رواية غناء الروح الفصل الثاني والثلاثون 32بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل الثاني والثلاثون 32بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
الفصل الثاني والثلاثون.
مسحت دموعها بأنامل مرتجفة وهي تجيب بنبرة طفولية باكية:
-تمام مفيش مشكلة، شكرًا.
أنهت الاتصال ببطء ثم التفتت نحو أختها لتندفع باكية نحوها تختبئ في حضنها كطفلة ضائعة وسط عاصفة:
-رفدوني من الشغل يا أبلة.
كانت شهقاتها تتلاحق بحرارة بينما بدت كلماتها مختنقة تحت وطأة الخيبة والألم، كاد يزن أن يوبخها، إذ بدا له بكاؤها مبالغًا فيه لأجل سبب تافه كما اعتقد لكنه سرعان ما فقد القدرة على ضبط أعصابه عندما لمح ابتسامة زيدان العريضة، تلك الابتسامة التي بدت له مستفزة ولامبالية، عندها تفجر الغضب داخله كبركان ثائر وانسابت حمم غضبه الحارقة على زيدان دون سابق إنذار، فمد قدمه بخفة قاتلة ووضعها فوق قدم زيدان، ثم ضغط بكل ما أوتي من قوة كمَن يحاول أن يُمحي الغيظ بجسده لا بكلماته.
تأوه زيدان بألم واضح ثم حدق في يزن بنظرة ملأها الضيق والحدة، تلك النظرة التي جذبت انتباه حكمت وسيرا، فارتسم القلق على ملامحهما لكن سرعة رد يزن جعلت الأمر يبدو كأنه لا يستحق التوقف عنده:
-روح خدلك حقنة عشان الصداع اللي عندك يلا.
قالها وهو يدفع زيدان للخلف بدفعة خفيفة، فتزحزح زيدان قليلاً لكن ابتسامته المستفزة لم تغب عن وجهه، بل ازدادت اتساعًا، غير أن حكمت بخبرتها الطويلة في قراءة التوترات الصامتة قررت التدخل فجأة جاذبة الانتباه بعيدًا:
-صحيح اخوكم فاق ومراته جوه عنده.
فور أن نطقت بالجملة تبدلت ملامح الجميع، وتهلهلت أساريرهم، تحركا معًا بخفة متعجلة نحو الغرفة التي يرقد فيها سليم، وقد نسي كلاهما الخلاف والضيق، وحدها سيرا بقيت في مكانها تنحب بهدوء داخل أحضان حكمت التي كانت يداها تربتان على ظهرها بحنان، بينما همست بصوت خافت يملأه الحنو:
-يا بت اهدي، يروح الف شغل ويجيلك اللي احسن منه، وبعدين انتي هتتجوزي مش هتحتاجي شغل أصلاً.
لكن كلمات حكمت رغم طابعها المواسي، لم تجد طريقًا إلى قلب سيرا، فابتعدت عنها بغضب ودموعها لا تزال تنهمر ثم هاجمتها بنظراتها الغاضبة وهي تقول بضيق لا تخطئه الأذن:
-يا أبلة الشغل ده أنا تعبت بجد عشان أعرف اشتغل فيه، وفي الآخر يروح كده عشان مروحتش كام يوم، طيب يسألوني أنا كان عندي ظروف إيه تمنعني
؟!
رفعت حكمت حاجبها الأيسر في انزعاج وكأنها تسخر من حماقة أختها الصغيرة:
-يالهوي!! بقولها هتتجوزي تقولي شغل وتعبت لغاية ما اشتغلت فيه، هو انتي فاضية أصلاً ؟ والله أحسن إنهم رفدوكي... المهم تعالي بسرعة احكيلي كل حاجة حصلت من وقت ما اتخطفتي لغاية ما روحتي القسم.
مدت يدها نحو سيرا بحركة لا تخلو من الحنو، لكنها توقفت فجأة عندما رأت يد أختها ملفوفة بضماد خفيف فصرخت فجأة بخوف ارتج له المكان:
-يالهووووي، إيه اللي حصل لايدك؟
أسرعت سيرا في تهدئتها وهي تلوح بيدها المجروحة لتبسيط الموقف:
-اهدي يا ابلة دي حاجة بسيطة والله.
جلست حكمت على المقعد المقابل ثم أشارت لسيرا بالجلوس بجانبها وهي تأمرها بصرامة:
-حالاً تحكيلي إيه اللي حصل؟
تنهدت سيرا بعمق وكأنها تستجمع بقايا قوتها، ثم جلست بجانب أختها مطلقة العنان لذكرياتها المؤلمة لتنساب على لسانها، تسردها بالتفصيل...
بينما في الداخل..
وقف يزن بجوار السرير من جهة اليمين بينما توقف زيدان من الجهة الأخرى، كانت الغرفة تفيض بصمت ثقيل تتناقل فيه العيون الحائرة نظرات مبهمة بين الأخوة الثلاثة، حتى كسره يزن بطريقته المعتادة في المزاح:
-حمد لله على سلامتك يا أبيه.
سعل سليم بألم وعيناه تضيقان من شدة الحنق، ثم رد بنبرة متذمرة اختلطت بأنفاسه المتعبة:
-اطلع برة يا بارد.
تدخل زيدان بلهفة محاولًا إظهار مشاعره رغم اضطراب صوته:
-حمد لله على سلامتك يا سليم.
كانت نبرته خافتة وكأنها تائهة بين الجد والمجاملة، حاول أن يضخ فيها دفئًا لكنه فشل فجاءت جافة كما عهد الجميع، لم يتأخر تعليق يزن الذي رمقه بامتعاض وهو يقول بحنق:
-ما تضربه بالنار أحسن!
تدخلت شمس وقد مطت شفتيها بعتاب واضح:
-ماتقولش كده، ده زيدان كان هيموت من الخوف على سليم.
ألقى زيدان نظرة جانبية على يزن قبل أن يقول باشمئزاز:
-انتي بتقولي لواحد مبيحسش أصلاً يا شمس وفري كلامك.
عقد يزن ذراعيه أمام صدره بتحدٍ ونظر إليه مباشرة وهو يرد بقسوة:
-والله الاحساس ده نعمة كبيرة أوي يا زيدان انت ماتعرفش عنها حاجة فمتتكلمش عليه.
تلونت وجنتا زيدان باحمرار خافت نتيجة الغضب المتصاعد في داخله فرفع إصبعه مهددًا:
-احترم نفسك يا يزن، أنا مش عايز أقل منك، أنا لغاية دلوقتي صابر وعاصر على نفسي لمون عشان استحملك.
أطلق يزن ضحكة قصيرة ساخرة ثم قال بنبرة لاذعة:
-بعيدًا عن عصير اللمون اللي انت عاصره، وبعيدًا عن صبرك اللي ميهمنيش، انت لو مبطلتش تتريق على سيرا وتضايقها بكلامك أنا هزعلك فاهم ولا لا.
رفع سليم حاجبيه بدهشة وهو يمرر بصره بينهما، يراقب المشادة التي اتخذت منحنى خطيرًا، حاول التدخل بصعوبة فقال زيدان بعصبية:
-تاني هيقولي سيرا!!! يا عم أنا حر اضحك على اللي يعجبني، انت مالكش فيه!
وفي لمح البصر فقد يزن أعصابه كليًا وصرح برعونة انطلقت دون رقابة:
-لا ليا فيه، لغاية سيرا وتقف، هي خط أحمر.
تدخل سليم أخيرًا محاولًا أن يمنع الأمور من الانفجار، فقال بصوت متحشرج ممزوج بحدة:
-ما تضربوا بعض قدامي أحسن؟ هو في إيه؟! ... انتوا مستنين أفوق وتنكدوا عليا.
اندفع يزن نحو الدفاع عن نفسه قائلًا بهجوم واضح:
-انت مش شايف يا سليم عمايله!!
لكن زيدان رد بحماقة قاسية أخرجت ما بجعبته دفعة واحدة:
-والله المفروض اللي يبص على عمايله هو انت، ورطت نفسك مع تاجر سلاح مجنون وعرضت خطيبتك اللي ملهاش في حاجة للخطر، واخوك كان هيموت بسببك، وفي الأخر متضايق؟! أنت المفروض تضايق من نفسك يا يزن على عمايلك السودة وأخرة مشيك الهباب مع البنات.
كانت كلمات زيدان كصفعات متتالية على وجه يزن، لم يكن بحاجة لتلك التذكيرات إذ إن ضميره كان يعذبه منذ لحظة دخول سليم المستشفى، وكأن شعلة من اللهب توهجت داخله لتلتهم ما تبقى من سكينته، الآن فقط انفجرت تلك الشعلة، فاشتعلت أنفاسه كأنها لهب يخرج من فم بركان.
سادت الغرفة حالة من الصمت المطبق، الجميع حدق فيه بدهشة وخوف وهو يغادر الغرفة بخطوات سريعة غاضبة، كأن كل خطوة يدك بها الأرض تُعلن عن زلزال داخلي.
أما خارج الغرفة لفتت حالته الغريبة نظر سيرا، التي ارتبكت لرؤيته، ولكن جذبتها حكمت من ذراعها وهي تسألها بقلق:
-بت يا سيرا هو أخوه جراله حاجة؟
هزت سيرا رأسها بشرود وعيناها معلقتان بالممر:
-لا هو شكله متضايق من حاجة!
ابتسمت حكمت بخبث خافت وهمست بسخرية:
-ياختي ولحقتي فهمتيه وعرفتيه؟ امتى هو يكون متضايق!!! واضح اوي إنك مكنتيش عايزاه!
أغلقت سيرا عينيها بقوة محاولة السيطرة على مشاعرها، ثم قالت باستنكار وتوتر:
-إيه اللي بتقوليه ده يا أبلة؟!، على فكرة أنا لسه عند كلامي، ولما أخدت بالي إنه متضايق دي حاجة في علم النفس كنت قريت عنها قبل كده...حركات جسمه وكده.
مالت شفتا حكمت بسخرية ماكرة:
-علم النفس...اممم لا وانتي الشهادة لله عاملة دكتوراه في علم النفس...طيب اقعدي يا اختي وكمليلي اللي حصل؟
بلعت سيرا ريقها بتوتر ثم سألت بقلق:
-مش هنشوف الاول هو متضايق ليه؟
ضيقت حكمت عينيها وقالت بلامبالاة ساخرة:
-لا ملهاش لزمة، مش علم النفس بيقول لما الشخص ميهمناش أصلاً وعايزين نبعد عنه، المفروض ميفرقش معانا زعله أصلاً، اقعدي يا حبيبة اختك وكملي.
جلست سيرا على مضض، لكنها لم تستطع إخفاء قلقها وخاصة عندما خرج زيدان هو الآخر من الغرفة، غاضبًا أكثر من يزن، وكأن الانفجار الثاني وشيك،
فوقفت فجأة قائلة:
-لا كده شكل الموضوع كبير، عن إذنك يا أبلة، ثانية وجايلك.
تحركت مسرعة في الاتجاه الذي غادر منه يزن، تحت أنظار حكمت المتعجبة التي اكتفت بهمس مستنكر:
-قال إيه مش عايزة تكمل؟ ده نفس لهفة فاتن حمامة على عمر الشريف بالظبط!!
*****
بحثت عنه في كل زاوية من زوايا المستشفى، تتنقل كمَن تاه عن ظله، ولكن لا أثر له، حتى خُيل إليها أنه قد غادر المبنى بأكمله، وفي لحظة بدا فيها اليأس يتسلل إلى وجدانها، سرت نسمات بحرية باردة نحوها من الاتجاه المقابل للمبنى، وقفت للحظة،
تُنصت لذلك الصوت الخفي الذي لا يُسمع، لكنها تشعر به لذا تحركت كالمسحورة، لا تعي ما يدفعها، وكأن قلبها هو مَن يرشد خطواتها هذه المرة!!
اقتربت من السور المطل على البحر، وهناك في مشهدٍ بدا كلوحة حزينة مرسومة بريشة احترافية، رأته جالسًا على حافته العالية يُحدق في المدى البعيد، كأنما يبحث عن شيء في حركة الموج المتراطم بالصخور...لمحت وجهه المتوتر رغم قسوة ملامحه، فقد كانت عيناه مكسوتين بشيء من الحزن!!
ابتسمت بخفة حزينة كمَن وجد ضالته، واقتربت منه بخطوات سريعة لكنها مترددة، ثم همست بنداءٍ خافت بالكاد تسمعه:
-يزن..
لم يسمعها أو ربما سمعها ورفض الرد، ظل على شروده، يواجه البحر بصدرٍ مثقل، كأنما يقاتل وحشًا من الندم داخل أعماقه.
نظرت حولها باحثة عن وسيلة تقربها منه فلاحظت حجرًا كبيرًا يمكنها تسلقه، فتقدمت نحوه وبدأت بحذر تتسلق السور العريض، تتحرك بخفة حذرة خوفًا من أن تنزلق وتسقط في أعماق البحر القريب، لكن قلبها كان أقوى من مخاوفها، كانت تتصبب توترًا تشعر بالهواء البارد يصفع وجهها لكنها لم تتراجع، وشيئًا فشيئًا اقتربت منه.
وعندما كادت أن تصل إليه مدت يدها تتكئ بها على طرف السور، لم تلاحظ الزجاج المكسور الكامن كفخٍ خفي، حتى أنه كاد ينغرس شظاياه في يدها المجروحة أساسًا، فأطلقت شهقة خوف مكتومة، واهتز جسدها الصغير في جلسته فتفاجأ يزن بوجودها والتفت نحوها مذعورًا:
-سيرا انتي بتعملي إيه؟ حاسبي...
مد يده بسرعة ليرفع قطعة الزجاج بعيدًا ثم أمسك يدها ليتفقدها وهو يسأل بقلق:
-إيدك حصلها حاجة تاني؟
هزت رأسها نفيًا تحاول أن تتماسك رغم الألم، ثم سألته مباشرة وهي لا تزال تراقب شروده وعينيه الهاربتين من مواجهتها:
-لا...انت مالك؟ متضايق ليه؟
ترك يدها وتحرك في جلسته بحركة متوترة، أعاد بها خصلات شعره المنفلتة إلى الخلف بتوتر ظاهر:
-عادي مش متضايق ولا حاجة، ليه بتقولي كده؟؟
نظرت إليه بعطف لم تحاول إخفاءه، ملامحها تعكس قلقًا حقيقيًا وهي تتابعه:
-شوفتك خارج وانت متعصب قلقت وجيت وراك.
عند تصريحها ترك البحر والتفت ناحيتها، نظراته تشق طريقها إلى أعماقها فجأة، تكسر جموده على لحظة حضوره، فابتسم بخفة وهو يقول بمكر هادئ:
-ده أنا مهم عندك اوي كده عشان تيجي ورايا!!
لم تستطع أن تُخفي توترها من قربه ولا من تأثير تلك النظرة التي بدت قادرة على تحريك السكون في صدرها، فحولت نظرها للبحر وقالت بسخرية خفيفة:
-طبعًا، مش كنا مخطوفين سوا؟، لازم نشارك أحزانا مع بعض، احكيلي.
اقترب منها قليلًا وهو يبتسم ابتسامة ساخرة لكنها خافتة وقال:
-احكيلك واحكيلي، العملية عملية تبادل خدي بالك.
تنهدت بخفة وهي تهز كتفيها محاولة السيطرة على ارتباكها ثم قالت:
-بس أنا معنديش أحزان، انت اللي عندك؟!
ساد لحظة صمت وكأن البحر نفسه توقف عن الحركة ليستمع إلى ما سيقوله، فخرج صوته أخيرًا ضعيفًا مكسورًا:
-يعني مش متضايقة مني عشان أنا السبب في ده كله؟ عرضتك للخطر وايدك اتجرحت وواحدة مجنونة...
قاطعته بنفي سريع وقاطع، وهي تدافع عنه بحرارة:
-لا طبعًا، ده كله مكتوبلي أشوفه، وبعدين انت ذنبك إيه؟ دول شوية ناس مجانين!!
تأملها بصمت كأن كلماتها نسجت حوله دفئًا لم يعهده من قبل وهتف بصوت هامس خرج من عمق وجدانه:
-شكرًا.
لم تُجبه فقط تنهدت بحرارة بينما كانت نظراتها تتبع أمواج البحر الهائجة، ثم سألت مجددًا بإصرار لطيف:
-طيب متضايق ليه؟!
ارتسمت السخرية من جديد على ملامحه وهو يغمض عينيه للحظة ثم يفتحها بنظرة ماكرة:
-فضولية اوي انتي!
أشارت إلى نفسها باستنكار طفولي:
-أنا!! خالص، بس من الذوق المفروض تقدر إن أنا سيبت اختي الكبيرة وجيت وراك وعرضت حياتي للخطر عشان اطلعلك هنا، المفروض تقدرني وتحكيلي، ها زعلان ليه؟!!
ضحك بخفة وهو يحرك رأسه كأنه اقتنع:
-اقنعتيني، بس أنا حاسس إن أنا مش محتاج احكي لحد دلوقتي.
شهقت وهي ترفع حاجبيها بصدمة طفولية:
-تصدق؟ أنا غلطانة إن عبرتك... وجيت وراك، يلا خلي البحر ينفعك، اقعد اشكيله همك.
كادت تنهض وتغادر، لكنه أوقفها بجملته الشاردة:
-بس أنا متعودتش اشتكي لحد، عشان اشتكي للبحر.
نظرت إليه بتقييم صامت تحاول تحليل نبرته المكسوة بالوحدة وقالت بهدوء:
-مش باين عليك خالص إنك كتوم يا يزن؟
ابتسم بمرارة وهو يسألها:
-امال باين عليا إيه؟؟
أجابت بعد لحظة تفكير بنبرة أقرب للهروب منها للصدق:
-يعني شخص فوضوي... مش مفهوم.
اقترب منها قليلًا وهمس بصوت دافئ كنسمة بحرية ليلية:
-بالعكس سهل تفهميني، بس مشكلة الناس حاصرني في زون الباد بوي، وأنا والله أنفع جود بوي عادي خالص، بس محدش مديني فرصة.
ضحكت رغمًا عنها، كانت مشاعرها تختلط، بين الإعجاب والخوف من الوقوع في شيء لا تعلم نهايته، ولكن قبل أن تُكمل تفكيرها، باغتها بسؤال:
-اه صحيح امال ليه العياط اللي انتي عيطتيه فوق عشان شغلك ده؟
أجابت بتهرب طفولي وهي تحرك كتفيها بدلال نال إعجابه:
-وانت مالك؟ حاجة متخصكش!
اقترب أكثر وهمس بجانب أذنها بصوت خشن أربكها:
-هنبدأ نهلفط بالكلام...ونتعدى حدودنا ونرجع نزعل في الآخر!
التفتت إليه سريعًا وقالت بانفعال:
-ده تهديد بقى؟ لا أنا مبتهددش، وبعدين ده كان ضغط نفسي مش اكتر، ان شاء الله هلاقي شغل أحسن منهم الف مرة.
لم يُجبها...فقط ظل يحدق بها، عيناه تكشفان هشاشتها رغم صلابتها الظاهرة، وفجأة انسابت دمعة مترددة على خدها، تبعتها نبرة مبحوحة:
-بس أنا زعلت عشان رفدوني، كان المفروض يقدروني اكتر من كده، هلاقي فين شغل زيهم.
ضاق صدره لرؤيتها بذلك الضعف ولأول مرة شعر بالعجز أمام دموع أنثى فتمتم بتعاطف حقيقي:
-يولعوا يا بابا....ولا تزعلي نفسك، تعالي وأنا هشغلك عندي.
رفعت حاجبها ظنًا منها أنه يسخر، وردت بعبوس ساخر:
-هتشغلني؟ امسح عربايتك؟ ولا اعملك شاي وقهوة؟
ابتسم بخفة وقال بنبرة حنونة ناعمة تتسللت خفية إلى قلبها:
-لا هقعدك قدامي واقعد ابصلك.
تجهمت وهي تهدده:
-بقولك إيه شغل الكلام الحلو بتاعك ده اللي بتوقع بيه البنات مياكلش معايا.
-طيب خلاص بلاش كلام حلو، اشتغلي عندي نفس شغلتك في الجيم، كنتي مدربة إيه... زومبا تقريبًا!!
نظرت إليه مصدومة وقالت باعتراض غاضب:
-نعم؟! ده انت بتهزر بقى، وأنا هعلم العربيات عندك زومبا؟!
عاد إلى صمته المتأمل ثم همهم بهدوء:
-اممم..
صرخت بصوتٍ ساخر:
-يزن، احترم نفسك!
انفجر ضاحكًا بخفة وهو ينظر إليها بنظرة ماكرة كأنما يختبر صبرها:
-شفتي نيتك السودا، أنا كنت هخليها دروس شفوي هستثني التحريري خالص مؤقتًا.
حاولت السيطرة على تلك النغمة المرحة التي تسللت إليها رغمًا عنها، وردت بحزم مصطنع:
-انت لو محترمتش نفسك هزوقك في البحر.
اتسعت ابتسامته أكثر وكأنه يجد في تهديدها متعة خفية ثم قال بمراوغة:
-ويرضيكي سمكة القرش تاكلني، انتي ليه سودا من ناحيتي!!
أطلقت ضحكة صغيرة ساخرة وهي ترفع حاجبيها:
-والله ما حد نيته سودا غيرك....اوعى خليني انزل اروح لأختي.
أمال رأسه قليلًا صوته هادئ، كأنه يداري قلقًا لا يريد له أن يُفضح:
-براحة انزلي على مهلك.
التفتت إليه فجأة تراقب ملامحه المتبدلة بعينين حادتين ثم تساءلت بتهكم وهي تضيق عينيها:
-خايف اوي عليا؟!
خفض صوته درجة واكتسب نغمة أكثر صدقًا وكأن كلماته خرجت من مكان عميق في صدره دون قصد:
-لو مخوفتش عليكي هخاف على مين؟
رغم محاولتها تجاهل تأثيره إلا أن وقع كلماته كان كفيلًا بأن يربك دقات قلبها فتجاهلت ما شعرت به وتظاهرت باللامبالاة وهي تقول بابتسامة مستفزة:
-كلامك ده مبياكلش معايا...غير شوف طريقة كرييتڤ شوية عشان تشد انتباهي.
في تلك اللحظة تلاقت أعينهما مجددًا، وبدت نظراته أقل سخرية وأكثر عمقًا، وكأنه على وشك الاعتراف بشيء لم يستطع البوح به بعد، أما هي فرغم مزاحه إلا أنها كانت تعلم أن حديثه لم يكن كله عبثًا... وأن هناك شيئًا دفينًا خلف كل ابتسامة ساخرة، وكل تنهيدة صدرت منه منذ لحظة لقائها به.
-معلش هقطع لحظتكم الخاصة دي، عايزك يا بيه!
كان زيدان واقفًا بيدين في جيبيه ونظرة متحفظة، بينما لم تنتظر سيرا أكثر من ثوانٍ حتى توهج الخجل على وجنتيها، وأسرعت بالنزول من فوق السور بحرج واضح.
أما يزن فزفر بقوة وهو يرمق زيدان بنظرة ضيق غاضبة لم يبذل جهدًا في إخفائها ليعلق الأخير بتهكم لاذع:
-وكمان بتمثل أنك متضايق، وبتهرب زي العيال الصغيرة.
رمقه يزن بطرف عينه، وهو عابس الوجه كأن بينهما حسابًا طويلًا لا يحتاج إلى شرح:
-مش هرد عليك، عشان لو رديت هتزعل مني.
اقترب زيدان وجلس بجانبه بخفة، ثم قال بسخرية:
-من امتى الأدب ده؟ ده انت طول عمر لسانك فالت!!
اعتدل يزن ناحيته وملامحه لا تزال محتقنة، لكن نبرته اكتست بطابع ساخر يخفي وراءه ألمًا أعمق:
-شوفت التغيير حلو ازاي!!، انت لو ذكي هتستغله لمصلحتك!
ضحك زيدان باستخفاف وهو يسحب نفسًا طويلًا من الهواء المالح، قبل أن يقول بنبرة تنم عن شيء أكبر مما يبدو:
-لا ما هو واضح إن ليها تأثير رهيب عليك.
لم يتحمل يزن مغزاه، فقد أعصابه كمَن نكأ جرحًا مفتوحًا وهتف بحدة:
-مالك ومال سيرا يا زيدان؟
أدهشه أن زيدان لم يرد عليه بنفس الحدة، بل جاء صوته هادئًا على غير العادة، خاليًا من التهكم محملًا بثقل النُصح:
-مش عايزك تكسر قلبها يا يزن، البنت باين عليها ضعيفة وملهاش تجارب في الحياة، وانت واحد لفيت ودورت، ملهاش لزمة تكسر قلبها.
أطرق يزن رأسه لحظة ثم رفعها بابتسامة ساخرة تخفي في طياته مشاعر غامضة، وقال بلهجة مستفزة:
-الله!!! ده من امتى؟ ده انت حجر اشمعنا سيرا بذات اللي واخد بالك منها؟
ضربه زيدان على كتفه بلكزة قوية، ثم قال بنبرة غاضبة:
-انت غبي ياله...
لكن يزن قاطعه بحدة:
-بلاش طولة لسان احسنلك.
طرق زيدان بأصابعه بجانب رأس يزن كأنه ينقر على شيء يريد إيقاظه:
-وانت بلاش عقلك يوديك في حتة غلط، افهم معنى كلامي وفكر فيه، يا أستاذ انت لازم تفهم إنها رغم طولة لسانها إلا أنها فعلاً بريئة...بلاش تجرحها وتتسلى بيها وخصوصًا إن الموضوع ارتباطك بيها دخل في الجد، بلاش تقلل من نفسك ولا مننا.
كان يزن يغلي من الداخل وظن أن زيدان يحكم عليه لا يحذره، فصرخ بانفعال:
-انت بتكلم عيل صغير؟ في أيه؟ أنا مستغربك ده أنت اكتر واحد قريب مني وفاهمني على إيه؟
تنهد زيدان بحزن ثم أجابه بصوت هادئ لكنه حازم:
-ما هو عشان فاهمك وفاهم طريقتك كويس وعارف لما بتحب تشد بنت ليك يا يزن بتعمل إيه، وبقولك تاني بلاش دي...دي ممكن تفضل عايش بذنبها طول عمرك.
صمت يزن لحظات ثم قال بانفعال:
-واقسم بالله انت ما فاهمني ولا عارف حاجة؟ انت بس بتبرر العك اللي انت قولته فوق.
لكن زيدان لم يفقد اتزانه بل أكمل بنبرة جادة:
-لا هو مش عك دي حقيقة، أنا سمعتك جزء بسيط من الكلام اللي سليم أخوك محشهولك لما يقوم بالسلامة، وأنا وأنت عارفين كويس اوي أنه مكنش هيسيبك وكان هيقولك أوسخ من كده، أنا قصرت عليك حاجات كتير باللي أنا قولته.
رمش يزن عدة مرات كأنه يحاول طرد الكلمات من رأسه ثم انفجر:
-اه حامل همي يعني؟ بتحرجني قدام مرات أخوك وبتحسسني بالذنب عشان سليم ميكلمنيش!! ما يكلمني سليم هعمل إيه ولا هو هيعملي إيه؟ عادي... ياما كلمني ولا فرقلي.
-لا بيفرق وبيفرق جامد ووقتها بتهرب منه ومني ومن الدنيا كلها وبتستخبى زي العيل الصغير، وفي الاخر بترجع تعند وتزيد عشان تبينله أنه ولا همك.
ضحك يزن ضحكة ساخرة مريرة وقال:
-طيب أنا دلوقتي على كلامك المفروض اهرب، ارمي نفسي في البحر ولا اكتب وصيتي؟
رد زيدان بجدية:
-بلاش تريقة يا يزن.... يا ابني مفيش حد في الدنيا دي كلها هيخاف على مصلحتك قدي أنا واخوك، بلاش تعند على حساب نفسك وحسابنا وحساب بنت ملهاش في حاجة غير إن حظها وقع فيك.
خفض يزن صوته فجأة وكأنما ينفجر من الداخل:
-هو أنا وحش لدرجة دي يا زيدان؟ لدرجة دي مفيش فيا حاجة حلوة؟
ابتسم زيدان بخفة وحنان أخوي صادق، ثم قال:
-بالعكس...انت أخ جدع وصاحب مفيش منك، ولسانك اللي عايز قطعه ده، ربنا مديك موهبة فيه... تقدر تقلب أي حد لصالحك، بس دماغك فالتة شوية فحجمها عشان مصلحتك.
سكت قليلًا ثم استكمل وهو ينظر إلى الأفق:
-سليم لما أصر أنك تخطب مش عشان هو عايز يمشي اللي في دماغه، بالعكس هو نفسه يطمن عليك، زي ما أنا كمان نفسي وأمك الغلبانة دي من حقها تشوفك مستقر ومتجوز، يزن مصر كلها يا حبيبي هتفرح لما تتجوز عشان هنخلص من مشاكلك.
ضحك يزن رغم كل شيء وقال بمراوغة:
-اتجوز أي واحدة والسلام... ولا سيرا تحديدًا.
رفع زيدان حاجبيه وقال بحياد:
-والله دي اختيارك يا معلم، هي أو غيرها، في الآخر نصيب.
تساءل يزن بحيرة شاردة خرجت سهوة منه:
-هو انت شايف أنها متستحقش واحد زيي؟
ابتسم زيدان:
-لا طبعًا انت مفيش زيك، انت باشا يا ابني، بص سيرا دي من الآخر أمها دَعية عليها....آآ...اقصد داعيلها عشان وقعت في واحد زيك.
ساد الصمت بينهما لحظة، قبل أن يهمس زيدان معتذرًا:
-متزعلش مني، بس متنكرش إن أنا وفرت عليك تهزيق كان هيستمر لمدة شهر.
رفع يزن بصره إليه وقال بصوت خافت:
-مبعرفش ازعل منك ولا من سليم، عارف يا زيدان.....أنا لما مشيت... مكنتش زعلان منك على قد ما أنا زعلان من نفسي!
نظر له زيدان باهتمام:
-ليه؟
تنهد وقال بمرارة صادقة:
-عشان لأول مرة مكنش عارف أنا عايز إيه؟
هز زيدان رأسه بتفهم ثم وضع يده على كتف أخيه، وقال:
-ولا عمرك هتقدر تقرر دلوقتي، استنى لما تهدا وانت هتلاقي اللي انت عايزه قدامك ومن غير مجهود.
استدرك يزن رزانة أخيه المفاجئة فتساءل بتهكم:
-انت من امتى عاقل كده!! ولا ده مجهود مليكة معاك!
رفع زيدان رأسه فجأة، وتذكر بنبرة مصطنعة بالهلع:
-يااااه يا جدعان على اللي عملته في نفسي وعلى وجع الدماغ اللي هالبس فيه، أنا ازاي نسيتها كده ....اوعى الحق نفسي واكلمها.
ضحك يزن من أعماقه وهو ينظر إليه بدهشة:
-عشت وشوفت زيدان اخويا خايف من حد...مجهود مليكة طلع جبار فعلاً...
غادر زيدان متجاهلاً إياه، بينما عاد يزن بنظره إلى المبنى خلفه بعينين شاردتين وابتسامة باهتة، كأنه يحادثها:
-وانتي مش هتعملي أي مجهود خالص ولا هفضل ضايع زي ما أنا.
****
في اليوم التالي، تعمدت يسر إطفاء أضواء محلها الصغير الكائن أسفل البناية التي تحتضن عيادة نوح، جلست في إحدى الزوايا المظلمة، وقد انكمشت بجسدها خلف مكتبها الصغير تراقب بصمتٍ ما يجري على الرصيف المقابل، حتى لمحت أولًا حسناء تصل إلى العيادة وتدخلها بخطى ثابتة، انتظرت ساعة كاملة بعدها حتى تراءى لها نوح، وقد وقف أمام باب العيادة يبحث بعينيه القلقتين عن طيفها، لكنها لم تُظهر نفسها وهذا ما جعله يقطب حاجبيه بخيبة واضحة، ثم ما لبث أن صعد إلى عيادته بانكسارٍ خافت.
عادت يسر لتتنفس بعمقٍ تجتذب الهواء كأنها تحاول تثبيت أنفاسها المنبعثة من خطة تحيكها بعناية، مدت يدها إلى حقيبتها وأخرجت مرآة صغيرة أعادت بها ترتيب ملامح وجهها، وهي تضع مساحيق تجميل خفيفة لكن وزعتها بحرفية، اختارت أماكنها كخبيرة تعلم جيدًا كيف تلفت أنظاره وتُحيي انبهاره بها من جديد.
ثم مررت نظراتها على جسدها وتوقفت طويلاً عند فستانها الصيفي الذي اختارته بعناية ليبدو منسدلًا برقة، يلامس منحنيات جسدها ويلتصق قليلًا ببطنها البارز من الحمل، مما يزيد من وقع المشهد على من تود التأثير فيه.
أخفضت نظرها إلى ساعتها فوجدت أن أمامها نصف ساعة فقط قبل بدء العيادة في استقبال المرضى، وهي تدرك تمامًا أن هذه الدقائق الحاسمة كفيلة أن تحقق هدفها الأول، تسديد ضربة مباشرة في مرمى حسناء.
أمسكت بهاتفها وضغطت زر الاتصال ثم وضعته على مكبر الصوت، وملامح الخبث تلمع في عينيها كما يلمع حد السيف أسفل ضوء الشمس، لم تنتظر طويلًا حتى جاءها صوته عبر السماعة مترددًا مرتبكًا، وكأنه لم يتوقع هذا الاتصال بعد ما جرى بينهما بالأمس من خلاف وسوء فهم:
-الو..يسر.
أجاب بصوت خفيض فابتسمت بانتصارٍ داخلي وخرج صوتها بنعومة ودلالٍ متعمد:
-نوح هو انت فوق في العيادة؟
جاءها رده سريعًا تتخلله لهفة حاول أن يخفيها، لكنه فشل:
-اه موجود، لسه واصل من شوية.
تنهدت براحةٍ مصطنعة وأجابت بسعادة مفتعلة:
-طيب الحمد لله إنك موجود، هو ممكن اطلع بس ادخل التواليت انت عارف الحمل مأثر عليا وكل شوية محتاجة ادخل.
-طبعًا اطلعي...استنى هنزل آخدك.
بادرت بالرفض وهي تعقب بنبرة خجولة مغلفة بالغنج:
-لا لا متتعبش نفسك، انت بس استناني على باب الأساسنير.
-حاضر.
أغلقت الهاتف ونهضت من مكانها بخفة محسوبة، ثم مشت صوب البناية بخطى هادئة صاعدةً في المصعد نحو الطابق الذي يضم عيادة نوح، وما إن فُتح الباب حتى وجدته واقفًا بانتظارها كما توقعت، فمدت إليه يدها برقة، فالتقطها كمَن عثر على كنز ثمين وبدأت عيناه تتجولان على وجهها يرصدان أدق التغييرات التي طرأت عليها منذ لقائهما الأخير.
اقتربت منه، وكأنها تستمد منه دعمًا وهميًا وهمست أمام نظراته المتلهفة بعبارة رقيقة:
-معلش، بس الحمل المرادي تاعبني.
رد عليها بتعاطفٍ لم يخفه:
-لا ولا يهمك...تعالي.
تمسكت بيده وارتسمت على وجهها ابتسامة ناعمة يغمرها الدلال، وكانت على يقين بأن حسناء ستراها في تلك اللحظة، فما إن خطيا بضع خطوات حتى ظهرت الأخيرة بالفعل، واقفة خلف مكتب الاستقبال، تراقب المشهد بانتباه.
وقبل أن يتقدما أكثر توقف نوح وسألها بصوتٍ يحمل شيئًا من الضيق:
-هو الفستان ده مش ضيق يا يسر؟
كانت متأكدة أنه سيقول ذلك وقد انتظرت سؤاله بشغف، خاصةً حين يأتي أمام تلك "الحرباء" التي تجيد التلون والاختباء خلف ابتسامات مصطنعة، فرسمت على وجهها ملامح الدهشة والتأثر، وقالت بأسف مفتعل:
-بجد...معلش ده أكيد عشان البيبي وبطني كبرت شوية.
ثم مسدت فوق بطنها بدلالٍ كأنها تشير إليه ليؤكد كلامها، فابتسم لها بحبٍ وحنان وهو يتأمل بطنها التي تحمل طفله متجاهلًا عن عمد كل ما جرى بينهما بالأمس.
ساعدها في دخول دورة المياه، وقبل أن تُغلق الباب خلفها، أطلقت إليه جملة اختلط فيها الدلال بالرجاء الطفولي:
-ممكن يا نوح تقف تستناني لغاية ما أخرج، عشان اوقات بيجيلي دوخة وبتعب.
أومأ برأسه دون أن ينطق كمَن وقع في شباكها بالكامل فلم يلحظ حتى أنه واقف أمام باب دورة المياه، ولا أن حسناء باتت بجواره وقد وقفت تردف بصوتٍ مكتوم يغلي بالحنق:
-ادخل انت يا دكتور اوضتك، وأنا هقف استنى المدام.
التفت إليها بعد لحظة وقال بنبرة جادة مختلفة تمامًا عن تلك التي كان يحادث بها زوجته:
-لا...روحي شوفي شغلك، أنا هقف استناها هنا.
قبضت حسناء على كفها غيظًا وهي تسيطر على ما يعتمل داخلها من انفعالات، ثم اتجهت صوب مكتبها وجلست تحاول أن تفك شفرات هذا التحول المفاجئ في يسر، والتي بدا أنها تصالحت مع نوح بالفعل في الليلة السابقة، فلعنت غباءها ولعنت اللحظة التي دفعتها للذهاب إليه ليلة أمس تحديدًا، إذ بدا واضحًا أن كل مخططاتها السابقة باتت مهددة بالانهيار.
مرت دقائق ثقيلة قبل أن تخرج يسر من دورة المياه مستندة على نوح، وقد بدا صوت أنفاسها متسارعًا كأنها على وشك الإغماء، أو لعلها تفتعل ذلك عن قصد، وما أكد شكوك حسناء تلك اللمحة الخاطفة من عيني يسر وهي تتعلق في عنق نوح بنظرة انتصار لا تخطئها عين أنثى مثلها، خاصةً حين طلبت منه أن تجلس في المقاعد المخصصة للزوار أمام مكتب الاستقبال مباشرة.
-مالك يا يسر؟ والحالة بتجيلك بقالها قد إيه؟
سألها نوح بقلق، فأجابته بابتسامة واهنة وهي تمسد بطنها برقة:
-ده أكيد بسبب البيبي يا نوح، وبتيجيلي بقالها كتير.
انعقد حاجباه معًا وهو يسألها بقلق:
-روحتي للدكتور؟
هزت رأسها في دلال أنثوي ناعم وهي تقول:
-اه وقالي أني ضعيفة اوي والبيبي كمان ضعيف، ووصاني اهتم بنفسي.
اغلق عينيه بعدم رضا وهو يتمتم بغيظ:
-وانتي مابتهتميش بنفسك ليه؟ ليه بتهملي في نفسك؟
اقتربت برأسها منه وهي تمسد بيدها فوق كفه بلطف وحنو:
-والله بحاول على قد ما اقدر يا نوح عشان خاطر البيبي....
حذرها نوح بعينيه الصارمة وهو يؤكد عليها سلامتها قبل كل شيء:
-عشان خاطرك قبل البيبي، اهتمي بنفسك الاول.
كانت يسر قد نالت كفايتها من نيران الحقد المشتعلة في عيني حسناء، فمالت برأسها إلى كتف نوح وهمست برجاء ناعم:
-ممكن تاخدني وتأكلني أيس كريم مانجة نفسي فيه.
لم يجبها بل نهض على الفور ومد يده إليها ليساعدها على النهوض، ثم التفت إلى حسناء قائلًا بنبرة صارمة:
-حسناء أجلي كل مواعيدي لبعد ساعة من دلوقتي.
كادت حسناء أن ترد باعتراض لكن يسر سبقتها بنبرة خافتة ومليئة بالأسى:
-نوح أنا كده هعطلك عن شغلك؟
-لا...مفيش أي عطلة، المهم أنتي.
غادرا العيادة وخلفهما تركا حسناء تكاد تغلي من الداخل، عينها تتابع خروج يسر وهي تتعلق بذراع نوح، وكأنها تحكم قبضتها على ما أرادته هي ذات يوم.
وحين غابا عن أنظارها انفجرت شرارتها الخبيثة دفعة واحدة وأخرجت هاتفها وأجرت اتصالًا بخالها قائلة بنبرة ممتلئة بالشر:
-بقولك يا خالي...لو كلفتك تدورلي على ناس يسقطولي واحدة مضايقني...هتعرف ولا هتطلع مالكش لزمة وفشنك.
ثم مالت برأسها إلى الهاتف تهمس بحرارةٍ قاسية:
-لا....المرادي عمولتك حلوة اوي.
صمتت تستمع لما يقوله الطرف الآخر، قبل أن تضرب بيدها على المكتب وتقول بنبرة يملأها الشيطان:
-تبقى يسر مرات دكتور نوح، هبعتلك كل حاجة عنها وعنوانها.
________________
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات
إرسال تعليق