رواية غناء الروح الفصل التاسع وعشرون 29بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل التاسع وعشرون 29بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
الفصل التاسع والعشرون.
في الصباح الباكر، تسللت خيوط الشمس الذهبية إلى الغرفة من خلال الشرفة المفتوحة، ناشرة ضوءها الدافئ على الجدران والأرضية، وقفت سيرا في صمتٍ على عتبة الشرفة، تتأمل ضوء النهار بنظرات متعبة، بينما تنهيدة ثقيلة أفلتت من صدرها، تنم عن إرهاقٍ وسهرٍ طويلين، نظرت بعينين حمراوين ومنتفختين نحو يزن المستلقي على الفراش، ينعم بنوم عميق وهادئ، وكأن العالم كله لا يعنيه، بينما هي لم تُغمض لها جفنٌ واحد طوال الليل.
كانت تعاني من حساسية حادة أصابت عينيها بسبب الكحل الرديء الذي استخدمته نجلا، فزاد ألمها الجسدي من ضيق حالها النفسي، عضت على شفتيها بغيظٍ ظاهر، ثم همست لنفسها بامتعاض:
-أقوم أقتله ولا أعمل فيه إيه؟
زمت شفتيها بعصبية شديدة، واندفعت نحوه ببطء، ثم مدت إصبعها لتضغط بقوة على كتفه العريض محاولة إيقاظه:
-يزن، قوم...أنت ما بتحسش؟ قوم بقى.
فتح نصف عينيه بتكاسل، ولما وقعت عيناه عليها، كاد يبتسم من رؤيتها، إلا أن ابتسامته تلاشت حين انتبه إلى حال عينيها، فانتفض جالسًا بفزع واقترب منها بسرعة، وصوته يفيض قلقًا:
-مالها عينك يا سيرا؟
انفجرت باكية في لحظة، ورفعت يدها تشير نحو عينيها وهي تقول بشكوى موجعة:
-الكحل باين قديم، معرفش بس عيني واجعاني أوي.
تحرك يزن صوب الباب وهو يتمتم بقلق واضح:
-استني، هروح أشوفلك قطرة أو أي دوا.
أوقفته سيرا بتوتر شديد وهي تتشبث بصوته:
-هتسيبني فين؟ ما تسبنيش معاهم.
وفي لحظة مشبعة بالتوتر، انتفضا معًا حين لمحا زوجة المعلم طلقة تقف عند الباب، وجهها يعبر عن الغضب والشك، وحديثها يقطر قسوةً واتهامًا:
-نجلا ضاعت! إنتي خرجتي إزاي من الأوضة؟
بادرت سيرا بتبرير مرتبك:
-والله هو اللي هربني.
وأشارت بإصبعها نحو يزن، الذي عبر عن اعتراضه بنبرة متحفزة:
-أنا اللي خرجتها في اعتراض؟!
ردت زوجة المعلم بحدة:
-أيوه في اعتراض! مراتك ما كانش ينفع تسيب الأوضة.
زم يزن جبينه، ورد بنبرة ملؤها التحدي:
-ليه إن شاء الله؟ هي كانت الدادة بتاعتها؟!
-بس المعلم طلقة حكم إنها تقعد مع نجلا الليلة دي بسبب اللي عملته، وعلى أساسه أنا دخلتها...
قاطعها يزن بانفعال ورفضٍ قاطع:
-أنا محدش يحكم على مراتي غيري، وبعدين أنا حر! أدخلها أوضة نجلا أو أخرجها منها، وبعدين إحنا مالنا ضاعت ولا ما ضاعتش؟!
ضاق صدر زوجة المعلم من نبرته، فردت بتهديد:
-المعلم دلوقتي هيدخل يسأل عليها، ولو ملقهاش، هقوله إن مراتك هي اللي ضيعتها! وشوف بقى هيعمل فيها إيه؟
شعرت سيرا بالخوف يتسلل إلى أعماقها، فأمسكت يد يزن بقوة، نظرت إليه بعينين مرتجفتين، لكنه بث إليها الطمأنينة بعينيه، وهمس بصوت خفيض عميق النبرة، يحمل كل معاني القوة:
-إنتي خايفة ليه؟ أقسم بالله، لو حد مس شعرة منك، لأدخل فيهم كلهم السجن، ما تخافيش.
ورغم انسحاب زوجة المعلم غاضبة، لم تنتبه سيرا لخروجها، فقد كان تركيزها منصبًا على نظرات يزن وصوته الذي بعثر بداخلها كل ما تبقى من شكوك، كانت كلماته أشبه بدرعٍ حمى قلبها، فتذكرت كيف لم يُظهر لها طوال فترة اختطافها سوى عكس ما كانت تظنه فيه، غير أن لحظة السكون تلك تمزقت فجأة، حين دوى صوت المعلم طلقة من خارج الغرفة، صارخًا بنبرة غاضبة خشنة:
-هي فين بنت الـ******؟
انتصب يزن فورًا، ووقف أمام سيرا ليحميها، ثم دفع المعلم للخلف وهو يصيح بتحذير صلب:
-حاسب! خد بالك من كلامك واعرف إنت بتكلم مين؟
صرخ المعلم متهمًا:
-مراتك ضيعت البِت!!
رد يزن بحدة لا تخلو من تحد:
-لا ما ضيعتش حد، وملهاش دعوة، أنا اللي فتحتلها الباب علشان تخرج، لما مراتك إنت كانت سايبة المفتاح على الترابيزة هناك، وما نعرفش إنه المفروض يتقفل عليها أصلاً! إحنا قفلنا باب الأوضة عادي وسبناها نايمة، لو بنتك ضاعت، فمن استهتارك واستهتار مراتك، وبعدين ليه تقفلوا على مراتي جوه معاها؟!
التفت طلقة لزوجته، وسألها بنبرة تنذر بالشر:
-إنتي سيبتي المفتاح يا ****** برة؟
ارتبكت المرأة، ثم أنكرت بسرعة:
-إن شاء الله أعدمك يا معلم، أنا ما سيبته خالص.
صاح يزن ساخرًا وهو يشير بعينين ساخرتين:
-أيوه، قوليله بقى فتحناه إزاي؟ طالما إنتي ما سيبتيهوش، فتحناه برموش عنينا!
صرخت الزوجة بانفعال:
-ده بيقل أدبه عليا يا معلم!
رمقها يزن بازدراء وهو يرد بحزم:
-محدش بيقل أدبه غيرك! عشان تتجرأي وتيجي تهددي مراتي بالشكل ده! والغلط كله منك، مش مننا! إحنا لا نعرف حالة بنتك، ولا نعرف إيه اللي لازم وما يلزمش! وبعدين مش كفاية مراتي تعبانة، وعينيها وجعاها بسبب بنتك واللعب اللي لعبته في وشها؟!
استمدت سيرا القوة من موقف يزن، فرفعت رأسها وتكلمت أخيرًا بنبرة واثقة:
-إنتوا لو مهتمين بيها، ما كنتوش سبتوا معاها مقص حديد جوه، ولا سبتوا مكياج منتهي الصلاحية تلعب بيه! الأوضة بتاعتها كلها حاجات خطر وممكن تأذي نفسها.
أومأ يزن مؤكدًا وهو يضيف:
-شوفت؟ جاي تزعقلنا، ومراتي زعلانة على بنتك في الآخر، والإهمال اللي هي فيه!
نظر المعلم طلقة لزوجته نظرة نارية، فسارعت تنكر، وصوتها يرتجف:
-والله يا معلم كنت بنضف الأوضة أول بأول، ما أعرفش جابت الحاجات دي منين.
عندها أنهى طلقة النقاش مؤقتًا، صوته ينزل كالقَدر:
-المهم بنتي تيجي... وكله هيتحاسب بعدين.
****
كان البيت يغلي كخلية نحل فقدت ملكتها، الجميع يركض يمينًا ويسارًا، يصرخون، يشيرون نحو الجهات المختلفة، يركلون الأبواب، ويطرحون الاحتمالات الغريبة في الهواء، لعل واحدةً منها تفسر اختفاء نجلا التي ذابت كما يذوب السكر في الشاي!
كان يزن يقف عند طرف السلم، يراقب المشهد بعينين نصف مغمضتين، وفي كفه قطعة خبز وضع فيها بعض الجبن يقضمه دون اكتراث، كأنه في عالم آخر لا علاقة له بالفوضى الدائرة.
ظهرت سيرا من خلفه، تجر خطواتها بخفة، لا تزال عيناها متورمتين، لكن تلك اللمعة الساخرة التي اعتادت إخفاءها تحت ركام القهر كانت تسطع من جديد، همست بخفوت:
-بص على الكوميديا السودا اللي عايشين فيها... قاعدين يدوروا على البنت وهما السبب أصلاً!!!
نظر إليها يزن بنصف ابتسامة مائلة، قائلاً بسخرية لاذعة:
-بصراحة أنا شايف الفرصة جت لحد عندنا... نهرب ونخليهم يدوروا علينا إحنا كمان، نخليها حفلة مفقودين جماعية!
ضحكت بخفة، وهي تغطي فمها بكفها:
-دول وش هيعلقوا صورنا جنب صورة نجلا.
اقترب منها خطوة وهمس قرب أذنها بجدية ساخرة:
-إيه رأيك؟ نهرب؟ دلوقتي؟ قبل ما حد ياخد باله؟
نظرت إليه بدهشة طفيفة ثم تمتمت بتردد:
-وإنت شايفني كده، ههرب ازاي وأنا مش قادرة اشوف ١٠ متر قدامي.
غمز لها قائلاً بثقة:
-ما هو ده اللي هيخليهم ما يشكوش! محدش هيصدق إن في واحدة بعين شبه الطماطماية قررت تهرب في نص الأزمة.
كتمت ضحكتها بصعوبة، ثم عضت شفتها وقالت ساخرة:
-طب وإنت؟ هتهرب بالساندوتش الجبنة ده؟!
نظر إلى نفسه، ثم تنهد بحسرة مصطنعة:
-كان نفسي أكمله بس يلا ماليش في الطيب نصيب.
مد يده لها، وقال بنبرة تحمل خفة وشجاعة:
-يلا يا بيبي، نلحق نهرب قبل ما المعلم طلقة يقرر يقفل الباب ويعمل كشف غياب.
أمسكت بيده، وقبل أن تخطو أول خطوة، توقفت فجأة وقالت بقلق:
-استنى، افرض قابلنا حد تحت منهم؟؟
ابتسم وهو يضغط على كفها بلطف:
-متقلقيش كلهم مشغولين وانتي ماتتحركيش إلا لما اتحرك.. المهم نكون سوا.
نظرت إليه نظرة امتنان حقيقية، وهمست بصوت يقطر دفئًا:
-يزن... شكراً إنك وقفت جنبي قدام المعلم طلقة ودافعت عني.
رد عليها وهو يرفع حاجبيه بشقاوة محببة:
-مفيش شكر ما بينا، وأنا قولتلك وبقولهالك لو كان فكر بس يلمس شعرة منك كنت هنط في كرشه، مفيش حد يقدر يجي على اللي يخصني يا سيرا، المهم تعالي بس نعدي أول سلك شائك.
انكمشت سيرا خلف يزن وهما يسيران بمحاذاة الحائط الإسمنتي المتهالك بعدما تمكنا من الخروج من منزل المعلم طلقة، وصلا إلى ممر ضيق لا يتسع إلا لجسديهما المتلاصقين، بينما كانت أصوات الصراخ تتعالى من كل صوب:
-يا جدعان فتشوا السطح ده! يمكن طلعت فوق!
-حد بص في المخزن اللي جنب الفرن؟!
همست سيرا من خلفه وهي تحاول رفع حجابها المهلهل عن عينيها:
-يزن... أنا حاسة قلبي هيقف من الخوف.
التفت إليها وغمز بشقاوة:
-سلامته.
رمشت بأهدابها، وضيقت عينيها لعجزها عن رؤيته بوضوح بسبب كثرة الدموع، فقالت ببلاهة:
-هو مين؟!
-قلبك.
قالها بنبرة مهلكة، أهلكتها فهوت بها فجأة في جنان الحب، وهمست لنفسها بنبرة شبه باكية:
-بدأت احبه، يا رب لا طلعه من قلبي.
انتبهت إلى يده التي أشارت لها كي تنتبه، ثم همس وهو يلتفت:
-بصي في حبل غسيل هناك اهو احنا ممكن نمشي من وراه ونوصل للقهوة دي وندخل جواها بسرعة ونطلع من الناحية التانية أنا شايف الطريق هناك اهو.
همست إليه بتوتر، وهي تشير إلى عينيها:
-بس أنا مابقتش شايفة بعيني يا يزن؟ خايفة اقع او اتلخبط في حاجة.
أخرج منديلاً رقيقًا وظل يمسح دموعها برفق، في لحظة قصيرة تقاطعت فيها الرقة بالرجولة، فجأة خرجت غزالة زوجة حمو، من إحدى نوافذ الطابق الأرضي، واضعة يدها أسفل خدها، تنظر إليهما بحماس ودهشة:
-يا اخواتي على عصافير الحب وهما بيهربوا!
انتفضا معًا، وقد خيبت الصدمة آمالهما بعدما كُشف أمرهما، فتنهدت سيرا بيأس:
-يا دي النيلة، هو احنا حظنا هباب ليه كده؟!
شهقت غزالة وهي تمتم بعتاب:
-حظك بقى هباب لما شوفتيني اخص عليكي يا حلوة!!، ده أنا كنت ناوية اساعدكم، يلا اعملوا اللي كنتوا ناوين تعملوا وفجأة تلاقوا حمو في وشكم.
سارع يزن يرد عليها بأسلوبه اللبق وابتسامته الجذابة:
-لا لا، هي بس سيرا متوترة، انتي ناوية تساعدينا بجد؟
هزت رأسها بإيجاب، وقالت بغل مكبوت:
-أصل أنا المعلم طلقة مابطقيهوش عشان مخلي حمو بيشتغل معاه في الشغل الشمال بتاعه، وبعدين لما حمو حكالي على حكايتكم اتضايقت، عشان المعلم طلقة كان ناوي يغدر بيك ويهددك بمراتك ويخليك تتجوز بنته بجد، وانت مالكش ذنب تتبهدل لا انت ولا مراتك.
بانت ملامح الصدمة على وجه سيرا، ثم قالت بغيظ:
-قد إيه طلع حقير وكلب.
حمحم يزن بخشونة وهو يرد:
-طيب انتي هتساعدينا ازاي؟
أشارت لهما إلى زاوية خلف عربة خضار متهالكة مغطاة بغطاء سميك:
-استخبوا هنا وأنا هطلع اول الشارع انادي حمو واقوله إني شفت نجلا في الحارة التانية وكلهم طبعًا هيجروا ناحيتها، انتوا بقى تتطلعوا تجروا على الشارع الرئيسي.
اقتربت سيرا منها ثم قبلتها بحب وامتنان:
-شكرًا بجد، ان شاء الله حمو يتصلح حاله.
همست غزالة بنبرة شبه باكية:
-يا رب ياختي، أصل أنا كل يوم قلبي واجعني عليه، المهم يلا استخبوا بسرعة.
تحركا حيث أشارت، دخل يزن أولاً من أسفل الغطاء، ثم خلف العربة، وحرك سيرا برفق لتكون إلى جواره حتى التصقت به، فحاولت الابتعاد إلا أنها كادت أن تكشف أمرهما وتقع بثقلها على العربة، فسارع بوضع ذراعه فوقها واحتضنها، فبقيت أسفل ذراعه، قريبة من قلبه، في اللحظة ذاتها التي سمع فيها صوت غزالة الصارخ باسم حمو واقتراب الأخير نحوها، وبدآ في الحديث.
وفي تلك الأثناء، كان الوضع بين يزن وسيرا أشبه بالجمر المتوهج، باختلاط أنفاسهما واحتضان جسديهما المتلاصقين، فاندمجت العيون في حديثٍ مفعم بالعاطفة، واهتزت القلوب لدخول أولى مشاعر الحب، إذ كان الخارج فوضى صاخبة، أما بينهما فالدقائق كانت تمر ببطءٍ شديد.
دقات قلبيهما تنقر بإيقاع متداخل، كأن كل شيء فيهما بدأ يتقلص، فانخفضت سيرا بوجهها لتتجنب نظرات عينيه الشغوفة، ولم تحسب أن أنفاسها الساخنة ستلامس عنقه، ووجهها بات أقرب من أن يُحتمل، أقرب من أن يُقاوم، نظر إليها بعينين يثقلُهما شيء لم يعرف اسمه حتى تلك اللحظة… شيء يتجاوز الانجذاب، يتجاوز الحماية، ويتجاوز كل ما ظنه عن الحب.
ورغم ما تملكه من رغبة، تمالك نفسه لا عن ضعف، بل عن شموخ، كأنها جوهرة بين يديه، لا تُلمس إلا بحذر، ولا يقترب منها إلا بتقديس، شعر أن تلك اللحظة امتحان لرجولته الحقيقية، تلك التي لا تُقاس بما يُؤخذ، بل بما يُصان.
ورغم اقترابهما الشديد، إلا أنه ترك بينهما فراغًا صغيرًا، شبيهًا باحترامٍ خفي، كأن كليهما يعرف أن ما يجمعهما ليست لحظةً عابرة… بل شيء أكبر، وأصدق.
في تلك اللحظة، لم يكن الخارج سوى ضوضاء، ولم يكن الداخل سوى سكون، كانت الدقائق تمر ببطء مهيب…لحظة لا تشبه النجاة، بل تشبه ولادة أولى مشاعر حبهما.
انتبها معًا إلى صوت غزالة وهي تقول بنبرة سريعة:
-يلا اخرجوا بسرعة وعلى الشارع الرئيسي جري.
انتفضا معًا من أسفل الغطاء، يلهثان وخرجا يركضان نحو الطريق الرئيسي، تلاحقت أنفاسهما بينما كانا يشقان طريقهما بين الأزقة، وقد نجحا بالفعل في الإفلات من الورطة التي أوقعهما فيها المعلم طلقة، دون أن يتوقعا أن سليم وشمس قد تسللا إلى المنطقة من الجهة الأخرى.
كانت شمس تسير بجوار سليم، تمسك بطرف ثيابه بخوف وارتباك، تتلفت حولها بعينين متسائلتين، ترقب هرولة بعض الرجال المتناثرين في المكان كأنهم يبحثون عن شيء ضائع، همست له بصوت مرتجف وهي تحاول فهم الموقف من خلال عينيه الثاقبتين:
-سليم، هو في إيه؟ هو يزن هرب وبيدورا عليه؟
لم تكمل جملتها حتى انتفضت بفزع، إذ أمسكت بها سيدة فجأة، فاستدار سليم بخوف، وجذب شمس نحوه يحميها، وصاح في وجه السيدة بنبرة حادة:
-إيه يا ست انتي؟ مسكتيها كده ليه؟
ردت السيدة بارتباك، وقد بدا عليها الحرج:
-معلش، ماشوفتش بت عقلها خفيف ضايعة؟
ردت السيدة بارتباك، وقد بدا عليها الحرج:
-لا.
-طيب يا اخويا براحة، انت هتاكلني!!
تراجعت السيدة خطوتين وهي تتمتم بامتعاض، لكن سليم لم يدعها تبتعد قبل أن يسألها بصوته العميق الهادئ:
-هو المعلم طلقة، الاقيه فين؟
نظرت إليه المرأة باستغراب، ثم أشاحت بيدها مشيرة إلى قلب الحي وقالت:
-مش هتلاقيه بنته لامؤاخذة ضاعت والدنيا المقلوبة دي مقلوبة عشانه!!!
اتسعت عينا سليم بذهول، ثم التفت إلى شمس التي سارعت تهمس إليه بحماس طفولي ممزوج بدهاء:
-تعالي نجري ندخل بيته ونهرب بيزن وسيرا وكده كده كلهم مشغولين؟
أعجبته الفكرة، غير أنه أخفى ذلك وتظاهر بالتفكير، ثم قال بهدوء رزين، يخفي خلفه قراره:
-لا.
جذبها من ذراعها وأسرع بها بعيدًا عن المنطقة حتى وصلا إلى سيارته، فجلست شمس في المقعد مجادلة، لم تستسغ تخليه عن فكرتها بسهولة:
-استني بس والله دي فرصتنا يا سليم، ماتنكرش ان فكرتي حلوة؟
فتح باب السيارة وأشار لها بعينيه لتدخل، ثم أجابها دون أن يلتفت:
-حلوة بس هنفذها لوحدي، أنا ماضمنش اقابل مين في وسط العك اللي جوه وهتعامل معاه ازاي، ولا هو هيتعامل معايا ازاي، أسلم حل تقعدي هنا، ولو طولت اطلبي النجدة.
ارتجفت شمس حين فهمت قصده، فأمسكت بيده بقوة، وارتجف صوتها بذعر:
-لا لا، متروحش لوحدك.
كاد يرد، لكن هاتفه صدح فجأة، فانتزعه وأجاب بسرعة:
-الو؟
جاءه الصوت المرتبك على الجانب الآخر:
-سليم، أنا يزن....
قاطعه سليم بلهفة، وقد تهللت أساريره:
-متقلقش أنا وصلت في المنطقة عند المعلم زفت وباين برة في حوار، هدخل اجيبك بسرعة ونخرج من هنا.
صرخة يزن كانت حادة، اخترقت أذنه حتى اضطر سليم أن يبعد الهاتف قليلاً:
-لا....أنا هربت، اوعى تدخل، اوعى، امشي بسرعة، أنا في" كافية اسمه النجوم " على البحر تعالى بسرعة.
لم يتمالك سليم نفسه، فابتسم بارتياح كبير، وكأن ثقلًا انزاح عن صدره، وتحرك سريعًا نحو المقعد الآخر وهو يقول:
-الحمد لله، سيرا معاك؟
-اه طبعًا امال هسيبها، يلا يا سليم عشان الراجل عايز تليفونه ويمشي.
أغلق سليم الهاتف والتفت إلى شمس، يزف لها الخبر السعيد:
-الحمد لله يزن قدر يهرب....
لكنها قاطعته وهي تشير نحو الأمام باندهاش، وجهها شاحب:
-سليم...زيدان اهو!
رفع بصره بسرعة حيث أشارت، فرأى زيدان يهبط من سيارة شرطة، تتبعه مجموعة من السيارات الرسمية، هبط سليم مسرعًا نحوه، مشحونًا بالغضب والقلق، وهتف به بنبرة عاتبة:
-انت كنت فين يا بارد؟!، قالبين الدنيا عليك من امبارح وتليفونك مقفول.
حمحم زيدان وهو يحاول الحفاظ على هدوئه أمام زملائه، وابتسم بخفة:
-اخويا الكبير متاخدوش في بالكم.
ثم خطا سليم خطوتين وهو لا يزال يغلي من الداخل، ولحقت به شمس قائلة بتوتر:
-انت كنت فين يا زيدان؟ قلقتنا عليك؟
تنهد زيدان بعمق، وأجاب بنبرة منهكة:
-كنت في شغلي يا جدعان، أنا قايلك ماسك قضية كبيرة وطبيعي أخرج برة القسم كتير بكمل تحرياتي، وقافل تليفوني عشان اعرف اركز في شغلي عشان أنا على تكة واترفد، بسبب مصايبكم...آآ...اه اقصد بسبب مصايب يزن.
زفر سليم بقوة، وخفض رأسه يحاول السيطرة على مشاعره، فتقدمت شمس بابتسامتها اللطيفة وقالت بهدوئها المعتاد:
-معلش، متضايقيش من سليم، كان قلقان عليك، وموضوع يزن ده خوفنا كلنا.
أومأ زيدان برأسه ثم قال:
-مليكة قالتلي، عشان كده جيت ومكنتش بحسب إنك هتوصل قبلي.
أخيرًا، قال سليم بصوت ثابت:
-يزن قدر يهرب، يلا بينا نروح....
لكن زيدان قاطعه، وقد غلف صوته بعزيمة لا تخفى:
-لا انت تروحله، لكن أنا ليا شغل مع الـ**** اللي فكر يخطف أخويا، وديني لاطلع عليه القرف اللي شوفته الايام اللي فاتت.
-ابو شيماء اتهور.
قالتها شمس بسخرية وهي تبتسم ابتسامة عريضة، فنظر إليها سليم بضيق، لكن زيدان ضحك وقال:
-ده اتهور اوي، ولسه هيتهور عشان يفكر يخطف اخو ظابط شرطة.
قال سليم وهو يشير برأسه في تهكم واضح:
-اهو اتفضلي، هيتنفخ على الفاضي، يلا بينا نشوف التاني ده...
لكنه توقف فجأة، وأشار بإصبعه إلى زيدان محذرًا:
-وانت خد بالك من نفسك وبلاش تهور مش ناقصين مصايب.
رد زيدان بتهكم، رافعًا صوته:
-أنا ظابط شرطة على فكرة!
اقتربت منه شمس وهمست بلطف قبل أن تركض نحو سيارة سليم:
-هو خايف عليك لتتصاب، خلي بالك من نفسك، سليم كان هيجراله حاجة بجد لما يزن اتخطف وانت اختفيت فجأة.
ابتسم زيدان بهدوء، وهز رأسه في تفهم، ثم مشى معها حتى أوصلها للسيارة، وقبل أن يغادر سليم، ناداه زيدان ساخرًا بنبرة خفيفة لكن غاضبة:
-سلام يا أبيه، وسلملي على جلاب المصايب لغاية ما اشوفه.
***
كانت يسر تستعد في محلها الجديد لاستقبال البضاعة التي ستدشن بها أولى خطواتها في عالم التجارة، ولكن هذه المرة لم تكن وحدها، بل برفقتها لينا، التي أصرت على مرافقتها، رافضة البقاء مع جدتها، مؤمنة في قرارة نفسها أن وجودها مع والدتها يكفل لها نوعًا من الأمان والطمأنينة.
جلست يسر ترتب الأوراق وتراجع القوائم المرفقة بكميات البضاعة المُستلمة، مركزة في التفاصيل، إلى أن اخترق صوت لينا البهيج الأجواء، معلنًا حضورًا غير متوقع:
-بابي حبيبي، وحشتني.
رفعت يسر رأسها على الفور، لتجده واقفًا هناك...نوح، وجهه متجمد لا يعكس سوى الغضب، وشيء من الانكسار، وعيناه تقطران قهرًا دفينًا، لم ينظر إليها، بل توجه مباشرة إلى ابنته، يطوقها بين ذراعيه بعناق بدا وكأنه الوداع الأخير...أو لعله كان يتشبّث بها، خوفًا من أن تسلبه الحياة هذا الحنان مجددًا.
كادت يسر أن تتحرك نحوه، أن تسأله ما به، ولكنها ترددت، كأنها تنتزع قدمها من بركة شعورٍ قديم، خائفة من السقوط مرة أخرى في بئر قلبها، لكنها لم تحتج إلى الحديث، إذ سرعان ما اقتحم أخو نوح المكان، مقاطعًا اللحظة بعاصفة صراخٍ فجائي، جعل لينا تتراجع إلى الخلف في ذهول:
-طيب ما أنت حياتك حلوة اهو مع مراتك امال واجع دماغ أمك ليه وانكوا هتطلقوا!!! ولا هو أي حوار وخلاص.
استدار نوح إليه، كأن طعناته لم تكن تكفيه، وأشار إليه باشمئزاز حاد:
-انت اتجننت؟ ولا جرى لمخك حاجة!!، ازاي تيجي ورايا!!!
ابتسم أخوه باستهزاء، ضاغطًا على حروف كلماته القاسية بوقع متعمد:
-جاي وراك يا اخويا يا محترم عشان الكلام اللي مالوش صنف المعنى اللي قولته لأمك، انت كنت عايزنا نعملك إيه يعني!!
زمجر نوح بعنف، دافعًا إياه إلى الخلف بحركة عصبية مفاجئة، انفلتت منه دون تفكير:
-وانت مالك بتدخل بيني وبين أمي ليه هو أنا كنت عاتبتك، ولا كنت عبرتك حتى!!
اشتدت نبرة أخيه وهو يردد بعنف:
-وانت تعاتب أمك أصلاً ليه؟ ولا هو عشان انت اللي بتصرف فـ ليك الحق تدوس علينا.
انفجر نوح صائحًا بجنون، بصوتٍ أجش أغلق الهواء على يسر، وكأنها تسمعه للمرة الأولى:
-أنا مدستش على حد، انتوا اللي بتدسوا عليا وجامد.
لم تعجبه نبرة العتاب التي تحدث بها نوح، فرد مبررًا بحماقة ووقاحة في آنٍ معًا:
-دوسنا عليك في إيه؟! ما احنا وقفنا جنبك وسألنا على بنتك نعمل إيه اكتر من كده.
ابتسم نوح بتهكم مرير، وقال بنبرة أشبه بالتعنيف منها بالسخرية:
-انتوا ماعملتوش حاجة أصلاً!! الغريب كان مهتم عنكم، انتوا كنتوا بتسألوا كل فين وفين، ماشوفتوش واحد من اخواتك واقف جنبي ولا شوفتك انت، وفي الآخر أمك بتقدملي أعذار ليكم رغم إني في الأول ماتكلمتش في أي حاجة، وجايبني مخصوص عشان مشكلة بنت اخوك مع جوزها ووصل الأمانة اللي عليه، ومفكرتش تسألني على بنتي هي كويسة حصلها حاجة ولا لا، وفي الآخر زعلان أوي يا اخويا ومحموق وجاي ورايا.
لمعت عينا أخيه بسخرية فاضحة، تشي بما لا يُقال:
-لا ما هو واضح مين اللي محموق، وواخد حقنة، ربنا يهني سعيد بسعيدة، احنا قولنا بردو الحركات دي تطلع منها.
رفعت يسر حاجبًا بدهشة بعد هذا الاتهام السخيف، وهمت بالرد، لكن نوح سبقها، وصرخ بقوة وهو يزجره:
-كلامك معايا متدخلش يسر في الموضوع فاهم ولا لا، يسر ولينا خط أحمر وانت عارف كده كويس، خلي بالك عشان هتزعل اوي لما تكتشف إنها هبت منك.
رمقه أخوه بنظرة نارية قبل أن يستدير ويغادر، والشرر يتطاير من عينيه، أما نوح فقد ظل في مكانه للحظات، قبل أن يتراجع فجأة، كمَن ضاق بنفسه، ثم استدار بدوره وغادر المحل بخطى متوترة، وركب سيارته وانطلق بسرعة جنونية، وكأنه يفر من شيء داخله أكثر مما يفر من المكان نفسه... من نظرها، من عينيها، من قلبه هو.
أما يسر، فوقفت في صمت ثقيل، تحملق في الباب الذي غادر منه، وهي تشعر أن شيئًا انكسر داخله!!
***
انطلقت السيارة تشق طريقها بقيادة سريعة، فكان سليم يمسك المقود بعزم، وعيناه تراقبان الطريق أمامه، بينما جلست شمس إلى جواره، لا تزال آثار القلق بادية على ملامحها، لكن شيئًا من الطمأنينة بدأ يتسلل إلى قلبها بعد مكالمة يزن.
مر الصمت بينهما لبعض الوقت، لم يقطعه سوى صوت الهواء المتسلل عبر نافذة سليم المفتوحة، حتى أشارت شمس فجأة ناحية اليمين، وهتفت:
-سليم بص البنت دي!
نظر بسرعة إلى حيث أشارت، فرأى فتاة قصيرة صغيرة الجسد وبالعمر أيضًا، واقفة إلى جوار الرصيف، ترتجف تحت ضوء مصباح خافت، وعيناها مغرورقتان بالدموع.
-شكلها تايهة... بتعيط!
أبطأ سليم من سرعته، متنهدًا:
-شمس إحنا رايحين نشوف يزن وسيرا، مش فاضيين دلوقتي.
أصرت بعناد وهي تتلفت خلفها لتظل عيناها على الفتاة:
-لا يا سليم دي ممكن تكون تايهة بجد! لو دي أختك كنت هترضى تسيبها كده؟!
أطلق زفرة قصيرة، ثم حرك المقود ليعود إلى حيث كانت الفتاة، فتوقفت السيارة بمحاذاتها، فتحت شمس النافذة وناداتها بلطف:
-حبيبتي، انتي تايهة؟
أومأت الفتاة برأسها ببطء، دون أن تنبس بكلمة، ودموعها تنساب على وجنتيها، نزلت شمس بسرعة من السيارة وفتحت الباب الخلفي:
-تعالي يا روحي اركبي، إحنا هنوديكي القسم وهيساعدوكي تلاقي أهلك.
نظرت الفتاة إليها بتردد، ثم تقدمت بخطوات بطيئة حتى جلست في المقعد الخلفي، تواصل البكاء الصامت، ركبت شمس مرة أخرى في مقعدها بجوار سليم بالأمام، والتفتت إليه تقول:
-هنعدي بيها ع القسم الأول، مش هناخد وقت.
-ماشي، انتي تؤمري يا شمس هانم.
تحركت السيارة من جديد، وبعد دقائق تلقى سليم اتصالًا من يزن يُخبره بأنهما، هو وسيرا في مكان قريب، فاتجه فورًا إلى النقطة المحددة، وبعد لحظات كانا يركبان السيارة في المقعد الخلفي، دخلت سيرا أولًا ولم تلاحظ وجود نجلا بالخلف، نظرًا لإرهاق عينيها واحمرارهما، ثم دخل يزن، ولكن سرعان ما صدح صوت صراخ من قبل سيرا عندما استمعت إلى همسٍ بجوارها يغمره السعادة:
-لعبتييييي انتي رجعتيلي!!؟
انتفض الجميع نحو سيرا التي انعقد حاجباها بدهشة، ثم دققت النظر بجانبها، لتكتشف أنها نجلا ولكنها رثة الهيئة، تجلس ملاصقة لها، تبتسم بدموع تترقرق على خديها المتسخين، وشعرها المبعثر، كانت حالتها مزرية توحي بالضياع، لكن عينيها كانتا تلمعان بفرح حقيقي، كأنها عثرت على كنز طال انتظاره.
وما هي إلا ثوانٍ حتى أفلت يزن من صدمته وهتف مذهولًا:
-انتي جيتي هنا ازاي؟!
لكن "نجلا" لم تلتفت إليه، بل كانت منشغلة بسيرا وحدها، تهمس لها بصوت مرتجف، كأنها تتحدث إلى روح ضائعة عادت إليها بعد غياب:
-مين اخدك مني يا لعبتي، أنا فضلت طول اليوم ادور عليكي، بصي جيبت معايا إيه عشان نعمل حفلة.
أخرجت من جيب سترتها المتسخة دمية قديمة مشوهة المعالم، ورفعتها نحو وجه سيرا، التي بدأ وجهها يشحب تدريجيًا، رفت عيناها، وبدت وكأنها على وشك الإغماء، ثم تمتمت بارتجاف:
-لا حفلة تاني لا.
في المقعد الأمامي، تبادل سليم وشمس نظرات الصدمة والذهول، قبل أن يقطب سليم حاجبيه ويهتف بصوت خشن:
-انتوا تعرفوها، مين دي؟ في إيه؟
لكن أحدًا لم يجبه، كان يزن مشدوهًا، عاجزًا عن الفعل، وعيناه معلقتان على "نجلا" التي بدت وكأنها دخلت في عالمها الخاص، تتفاعل بحماسة بريئة مع وجود سيرا، دون أن تدرك حجم التهديد الذي تُشكّله.
فجأة وبلا إنذار، أخرجت "نجلا" مقصًا حديديًا قديماً يعلوه الصدأ، ورفعته أمام وجه سيرا، وهي تتلاعب به كطفلة تمسك بلعبتها المفضلة، مرددة بفرح طفولي:
-يلا يا لعبتي عشان اقص شعرك الطويل اللي زي الحرير، واخليه زي دي...
وأشارت بدميتها التي كانت خصلاتها مقطعة بطريقة عبثية، تنم عن جنون ناعم تحت قشرة الطفولة، انتفض يزن فورًا، وأمسك بسيرا ليجذبها بعيدًا عنها، محاولًا حمايتها، وقال بسرعة:
-ابعدي عنها، سيرا تعالي هنا..
لكن مع محاولته جذبها خلفه، تشبثت نجلا بثياب سيرا بعنف غير متوقع، تكاد تخلعها من مكانها، وهي تصرخ بنبرة هستيرية:
-لا متاخدش لعبتي، لا لعبتي الحلوة لا...
كانت يداها تضغطان على جسد سيرا بقوة، بينما المقص يهتز في يدها الأخرى بشكل مخيف، طرفه اللامع يلوح قريبًا من جسد سيرا المرتعشة، التي بدأت في البكاء الهستيري.
انطلق سليم من مقعده الأمامي، وأدار محرك السيارة جانبًا وهو يفتح بابه في استعجال، بينما حاولت شمس فتح الباب الآخر لتفصل بين الفتاتين، لكن "نجلا" كانت أسرع، إذ مزقت قطعة من ثياب سيرا، فبان جزء من جسدها الأمامي، مما دفع سيرا لأن تصرخ صرخة مدوية اهتز لها قلب الجميع.
أطلق يزن سُبة نابية، واندفع يمسك بـ"نجلا" من شعرها ليبعدها عنها، صارخًا:
-سيبها يا بنت الـ*****، سيبها.
لكن قبل أن ينهي كلماته، تحررت نجلا بحركة مفاجئة، واعتدلت بجسدها، ثم وجهت المقص نحو سليم الذي كان قد وصل إلى الباب وحاول الإمساك بها.
غرست المقص فجأة في بطنه، وهي تهتف بذعر:
-سيبني عايزة أخد لعبتي، مش هسيبك تاخد لعبتي مني.
وقف يزن متجمدًا، للحظةٍ عاجزًا عن التصديق، كأن الزمن انكمش حوله وابتلع الأصوات، فلم يعد يسمع سوى دوي قلبه يطرق في صدره كطبول كارثةٍ وشيكة.
رأى سليم يتراجع خطوتين، يضع يده المرتعشة على بطنه، ينظر إلى الدم بعينين متسعتين بالدهشة لا بالألم...ثم هوى، في تلك الثانية، حدث شيء داخل يزن...شيء لم يعرف له اسمًا.
انكسرت فيه صورة أبيه القديمة، وانكسر معها صدره، سليم لم يكن أخاه فقط، بل الأب والصديق والملاذ، الرجل الوحيد الذي ظل ثابتًا في حياته، لم يدرك أن يسقط سليم بتلك الطريقة، بتلك السهولة!
-سلييييييم!!
خرج صوته ممزقًا، وقد ركض نحوه بلا وعي، واستغلت سيرا اندهاش نجلا بالمشهد أمامها وركضت مصعوقةً هي الأخرى نحو جسد سليم، في ظل تجمهر بعض المارة حولهم، كانت الدموع تلتمع في عيني يزن دون أن تنزل، وجهه متخشب، وملامحه لا تصدق ما تراه، جثا بجانب أخيه، وضع يده تحت رأسه، وراح يهتف بارتجاف، وكأنه يتعلم أبجدية الحديث:
-سليم قوم، سليم...متسبنيش، بالله عليك قوم.
أما شمس فقد عاشت لحظة موتها وهي على قيد الحياة، صرخة سيرا، فوضى السيارة، وجه نجلا المجنون...كل هذا تبخر، ولم يبقَ في عالمها سوى مشهدٍ واحد، سليم يسقط...زوجها، رفيقها، سندها، ذلك الرجل الذي ما زال يربت على قلبها لمجرد وجوده بجانبها، يرقد الآن أمامها بدمه، كأنه يغادرها دون وداع.
تجمدت في مكانها، عينها لا تطرف، وفمها فاغر كمَن يريد أن يصرخ لكن حنجرتها تأبى، لم تشعر بنفسها إلا وهي تهوي على ركبتيها قربه، تضع يدها فوق جرحه بيدٍ مرتجفة، تحاول وقف الدم كأنها تحاول توقيف القدر نفسه.
-إسعاف....إسعاف..سليم، سليم حبيبي...إسعاف بسرعة.
ارتجف صوتها وانقطع، ثم تحول بكاؤها إلى شهقاتٍ مذبوحة، لا تشبه بكاءً عاديًا، بل بكاء امرأة يُنتزع قلبها من بين أضلاعها وهي عاجزة.
وحقيقةً، لم يكن سليم هو من نزف فقط...بل نزف كلُ من حوله.
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا
تعليقات
إرسال تعليق