه اليومين دول

ولو عملتي حاجة نديم مش هايسكت. انتي هاتولّعي نار محدش هايقدر يطفّيها!!


تلاشت ابتسامتها وهي تقول بجدية:


-عمر.. أنا ست اتخانت وشافت خيانة جوزها بعنيها

أنا مش هاولع نار.. أنا النار.. ومحدش هايقدر يطفّيني!


وشدّت يدها من قبضته بقوةٍ، ثم رمته بنظرة متحدية أخيرة وذهبت ..


عاد "عمر" إلى الطاولة ليجمع اغراضه، ألقى بالحياب فوق الطاولة ولحق بها مغادرًا، لكنه لم يقرر العودة لمنزل والده، بل غيّر وجهته ...


__________________________________________________


دلفت أمامه داخل الشقة الفاخرة ..


كالمتوقع وجدت مكانًا لا يمكن أن ينتمي إلا لرجل سوى "دياب نصر الدين".. رجلٌ مثله تعجبه الأناقة ويهوى الرقي في كل شيء ..


الديكور كله كما لو أنه قاعة متحفٍ صغيرة، فرش كلاسيكية وإنارة موّزعة بإتقانٍ، لم تبدو لها كشقة مشبوهة كتلك التي سمعت عنها في سفرتها، حيث أخبرتها إحدى صديقاتها عن مغامرات زوجها مع مطربة شهيرة وانتشار الخبر بالوسط الراقي، لكنها أثرت الصمت ولم تحاول إثارة أيّ حديث معه ..


إلا إنها لم تنسى، وستواجهه قريبًا، لتسوي ما بينهما أولًا وتخفف من حدة الخلافات القديمة، ثم لكل حادثٍ حديث ...


-حلوة أوي الشقة دي!


كان قد أدخل الحقائب وأقفل الباب عندما إلتقط جملتها ..


استدارت له مبتسمة بإشراقٍ، زوجته.. "وردة نعمان".. لم تكن قبيحة الشكل.. لكنها أيضًا لم تكن جميلة ..


على الأقل بالنسبة له، لم تكن بجمال حبيبته، لم تكن مثلها في أيّ شيء، ورغم ذلك سعت لتسرق منها كل شيء ...


-انتي قولتيلي زمان.. من حوالي 19 سنة.. إنك أجهضتي دهب بنفسك... صح يا وردة ولا انا غلطان؟


نظرت له بوجومٍ، لم تتوقع أن يأتِ على سيرتها الآن، رغم إنه لا يبرح التفكير بها وتذكرها خاصةً كلّما اجتمعا ببعضٍ ..


كان قد اقترب منها كثيرًا، حيث لا تفصل بينهما إلا خطوة واحدة ..


فكّت "وردة" عقدة حجابها وهي تقول باقتضابٍ:


-أنا لسا راجعة من سفر.. وانت أول ما تفتح معايا كلام. بتكلّمني عن دهب؟


دياب بحدة: ردّي على سؤالي.. انتي أجهضتي دهب ولا لأ؟


عبثت بشعرها المجعّد تفرده للخلف دون أن تبعد عينيها عن عينيه لحظة ..


ضيّقت نظرتها وهي تقول:


-انت بتسأل السؤال ده تحديدًا ليه؟


جاوبها باستهجانٍ لا يخلو من الغضب:


-بسأله عشان بالصدفة اكتشفت ان إللي محسوبة عليا مراتي عيّشتني في كدبة طول السنين دي وماقالتليش إني أب. أنا أب وعندي بنت كبيرة ماعرفش عنها حاجة. بسببك!!!


رفعت حاجبيها معلّقة:


-محسوبة عليك! للدرجة دي؟

انت كنت عايش معايا مغصوب بقى!!


دياب برعونة: أومال عاشقك ودايب في سواد عيونك يا مرى؟

انتي نسيتي نفسك يا بنت الجنايني؟ ونسيتي إزاي ساومتيني زمان على سري أنا ودهب؟

نسيتي لما جيتي تقوليلي يا نتجوز يا هاتروحي تقولي لعمي رياض إن ابن أخوك وأخو بنتك في الرضاعة داس على عرضك؟

انتي مفكرة إني اتجوزتك بكيفي كده؟ لأ فوقي يا حلوة. انتي ماتسويش رباط جزمة عندي. وآخر إللي كان مصبرني عليكي اني فكرتك عملتي معروف في دهب زمان وساعدتيها تنزل الحمل. لكن حتى دي طلعت اشتغالة منك يا بنت الـ××× ..


صرخت حين قبض على شعرها فجأة، بينما يقول من بين أسنانه:


-أقسم بالله لا تندمي. وتمن السنين إللي عشتها مش طايق أبص في وشك ومجبور. هادفّعك تمنها غالي أوي يا بنت الجنايني.


تحمّلت قبضته المتشددة حول خصيلات شعرها لترد عليه بغلٍ سافر:


-شوف مين بيتكلم وبيهدد.. انت لسا روحك في إيدي يا دياب

انت فاكر إنك تقدر تسكتني؟ كل أهلك هايعرفوا وسا ختك. وبنتك غللي بتقول عليها دي هاتتوصم بالعار طول عمرها. لما كل الناس تعرف هي جت إزاي. لما تشوفها بعنيك وهي بتتقـ /تل عشان إللي زيها مالوش مكان في الدنيا. مسخ. نسل شيطان لازم يتمـ /حي.


لم تتحمل أكثر عنف قبضته وأطلقت صراخًا رهيبًا من فمها، بينما يقرب وجهه منها هامسًا فوق أذنها:


-أنا عارف إنك عاقر.. أرض بور. مالكيش في الخلفة عشان كده خبّيتي عني السر ده.. خبيتي عني اني أب

قبل ما تجوزك ماكنش فيا دماغ افكر أطلقتي ليه من جوزك الأولاني؟ بس بعدها بكام سنة فهمت

انتي جوّاكي سواد وغل يا وردة.. بس أوعدك.. هاطلعهم على عنيكي واحدة واحدة!


_____________________________________________________________


بعد أيامٍ طويلة من البُعد عنها، لم يعد "مهران" يطيق صبرًا، عقد نيّته على العروج عليها والنظر في وجهها، أيًّا كان ما سيراه سيحتمله ..


فقط ليراها ..


يفتح "مهران" باب الجناح في بطءٍ، يدخل الغرفة التي خيّم عليها صمتٍ ثقيلٍ وكآبة ملحوظة، رآها تجلس قبالة الشرفة المفتوحة ..


ظهرها منحني قليلًا، وجهها شاحبٌ تحت الضوء الرمادي المتسلل من الخارج، لم تلتفت إليه، كأنها غارقة في غيابٍ أبعد من وجوده ..


اقترب "مهران" بخطواتٍ محسوبة، تردد لحظة، ثم وقف أمامها بمسافةٍ قصيرة ...


-إزيك يا لولّا! .. قالها "مهران" بصوتٍ هادئ


لم تجبه، طلّت تحدق في الفراغ، ليتنهد بيأسٍ ..


يجلس على الكرسي المجاور لها، يمد يده فوق الطاولة بينهما، ثم يسحبها سريعًا كأنما خاف لو يلتمس الرفض القاطع منها ..


بدأ يتحدث بخفوتٍ لإستمالتها:


-أنا عارف إنك موجوعة.. مني أنا بالذات

بس أنا بحلف لك يابنتي. عمري في حياتي ما فكرت أعمل معاكي غير إللي في مصلحتك

ومن أول يوم شوفتك فيه يا ليلى.. حسيت إنك فعلًا بنتي ومن دمي.. انتي ماتعرفيش الفترة دي بتعدي عليا إزاي

أنا بتقطع وأنا بشوفك كده ومش قادر أعمل حاجة!!


أخذت "ليلى" نفسًا عميقًا، ارتجفت شفتاها، ثم قالت دون أن تنظر إليه:


-مافيش حاجة بترجع زي ما كانت يا.. يا مهران بيه.. حتى أنا. عمري ما هاؤجع زي ما كنت!


أطرق برأسه، ثم رفع عينيه إليها بإصرارٍ وقال:


-يمكن إللي راح مايرجعش.. بس إللي جاي مش هايكون غير زي ما احنا عايزينه

أنا هفضل جنبك يا ليلى. مش هاسيبك.. هكون في ضهرك طو آ ...


قاطعته وهي تدير رأسها وتحدق في عينيه مباشرةً:


-قولّي مين أبويا الحقيقي!............................................................................................................................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...


( 34 )


_ بصمةٌ _ :


في دار المناسبات التابعة لمسجد الشرطة بقلب المدينة ..


بدا المشهد مهيبًا تغلفه أجواء الوقار في آنٍ، القاعة الفسيحة ذات الأعمدة البيضاء تتلألأ بأنوار ثرياتٍ ضخمة تتدلّى من السقف العالٍ، تنعكس أشعتها على أرضيةٍ لامعة كأنها مرآةٍ مصقولة ..


على الجوانب انتصبت مقاعد أنيقة مغطاة بأقمشة بيضاء ناصعة، تتخللها شرائط ذهبية تزيد المكان فخامةً وجلالًا ..


تزيّنت المداخل بأقواس من الزهور الطبيعية، بيضاء وحمراء متشابكة بخيوطٍ من الياسمين ينبعث منها عبقٍ طيّب يملأ الأرجاء، وعلى جانبي الممر الممتد إلى منصة العقد، انتصبت أعمدة مضاءة بإنارة دافئة، تعانقها باقات ورد مرتبة بعنايةٍ، فيسير القادمون كأنهم يدخلون إلى حديقةٍ سماوية ..


في صجر القاعة وضعت طاولة مستطيلة مكسوّة بمفرشٍ أبيض تتخلله زخارف مذهبة، أُعدت لتشهد لحظة العقد، وخلفها مقاعد مخصصة للعروسين وذويهما ..


في المنتصف جلس المأذون الشرعي، على يمينه جلس السفير "عاصم البدري" بحلّته السوداء الأنيقة، بجواره ابنته "ريهام" بثوبها الأبيض الطويل ذي الأكمام الشفافة، وقد وضعت وشاحًا خفيفًا على رأسها ..


في الجهة الأخرى، جلس "زين نصر الدين" مرتديًا بذلته الرسمية الداكنة، بجواره جدّه "رياض نصر الدين" وأبيه "طاهر نصر الدين" ..


وبضعة من أصدقاء العريس بالخلف ..


ثم فجأةً رفع المأذون صوته بقراءة آياتٍ من القرآن الكريم صدحت عبر مكبّرات الصوت وسط خشوع الحاضرين وهدوئهم: بسم الله الرحمن الرحيم.. "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".. صدق الله العظيم ..


ثم ألقى مقدمته المعهودة:


الحمدلله الذي شرّع النكاح وجعله ميثاقًا غليظًا. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد

أيها الجمع الكريم. نحن هنا اليوم لنُتم عقد نكاح ابنتنا المصون ريهام عاصم صفوان البدري ..


بعدها طلب من "زين" و"عاصم" أن يتصافحا وأرخى محرمًا أبيضًا فوق أيديهما، ثم إلتفت إلى ولي العروس وسأله بعبارةٍ رسمية واضحة:


-حضرة الولي. هل تزوّج ابنتك ريهام بنت عاصم البِكر الرشيد. إلى هذا الشاب. زين ابن طاهر على الصداق المسمّى بينكما؟


ردّ "عاصم البدري" بلهجته العميقة الواضحة:


-نعم.. زوّجت ابنتي ريهام بنت عاصم البِكر الرشيد. إلى زين ابن طاهر على الصداق المسمّى بيننا. والله على ما أقول وكيل.


نظر المأذون إلى "زين" مستطردًا:


-وانت يا سيد زين. هل قبلت الزواج من ريهام بنت عاصم البِكر الرشيد على الصداق المسمّى بينكما؟


جاوبه "زين" بصوته القوي الواثق وهو ينظر مباشرةً بعينيّ أبيها:


-قبلتُ زواجها على الصداق المسمّى بيننا. والله على ما أقول وكيل.


سحب المأذون المحرمة وهو يعلن ببشاشةٍ:


-زواجٌ مبارك.. بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير

ليشهد الحضور جميعًا على تمام العقد. فقد انعقد الزواج مستوفيًا شروطه وأركانه الشرعية.


أجفلت "ريهام" لأول مرة الآن، عندما هبّ الجميع من مجالسهم مهنئين، نظرت بارتباكٍ إلى أبيها الذي صافح "زين" بحرارةٍ، ثم انتقل ليصافح بعض الرجال الآخرين ..


بينما ينتبه "زين" إليها أخيرًا، رآها لا تزال في مكانها، تجلس وقد بدا عليها الاضطراب الشديد، كأنها طفلة عالقة في زحامٍ غريب ..


ابتسم وهو يقترب منها هاتفًا:


-إيه يا ريري.. مالك يا حبيبتي؟


رفعت وجهها إليه ولم تقوَ على التحدّث للحظاتٍ، ثم قالت بتلعثمٍ:


-آ أنا.. أنا خايفة!!


تلاشت ابتسامته في الحال وهو يسألها باهتمامٍ:


-خايفة من إيه يا ريري؟


واقترب أكثر، أمسك بيدها من فوق قدمها وشدّها لتقف أمامه، لم تقاومه أبدًا، بينما تقول بصوتٍ خافت أضطره لخفض رأسه قليلًا صوبها:


-المكان ده كبير أوي.. و. وكل إللي هنا ولاد. انت ولد وبابي ولد وده ولد ودول كلهم ولاد مافيش بنت واحدة غيري!


ضحك "زين" بخفةٍ وهو ينظر إليها من جديد قائلًا:


-بجد يا ريري؟ خلّيتي سيادة السفير ولد وأنا زين نصر الدين أشهر رائد في الداخلية ومعايا زمايلي وكوادر الشرطة وكلنا على بعض كده ولاد؟!

ماشي يا ريري إللي تشوفيه!


حانت منه إلتفاتة نحو أفراد عائلتهما ليجدهم منخرطون في حديث التعارف ذاك ..


ثم عادو النظر لها وقال بجدية:


-بصي يا حبيبتي احنا جينا هنا عشان نكتب كتابنا. عشان نتجوز

والموضوع ده عشان يتم لازم في وجود رجالة بس. الحريم. أو البنات مش ضروري يكونوا موجودين

البنت الوحيدة إللي وجودها مهم هي انتي. عشان تمضي على عقد الجواز. وانتي شاطرة وعرفتي تمضي.


سرّها مدحه، فابتسمت برقةٍ مظهرة غمازتاها وهي تقول:


-آه صح. أنا مضيت

يعني خلاص أنا كده اتجوزتك؟ بقيت عروسة زي ما قولتلي؟


أومأ لها مبتسمًا:


-أيوة يا حبيبتي.. اتجوزتك

وبقيتي عروسة. عروستي!


اتسعت ابتسامتها وهي تنظر إليه بسعادة طفولية، بينما يشرد فيها رغمًا عنه، وينسى للحظة إعاقتها العقلية ..


لم يرى أمامه إلا امرأة مكتملة النضج، ذات ملامح ملائكية، ولأول مرة تضع بعض الزينة في بشرتها الفريدة، أحمر شفاه وردّي لامع، كحلًا داكنًا حدّد عيناها الزرقاوان باتقانٍ ..


وجد لسانه ينطق لا شعوريًا:


-انتي إللي حاطة مكياج لنفسك يا ريري؟


أومأت له بقوة قائلة:


-أيوة.. ليلى علّمتني. وكنا بنلعب كتييييير بالميك أب.


ساد الوجوم ملامحه لحظة ذكرها "ليلى".. لكنه رد عليها بلهجةٍ طبيعية:


-إنتي طول عمرك شاطرة وبتتعلمي كل حاجة بسرعة يا حبيبتي.. بس ممكن أطلب منك طلب؟


ريري ببراءةٍ: آه ممكن.. عايز إيه؟


زين بجدية: ماتحطيش مكياج تاني أبدًا.. شكلك الطبيعي أحلى بكتير. اتفقنا؟


وافقته "ريهام" بلا تفكيرٍ:


-اتفقنا.


ابتسم لها راضيًا ..


وبعد لحظاتٍ جاء "عاصم" من وراء "زين".. يضع يده فوق كتفه قائلًا:


-مبروك يا زين؟


إلتفت "زين" نحوه وقال بابتسامته الواثقة:


-الله يبارك في معاليك.


تعبيره جامد وصوته متصلّب وهو يوصيه:


-انت لسا واخد قلبي كله. مش حتة منه

ريهام دي أغلى ما أملك يا زين.. خلّي بالك منها كويس.


طمأنه "زين" بثقةٍ:


-أطمن يا باشا.. ريهام في عنيا

ماتقلقش عليها من اللحظة دي.


نقل "عاصم" بصره نحو "ريهام".. أمسك بيدها واعتذر من "زين" لبضعة دقائق ..


أخذ ابنته في زاوية قريبة، اقترب منها ومسّد خدّها براحة يده قائلًا:


-متأكدة إنك عايزة تروحي مع زين يا ريري؟


هزت رأسها بإيجابٍ، فسألها:


-بتحبي زين؟


-آه.. بحبه.


تنهد "عاصم" بعمقٍ، لا يسعه الآن إلا رؤية أمها، وكأن الزمان يُعيد نفسه، كأنما ليلة زفافه تتكرر وزوجته تتجسّد أمام عينيه في شخص ابنته ..


لطالما كانت نسخة أمها، تشبهها كثيرًا، والخوف، كل خوفه لو أن "زين" يشبهه هو ..


لن يهدأ له بال حتى يطمئن حيال ذلك، لا يمكنه أن يترك ابنته لرجلٍ مثله، لن يتحمل أن يكون مآلها إلى ذات مصير والدتها ..


حاوطها بذراعيه وضمّها إلى صدره بحنانٍ جمّ وهو يقول بلهجةٍ تختلج بدموعه الحبيسة:


-وأنا بحبك يا ريهام.. وعملت كل ده لمصلحتك. أنا عاوزك تتبسطي وتكوني سعيدة طول عمرك

زين وعدني إنه هايخلّيكي مبسوطة.. لكن أنا مش هقف عند الوعد بس... أنا هفضل جنبك.. عمري ما هاسيبك!


_______________________________________________


لقرابة الساعتين وهو يجلس هنا داخل سيارته ..


أمام فيلا "الراعي".. لم يكلّ ولم يملّ ..


مجرد فكرة إقامتها هناك، قطعةً مفقودة منه، دمه، ابنته!


"ليلى" ..


إنها لمعجزة.. ولعنةً في نفس الوقت ..


كيف يكافئه القدر هكذا؟


بعد أن قطع الأمل في أن يكون له ورثةً لأسمه ..


الحقيقة المرّة، أن "وردة" لم تكن وحدها ذات علّةٍ تمنعها من الإنجاب، كان هو أيضًا، وإلا لما حلمت أن يصبر عليها كل تلك السنوات ..


وفجأة شرد عقله في الذكرى القديمة ..


بعد رحيلها بعامٍ واحد ...


*****


وسط تعتيمٍ متعمّد منه، ينتقل إلى المشفى التخصصي بالمدينة لإزالة ورمٍ حميد بالبطن، لم تكن الجراحة سهلة وهذا ما قاله الطبيب وجعله يوقّع إقرارًا به ..


وحدث الخطأ الطبّي.. أو المخاطرة المتوقعة ..


بعد يومان من العملية واستئصال الورم بنجاحٍ، أتاه الطبيب وجلس أمامه يخاطبه بلهجةٍ رسمية:


-حمدلله على السلامة يا دياب بيه.


دياب مبتسمًا بتعب:


-الله يسلمك يا دكتور.. أنا مش عارف أشكرك إزاي على مجهودك معايا!


-أنا ماعملتش أي حاجة. ده واجبي.


-إزاي ماعملتش؟ انت انقذت حياتي

وكمان العملية نجحت.. صح؟


-أكيد نجحت والورم خلاص اختفى تمامًا ..


ثم صمت للحظة، وقال بصراحةٍ مطلقة:


-لكن للأسف حصلت المضاعفات إللي قولنا عليها.


شحب وجه "دياب" وهو يسأله:


-إيه إللي حصل بالظبط؟


الطبيب بجدية: بص. زي ما فهمتك. أي عملية حوالين الـ×××× أو الحبل الـ×××× ليها مخاطر. ساعات الأوعية الدموية إللي بتغذي الـ×××× ممكن تتأثر. وده يضعف نشاطها ويأثر على الخصوبة.


يتنفس "دياب" ببطءٍ وهو يستنطقه بوضوحٍ:


-يعني ممكن ماخلفش؟؟


الطبيب باسلوبه الصريح:


-في حالتك كان التدخل الجراحي قريب جدًا من قنوات الـ××××.. للأسف

التلف مش بسيط. وإمكانية إنك تخلف بقت شبه مستحيلة. تقدر تعيش حياتك الزوجية بنفس الكفاءة. لكن إنجاب.. مستحيل!


*****


عاد "دياب نصر الدين" من الذكرى مرددًا من بين أنفاسه:


-أنا مابخلفش.. ليلى.. ليلى بنتي!


ورصدت عينه الآن حركة في نقطةً على مدّ بصره ..


في الشرفة الجانبية لواجهة الفيلا، ظهرت فتاة شابة، لوهلةٍ خانته عيناه، وكاد يجزم أنه يرى "دهب".. أخته.. حبيبته.. وخطيئته ..


إلا إنها لم تكن سواها.. "ليلى" ..


نظر بسرعة في الصورة التي أرسلها لها "زين" عبر "واتساب".. كانت هي ..


إنها "ليلى" بنفسها ..


ترك الهاتف من يده وقبض على المقود بقوة وهو يحملق فيها بقوة مرددًا بخشونةٍ:


-ليلى.. فرصتي الوحيدة

ليلى!............................................................................................................................................................ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


يتبع ...



( 35 )


_ زوجتي _ :


كان يلزمها حمامًا ساخنًا فور عودتها ..


حيث لم تكن جلسة النقاش التي عقدتها معه مجدية كما أملت، بالطبع، ماذا توقعت؟


فهو ابن خالته ..


لم يكن ليساندها ضده مطلقًا ..


هذا "عمر البدري".. رجل الأعمال الشهير.. والصديق القديم الذي حظيت به من خلال خوضها أسواق العمل ..


في وقتٍ خلى كان أنبل، أرق، لكنه اليوم صدمها!


لم تتخيّل أن يكون عدائيًا إلى هذا الحد، قاسيًا، أنّى له كل هذه الغِلظة؟


كيف تحوّل إلى هذا الرجل الحاد الذي رأته اليوم؟


ندت عنها زفرة حارّة وهي تلف جسمها بمنشفةٍ كبيرة، خرجت إلى غرفتها وهي تجفف شعرها بمنشفة أخرى صغيرة، وجمدت للحظة عندما رأت عمتها ..


السيدة "فاتن جلال" تجلس بجوار سريرها في الكرسي الوثير ...


-عمتو! .. رددت "راندا" بغرابةٍ


رفعت المرأة الأربعينية رأسها المصبوغ حديثًا بالأشقر الداكن، ابتسمت لها تلك الابتسامة الدبلوماسية التي لا تلوي على شيء وقالت بهدوءٍ:


-تعالي يا راندا.. تعالي أقعدي قصادي

أنا مش هطول عليكي جيت بس أقولك كلمتين بالنيابة عن أبوكي وهاسيبك على راحتك.


عبست "راندا" مستغربة أكثر، لكنها سارت ناحيتها وجلست قبالتها وهي تلقي بالمنشفة الصغيرة جانبًا، نظرت إليها باهتمامٍ قائلة:


-خير يا عمتو. إيه الموضوع؟


ردت "فاتن" محافظة على ابتسامتها:


-أنا طلبت من منصور إني أنا إللي أكلمك. لأنك ماتعرفيش هو كان غضبان أد إيه

لما عمر البدري كلّمه.. عمر ده ابن خالة طليقك نديم صح كده؟


الآن قد بدأت تدرك الصورة تقريبًا ..


وارتسم هذا الادراك على محيّاها وهي تومئ لها قائلة:


-أيوة يا عمتو.. عمر ابن خالة نديم

ممكن أعرف كلّم بابا ليه؟


-كلّمه عشان يحذره من إللي انتي ناوية تعمليه. قال إنك بكرة محضرة فضيحة لطليقك وبنت عمه

الكلام ده صحيح يا راندا؟


-أيوة صحيح! .. جاوبتها دون أن يرف لها جفنٍ


لتقول "فاتن" بجدية:


-شكرًا على صراحتك.. بس أنا بقى إللي بحذرك بأسمي واسم أبوكي

إياكي تعملي أي حاجة من دي. وإلا احنا أول ناس هانكون ضدك.


راندا بصدمة: هو بابا إللي باعتك تقوليلي كده؟

يعني كمان عايز يحاربني بدل ما هو إللي ياخد لي حقي؟؟


-حقك الأيام إللي هاترجعه. وعلى حسب ما سمعت نديم بالفعل بدأ يدفع التمن

لكن إللي انتي عايزه تعمليه ده هايجرنا احنا لسكة مش بتاعتنا.. راندا. احنا أعلى من المستوى ده بكتير. فاهماني؟


راندا بغلٍ: بس أنا جوايا نار.. نااار يا عمتو

أعمل فيها إيه؟ أطفيها إزاي؟ انتي أصلك ماتحطيش في نفس موقفي

ماشوفتيش جوزك وهو بيخونك بعينك.. أنا شوفتهم وهما مع بعض

وقبلها كنت بشوف عليهم حاجات كتير.. تخيلي لما في لحظة تتأكدي من شكوكك.. متخيلة الصدمة إللي أنا كنت فيها؟؟!


امتلأت عينيّ "فاتن" تعاطفًا نحوها، مدت يدها ممسكة بيد الفتاة التي لطالما اعتبرتها ابنتها، ثم قالت برفقٍ:


-راندا. يا حبيبتي.. أنا حاسة بيكي

عارفة إنك حبتيه. بس صدقيني انتي مش أول ولا آخر واحدة جوزها يخونها

وده عمره ما يقلل منك.. نديم ماحبكيش. أنا عارفة ان الحقيقة دي بتوجع

بس الوقت كفيل يعرّفك ان انتي كمان هاتنسيه. وهاتحبي تاني.. يا حبيبتي ده كان أول راجل في حياتك. اول حب.. وهو ده السبب الوحيد إللي تعبك.


لا تعرف كيف، ولم تقوَ على السيطرة حتى وهي تعترف بغتةً بينما تفرّ دمعة كبيرة من عينها:


-أنا لسا بحبه.. أنا بحبه يا عمتو!!


وقبل أن تنفجر بالبكاء، أدركتها عمتها تضمها إلى صدرها بقوة، سامحة لها بافراغ كل هذا الأسى بين أحضانها ..


وبعد فترة قصيرة لم يسعها إلا أن قالت لها واعدة وهي تمسح على رأسها بحنوٍ:


-هاتتخطي الحب ده.. وهاتلاقي حب أعظم منه بكتير يا راندا.


___________________________________________________


-أنا عايزة ميمي!


إلتفت "زين" نحو عروسه الجالسة بجواره في سيارته رباعية الدفع، رآها تنظر إليه برهبةٍ وتقلب شفتها السفلى دلالةً على انزعاجها، ألقى نظرة بالمرآة الأمامية وهو يقول بهدوءٍ:


-العربية إللي ماشية ورانا فيها كل هدومك وحاجاتك.. ميمي أنا بنفسي هاروح أجبها لك

بس لما نوصل بيتنا وأطمن عليكي هناك يا حبيبتي.


وشملها بنظرة أخرى ليراها لا زالت على قلقها، فسألها باهتمامٍ وهو ينقل ناظريه بينها وبين الطريق:


-إيه تاني. مالك يا ريري؟

في حاجة مضايقاكي؟


فاضت الحيرة من عينيها وهي تقول بطريقتها الطفولية:


-هو أنا يعني مش هشوف عمر تاني؟

أنا مشيت منغير ما أقوله!


-مين قال يا حبيبتي إنك مش هاتشوفيه تاني بس؟

انتي مش مهاجرة يا ريري. انتي اتجوزتي يا حبيبتي

يعني عادي هاتعيشي حياتك زي ما كنتي مافيش أي حاجة هاتتغيّر. إلا إن بقى ليكي بيت جديد. بيتي بقى بيتك من إنهاردة

وتقدري تشوفي عمر في أي وقت تحبيه سواء عندي أو عند باباكي.. كل إللي عليكي بس إنك تطلبي مني

أطلبي مني إللي انتي عايزاه وأنا أنفذهلك فورًا.


رآها تبتسم أخيرًا، فابتسم بدوره معجبًا أكثر ببراءتها الأشبه بجداول مياه صافية، وساد الصمت لبقيّة الطريق ..


وصل "زين نصر الدين" إلى قصر العائلة ..


كان جده وأبيه قد سبقاه، صطف سيارته بوسط الباحة، نزل واستدار حولها ليفتح الباب من جهة عروسه، أمسك بيدها الرقيقة وساعدها على النزول ..


كانت مضطربة للغاية بسبب ثوبها الطويل، وتلك الجزمة عالية الكعبين، لم تتحملها أكثر من ذلك ..


سحبت يدها من يده بقوة، فارتفع حاجبه مستغربًا وهو يسألها:


-بتعملي إيه يا ريري؟


راقبها وهي تنحني لتخلع زوجيّ الحذاء، وتفاقمت دهشته وهو يراها تلقي بهما بعيدًا وحدًا تلو الآخر، ثم سمعها تقول بلهجة مرتاحة:


-أنا عمري ما هلبس الجزمة دي تاني أبدًااااا!


عاود النظر إليها وهو يقول بجدية:


-ريري. إللي عملتيه ده غلط. ماينفعش نرمي حاجاتنا بالشكل ده.


ريهام بتبرمٍ: مش أنا إللي اخترتها. بابي جابها لي. تبقى مش بتاعتي.


زين بصلابة: باباكي بيجيب لك كل حاجة ودي من ضمنهم يبقى بتاعتك

من فضلك روحي هاتيها والبسيها. لو مش عايزاها تاني خلاص ماتلبسيهاش لكن دلوقتي حالًا تروحي تجبيها وتلبسيها.


عقدت ذراعيها أمام صدرها مغمغمة بغضبٍ طفولي:


-بتوجعني في رجلي. مش هالبسها أنا!


رق قلبه حين لمح احمرارًا طفيف في عينيها، وخشى أن يتطور الوضع إلى حد يصعب إصلاحه، فإذا به يتنهد باستسلامٍ ..


استدار وذهب ليلتقط زوجي الحذاء، ثم عاد إليها وقال بصوتٍ به نبرة حزم:


-أنا هاعديها لك المرة دي عشان احنا مبسوطين إنهاردة ومش عايز أزعلك. لكن خلّي بالك التصرفات دي مش مقبولة يا ريري. لما تبوظي حاجة لازم تصلحيها.. مفهوم؟


أومأت له بطاعة ..


فمد يده ممسكًا بيدها، سار بها نحو المنزل وهو لا يزال يمسك في يده الأخرى حذائها، قرع جرس الباب وأمر المستخدمة التي فتحت لهما:


-حد يطلع ياخد الشنط إللي برا فوق على أوضتي.


-أوامرك يا باشا.


مرّ "زين" للداخل ساحبًا "ريهام" خلفه، وصولًا إلى البهو حيث جلس أفراد العائلة بانتظاره ..


رمقهم بنظرة شاملة، واستطاع ان يرى الصدمة على وجوههم، وخاصةً عندما شاهدوا تلك الفتاة معه وأصبخ النبأ صحيحًا ...


-مساء الخير! .. ألقى "زين" التحيّة عليهم بهدوءٍ


لم يرد أحد، فاضطر جدّه للتحدث ليخفف من وطأة الموقف:


-حمدلله على السلامة يا ولدي.. أوضتك جاهزة والعشا جاهز

خد مرتك وأطلع والوكل جاي وراكم. يلا يا حبيبي.


كاد "زين" يطبّق أوامر جدّه، لولا صوت أمه الذي ارتفع فجأةً:


-أستنى يا زيـن.


توقف "زين" متطلعًا إليها، هبّت من مكانها واقفة، وقبل أن تفتح فاها ثانيةً زجرها بعينيه قائلًا بصرامة:


-من فضلك يا أمي.. هاوصل ريهام لأوضتي وجايلك. دقيقة واحدة وراجع.


لم تنطق بعدها ..


ليأخذ عروسه ويصعد بها للأعلى، في نفس الوقت كان الخدم قد نقلوا حقائبها هناك، خرجوا وأغلقوا الباب ورائهم، فنظر "زين" إلى عينيّ "ريهام" مباشرةً وقال:


-بصي يا ريري. دي اوضتي ومن إنهاردة بقت أوضتك انتي كمان. عاوزك تتصرفي براحتك خالص وعندك هنا كل حاجة ممكن تحتاجيها وفي حمام كمان ..


وأشار لها ناحية غرفة الحمام الصغيرة بأقصى الجناح ..


نظرت له ثانيةً وقالت بتوتر واضح:


-مين الناس إللي كانوا تحت يا زين؟


-دول أهلي يا حبيبتي. إللي شوفتيهم تحت دول كلهم أهلي. وهاعرفك عليهم بس مش دلوقتي

انتي دلوقتي محتاجة تغيري هدومك وتاخدي شاور وتتعشي وتنامي. بكرة ان شاء الله هاعرفك على كل إللي هنا وهاخدك وأوريكي البيت كله.


-طيب انت. انت هاتمشي وتسيبني؟

أنا بخاف أقعد لوحدي!


قبض "زين" على يدها الصغيرة وشدّ عليها بلطفٍ وهو يقول:


-لأ. أنا مش عايزك تخافي من أي حاجة. مش أنا قلت لك قبل كده لازم تكوني قوية وتعتمدي على نفسك؟


أومأت له، فاستطرد:


-وقلت لك أي حد يضايقك وأنا مش موجود تعملي إيه؟


رددت كلماته التي حفظتها عن ظهر قلب:


-مأردش على حد وأستناك لحد ما ترجع.


حثها بإلحاحٍ: ولما أرجع هاعمل إيه؟


تبسمت بحبورٍ وقالت:


-أي حد هايزعل ريري زين هايزعله جامد.


ابتسم لها برضا وقال ممسدًا خدّها برفقٍ:


-برافو عليكي.. كده تعجبيني. ومع ذلك بردو أنا مش هاتأخر عليكي

هانزل أعمل حاجة بسرعة وجاي لك.


وتركها بعد أن قطع هذا الوعد، بأن يعود إليها سريعًا، هبط إلى الأسفل مجددًا ..


امتثل أمام عائلته مرةً أخرى وهو يقول بصوته الأجش:


-خير يا أمي.. كنتي عاوزاني في حاجة؟


السيدة "رؤيا" التي لم تتحرّك من مكانها حتى عاد، الآن تسير تجاهه قائلة بغضبٍ مكبوت:


-إزاي.. إزاي تتجوز من ورايا يا زين؟

إزاي عملت فيا كده؟ إزاي نسيت إنك ابني الوحيد ولاغتني بالشكل ده؟؟؟


تداخل صوتًا آخر لأبرز رجال العائلة.. وهو الذي لم يكن سوى "سليمان نصر الدين" الذي علا صوته بحدةٍ سافرة:


-وهو لاغاكي انتي لحالك يا رؤيا؟ ده ماهموش عيلته كلها 

ماهموش أنا بالذات. ابنك عارف من وهو عيّل لسا ماخطّش الشنب في وشه إنه هايتجوز بتّي.. بس هو عمل إيه؟ راح جاب للعيلة بت عبيطة عجلقها (عقلها) خفيف.


-عمـــي سليمــان!!! .. صاح "زين" بغضبٍ


وأردف بلهجة تحذيرية شديدة:


-إللي بتتكلم عليها دي بقت مراتي. وبعيدًا عن هدفي من الجوازة دي أنا عايزكوا كلكوا تسمعوا الكلام ده وتحطوه في بالكوا كويس

ريهام بنت معالي السفير بقت مراتي. وأنا إستحالة أفكر أسيبها في يوم من الأيام. حتى لما ليلى ترجع. هاتفضل على ذمتي وهاتعيش في بيتي معززة مكرمة.. وأي حد هايفكر يتطاول عليها هايحط نفسه قدامي.


أفلتت شهقة بكاء أنثوية ..


فإذا بـ"شهد" تقفز واقفة في مكانها، وتركض بسرعة للخارج مكممة فاها بيدها، ليستقطب "زين" نظرات الجميع أكثر الآن ..


ألقى "رياض" كلمته بصرامةٍ:


-زين ماعملش حاجة ورا ضهري يا سليمان.. أنا بنفسي شهدت على جوازته الليلة.


نظر "سليمان" إلى عمه مرددًا بذهولٍ:


-انت يا عمي؟ للدرجة دي لا أنا وبتّي نساوي عندك حاجة؟!


حاول "طاهر" تلطيف الأجواء بدبلوماسيته المعهودة:


-أبويا مايجصدش يا سليمان.


أسكته "رياض" بإشارة من يده، ثم نظر إلى "سليمان" وقال بحزمٍ:


-أسمع يا سليمان. الجوازة دي ماهتغيّرش حاجة واصل. أنا أهم حاجة عندي ليلى ترجع بأي تمن

والتمن ده كان جواز زين من بت السفير. ابن خالتها هو نفسه ولد الحرام إللي ضحك على ليلى 

هي دي نجطة (نقطة) ضعفه. ولما نساومه عليها هايرجع ليلى.


سليمان باقتضابٍ: في وسط ده كله ماسمعتكش جبت سيرتي أني ولا بتّي يا عمي!


رياض بجدية: ماتفكرش إن دي حاجة تفوتني.


ونظر إلى "زين" يحثه على قول ذلك بنفسه ..


تنهد "زين" بنفاذ صبرٍ وهو يقول على مضضٍ بصوته الصلب:


-أنا لسا عايز بنتك شهد يا عمي.. لو انت لسا موافق.. أنا بطلبها تاني منك دلوقتي.


نظر له "سليمان" وقال ببرودٍ:


-بتّي هاتبجى التانية يعني يا زين باشا؟


-لاه يا سليمان! .. هتف "رياض" مجتذبًا أنظار الأخير ثانيةً


ثم أعلن بصرامة قاطعة:


-شهد هاتبجى التالتة.. زين مايهتجوز بتّك إلا بعد ما يرجع لي ليلى ويكتب عليها!..

يتبع ...


تكملة الرواية من هنااااااااا

جاري كتابة الفصل الجديد  للروايه حصريا لقصر الروايات اترك تعليق ليصلك كل جديد أو عاود زيارتنا الليله

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا




تعليقات

التنقل السريع
    close