رواية غناء الروح الفصل الحادي والثلاثون 31بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل الحادي والثلاثون 31بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
الفصل الواحد والثلاثون...
آلام متفرقة كانت تنهش جسدها المنهك، وأوجاع حادة اجتاحت صدرها وكأنها تضغط عليه بقبضة خفية لا ترحم، فيما كانت دموعها الساخنة تتساقط على بشرتها المنهكة تلسعها بقسوة، أنين خافت خرج من بين شفتيها المرتجفتين، فيما كانت تمسك بيده بقوة شديدة...الكلمات تخرج منها بصوت متقطع، غامض، كأنها تقف على حافة عالم الكوابيس.
انكمش وجه يزن وهو يراقب ملامحها المتبدلة، وتلك التشنجات الطفيفة التي بدأت تسري في أطرافها، فأيقن أنها عالقة داخل كابوس بشع، كابوس ما كانت بطلته سوى "نجلا"، لم يكن بحاجة لأن يسمع أكثر من تلك الكلمات المتفرقة التي خرجت من فمها المرتجف لتتضح أمامه الصورة "لا.... حفلة... لا.... شعري.... مقص.... مقص..."
تسارعت أنفاسها وارتجف جسدها، وحين بدأت التشنجات الجسدية تزداد وضوحًا، أدرك يزن أنه لا مفر من إيقاظها رغم رغبته السابقة في تركها تستريح بجواره بعد أن جلست على المقعد المجاور له في آخر الردهة، بينما بقيت شمس وزيدان قرب باب العناية المركزة، ينتظران بقلق ما ستؤول إليه حالة "سليم"، لم يشعر إلا برأسها ينهار على كتفه رغمًا عنها، من فرط الإجهاد والتعب المتراكم لأيام.
-سيرا..اصحي...سيرا، اصحي.
فتحت عيناها الباكيتان بإرهاق بالغ، نظرت حولها في شرود، كأنها لا تزال تبحث عن فاصل واضح بين الحلم والواقع، ثم استقرت نظراتها عليه فقبضت على يده أكثر بعفوية تطلب الأمان، همس لها بقلق بينما عيناه تجولان على ملامحها المذعورة:
-انتي كنتي بتحلمي بنجلا؟!
أومأت برأسها وهي تبكي ثم أشارت إلى نفسها بإيماءة طفولية مرتبكة، وقد بدا عليها أثر الصدمة النفسية بوضوح وهمست بنبرة مهزوزة:
-اه، كانت عايزة تقص شعري، وبعدها موتت ابلة حكمت يا يزن.
لم يسخر منها ولم يبتسم، رغم أن طبيعته الساخرة ما كانت لتفوت فرصة مماثلة لو كانت فتاة غيرها، لكنه أمام "سيرا" مختلف فدموعها مست جزءًا دفينًا من قلبه، وأيقظت فيه شيئًا لا يريد تسميته، اقترب منها أكثر مد يديه ليضم كفها بين راحتيه، وضغط عليها بحنو بالغ وهو يقول برقة:
-متخفيش، خلاص كابوس نجلا خلص، وبعدين هي عمرها ما تقدر توصلك تاني.
همست سيرا بنبرة متقطعة وقد اختلط حزنها ببكائها:
-أنا مخوفتش على نفسي، على قد ما خوفت على أبلة، أنا زعلت اوي لما شوفت أبلة حكمت في الحلم غرقانة في دمها.
بدا التأثر واضحًا على يزن، فأراد التخفيف عنها وهو يشعر بثقل الذنب على صدره لما آلت إليه حالتها النفسية، فابتسم بخفة وهو يحاول أن يخرجها من تلك الدوامة:
-إيه ده انتي طلع عندك قلب وبتحبي أبلة حكمت.
قطبت حاجبيها بعبوس والدموع لا تزال تنساب فوق وجهها، بينما احمرت أنفها من كثرة البكاء، فمال نحوها وهمس بنبرة فيها شغف وشيء من الإعجاب:
-ربنا يسامحه المعلم طلقة مضيع عليا أهم لحظة في حياتي.
نظرت إليه في دهشة وسألته ببراءة حائرة:
-لحظة إيه؟
أجابها برقة مع غمزة خفيفة من عينيه:
-إن اصورك وانتي عاملة كده.
لم تتحمل جرأته تلك فلكزته في كتفه وانسحبت مبتعدة، تحاول أن تستجمع أنفاسها المبعثرة، وكأنها تخشى أن تُفضح مشاعرها أمامه، لقد بات هذا الرجل يشكل خطرًا حقيقيًا على قلبها المتردد.
وما إن بدأ الصمت ينسج خيوطه حولهما، حتى قطعه صوت خطوات متسارعة واقتراب زيدان منهما، قال بجدية لا تخلو من التوتر:
-يزن، لازم اخدك انت وسيرا قسم الشرطة عشان نكمل التحقيقات.
رفع يزن عينيه نحوه بدهشة مشوبة بالاعتراض:
-وهنسيب اخوك ازاي، وشمس مينفعش نسيبها.
سارعت سيرا تقول بنبرة حاسمة تقطع مجال النقاش:
-أنا هقعد معاها وانت روح معاه يا يزن.
نظر زيدان إلى سيرا بحدة ثم زفر بقوة وكأن صدره يضيق بما فيه، قبل أن يرد بنبرة حادة مفعمة بنفاد الصبر، كمن يكبح انفجاراته على مضض:
-انتوا بتعزموا على بعض بكوبتين قهوة، قوم يا عم التحقيقات دي لازم تكمل النهاردة عشان الزفت طلقة يتعرض على النيابة بكرة هو وبنته وبعدين الزفت ده بينكر كل حاجة موجهة ليه وخصوصًا إنكوا مكنتوش موجودين وهو ممسوك وهو بيدور على بنته.
ارتجف وجه سيرا في لحظة وهزت رأسها بقوة وشفتاها ترتعشان من الذعر، ثم صاحت بصوت مخنوق:
-لا أنا مش هروح هناك ونجلا موجودة لا.
بدت على وجه زيدان علامات الغضب والذهول في آن واحد كأنه لم يستوعب ما قالته، فرد بنبرة قاسية يكسوها التوتر:
-ده اللي هو ازاي؟! مش بمزاجك على فكرة، انتي وجودك مهم جدًا.
وفي لحظة انفجر غضب يزن من أعماقه وتقدم بخطوة حاسمة واقفًا أمام سيرا كدرع حامٍ لها، يحجبها عن زيدان بنظرات نارية وهتف بخشونة لا تخلو من التهديد:
-انت بتزعقلها كده ليه؟ اتكلم معاها براحة!!
رفع زيدان حاجبه باعتراض واضح ثم تراجع عن الرد، فصمتُه المفاجئ لم يكن ضعفًا بل وعيًا داخليًا بأنه تسرع، وأن التوتر المتراكم قد أرهقه أكثر مما ظن، لذا قرر الذهاب فاستدار مبتعدًا وقبل أن يغادر، قال بصوت صارم دون أن يلتفت:
-أنا هنزل استناكم تحت، متتأخروش عشان نلحق نرجع لشمس.
ساد الصمت للحظة قبل أن تلتفت سيرا إلى يزن، وعيناها تملؤهما الحرج فهمست بصوت خافت:
-مكنتش تتخانق معاه بسببي يا يزن.
أجابها يزن بنبرة تجمع بين الاستنكار والهدوء وكأنه لا يرى فيما فعله أي تجاوز:
-أنا متخانقتش معاه!
هزت رأسها بإصرار كمَن ترى ما لا يريد الآخر الاعتراف به ثم أوضحت بصوت يشوبه القلق:
-لا هو مشي زعلان منك.
ضحك يزن ضحكة قصيرة ممزوجة بسخرية خفيفة ثم قال:
-لا هو مشي عشان ميشتمنيش قدامك بس، لكن هو ولا زعلان ولا أي حاجة.
انعقد حاجبا سيرا وعيناها تبحثان عن الحقيقة في عينيه ثم سألته بشك:
-انت متأكد؟
أجابها يزن ونبرة صوته تهدأ تدريجيًا وفيها لمحة مريرة ساخرة:
-سيرا أحنا بيوصل بينا الوضع لحلبة مصارعة، فاحمدي ربنا إن الموضوع اتلم.
وفي تلك اللحظة لمح يزن من النافذة زيدان واقفًا في الأسفل، يلوح له بيده بعصبية ظاهرة، وشفتيه تتحركان بشتائم صامتة يعرفها يزن جيدًا، فارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة،وقال بنبرة مرحة فيها مرارة مضمرة:
-اهو بيشتمني بالاشارة هناك، يلا بسرعة نروحله قبل ما المستشفى كلها تتفرج علينا واحنا بنتزهق بالصوت والصورة ويبقى شو مسرحي رخيص، وزيدان اخويا في العروض المسرحية ميتوصاش.
ابتسمت له بتوتر من تلك العلاقة الغريبة ولكنها ظلت صامتة وقبل أن تغادر نهائيًا القت نظرة نحو شمس الجالسة بحزن تراقب باب العناية المركزة بفارغ الصبر...
***
استيقظ نوح من نومه وهو يبحث عن يسر بجانبه ولكنه لم يجدها حوله، فتحرك ببطء شديد وهو ينادي بصوت خامل عنها ولكنه فوجيء بوجود حسناء في صالة منزله، تجلس فوق الأريكة والدموع تتساقط من وجنتيها والقهر المنسوج بملامحها نسجته هي ببراعة ممثلة ماهرة!!
توقف نوح للحظات يستوعب وجود حسناء في منزله فحرك رأسه يمينًا ويسارًا والصمت يترك سياجه ملتفه حول لسانه، إلى أن قطعته حسناء بقولها الباكي:
-ضربتني ومشيت، والله ما عملت حاجة يا دكتور!!
أخيرًا خرج صوته متحشرجًا وهو يسألها بصرامة أقلقتها، فبدت تخشى ردة فعله، ورغم أنها نسجت خيوط سبب مجيئها إلى هنا بمهارة خبيثة كي توقع نوح في شباكها مستخدمة أساليبها الانثوية ونعومتها إلا أن وجود يسر قلب الطاولة رأسًا على عقب وخاصةً بعدما ضربتها يسر بصفعة قوية على وجهها قبل أن تغادر شامخة رأسها مرفوع!!
-انتي إيه اللي جابك هنا؟!
تلعثمت في بادئ الأمر وهي تحاول لم شتات نفسها والتحدث بقهر كي تكسب تعاطفه ضد تجبر يسر:
-كنت جاية اشتكيلك من خالي بعد اللي عمله فيا، وكنت متعشمة في حضرتك تحميني منه بعد ما هربت من البيت وهو كان حالف ليموتني، مالقتش أمان غير وأنا معاك فجيت من غير ما افكر، أنا عارفة ولا الوقت ولا المكان مناسبين بس اعمل إيه عشمت فيك...
ثم تقدمت خطوة للأمام نحوه ومالت قليلاً بجسدها وهي تهمس بضعف ونظرة رجاء أتقنتها جيدًا:
-هتكسر بخاطري يا دكتور، ده أنا ماليش غيرك.
لم يجيبها بل كانت نظراته جامدة كجدار ثلجي من الصعب ذوبانه، ملامحه غامضة أشبه بغابة رغم جمالها إلا أن التعمق فيها مخيف، وعلى عكس ما كانت تتمنى سماعه، وجدته يقول:
-يسر راحت فين؟!
تماسكت بصعوبة أمامه وهمست ببكاء رغم القهر الحقيقي الذي تشعر به الآن داخلها:
-مشيت بعد ما ضربتني بالقلم وقالتلي اشبعي بيه!!! أنا مش عارفة المدام فهمت إيه؟ دي حتى رفضت تسمعني، يمكن لو كانت سمعت كانت اتعاطفت معايا.
صمت ثقيل للغاية وعيناه تتجول فقط فوق ملامحها التي لم تتنحى عن مهمتها في اقناعه، حتى قال بصوت مشدود وهو يتجه نحو غرفته:
-ثواني وهجيلك.
هزت رأسها في استسلام وعادت لمقعدها تجلس عليه بطاعة وهي تراه يدخل غرفته ثم يغلق الباب خلفه، فمالت برأسها جانبًا تتذكر لحظة مجيئها واندهاش يسر لوجودها.
★★
-يا خبر هو انتي هنا يا مدام؟
قبضت يسر قبضتها بقوة وقد استنفرت ملامح وجهها غضبًا واشتد صوتها بقسوة:
-إيه مكنتيش متوقعة إني أكون هنا؟؟
أومأت حسناء برأسها بجرأة وقد تلونت كالحرباء في محاولتها التملص، وقالت:
-اه الصراحة، طيب نـو....آآآ....آآقصد دكتور نوح مقاليش ليه؟ كنت اجيله في وقت تاني!
رفعت يسر أحد حاجبيها باستنكار وهي تستمع إلى جرأتها ومقصدها الوقح، وتساءلت بنفور واشمئزاز لم تستطع إخفاءه:
-تيجي له تعملي إيه؟!
مال جانب فم حسناء بابتسامة خبيثة وقالت بوقاحة متعمدة:
-حاجات كتير اوي اوي يا مدام!!
تساءلت يسر مجددًا ونيران الغيرة تنهش أعماقها، فبدت على بُعد إنشٍ واحد من الانقضاض عليها:
-بتيجي هنا كتير صح؟
اقتربت حسناء منها غير عابئة بما يمكن أن يحدث، محاولة استفزازها بطريقتها الملتوية:
-اوي....لدرجة إن حافظة كل شبر هنا.
في لحظة خاطفة صفعتها يسر بقوة وبغلٍ شديد، وقد توهجت الحسرة في صوتها المبحوح والمصدوم:
-هستنى رد إيه غير كده من واحدة زيك؟!
وضعت حسناء يدها فوق خدها المصفوع وقالت بقهرٍ ممزوجٍ بضعفٍ مصطنع:
-حرام عليكي يا مدام هو أنا عملتلك إيه؟!! ربنا يكفيني شرك.
****
عادت حسناء من شرودها على صوت نوح وقد وقف أمامها مرتديًا ثيابًا أخرى قائلاً بنبرة صارمة وبدت على ملامحه علامات الضيق الواضح:
-يلا يا حسناء.
ردت باستغراب واستهجان:
-يلا فين؟!
توقف للحظات ثم أجابها باستنكار مماثل:
-هنمشي من هنا!! مينفعش تقعدي هنا، هوديكي العيادة تباتي فيها وبالمرة واحنا في الطريق تقوليلي ماله خالك!!
ردت باندفاع وحماقة واضحة:
-طيب ما أبات هنا....
رمقها بنظرة غامضة أربكتها وأربكت نواياها فسارعت بتبرير كلامها سريعًا:
-يعني هنا أمان، آآ اصلي خايفة خالي يجيلي على العيادة ويعمل فيا حاجة.
توقف عاقدًا ذراعيه أمام صدره وسألها بخشونة:
-ايوه ماله موضوع خالك ده؟!
أحكمت تمثيل دور الضحية فحمحمت بقوة قبل أن تجيب، مستخدمة نبرة ضعيفة صاغتها بعناية لتتناسب مع ملامحها المستعطفة:
-أصله مقتنع إنك ضحكت عليه واخدت منه الفلوس تاني و كمان بيقول أنا وأنت متفقين عليه، حلفتله بأيمانات المسلمين مش راضي يصدقني، وحالف ليقتلني يا أما ترجعله فلوسه تاني.
فرك نوح وجهه بقوة ثم أغمض عينيه للحظات صامتًا لا يعلق، وكأن ما يسمعه يثقل كاهله أكثر مما يحتمل، وبعد لحظات من التفكير أخرج مفاتيحه من جيبه وقال بتنهيدة ثقيلة:
-خدي وروحي على العيادة افتحي المكتب هتلاقي في الدولاب فيه درج مفتاحه الصغير ده، افتحي وخدي ١٠٠ الف اديهموله وريحني وريحي نفسك من حوارات خالك، بس واقسم بالله لو خالك جه وعمل نفسه حواراته دي هو حر، أنا هعديها المرة دي بمزاجي، وبلغيه أنا مطول بالي عشان ساعدني بس وجابلي بنتي.
ابتسمت ابتسامة مقتضبة وقد راودها الشك من سرعة استجابته لها، وكأنه أراد التخلص منها بأي طريقة، أخذت المفاتيح من يده، وقد قررت أن تستفيد منه قدر الإمكان قبل أن يُغلق الباب تمامًا، وقالت بهدوءٍ مصطنع كي لا تثير شكوكه:
-تمام يا دكتور كتر الف خيرك على وقفتك جنبي، ومعلش لو ازعجتك وسببتلك مشاكل مع المدام.
حرك نوح رأسه نفيًا وهو يتجه نحو باب الشقة ليفتحه ويجيبه بصوت ثقيل:
-لا عادي يا حسناء، روحي ولما تخلصي الحوار مع خالك بلغيني.
-تمام.
قالتها حسناء بضيقٍ شديد، إذ كانت ترغب في قضاء الليلة بأكملها في شقته، لكنه قطع عليها كل مخططاتها، فخرجت من الشقة غير مدركة أن هناك مَن كان يراقبها من الأسفل، وما إن رآها تغادر حتى أجرى اتصالًا بـيسر، قائلاً:
-لا نزلت، لا.....لوحدها الدكتور فوق لسه.
***
أغلقت يسر الاتصال مع حارس البناية الذي كانت قد أوصته مسبقًا بإخبارها بكل جديد، كانت قد سألته عقب نزولها من شقتها عن تردد حسناء على الشقة في غيابها، فأجابها بأنها جاءت مرة واحدة فقط وكان معها السائق تركته وصعدت ثم جلبت بعض الأشياء وغادرت معه، وهو ما يناقض تمامًا ما زعمته حسناء عن علاقتها بـنوح، إذ بدت وكأن هناك حلقة مفقودة في تلك الخيانة التي تتردد على عقل يسر، خيانة لم تكتمل أركانها بعد، لكنها تلقي بظلالها الثقيلة فوق قلبها.
خرجت يسر من فوهة أفكارها على صوت رنين هاتفها، وقد كان المتصل هو نوح، نظرت إلى الهاتف برهة ثم قررت عدم الرد ورددت من بين أسنانها بغيظٍ مكتوم:
-واقسم بالله لاوريك النجوم في عز الضهر يا شهريار زمانك واخليك تكره صنف الحريم كله.
ثم نهضت من مكانها واقفة أمام المرآة تحدق في ملامحها الحزينة والباهتة، عقدت حاجبيها بحسرة وهمست لنفسها بأسى:
-مالي زي ما يكون عندي ستين سنة ليه كده؟
مدت يدها تلمس ملامحها بأطراف أصابعها المرتجفة، وفي داخلها قررت أن تعيد مجدها الضائع، وإن لم يكن لها مجد من قبل، ستصنع مجدًا عظيمًا يُعيد لها نوح راكعًا، ففي الحرب كل الخدع مباحة.
***
على الجانب الآخر...
وقفت سيرا إلى جانب يزن في الردهة الطويلة داخل قسم الشرطة منتظرين دورهما للإدلاء بأقوالهما، بعدما أنكر المعلم طلقة جميع التهم المنسوبة إليه، بدت على وجه سيرا علامات التوتر مع مسحة من الإرهاق، فشعر يزن بوخز عميق من الذنب تجاهها، إذ تسبب هو بزجها في هذا المأزق بينما كانت أبعد ما تكون عن هذه الدوائر، بل إن شعوره بالذنب لم يقتصر عليها فقط، بل تضاعف ليشمل عائلته بأكملها، وما أدهشه فعلاً أنها لم تُلقِ اللوم عليه قط لا قولًا ولا حتى بنظرة، وهو ما زاد إعجابه بها وتعظيمه لها.
خرج زيدان من الغرفة وقد بدت على وجهه الجدية التي لا تفارقه حتى مع أقرب الناس إليه، وقال لسيرا بنبرة آمرة تشي بطبيعته العسكرية:
-يلا يا سيرا ادخلي لوحدك، عشان يستمعوا لاقوالك.
لكن يزن قبض على يدها فجأة وقال برفض واستنكار:
-تدخل لوحدها وطلقة وبنته جوه، لا طبعًا هدخل معاها.
كان خوفه عليها حقيقيًا نابعًا من أعماق قلبه، فظهر واضحًا في صوته المرتعش وفي حركات جسده التي أعاقت سيرها مما دفع زيدان للتدخل بنبرة صارمة، قاطعًا هذا التصرف الذي رآه مهزلة:
-يزن فوق انت في قسم شرطة مش في شارع عشان يحصلها حاجة.
ربتت سيرا بيدها الحرة فوق يده وهمست له بصوت هادئ رغم ما يعتمل بداخلها من قلق:
-يزن فعلاً متقلقش، أنا هدخل بسرعة وهطلع.
تركت يده برفق وتقدمت إلى داخل الغرفة، بينما ظل زيدان واقفًا مع يزن الذي كان يغلي داخليًا من مزيج من الغضب والإهانة بسبب أسلوب زيدان الساخر واستفزازه المتعمد:
-مبحبهاش!!، مش عايز اخطبها!!، وسليم اللي غاصبني، أنت مش حاسس بنفسك ولا إيه؟ ولا حاسس وعامل أهبل!!
رفع يزن حاجبيه مستنكرًا متعمدًا الادعاء بعدم الفهم:
-قصدك إيه مش فاهم؟
أجابه زيدان وقد اشتد صوته بوضوح:
-قصدي إنك كنت هتاكلني عشان بس صوتي علي عليها، ولازق فيها في المستشفى، وخايف عليها بطريقة غريبة وكأنك بتحبها من سنين!!
غاصت ملامح يزن في غموض مفاجئ، ورد ضاحكًا بسخرية باردة:
-انت بس كامنك غشيم يا زيدان ففهمت تعاملي معاها غلط، أنا على نفس موقفي، وعلى فكرة أنا بخاف على أي بنت معايا كده امال هما بيموتوا فيا ليه؟!!
لم يُفلت زيدان الفرصة، فرد بسخرية تشي بالشك:
-انت متأكد إن تعاملك معاهم كلهم كده؟!
أومأ يزن برأسه باستفزاز كأنما يؤكد سخريته، إلا أن صوت صراخ سيرا من داخل الغرفة باغتهم فجأة، تلاه صوت هرج ومرج أزعج الحاضرين، دفع يزن زيدان بقوة وهو يحاول التوجه إلى الباب للدخول، لكن العساكر منعوه فصاح بعصبية شديدة:
-خليهم يبعدوا...
وقبل أن يأمرهم زيدان بالتنحي وقد بدا القلق جليًا على وجهه أيضًا، خرجت سيرا من الغرفة باكية، تستند على أحد الضباط، ويدها مجروحة تنزف، فقد كانت نجلا قد تعدت عليها بعد أن لمحت آلة حادة على المكتب، فانقضت عليها فجأة وجرحت يدها بقوة أثناء محاولتها الاقتراب منها.
صرخ يزن مذهولًا، وقد اشتدت ملامحه بالقلق:
-إيه ده اللي حصل؟؟
سارع الضابط بسرد ما حدث على عجل، بينما كان يحرك سيرا معه نحو إحدى العيادات القريبة التابعة لمركز الشرطة، أوقفه يزن فجأة وجذبها نحوه بقوة، وقد امتلأ صدره بغيرة عارمة لطريقة إمساك الضابط بها، بل وانفلتت نبرته رغم محاولته التحكم بها، فقال وهما يتحركان خلف الضابط، الذي حدق في يزن بدهشة لكنه امتثل لصمت زيدان:
-انتي سايباه يمسكك كده ازاي؟
رفعت سيرا وجهها الباكي إليه وقالت بنبرة مرتعشة:
-انت مش شايف ايدي مفتوحة يا يزن!!
تمتم يزن بغيظ مكتوم وهو يقتادها بجانبه كمن يعاقبها على ألمها، عاجزًا عن كتم ضيقه ممن حوله وحتى من نفسه، لأنه كان السبب في وجودها في هذا المكان وفي إصابتها:
-ايدك مش رجلك.
نظرت إليه بدموعها وسألته بصوت باكٍ:
-بتقول حاجة؟
أجاب باقتضاب وهو يدير وجهه عنها:
-مبقولش.
سكت بعدها ملتزمًا الصمت حتى دخلت غرفة الطبيبة لتلقي العلاج، وحين حاول زيدان إيقافه قال بنبرة تنذر بانفجار وشيك:
-مالكش دعوة، أنا مش هستنى يحصلها حاجة تاني، في القسم واتأذت عادي!!
مط زيدان شفتيه بغيظ وهمس له بصوت خافت بعد أن شعر بالإحراج من تصرف يزن أمام الجميع:
-متأفورش، ده جرح بسيط.
لكن يزن لم يتحمل المزيد فرد بانفعال متأجج صوته يغلي ضيقًا:
-ابعد عن وشي يا زيدان أحسنلك، أنا مش طايق نفسي.
قالها وهو يدفع الباب ويدخل الغرفة خلف سيرا، تاركًا زيدان واقفًا يحاول لملمة شتاته بصعوبة وسط صمتٍ ثقيل خيم على المكان.
***
دلف يزن إلى غرفة الطبيبة بخطوات سريعة متوترة، فوجدها تجلس على سرير الكشف ووجهها شاحب، والدماء ما زالت تلطخ كفها المفتوح، تحركت الطبيبة لتجلس أمامها ثم مسحت الجرح برفق بالكحول، وتتهيأ لتضميده.
وقف متجمدًا للحظة وهو يرى الدم يتسلل من بين أصابعها، عروقه تضج بالذنب والقلق حدق في يدها المجروحة شاعرًا بطعنة صامتة تنغرس في ضميره، وكأن كل قطرة دم تنزف منها تُثقله أكثر.
اقترب منها بخطوات حذرة، وكأنه يخشى أن يلمس ألمها، ثم جلس على كرسي قريب من السرير، وصوته بالكاد يخرج مبحوحًا من الحزن، متجاهلاً وجود الطبيبة:
-حقك عليا، معلش.
التفتت إليه بعينين دامعتين، فابتسم لها رغم كل ما يعتمل بداخله، وغمغم بصوت خفيض فيه من الود والندم ما لم تحتمله ملامحه:
-كنتي سيبني ادخل معاكي، مكنتش قدرت تقرب منك.
شردت للحظة في عينيه، في صوته الذي بدا هذه المرة مختلفًا، فابتسمت إليه وهي تزيل عنه شعوره بالذنب:
-الحمد لله إنها جت على قد كده، وبعدين هي بسيطة مش صح.
ووجهت حديثها للطبيبة التي أكملت لَف الشاش الأبيض على الجرح بإحكام، وقالت بنبرة عملية:
-اه الحمد لله، بس اهتمي بالتغيير على الجرح عشان ميسببش مضاعفات تانية لايدك والف سلامة، ارتاحي شوية قبل ما تمشي.
ثم خرجت من الغرفة عندما شعرت بالاحراج لوجودها، بقي يزن واقفًا أمام سيرا يتأمل يدها الملفوفة بالشاش، نظراته لا تفارق أصابعها التي كانت ترتجف قليلًا من الألم أو ربما من الحرج، فبدا عليه التردد كأن شيئًا في داخله يحثه على فعل ما، وشيء آخر يردعه.
ثم دون أن ينبس بكلمة، انحنى ببطء وأخذ يدها المجروحة بين يديه وقبلها قبلة خفيفة، ناعمة، لكنها لم تكن عابرة... وكأن بها شيء لم يرد الاعتراف به بعد.
رفعت عينيها إليه بذهول، لم تكن تتوقع هذه الرقة ولا هذه الجرأة، حتى أنها لم تستطع أن تسحب يدها ولا أن تنطق، فقط حدقت فيه وصدرها يعلو ويهبط، والخجل يغزو وجنتيها بلون ورديٍ خفيف.
همست بعد ثوانٍ معدودة وهي تبلع ريقها بصعوبة:
-يزن....
لكن صوتها تلاشى قبل أن يكتمل، عندما رفع رأسه إليها ببطء ونظر في عينيها نظرة طويلة، وقال بنبرة منخفضة مليئة بالحزن والحنان:
-اؤمريني.
حاولت أن تخفي ارتباكها فقالت بصوت خافت:
-يلا نخرج... زيدان مستنينا.
فأومأ برأسه ولم يُفلت يدها، ظل ممسكًا بها وهو يساعدها على النهوض بلطف ثم فتح لها الباب بنفسه، وخرجا سويا من الغرفة يدها في يده، وقلبها يخفق بخفة لا من الألم....بل خوفًا من الوقوع في حبه عندما شعرت بنمو مشاعر الحب على شفا فؤادها.
***
أما في المشفى، فقد كانت حكمت وزوجها قد وصلا بالفعل، ودخلا سريعًا إلى حيث كانت شمس جالسةً وحدها، تنهار بصمت وهي تترقب أي خبر يطمئنها على سليم، لم تكن دموعها تجف، وكانت نظراتها شاردة كأنها تحادث شيئًا لا يُرى، رغم ما يحمله حضور حكمت من صخبها المعتاد أضفى نوعًا من الانشغال الذهني شتت تركيز شمس قليلًا، خاصة بسبب أسئلتها المستمرة والمبطنة بفضولٍ لا يغيب عنه الطابع الملتوي، والمواساة التي بدت مشبعة بنبرة لا تخلو من التطفل.
اقتربت حكمت من زوجها وجذبته جانبًا بعيدًا عن شمس، وهمست له بنبرة توحي بالاهتمام الظاهري:
-بقولك ما تنزل تجيب أكل وحاجات أصلها صعبانة عليا اوي.
رفع صافي حاجبيه بدهشة واضحة إذ لم يكن معتادًا على أن تظهر حكمت أي تعاطف بهذا الشكل، بل ولم يعرف عنها يومًا أنها أنفقت مالًا في سبيل مواساة أحد، لكن ما زاد من دهشته هو طلبها التالي الذي نطقت به بجدية توحي بأنها تخطط لشيء أكبر:
-وشوفلنا شقة كبيرة قريبة من المستشفى نتأجرها شكل الموضوع مطول هنا.
-انتي ناوية تقعدي يا حكمت لغاية ما الراجل يفوق؟
-طبعًا امال اسيب نسايبنا في محنتهم وبعدين كله عشان خاطر أختي يا صافي، هاتلنا شقة تليق بينا مش أي شقة والسلام.
نظر إليها صافي وقد بدت الحيرة بادية على وجهه ثم مد يده إلى جبينها متفحصًا وكأنه يشك في أمرها:
-انتي كويسة يا حكمت؟
ردت بلهجة متأففة مستنكرة اندهاشه:
-يوووه، ايوه سيب الاندهاش ده لبعدين، وآه خليك ناصح كده ومتخليش حد يضحك عليك في الإيجار، اه أنا قولت استنضف بس متخليش حد يضحك عليك يا صافي.
هز كتفيه باستسلام وهو يتمتم:
-ماشي.
ثم انصرف لينفذ ما طلبته، بينما عادت حكمت إلى مقعدها بجانب شمس التي لم تنقطع دموعها لحظة، رفعت رأسها نحو حكمت وهي تقول بانكسار عميق وصوت خافت ممزوج بالبكاء:
-هو مش هيفوق؟، أنا حاسة أني بموت بالبطيء.
شهقت حكمت متضايقة وكأنها تحاول كسر هذا الجو الثقيل:
-يا اختي بعيد الشر عنك!، بكرة يفوق ويملى الدنيا بزعابيبه، أصل احنا كده الستات بنعشق الحاجة اللي تنكد عليها.
رمقتها شمس بدهشة من تلك الملاحظة الغريبة وسرعان ما ردت باعتراض وبنبرة مكسورة متحفظة:
-بس سليم عمره ما نكد عليا...
ثم أطرقت برأسها، وأطلقت تنهيدة ثقيلة وهي تنظر إلى باب الغرفة المغلق بحزن دفين:
-سليم مفيش زيه أبدًا.
ابتسمت حكمت ابتسامة واسعة وهي تهز رأسها بتأكيد قبل أن تتجه فجأة إلى تجاه آخر تمامًا في الحديث، قائلة بنبرة تنذر بالحكمة الزائفة:
-ربنا يقومه بالسلامة يا حبيبتي، بس نصيحة مني متتكلميش عليه حلو مع حد، أصلك تتحسدي كدم، خافي على حياتك...
تجهم وجه شمس وقد بدا عليها عدم الفهم لتحول الحديث المفاجئ، فتابعت حكمت بعينين لامعتين بالحماسة وكأنها تلقي محاضرة في علوم الحياة:
-اسمعي مني أنا أختك الكبيرة وافهم عنك، أنا بدي نصايح من دهب ولو القريبين مني يسمعوها حياتنا كلنا هتبقى زي الفل، طول ما انتي بتقولي جوزك مفيش منه أبدًا، هتاخدي عين تجيبك الأرض، زي ما حصلك دلوقتي، جوزك جوه في العناية وانتي قاعدة بتعيطي عليه، خدي بالك ده كله من لسانك، لازم تقولي عكس اللي بيعمله معاكي، عشان تبعدي عنك العين، لو كان بيصرف ومش مخليكي عايزة حاجة قولي ده بخيل وبيحاسبك على الجنية، لو كان بيحبك ويتمنالك الرضا ترضيه، قولي ده بيصبحني بعلقة وبيمسيني بعلقة، كده يا حبيبتي تعيشي في سلام، جو شادية ورشدي أباظة ده ميمشيش مع الاشكال الضالة اللي عايشين حوالينا.
ظلت شمس على حالها فاغرة الفم، وقد تجمدت ملامح وجهها المنهار بدهشة من مدى الجدية التي تتحدث بها حكمت، وكأنها تنطق بوصايا مقدسة لا تحتمل النقاش، ولولا خروج الطبيب في تلك اللحظة، لربما استمرت حكمت في إلقاء المزيد من حكمتها المفرطة.
ظهر الطبيب عند باب الغرفة، وابتسامة هادئة تعلو وجهه وقال بنبرة مطمئنة:
-مدام شمس.
رفعت شمس عينيها إليه بسرعة ثم نهضت على الفور وركضت نحوه، كأن كلماتها تريد أن تقفز من فمها قبل أن تصل إليه:
-هو فاق حمد لله على سلامته، تقدري تدخلي تطمني عليه، بس يا ريت بلاش عياط وتجهديه في الكلام.
أومأت برأسها وهي تجيب بصوت خافت يكاد لا يُسمع:
-هسكت خالص مش هنطق ولا كلمة.
فتح الطبيب باب الغرفة وأشار إليها قائلًا بلغة عملية:
-اتفضلي، ومرة تانية حمد لله على سلامته.
دخلت شمس الغرفة بخطوات مرتجفة وكأنها تخشى أن تراه في وضع لا تحتمله، وما إن وقعت عيناها عليه حتى شهقت بحرارة وانفجرت في البكاء، كان سليم ممددًا على الفراش تحيط به بعض الأجهزة الطبية وآثار الإعياء تملأ ملامحه، لكنه رغم ذلك ما إن رآها حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة ضعيفة لكنها دافئة كأنها أضاءت عتمة الغرفة ولحظات تألمه.
-سليم...حبيبي، حمد لله على سلامتك.
رد بصوت واهن وهو يمرر نظره عليها مطمئنًا:
-انتي كويسة؟
-لا...أنا قلبي هيقف من الخوف عليك.
ثم انحنت تقبل يده بحنان فأطلق ضحكة خفيفة وهو يحرك يدها بلطف نحوه:
-سلامة قلبك، أهم حاجة طمنيني على اخواتي كويسين؟
ابتسمت إليه وهي تحرك رأسها بإيماءة بسيطة:
-الحمد لله كلهم بخير، متقلقش انت، ومتتكلمش كتير عشان الدكتور مانعني أني اجهدك من الكلام.
-سيبك منه....مبيفهمش، أنتي صوتك لوحدك دوا.
ضحكت من بين دموعها ونظرت إليه نظرة حب وامتنان وقالت بهمس:
-لو هتقولي كلام حلو كتير من دا، أنا مستعدة مفصلش.
رفع يده يتحسس جانب وجهها برفق، ثم دس أصابعه يعيد خصلاتها الهاربة من حجابها إلى مأمنه، وسألها بنبرة متعبة لكنها مشحونة بالقلق:
-سيرا كويسة؟
-الحمد لله، هي ويزن وزيدان في قسم الشرطة.
تجهم وجهه في لحظة وعقد حاجبيه بعدم فهم، ثم أغمض عينيه محاولًا تجاهل الألم الذي بدأ ينهش جرحه وسأل بصوت مبحوح:
-ليه؟ إيه اللي حصل؟
****
في الخارج كانت حكمت تقف في زاوية هادئة من الردهة، تتحدث عبر الهاتف مع أحد أفراد عائلتها، أخبرتهم بما سمعته من شمس حول تطورات حالة سليم، وتُطلعهم على قرارها المفاجئ بالإقامة مؤقتًا في الإسكندرية لحين الاطمئنان على وضعه الصحي.
لم يكن إقناع والدها بالأمر هينًا فقد أبدى اعتراضه مرارًا، واحتج على ابتعادها هي وسيرا عن المنزل بهذا الشكل، لكنها ظلت ترد عليه بحججها المعتادة، متسلحة بسلاح الإصرار، حتى رضخ أخيرًا متنهدًا باستسلام.
أنهت الاتصال وهي تتنفس بارتياح نسبي، لكنها لم تكد تُنزل الهاتف من على أذنها حتى دوى صوت مألوف في الردهة صوت رقيق لكن حزين، جعلها تنتفض كمن لدغته الكهرباء:
-أبلة حكمت.
التفتت بسرعة وقد اتسعت عيناها بدهشة وفرح ممزوجين، وما إن أبصرت سيرا حتى ركضت نحوها واحتضنتها بقوة مشبعة بالحنين واللهفة.
بينما سيرا قد خارت قواها تمامًا وما إن استقرت بين ذراعي شقيقتها الكبرى حتى انفجرت باكية بكاءً حادًا خرج من أعماقها كسيلٍ جارف لم تستطع مقاومته، هز نحيبها القوي قلب حكمت التي بدأت تهدهدها وتحاول تهدئتها، بينما وقف يزن إلى جوارهما وقد علت ملامحه علامات القلق، أما زيدان فقد ارتبك قليلاً من شدة انفعالات سيرا، فانحنى نحو يزن يهمس له باعتراض لا يخلو من السخرية:
-خطيبتك هتلبسنا في حيطة، اختها تقول إيه دلوقتي؟!
رد عليه يزن بنبرة خافتة صارمة لكنها مشبعة بالتهديد:
-طلعها من دماغك عشان محطكش في دماغي.
رفع زيدان حاجبيه ساخرًا ثم قال بصوت ينضح بالاستهزاء وهو يمرر كلماته كأنها طعنات مغلفة بالابتسامات:
-انت مش شايف بتعيط ازاي؟
-ما تعيط براحتها هي بتستلف الدموع من عينك وأنا معرفش!!
ضحك زيدان باستهزاء قصير وهو يومئ برأسه كمن يسلم بحالة خارجة عن الفهم:
-انت مش طبيعي اقسم بالله!!!
ثم زفر بعمق وهو يخرج هاتف يزن من جيبه ويقدمه له بطريقة ساخرة:
-خد يا سبع الرجال، تليفونك.
سار بعدها بخطوة بطيئة نحو سيرا التي كانت ما تزال في أحضان حكمت، تبكي كطفلة أضاعت طريقها بينما كانت الأخيرة تهمس لها بكلمات المواساة، تربت على ظهرها وتمرر يدها فوق رأسها بحنان أخوي خالص.
فقال زيدان بتهذيب مصطنع، قاطعًا مشهد العناق:
-معلش يا سيرا هقطع عياطك، تليفونك اهو.
أبعدت سيرا نفسها قليلًا عن حكمت وبدأت تمسح دموعها بأطراف أصابعها المرتجفة، ثم تناولت الهاتف من يده وهي تعتذر بنبرة مهزوزة:
-أنا أسفة، بس مقدرتش امسك نفسي.
مط يزن شفتيه بتعاطف هادئ، وقال بنبرة هادئة يغلفها دفء أثار غيظ زيدان، كما يفعل دائمًا:
-متتأسفيش اعملي اللي يريحك لو عايزة تصوتي صوتي كمان.
ظنت سيرا لوهلة أنه يسخر منها فانكمشت ملامحها بشيء من العبوس، لكنها لم تجد الوقت لتتأمل في نبرته أكثر، إذ رن هاتفها في يدها من جديد، نظرت سريعًا إلى شاشة الهاتف، وما إن قرأت اسم المتصل حتى تبدلت ملامحها على الفور.
أجابت بلهفة لكن لم تكد تستمع إلى الصوت القادم من الطرف الآخر حتى شحب وجهها، واهتز صوتها بين الذهول والغضب والانكسار، وهي تنطق بصدمة مختصرة:
-إيه؟
تقدمت حكمت نحوها بخطوات قلقة وقد انتفض قلبها للوهلة فسألتها بانفعال:
-مين بيكلمك؟ في أيه؟
تبعها صوت يزن المضطرب أيضًا وقد لاحظ اضطراب وجه سيرا المفاجئ:
-ما تردي تقولي في إيه؟!
_______________
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا
تعليقات
إرسال تعليق