رواية غرام في المترو الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم ولاء رفعت علي
رواية غرام في المترو الفصل السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر بقلم ولاء رفعت علي
ولج للتو من باب الشركة الزجاجي، يستقبله كل ما يقابله من الموظفين بحفاوة و ترحاب لا يخلو من الإطراء و التملق، فهو ابن ربيب عملهم والمدير التنفيذي للشركة، بيده الكثير من الأمور والمسئول الثاني بعد والده مالك مجموعة «Y&N».
صعد عبر الدرج بخفة حتي وصل إلي الطابق المنشود الذي يوجد به مكتب والده أو المكتب الذي يسبق غرفة والده حيث تجلس ذات العيون التي تأسر قلوب الرجال من النظرة الأولي، خبيرة في العزف علي أوتار قلب كل من يقترب منها لاسيما ذوي الأفئدة التي تركض خلف كل ما هو جميل وصعب في آن واحد.
تحمحم قبل أن يعبر الباب، رفعت عينيها عن الأوراق التي تقوم بتحضيرها ريثما يأتي مديرها أو زوجها!
نهضت بخجل متقن للغاية، تنظر إلي أسفل
"مستر نور؟، أهلاً وسهلاً بحضرتك، أنا كنت بخلص مراجعة الإيميلات بعد ما طبعتها، هخلصها وهبعتها لرأفت بيه"
جلس علي الكرسي أمام مكتبها مبتسماً، عينيه تتجول بجرأة سافرة علي ملامحها وجسدها، انتبه إلي انها تلاحظ فحصه الشامل لها، حمحم مرة أخري ليخبرها
"أتفضلي أقعدي يا آنسة سوزي"
ابتسمت وليتها ما ابتسمت، يبدو أن درجات الحرارة ترتفع، ربما المكيف معطل، ألقي نظرة خاطفة وجده يعمل و علي درجة حرارة علي نقيض درجة حرارة جسده للتو.
"أنا جايلك مش جاي للشغل"
علامة استفهام تنضح من عينيها ذات الكحل الأسود القاتم و الأهداب الكثيفة، أكمل دون مقدمات ليس لها فائدة، شخص عملي مثله لايملك وقتاً للمرواغة فالأفضل إليه التحدث مباشرة
"بصراحة من وقت ما قدمتي هنا في الشركة و أنا نفسي أتعرف عليكي أكتر، أقرب منك، اللي حسيته إعجاب و مع الوقت الإعجاب قلب لحب، من الأخر و من غير لف و دوران أنا بحبك وعايز أتجوزك"
※ ※ ※
طرق عنيف بكفيها علي باب منزل شقيقتها وصياح وصل إلي القاصي والداني
"أفتح يا سمير يا عرة الرجالة، بتعمل علي أختي دكر؟!، أفتح و أنا هخليك عبرة يا حيوان"
خرج الجيران ينظرون بشماتة في هذا الجار المؤذي الذي يعتدي علي زوجته بالضرب والشتائم المهينة، اخبرتها احداهن
"ما تسيبهوش غير لما تاخدي حق أختك الغلبانة منه، يا عيني عليها طول الليل عمالة تصرخ و هو عمال يضرب فيها"
ألتفت إليها غرام وبغضب سألتها
"و لما أنتم سامعين اللي بيعملوا فيها الكلب ده، ما كسرتوش الباب علي دماغه و خدوتها و كلمتوني؟"
نظرت السيدة إلي الأسفل بحرج فاجابت الأخري
"ما أنتي عارفة يا غرام اللي فيها، كل ما نيجي نحوشها منه يتجنن علينا وتقوم هي تزعق فينا وتقولنا ملكوش دعوة، واحد ومراته بيتخانقوا، أنتم ليه بتدخلوا في اللي مالكوش فيه"
زادها الحديث غضباً، كأنه وقود انسكب علي النيران فازدادت اشتعالاً، ألتفت نحو الباب في محاولة بائسة
"أفتح يا جبان، خايف مني؟، و الله لو ما فتحت لأنطلك من الشباك و هاجي أجرك من قفاك زي الخروف يا... "
فتح الباب فظهر لها بشجاعة زائفة، يصيح بصوت جهوري
"جري إيه يا بت فيه إيه؟!، هو أنا عشان ساكتلك لأنك أخت مراتي يبقي هتسوقي فيها وتقلي أدبك علي واحد المفروض تقوليله يا أبيه"
"بت ما تبتك، أنا أختي هخلصها منك و من شرك يا شيطان، بس قبل ما أعمل كدة لازم أخد لها حقها، أنت مقطعلها جسمها بالحزام و أنا هقطعلك وشك بالشبشب"
لم تكن لديه فرصة استيعاب ما تفوهت به للتو، في ثوانٍ خلعت نعلها ذو الكعب الثقيل وأخذت تكيل إليه ضربات عشوائية يصاحبها كلمات مهينة إليه، قابل ذلك برفع ساعديه للدفاع عن وجهه ويصرخ بوعيد و سباب يزيدها غضباً وتستمر في ضربه، حتي جذبتها يد ذات قبضة ضعيفة، تصرخ صاحبتها
"كفاية يا غرام"
ابتعدت الأخري تنظر إلي شقيقتها التي أكملت وتقف بينها و بين زوجها في وضع الدفاع عنه أمام الجيران وهند التي أتت برفقة جمال وعاطف حيث لحقوا بغرام قبل أن ترتكب جريمة في هذا السمير
"إيه اللي عملتيه في جوزي ده؟!، أنا مطلبتش منك تاخدي لي حقي"
كان زوجها يتأوه واضعاً كفه علي رأسه التي اصابها جرح من أثر الضرب
"ألحقيني يا حلومتي، أختك المفترية جت فضحتني قدام الجيران و كمان مدت شبشبها عليا، وإيه ده"
نظر إلي كفه وجد الدماء فصاح بهلع يثير ضحك الآخرين
"دم، أختك سيحت دمي يا أحلام"
ألقت غرام نعلها علي الأرض في صدمة غير مبالية لهذا الأبله تسألها
"كنتِ عايزاني أعمل معاه إيه بعد ما شوفت اللي عمله فيكي؟!، أسقفله و أقوله برافو عليك؟!"
ابدت قوة ليست من خصالها
"حتي لو قطعني حتت ملكيش حق تعملي اللي عملتيه، و اللي حصلي يخصني أنا"
لم تصدق غرام مدي ضعف واستسلام شقيقتها
"إيه يا بنتي الضعف و انعدام الكرامة اللي بقيتي فيه ده؟!، لسه بتدافعي عنه و بتحامي له؟!، ده لو ماسك عليكي ذله مش هتعملي كدة في نفسك"
ابتلعت الأخرى لعابها دون أن تظهر التوتر الذي داهم داخلها، أخذت تلتفت من حولها فوجدت الجيران و هند و جمال وعاطف جميعهم ينظرون إليها بامتعاض
"يا ستي أنا حرة، جوزي و بحبه و مش أول ولا أخر مرة بنتخانق، ياريت تاخدي صاحبتك واللي معاها وتمشوا من هنا"
و حدقت إلي جيرانها و صاحت
"و ياريت كل واحد فيكم يخليه في حاله وبطلوا تحشروا نفسكم في حياتي"
هزت غرام رأسها لما تسمعه و تراه، خرج كلا من جمال وعاطف من الفناء، امسكت هند غرام من عضدها تجذبها إلي الخارج
"يلا يا غرام هي اللي اختارت، سبيها براحتها"
و قبل أن تغادر برفقة صديقتها صرخت بوعيد
"عارفة لو قالوا لي يا أحلام إنه بيولع فيكي مش هسأل و لا هعبرك"
تركتها و ذهبت، قلبها يتألم من أجل شقيقتها بالرغم من رد فعلها العجيب و ضعفها المقيت، أخذت تبكي بانهيار، ربتت هند عليها
"بتعيطي ليه مش هي اللي أتجوزته بارادتها برغم رفضكم لجوازهم، و دلوقتي راضية باللي بيعمله فيها، يبقي سبيها تتحمل نتيجة اختيارها"
وقفت الأخري تستند بظهرها إلي حائط مبني قديم
"يا هند أنتي شوفتي بعينيكي اللي عمله فيها، أسيبها لحد ما في يوم يخلص عليها؟!، حب إيه اللي يخليها ترمي كرامتها تحت رجل واحد محسوب علينا راجل، ده ملعون أبو الحب اللي يهين الواحد"
اكتفت هند بهز رأسها أسفاً علي ما يحدث، و داخلها تتذكر ما هي مقبلة عليه، زواجها في منزل حماتها يقلقها للغاية لكن حب جمال لها الدافع الذي يجعلها تطمئن أن لا يسمح بأحد أن يتعدي عليها بقول أو فعل حتي لو كانت والدته.
※ ※ ※
"و بكدة خلصنا Unite 6، و الحصة الجاية عندكم exam علي كل اللي فات"
صدح رنين انتهاء المحاضرة، و كانت ابتسام تلملم دفترها والكتاب و تضعهما داخل حقيبة المدرسة
"ابتسام؟"
انتبهت إلي نداء معلمها، نهضت وأجابت بتوتر
"نعم يا مستر؟"
أشار إليها
"تعالي"
ذهبت إليه وتستمع إلي همس زميلاتها، اقتربت منه فسألها باهتمام
"ماما و غرام عاملين إيه دلوقتي؟"
أومأت إليه بطيف ابتسامة
"الحمدلله بخير، شكراً لحضرتك علي وقفتك معانا امبارح"
ابتسم إليها وفي عينيه آلاف الكلمات تخطها نظرة تجعلها كلما تنظر صوبه يخفق قلبها بشعور غريب.
"كدة أزعل، لأن زي ما قولت مفيش شكر ما بينا، و لو احتاجتي أي حاجة في أي وقت أنا موجود، رقمي عندك علي الملازم، اتفقنا؟"
هزت رأسها بالموافقة، و كادت تستأذن بالعودة إلي المقعد لكنه اوقفه بسؤال تخشي اجابته
"ألا قوليلي، هو مين الشاب اللي كنتِ راكبة معاه الموتوسيكل؟"
"ده، ده يبقي في مقام أخويا و ساكن معانا في الحارة، كان بيوصلني حتي استأذن من ماما"
كان التوتر واضحاً علي ملامحها و يديها المتشابكة في بعضهما البعض، و تجنبها للنظر صوب عينيه وهي تخبره، كل ذلك يعني إنها تكذب، فقال لها بنظرة مبهمة
"تمام يا ابتسام، يلا روحي اقعدي مكانك وماتنسيش ميعاد الدرس بكرة"
"حاضر يا مستر"
عادت سريعاً ومن طرف عينيها وجدته مازال يحدق إليها بنظرة زادت من قلقها أكثر.
※ ※ ※
ولج للتو من الخارج يبحث عن والدته فوجدها تجلس أمام التلفاز وتقطع الخضروات، ألقي التحية فأجابت، جلس بجوارها في تردد فيما سيخبرها به حول موضوع زواجه و المكوث معها في منزل العائلة
"عايز تقول إيه يا جمال؟"
سؤالها أدهشه، نظر إليها بتعجب فتابعت
"أنا مربياك و حفظاك، لما تكون عايز حاجة و خايف لأقولك لاء بتيجي جمبي تقعد وعمال تقول في نفسك أقولها و لا لاء"
أخفي توتره خلف ابتسامة يخبرها
"حبيبتي يا أمي، أنا فعلاً عايزك في موضوع بخصوص... "
ظل متردداً لثوانٍ فقالت له
"عايز تعيشوا أنت و مراتك معايا هنا و خايف لأرفض"
كاد يعقب فقاطعته مردفه
"و مين قالك إن هارفض، بالعكس ده أنا كنت هقولك كدة بس قولت خطيبتك مش هاترضي و خصوصاً أمها اللي ما بطقنيش"
"يا أمي، خالتي أم هند طيبة و بتحبـ... "
قاطعته بإشارة من يدها
"لا عايزها لا تحبني و لا عايزة منها حاجة، أنا كل اللي يهمني هو أنت و بس، طالما مبسوط و مرتاح يبقي خلاص، علي العموم أبقي أعرض الموضوع علي حماك و شوف هيقولك إيه"
"حمايا وحماتي وهند كلهم موافقين"
رفعت جانب شفتيها بتهكم
"و أنا آخر من يعلم؟!"
"لاء أبداً يا أمي، أنا قولت أشوفهم هيوافقوا الأول و لا لاء وبعدين أبلغك، و إيه رأيك أن اللي شار عليا كدة هند بنفسها"
"والله؟!، طيب ماشي"
شعر بأن والدته لم تصدقه، لأنه يدرك جيداً ما بين حبيبته وبين والدته من مشاحنات ومواقف سابقة تركت سد منيع بينهما.
"طيب و ربنا هي اللي قالتلي تعالي نتجوز مع أمك لحد ما ربنا يفرجها عليك و ناخد إيجار برة، حتي أنا ذات نفسي استغربت"
"من غير ما تحلف يا ولاه أنا مصدقاك، و ما تقلقش أنا هابقي أمها التانية"
"بجد يا أمي؟"
ينضح الفرح من عينيه فأجابت بتوكيد
"طبعاً طبعاً يا حبيب قلب أمك، و حتي كمان هسيبكم أول أسبوعين وهاروح أقعد عند أختك دلال، أهو مني أونسها بدل ما قاعدة لوحدها لحد ما جوزها يرجع من السفر و منها أخد بالي منها"
و بسعادة عارمة عانق والدته
"حبيبتي ياماه، ربنا ما يحرمنا منك يا غالية"
ربتت علي ظهره بقوة
"و لا منكم أنت و أخواتك يا غالي يا ابن الغالي"
وإذا اختفت النوايا في الصدور، يكفي ما تبوح به العيون من ما يدور.
※ ※ ※
تخرج الطالبات من البوابة المفتوحة علي مصراعيها، وبمجرد أن عبرت منها سمعت هاتفها يصدح بالرنين، فما غيره الذي يتصل بها منذ الصباح وهي لا تجيب عليه، مما جعلته ينتظرها بالقرب من المدرسة.
"واقفة ليه يا بوسي، يلا تعالي هنركب توكتوك"
"معلش يا سمر روحي أنتي أركبي معاهم، أنا هاتمشي عشان هاشتري حاجات لماما"
"تمام، خدي بالك من نفسك، يلا سلام"
اومأت الأخرى إليها وسارت بخطوات سريعة إلي احدى الشوارع الجانبية الشاغرة من المارة
و لم تنتبه إلي زوج من العيون الرمادية تراقبها.
و إذا بقدميها ولجت إلي الشارع الهادئ لتجيب علي الإتصال فشعرت بيد علي كتفها تدفعها برفق نحو مدخل بناء مهجور، شهقت بخوف
"عثمان؟"
كان الغضب يندلع من عينيه
"أيوة الزفت اللي عمال يتصل عليكي من إمبارح و أنتي منفضاله، و الصبح و أنتي رايحة المدرسة عمال أشاورلك تقابليني في الحتة بتاعتنا كبرتي دماغك و روحتي مشيتي مع صاحبتك"
"امبارح زي ما أنت عارف اللي حصل مع غرام و الحمدلله الموضوع أتحل ورجعنا و مكنش ينفع أرد عليك، و الصبح حصل برضو حوار عند أحلام أختي حتي سيبتهم و مشيت عشان ما أتأخرش، يعني كله كان غصب عني"
كانت نبرتها توحي أنها علي وشك نوبة من البكاء، زفر بضيق من حاله، اقترب منها ووضع يده علي ذراعها
"خلاص حقك عليا ما تزعليش، أنا بس كنت قلقان عليكي"
قد سارت قشعريرة يصاحبها حذر من لمسته علي عضدها، أبعدت يده
"أوعي إيدك أنا زعلانة منك، عشان مش أول مرة تقعد تزعق فيا، ده غير بشوف في عينيك نظرات شك أن بكذب عليك"
"مين قال كدة، أقسم بالله أبداً، ده أنا ممكن أشك في الناس كلها إلا أنتي، أنتي روحي يا بت"
نظرت إلي أسفل بخجل فصاح مهللاً
"الله أكبر علي حلاوة مراتي يا ناس"
اتسعت عينيها بصدمة
"مراتك؟"
"أيوة بعتبرك مراتي قدام ربنا، ادعيلي بس أموري تتظبط و أجي أطلب إيدك من خالتي عزيزة"
انقباضه في قلبها حدثت للتو، فهو ليس الشخص الذي تتمناه، كم تحلم بأن تتزوج من رجل خارج الحارة البائسة، ذو مهنة تفتخر بها أمام عائلتها ومعارفها، و ليس صبي ميكانيكي يحصل علي أجرة يومية تكفي مصاريفه الخاصة.
"مالك ساكتة ليه؟، أنا افتكرتك هتزغرطي من الفرحة لما قولتلك هاطلب إيدك"
اتقنت إظهار ابتسامة علي شفتيها يتبعها قولها
"بالعكس، أنا فرحانة ومبسوطة جداً، بس كل اللي طلباه منك تصبر شوية لحد ما أدخل الجامعة، مش هاينفع أتجوز و في نفس الوقت أدرس، هيبقي صعب عليا"
ابتسم ليلقي عليها مخططه
"عادي يا حبيبتي نتجوز وتدرسي وأنتي معايا، و بين إيديا و في حضني و... "
توقف عن الحديث ليفاجئها بالتقاط شفتيها في قبلة حميمية، دفعته بكل قوتها
"قبل كدة عملتها وحذرتك إنك لو كررتها تاني مش هاتشوف وشي بعدها"
"حقك عليا يا بوسي أنا والله... "
كاد يقترب منها بندم فصاحت وتبتعد بمسافة
"إياك تقرب مني، المرة اللي فاتت وعدتني، و برضو مفيش فايدة"
تركته وغادرت مدخل البناء المهجور لتجد أمامها آخر ما تتمني أن تراه في تلك اللحظة، نبضات قلبها وكأنها علي وشك أن تتوقف ولسانها يتفوه بصوت يكاد يكون مسموعاً
"مستر حسن؟"
※ ※ ※
ولج من الباب الزجاجي و وجهه ينذر بما هو جاء من أجله، قد قرر أن لا يصبح تحت ضغط تهديدات والده مرة أخرى بل مرات عديدة.
"مستر يوسف"
كان نداء احدى الموظفات تلحق بخطواته السريعة حتي وصل إلي المصعد، توقف أمامها يرفع يده برفض
"أي حاجة عايزة تبلغيني بيها أطلعي قوليها لمستر نور أو رأفت بيه"
ولج إلي داخل المصعد وضغط علي زر الصعود فأنغلق الباب أتوماتيكياً أمام الفتاة التي عادت إلي غرفة المكتب بين زملائها و تخبرهم بما قاله لها يوسف، الابن المُدلل لدي عائلة الشريف.
و لدي رأفت الشريف يجلس خلف مكتبه، يراجع بعض الأوراق وبجواره تنتظر مساعدته ريثما ينتهي من توقيعه علي كل ورقة منها
"أعملي حسابك بكرة هنسافر نقضي يومين في الساحل"
دنت منه وقامت بتقبيل خده
"حبيبي يا فوفو، ربنا يخليك ليا يا بيبي"
حدق إليها بحزم يوبخها
"اللي حصل دلوقت أخر مرة يحصل هنا في الشركة، فاهمة؟"
أومأت إليه و الحزن جلي علي وجهها، أمسك يدها و كاد يخبرها معتذراً من أسلوبه الحاد معها، لكن فُتح الباب فجأةً دون أن يسبقه طرق أو استئذان ليظهر يوسف الذي صوب بصره نحو يد والده التي تمسك بيد مساعدته و علي مقربة شديدة من بعضهما البعض.
حمحم والده تاركاً يد مساعدته
"خدي أنتي الأوراق و روحي راجعيها"
لملمت الأوراق وعينيها لا تبرح عينين يوسف الذي يرمقها بنظرة اربكتها، عادت بالنظر إلي رأفت قائلة
"حاضر يا فندم"
و ذهبت أمام يوسف، فكان يجز علي أسنانه فهو ليس أحمق حتي لا يدرك ماهية ما رآه، هناك ما يفعله والده سراً.
"مش عيب يا أستاذ يا محترم تدخل عليا من غير ما تخبط الباب و تستني لما أسمحلك تدخل و لا لاء؟!"
عقد ساعديه أمام صدره و يتحدث من مركز قوة
"معلش يا رأفت بيه لو كنت قطعت علي حضرتك قعدتك مع سوزي السكرتيرة"
نهض والده يصيح بغضب
"أنت إزاي بتتكلم معايا كدة يا ولد؟!، أنت نسيت نفسك و لا إيه؟!، أنا ممكن... "
رفع يوسف يده ليقف والده عن إكمال تهديده المعتاد
"كفاية بقي كل ما نشد مع بعض تقعد تهددني بأنك هاتسحب مني العربية ورصيدي اللي في البنك، أنا أصلاً سيبتلك العربية في الفيلا و الكريدت كمان، أنا جيتلك النهاردة عشان أقدملك إستقالتي"
أخرج من جيب سترته الداخلي ورقة ووضعها فوق المكتب
"أتفضل"
همّ بالذهاب أوقفه والده
"استني عندك"
سار نحوه وكان الآخر يتحاشى النظر مباشرة إلي والده الذي أخبره
"أنا لو أب قاسي زي ما بتروح تقول لمامتك، كان زماني رزعك قلمين علي وشك دلوقت وندهتلك الأمن يطردوك قدام الموظفين عشان ما يبقاش ليك عين تدخل الشركة تاني"
"أنا... "
قاطعه والده بحدة
"أنا لسه مخلصتش كلامي، أنا هحاول أتغاضي عن أي حاجة صدرت منك و لا كأني سمعت، و لأخر مرة مفيش بعدها مرة تانية، هديلك يومين تفكر فيهم، يا تعقل وترجع لمكانك في الشركة وتكمل نص دينك يمكن ربنا يهديك، يا إما أقسم بالله لهتشوف مني وش ما شوفتوش قبل كدة، مش هقولك إسطوانة كل مرة، لكن هتتفاجىء باللي عمرك ما هتتخيله، وأنت عارف أبوك كويس لما بيهدد مرة التانية بينفذ"
لم يستطع أن يتحمل توبيخ والده أكثر من ذلك، و حتي يضمن أن لا يتهور بحديث يجعله يخسر والده غادر غرفة المكتب، وقفت سوزي عندما رأته فحدق إليها بازدراء وذهب.
اصطدم بشقيقه في طريقه
"يوسف، اسـ... "
لم يقف يوسف إليه ومضي سريعاً، تعجب نور لأمر شقيقه، ذهب إلي والده ليعلم منه ما حدث، و قبل أن يفعل ذلك نظر إلي سوزي التي عندما رأته انخرطت في البكاء، اقترب منها قلقاً عليها
"مالك يا سوزي فيه إيه؟، بابا زعلك أو يوسف؟"
قد قررت استغلال إعترافه بحبه إليها، وجدتها فرصة لا تعوض، فوالده غير مضمون و لا يعطي لها كل ما تريده من مال أو غيره من سيارة أو منزل، يكفي أنها زوجته في السر و عرفي أيضاً حتي لا يصبح لها حق في الإرث.
رفعت وجهها وأخذت تمسح بالمحرمة دموعها لتظهر أمام نور بالضعف لتمتلك قلبه أكثر
"مستر يوسف كان لسه عند رأفت بيه و شكلهم كانوا بيتخانقوا و أول ما خرج من المكتب بص لي من فوق لتحت بقرف من غير ما أعمله أي حاجة"
اقترب منها أكثر و أخرج من جيبه محرمة وأخذ يمسح لها دموعها
"معلش بالتأكيد مكنش يقصد، حقك عليا أنا، ممكن عشان خاطري كفاية دموع"
اقترب منها أكثر فأكثر حتي كادت تصبح بين ذراعيه يخبرها مردفاً
"ما أقدرش أستحمل دموعك، قلبي بيوجعني لما شوفتك في الحالة دي"
توقفت عن البكاء وداخلها يتراقص مثل الحية عندما تصل إلي هدفها، نظرت إليه و بصوت أنثوي رقيق للغاية
"مستر نور، أنا موافقة علي طلبك"
تراجع خطوة للوراء والدهشة تعلو ملامحه
"قصدك موافقة تتجوزيني؟"
هزت رأسها بالإيجاب وأخبرته بدهاء
"اه، بس علي شرط نعمل فترة تعارف زي الخطوبة نقرب منها انت تعرفني و أنا أعرفك"
اتسع ثغره بابتسامة عارمة
"شرطك أمر و أنا تحت أمرك يا روح و قلب نور"
"و فيه حاجة تانية كنت عايزة أعرفها"
"قولي يا حبيبتي"
"مراتك هاتعرف و لا أنت هتخبي عليها و جوازنا هيبقي في السر؟!"
برغم ما يشعر به من توتر عندما أتت له بذكر زوجته وعواقب قراره الأهوج، لكنه تحلي بالشجاعة والعزم أمامها
"أيوة هاقولها بس بعد ما نتجوز، و ما تقلقيش مش هتعمل أي حاجة، بالنسبة بقي لبابا... "
داهم الخوف قلبها فقاطعته
"لاء، قصدي بلاش رأفت بيه يعرف بأي حاجة، أقل حاجة هيعملها معايا هيطردني من الشركة"
ابتسم مرة أخرى مما جعلها تتعجب من رد فعله الغريب، أوضح لها
"ما أنا كدة كدة أول ما هنتجوز هاقعدك من الشركة، و ما تقلقيش ليكي كل شهر مبلغ أضعاف مرتبك اللي بتاخديه هنا، غير العربية، غير الشقة أو الفيلا اللي هتشاوري عليها"
كم هي نادمة أنها عجلت في الموافقة علي الزواج من هذا الرأفت وبيع نفسها له بثمن بخس، و ها هو نجله كالمارد الذي يريد تحقيق كل أحلامها و هي من تملي شروطها أيضاً و ليس هو كما فعل معها والده.
"سرحتي في إيه يا سوزي؟"
انتبهت إليه وعادت من أفكارها الشيطانية قائلة
"بتخيل حياتي معاك هتبقي إزاي"
أمسك يدها يخبرها
"هتبقي جنة"
صدح رنين هاتف المكتب، ابتلعت ريقها وقالت
"ده رأفت بيتصل"
"ردي عليه و أنا كدة كدة راجع علي مكتبي، هاتصل عليكي بالليل نكمل كلامنا"
"تمام"
نظرت إليه مبتسمة، و بعد أن ذهب تلاشت ابتسامتها وجلست علي الكرسي تفكر كيف تلعب علي كلا الجانبين دون خسائر، بينما الضمير لديها في سبات بل في غيبوبة لن يستيقظ منها قط.
※ ※ ※
تجلس بجوار النافذة شاردة فيما يحدث من حولها، خسرت عملها الذي تقتات منه ورقات من المال تساعد مع معاش والدها، تُتهم بالسرقة وهي لن تقبل قرشاً من الحرام و ذلك كان ثمناً لأنها دافعت عن عرضها بكل ما أوتيت من قوة، و هناك أكبر همومها وهو أمر شقيقتها التي أصبحت كالجارية يفعل زوجها ما يشاء بها، ضرب، إهانة و هي تتقبل كل ذلك بصدر رحب، يكفي إنها تعيش علي ماله الآتي من بيع المخدرات، حرام يدخل البيت فيقلب حياتهما للجحيم فما العجب في ذلك؟!، و آخر الهموم كلما ذهبت إلي كل متجر للعمل يعتذر إليها صاحب المتجر بأنه ليس لديه وظيفة شاغرة لديها فتعود خالية الوفاض.
"بت يا غرام"
كان صوت سماح الذي وقفت أسفل النافذة فأنتبهت إليها الأخرى بنفاذ صبر
"نعم يا سماح عايزة إيه؟"
"مالك ياختي متزرزره عليا كدة ليه؟!، الحق عليا جايبلك شغل وفلوسه حلوة أوي، أحسن من مرمطك في المتروهات بشوية عبايات مضروبة"
زفرت الأخرى بضيق أوشك علي الغضب
"انجزي يا سماح وقولي"
اقتربت من حافة النافذة تخبرها بصوت خافت تسمعه غرام فقط
"بصي هبعتلك رقم واحدة علي الواتس هتتواصلي معاها، هي من أمريكا بس بتتكلم لبناني علي فلسطيني أو أردني، ما تفهميش جنسيتها إيه بالظبط، المهم هاتطلب منك بياناتك وصورة ليكي و هتبلغك بالمطلوب منك"
"و يا تري هي مين الست دي و إيه اللي هاتطلبه مني؟!"
تراقب الأجواء من حولها حتي لا يسمعها أحد سوي غرام
"بصي اسمعيني للأخر من غير ما تقطعيني، هي كل اللي هتطلبه منك مقاطع فيديو ليكي مخبية وشك و لا بسه هدومك عادي مرة وأنتي بترتبي أوضتك، مرة و أنتي بتطبخي، أي حاجة أنتي بتكنسي مثلاً أو بتمسحي، بس تكوني باينة كلك علي بعضك، و هتاخدي علي المقطع الواحد 200 دولار، و أنتي و شطارتك لو عملتي مقطعين و لا أربعة و لا خمسة في الأسبوع الواحد، أحسبي بقي كمان لما يتحولوا بالمصري"
عقبت الأخرى بسخرية
"و يا سلام بقي لو الهدوم خفيفة و اللي تحتها باين و لا تكون مبلولة و لازقة عشان تجيب فلوس أكتر صح؟"
ابتسمت سماح كالحمقاء
"برافو عليكي، طول عمرك ناصحة"
هنا لن تعد غرام في تحمل أمر أخر، صاحت بصوت وصل إلي جميع سكان الحارة
"بقولك إيه يا سماح، أنا سيباكي يا حبيبتي تتكلمي و تقولي كل اللي عندك عشان أقطع الشك اللي جوايا و أكذب اللي بسمعه عنك علي كل لسان رجالة وشباب حتي الصبيان الصغيرة في الحارة، أتاريهم عندهم حق و ما خفايا كان أعظم، عايزاني أعمل زيك ألبس المحزث و الملزق والشفاف و أتصور فيديوهات عشان إيه، شوية دولارات أخسر بيهم دنيا وأخرة و سمعتي؟!"
كانت تتوقع أن الأخرى تبتعد أو تخشي الرد لكن حدث نقيض ذلك
"مالك يا بت شايفة نفسك عليا كدة ليه، فاكرة نفسك مين يا ختي، و الكلاب اللي بيجيبوا في سيرتي أخواتهم وأمهاتهم فيديوهاتهم مالية التيك توك يعني لا تعايرني و لا أعايرك، و اللي بيته من إزاز ما يحدفش الناس بالطوب يا عينيا"
تجمع المارة وبعض الجيران فتدخل سعيد شقيق غرام
"أخواتنا وأمهاتنا أشرف منك يا سماح، و لا الوسخ فاكر كل الناس وسخة زيه"
صاحت غرام في شقيقها
"واد يا سعيد ما تدخلش في الكلام و أدخل جوة"
ثم ألتفت إلي سماح و تمسك بخشب النافذة قائلة
"و أنتي يا أخت سماح روحي أتكلي علي الله ربنا يهديكي أو يهدك، المهم تريحنا منك، عن إذنك"
اوصدت النافذة في وجهها و تركتها تتشدق كالتي فقدت عقلها حتي توقفت عن الصياح عندما رأت عاطف يحدق نحوها بازدراء.
※ ※ ※
في صباح اليوم التالي...
"واد يا سعيد، بت يا ابتسام قوموا يلا جهزوا نفسكم عقبال ما أعملكم الفطار والسندوتشات"
تناديهم والدتهم، و كانت غرام مازالت مستيقظة منذ الأمس، لم تأكل و لم تملك الرغبة في التحدث مع أحد، أثرت الصمت حتي لا تزيد من الآلام داخلها، و كيف لا تزيد و تجد كل أبواب العمل مغلقة مهما سعت إليها.
اكتفت ابتسام بالرد علي والدتها
"ما تعمليش حسابي يا ماما، أنا مش رايحة المدرسة النهاردة"
و صدح صوت سعيد أيضاً
"و أنا مش رايح عشان المستر حلف علينا إمبارح اللي مش هيدفعله فلوس المجموعة مش هيدخله المدرسة"
ولجت والدتهم إلي الغرفة تسأل ابنتها
"و أنتي يا ست ابتسام يا أم ثانوية عامة، مش هاتروحي ليه؟"
لو تعلم السبب الحقيقي لعدم ذهابها إلي المدرسة و هو تخشى و تخجل في آن واحد من رؤية معلمها الذي رآها تخرج من منزل مهجور و خلفها عثمان يناديها، تلاقت عينيها برماديتين حسن الذي حدقها بغضب شديد، لم تملك الشجاعة لتكذب علي سبيل الدفاع عن نفسها، و اختارت الفرار من أمامه غير مكترثه لنداء عثمان.
"تعبانه شوية و مش قادرة، و بعدين معظم اصحابي مش بيروحوا، أنا اللي بيخليني أروح عشان ما باخدش درس غير الإنجليزي و الرياضة و باقي المواد معتمدة علي شرح المدرسين اللي ما بيشرحوش أصلاً"
نهضت غرام و أخيراً تخلت عن صمتها
"واد يا سعيد قوم ألبس و روح و أنا إن شاء الله قبل جرس المرواح هتلاقيني عندك، هدفعلك الفلوس"
و أخبرت شقيقتها
"و أنتي شوفي عايزة تاخدي درس في مواد إيه و مع مين و قوليلي المبلغ المطلوب و هيبقي عندك علي بكرة"
"و هاتجيبيلهم منين يا بنتي، ده المعاش فاضل منه 500 جنيه و إحنا يا دوب في نص الشهر"
كان حديث عزيزة وتشعر بالحزن نحو ابنائها، فهي تعجز عن تقديم لهم كل ما يحتاجونه، فهي صاحبة مرض مزمن يجعلها غير قادرة علي العمل.
كانت غرام قد فتحت الخزانة و أخذت المال المتبقي معها و مدت به يدها إلي والدتها
"اتفضلي يا أمي خلي دول معاكي وبإذن الله هتفرج من عند ربنا"
و نظرت نحو حقيبة الملابس المليئة بملابس قد اشترتها و قامت بتخزينها إلي أن تصبح عروسا!
※ ※ ※
و في مكان آخر في حي المعادي كان قد استيقظ للتو من أجل الذهاب إلي عمل مقابلة في إحدى الشركات، بعد أن رأي الإعلان عن طلب مديرين تسويق علي صفحة خاصة بالوظائف علي موقع التواصل الإجتماعي الشهير.
"أنت رايح فين علي الصبح يا يوسف؟"
ألتفت الأخر إلي صاحبه و أخبره
"رايح interview في شركة طالبة التخصص بتاعي"
اقترب منه صاحبه متعجباً
"أنا هاتجنن منك، يبقي باباك رأفت بيه الشريف صاحب أشهر براند في مصر و مصانع وسلسلة محلات في كل محافظة و رايح تقدم علي شغل في شركة تانية يا عالم دول صادقين و لا نصابين؟!"
انتاب الأخر حالة من الضيق فنظر إلي صاحبه بامتعاض
"لأن ما بحبش التحكمات والتهديد كل شوية، و أنا هوري بابا و نور إن من غيرهم قادر أعيش و اعتمد علي نفسي"
"غلط يا يوسف، أنت صاحبي و بعزك جداً، و والصاحب لما بيشوف صاحبه في شدة يقف جمبه و يقدم له النصيحة اللي توصله لبر الأمان، و الأمان أنك تكون مع عيلتك، تكون في ضهر باباك و أخوك، هم عايزين مصلحتك و أنت فاهمهم غلط، أدي لنفسك فرصة تانية وقرب منهم مش يمكن حالك يبقي أحسن؟!"
ابتسامة ساخرة غزت شفتيه
"الأحسن إن أعمل نفسي بنفسي، مش أعتمد علي حد حتي لو كانوا أهلي"
※ ※ ※
"أي عباية وأي فستان بـ 200 جنيه وبس، يلا عرض خاص و مش هايتكرر، كل قطعة بالتيكت بتاعها، و اللي هتاخد 3 قطع هعملها خصم 100 جنيه"
ظلت تكرر حديثها داخل القطار و تقوم بعرض الثياب أمام أنظار السيدات و الصبايا، تم بيع القليل من القطع و بدأ توافد النساء عليها للشراء، توقف القطار في المحطة و ولجت بائعة علي معرفة بها، اقتربت منها لتخبرها بهمس
"انزلي المحطة الجاية عشان اللي بعدها فيها تفتيش، و الظابط المسئول هناك أجارك الله من رخامته وشره"
"تسلميلي يا حنان"
لملمت سريعاً الثياب من أيادي السيدات
"معلش يا جماعة أنا هنزل المحطة الجاية"
و في مكان آخر ليس ببعيد يقف في حيرة من أمره بعد أن كاد يطلب رحلة من تطبيق التوصيل للذهاب إلي الشركة، وجد المبلغ المطلوب أكبر من ما يملكه حالياً.
ألقي نظرة علي عنوان الشركة فوجده يقع بالقرب من محطة قطار تبعد عن الحي بثلاث محطات، أخذ يلتفت حوله فوجد إنه علي مقربة من محطة المعادي، شعر بالجوع فهو لم يأكل منذ أمس، وجد مطعم خاص بعمل الشطائر و الأكلات الشعبية كالفول و الفلافل،
ذهب وقام بشراء اربع شطائر جبن مقلي و سار نحو المحطة من الخارج باحثاً عن مكان ليجلس فيه و يتناول فطوره، وجد متجر لبيع العصائر الطازجة يوجد به مقاعد للإستراحة، جلس بعد أن طلب من البائع
"عصير قصب لو سمحت"
سأله الرجل
"صغير و لا كبير يا كابتن؟"
نظر إلي ما تبقي معه من مال وقال
"صغير وعايز إزازة مياه"
أشار الرجل إليه نحو براد عرض المشروبات الباردة وزجاجات المياه المعدنية
"أتفضل عندك أزايز المياه في التلاجة"
رفع جانب فمه بسخرية، يتحدث بتهكم علي ما يحدث معه
"فينك يا منيرة هانم، تيجي تشوفي ابنك مش معاه يركب أوبر و هيشرب عصير قصب"
أخذ زجاجة المياه من البراد و جلس علي المقعد ليتناول الشطائر أولاً.
و أمام المتجر علي الجهة المقابلة تقف وتحمل الحقيبة البلاستيكية المليئة بالثياب، تشعر بالعطش الشديد و بعض الدوار، فهي لم تأكل أيضاً منذ أمس و ربما من قبل.
عبرت الطريق وذهبت لتستريح قليلاً علي مقعد شاغر، ترفع يدها إلي البائع
"لو سمحت يا عم جمعة واحد قصب صغير و كوباية ميه"
ابتسم إليها البائع قائلاً
"يا صباح النور، عاش من شافك يا غرام، بقالك فترة ما بتجيش"
"ما بنزلش المعادي كتير، ما أنت عارف الناس هنا ما لهمش في البضاعة اللي بتلف المترو، دول زباين سيتي ستارز، كايرو فيستڤال، شغل ماركات عالية مش شغل التقليد و لا المحلي اللي معانا"
كان الذي يتناول فطوره منتبهاً إلي الحديث خاصة مع صاحبة الصوت المألوف لديه، يريد رؤية وجهها لكنها تجلس موليه ظهرها إليه
بينما عقب عم جمعة
"و الله يا غرام ما كلهم، ما تخدعكيش المظاهر، ممكن واحد لابس بدلة شيك و أحدث موديل لزوم الوجاهة لكن لو دورتي في جيبه معهوش غير حق المواصلات"
توقف الأخر عن الأكل و حدق إلي البائع بحنق، يقول في نفسه
"يا عم ده أنت لو قاصد تلقح مش هتقول كدة"
ردت غرام علي حديث البائع قائلة
"علي رأيك يا عم جمعة، ربنا عالم بحال كل واحد فينا، ربنا يرزقنا جميعاً"
"آمين يارب"
أخذت الكوب و شربت العصير و يليها كوب الماء
"عايز حاجة مني يا عم جمعة؟"
أخرجت ورقة بفئة الخمس جنيهات و تعطيها إليه، رفع الأخر يده برفض
"و الله ما هاخد و لا مليم، و مش عايز حاجة منك غير تيجي تسلمي عليا، و لا محتاجة أي حاجة أنا زي والدك الله يرحمه"
ابتسمت الأخرى واخبرته بإمتنان
"تسلم الله يباركلك"
رفعت الحقيبة الكبيرة واستدارات لتغادر فتعثرت في مقعد مقلوب، وقعت الحقيبة وتناثرت أغلفة قطع الثياب و هي كانت علي وشك أن تقع، نهض يوسف وأمسك ساعدها
"حاسبي"
نظرت إليه و اتسعت عينيها، تمتلك ذاكرة حديدية، سرعان قامت بالتعرف عليه
"أنت اللي كان مقبوض عليك أداب في قسم دار السلام أول إمبارح؟"
جز علي أسنانه بحنق ثم وجه إليها إهانة مماثلة
"ما أنا برضو فاكرك، مش أنتي اللي كان مقبوض عليكي في تهمة سرقة برضو؟"
ابتسامة صفراء زينت ثغرها يليها رد هازء
"دي كانت تهمة متلفقة و الحمدلله أفرجوا عني بعد ما ظهرت برائتي، الدور و الباقي علي الممسوك أداب"
كان سيخبرها بدفاع عن حاله إنه لا علاقة له بتلك التهمة و لا يعلم لما يبرر لها، لكن ما لفت انتباهه بقوة أغلفة الثياب المدون عليها العلامة التجارية الخاصة بشركات والده، أخذ القطعة و دقق النظر في البيانات المدونة علي الغلاف، أخرج الثوب منه و قام بلمسه و فحصه ليكتشف أن تلك القطعة تقليداً لما ينتجونه.
"هات الفستان خليني أمشي، و لو هاتشتريه بـ 200 جنيه"
ابتسم إليها وعقب ساخراً
"يعني مقلدين براند أقل فستان فيه ما يقلش عن 2000 جنية و كمان بتبيعوه بـ 200، لاء واضح إنك بريئة من السرقة بس نصابة كبيرة"
ارتجفت من داخلها لكنها صاحت في وجهه
"أنت بتبرطم بإيه يا جدع أنت، أنا و لا حرامية و لا نصابة، أنا شارية الهدوم دي من محل عندنا، روح أسألها بنفسك لو مش مصدقني"
اختطف الحقيبة من يدها و بيده الأخرى يجري مكالمة هاتفية
"أيوة يا نور، هابعتلك الـ location تعالي و هات معاك المسئول القانوني والرجالة و تعالوا بسرعة"
"هببت إيه تاني يا يوسف؟"
ابتسم بظفر و يرى غرام تقف أمامه تحاول استيعاب ما يتفوه به، أجاب علي شقيقه
"لاقيت مين اللي بيضرب بضاعتنا في السوق"
يتبع...
*الفصل السادس*♥🚉
ترجل من سيارة أجرة ويجذب يدها عنوة فصرخت به و تسحب يدها من قبضته
"أوعي إيدك، أنا قولتلك مليش دعوة بمين بيقلد حاجتكم، أدخل لمدام رشا و أسالها"
أشارت إليه نحو متجر رشا، حدق يوسف إليها بوعيد
"كله هيبان دلوقت، اتفضلي قدامي"
ذهبت وهو يتبعها حتي ولج كليهما إلي الداخل، ترددت غرام قليلاً قبل أن تنادي صاحبة المتجر التي تقوم بضبط وضع البضاعة علي الرفوف
"مدام رشا"
استدارت الأخري إليها و ما أن رأتها صاحت بعدائية
"غرام!، أنتي إيه اللي جابك هنا؟، مش حبستي أخويا جاية عايزة تلبسيني مصيبة أنا كمان؟!"
تصدر يوسف هنا ليجنب غرام الحديث مع تلك المرأة
"أنا اللي جاي لحضرتك"
نظرت الأخرى إليه و سألته بنبرة هازئة
"و أنت مين أنت كمان؟"
"أنا يوسف الشريف، المدير التسويقي لشركة وبراند Y&N"
لم تكن تتمتع بفطنة أو سرعة بديهة
"نعم برضو حضرتك عايز إيه؟"
"عايز أعرف فين المصنع اللي بيتوردلك منه البضاعة المضروبة وتقليد للبراند بتاع مصانعنا"
صاحت بنفاذ صبر بعد أن شعرت بالاتهام
"و أنا مالي ببضاعتكم اللي بتتقلد، أنا واحدة صاحبة محل و بشتري البضاعة من تجار الجملة أو الموردين ليهم"
زفر يوسف بنفاذ صبر من تلك الحمقاء
"ما أنا عارف يا... "
تابعت هي
"مدام رشا"
"بصي يا مدام رشا، الموضوع و ما فيه إحنا بقالنا فترة بنتحارب من كذا إتجاه من ضمن الحرب واحد صاحب مصنع من بتوع بير السلم، بيقلد تصاميم البراند بتاعنا و من بجاحته منزلها بتيكت إسم المجموعة عشان الناس تصدق إن الهدوم فعلاً من عندنا، الناس البسيطة هتصدق خدعة النصاب، لكن الناس اللي متعودة تشتري من فروعنا عارفين الفرق ما بين الأصلي و التقليد"
تنهدت الأخرى وهي تنظر نحو غرام تارة ثم تعود بالنظر إلي يوسف لتخبره
"أنا هكتبلك عنوان المصنع واتصرف أنت معاه"
قامت بتدوين العنوان إليه ثم نزعت الورقة تعطيها إليه
"أتفضل"
أخذها وأمعن النظر في العنوان المدون
"شكراً، و آسف علي الإزعاج"
غادر المتجر وأجري اتصالا هاتفياً
"ألو يا نور؟... بقولك أبقي هات الرجالة عشان لو حصل أي أمر طارئ... أنا هابعتلك العنوان في رسالة... يلا سلام"
أنهي المكالمة و ألتفت إلي غرام فقالت له
"صدقتني بقي؟"
شعر بالحرج من معاملته القاسية معها و اتهامه إليها دون دليل، وجد عليه الاعتذار، ظهرت علي وجهه ابتسامة
"أنا آسف علي سوء التفاهم اللي حصل مني، لكن... "
صاحت الأخرى بغضب
"سوء تفاهم إيه بالظبط؟!، ما أنا قولتلك أنا مليش دعوة من الأول، لأن إحنا كبايعين سواء محلات أو مندوبين يا دوب آخرنا بنستلم البضاعة و بنبيعها ملناش دعوة بقي مضروبة و لا أصلية"
اقترب منها للغاية وبنظرة يعلم مدي تأثيرها علي جنس حواء قال لها
"و أنا أعتذرتلك، عايزاني أعملك إيه تاني يعني؟"
رفعت احدى حاجبيها بتعجب وظلت تنظر إليه ثم أجابت
"و لا حاجة، أظن كدة خلاص مهمتي انتهت عن إذنك"
"غرام؟"
أوقفها نداءه قبل أن تذهب، لكن أصابتها الدهشة عندما ذكر اسمها التي لم تخبره به بعد، ألتفت إليه و لاحظ دهشتها، علل مخبراً إياها
"مش اسمك غرام برضو زي ما الست اللي جوة نادت عليكي؟"
زفرت بضيق فأجابت
"نعم؟"
أخرج شىء من محفظته الجلدية ومد يده بها إليها
"ده الكارت بتاعي عليه كل أرقامي، لو احتاجتي أي حاجة كلميني"
لم تأخذ البطاقة وأخبرته برفض
"و أنا مش بشحت، أنا بشتغل بياعة علي باب الله وبكسب الفلوس بتعب وشقى"
ابتسم وعقب علي ردها الذي زاده إعجاباً من موقفها الذي ينم عن فتاة ذات عزة وكرامة
"و أنا مش بديكي أرقامي عشان تشحتي مني، أنا أخدت بالي إنك سيبتي الشغل مع اللي اسمها رشا و واضح من رد فعلها أو ما دخلنا عليها إن ما بينكم مشكلة"
"لماح، أيوة سيبت الشغل معاها، لأن ما بحبش الظلم و الإفتراء"
تحفظت بالسبب الرئيسي داخلها وهو ما اقترفه رجب بها من محاولة فاشلة انتهت بزجه داخل السجن.
"و إحنا عمرنا ما ظلمنا حد، و اللي بيشتغل عندنا بنعمله كأنه واحد مننا"
بارقة أمل لمعت أمام عينيها، نظرت في البطاقة ثم أخبرته بشبه ابتسامة
"متشكره يا يوسف بيه"
ذهبت من أمامه فصاح
"هستني تكلميني"
توقفت المركبة ذات الثلاث إطارات أمامها، و قبل أن تصعد داخلها هزت رأسها إليه مبتسمة
※ ※ ※
يصدح رنين الجوال أعلي الكمود، تقلبت بجوار زوجها ثم فتحت عينيها والنوم مازال مسيطراً عليها، لكن عندما رأت هوية المتصل انتفضت ونهضت علي الفور، ضغطت علي الزر الجانبي لكتم صوت الرنين، ألقت نظرة علي رأفت الذي يغط في سبات عميق، تنفست الصعداء و نهضت دون إصدار صوت أو حركة، ذهبت إلي غرفة أخرى وأجابت بصوت خافت
"ألو يا نور بيه"
جاء صوته إليها بلهفة عبر السماعة
"وحشاني أوي، و بعدين إيه نور بيه دي، عمرك شوفتي تقول لجوزها يا بيه؟"
"جوزها!، أنا لسه موافقتش علي فكرة"
"اعتبر ده رفض؟"
"لاء، بس أنا لسه بفكر"
"أنا ممكن أديكي مهلة لمدة يومين، و علي أخر اليوم التاني هستناكي في العنوان اللي هابعتهولك في رسالة، دي هتبقي هديتك الأولي لو وافقتي"
"تمام"
"أنا عارف بتصل في وقت متأخر، بس بصراحة مقدرتش استني لحد بكرة، أصل صوتك واحشني زي ما كل حاجة فيكي وحشاني"
ابتسمت وتلاشت بسمتها حينما سمعت صوت سعال زوجها، أخبرت نجله مسرعة بصوت خافت
"معلش مضطرة هقفل معاك دلوقت، ماما بتنادي عليا، يلا باي"
أنهت المكالمة علي الفور و ذهبت لتطمئن أن رأفت مازال نائماً فوجدته كما تركته منذ قليل، تنفست الصعداء فعادت جواره تتمدد، تنظر نحو زوجها وعلي وجهها ابتسامة شيطانية نتجت عن ما عزمت عليه دون رادع، فالطمع قد أعمي البصيرة لديها وجعلها تنسج شباك من خيوط واهية ستكون فخاً لها لا محالة.
و لدي نور الذي يرسل العنوان إليها عبر برنامج الدردشة الشهير، يشعر بالسعادة فقد اقترب علي تحقيق ما يريده هو، اختياره الحر دون تدخل من والده الذي يفرض عليه كل شيء ويجب عليه السمع والطاعة.
"يا تري مين اللي كنت بتكلمها وخلتك مبسوط أوي كدة"
ألتفت والفزع علي ملامحه، رأي زوجته تقف عاقدة ساعديها أمام صدرها، تنتظر إجابة كاذبة بالطبع
"أنتي هنا من أمتي؟، و بعدين مين اللي سمحلك تتصنتي عليا؟!"
جلست علي مقعد طاولة الزينة، تمسك بالفرشاة تمشط خصلات شعرها المسترسل، تحدق إليه عبر المرآة بنظرة مبهمة يشوبها ابتسامة ساخرة
"ما تقلقش، أنا عارفة من وقت كبير إن فيه واحدة تانية في حياتك، و واضح إنك أنت اللي بتجري وراها"
تركت الفرشاة وأخذت علبة الكريم تأخذ منه القليل وتضعه علي يديها و عنقها، تتابع حديثها
"طبعاً مستغرب إزاي معملتش زي أي واحدة تكتشف خيانة جوزها، تتخانق و تزعق أو تغضب، لكن دول الستات الخايبة اللي ما بتعرفش تاخد حقها بذكاء"
نهض و وقف خلفها ينظر إلي صورتها في المرآة، يسألها بوجه متجهم الملامح
"قصدك إيه؟"
قامت واستدارت لتصبح أمامه وجهاً إلي وجه، علقت ذراعيها حول عنقه، تبتسم بدهاء وتجيب بتحذير يقرب إلي التهديد
"خد بالك يا بيبي، لأن مش هنبهك تاني"
ابتعدت عنه واتجهت نحو غرفة الثياب المتفرعة، تناولت علبة مخملية من إحدى الرفوف ثم عادت إليه وتفتح العلبة، تأخذ منها سواراً مرصعاً بقطع الألماس الباهظة، ترتديها حول معصم يدها وسط صدمته وفكه الذي تدلي، هذا السوار اشتراه من متجر المجوهرات منذ يومين ليهديه إلي سوزي!
رفعت ساعدها أمام عينيه تستعرض السوار بمكر وكيد كاد يقتله من الحنق
"اه صح يا نور، نسيت أقولك mercie يا حبيبي علي هدية عيد جوازنا اللي هنحتفل بيه بعد شهرين، بصراحة زوقك يجنن"
كان يشد كلا من قبضتيه بقوة، ويجز علي أسنانه وعروق عنقه نافرة من دماءه التي تفور من الغيظ، اقتربت منه قبل أن تستلقي فوق الفراش، تهمس إليه
"تصبح علي خير يا نور"
قامت بتقبيل خده وبداخلها تنتشي من لحظة الانتصار وهي تراه مكتوف الأيدي وفي خوف من علم والديه عن أمره الذي يخفيه.
※ ※ ※
ذهب يوسف إلي النادي الخاص بالطبقة الأرستقراطية نظراً للمبلغ الباهظ الذي يدفعه أعضاءه كاشتراك سنوياً.
قد قامت والدته بالاتصال عليه وأخبرته تريد رؤيته لأمر لا يتحمل التأجيل، فذهب ليري ماذا تريد..
تجلس برفقة كاميليا وصديقتها السيدة راندا وابنتها المدللة ماهي التي سألت منيرة
"هو يوسف ليه أتأخر يا طنط؟"
"ما تقلقيش يا حبيبتي، زمانه جاي لسه قافل معايا و قال إنه وصل علي البوابة"
نظرت في شاشة الهاتف للتأكد من ضبط هندامها قبل مجئ يوسف
"أهو يوسف جه"
قالتها كاميليا، رفعت يدها إليه
"تعالي يا يوسف، إحنا مستنينك"
اقترب منهم وانتابه الضيق من والدته التي دبرت موعداً مع ماهي، هذه المدللة التي لا تكف عن اللحاق به.
وجد والدته تنظر له أن يتبادل التحية والمصافحة مع صديقتها وابنتها
"تعالي يا يوسف سلم علي طنط راندا و ماهي"
أكتفي بفعل ذلك دون تصافح بالأيدي
"أهلاً يا طنط يا راندا"
ابتسمت إليه الأخرى
"أهلاً يا حبيبي"
"هاي چو"
قالتها ماهي ونهضت فاقتربت منه تمسك بيده دون خجل أمام والدتها والأخريات
"تعالي لما أحكيلك عن رحلة الساحل اللي فاتتك، عن إذنك يا مامي"
سار يوسف معها علي مضض حتي وصل كليهما إلي المسبح
"إيه يا چو مابقتش ترد عليا فون أو تسأل عني، أنت زعلان مني؟"
أطلق زفرة ثم أجاب
"مشغول شوية"
"مشغول إزاي و انت بتروح النايت مع رامي، و لا فاكرني معرفش حاجة عنك"
رفع احدى حاجبيه يسألها ساخراً
"ده أنتي بترقبيني بقي؟!"
"لاء، بس أخبارك بتيجي لحد عندي من غير ما أدور وراك"
"ماشي يا ماهي، ياريت تشيليني من دماغك و من الأخبار اللي بتيجي لحد عندك، لأن أنا زي ما قولتلك قبل كدة، أنا بعتبرك زي أختي"
شهقت وكانت علي وشك البكاء
"و أنا رديت عليك وقولتلك أنت بالنسبة لي إيه، أنا بحبك أوي يا يوسف، و أنا اكتر واحدة مناسبة ليك، بنحب الخروج و السهر، دماغنا زي بعض"
زفر بضيق وقال
"بس أنا مش تافه و دماغي فاضية"
شهقت مرة أخرى بصدمة
"أنا تافهة يا يوسف؟!"
"يوه، بقولك إيه هاتعيطي هاسيبك وأمشي"
حدقت إليه بوعيد وأخبرته
"و علي إيه، أنا اللي هاسيبك وأمشي"
و إذ فجأة قامت بدفعه في المسبح ليقع في الماء بثيابه وسط ضحكات من رأى ما حدث.
※ ※ ※
سمعت صوت مفتاحه وهو يضعه في فتحة القفل، ركضت سريعاً إلي داخل غرفة ابنها وتظاهرت بالنوم تجنباً لرؤيته أو التحدث معه.
"بت يا أحلام؟، واد يا ميدو؟"
ندائه بصوته المنكر هذا جعلها تضع كفها علي أذنها، ولج إلي غرفتهما لم يجدها فذهب إلي غرفة ابنه فوجدها تغفو في سبات عميق، ابتسم و عاد إلي الغرفة الأولي ليتحدث في هاتفه دون أن تسمعه زوجته، بينما هي عندما سمعت صوت إغلاق باب الغرفة تيقنت أنه يخبئ شيئاً أو يحيك مصيبة كعادته.
نهضت ووضعت أذنها علي الباب تسمعه يضحك و يتحدث عبر الهاتف
"و أنتي كمان وحشتيني يا بت"
....
"ما أنا بكلمك عشان أقولك هعدي عليكي بكرة و هجيبلك المزاج اللي بتحبيه و معاهم إزازة فودكا تحلو بيها قعدتنا"
.....
"عايزه طبعاً أحمر دم غزال، و يا سلام لو قصير و ضهره مكشوف، هيبقي عليكي إيه.. "
اندفع الباب ورأي أخر وجهه لا يريد رؤيته
"اه يا سافل يا خاين، مش كفاية مستحملاك و مستحملة قرفك، كمان بتتفق مع الـ.... اللي بتخوني معاها عشان تروحلها"
"سلام أنتي يا وزة هكلمك بعدين"
أنهي المكالمة وألقي هاتفه علي المقعد، و بدون خجل بل و جرأة سافرة يخبر زوجته
"آه بخونك، و هخونك، عندك مانع؟"
"و كمان ليك عين و بتقولها في وشي؟!، يالهوي"
أخذت تصرخ، اقترب منها ووضع كفه علي فمها
"اخرصي لأخنقك، مش أنتي اللي عملالي زعلانة و مانعاني أقربلك؟!"
أزاحت يده بصعوبة لتخبره
"أيوة ومش هاتقرب مني تاني غير لما تعترف بغلطك و تبطل القرف اللي أنت عايش فيه، لأن خلاص فاض بيا منك و معدتش هاستحمل تاني ذلك وإهانتك ليا"
أخذ يضحك و يقهقه ساخراً منها
"الله يرحم الحب اللي كان مولع في الدرة، تحبي أفكرك؟ "
"كان يوم أسود يوم ما أتجوزتك يا شيخ"
اقترب منها ليعيد عليها آثام من الماضي
"هو أنا ضربتك علي إيدك وقولتلك وافقي، و لا أنتي اللي جيتي أتحايلتي عليا و كنتي هتبوسي رجلي عشان أكمل معاكي؟"
غمز بعينه فاتسعت خاصتها بصدمة تتذكر ما حدث منذ ثلاث سنوات
"إيه اللي حصل بيني و بينك كان بسببك و كان مكتوب كتابنا، أنت بقي اللي كان نيتك تخلع مني بعد ما فضلت زي الشيطان تحوم حواليا لحد ما سلمتك نفسي، كنت فاكراك بتحبني زي ما بحبك، كنت بكدب أهلي و كل اللي كان بيقولي أبعد عنك لأنك واحد مالهوش أمان و لا بيخاف ربنا، بس أنا اللي أستاهل عشان بيعتهم و أشتريتك، و للأسف أشتريت الرخيص بالغالي"
جذب شعرها في قبضته وصاح بغضب جم
"أنا برضو الرخيص يا و....، شوفي شكلك بقي عامل إزاي"
دفعها أمام مرآة الزينة وتابع
"بقيتي شبه الست اللي عندها سبعين سنة، أنا بقرب منك عشان مزاجي و خلاص، لكن انا مش شايفك أصلاً"
ردت بقلب جريح
"شكلي اللي مش عاجبك بسببك أنت، لو أنت راجل و لو لمرة واحدة مكنش بقي ده حالي"
جذب شعرها بقوة فصرخت
"راجل غصب عنك يا بنت الـ... "
استدارت بصعوبة صارخة به وتهوي بكفها علي خده
"أنت اللي.... و ابن ستين....، أبويا الله يرحمه أنضف منك و من اللي زيك"
كان الشر يتطاير من عينيه
"بتشتميني و بتمدي إيدك عليا؟!، ده أنتي ليلة أهلك سودة و مش هاسيبك غير لما ما أموتك"
ركضت من أمامه وهو يلحق بها، صفقت باب غرفة ابنها في وجهه، فقام بدفعه بجسده حتي استطاع كسره
"و حياة أمك ما هاسيبك يا أحلام"
تمكن من الإمساك بها في ظل صرخات استغاثة أطلقتها لعل أحد يأتي و ينقذها من يد هذا المجرم!
يتبع...
*الفصل السابع*
تتمدد أحلام علي سرير المشفى في عنبر ملئ بالمرضي المصابين من قسم الطوارئ داخل مشفى حكومي، تفتح عينيها فوجدت عائلتها تحيط بها من كلا الجانبين.
"حمدالله علي السلامة يا ضنايا، حاسة بإيه دلوقتي؟"
كان سؤال والدتها والخوف ينضح من عينيها، تري ابنتها طريحة الفراش من أثر اعتداء زوجها العنيف عليها، نتج عنه كدمات في الوجه و شرخ في الساعد الأيمن، حول رقبتها طوق طبي لتقويم فقرات عنقها.
"أنا فين؟"
أخذت تنظر إليهم بتيه، تجد نظرات الشفقة من شقيقتيها غرام وابتسام والحزن علي ملامح وجه والدتها
اقتربت منها ابتسام التي تحمل ابن شقيقتها، تمسك بيدها تخبرها
"أنتي في المستشفي، جبناكي علي هنا بعد ما جيرانك كلمونا وقالولنا إنهم سمعوا جوزك بيتخانق معاكي و بيضربك وفجأة لقوه خارج من البيت وشايلك بيجري بيكي"
تذكرت ما حدث لها و كم الإهانة التي تلقتها من معايرة ونعت بالألفاظ النابية من زوجها، انتهي كل ذلك بمشاجرة ليست في صالحها ولم تتحمل توابعها من ضرب مبرح وفقدان الوعي.
"هو فين؟"
أجابت والدتها وكانت تكبت غضبها من ضعف شخصية ابنتها الذي جعل زوجها يفعل بها كما يحلو له
"هايكون راح فين، اللهي داهية تاخده مطرح ما يكون، بتسألي عليه بعد اللي عمله فيكي؟!، ده مخلاش فيكي حتة سليمة"
عقبت غرام بسخرية
"وفري كلامك يا ماما، عشان مفيش عقل بيفهم و لا كرامة هتنقح عليها"
اكتفت أحلام بالنظر إلي شقيقتها بعتاب و تكبت دموعها، جاء الطبيب المسئول عن علاجها
"عاملة إيه يا مدام أحلام؟"
هزت رأسها وبضعف أجابت
"الحمدلله"
"هو إيه اللي حاصلها يا دكتور؟"
سألته عزيزة فأجاب الأخر
"ما حبيش عليكم جوزها أول ما جابها الطوارئ كان مغمي عليها و وشها كان مايل للأزرق، كأنها في بداية حالة إختناق و زي ما أنتم شايفين كدمات علي وشها وشرخ في دراعها"
شهقت والدتها
"يا ضنايا يا بنتي، منك لله يا سمير الكلب، كنت عايز تقتلها"
نظر الطبيب إلي أحلام وأخبرها
"جوز حضرتك هو اللي جابك و أول ما خدناكي عشان نعملك الإسعافات فجأة لاقيناه أختفي"
و إذا بصوت جاء صاحبه للتو من الخارج
"أحلام حبيبتي، عاملة إيه يا روحي؟"
نظر إليه الجميع بازدراء وكذلك زوجته، أخبرهم الطبيب
"كويس أنك جيت عشان الظابط مستني برة يحقق معاك"
اتسعت عينان سمير وشعر ببرودة في أطرافه، رأي نظرة شماتة في عينين غرام التي ألتزمت الصمت لأنها تعلم جيداً رد فعل شقيقتها نحو ما فعله زوجها.
ألتفت إلي الطبيب وقال برجاء
"ممكن أقعد مع مراتي دقيقتين؟"
رفع الآخر زاوية فمه جانباً فأشار له علي مضض
"أتفضل، بس ياريت بسرعة عشان الظابط مستعجل"
و ما أن ذهب الطبيب، جلس سمير جوار أحلام، يمسك بيدها يقبل ظهر كفها باعتذار و توسل يثير الاشمئزاز
"أنا آسف يا أحلام، حقك عليا والله أنا مش عارف إزاي ده حصل، أصل مكنتش في وعيي وإحنا بنتخانق، والله أنا ما هقرب منك كدة تاني، حقك عليا و أدي راسك كمان"
قام بتقبيل جبهتها، علقت غرام
"بذمتك مش مكسوف من نفسك، بتتأسفلها علي إيه و لا إيه، أنا كان ممكن كنت خليتك رقدت مكان أختي، بس أنا هاخدلها حقها بالقانون، لما تترمي في الحبس ويا الشمامين و البلطجية اللي زيك"
نظر إلي زوجته ثم قال بصدق غير معهود
"و أنا راضي طالما ده هيرضي أحلام وهيخليها تسامحني"
نظرت إليه وكان داخل عينيها آلاف الكلمات قد أدركها جيداً، عتاب ولوم والكيل قد فاض ما به من هموم وأحزان عاشتها بين يديه، حتي حانت تلك اللحظة أخيراً واختارت الصواب، افترقت شفتيها وتفوه لسانها بالطلب الذي وجب أن يحدث منذ البداية
"طلقني"
تلتقط أنفاسها من الآلام، آلام قلبها و آلام جسدها، صعق الآخر لمطلبها فتابعت
"طلقني لو عايزني أسامحك، و هقول للظابط مش إنك اللي عملت فيا كدة"
"انتي بتقولي إيه؟!، ده يطلقك و رجله فوق رقبته و ياخد جزاءه كمان"
صاحت بها غرام، فنظرت أحلام إليها بقلة حيلة، عقبت والدتها
"طلقها يابني و سيبها في حالها، المرة دي ربنا ستر وراقدة علي السرير، يا عالم المرة الجاية تجيبهالي بعد الشر عليها جثة"
وجد أن لديهم حق وكفي إلي هنا، كم عانت من بطشه و ظلمه لها، لم يبالي إلي حبها إليه يوماً ويمن عليها بإتمام زواجه منها والذنب الذي حدث بينهما هو الذي تسبب فيه عندما كان يحوم كالذئب حول فريسته، استغل ضعفها وطيبة فؤادها من قبل الزواج وبعد الزواج تحول الإستغلال إلي اضطهاد وقهر.
نهض وفي تردد أنتهي بالاستسلام إلي رغبتها
"أنتي طالق"
صاحت كل من غرام وابتسام بسعادة وقاما بمعانقة شقيقتهما
"مبروك يا أحلام، كان زي الهم وإنزاح أخيراً"
كان قول غرام فقابلته أحلام بالصمت وتركت دموعها تقوم بالرد.
و بعد إجراء الضابط التحقيق، أنكرت أحلام أن الفاعل زوجها، و ماحدث لها كان أثر سقوطها علي الدرج، يكفي إنها نالت حريتها من هذا الطاغية سمير.
※ ※ ※
في اليوم التالي كانت تقف ابتسام تنظر إلي لافتة عنوان المركز التعليمي، تخشى الصعود إلي أعلي ومواجهة معلمها الذي فرت من أمامه عندما رأي ما حدث بينها و بين عثمان، و كان أكبر مخاوفها هو أن يخبر غرام لذا قررت أن تتحدث معه وتشرح له الأمر.
صعدت إلي الطابق الثاني حيث قاعة المحاضرة، مرت أولاً علي المساعد وأخبرته بإسمها لكي يسمح لها بالدخول، و إذا به المساعد يقول لها بجفاء
"ممنوع الدخول"
صاحت بصدمة
"ممنوع إزاي؟!، أنا دافعة فلوس حصص الشهر كلها مقدماً حتي إسأل مستر حسن"
"مستر حسن اللي بنفسه مديلي أمر بمنع دخولك و ياريت تشوفيلك مدرس تاني غيره"
أدركت معني رسالته إليها و دون مواجهتها، لم تأبه لقساوة رده ذاك، و ذهبت إلي القاعة يحاول المساعد منعها، صاحت برجاء
"مستر حسن"
ألتفت إليها ببرود
"نعم؟"
تأسر دموعها داخل عينيها، تخبره بنبرة سمع منها كم ما تشعر به من حزن و غصة عالقة في حلقها
"ممكن أتكلم مع حضرتك"
نهض من خلف مكتبه المرتفع علي منصة الشرح، ذهب إليها في الخارج
"عايزة إيه يا ابتسام؟"
لم تستطع كبت دموعها أكثر من ذلك، انفجرت باكية
"حضرتك فهمت غلط، كل اللي ما بيني و ما بين عثمان علاقة جيرة و أصحاب مش أكتر"
كان داخله يشفق علي حالتها المؤسفة لكن تظاهر بعكس ذلك
"و أنا مالي، بتبرري ليه؟!، و لا خايفة أحكي لأختك ووالدتك علي اللي شوفته؟"
ابتلعت غصتها وقالت
"لاء، أنا جيتلك عشان أقولك أنا مظلومة أو.. "
بتر حديثها قبضته التي اعتصرت عضدها يغادر المكان إلي سيارته، يدخلها فجلست وذهب هو ليجلس خلف المقود، قد اشتد غضبه إلي ذروته
"مظلومة إزاي و أنا شايفه مقرب منك ولازق فيكي لاء و كمان كان بيبوسك، أنا مش أعمي و لا ساذج عشان أصدق تمثيلك الرخيص"
ابتلعت ريقها لا تدرك بعد ما وراء غضب معلمها الثائر، تحسب أنه من دافع الخوف عليها لأن شقيقتها قد أوصته عليها
"والله العظيم ما بمثل، أنا بعتبره فعلاً زي أخويا لكن هو لاء"
"أخوكي!"
ابتسم ساخراً وتابع
"و اللي أنا شوفته ده بيحصل ما بين الأخوات؟"
هزت رأسها بالنفي و مازالت تبكي وتحاول الدفاع عن نفسها و لا تعلم لما كل هذا الإصرار لديها
"لاء، بس أنا ما ليش ذنب و لا أقدر أقوله ما تحبنيش، أنا ببعد عنه كل شوية لكن هو متهور و خايفه جنانه يعمل مشاكل ليا ولأهلي عشان معندناش راجل يقف له، مفيش غير أخويا سعيد ولسه صغير"
تبدلت ملامحه من القسوة والغضب إلي اللين
"كان ممكن تحكي لأختك تروح تكلمه و تحطه عند حده أو تكلم أهله، علي الأقل أحسن من مشيك معاه في كل حتة، و لا ركوبك وراه الموتوسيكل بعد ما بتخلصي الدرس"
"عندك حق، أنا معرفتش أتصرف، أنا أصلاً ما بكلمهوش من وقت ما شوفتنا وعملاله بلوك كمان عشان لو حاول يتصل عليا"
لا ينكر السعادة التي يشعر بها حالياً، فأخبرها بجدية زائفة
"كل اللي قولتيه ده ما يخصنيش، أنا اللي أعرفه المفروض سيادتك في تالتة ثانوي وفاضل شهر ونص علي الإمتحانات، يعني تركزي في مذكراتك اللي هاتنفعك، و زي ما قولتلك قبل كدة أي حاجة أنتي محتاجها أنا موجود، و اللي اسمه عثمان لو أتعرضلك تاني بلغيني و أنا هاتصرف من غير ما يوصل الموضوع لوالدتك أو أختك، أتفقنا؟"
هزت رأسها بالموافقة، فابتسم وتابع بنبرة حانية
"متزعليش مني عشان شديت معاكي في الكلام وقسيت، ساعات قسوتنا بتكون دافع من خوفنا علي اللي بنحبهم"
نظرت إلي عينيه وأقسمت داخل نفسها رؤية ما ينبض به قلبه، و كأن كلماته الأخيرة إعترافاً مبيناً.
※ ※ ※
مر يومان وليس بجديد بل كان الحال سيئاً لدي غرام، نفذت لديها النقود و لا تعلم ماذا عساها أن تفعل، كلما تتقدم إلي العمل في متجر أو مطعم يعتذر إليها صاحبه ويخبرها إنه مكتفي بالعمالة التي لديه.
والآن تجلس بقلة حيلة حتي تذكرت أمر البطاقة الورقية والتي يتوسطها
«يوسف رأفت الشريف» بالإنجليزية
※ ※ ※
و بداخل محطة القطار تقف في انتظار هذا القادم نحوها، يبتسم إليها
"كنت متوقع إنك هتكلميني في خلال يومين"
ابتسمت فسألته
"و إيه اللي خلاك واثق أوي كدة؟"
"إحساسي"
أخبرته بتحفظ وجدية
"أنا أتصلت بحضرتك و طلبت أقابلك عشان محتاجة شغل، إن شاء الله حتي لو أشتغل في المصنع أي حاجة"
"فيه شغل بس مش في المصنع، في الشركة عندنا"
"طب هاشتغل إيه، أنا للأسف خرجت من سنة تانية كلية ومكملتش بسبب الشغل و الظروف الصعبة اللي بنمر بيها"
"أطمني كل أوراقك اللي الشركة محتاجها هاتكون جاهزة، و أي حاجة أنتي محتاجها أطلبيها علي طول"
أخرج من جيبه ظرف أبيض قد أخذ محتواه من صاحبه سلفاً ريثما يعود إلي العمل في شركة والده مجدداً.
"أتفضلي خلي دول معاكي هتحتاجيهم"
"شكراً يا يوسف بيه، أنا مش عايزة فلوس، أنا كل اللي محتاجاه شغل و بس"
"يا ستي اعتبريهم سلف لحد ما تشتغلي، الشركة عندنا بتهتم بالمظهر الخارجي للموظف، و هتحتاجي لبس ومصاريف، و بعدين هيكونوا عارفين إنك من تابعي"
شعرت بالحرج والخجل فتابع حديثه
"ما تتكسفيش يا غرام، اللي بعمله معاكي ما يجيش نص وقفتك معانا، ماتعرفيش لما قدرنا نوصل للي بيخسرنا شغلنا فرحنا قد إيه و المكاسب و الأرباح اللي هاتعوض خسارة كبيرة حصلت الأيام اللي فاتت، كل واحد فينا ربنا بعته للتاني عشان يخرجه من المحنة اللي هو فيها"
كم أسعد حديثه قلبها، و ها هي الحياة قد ضحكت من جديد لها وسترى السعادة لاحقاً
※ ※ ※
ترجلت سوزي من سيارة الأجرة أمام البناء المدون عنوانه لديها في الرسالة، وفي الأعلى كان نور منتظراً علي أحر من الجمر، ينظر إلي عقد ملكية الشقة بسعادة، هدية قيمة سيقدمها كعربون محبة ليدلي به لها عن حبه الصادق.
رنين الجرس مثل دقات قلبه التي تخفق للتو، ذهب ليستقبلها بحفاوة
"هاي"
حدق إليها بقلبه وليس بعينيه، سعادة عارمة علي وجهه ومحياه
"ما تتصوريش أنا فرحان قد إيه، خوفت لا ماتجيش"
ابتسمت وليتها ما فعلت ذلك، ابتسامتها أوقعته أسيراً في سحرها
"هو كان صعب عليا، بس أي صعب يهون عشانك"
"لاء أنا مش قدك و لا قد كلامك، أنا يا سوزي خلاص مابقتش قادر أستحمل وأنتي بعيدة عني أكتر من كدة، لازم نتجوز بسرعة، الشقة أهي جاهزة من كل حاجة وعقدها واقف علي إمضتك، دي أول هدية غير هدايا كتير لسه هجيبهالك"
أخذت من يده العقد و لم تصدق ما تراه، كم هو سخي معها نقيض والده الحريص، لذا لا تتركه فهو كنز ثمين عليها أن تغتنمه وتخرج بربح وفير خلال مهلة قصيرة.
"حبيبي يا نور، مش عارفة أقولك إيه، أحليو أجمل هدية"
أخرجت قلم من حقيبة يدها
"و أدي إمضتي أهي"
اقترب منها نور وحاوط خصرها
"عقبال إمضتك علي قسيمة جوازنا"
رسمت ابتسامة زائفة علي شفتيها
"إن شاء الله يا حبيبي"
"طيب مفيش حاجة بمناسبة الهدية اللي عاجبتك؟"
تدرك مبتغاه فتظاهرت بعدم الفهم
"حاجة إيه؟"
اقترب بشفتيه من وجهها
"حاجة زي كدة"
يقبلها بنهم نابع من شوق وعشق لا يعلم إنه سينتهي قبل أن يبدأ عندما تنكشف له الفاجعة.
تحولت قبلاته إلي لمسات تجاوز بها كل الحدود وكاد يتمادي، و إذا استسلمت له سينكشف أمرها بسهولة أمامه، فهو يعلم من بياناتها في الشركة إنها آنسة لم يسبق لها الزواج.
دفعته عنها وتصنعت الخوف والخجل
"نور، كفاية لحد كدة، لما أبقي مراتك أعمل اللي أنت عايزه"
"حبيبتي آسف، حقك عليا، من كتر شوقي ليكي مقدرتش أسيطر علي نفسي، أوعدك مش هقرب منك غير لما نتجوز، بس قولي أنتي الوقت المناسب ليكي"
ابتسمت بدهاء حية رقطاء
"بعد شهرين هاكون دبرت أموري"
"شهرين!، كده كتير"
"معلش استحمل يا حبيبي، هيعدوا بسرعة و هانكون مع بعض، خلاص؟"
أومأ لها بهيام
"موافق، المهم هاتكوني معايا وملكي في الأخر و مش هاسيبك أبداً"
و كم من أمنية يتمناها المرء فتأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن!
يتبع...
*الفصل الثامن*
ما بين الأمل واليأس درب ملئ بالكثير من الأحداث، ونهاية الصبر علي الابتلاء نجاح جاء من الإيمان والرضا.
و هذا النجاح جاء إليها علي هيئة يوسف الذي وضعه القدر في دربها بعد معاناة، فبعد أن وافقت علي عرض العمل وتقديم إليها كل ما يسهل ذلك بشرط أن كل ذلك دين سترده إليه.
و كما أخبرها أن العمل يحتاج إلي المظهر الجيد دون مبالغة أو شيء خارج الأدب و الاحترام، اعطاها مبلغ من المال لشراء الثياب و كل ما تحتاجه، كما أعطي إليها أوراق تفيد بأنها قد حصلت علي شهادة جامعية تخصص إدارة أعمال و شهادات أخرى بأنها تتقن اللغة الإنجليزية و كل ما يؤهلها إلي العمل في شركة الشريف.
※ ※ ※
توقفت سيارة أجرة أمام مبني شاهق في حي الدقي الشهير، أعطت سماح إلي السائق الأجرة المتفق عليها و نزلت من السيارة، تنظر في شاشة هاتفها تقرأ رسائل هذا الرجل الذي قامت بالتعرف عليه من خلال البث المباشر التي كانت تقدمه في مقابل الحصول علي المال.
أخبرها إنه صاحب شركة إنتاج أغاني ويريد فتيات من أجل القيام بعرض فني خلف المغنى، و ما جعلها تنجذب لذلك العرض دون تفكير، هو وعده إليها أن يجعلها فنانة شهيرة غضون وقت قصير في مجال الغناء والاستعراض و ربما التمثيل أيضاً، كم تمنت أن تخرج من الحارة والحياة العفنة منها، لا تعلم أن العفن داخل الحي الشعبي الذي تقطن فيه أفضل من جهنم التي ستلقي نفسها بداخلها.
دخلت إلي الفناء فأوقفها الحارس وأخبرته
"أنا طالعة لمكتب عوني بيه"
سألها الحارس ليتأكد
"قصدك عوني القرني؟"
عبست وأجابت
"أنا كل اللي أعرفه اسمه عوني، لكن قرني دي ما أعرفهاش، ده اسم و لا لقب وغوغوشتني؟"
كانت نظراته تخترق العباءة التي ترتديها وتجسد منحنيات جسدها، و ملامح وجهها المطمس خلف مساحيق التجميل الرديئة
"لاء، ده اسمه ولقب عيلته، عيلة القرني"
وابتسم بسخرية يشوبها نظرة وكأنه يريد إلتهامها
"عن إذنك أنا طالعة يا... "
"محسوبك عزب"
أطلقت ضحكة تجاوزت حدود الأدب ودون الأدب ثم استقلت المصعد حتي وصلت إلي الطابق المنشود.
و في الأعلى ولجت إلي المكتب كما اخبرها عوني، وجدت في استقبلها فتاة لا تقل عنها في المظهر المبتذل
"ممكن أقابل عوني بيه، أصله مديني ميعاد"
سألتها الفتاة
"أنتي سماح بتاعت التيك توك؟"
ابتسامة صفراء أصدرتها شفتيها
"أيوة أنا"
نهضت الفتاة وأخبرتها
"تعالي ورايا، المعلم عوني مستنيكي"
و في طريقها إلي مكتب القرني وجدت فتاتين يتجولان بثياب فاضحة في الرواق، انقبض قلبها وصوت يخبرها أن تتراجع، لكن كيف تتراجع والمال والشهرة في انتظارها و للحصول عليهم يجب تقديم التنازلات كما قدمت الكثير أمام شاشة الهاتف.
فتحت الفتاة باب المكتب
"معلم عوني، سماح جت"
نهض الأخر بثقل بسبب جسده السمين
"خليها تدخل يا دندش"
أشارت إلي سماح التي ولجت ومازال قلبها ينبض بقوة، رأت رجل بدين يقف خلف المكتب، ذو ملامح خليط ما بين الرجل والسيدة، يخط أسفل أنفه شارب رفيع، وحاجبيه يبدو إنه يعتني بهما بالنمص، مظهره المقزز جعلها تتراجع خطوة
"معلش يا عوني بيه أصل أنا... "
قاطع حديثها بعد قراءة ترددها في عينيها
"معلش إيه بس، اتفضلي يا قمر، ده أنتي طلعتي حلوة أوي وأجمد من الفيديوهات كمان"
ابتسمت إليه
"شكراً"
أشار إليها نحو الكرسي أمام مكتبه
"أتفضلي، أتفضلي، ده المكتب نور بيكي و هيبقي وش السعد علينا و عليكي"
"إن شاء الله"
"تشربي إيه يا موحة، أيوة بدلعك، أصل مفيش حد بيشتغل معانا غير لما ندلعه و نشخلعه و يبقي مبسوط 24 قيراط، و أنتي هتجربي وهاتعرفي بنفسك"
أجري اتصالا
"واد يا سمسم هاتلي قهوة و للمزمازيل سماح شوب مانجا وصاية"
أنهي المكالمة وأسلوبه في الحديث أثار اشمئزازها، شعرت وكأنها تجلس مع رجل مخنث
"ها يا موحة، أحضر العقود و نمضي و لا إيه؟"
"مش لما أعرف هاشتغل إيه بالظبط و لا هاخد كام يبقي بعد كدة نمضي؟"
ضحك وقال
"ده أنا هخليكي بطلة الكليبات، تطلعي مع الفنان والمخرجين و المنتجين لما يشوفوكي هيشاوروا ويقوله إحنا عايزين دي، و من عندي هتدخلي لأبواب المجد و الشهرة، إحتراف هنا و بره، هاتسافري لأمريكا وأوروبا بس أبقي افتكرينا"
تراقص داخلها وتأهب سمعها لجوابه علي سؤالها
"طب هيبقي مرتبي بالشهر و لا بالغنوة الواحدة؟"
"بالشهر طبعاً و هيبقي 150 ألف جنيه و لو جالك أوردرات بره هتقبضي بالدولار"
لا تعي بواطن الكلمات وانجرفت في سيل الطمع الذي أعمى عينيها
"طب و هنبدء شغل أمتي؟"
"كنت لسه هقولك بكرة الساعة 12 بالليل تكوني هنا، هنصور أول كليب مع فنان مشهور أوي"
"الساعة 12 بالليل؟!، إزاي هقول لأهلي إيه لما انزل متأخر"
نهض من خلف مكتبه بخطوات ثقيلة ليجلس علي المقعد المقابل لها
"جري إيه يا موحة صحصحي معايا، هو أنا اللي أقولك برضو تنزلي إزاي، اللي خلاكي تعرفي تصوري الفيديوهات إياها بتاعت الروتين اليومي واللي مش الروتين من غير أهلك ما يعرفوا، هيخليكي تعرفي تنزلي في أي وقت حتي لو الفجر، و لسه كمان هيبقي عندك سفر"
أثرت الصمت تفكر بتردد
"أنتي بتفكري لسه؟!، أنا بقولك 150ألف جنيه، يعني في خلال سنة تقدري تشتريلك شقة هنا في الدقي و لا المهندسين أو عربية أحدث موديل و لا الشهرة"
من قال إن وسوسة الشيطان ذات تأثير علي الإنسان الضعيف!، فهناك من هم أشر و أقوي من الشيطان في السيطرة علي البشر، و من سواهم أعوان إبليس من البشر، شياطين الإنس علي مر العصور تركوا بصماتهم التي تفوقت علي معلمهم الذي يصفق لهم بجدارة وهو ينفذ وعده إلي خالقه في اغواء كل من انساق إلي خطواته بملء إرادته غير آبه لوعيد ربه وهو يخبره أنه سوف يملأ جهنم منه و من كل مَنّ أتبعه أجمعين.
"خلاص أنا هاتصرف"
تهللت السعادة علي محياه
"أهو ده الكلام المظبوط، كدة بقي فاضل نمضي العقود"
أخرج لها عدة أوراق وتابع
"كل حاجة جاهزة و واقفة علي إمضتك"
ستار من الظلام يكسو عينيها، تخط توقيعها أسفل كل ورقة، و مع كل توقيع تزداد ابتسامة هذا اللعين السمين.
※ ※ ※
عاد نور من الخارج يغني بصوت خافت كدليل علي سعادته التي تعلم زوجته سببها جيداً، توقف في بهو المنزل عندما وجدها تقف أعلي الدرج تعقد ساعديها و تحدق نحوه بنظرة باردة تثير مخاوفه من الذي تدبره له.
"حمدالله علي السلامة يا حبيبي، ما لسه بدري"
نظر في شاشة هاتفه فوجدها الثانية بعد منتصف الليل، عاد ببصره إليها ويصعد الدرج
"كان ورايا مصالح لازم أخلصها"
حدقت بسخرية إليه
"و هي المصالح دي ما ينفعش تخلص بالنهار؟"
زفر بضيق
"بس بقي يا كوكي، كفاية رغي صدعتيني و لازم تنكدي عليا"
نظرت إليه بازدراء وقالت
"أنا هاروح أنام جمب بنتي"
تركته وذهبت فقال في نفسه
"و لو روحتي لأهلك يبقي أحسن"
سار في الرواق فوجد باب غرفة شقيقه مفتوحاً، و يوسف يجلس أمام حاسوبه، ولج إلي الداخل
"إيه ده أنت رجعت؟"
نهض الأخر وفتح ذراعيه
"إيه جيت وراجع الشغل من جديد، وحشتني يا برو"
عانق شقيقه بقوة وأخذ كل منهما يربت علي ظهر الأخر، قال نور
"ربنا يهديك علي كدة دايماً"
"لو عرفت السبب هتتعجب، و عندي خبر حلو أوي"
سرد له عن غرام و الصدفة الغريبة والتي من خلالها تمكن من إنقاذ الشركة من الخسارة، كما قرر العودة إلي حياة أكثر جدية ومسئولية، كما أوصاه علي غرام بأن يجعل مسئول التوظيف يوافق علي تعينها في الشركة.
"تصدق عندي فضول أشوف اللي اسمها غرام"
لكزه يوسف في كتفه
"خد بالك دي مش زي البنات التانية، دي بنت في منتهي الأدب والإحترام، زي العملة النادرة، جدعة و بنت بلد"
"الله، الله، إيه يا چو، أنت لحقت توقع بالسرعة دي؟"
"أقع مين يا بني، أنا بساعدها مقابل وقفتها معايا مش اكتر"
ابتسم نور وسأله
"عليا أنا الحركات دي، يابني ده أنا حافظك، عموماً ما تقلقش اعتبرها اتعينت خلاص، و كمان هتبقي في القسم اللي أنت مسئول عنه، أي خدمة"
غمز بعينه ثم هم بالذهاب
"اسيبك أنا بقي وهاروح أنام، تصبح علي خير"
"و أنت من أهله"
و قبل أن يغادر نور الغرفة أخذ يغني
"يا سلام، يا سلام قد إيه حلو الغرام"
أمسك يوسف بقلم من فوق مكتبه وألقاه علي شقيقه الذي فر علي الفور قبل أن يصيبه القلم.
※ ※ ※
كانت تقف أمام المرآة ترتدي الثياب التي اشترتها وتنظر إلي مظهرها، تبدو كسيدة أعمال
"إيه ده، اش اش، إيه الحلاوة دي يا غرومه"
كان صوت ابتسام فألتفت إليها غرام
"إيه رأيك؟، اشتريتهم عشان الشغل الجديد"
"و من أين لك هذا؟"
تخشى أن تظن والدتها و شقيقتيها بأمر آخر فقالت
"دي فلوس استلفتها من واحدة صاحبتي، هارجعهم ليها أول ما هقبض"
دلفت والدتها تحمل صينية يعلوها أكواب
"العصير يا بنات"
انتبهت إلي ابنتها
"إيه ده يا غرام؟"
"دي هدوم لسه شارياها عشان الشغل الجديد، لازم يكون مظهري شيك و كدة يعني"
"و جبتي فلوسهم منين؟"
توترت فوجدت أن الكذب لا يفيد ويجب أن تسرد كل ما حدث لوالدتها، و بالفعل قامت بذلك حتي عقبت والدتها والقلق يبدو علي ملامح وجهها
"أنتي واثقة في الجدع ده يا بنتي و لا يطلع واحد نصاب و يضحك عليكي في الأخر"
"يا ماما ده ابن ناس و من عيلة معروفة، طلبت منه الشغل و بصراحة لاقيته كريم جداً و ما تقلقيش هو شخصية محترمة وبعدين بنتك بميت راجل، محدش يقدر يتكلم معايا أو يجي جمبه، ما أنتي مربياني و عارفاني كويس"
"ربنا يسعدك ويرزقك من وسع يا غرام يا بنتي، و يبعد عنك ولاد الحرام"
احتضنت والدتها
"آمين يارب"
وتذكرت هذا الوسيم الثلاثيني الذي ظهر لها في وقت عسير فابتسمت وخفق قلبها بسعادة، ربما هذه بداية السعادة القادمة مهما واجهت في طريقها من عثرات.
يتبع...
ـــــــــــــــ
تجلس في هيئتها و هندامها الجديد، ترتدي ثوب أبيض مزدان بالورود الحمراء، وشاحها الأحمر القاني زاد من جمالها الذي كان مدفوناً في التجول والبيع في القطارات.
كان المسئول يلقي عليها الأسئلة الروتينية في مقابلات طلب الوظيفة، لاحظت غرام جميع الأسئلة تتميز بسهولة ربما هذا عن قصد من مسئول التوظيف لا سيما بعد وصاية خاصة من الأخوين نور ويوسف.
وفي نهاية المقابلة ابتسم المسئول ويخبرها
"ألف مبروك يا آنسة غرام، أهلاً وسهلاً بيكي في الشريف جروب"
"بالسرعة دي؟!، ده أنا اسمع أن في أي شركة بيردوا بعد الانترفيو سواء بالموافقة أو الرفض بعد فترة مش وقت المقابلة علي طول"
نظر عبر الحائط الزجاجي نحو الرواق إلي يوسف الذي كان ينتظرها في الخارج، أخبرها
"البركة في مستر يوسف"
ألتفت خلفها فوجدت يوسف يبتسم إليها، و كم هي ابتسامته ساحرة، حاولت تشتت ذهنها من الوقوع في أحلام بعيدة المنال، فيكفي ما فعله من معروف و دين لن تنساه بتاً.
خرجت إليه فقال لها
"ألف مبروك"
"الله يبارك في حضرتك، بس أنا برضو لحد. دلوقت مش فاهمة هاشتغل إيه"
"مبدأياً كدة ياريت نشيل أي ألقاب و كلمات زي حضرتك و يافندم طول ما إحنا مع بعض، إما بالنسبة لشغلك هتبقي السكرتيرة أو المساعة الخاصة بيا و هتبقي برضو المسئول التاني من بعدي في قسم الـ Marketing"
تدلي فكها في صدمة، يخبرها بوظائف لم ترَ مثلها سوي في التلفاز فقط
"بس أنا مافهمش حاجة في السكرتريا أو التسويق"
اعتدل من ياقة قميصه بزهو يقول لها
"أنا هعلمك كل حاجة، و أنتي شاطرة وهتتعلمي كل حاجة بسرعة"
تراقص قلبها من السعادة، أخيراً فتحت الدنيا لها ذراعيها، تدعو ربها أن لا يقابلها عثرات تقذف بها إلي الهاوية.
و هناك مَنْ كان يراقب صديقه والفتاة التي يخمن أين رآها من قبل، عبر من أمامه مسئول التوظيف أوقفه يسأله
"هي مين اللي واقفة هناك مع يوسف؟"
أجاب الآخر
"خد بالك يا رامي، غرام دي تبع مستر يوسف ومستر نور، متوصي عليها جامد منهم، الله أعلم شكلها قريبتهم أو من معارفهم"
"اسمها غرام، حلو، حلو أوي كمان"
همس بها وينظر نحو غرام بنظرة يشوبها الغموض والرغبة في خطف الصيد الجديد قبل أن يقع في يد صاحبه.
※ ※ ※
انتهت ابتسام للتو من الشراء في السوق وفي طريق عودتها، كانت شاردة في أمر حسن الذي أخبرها إنه سيتحدث مع شقيقتها في أمر هام وعندما سألته خشية من أن يخبر شقيقتها بأمر عثمان فطمئنها حسن وقال لها لا تقلق وستعلم لاحقاً كل شيء.
توقفت فجأة عن السير عندما وجدت المقبل عليها أعلي الدراجة النارية، يبتسم إليه و هبط علي الأرض
"عثمان لو سمحت عايزة أروح بسرعة عشان أمي مستنياني، و لو حد شافنا من أهل الحارة سيرتنا هتبقي علي كل لسان"
أخبرته بذلك وكانت ملامحها جادة، ظل مبتسماً و عقب علي أسلوبها الذي ضايقه لكن أسر ذلك في نفسه
"أنا عارف إنك زعلانة مني و مش طيقاني عشان اللي حصل في البيت المهجور، و قصدت ما اقربش منك و لا أكلمك طول الفترة اللي فاتت لحد ما تهدي، و جيتلك النهاردة عشان أقولك إن أنا خلاص هسافر، عنتر بعتلي أشتغل معاه في الكويت، و أنا بصراحة فرحت جداً عشان شغلي برة هيخليني أعرف أجهز شقتي من كل حاجة و مش هخلي خالتي عزيزة تشتريلك حتي إبرة و شنطة هدومك كمان عليا"
"بس أنا... "
رفع يده لتصمت وتابع هو حديثه
"إحنا مش هنتجوز لا السنة دي و لا الجاية و لا اللي بعدها، أنا مع أول أجازة ليا هخطبك و نكتب الكتاب و بعد ما تخلصي الكلية نتجوز، أظن مفيش أريح من كدة، و لا إيه؟"
هزت رأسها وعقبت باقتضاب
"إن شاء الله"
"أنا كل اللي عايزه منك تاخدي بالك من نفسك أوي، ملكيش دعوة بحد و لو حد ضايقك أخويا عاطف مكاني هيجبلك حقك وقتها"
"ماشي"
"و حاجة أخيرة، هابقي أطمن عليكي كل يوم علي الواتس أو الفيس، ياريت تردي عليها ساعتها و تطمنيني عليكي"
نظر إلي هاتفها ذو الطراز القديم وأخبرها مردفاً
"أول قبض ليا إن شاء الله هابعتلك موبايل و هايكون من إختيارك"
"سافر أنت بس بالسلامة، و أنا هاتصرف و أكلمك"
"هتوحشيني"
"و أنت كمان"
لاحظ تغيرها الطارئ و ظن أمر أخر
"أنتي زعلانة أوي كدة عشان هسافر؟"
أخفت توترها خلف ابتسامة زائفة
"لاء مش زعلانة، أنا أتفاجئت بس بموضوع سفرك، و فرحانة جداً، أديك هترتاح من شغلانة صبي الميكانيكي في الورشة"
"يعني أنا هاروح أشتغل مدير شركة هناك، أنا هاشتغل حاجة من الأتنين يا نقاش يا هاغسل صحون في مطعم"
"مش مشكلة، طالما بالحلال خلاص"
صدح رنين هاتفها باسم شقيقتها، انتفضت وهمت بالذهاب
"غرام بترن عليا شكلها رجعت، معلش أنا مضطرة أسيبك، سلام"
وركضت سريعاً وكأن الاتصال جاء لها نجدة من الوقوف أمام عثمان والاستمرار معه في وعود ستنتهي قريباً.
※ ※ ※
و ها قد جاء أول يوم في العمل لها، كانت تشعر بالفرح ويخفق قلبها من فرط السعادة أخيراً ستعمل في وظيفة مرموقة بدلاً من التجول في القطار والتعرض للمضايقات من المارة ورجال الأمن في المحطات.
"صباح الخير"
ألتفت إلي صاحب الصوت وابتسمت
"صباح النور يا مستر يوسف، يارب أكون جيت في ميعادي مظبوط"
نظر إلي ساعة يده
"جاية بدري عشر دقايق عن ميعادك ده أنتي كدة هتبقي قدوة لزمايلك"
ضحكت وقالت
"هو بس عشان أول يوم"
"لاء، خدي بالك أنا في الشغل أسألي عني، جد جداً و بحب المواعيد المظبوطة"
"ما تقلقش حضرتك، إن شاء الله هاجي علي طول في ميعادي"
نهض من خلف مكتبه
"تعالي معايا لما أعرفك بالبيج بوص، رأفت بيه الشريف"
ذهبت خلفه فوجدت أنها أمام غرفة مكتب صاحب هذا الصرح، انبهرت بكل ما تري من حولها من رقي وشموخ من أثاث و ديكور.
طرق الباب و ولج بعد إذن والده له بالدخول، وجد سوزي تقف جوار والده بقرب مبالغ وتميل نحوه بجرأة سافرة غير مبالية لنظرات يوسف الحادة إليها
"تعالي يا يوسف، كنت لسه هاكلمك عشان عايزك"
نظر إلي سوزي وأشار لها
"أتفضلي أنتي علي مكتبك"
"أمرك يا رأفت بيه"
غادرت الغرفة فألتفت يوسف إلي والده
"بابا أنا أول حاجة بعتذرلك عن كلامي معاك المرة اللي فاتت و... "
"خلاص يا يوسف، مفيش داعي نقلب في اللي فات، كونك أنك تنقذ الشركة من خسارة كبيرة ده كفيل يمحيلك أي أخطاء و يخليني أسامحك، نور أخوك حكالي علي كل حاجة، و عرفت أنكم عينتم البنت اللي اسمها غرام هنا في الشركة"
ابتسم لأن والده اختصر عليه شوط كبير من الحديث
"هي واقفة برة و كنت جايبها عشان حضرتك تشوفها و تتكلم معاها بما أنها بقت موظفة في الشركة"
حدق إليه والده بنظرة غامضة
"و ياريت تحط في دماغك إنها مجرد موظفة في الشركة"
أدرك رسالة والده الخفية من حديثه هذا، نهض ليخبر غرام بأن تدخل، ولجت تتلفت من حولها، تشعر بالرهبة و الخوف، لاسيما عندما وقعت عينيها علي رأفت الشريف، شملها بنظرة سريعة، فهذا الرجل ذو هيبة و وضع يجعل الجميع ينحنوا إليه احتراما له.
نظرت إلي أسفل بخجل
"السلام عليكم يا رأفت بيه"
"و عليكم السلام، أتفضلي يا غرام"
جلست ونظرت إلي يوسف الذي كان يبتسم إليها ثم انتبهت إلي والده
"أنا يوسف حكالي علي كل حاجة، و قالي قد إيه أنك مجتهدة في شغلك و شاطرة، و بما أنك بقيتي مننا هنا، عايز أشوف شطارتك في الشغل، في الشغل و بس"
وصلت إليها الرسالة أيضاً، علمت إنه يحذرها من الاقتراب من نجله، هزت رأسها بنعم
"بإذن الله يا رأفت بيه"
"دلوقتي تقدروا تفضلوا علي مكتابكم"
نهض كليهما، وتشعر برجفة في يديها، ذهبت سريعاً إلي غرفة المكتب الخاص بها دون أن تلتفت إلي يوسف، و ما أن خطت قدمها داخل الغرفة، أغلقت الباب و تلتقط أنفاسها، تشعر بغصة وكأنها ارتكبت ذنباً، لما يحذرها هذا الرجل من أمر تعرف حدها نحوه جيداً، لتدرك أن الحياة ليست وردية هنا، و عليها أن لا تفكر بشيء سوي العمل فقط حتي لا تخسر مصدر رزق وفير لأسرتها.
※ ※ ※
الساعة الحادية عشر ليلاً، تريد الذهاب حتي لا تتأخر عن موعد عملها الجديد، ترتدي ثوب فاضح أسفل العباءة السوداء ظناً منها هذا ما سترتديه في الاستعراض الذي ستقدمه خلف المغني كما أخبرها عوني القرني.
ألقت نظرة علي والدها الذي يغط في النوم و اطمئنت لأنه لا يستيقظ سوي في اليوم التالي ظهراً ستكون قد عادت.
غادرت منزلها وبخطوات أشبه بالركض اتجهت إلي خارج الحارة لا تري الذي يلحق بها منذ أن رآها وهي تتسلل من باب البناء.
استقلت سيارة أجرة ففعل مثلها وقال للسائق
"أطلع ورا التاكسي ده ياسطا"
و بعد قطع مسافة كبيرة توقفت السيارة التي هي بداخلها وبعد أن اعطت للسائق الأجرة،
وجدت الحارس في استقبالها بحفاوة
"يا مرحب يا مرحب بالنجمة الجديدة"
رمقته من أعلي إلي أسفل
"يا سم"
ولجت داخل المصعد و بعد ثواني وصلت أمام باب المكتب، فتحت فتاة أخرى غير التي كانت موجودة بالأمس
"أنتي سماح؟"
أومأت لها الأخرى
"اه، أومال فين عوني بيه؟"
"تعالي أتفضلي أستريحي و استنيه عنده ضيوف وهيمشوا بعد عشر دقايق، تحبي تشربي حاجة؟"
هزت رأسها فهي تشعر بالعطش الشديد
"اه ياريت، عايزة أشرب ميه"
"دقيقة و راجعالك"
ذهبت الفتاة ذات المظهر الغريب، لكن سماح لم تهتم كالعادة فالمال و الشهرة لديها هما الأهم،
عادت الفتاة تحمل صينية يعلوها كوب من العصير و آخر ماء
"اتفضلي"
"شكراً"
تناولت كوب الماء ارتشفت القليل ثم أخذت العصير تشربه علي دفعة واحدة وكأنها تشعر بالحيوية بعد التوتر والقلق.
في الأسفل يصيح عاطف في الحارس
"بقولك أنا عايز أعرف اللي طلعت دلوقتي دي في أنهي دور؟"
"و أنا بقولك معرفش، و ماشوفتش حد طلع هنا، يلا أتكل علي الله بدل ما أندهالك الرجالة يطلعوك بمعرفتهم"
"طيب إيه رأيك أنا مش ماشي من هنا غير لما أعرف هي فين و طلعت لمين"
حدق نحوه الحارس بوعيد
"بقي كدة، ماشي أنت اللي جيبته لنفسك"
وفي الأعلى، بدأت تشعر بالخدر في أطرافها و عدم اتزان، أصبحت الرؤية مشوشة لديها و كانت عيون الفتاة ذات المظهر المريب تراقبها، اقتربت منها وحاولت مساعدتها في النهوض
"قومي معايا الضيوف مشيوا"
وقفت بصعوبة واستندت علي ساعد الفتاة وسارت بخطى متعثرة
"أنا.. مالي.. بيحصل.. فيا.. إيه؟"
تفوهت بصعوبة و كأن الخدر اصاب لسانها أيضاً
أجابت الفتاة
"معلش هو تأثير المخدر كدة، بيخليكي ما بين النوم والصحيان و تحسي أطرافك كلها كأنها مشلولة"
ولجت داخل غرفة ذات مساحة كبيرة مليئة بكاميرات التصوير في كل زاوية و إضاءة أزعجت عينيها، رجل يجلس خلف جهاز عرض صغير يذكرها بمشاهد المخرج الجالس خلف الشاشة يراقب المشهد، كما هناك وراء كل كاميرا رجل كل منهم ذو جسد طويل وعريض وكأنهم يعملون في الحراسة.
شعرت سماح بجسدها يلقي علي فراش ذو ملمس حريري، تقوم الفتاة بتجريدها من العباءة ذات المظهر الرديء لتصبح بالثوب القصير العاري وحذائها ذو الكعب المرتفع.
تركتها و ذهبت إلي غرفة قريبة لتخبر هذا الشيطان البدين، وجدته يتحدث في الهاتف
"أوعي تخليه يطلع، أنا هابعتلك الرجالة يخلوه يحرم يمشي من قدام البرج تاني"
أنهي المكالمة ورأي الفتاة تخبره
"النجمة جاهزة يا بوص"
ابتسامة شيطانية علي محياه يتبعها أمراً
"بلغي سام وقوليله النجمة جاهزة وخليهم يبدأوا تصوير"
"أمرك يا بوص"
وبعد أن نفذت أوامر رب عملهم المشين، خرج من الغرفة المجاورة لغرفة التصوير شاب مفتول العضلات، تبدو ملامحه الغير عربية إنه من جنسية أوروبية، يرتدي قميصاً مفتوحة أزراره إلي خصره وبنطلون من الجينز الأسود.
ولج بخطوات استعراضية كعارض الأزياء، صاح هذا الجالس خلف الشاشة
"1 2 3 go"
تسمع أصواتهم و تري هذا الضوء المزعج و المسلط عليها، تريد أن تتحرك لكن غير قادرة علي فعل ذلك، ظهر أمام عينيها رجل يخلع قميصه، تحاول أن تصرخ لا جدوي من ذلك و كأنها داخل كابوس لا تستطيع الاستيقاظ منه، تشعر بكل لمسات و قبضة هذا الرجل الغريب علي جسدها، ينفذ أوامر المخرج وهي بين يديه كالدمية يحركها كيفما شاء تحت أنظار كل من في الغرفة.
و في الأسفل يصرخ عاطف من ألم اللكمات و الركلات الموجهة إليه من رجال عوني، مع كل صرخة يناديها
"سماح"
صراخه مسموعاً بينما صراخها الناتج عن اعتداء الرجل عليها أمام الكاميرات لا يسمعه سواها فقط.
يتبع....
*الفصل التاسع* و *الفصل العاشر*
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا
تعليقات
إرسال تعليق