رواية غناء الروح الفصل الثالث وعشرون 23بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل الثالث وعشرون 23بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
الفصل الثالث والعشرون...
"لم يُستدل بعد على مكان المجرم"
آلام مميتة تستوطن عقله وهو يفكر مليًا في إيجاد حل للوصول إلى ابنته، حتى الشرطة لم تنجح في العثور عليها، انتظر بلهفة اتصال الخاطف كي يُخبره بموافقته، مستعدًا لإعطائه المبلغ الذي يطلبه بعد أن قرر بيع شقتين من ممتلكاته وسحب جميع أمواله من البنك، لم يكن المال يعني له شيئًا؛ الأهم هو عودة ابنته سالمة، حتى لو تضاعف المبلغ وعاد هو إلى نقطة الصفر من جديد، لن يهمه كل ذلك أمام نظرة ابنته إليه وصوتها الناعم وهي تخبره كم تحبه!
انزلقت دمعة حارقة من عينيه الذابلتين، بعد أن كره شعور العجز الذي فرض عليه حصاره، وكأن أمر الإفراج عنها أصبح مستحيلًا.
مر يومان قضاهما في الشوارع والطرقات، يتنقل بسيارته هنا وهناك، يستنجد بأي شخص قد يساعده في الوصول إلى ابنته، ثم يعود أدراجه إلى منزل والد "يسر" ليطمئن عليها، بعد أن أصابها انهيار عصبي وأصبحت المهدئات والإبر الوسيلة الوحيدة لتهدئتها.
حاول والد "يسر" كثيرًا مساعدته ودفع نصف المبلغ، إلا أنه رفض رفضًا قاطعًا وأصر على موقفه، لكنه لن ينسى أبدًا محاولته وإلحاحه على المساعدة، على عكس عائلته التي تعاملت مع أمر خطف ابنته وكأنه شيء عادي، اكتفوا فقط بالاتصالات كالغرباء، ولم يتحرك أحد منهم لمساعدته، فشعر بوحدة شديدة تحاصره وكأن كأس الخذلان لا ينتهي.
فرك جبينه بقوة نتيجة للإرهاق الذي يشعر به، فوقف وقال بنبرة منهكة وهو ينظر إلى غرفة "يسر" بحيرة:
-أنا مضطر اروح البيت اغير هدومي، لو حصل حاجة بلغوني.
أومأ الحاج "فاضل" بإيماءة بسيطة، وقال بصوت واهن حزين:
-روح وبردو لو حد كلمك بلغنا.
حرك رأسه إيجابًا وغادر إلى منزله، وأثناء قيادته، وصلته العديد من الرسائل المرسلة من قبل أهله وبعض المعارف، لكنه لم يهتم، حتى باتصالات والدته المتكررة، لم تكن لديه طاقة كافية لتحمل برودهم الجليدي في مصيبته، وهو في محنهم يقف كالسد المنيع!
وصل بعد عدة دقائق إلى بنايته، وتعجب من وجود "حسناء" تقف أسفل البناية تتحدث مع حارسها، أغلق سيارته واقترب منها وهو يقول بقلق:
-حسناء بتعملي إيه هنا؟
التفتت إليه، والقلق واللهفة يمتزجان في ملامح وجهها، لتنسج لوحة معبرة عن مشاعرها المتضاربة:
-دكتور نوح، أخيرًا ظهرت.
ابتعدا عن الحارس الذي بدا عليه الفضول، إلا أن نوح قطع عليه مهمة التنصت وسار بعيدًا، ليقف أمام سيارته، هناك، تحدثت حسناء بصوت حزين، استطاعت بحرفية متقنة أن ترسم إماراته على وجهها:
-ان شاء الله ترجعلك، والله يا دكتور انت واجع قلبي اوي، وليل ونهار بفكر فيك، واتصلت كتير بس انت ماردتش عليا، فقلقتني اكتر، وكنت باجي هنا كل يوم أسال البواب عليك رجعت ولا لا.
كانت تدرك جيدًا أنه لن يُلقي بالًا لما تُخفيه كلماتها بين السطور، وسط دوامة مصيبته الكبرى، لكنها لن تفوت فرصة إظهار وقوفها بجانبه، وإبراز رغبتها الصادقة في مساعدته.
أجابها نوح بصوت خافت، وقد أثقلته الهموم:
-مكنتيش تتعبي نفسك، أنا كنت هرد عليكي، بس لما أكون قادر اتكلم.
رمشت بأهدابها، وسألته بنعومة، ونغمات الشجن تتسلل إلى صوتها:
-لسه بردو مش عارفين توصلوا لحاجة؟
أومأ برأسه بحزن، وبدأ يروي لها ما حدث في اليومين الماضيين، لم يفهم لماذا شعر برغبة في الحديث معها تحديدًا، ربما لأن زوجته، شريكته في المصيبة، كانت غارقة في انهيار نفسي يفقدها التركيز، وربما لشعوره بوحدة قاتلة، رغم وجود يزن ودعمه المتواصل، أو ربما لأنه كان يفتقد حنانًا من نوع خاص، ذلك الحنان الذي كان يرجوه من والدته أو شقيقاته.
كل ما كان يعرفه أنه شعر براحة غريبة وهو يُفرج عن سجون صمته.
-يالهوي تجارة أعضاء إيه!! لا لا لا ان شاء الله لينا ترجعلنا بخير، والشرطة تعرف تجيبهم.
همس بضعف، وقد خفض وجهه إلى الأرض:
-ياريت، أنا عندي استعداد أعمل أي حاجة في سبيل إن إنقذ بنتي.
ساد الصمت بينهما لفترة قصيرة، قبل أن تقطعه هي بنبرة مترددة، وعيناها تتفحصان وجه نوح الذي يموج بأمواج الحزن العاتية:
-أنا عندي فكرة بس مش عارفة أنت هتوافق ولا لا؟!
رفع بصره نحوها، يتعلق بأي أمل، حتى وإن كان واهيًا:
-فكرة إيه؟
مدت يدها بجرأة، تمسك بكفه، وكأنها تحاول أن تأسره بأساليبها الملتوية لتجذب كل انتباهه إليها، شعرت أنه بات يلمس مدى خوفها عليه وعلى مستقبل ابنته.
-اوعدني الاول إنك تفكر ومتأذيش خالي!
أومأ برأسه إيجابًا، وقال بلهفة:
-اوعدك بس قولي.
تنفست بعمق قبل أن تبوح:
-خالي كان زمان له في المشاكل وكده، يعني...من الآخر كان صايع وعارف ناس كتير مجرمين، بس هو اعتزل وتاب الحمد لله، ممكن بقى يساعدك في محنتك عن طريق حبايبه ويقدروا ان شاء الله يوصلوا لبنتك.
توقفت للحظة قبل أن تستطرد:
-بس لو وافقت هتضطر تمشي غير قانوني، والشرطة ماتعرفش عشان خالي ميدخلش في سين وجيم، حابب أنا معاك واخدمك برموش عنيا، مش حابب ولا كأنك سمعت مني حاجة، كل القصد بحاول اساعدك عشان انت حد غالي عليا اوي.
ابتسم نوح ابتسامة باهتة، وقال دون تردد:
-موافق طبعًا، وماتقلقيش مش هتكلم وده وعد، لو بنتي رجعت أنا هعملك أي حاجة انتي عايزاها، يلا بينا.
****
ذهب نوح برفقة حسناء إلى منطقة شعبية تعج بالحياة والصخب، حيث المنازل المتراصة والطرق الضيقة التي تكاد لا تتسع لسيارة واحدة، أشارت حسناء إلى منزلٍ شبه متهالك بنبرة خجولة، تحمل في طياتها مزيجًا من الحرج والتردد:
-ده بيتي يا دكتور طبعًا مش قد المقام.
أمال نوح رأسه نافيًا بكلمات تحمل الصدق والبساطة:
-ماتقوليش كده، أنا يعني ماتولدتش في بُقي معلقة دهب.
دخلا معًا إلى المنزل، وما إن وطأت أقدامهما عتبة الشقة حتى أبصر نوح سيدةً تخرج مسرعة، تضم إلى صدرها شيئًا صغيرًا، تتمتم بعبارات غامضة، وكأنها تهمس بأسرار لا يُفترض لأحد سماعها.
ارتبكت حسناء، وقالت بحرج بادٍ على ملامحها:
-دي صاحبة امي وجارتنا اتفضل.
تقدمت حسناء بخطوات مترددة، منادية والدتها بصوت حاولت أن تجعله طبيعيًا:
-ماما أنا معايا دكتور نوح.
خرجت من إحدى الغرف سيدة قصيرة القامة، تضع وشاحًا أسود شفافًا على رأسها، وقد كحلت عينيها بإتقان يُخفي وراءه دهاءً غير ظاهر، زينت أنفها بحلقة فضية، وعلى ذقنها وشم صغير أعطاها هيئة غريبة.
لكن ما أزعج نوح حقًا لم يكن مظهرها فحسب، بل الدخان الكثيف الذي ملأ المكان، وبرائحته النفاذة التي ضربت أنفه كالسهم، جعلته يسعل بشدة، محاولًا التقاط أنفاسه التي خانته تحت وطأة الحساسية التي يعاني منها.
قالت الأم بضيق، وهي تنظر إلى ابنتها بعينين لامعاتين بشيء من التوبيخ:
-يا خبر مالك يا دكتور؟
خرج صوت نوح متحشرجًا، وقد بدا عليه الإعياء:
-مفيش عندي حساسية صدر ومابقدرش استحمل الدخان والبخور.
ركضت حسناء نحو النوافذ، فتحتها على عجل، لتتيح للهواء النقي اختراق المكان، معتذرة بخجل:
-اسفة يا دكتور، امي أصلها بتعشق البخور قد عنيها.
ثم اقتربت من والدتها، وهمست بلهجة تحمل في طياتها تحذيرًا واضحًا:
-ماشي يا ماما، ده أنا منبه عليكي، بلاش شعوذة النهاردة.
تأففت الأم باستياء وهمست بصوت خافت:
-دلوقتي بلاش شعوذة!!، ما الشعوذة دي اللي جابته هنا.
رغم أن نوح انتبه لهمسهما، إلا أنها تداركت الأمر سريعًا، وابتسمت له بابتسامة متكلفة، مرحبة بنبرة تحمل زيف الحفاوة:
-يا أهلاً بالباشا نورت المنطقة تمًا.
-اتفضل يا دكتور في الصالون وهتصل على خالي يجي حالاً.
جلس نوح في أقرب مقعد، ورأسه مثقل بالهموم والأفكار المتشابكة، كان عقله يترنح بين الشك واليقين، بين الصواب والخطأ، يعلم جيدًا أن الطريق الذي يسلكه ليس بالأكثر استقامة، لكنه كان مستعدًا للمضي فيه حتى النهاية من أجل ابنته المخطوفة.
حاولت الأم التحدث إليه، لكن إجاباته كانت مقتضبة، تحمل برودًا ناتجًا عن الإرهاق والتفكير المضني، أما حسناء فقد انزوت في المطبخ، تعد الشاي، ويدها تتسلل إلى زجاجة صغيرة، تسكب منها بضع قطرات في الكوب المخصص لنوح، وحولها تحوم نوايا غامضة.
في هذه الأثناء، دلف إلى المنزل خال حسناء، رجل يدعى مرسي، بصوت جهوري يملأ المكان:
-بت يا حسناء أنا جيت.
حين وقع بصره على نوح بثيابه الأنيقة وملامحه المتعبة، حك حنجرته بخشونة قائلاً:
-أهلا يا بيه، معلش يعني أنا متعود ادخل بيت اختي كده.
مد نوح يده لمصافحته، قائلاً بجدية تفوق قدرته على التركيز:
-أنا نوح وبنتي....
قاطعه مرسي بلا تردد، وكأن الحديث عن المصائب جزء من يومياته:
-المخطوفة لامؤاخذة، البت حسناء قالتلي كل حاجة على التليفون...
في تلك اللحظة، خرجت حسناء من المطبخ، تحمل صينية فضية واسعة، عليها أكواب الشاي، وضعتها أمامهم، وما إن مد مرسي يده لالتقاط كوب حتى هتفت بحزم:
-دي بتاعت دكتور نوح يا خالي.
تراجع مرسي على مضض، بينما تحولت نبرة حسناء إلى رقة مبالغ فيها:
-اتفضل يا دكتور، الشاي هيظبطك، وبعدين نحكي لخالي كل حاجة بالتفاصيل ونشوف هيقدر يساعدك ازاي.
التقط نوح الكوب، ورشف منه رغم أنه لم يكن يرغب بشيء سوى الإسراع في الحديث عن ابنته، شرب الشاي وهو يسرد لمرسي تفاصيل الخطف والفدية المطلوبة، لكن مرسي اعترض بنبرة خشنة، وكلماته أشبه بسكين تقطع الهواء:
-يا ولاد الـ***خمسة مليون مرة واحدة.!!! والله يا بيه أنا بطلت المهنة الـ**** دي من زمان، اه يعني عندي عيالي عايز اربيهم وكل شوية داخل السجن لامؤاخذة، بس أخر مرة حلفت ما أنا داخل في حوارات عوء تاني لامؤاخذة، بس عشان خاطر البت حسناء أم ***** أنا موافق وهساعدك وهجبلك قرار العيال دي ولاد الـ**** لامؤاخذة.
كانت حسناء تنظر إليه بحنق، غير قادرة على إخفاء ضيقها من فظاظته، فسألته بنبرة مشوبة بالقلق:
-يعني هتعمل إيه يا خالي؟ طمن الدكتور.
رفع مرسي حاجبيه بتفاخر وقال:
-يا بت أنا اه سيبت المهنة بس ألف واحد يتمنى يخدمني، وكار الخطف ده لامؤاخذة أنا عارفه كله بس الموضوع عايز يوم او اتنين اسأل واشوفلك البت عند كام واحد.
-تمام أنا معاك يا حاج مرسي....
حاول نوح الرد، لكن جفونه أصبحت أثقل من أن ترفع، وصوته خفت حتى تلاشى، في لحظات قليلة، سقط في نوم عميق، كأنما خدرته يد خفية.
-حاج!!! يسمع منك بوقك ربنا، أنا قايم لامؤاخذة القعدة شكلها ناشفة، سلام يا حسناء سلام يا اختي، اشتاتًا اشتوت.
غادر مرسي بصوته الجهور وطوله الفارع، بينما التفتت الأم إلى ابنتها بانزعاج:
-وهتستفادي إيه من كده يا موكوسة؟
مسدت يسر على شعر نوح، وعيناها تلمعان بوميض شيطاني:
-كتير...كتير اوي وهتعرفي لما تليفون يرن.
تحركت الأم عائدة إلى غرفتها المشبعة بالدخان والأسرار، لكن يسر أوقفتها بنبرة حادة:
-حذري أخوكي لو مالمش لسانه وبطل شتايم فيا همرمطه قدام التخين!
توقفت الأم عند الباب، نظرتها تحمل تحديًا عتيقًا:
-ده بدل ما تحمدي ربنا على أنه يوافق يساعدك، وبعدين احنا عيلة لسانا لامؤاخذة زفر وبيحب الشتيمة! يلا اصلهم بينادوني.
غابت الأم خلف الستائر الثقيلة، بينما جلست حسناء قرب نوح النائم، تتربص بتلك اللحظة التي ستغير بها حياتها إلى الأبد.
****
حاول يزن التقرب من سيرا طوال فترة وجودهما في المستشفى بجانب والدها، إلا أنها تهربت منه، منشغلة بعائلتها التي كانت تعم الرواق بحضورها الصاخب، حتى بدأ الأطباء والممرضون يتذمرون من تلك الضوضاء، لكن لا حياة لمن تنادي.
جلس يزن في المنتصف بين الأخوين "عبود" و"قاسم"، وكأنه أسير لا يقوى حتى على النظر إلى سيرا، بانتظار أن يُفرج عنه من هذا الموقف المربك، ولم تلبث لحظة القرار أن حُسمت، عندما لمحوا "فايق" يسير في الرواق بوجهٍ يحمل علامات استنفار، ممزوجة بسخرية مبطنة.
حينها، كان يزن أول المندفعين، يسارع لحماية سيرا، مانعًا إياها من التقدم، فيما تراجعت الأخيرة خطوتين إلى الخلف، تراقب المشهد السينمائي، وقد تجمعت عائلتها بأكملها لتقف حاجزًا بشريًا في وجه فايق، الذي قال بنبرة ساخرة:
-في إيه يا جماعة اهدوا، أنا مش جاي اتخانق ولا اعمل مشاكل، ده أنا جاي لأجل عيون سيرا.
رد يزن، بنبرة خشنة ووجه تتوهج منه علامات الغضب، ممسكًا بتلابيب قميص فايق ويدفعه بعنف نحو الحائط:
-نعم يا روح أمك.....
للمرة الثانية، يظهر الجانب المخيف من يزن؛ ذاك الذي لا يستطيع كبح جماح انفعالاته، بدا كوحش متهور، وانهال على فايق بسيلٍ من الشتائم القذرة، فيما وقف الحاضرون في صمت، بعضهم يستمتع بالمشهد ويشمت في فايق، والبعض الآخر يخشى تصاعد الأحداث نحو الأسوأ، أما هي "سيرا" فتأرجحت بين وهج السعادة لغيرته الواضحة عليها، وخوفها من انحدار الموقف إلى هاوية لا تُحمد عقباها.
قال فايق ساخرًا، كمن يصب الزيت على النار:
-اهدى يا شجيع السيما ولا هو أي لقطة وخلاص!!
رد يزن بحدة ونبرة صلبة تقطر احتقارًا:
-تعرف يالا عبود وقاسم غلطوا لما سابوك فيك نفس، المفروض اللي زيك يتقطع نفسه من الدنيا!! ده أنا مشوفتش في بجاحتك!
تدخل الحاج صافي، محاولًا احتواء الموقف بهدوئه المعهود، الذي بدا مستفزًا لحكمت التي كانت تتمنى لو يتفاقم الوضع أكثر، ليُشبَع فايق ضربًا من يزن، الذي لن يناله أي عقاب، فهي ترى في شقيقه الضابط رئيس جمهورية، لا يُمس ولا يُعاب!
قال الحاج صافي بنبرة هادئة:
-يا جماعة اهدوا مينفعش كده، الحاج جوه تعبان ولو وصلوا الخبر هيتعب أكتر.
عدل فايق من سترته، متجاهلًا توتر الموقف، وقال بهدوء وهو يثبت نظره على سيرا التي تراجعت أكثر خلف يزن، متوارية عن الأنظار:
-اللي خلاني اتنازل عن المحضر رغم إن عبود وقاسم كانوا هيتأذوا جامد فيها هو الحج حسني لما عرفت إنه هو وقع واهل المنطقة كانوا بيقولوا إنه مات.
شهقت حكمت بعنف، وهي تصيح بصوتٍ عالٍ أزعج الحاضرين:
-ان شالله أنت وأمك وأهلك كلهم يا بارد ياللي معندكش بربع جنية كرامة يا اللي....
قاطعتها كريمة برجاء حار وهي تحاول تهدئتها:
-اهدي يا أبلة أبوس ايدك، اهدي ميستاهلش تتعصبي أصلاً، ده ولا حاجة.
رفع فايق أحد حاجبيه متصنعًا الدهشة، وراح يُمرر كلماته السامة بين الجميع، حتى وصلت لعقل سيرا كصاعقة كهربية، جعلتها تتجمد في مكانها، مشدوهة لا تقوى على الحركة:
-حقيقي أنتوا خسارة فيكم المعروف، بس أنا لسه عند كلمتي واللي عملته ده كله عشان خاطرها، أنا متأكد إنها غيركم وإنكوا غصبتوها على الجوازة دي،
اللي بينا مكنش مجرد حكاية بسيطة عشان اصدقكم وأكدبها.
ثبت يزن في مكانه، لم يتحرك، ولم يلتفت إلى سيرا، على عكس عائلتها التي انقلبت جميعها تنظر إليها بصدمة وشك قاتل، وفي الحقيقة، لم يتمن فايق شيئًا بقدر ما تمنى أن يفقد يزن هدوءه، وأن تتزعزع ثقته بها، وقد نجح بالفعل في زرع الشك في قلوب عائلتها، لكنه لم يتمكن من خلخلة ثقة يزن، الذي بدا أكثر ثباتًا.
أما هي، فقد كان رد فعلها مشلولًا؛ تشابكت حبال الصدمة حول لسانها، ومنعت عقلها من نطق كلمة، وكان صمتها في نظر الجميع اعترافًا، باستثناء يزن، فهو وحده كان يعلم أنها تعاني من بطء في ردود الأفعال، وقد أدرك ذلك من خلال تعامله الدقيق معها، كانت له قدرة خارقة على قراءة نقاط ضعف وقوة كل فتاة، حتى بات مَلكًا في تفسير أدق مكنوناتها.
أدرك يزن أنها تحاول الانفصال عنه بشتى الطرق، لكنه كان واثقًا أن "تلك الحشرة" كما أسماه في داخله لن تكون سبب الفراق، السبب في نظره أعمق وأقوى، وهو عازم على كشفه ومحو آثاره بطريقته الخاصة وخلطته السرية، ثم كسب إعجابها... أو ربما حبها، لم يقرر بعد، لكنه في كل الأحوال ينوي الانسحاب لاحقًا من قصرها، فغروره كشاب وسيم قادر على كسب قلوب الفتيات بغمزة، يدفعه لأن يحظى بحب هذه الأميرة المغرورة!
قال قاسم فجأة، بصوتٍ عالٍ كسر الصمت:
-سيرا الكلام ده بجد؟
كانت كلماته أشبه بصفعة، لكنها لم ترد، فقط دموعها تساقطت متتابعة، وقبل أن تنطق، قاطعها يزن بكلماته الحادة:
-قاسم، متديش ودانك لعيل سماوي زي ده، هو باين كده أنت وعبود علمتوا عليه جامد لدرجة إنه جاي يقول أي كلام لامؤاخذة كلام.....
ثم اقترب من فايق، وهمس له ببرود ناري:
-كلام نسوان فاضية !!
ابتلع فايق إهانته وهو يتصنع الابتسام، بينما الغليان ينهش داخله، والكدمات التي تركها عبود وقاسم على وجهه بدت وكأنها تزدهر، تفضح خيبته بينما انسحب من حيث أتى، مكتفيًا بنظرة ساخرة متوعدة، قال على إثرها:
-أنا عارف إن الصدمة تعمل أكتر من كده، الف سلامة على الحاج.
وما إن اختفى فايق عن الرواق حتى التفت يزن إلى "سيرا"، يوجه حديثه للجميع بابتسامة مهذبة، توارت خلفها نبرة حاسمة:
-أنا هروح سيرا عشان شكلها تعبت، حد عايز يروح يا جماعة وجودكم هنا مالوش أي لزمة، بالعكس المستشفى ممكن تعاند وتمنع الزيارة عن الحج.
كان يتحدث بأريحية شديدة، جعلت الحضور يلوذون بالصمت، وكأن كلماته أصابت في مقتل، أما سيرا فكان وقوفها بجانبه، وكأنها تعلن بصمتها موافقتها التامة على حديثه، بل وتؤكد حاجتها الماسة للابتعاد عن دائرة الشكوك التي أحاطت بها، مما قطع الطريق على أي جدال.
قال قاسم بخشونة، محاولًا الاحتفاظ ببعض الهيبة وسط هذا الصمت المفروض:
-احنا هنروح بطريقتنا، خد بعضك انت و...
لكن حكمت التي كانت حتى تلك اللحظة تراقب بصمت، ألقت بحقيبتها فوق رأسه فجأة، ثم انفجرت فيه بعنف طفيف، يحمل بين طياته قهرًا وغضبًا:
-اسكت انت يا قليل الأدب، ده أنا هربيك وهاعلمك الأدب، بتشك في أختك، عشان كلمتين من عيل زي ده.
تأوه قاسم، مستندًا إلى عبود الذي سرعان ما تراجع خوفًا من رد فعل "أبلة حكمت" العنيف:
-اه يا أبلة حاسبي، كنتي هتفتحي دماغي وأنا ورايا ماتش مهم.
التفتت حكمت إلى شقيقاتها الفتيات، تشير إليهن بنظرة آمرة:
-لما تروحوا تلموا كل أطقم الكرة والشرابات والكور كمان عشان اولعها فيهم، عشان السافل اللي لسه شنبه مخططش في وشه يشك في أخته.
قالت فريال محاولة تهدئة الموقف بصوت متردد:
-خلاص يا أبلة حكمت، صلي على النبي واهدي، قاسم مكنش يقصد.
لكن صافي، بطبيعته الهادئة، تدخل مجددًا، محاولًا تهدئة العاصفة:
-يعني يا حكمت، الموضوع ما يستاهلش...
إلا أن تدخله، على غير المتوقع أثار استياء حكمت التي مالت نحوه قائلة بسخط حقيقي:
-يا أخويا التلاجة اللي نزلت عليك دي كام قدم لامؤاخذة، ولا أنت بتاخد مهدئات يا صافي، ما هو يا شكلك كده يا تجلطني يا تجلطني.
رفع صافي حاجبه مندهشًا من هجومها، لكنه آثر الصمت، مكتفيًا بضربة كف على كف، في استسلام هادئ، ثم ارتفعت نبرة حكمت مرة أخرى آمرة، لا تقبل نقاشًا:
-طول ما بابا في المستشفى الكلمة كلمتي والرأي رأيي، وكلكوا تسمعوا كلامي، ومش عايزة أي اعتراض....
ثم التفتت إلى سيرا، بابتسامة حنونة:
-روحي مع خطيبك يلا، واحنا جايين وراكي.
رفعت حاجبها بحدة، نظرة واحدة منها كانت كفيلة بإسكات الجميع، أما سيرا فاقتربت منها، تحدثها بصوت خفيض، والدموع تتجمع في مقلتيها من جديد:
-هو أنتي فعلا مش شاكة فيا زيهم، ولا بتعملي كده عشان عايزاني اقرب من يزن.
هزت حكمت رأسها بنبرة مزيج من الصدق والواقعية:
-لا طبعًا يا بت أنا أشك فيكي، ما الموضوع كله على يدي، بس أنا كان ليا عتاب عليكي هقوله بعدين، يلا روحي مع خطيبك.
توقفت سيرا وسألتها بفضول حزين:
-عتاب إيه؟!
أجابت حكمت بنبرة ساخرة:
-ممسكتيش جذمتك ليه ونزلتي فوق راسه ضرب؟!، يا بت أنا مش متعودة عليكي ضعيفة كده.
نظرت سيرا إلى غرفة والدها بوجع لا تخطئه العين، ففهمت حكمت على الفور سر صمتها، وسكنت في قلبها غصة من خوف لم تعترف به، فهي الأكثر فهمًا لجموح شخصية سيرا، لكن الحزن هذه المرة كان أقوى من طبعها العنيد.
تركتهم سيرا وسارت بجانب يزن في صمتٍ ثقيل، تسير بخطوات مترددة، لا تدري ما تفعل، هل تشكره على موقفه النبيل، أم تواصل صمتها؟ لكن حبل الصمت انقطع حين فتح يزن باب سيارته لها، فأخفضت صوتها وهمست بحزن:
-شكرًا..
جلست داخل السيارة تحتضن حقيبتها إلى صدرها، في وضعية دفاعية، كأنها تستمد منها دفئًا مفقودًا، لاحظ يزن الأمر، فأشار إليها بغمزة مازحة:
-هي الشنطة دي فيها حاجة مهمة اوي كده.
نظرت إليه بعدم فهم، لكنه استمر بنظرته إلى الحقيبة، ثم سألها برفق:
-مالك يا سيرا؟!
وفجأة انهارت، انفجرت باكية كأنها كانت تقاوم سيلًا جارفًا من الألم، بكاءً يشق القلب، شهقات متتالية وكأن أحدًا يجثم على صدرها ويمنع عنها الهواء،
ارتبك يزن لكنه أخفى قلقه وراء قناعه المعتاد من السخرية:
-شوفي أنا مشكتش في كلامه، بس هتخليني أشك بعياطك ده!!
رفعت وجهها إليه، كأنها طفلة تتوسل الحنان، بصوت مبحوح:
-شكرًا يا يزن، أنا متوقعتش إنك تكون نبيل وشهم كده.
ارتسمت على وجهه ملامح الصدمة، ثم ضحك رغمًا عنه، قائلًا:
-ده مدح ولا ذم؟! أنتي عايزة أيه؟!
أدارت وجهها عنه بإحراج، ثم تمتمت:
-عايزة أروح!!
اتسعت عينيه بدهشة، وقال مستنكرًا:
-بتهربي زي العيال الصغيرة يعني؟!
مسحت دموعها سريعًا، تحاول التماسك، وقالت بسخرية خافتة:
-أنا ههرب ليه، ما أنا قاعدة معاك في العربية اهو.
لينت نبرته، وبدت نظرته أعمق وهو يسألها بلطف:
-أمال ليه العياط ده كله؟ اللي أعرفه عنك إن مستحيل تتأثري بكلام الواد ده!
تنهدت من الأعماق، نظرت إليه بعينين غارقتين بالحيرة:
-وليه مستحيل؟ مفيش حاجة مستحيلة... في أوقات بيبقى سهل الإنسان يتأثر، خصوصًا لو كان ضعيف، ومش قادر ياخد قراراته صح.
انعقد حاجباه، وسألها برفق:
-وانتي ضعيفة دلوقتي؟
هزت رأسها ببطء، بينما انهمرت دموعها مجددًا، ثم نطقت بصوت يكاد يُسمع:
-أنا في أضعف حالاتي... بابا تعبان وحاسة إن ضهري مكسور، حاسة إني تايهة في صحرا كبيرة ملهاش أول من آخر، وكل ما أقول بس هو ده الصح، ألاقي نفسي ضايعة تاني، وكأني بلف في دايرة مبتقفش...
نظر إليها بتمعن، قلبه يضطرب لرؤية هذا الانكسار في مَن اعتاد منها على التمرد والقوة:
-طيب احكيلي، يمكن أقدر أساعدك تاخدي القرار الصح...
هزت رأسها نافية، وقالت بإصرار حزين:
-إنت بالذات ما ينفعش...
أمسك طرف الخيط وسألها بوضوح:
-ليه؟ الموضوع يخصني؟
أجابت مقتضبة وهي تبعد نظرها عنه:
-لا...
رسم علامات التعجب على وجهه وهو يناقشها بهدوء لعله يصل معها إلى حل يرضيها وتفصح عما يجول في خاطرها:
-امال، ليه أنا بالذات ماينفعش طالما بابكي في المستشفى ومن الواضح إن علاقتك بيه قوية، فحاولي تدوري على بديل.
رفعت عينيها المبللتين إليه، ثم همست:
-وهو الأب له بديل يا يزن؟!
سؤالها الموجع، صفعه في أعماقه، احتلت مشاعر الفقد ملامحه، تلك الجراح القديمة التي حاولت الأيام مداواتها، لكنها لم تنجح تمامًا، مرت صور والده في ذهنه كطيف لا يُنسى، ورغم دفء سليم ومحبة زيدان، إلا أن اليُتم له مذاق مر لا يغيب.
وسكن الصمت بينهما، صمت محمل بكل ما لا يُقال، وكل ما لا يمكن قوله، وأعاد تشغيل سيارته متوجهًا إلى منزلها.
****
ارتفع رنين هاتف "نوح" للمرة الثالثة، بينما جلست "حسناء" على مقربة منه، تتأمله بنظرة مفعمة بالخبث، وابتسامة انتصار ترتسم على شفتيها كمن قبض على فريسة طال انتظارها، كانت تعلم جيدًا مَن المتصل، وكان كل رنين يزيد من لذتها، وكأنها تتغذى على قلق الطرف الآخر.
نظرت إلى الشاشة، ابتسمت بازدراء، ثم قررت أخيرًا أن تُجيب، ليس بدافع الرحمة، بل رغبة في تعميق الوجع، وتثبيت خنجر الشك في قلب زوجته.
وما إن فتحت الخط، حتى جاءها صوت "يسر" باكيًا، متقطعًا، يحمل في نبراته رجاءً يائسًا:
-نوح، أنا قلبي مقبوض أوي وخايفة على لينا، حلمت أحلام وحشة، وكلها قبضت قلبي أكتر ما هو مقبوض...
ردت "حسناء" بنبرة ناعمة، فيها غنج مصطنع ونبرة لئيمة مُتعمدة:
-سلامة قلبك يا مدام...بس للأسف والله نوح في سابع نومه، ومش هيقدر يرد عليكي.
كانت تتلذذ بكل كلمة، تعلم تمامًا ما تصنعه بيسر، وقد جاءها الرد كما توقعت، صوت مصدوم، مزيج من الخوف والدهشة والقلق:
-أنتي مين؟ ونوح فين؟
قالت حسناء، ونبرة النصر تتغلغل في صوتها:
-أنا حسناء، أظن حضرتك تعرفيني كويس... ونوح...
ثم توقفت لحظة، متعمدة ألا تذكر لقبه، لتزيد من حيرتها وتترك المجال لعقل "يسر" ليفسر ما يشاء، ثم تابعت بجملتها القاتلة:
-نوح نايم عندي في البيت... في سابع نومه، مرهق أوي، الصراحة مش هقدر أصحيه... تحبي أبلغه بحاجة مهمة؟ ولا نكتفي بالكوابيس بس؟
قالت كلماتها الأخيرة ببرود قاسٍ، وكأنها تغرس السكين في صدر يسر وتديرها ببطء، بينما كانت ابتسامتها لا تزال عالقة على وجهها، ابتسامة المنتصر حين يشاهد عدوه يتهاوى دون أن يلمسه.
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا
تعليقات
إرسال تعليق