روايه خطايا بريئه الفصل الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر بقلم الكاتبه ريم كريم
روايه خطايا بريئه الفصل الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر بقلم الكاتبه ريم كريم
🌺🌺روايه خطايا بريئه🌺🌺
بقلم الكاتبه ♥ ريم كريم ♥
الرابع عشر
ما زلتُ أتساءلُ بعد كلِّ هذه السّنوات أين أضع حبّك اليوم؟ أفي خانةِ الأشياءِ العاديّة التي قد تحدُثُ لنا يومًا كأيّة وعكةٍ صحيّة أو زلّة قدمٍ أو نوبة جنون؟ أم أضعه حيث بدأ يومًا؟ كشيءٍ خارقٍ للعادة، كهديةٍ من كوكبٍ لم يتوقّع وجوده الفلكيّون، أو زلزالٍ لم تتنبّأ به أية أجهزةٍ للهزّات الأرضيّة أكنت زلّة قدم أم زلّة قدر؟
رواية(ذاكرة الجسد)
أحلام مستغانمي
--------------------
لايعلم كيف قاد سيارته بتلك السرعة الجنونية كي يصل لها فقد كان غاضب لأبعد حد والعديد من السيناريوهات تدور برأسه وتكاد تفحم تفكيره من شدة سودويتها، وها هو قد وصل لتوه مهرولًا للداخل بخطوات واسعة يتأكلها الغضب وحين وجدها تسير برفقة المحامي في طريقهم للخارج جز على نواجذه بقوة وكور قبضة يده حتى نفرت عروقه وصرخ بأسمها بنبرة قوية جعلتها تتجمد بأرضها:
-ناااااااادين
ما أن سمعت صوته ورأته بمرمى بصرها أرتجف جسدها وزاغت نظراتها بخوف فكانت هيئته مرعبة ولا تبشر بالخير بتاتًا ولذلك حاولت الأحتماء بظهر المحامي وهي متوجسة خِيفة منه، ولكن هو اختصر المسافة بينهم بخطوتان ليس أكثر وهدر بنبرة تقطر بالوعيد:
-أنتِ فِكرك في حد هيقدر يحميكِ مني
تدخل المحامي ببديهية كي يحيل بينهم قائلًا:
- اهدى بس يا استاذ"يامن" هي كويسة وكل الحكاية انها كانت سهرانة مع صحابها وحصل مشاجرة عادية والموضوع اتساوى بشكل ودي قبل ما يتحول للنيابة
أغاظه بشدة تبسيطه للأمور رغم فداحتها بالنسبة له، فما كان منه غير بسمة متهكمة وقوله بنبرة غاضبة أرجفت اوصالها وجعلتها تتشبث بظهر المحامي أكثر:
-المفروض افرح انا بعد الكلام ده واقول للهانم مراتي كفارة مش كده!
قالها وهو يجذبها بعنف من خلف ظهر الآخر، ويتفاجئ بذلك الثوب اللعين التي ترتديه ويكشف الكثير من جسدها لينظر لها مشمئزًا و يجز على نواجذه حتى ظهر ذلك العرق النابض بجانب فكه وأخذ ينفض في غضب وهو ينزع سترته ويقذفها بعنف بوجهها، انتفضت هي من فعلته ولكن كرد فعل سريع منها ضمتها إلى صدرها كي تستر بها ذراعيها و تتحاشى تلك النظرات القاتلة بعينه وقبل أن يتفوه المحامي بكلمة أخرى أزاحه من أمامه وجرها خلفه إلى أن وصل لسيارته وحينها دفعها داخلها وانطلق بها إلى المنزل وهو يتوعد لها بأشد الوعيد، بينما على الجانب الآخر كان هو يشاهد من بعيد حتى أنه ود أن يتدخل لولآ أن منعه صديقه "فايز" وتمسك بذراعه بأخر لحظة قائلًا:
- اهدى يا "طارق"ومتبوظش الدنيا أنت كده هتفضحها، احنا ما صدقنا انها عدت على خير وابوك عطى الأمن وصاحب المكان قرشين وخلاهم مجبوش سيرتها ولا سبب الخناقة
أومأ له "طارق" يؤيده:
-عندك حق كويس انه اتدخل وحل الموضوع قبل ما يكبر ويوصل للإعلام لينظر لآثارهم ويستأنف:
-بس أنا خايف يأذيها الغبي ده
طمأنة "فايز" قائلًا بمكر:
-متقلقش "نادو" قوية ميتخافش عليها ليكبت ضحكته وهو يتذكر ذلك المشهد الذي انفرد به ويقول ساخرًا:
-دي رزعتك حتة قلم طبق وشك يا صاحبي
زفر "طارق" أنفاسه غاضبًا من سخرية صديقة التي ليست بِمحلها وقال ناهرًا:
-أظبط يا "فايز" أنا مش فايقلك وقولي عملت اللي قولتلك عليه؟
أومأ له "فايز" بنعم، لتحتد سوداويتين "طارق"ويقول بنبرة متأملة:
-هانت يا "نادو" بكرة مش هتكونِ غير ل "طارق" وبس
--------------------
نظرت للمرة الألف بعد المائة لهاتفها ولتلك الرسالة التي أتتها اليوم من المصرف تعلمها بشأن حسابها المشترك معه وانه تم سحب مبلغ كبير منه، كادت تجن وظلت تفكر مليًا وعقلها يتأرجح بين أن تواجهه، أَم تصمت كي لا يتخذ حذره، حسمت أمرها حين رأته يدلف بِمزاج رائق للغاية يدندن غير عابئ بها، حاولت الثبات قدر المستطاع واخراس عقلها ولكن وجدت صوت قلبها يخرج متسائلًا:
- كنت معاها مش كده؟؟؟؟
زفر أنفاسه وقلب عينه بملل ولم يجيبها بل توجه لغرفة النوم
يفتح خزانته ويسحب أحد ملابسه البيتية مما جعلها تتبعه و تجذبه من ذراعه وتصرخ به:
-رد عليا... كنت معاها؟
كان يحاول ألا يعكر صفوه في مجادلة لا نفع منها بالنسبة له ولكن هي لم تصمت بل جذبته من ذراعه وصرخت به مرة آخرى بإصرار عجيب وكأنها لا تعرف إجابة لسؤالها:
-رد عليا انا بكلمك
أغاظه تطاولها، ليتخلى عن بروده ويقبض بقوة على ذراعيها يُأرجحها في عنف بين يده قائلًا بنبرة قاسية أمام وجهها:
-عايزة تعرفي ايه هااا؟
اه كنت معاها...وهبقى معاها علطول علشان أهرب من القرف والملل اللي أنتِ معيشاني فيه
نزل حديثه عليها كدلو ماء بارد في
ليلة قارصة البرودة وجعلها تتحسر على تنازلاتها وعطائها الذي لم يقدره يوم ولذلك كررت حديثه بسخرية مريرة:
-قرف، وملل للدرجة دي أنت جاي على نفسك لأ كتر ألف خيرك
نفضها عنه متأفف بذلك المبرر الذي هيأه شيطانه له:
-يووه متحسسنيش أني مذنب و بلاش دور الضحية ده وحطي في اعتبارك انك أنتِ السبب
انكمشت معالم وجهها وتسألت بشدوه:
-أنا... طب ازاي ... انت مش لاقي حاجة تعلق عليها اخطائك غيري مش كده!
نفى برأسه وهدر مبررًا بسخط وبكل ثقة وكأن ما يقوله هو المنطق في حد ذاته:
-لأ انتِ السبب قتلتي شغفي ووقفتِ حياتي بسلبياتك و روتينك الممل ... انا محتاج ست تبقى قوية واثقة في نفسها وعندها طموح واقدر اعتمد عليها، ليصمت لبرهة يوليها ظهره يتحاشى النظر لها ثم يستأنف بمغزى يعلم انها ستتفهمه جيدًا:
-والأهم من كل ده تعرف ازاي تسعدني وتراضيني بالطريقة اللي انا حاببها...
كان ينتظر أنهيارها أو غضبها عليه ولكنها فاجأته بردة فعلها عندما أخذت تقهقه بملء صوتها وقولها بنبرة متهكمة جعلته يلتفت مستغربًا:
-وعلشان كده فكرت تكافئ الذكر اللي جواك وتتغاضى عن حاجات كتير أوي، يا حرااااااام...!!!!
قالت أخر كلمة بتعاطف مصطنع وبنبرة هازئة تعمدتها مما جعله يجعد حاجبه ويضيق عينه متأهب لبقية حديثها الذي تفوهت به بالفعل ولكن بعد أن هزت رأسها وأزاحت بسمتها شيء فشيء عن وجهها وبدلتها للأشمئزاز:
-برافو عليك بصراحة اختيارك موفق جدًا ويستاهل أنك تتنازل عن نخوتك وتقبل على نفسك تتجوز واحدة سمعتها زي الزفت، وكل ده ليه؛ علشان أنت حد غبي واناني ومفرقتش حاجة عن الحيوانات اللي غرايزهم بتتحكم فيهم يا "حسن"
قالت حديثها دفعة واحدة بوجهه دون لمحة ضعف واحدة بل بشراسة هجومية فاجأته كثيرًا وجعلته
لم يتمالك أعصابه بعد أن أهانت كبريائه كرجل ببراعة، فما كان منه إلا أن دفعها دفعة قوية من شدتها سقطت على الفراش بخلفها متأوها مغمضة العينين، ليصرخ هو بها بإصرار مقيت نخر قلبها وزاد من آلامها:
-برضو مش هتعرفي تخليني اغير رأي يا "رهف" وانا غلطان إني كنت بحاول اطيب خاطرك وابرر ليكِ واعملي حسابك كتب كتابي بكرة وهاخدها واسافر
لو كانت الكلمات تقتل لكانت الآن لقت مصرعها على يده ولكنها صمدت رغم أنين قلبها، فلن تصرخ ولن تنهار باكية حتى لا تشمئز من ذاتها وتصبح مثيرة للشفقة أمامه، ولذلك لملمت شتاتها هادرة وهي ترفع رأسها بشموخ متحدية إياه بنظرات مستنفرة ضاربة بكل شيء عرض الحائط في سبيل أن تحتفظ ببقايا كبريائها الذي دهس تحت قدمه:
-لو فاكر باللي انت عملته ده أثبت أنك راجل تبقى غلطان، انت عملت كده علشان انا عريت حقيقتك البشعة اللي عمري ما اكتشفتها غير دلوقتي، لترشقه بنفور وتضيف بحسرة وبنبرة ممزقة من شدة خذلانها:
-يااااه أد ايه كنت مخدوعه فيك وشيفاك حاجة كبيرة اوي بس دلوقتي انا خلاص الغشاوة اللي على عيني اتشالت وبقى عندي الجرأة إني أقولك بعلو صوتي انا مش عايزة أكمل معاك ...طلقني يا "حسن"
قالت آخر جملة بصوت جهوري وبإصرار عجيب أجفله و جعل الدماء تغلي برأسه
لينقض على ذراعيها يرفعها لمستواه قائلًا برفض قاطع وبنبرة هستيرية:
-طلاق انا مش هطلق وميهمنيش أنتِ شيفاني ازاي وغصب عنك لازم تتقبلي الوضع الجديد لأن
مش من حقك تعترضي أنا راجل يعني اتجوز مرة واتنين وتلاتة كمان؛ ده حقي وشرع ربنا.
رغم كل الأعاصير التي تضرب بكيانها من تبريره للأمر إلا أنها صرخت في عناد و بشراسة لم تكن ابدًا من طباعها:
- مش هيحصل و هتطلقني غصب عنك
صدر من فمه صوت ساخر مستخف ثم قال بعد أن هيأ له شيطانه ضرورة تذكيرها بسُلطته ومدى ضعفها و قلة حيلتها أمامه ولذلك تعمد أن يرهبها كي لا تجرأ على التفوه بتلك الترهات مرة آخرى:
-خليكِ عاقلة يا "رهف" وحافظي على بيتك وعلى عيالك ومتخلنيش أعمل حاجات توجعك
استشعرت التهديد بنبرته مما جعلها تنظر له بعيون أبية ترفض أن تذرف الدمعات هدرًا من أجله، وعقبت على حديثه بترقب:
-قصدك إيه؟؟
أبتسم منتشيًا ونفضها عنه و أجابها بتهديد مقيت بعدما أزاحها من أمامه وتوجه للفراش يتمدد عليه بكل اريحية غير عابئ بأنين قلبها:
-مفيش طلاق وإياك تنطقي بيها مرة تانية ده لو عايزة تحافظي على ولادك في حضنك
أصابها حديثه بمقتل فقد تفهمت إلى ماذا يرمي فهو يستغل غريزتها كأم ويتحامل عليها كي يرهبها و تتقبل خطيئته بحقها فكانت شاحبة، متسمرة، مشدوهة تتساءل من ذلك الشخص الذي يقبع أمامها، فلأول مرة تشعر انه غريب عنها ولم تعرفه قط، وحينها اسعفها عقلها أن لا تشعره بوطأة حديثه في نفسها كي لا يستغل الأمر أكثر وإن كادت تستعيد رباط جأشها كي ترد عليه صدر من فمه صوت ساخر مرة أخرى وهو يظن أنه أصاب هدفه ولذلك استأنف متجبرتًا:
-خليكِ عاقلة احسنلك يا أم الولاد...وياريت تسبيني أنام علشان بكرة يوم طويل ومحتاج ابقى فايق
حانت منها بسمة متألمة لأبعد حد ثم تمسكت بإطار الباب كي يدعم وقفتها وقالت بتماسك وبإصرار عجيب للصمود استغربه هو كثيرًا:
-لو فاكر انك بتلوي دراعي بالولاد فأنت غلطان، متنساش أنك ابوهم يعني هتخاف عليهم زي بالظبط وعلى فكرة أنت اللي هضطرني اعمل حاجات توجعك
كررت نفس جملته وهي ترشقه بموضعه وكأنها تريد أن تخبره كون الموازين ستقلب عاجلًا أم أجلًا، حتى انها لم تنتظر رده بل غادرت الغرفة تاركته يحاول يستوعب حديثها وحين فعل استخف عقله بها وطمأنه انها أضعف بكثير من أن تفعل ظنًا منه أن لا خيار أمامها.
-----------------
أتقِ شر الحليم إذا غضب تلك المقولة كانت تنطبق عليه تمامًا الآن حين باغتها بصفعة قوية ارتدت هي على آثارها، فقد عصت أوامره وخرجت دون أخباره بذلك، والأدهى أنها كانت داخل ذلك المكان الموبوء بتلك الملابس الكاشفة التي ترتديها الآن، وضعت يدها على وجهها وبرقت عيناها وفغر فاهها و لم تستوعب أنه تطاول عليها بالضرب لتوه ولكنه لم يمهلها الوقت الكافي كي تستوعب بل باغتها بصفعة آخرى أشد وطأة من قبلها، تأوهت بقوة وترنحت بوقفتها ولكن يده دعمتها بقبضة من حديد صارخًا بوجهها بغضب قاتل:
-رغم إني عارف كل عيوبك بس أخر حاجة كان ممكن اتخيلها انك تطلعي كدابة ومش قد ثقتي فيكِ
أحتدت نظراتها وزادت قتامة وهدرت متشفية وهي تلوث بيدها وتدفعه بصدره كي يتركها:
- آه يا "يامن" كذبت وهفضل أكذب طول ما أنت ذللني وفارض كل حاجة عليا
لم يتزحزح قيد أنملة عن موضعه بل اشتدت يده أكثر على ذراعيها وهو يشعر ببركان ثائر برأسه من تبجحها، ليقول من بين اسنانه بنبرة صارمة لا تعرف المزاح:
-لو اللي كنت بعمله علشانك قبل كده كان اسمه ذُل فأنا بقى هوريكِ الذُل الحقيقي يا بت الراوي و وحياة أمي لخليكِ تكرهي اليوم اللي اتكتبتي فيه على أسمي
رغم الرعب الذي بثه حديثه في نفسها إلا أن تلك المتمردة بداخلها استنكرت:
-مش محتاج تخليني أكرهه لأن أنا فعلًا بكرهه، وبكرهك أنت كمان وبكره أمك، وكل حاجة منك
صفعة آخرى كانت رده على حديثها الساخط الذي أصابه بمقتل وجعله يلعن قلبه اللعين الذي مال لها.
تأوهت هي بقوة وسقطت على المقعد الذي خلفها ثم هدرت بشراسة عدائية:
-متمدش ايدك عليااا انا بكرهك...
بكرهك
ومع تكرارها لتلك الكلمة اللعينة لم يشعر بذاته إلا وهو يختصر المسافة بينهم بخطوة واحدة ويميل بجزعه عليها قابضًا بقوة على فكها حتى تكف عن التفوه بشيء أخر يثير اعصاب اكثر؛ ولكنها لم تستسلم وظلت تتلوى تحاول المناص من قبضته التي تكاد تحطم فكها وإن يأست رفعت عيناها المتمردة له هادرة بجنون وبأخر حيلة لديها طنًا منها أنه سيفلتها غافلة كونها تأجج نيران غضبه أكثر:
-عمري ما حبيتك ولا هحبك ولو أخر يوم في عمري هفضل أكرهك
إلى هنا وطفح به الكيل فقد نفرت عروقه وتوحشت نظراته
وكأنه تبدل لشخص أخر لا يمت للآخر بصلة مما جعل الرعب يزحف لقلبها رغم القوة التي تدعيها، ليزيدها هو عليها حين هسهس أمام وجهها بنبرة غاضبة نابعة من اعماق الجحيم:
-محدش طلب منك تحبيني... بس غصب عنك أنتِ مراتي وانا الحقيقة الوحيدة اللي في حياتك وعندي استعداد أثبتلك ده حالاً وبدل ما يكون اللي بينا على ورق هيكون واقع كل متفتكريه تكرهي نفسك ألف مرة
مزج قوله بنظرة ذات مغزى جعلت الدماء تفر من وجهها فتهديده الصريح جعلها تدرك أنها لم تحسب حساب شيء كهذا من قبل، ليفحمها هو أكثر:
-وساعتها أنا اللي هرميكِ وهخرجك من حياتي لأن ميشرفنيش أكمل مع واحدة كدابة وبجحة زيك
كان التحذير يقطر من كل كلمة يتفوه بها حين كانت تطالعه تبحث عن ذلك المتفهم المراعي الذي لم يتحامل على مشاعرها ولكنها لم تجد له أثر وحينها أدركت انه لن يمزح بوعيده، ورغم ذلك وجدت تلك المتمردة بداخلها تستنكر ولكن بصوت خرج مهزوز ترتجف حروفه وهي تخرج من فمها:
-متقدرش... تعمل... كده
حانت منه بسمة مريبة لأبعد حد ومال بثقل جسده عليها يثبت ساقيها بركبتيه دون أن يترك فكها بيد وبالأخرى كان يكبل يديها خلف ظهرها، صرخت هي وحاولت أن تنفضه عنها ولكن كان هو سد منيع لا يتزحزح قيد أنملة عن موضعه، لم تأخذه بها رحمة بل طالع بعينه الثائرة الخوف الذي يشع من عيناها رغم عنادها وقال بكل ثقة امام وجهها:
-لأ أقدر ...تحبي تراهني عليا...
أغمضت عيناها بقوة من أنفاسه الغاضبة التي لفحت وجهها، ليصرح من جديد وهو يقرب وجهه أكثر من وجهها :
-انطقييييي تحبي أثبتلك دلوقتي واوريكِ انا أقدر على أيه ؟؟
خارت دفعاتها وذهب تمردها أدراج الرياح حتى أن تساقطت دمعاتها النادرة بغزارة وهي تنفي برأسها بحركة هستيرية جعلته يزئر بغضب ويلعنها وكأنه لم يقتنع برفضها لينهض عنها جذبها معه إلى غرفتها غير عابئ بصراخها الممزوج بنحيبها ولا ضرباتها ليده القابضة على ذراعها في محاولة منها أن تفلته من بين قبضته وهي تظن أنه سينفذ وعيده، أما هو فكان يحاول أن يسيطر على جماح نفسه بقدر المستطاع كي لا يفعل ما برأسه ويثور لكبرياء رجولته ولأمتلاكها حقًا، فقد لعنها مرة أخرى تحت انفاسه ولعن ما توصلت له أفكاره بفضلها وحين دخل لغرفتها دفعها عنه بتقزز وكأنه ينفض افكاره معها، تراجعت هي بجسدها وبنظرات تكاد تموت رعباً أنكمشت في زاوية الفراش تشعر أن كل خلية بجسدها تنتفض فلأول مرة تراه غاضب لذلك الحد وينتابها الهلع من تصرفاته وحين كادت تتنفس الصعداء كونه ابتعد عدة خطوات عنها أجفلها بفتح خزانتها وسحب كافة أثوابها المعلقة وأخذ يشق بهم بعصبية مفرطة جعلتها تصرخ و تندرج في نوبة بكاء هستيرية، ولكنه لم يهتم فكان الغضب الذي يعتريه يسيطر على كافة حواسه لدرجة أنه استمر على ما يفعله دون أي شفقة، أنكمشت على ذاتها أكثر وهي تشهق شهقات متقطعة و تراه يجذب جهازها اللوحي بين يده ثم دون أن يعطيها مجال لتوقع ردة فعله كان يضرب به الحائط عدة ضربات ألحقت الضرر الأكيد به وجعلته لا يصلح بتاتًا، ليلقي به أرضًا ثم يقترب منها بخطوات قاسية يتأكلها الغضب جعلتها تنكس رأسها بخوف وتحمي وجهها بذراعيها كطفلة صغيرة تخشى العقاب، ورغم أن رؤيتها كذلك اعتصرت قلبه إلا انه لم يتهاون وصرخ بها بأنفاس ثائرة غاضبة:
-خرجتي ازاي من البيت؟
نفت برأسها ورفضت أن تجيب لتحين منه بسمة مخيفة لأول مرة ترتسم على فمه ويقول بثقة لا مثيل لها:
-هعرف... و وحياة أمي مش هرحمك يا "نادين" واعملي حسابك مفيش خروج من اوضتك...ومفيش تليفون ولا نت ولا جامعة هتفضلي محبوسة هنا لغاية ما تتعلمي الأدب...فااااااهمة
اومأت له بحركة هستيرية و بعيون منكسرة دامية من شدة نحيبها مما جعله لوهلة يتذكر تلك الطفلة ذات الضفائر الطويلة ذاتها حين كانت تفتقد والدتها وتتذكر كيف رحلت عنها فدائمًا ما كان يواسيها ويطمئنها أنه بجوارها ولكن الآن كيف يفعلها بعد كل ما صدر منها فما كان منه غير لعنها ولعن ذاته ربما للمرة الألف بعد المائة ثم مغادرته الغرفة وأغلاقه بابها بالمفتاح الخاص به من الخارج، لتصرخ هي بهستيرية مرة وراء مرة وهي لا تصدق أن ذلك هو ذاته الذي تمرد قلبها من أجله، ليخور جسدها وتستسلم لنوبة بكاء مرير يفطر القلب ويدمي الروح، أما هو فلم يشعر بذاته إلا وهو يقف خارج غرفتها و يضرب الحائط بقبضة يده بقوة كي ينفث عن تلك البراكين الثائرة من شدة الغضب الكامن بأحشائه وتكاد تتأكل روحه معها
---------------------
بعد بعض الوقت وقد هدأ قليلًا
وتذكر والدته فقد توجه إلى غرفتها كي يطمئن عليها ولكنه تفاجأ كثيرًا عندما وجدها تغط في سبات عميق رغم كل الضجيج الذي كان يعم المنزل، اقترب منها يطالعها عن كثب ولكنه وجد كل شيء طبيعي لا يثير الريبة مما جعله يحسم أمره ويتركها ويغادر لذلك الحارس الغبي الذي لم يخبره بخروج تلك اللعينة.
تقدم من مكان جلسته وصرخ بصوت جهوري رج الأجواء:
- انت يا "مُسعد" يا زفت
هب "مُسعد" من رقدته وهمهم بطاعة رغم النعاس المسيطر عليه:
- تحت أمرك يا بيه...
قبض "يامن" على تلابيب جلبابه وصاح بِعصبية:
- عايز اعرف كنت فين لما "نادين" خرجت...
جحظت عينا "مُسعد" وقال بصدق:
-والله يا بيه انا ماتحركت من مكاني وعيوني ما غفلت لحظة عن البوابة وعربية الهانم أهي مركونة قدام جنابك
جز على نواجذه بقوة وهدر وهو على حافة الجنون:
-أمال خرجت أزاي...لبست طاقية الاخفى
-والله يا بيه ما ليا ذنب وربنا يعلم إن كل كبيرة وصغيرة ببلغك بيها انا لحم كتافي من خيرك
قالها "مُسعد" بنبرة مسالمة وصدق بالغ لامسه "يامن" ليتركه ويقول بنفاذ صبر:
-خلاص ابعد دلوقتى من وشي......
أومأ له "مُسعد" وانصرف بينما هو ظل يدور حول ذاته لثوانِ معدودة قبل أن يتذكر شيء بعيد احتاط هو له، وكم تمنى أن لا يكون بمحله ولكن ها هو يتفقد تسجيلات كاميرات المراقبة التي وضعها بتكتم تام بعد واقعة أختفاء المفتاح الخاص بالباب الخلفي للمنزل وكم كان يطمح أنها تكون مجرد ظنون واهية لا أساس لها من الصحة، ولكن كيف وهو يرى صورتها تحتل الشاشة وهي تتسلل منه للخارج، توقف الزمن به يحاول أن يستوعب الأمر لدقائق مرت عليه دهرًا من الخذلان وحينها كان حقًا بحالة هياج لا مثيل له ولم يشعر بذاته غير وقدميه تأخذه لسيارتها الحمراء ينظر لها بغيظ شديد ودون أي مقدمات او لحظة تفكير واحدة كان يسحب تلك الآلة الحادة من جانب بوابة البيت وينهل عليها بضربات قوية حطمت أجزائها إلى أشلاء وهشمت زجاجها إلى شظايا وكأنه فعل ذلك كي ينفث عن غضبه بها عوضًا عنها، لترتجف هي أكثر وتضع يدها على أذنها عندما وصلها الضجيج الذي أحدثه وتيقنها لفعلته وتستسلم لنوبة بكائها من جديد وهي تكاد تموت بجلدها
--------------------
تمددت بجانب أطفالها ودثرتهم بين أحضانها وظلت تقبلهم أثناء نومهم قبلات حانية متفرقة وتشتم رائحتهم ودمعاتها قد أبت الصمود أكثر وهطلت كي تفضح هشاشتها وضعفها فهم اغلى شيء على قلبها وقطعة من روحها ولن تستطيع أن تبتعد عنهم دقيقة واحدة رغم أنها ادعت عكس ذلك منذ قليل أمامه ولكنها لم تود أن تجعله يبتز غريزة الأمومة داخلها ولذلك كان لابد من التحلي بالثبات أمامه كي لا يستغل الأمر ويتخذها كنقطة لضعفها، فحديثه المقيت مازال يتردد صداه بداخل عقلها، عقلها الذي لأول مرة يثور منذ سنوات بشيء يخصه و يداهمها لتوه بالحقائق عندما تساءلت هل حقًا سيفعل ما استشعرته من نبرته المحذرة ويحرمها من أطفالها؟
أجابها عقلها بمنطقية بحتة
ولمَ لا بعد كل ما صدر منه فقد خذلك واختزل سنوات عمرك التي كرستها له هباءٍ، يعلم الله انكِ لم تقصري معه بشيء وكنتِ تبذلين كل ما بوسعك من اجل ارضائه انا لا اخبرك أنك كاملة فالكمال لله وحده فأنتِ تعلمين انكِ منقوصة بالنسبة له ولكن لمَ يا ترى لم يحاول إكمال ذلك النقص بكِ، لمَ لم يتحمل ويتقبلك مثلما تفعلي أنتِ، هو حتى لم يكلف ذاته عناء المبادرة بل فضل أن يبدلك بأخرى فتبًا له ولسخطه و أنانيته لا تستسلمي وسايريه للنهاية ولكن بعد أن تشيدي حصن قوي تحتمي به أنتِ وأطفالك، أيظنك ساذجة وستتقبلين الهزيمة وخسارة كل شيء لا أنتِ قوية وأنا واثق بقدراتك على التحمل لا تيأسي، افاقت من خطاب عقلها وهي تؤيده بشدة قائلة بوعيد وبإصرار لا مثيل له:
-وحياة ولادي اللي معنديش في الدنيا اغلى منهم لهدفعك التمن غالي اوي
إذًا، هو من أنشب الحرب؛ فليتحمل فداحة خسائرها فحقًا كانت تريد أن تحيا بلا منازعات تنغص صفو حياتها ولذلك كانت تتهاون وتتنازل عن أبسط حقوقها ولكن هو لم يقدر ذلك بل اتخذه كحق مشروع له وسخط عليها وأصبح يبرئ كافة خطاياه بحقها.
مثله كمثل بعض الرجال يتحدثون عن ما شرعه الله بحقهم وهم بالأساس جاهلون بتعاليم دينهم و واجباتهم حتى فرائضهم يقصرون بها فحقًا عجبًا لكم معشر الرجال تحللون ما يستهواكم فقط...
-------------------
-طااااااارق
صدر صوت أبيه صارخًا به بقوة اجفلته وجعلته يستدير يرد عليه في طاعة:
-نعم يا بابا
=بتتسحب زي الحرامية ليه وبتهرب فكرك اللي حصل ده هعدهولك
قالها ابيه بنبرة قوية صارمة تخص رجل سياسي مخضرم قوي الشكيمة، مما جعل "طارق" يقترب منه قائلًا في تبرير:
-بابا محصلش حاجة انا كنت سهران مع صحابي و...
قاطعه ابيه بصرامة:
-سهران مع صحابك ولا مع بنت "عادل الراوي"
أبتلع "طارق" ريقه بتوتر وأجاب أبيه:
-"نادين" من ضمن أصحابي وكانت معانا
صفعة قوية كانت رد أبيه الرادع له وتلاها صراخه به:
-انت فاكرني نايم على وداني يا ولد انا كل كبيرة وصغيرة بتجيلى وانا قاعد في مكتبي
فكرك أنا معرفش بعلاقتك بيها ولا بالشقة اللي واخدها جنب بيتها مخصوص علشانها
أغمض "طارق" عينه بقوة وهو يتحسس وجنته التي انطبع عليها أصابع ابيه بالأحمر القاني وقال مبرارًا:
-الموضوع مش زي ما حضرتك فاهم انا بحبها يا بابا
زمجر أبيه بغضب وهدر بصرامة شديدة:
-أنت اتجننت بتحب واحدة متجوزة أنت يظهر أن السنين اللي عشتها مع امك بره نسيتك ازاي تبقى راجل وتحترم أن احنا في مجتمع شرقي له عاداته وتقاليده
تحمحم "طارق" قائلًا:
-منستش يا بابا ومش ذنبي ان كل واحد فيكم عايش في مكان ومشتتني معاكم، وبعدين أطمن هي هتطلق علشان مش بتحبه وابوها اللي كان فرضه عليها قبل ما يموت
طالعه أبيه بنظرة صقرية نافذة ثم قال بجدية شديدة:
-انت عارف لو كان الخبر ده انتشر واتسرب للإعلام كان هيحصل إيه؟
تخيل كده عناوين الأخبار اللي كانت هتنتشر وهتمس سمعتي ومركزي السياسي الحساس
حاول أن يبرر من جديد ولكن أبيه أخرسه قائلًا بصرامة و بقرار قاطع كحد السكين:
-طول ما هي على ذمة راجل تاني يبقى تبعد عنها نهائي وتحط في اعتبارك لو محصلش هرجعك تعيش مع امك انا زهقت من مشاكلك و فضايحك اللي ملهاش اخر
حاول طارق" أن يجعله يعدل عن قراره فهو يفرض عليه الأبتعاد عنها وهو حقًا لا يود ذلك مطلقًا:
-بس يا بابا انا…
-من غير بس ده أمر مش بخيرك
وبحذرك متغلطش علشان متشوفش مني تصرف تاني مش هيعجبك ابدًا
قاطعه ابيه بنبرة قوية صارمة جعلته ينكس رأسه دليل على طاعته الجبرية، قبل أن يغادر إلى غرفة مكتبه تاركه يهوى على أحد المقاعد يفكر كيف سيتمكن من التخلص من ذلك ال "يامن" في أقرب وقت كي يحظى هو بقربها، و حينها سيحاول جاهدًا إقناع أبيه بشأنها مهما كلفه الأمر .
-----------------
صباح يومٍ جديد يخبئ بين طياته الكثير
فقد كانت هي جالسة على طاولة الطعام وبسمات هادئة ترتسم على ثغرها كل حين وآخر كلما تذكرت يومها معه، فحقًا أعادها ذلك اليوم إلى طفولتها التي لم تحظ بها أي اهتمام، فقد استمتعت كثيرًا برفقته وبرفقة الصغيرة فكل شيء حينها كان مميز كثيرًا، توردت وجنتها خجلًا عندما أتت ومضة أمام عيناها تذكرها حين كانت تصرخ بهلع وتحتمي به وكأنه هو درع أمانها الوحيد.
لاتعلم متى أكتسب ثقتها لذلك الحد ولكن تقسم أنها لم تقترب من رجل لذلك الحد سوى أبيها والغريب بلأمر أنها شعرت أنها في موقعها الصحيح بل ايضًا شعرت بالكمال لأول مرة منذ زمن بعيد فلا تنكر أنه يؤثر بها ويمتلك منطق غريب يثير فضولها، فكل شيء معه يكون مختلف، مميز لحد كبير وبرغم أن الوضع يظهر مربك لها ولكنها لم تشعربذلك بل تجد ذاتها على سجيتها وتتصرف بتلقائية بحتة وكأن صداقتهم منذ قديم الأزل، نعم، (صداقة)ذلك المسمى البديهي لتقاربهم ولكن لمَ يستنكر قلبها تلك الفكرة حين ترددت صوت ضحكته الخشنة المفعمة بالرجولة داخل رأسها الآن و دغدغت مشاعرها وجعلت ابتسامتها الهائمة تتسع دون دراية بتلك التي تترصدها وهدرت متسائلة:
-خير يا "ميرال" مالك؟؟
أخرجها من شرودها صوت "دعاء" الساخر بعدما انضمت لتوها لطاولة الطعام، تنهدت هي واستندت على ظهر مقعدها وأجابتها:
-عادي يا "دعاء" انا كويسة
اعتلى جانب فم "دعاء" ساخرًا وهدرت بتطفل كعادتها متقمصة دور الأم المهتمة الذي لا يناسبها بالمرة:
-كويسة ازاي وأنتِ كل ساعة بحال ده غير أنك مسهمة وبتضحكي من غير سبب، بجد حالتك بقت صعبة و ميتسكتش عليها انا معرفش ليه رافضة "فاضل" يعرضك على دكتور نفسي
زفرت "ميرال" حانقة وردت بإندفاع وهي تهب واقفة تنوي المغادرة:
-انا مش مجنونة علشان اتعالج ومش مضطرة أدخل معاكِ في جدال يضايقني ويغير مودي وياريت ملكيش دعوة بيا...
تنهدت "دعاء" بضجر من طريقتها وإن كادت تتحدث مرة أخرى تدخل "فاضل" الذي أنضم لهم لتوه:
-متعصبة ليه بس يا حبيبتي؟
تنهدت "ميرال"بعمق وهي تنظر ل زوجة أبيها وقالت:
-اسأل مراتك يا بابي كل ده علشان لقتني سرحانة شوية بتقولي لازم تتعالجي
اعتلى حاجب "دعاء" ودافعت عن ذاتها قائلة:
-انا مكنش قصدي اللي هي فهمته انا كنت عايزة اطمن عليها وأعرفها مصلحتها
زفر "فاضل" بقوة ورشق "دعاء" معاتبًا
فطالما طلب منها أن تدعها وشأنها ولا تضغط عليها ولكن هي بادلته نظراته بأخرى ذات مغزى جعلته يتحدث ولكن موجه حديثه لأبنته:
-"دعاء" بتحبك وعايزة مصلحتك زي بالظبط ويمكن شايفة يا بنتي أن ده حل مناسب
رغم أنها تعلم مكانتها بقلب أبيها وتشعر بحنوه عليها إلا أنها تعلم ايضًا أن زوجته تملك سُلطة عليه ولطالما كان ينحاز لها ويبرر تدخلها المقيت بحياتها كونه خوف يصب في مصلحتها، وحقًا هي سئمت كل شيء لذلك تأففت بنفاذ صبر:
-يووووه كفاية بقى انا مش مجنونة...مش مجنونة، وكفاية تضغطوا على اعصابي
حاول أبيها منعها ولكنها لم تستمع له بل جذبت حقيبتها وركضت نحو الخارج وهي تشعر أن ضجيج رأسها يعود من جديد.
كان يقف هو ينتظرها ككل يوم ولكن اليوم كان يتلهف لرؤيتها على غير عادته فمنذ أمس لم تغب عن تفكيره لحظة واحدة حتى انه لم يبالي بمنطقه الذي يحثه على عدم التورط بها و دون ارادة منه وجد ذاته لا يود أن يفكر في مسمى أخر لمَ يحدث بينهم، واخذ يقنع ذاته أن شهامته فقط ووعده لها هم السبب بتلك المشاعر المتضاربة التي تجتاحه نحوها، تنهد بعمق وببسمة هادئة وهو يلمحها من بعيد تهرول نحوه، ولكن عندما لاحظ هيئتها شعر أنها ليست على ما يرام، ولذلك خبت بسمته تدريجيًا وقبل أن يسألها مابها كانت تصعد إلى السيارة وتجلس بالمقعد بجانبه وتقول بنبرة استشف الحزن بين طياتها:
-اطلع بالعربية لو سمحت
أومأ لها بطاعة وحاول جاهدًا أن يكبح فضوله اللعين نحوها غافل أن ذلك الفضول سيكون سبب نكبته.
---------------------
وها هي بعد بعض الوقت شاردة تستند على مقدمة السيارة في ذلك المكان النائي على تلك الهضبة الشاهقة التي كلما ضاقت بها السُبل تأتي إليها، فبعد مغادرته معها طلبت منه أن يوصلها لهنا، وظلت هائمة بعيد في عالم آخر لا تعبئ أن فضوله يكاد يفتك به ليعلم ما بها والعديد من الأفكار السوداوية تداهمه، وعندما يأس من صمتها قرر أن يكبح فضوله، وتساءل بنبرة صدرت مهتمة للغاية وهو يقترب من موضعها:
-هتفضلي ساكتة كده كتير؟
تنهدت ولم تجيبه، ليتنهد بنفاذ صبر ويتمهل بضع ثوانٍ ثم يقول بنبرة هادئة وهو يركز نظراته على تلك الإطلالة الرائعة التي تكشف البلد من عليائها:
-مش عايز اضايقك ولا قصدي اتطفل عليكِ ...بس لو أنتِ حابة تفضفضي معنديش مانع اسمعك وللنهاية
لم تجيبه أيضًا بل كانت تتنهد تنهيدات مثقلة وتغمض عيناها وكأنها بعالم موازي ولا تكترث غير لنسمات الهواء التي تداعب وجهها وجعلته دون أي قصد يهيم بها وبتلك الخصلات التي تتراقص مع الهواء وتراقص قلبه معها بسنفونية غريبة غير منطقية بالمرة بالنسبة له،
لعن غبائه حين أطال النظر لها ثم ازاح برأسه بعيدًا كي ينفض تلك الهواجس التي يستحيل تحقيقها وإن كاد ينسحب لداخل السيارة ويتركها لخلوتها همست هي بضياع:
-هو انا مجنونة يا "محمد"
جعد حاجبيه الكثفين مستغربًا سؤالها ثم تحمحم يجلي صوته الأجش وأجابها:
-لأ… أنتِ مش مجنونة يا "ميرال"
=أمال ليه "دعاء" شايفة كده وبتخلي بابي يضغط عليا علشان اروح لدكتور نفسي
قالتها بنبرة متخاذلة وبعيون حزينة جعلته يتنهد بعمق ويجيبها بعقلانية شديدة:
-أنتِ مش مجنونة ومش كل اللي بيروحو لدكاترة نفسيين مجانين...كل الحكاية أنك محتاجة حد يساعدك تفهمي نفسك و ترتبي أفكارك ويغير نظرتك السطحية للأمور
تنهدت تنهيدة آخرى مثقلة وعيناها تتعلق به ثم قالت في إحباط:
-مش محتاجة حد يقولي إني فاشلة ومستهترة وبغلط كتير انا عارفة ده كويس ومتأكدة إني مستهلش أن حد يحبني ولا يتمسك بيا
جملتها الأخيرة زلزلت قاع قلبه وجعلته دون أي مقدمات يصرح بتلقائية وهو يطالعها ببندقيتاه التي تفيض بالاهتمام:
-بس دي مش حقيقة أنتِ تتحبي واللي ميعرفش يحب ولا يتمسك بحد زيك يبقى مشكلته هو لأنه أكيد مبيعرفش يميز
نمت شبه بسمة على طرف شفاهها من إطرائه وكم شعرت بالراحة بعدها حين استأنف:
-وعلى فكرة بقى كلنا بنغلط مفيش حد معصوم من الخطأ وطالما اعترفتي بأخطائك وبعيوبك ومخبتهاش أو نكرتيها يبقى دي بداية طريق التغيير
حاولي متفكريش في كلامهم عنك ولا رأيهم فيكِ خليكِ انتِ اللي رقيبة لنفسك وقبل ده كله لازم ترمي كل حاجة وراكِ ومتفكريش غير في اللي جاي ومستقبلك وعلشان ده يحصل لازم تتصالحي مع "ميرال" وتحبيها لأنها فعلًا تتحب
كان يتحدث بإندفاع دون تفكير حتى انه لم يلحظ أنه كان يلمح لها بشيء هو ذاته يستنكره و لم يستوعبه عقله بعد، أما هي فقد اتسعت بسمتها وهي تستمع له ومأخوذة بحديثه ودون وعي منها وجدت ذاتها تقول بعفوية شديدة:
- انت ازاي كده؟؟
عقد حاجبيه بعدم فهم، لتستأنف هي دون أن تعير أنه أصبح على المحاك:
-كل حاجة معاك بتبقى بسيطة وسهلة وليها ألف حل أنا ببقى مبهوره بتحليلك للمواقف الصعبة اللي بمر بيها وبصراحة رغم أن ليك منطق غريب بحاول استوعبه معظم الوقت لكن بحس براحة أغرب لما بكون معاك
ارتبكت قليلًا وأطرقت نظراتها وأخذت تلملم خصلاتها وتضعها خلف أُذنها بخجل من تسرعها، ولكنه حثها بعينه على المتابعة قائلًا:
- كملي يا "ميرال"؟؟
زحفت حمرة طفيفة على وجهها وهي تطالع بندقيتاه والاهتمام الذي ينضح بها واستأنفت:
- أنا عمري ما وثقت فحد بالسرعة دي بس مواقفك معايا أثبتتلي أنك راجل بجد وانك جدير بالثقة دي وبجد انا بحمد ربنا أنك في حياتي يا "محمد"
تلك المرة لم تزلزل قاع قلبه بحديثها بل عصفت به وجعلت كافة قناعاته تنهارإلى أنقاض، وبدل أن يسعد بتلميحها وجد ذاته يشرد و يمسد جبينه بأبهامه وسبابته كي يكبح تلك الهواجس برأسه.
لاحظت شروده وهمست بترقب:
-"محمد "سكت ليه؟؟
عندما همست باسمه بتلك الطريقة أغمض عينه بقوة يجاهد كي يصمد ولا يتخلى عن عقلانيته وإن استعاد رباط جأشه قليلًا ابتسم ببهوت وتسأل كي يغير مجرى الحديث الذي يتخطى حدود منطقه:
-يعني أفهم من كده اني عرفت أقنعك
أومأت له بنعم ثم أجابته بنبرة مترددة بعض الشيء:
-اقتنعت بس عايزة اطلب منك طلب قبليها
هز رأسه بترحاب، لتستأنف وهي تلامس أطراف أنامله المسنودة على مقدمة السيارة وتقول وفيروز عيناها يلمع بنظرة راجية:
-اوعدني أنك متبعدش عني يا "محمد" مهما حصل
انتفضت دواخله من لمسة يدها وعجز عن الرد امام رجاءها فما كان منه غير أن يومأ لها وعيناه تغوص ببحر عيناها وكأنه مسلوب الإرادة حتى انه وجد أنامله تتحرك من تلقاء ذاتها وتضم أناملها بين راحته وكأنه بذلك شابك أقدارهم معًا ثم قال بنبرة مبهمة بالنسبة لها:
-محدش بيهرب من قدره يا "ميرال"
ابتسمت بارتياح رغم حديثه الذي لم تفهم المغزى منه، ونظرت لتعانق ايديهم بنظرة حالمة بها بصيص من التفائل والأمل وشيء ما هناك بصدرها يؤكد لها أن ذلك المصطلح الذي أطلقته على تقاربهم لا يليق ابدًا على تلك المشاعر التي تأكدت انها تكنها له.
----------------------
أما عن صاحب القلب الثائر الذي خذلته تلك المتمردة، فقد جافاه النوم وظل على وضعيته تلك حتى ساعات الصباح الأولى ، يجلس على حافة المسبح بعيون دامية و وجه شاحب، شارد في نقطة وهمية بالفراغ وشريط حياته يمر أمام عينه يجعله يلعن ذلك القلب الذي مال لها، انتشله من شروده صوت "مُسعد" الحارس:
-أنت كويس يا بيه
أومأ له "يامن" وأخبره بإنهاك:
-مش كويس بس مش مهم المهم إني مبقتش مغفل
طالعه "مُسعد" بحزن وهو ينهض ويدخل المنزل ضارب كف على أخر من تبدل حال رب عمله.
بينما هو حين دلف للداخل شعر بالريبة عندما لم يجد والدته مستيقظة كعادتها مبكرًا، لا يعلم لمَ أحتل الخوف قلبه وإن ذهب لغرفتها وجدها كما هي تغط في سبات عميق، حاول افاقتها برفق ولكن بلا جدوى ليتناول هاتفه ويهاتف الطبيب والقلق يكاد يفتك به، ولكن لصدمته عندما أتى وعاينها وأخبره أن كل مؤشراتها الحيوية بخير وأنها فقط تغط في نومٍ عميق ولا داعي للقلق، وكونه يعلم تلك اللعينة تمام المعرفة أتاه هاجس عابر جعل الشكوك تتقاذف برأسه وأقسم إن كانت بمحلها لن يتهاون ابدًا في حق والدته.
--
🌺🌺روايه خطايا بريئه🌺🌺
بقلم الكاتبه ♥ ريم كريم ♥
الخامس عشر
قمة الخذلان أن أعلمك أول دروس الوفاء، وتلقينني أنتِ أقسى دروس الغدر، أن أوفيك كل حقوق العشق، وتسلبيني أنتِ كل حقوقي الإنسانية لأدور حول نفسي في حلقة مفرغة، أبحث عن الأسباب والمسببات.
----------------------
صفع باب غرفتها ودون أي مقدمات كان يقلب الغرفة رأسٍ على عقب؛ يبحث عن شيء بِعَينه.
أما هي شهقت بفزع وانتفضت من فراشها متخذة أحد زوايا الغرفة كملجأ لها تنكمش به وهي تظن أنه أتى ليعنفها مرة أخرى، ولكنه لم يعيرها أي أهمية بل كان يبحث بكل مكان... الأدراج،والخِزانات وبين طيات الأرفف، ولكن دون جدوى إلى أن لفت نظره حقيبتها التي كانت ترتديها بالأمس ملقاة بزاوية الغرفة، انقض عليها ومد يده يسحب هاتفها المغلق يضعه في جيبه ثم فض كافة محتوياتها على الأرض بنفاذ صبر؛ وحينها تأكدت كافة ظنونه.
جثى يتناول المفتاح المزعوم وتلك العلبة البلاستيكية التي من الوهلة الأولى علم فحواها والغرض من استخدامها لينهض و يختصر المسافة إليها بخطوتان ليس إلا ويصرخ وهو يجذبها من خصلاتها بعصبية مفرطة ويلوح بما تحوي يده أمام نظراتها:
-ده أكيد مفتاح الباب الوراني اللي كنتِ بتهربي منه وتستغفليني...إنما بقى الحبوب دي بتاعة ايه انطقي؟
كانت تكاد تموت من شدة ذعرها حين انفضحت فعلتها فكانت شاحبة ونظراتها زائغة تعجز عن الرد وكل ما كانت تفعله هو محاولتها حماية وجهها كي لا ينال من صفعاته مجددًا، ليصرخ هو بنفس السؤال من جديد وهو يجذب خصلاتها للخلف أكثر بطريقة قاسية جعلتها تصرخ وتتعلق بيده راجية أن يتركها ولكنه كان في اوج غضبه وكأن عقله يرفض الاستيعاب بعد ويود أن تؤكد هي:
- ردي عليااااااااااااا حبوب ايه دي؟؟
فرت دمعاتها وهي تغمغم مستنكرة:
-مع..رفش
ليضرب الحائط خلفها بقوة ويصرخ بوجهها بصوت جهوري روجت له جدران المنزل:
- كدااااااابة ....تعرفي دي حبوب منومة دي اللي بتحطي منها لأمي علشان تخرجي مش كده...
نفت براسها بطريقة هستيرية مستنكرة الأمر ولكن نظرة واحدة داخل عيناها أكدت له انها كاذبة مما جعله ينهرها بحدة وهو يرج بها من خصلاتها غير عابئ بصراخها ولا بكائها المكتوم بسبب أن بعض الخصلات فارقت فروة رأسها أثر قبضته:
- أد ايه انتِ زبالة وانا غبي علشان وثقت فيكِ...
تعلقت بيده وترجته من بين شهقاتها الباكية:
-انت بتوجعني... سيب شعري
زئر بقوة وهو يجاهد كي لا يفلت زمام غضبه أكثر فما كان منه غير أن نفضها عنه وكانها تثير اشمئزازه ثم أخذ ينطر أنامله كي يخلص تلك الشعيرات العالقة بينهم وهو ينظر لها نظرة قاتلة جعلتها تخور على ركبتيها وتضع يدها على وجهها وتنخرط في بكاء مرير تنعي به حالها وما توصلت له، بينما هو كان كالثور الهائج الذي لم يرى أمامه فقد قام بتحطيم كل ما طالته يده داخل الغرفة حتى أنه حمل مقعد تسريحتها وقذفه بالمرآة محدث على أثر تحطيمها ضجيج قوي تردد صداه في أرجاء الغرفة وجعلها تصرخ بجزع وتحاوط رأسهاغافلة انه بفعلته تلك ينفث عن غضبه عوضًا أن يؤذيها، فلم تهدأ صرخاتها قط إلا حين جثى على ركبتيه أمامها وصرخ بهياج شديد وهو يقبض على ذراعيها يؤرجحها:
-أنا كتير قولتلك وحذرتك أمي خط أحمر بالنسبالي،
ولو كنت بتنازل في حق نفسي مش هتنازل في حقها هي ابدًا
كانت عيناها دامية من شدة بكائها وكادت انفاسها تخبو بصدرها من شدة شهقاتها ولكنه لم تأخذه بها شفقة فقد تمادت وحقًا فاق الأمر قوة أحتماله ولذلك هزها بقوة أكبر هادرًا بصوت قاسي خالي من أي تهاون بتلك التساؤلات التي عجز عقله عن استيعابها:
-أنتِ إيه الجبروت والسواد اللي جواكِ ده؟
ده جزات الست اللي ربتك وراعتك بعد موت امك!!
قوليلي عملت ايه تستاهل عليه كده؟؟
طب ضميرك مأنبكيش من نحيتها؟؟
طب ازاي كنت بتحطي عينك في عينيها وبتتعاملي معاها وأنتِ بتأذيها، انتِ للدرجة دي وِحشة وانا كنت مخدوع فيكِ؟؟
لتتهدج نبراته ويستأنف باشمئزاز وكأنها تثير غثيانه هو ينفضها بقوة جعلتها تسقط على الأرضية متألمة :
-أنا بجد ندمان وقرفان من نفسي إني حبيت واحدة زيك
كانت تستمع لحديثه وضميرها ينهش بها وكأنه كان في غفوة واستيقظ لتوه، وحينها تدخل عقلها وهاجمها بتلك المبررات من جديد شعرت أن الأمر يتخطى قدرتها على التحمل ولذلك وضعت يدها على اُذنها وصرخت بانهيار تام بصوت مختنق بعبراتها:
-كفاااااااااااية...كفاااااااية بقى
تطلع لانهيارها بعيون جامدة، قد اندثر بها ذلك الدفء الذي كان يعتمرها ثم قال بنبرة قاطعة كحد السكين وهو يخطو بعيد عنها:
-انتِ لسه ما شوفتيش حاجة ومن هنا ورايح هخليكِ تجربي الذُل اللي على أصله يا بنت الراوي
ليغادر غرفتها ويغلق خلفه بابها ويوصده بمفتاحه دون أن يرأف بها وبنحيبها ولا لصرخاتها الموجعة وكأنها بدلت لين قلبه المُولع بها إلى آخر صلد كالجلمود بفضل أفعالها التي يهيئها لها شيطانها كونها بريئة مبررة في سبيل انتقامها
------------------
أما في أحدى قرى الصعيد فقد
كان يهرول فرحًا بعودة محبوبته بعد غياب دام لعدة أيام مرو عليه بصعوبة بالغة من دونها
فكان قلبه يهفو لها يسبقه حين وجدها تدلف لتوها إلى ردهة المنزل وتركض لترتمي بين يده قائلة بنبرة ملتاعة:
-توحشتك جوي يا "حامد"
دثرها "حامد" بين أحضانه أكثر وأخبرها بإشتياق ولوعة تشابه لوعتها:
-وأني كما توحشتك يا جمري وأيامي كانت غابرة من غيرك
قطمت "قمر" طرف شفاهها ورفعت رأسها له تسأله بعيون كحيلة تفيض بالعشق:
-توحشتني صُح يا "حامد"؟؟
تنهد هو تنهيدة حارة مفعمة بالمشاعر وهو يكوب وجهها الصبوح بين يده وقال بوله تام:
-ايوة يا جلب "حامد"الليالي كانت عاتمة من غيرك ومصدجت رچعتِ تاني تنوري سمايا يا حبة الجلب
اتسعت بسمة "قمر"من ذلك الغزل الذي يغدقها به زوجها ويهون الكثير عليها وقالت بنبرة تقطر بمكنونها وهي تمرغ وجهها بكف يده الذي يحاوط وجهها:
-ربنا يخليك ليا يا "حامد"
لوت "ونيسة" فمها يمينًا ويسارًا بعدم رضا وهي تدلف لتوها هي وزوجها لردهة المنزل
بينما ضرب "عبد الرحيم"الأرض بعصاه الأبنوسية قائلًا بحدة كي يقطع تلك اللحظات الحالمة بيهم:
-واه چرى أيه كانكم مايعين إكده اللي ينضركم يجول بجالكم سنين متفارجين مش كام يوم
تحمحم "حامد" بحرج، بينما هي أطرقت رأسها وسحبت طرف وشاحها تغطي به فمها من شدة خجلها وهرولت نحوهم تقبل أيديهم احترامًا وتبجيل لهم قائلة:
-كيفك يا بوي وكيف صحتك
والله توحشتك يا أْما "ونيسة"
رفعت "ونيسة" طرف فمها بحركة مستنكرة ولم تعقب و اكتفى "عبد الرحيم" بهز رأسه كونه بخير واستأنف حديثه الخالي تمامًا من اللباقة:
-طالما متجدرش على بعدها إكده ياولدي كنت عجلها وجولها تجعد في دارها وبلاها علاچ ولا حُكَمة وتضيع وجت على الفاضي
ابتلعت هي غصة مريرة بحلقها من تجريحاته المستمرة بشأن عدم إنجابها وقالت بنبرة متحشرجة على حافة البكاء:
-إن شاء الله متكونش على الفاضي المرة دي؛ الحَكيمة طمنتني وجالتلي إن في أمل ابجى حِبلة
حانت من "عبد الرحيم" بسمة هازئة ورد ساخطًا:
-بعد جد أيه يا جمر لما شعر ولدي يشيب
أطرقت هي رأسها ولم تستطيع أجابة سؤاله فما كان منها غير أن تنسحب قائلة بنبرة منكسرة:
-العلم عند ربنا يا بوي...ما تواخذنيش أنا تعبانة من الطريج ومحتاچة ارتاح
كان هو صامت احترامًا لشخص أبيه فلا يجوز أن يتعدى حدود الأدب ويعاتبه أمام زوجته ولكن عندما غادرت هي نظر لآثارها في ضيق شديد وهدر مدافعًا في محاولة بائسة منه كي يجعل أبيه يكف عن تسلطه:
-ليه تكسر بخاطرها أكده يابوي مَرتي ست البنات وعَاجلة ولو هتروح للحُكمة فده علشان انتوا ضغطين عليها و مش مجتنعين إن مش بايدها حاچة
لم يعجبه الأمر ولذلك عقب على حديث ولده بسخط:
-بكفياك يا ولدي مرتك أرض پور ومفيش منيها رچا
-بس هحبها ولو لفيت الأرض كلتها مش هلاجي ضفرها وإذا كان على الخِلفة أنا راضي بحكمة ربنا ومش عاوز من الدنيا غيرها
قالها "حامد" بحمقةٍ شديدة جعلت ونيسة تضرب على صدرها بحسرة، بينما" عبد الرحيم" صاح متجبرتًا:
-والله وچه اليوم اللي تناجرني فيه يا "حامد" وتجف جصادي
زفر "حامد "في ضيق وقال مبررًا:
-يا بوي أنا مليش في الدنيا غير رضاك ورضا أمي بس هي مرتي وكرامتها من كرامتي ويعز عليا تچرح فيها وتنجرزها بالحديت في الرايحة والچاية بالله عليك يا بوي لو بتعز ولدك صُح بكفياك
احتدت نظرات" عبد الرحيم" القاتمة وسايره:
-ماشي يا ولدي لما أشوف أخرتها معاك
ليستأذن "حامد" كي يصعد لزوجته وما أن غادر قالت "ونيسة" بعدم رضا وهي تولول:
-جولتلك سحراله ومصدجتنيش يا "عبد الرحيم"
بينما هو جلس على أحد المقاعد يسند ذقنه على عصاه الأبنوسية وهو يفكر كيف يتمكن من كسب ولده لصالحه حتى لا يخسر وِده ويخرج عن طوعه ويعيق ما يطمح له.
---------------
-حجك عليا يا حبة الجلب
قالها "حامد" بحنو وهو يربت على ظهرها كي يراضيها، ولكنها جففت دمعاتها وقالت والحزن يغلف صوتها:
- أنا اللي محجوجالك يا "حامد" انا اللي معرفتش أچبلك حتة عيل يشيل أسمك
-واه خلاص بقى جفلي على السيرة الماصخة دي، وبعدين يا بت الناس مش جولتي الحكيمة قالتلك إن العلاچ الچديد ممكن يجيب نتيچة وأن المسألة مسألة وجت يبقى لازم نصبر وربك هيچبر، وحتى لو ربك مأذنش أني راضي ومكتفي بيكِ انتِ بتي وحبيبتي وحبة جلبي من چوة
ابتسمت من بين بكائها وهي تشعر بقلبها يتراقص فرحًا من تفهم زوجها وحبه لها الذي يغلف كل أفعاله وحتى حديثه ورغم أنها تعلم أن لأبويه سُلطة عليه ويخشى سخطهم ولكنها تعذره فهو حنون، لين القلب ولذلك لن تتحامل عليه أكثر وخاصةً بعد أن استرقت السمع لدفاعه المستميت عنها قبل أن تدلف لغرفتهم، لتقول بحب :
-ربنا ما يحرمني من طيبة جلبك ولا حنيتك يا "حامد"
-ولا منيكِ ياجلب "حامد"
طب ايه جوليلي وريحي جلبي روحتى لعمي "سعيد" زي ما جولتلك
أومأت له بنعم وقالت بصوت خفيض للغاية تحسبًا أن يستمع لهم أحد:
-ايوة زرته في المستشفى في سوهاچ انا وامي وعطيته الفلوس زي ما جولتلي وفكيت ضيجته وخالة "هانم"بعتالك السلام وبتجولك كتر خيرك
-وهو كيف صحته يا جمر؟
تنهدت "قمر"وقالت بتفائل:
-ادعيله يا "حامد" وإن شاء الله هيبجى كويس
أومأ لها وتمتم بتضرع:
-ربنا يشفيه ويعافيه و يجومه بالسلامة
أمنت هي على دعواته، ليباغتها هو بجذبه لها من خصرها وقوله بنبرة مشاغبة:
-طب أيه مفيش حاچة علينا ولا أيه؟
لم تتفهم حديثه وتساءلت:
-هااااتجصد أيه؟
ليتساءل مرة أخرى ولكن بشغب أكبر وهو يتفرس بمعالم وجهها:
- بجالك كام يوم غايبة يا بت الناس
تنهدت واجابته بقلة حيلة وهي تستند على صدره:
-واه انا عجلي مش دفتر
-يبجى افكرك
شهقة خافتة صدرت من فمها حين أنحنى بجذعه عليها وحملها قائلًا وهو يتوجه بها للفراش:
- إني بجى فاكر وحاسب بعدك عني بالدجيجة والثانية يا جمري وعلشان إكده هعوضهم كلاتهم دلوجت
ليضعها على الفراش كي ينعم بنعيم قربها كيفما شاء فحقًا كان يحترق من شدة توقه لها أما هي فكانت مأخوذة بلهفته عليها وحالتها لا تختلف كثيرًا عنه غافلة أن القدر يخبأ لها فاجعة ستودي بذلك القرب وربما للأبد.
-------------------
استيقظت"ثريا" بعد عدة ساعات وهي تشعر بألم مبرح برأسها، وقد أخبرها "يامن" كل شيء وعن فعلت تلك اللعينة بها، وحينها ضربت صدرها وقالت بملامح متقلصة شديدة الحزن وكأنها تعاتب شخص تلك اللعينة:
-ليه كده بس يا بنتي هونت عليكِ... انا مش مصدقة كل ده يطلع منك!!
أجابها هو بأنفعال:
-لأ صدقي الهانم كانت بتخدرك ومفرقش معاها انها بتأذيكِ بالحبوب دي والله اعلم المرة الكام اللي عملت كده...ده غير انها كانت بتستغفلني وبتخرج من ورايا، ده أنا جايبها من القسم وكانت سكرانة طينة أنا كويس إني مسكت نفسي ومقتلتهاش.
كان يتفوه بكل كلمة بغضب قاتل وهو يشعر أنه على حافة الجنون، مما جعل "ثريا " تربت على ظهره قائلة بمواساة:
-اهدى يا ابني واستعيذ بالله من الشيطان الرچيم...هي الغلط راكبها وتستاهل اكتر من كده كمان...بس مش معنى كده أننا نموتها بالحيا دي أمانة في رقبتنا علشان خاطري هات مفتاح اوضتها هطمن عليها
نفى برأسه وشياطين الجن والأنس تتقاذف أمام عينه ثم زفر حانقًا:
- لأ يا أمي و متحاوليش انا لا يمكن ارجع في كلامي
عاتبته "ثريا" من جديد راجية وهي تربت على ظهره:
-متخليش غضبك يعميك أنا مش هلومك ومش هتدخل في اللي بينكم بس خليني أطمن عليها
أعترض مجددًا ولكن تلك المرة بنبرة قاطعة غير قابلة للتفاوض:
-لأ يعني لأ دي واحدة متستهلش قلقك ولا خوفك عليها وانا هخليها كده مش هي شايفة أن أنا ذللها خليها تجرب الذُل وانا بقى عايزها تعترض علشان أكسر دماغها واخلص من قرفها
عاتبته "ثريا" بنظراتها ولكنها لم تعقب فهي تعلم أن ما فعلته ليس هين بالمرة ولا يصح أن يمر مرور الكرام.
------------------
لن تغمض له عين طوال الليل وظل يتقلب بفراشه الذي يخلو منها وهو يستجدي النوم ولكن دون جدوى يقسم أنه لا يعلم ما أصابه ولكن عندما حل الصباح برر لذاته انه فقط توتر عادي بسبب حماسه الزائد لما هو مقبل عليه فقد نهض و أخذ يحضر حقيبته ويستعد لذلك اليوم الميمون بالنسبة له وحين انتهى اخذته قدميه إلى غرفة اطفاله كي يودعهم قبل مغادرته وحين سقطت عينه عليها تتوسطهم ووجد أثار الدموع على وجنتها شعر بشيء من تأنيب الضمير فهو يعلم أنه زادها عليها حين هددها بهم ولكن هيأ له شيطانه أنه الحل الأمثل كي يجعلها تتقبل الأمر وظن أنها حتمًا ستفعل مع الوقت.
فقد قبل جبين ابنائه أثناء نومهم ثم مال عليها يضع قبلة اعلى خصلاتها هامسًا في خفوت بالكاد يسمع و بصراحة نابعة من بقايا ضميره غافل كونها تدعي النوم:
-انا عمري ما اقدر احرمك منهم بس غصب عني كان لازم أضغط عليكِ علشان متعارضيش قراري ومتسبنيش ...أنا مقدرش اتخيل حياتي من غيرك...
ذلك آخر شيء قاله قبل أن يربت على خصلاتها ويغادر تاركها تفتح عيناها تنظر لأثره بعيون غائمة متألمة و دون أن تأخذ لحظة تفكير واحدة نهضت من الفراش متوجهة للنافذة تتوارى خلف ستائرها كي تشيعه بنظرات أخيرة وهو يغادر ولكن لصدمتها وجدت الآخرى تنتظره بكامل بهائها، أما هو كان يبتسم لها بإتساع وكأن تلك الصفراء هي مصدر سروره الوحيد، وقبل أن يصعد إلى السيارة حانت منه نظرة خاطفة لنافذتها جعلتها تتراجع للخلف عدة خطوات و تتعالى وتيرة أنفاسها بشكل غريب وكأنها تعجز عن التقاط الهواء ثم ارتمت على أحد المقاعد تحتضن جسدها بذراعيها كي تحفز ذاتها على الصمود ولا تنهار ولكن كان الأمر مؤلم يفوق احتمالها فقد عصتها دمعاتها وتهدلت هاربة من سجن عينها كي تفضح هشاشتها ومع حالة الانهيار العارمة التي اصابتها هاتفت "سعاد" ابنة عمها وإن اتاها الرد غمغمت من بين شهقاتها المقهورة التي تدمي القلب:
-انا اخدت قراري خلاص وعايزاكِ تساعديني
أتاها رد "سعاد "المترقب من الطرف الأخر:
-بس قرارك صعب يا "رهف" ومينفعش ترجعي فيه ولا يكون في ندم بعديه
أجابتها بإصرار عجيب لم يكن من طباعها يوم بعدما تذكرت جملته الصادقة التي صدرت منه وهو يظنها غافية غافل كونه طمئنها دون أن يشعر وجعلها تقرر أن لا شيء سيردعها فحقًا فاض بها وقد اتى اليوم لتثور حفاظًا على بقايا كبريائها الذي دهسه تحت قدمه:
-عارفة عواقب قراري كويس ومش هرجع فيه...لتبتلع غصة مريرة بحلقها تكاد تخنقها و تستأنف بنبرة متألمة وبقلب مدمي يقطر دمًا:
-هو اللي اضطرني لكده انا
لازم ادفعه التمن يا "سعاد" وغالي اوي.
----------------
مر أكثر من اسبوعين عليها وهي تشعر بتحسن كبير منذ أن توقفت عن تلك الحبوب اللعينة التي كانت تسلبها إرادتها، فرغم محاولاتها السابقة بالامتناع عنها إلا أنها كانت سابقًا تفشل فشل ذريع ورغم علمها أن تناولها كان ناتج عن تعودها، لا إدمانها ولكن كانت تتلاشى إرادتها و تستسلم لطنين رأسها وتظن أن بها خلاصها؛ فسابقًا لم يكن لديها هدف أو شيء يحفزها ويدعم عزيمتها ولكن الآن أصبحت هو يمثل كل ذلك لها بل أصبح محور تفكيرها، ورغم انه مُتحفظ معها ولم يحيد عن منطقه ولا طباعه الثابتة إلا أنها تشعر بالاهتمام يغلف كل أفعاله وحقًا أصبحت مأخوذة به و بكل شيء يصدر منه
فها هي منذ أن صعدت للسيارة ولم تشيح بفيروزاتها عنه وكأنها تراه للمرة الأولى مما جعله يرتبك قليلًا ويقول بثبات اثناء قيادته:
-مش ملاحظة انك متكلمتيش من ساعة مركبتي العربية
أجابته بتنهيدة حالمة:
-مش عايزة اتكلم وحاسة إني عايزة ابصلك وبس
مسد جبهته بسبابته وابهامه بإرتباك أصبح ملازم له الآونة الأخيرة بفضلها وبفضل تلميحاتها التي تأخذ مجرى آخر يخشاه ومازال عقله يستنكره فلم يعقب بل صب كافة تركيزه على الطريق، ولكنها زادتها عليه حين همست ببسمة ناعمة:
-انا عايزة احكيلك على حاجة
تأهب لحديثها وحثها بعينه أن تسترسل، لتبتسم بعيون لامعة وتخبره:
-انا مبسوطة إني سمعت كلامك وروحت للدكتور بصراحة ارتحت اوي بعد ما اتكلمت معاه، وكمان اتبسطت أن بابي فضى نفسه مخصوص وجه معايا تعرف إن دي أول مرة أحسه قريب مني وخايف عليا بجد.
أبتسم وأجابها بعفوية دون أن يحيد نظراته على الطريق:
-محدش في الدنيا هيحبك أكتر من ابوكِ وام...
ابتلع باقي حديثه ولعن تسرعه ولكنها تفهمت وهدرت بعدما انطفأت لمعة عيناها واندثرت بسمتها:
-مش شرط يا "محمد" أنا أمي محبتنيش
أغمض عينه بقوة يلعن غبائه ثم صف السيارة بجانب الطريق وقال بنبرة حانية مفعمة بالاهتمام:
-احنا قولنا ايه؟
مش هنبص ورانا تاني وهنفكر بس في اللي جاي، واللي محبناش ولا اتمسك بينا دي مشكلته هو؛ علشان احنا ناس جميلة وتتحب وهو حد مبيعرفش يميز وميستهلش حتى نفكر فيه ونحزن نفسنا
رغم أن حديثه متكرر بالنسبة لها ولكن صيغة الجمع الذي نطق بها جعلتها تشعر براحة و طمأنينة لا مثيل لها، ليشرق وجهه من جديد وتفتر شفاهها عن بسمة هادئة ثم قالت بإقتناع:
-أنت عندك حق…
رفقت قولها بسحبها لحقيبتها وأخراج هاتفها ثم أخذت تنقر على شاشته عدة مرات إلى أن توصلت لذلك الحساب الوهمي التي تتبع به أخبار تلك السيدة التي لا تستحق لقب والدتها وقبل أن تضغط على حذف الحساب شعر هو بترددها وتشوش نظراتها وحينها تفهم ماذا تنوى أن تفعل فما كان منه غير أن يربت على يدها ويشملها بنظرات محفزة تفيض بالاهتمام، استقبلتها هي ببسمة هادئة ودون أي لحظة تفكير أخرى كانت تقوم بالنقر مجددًا وتحذف ذلك الحساب من هاتفها وهي تنوى أن تستمع لنصيحته ولا تهتم بما مضى، فربما هو محق وهي ليست بذلك السوء ومن الممكن أن تحظى بالحب ولكن السؤال هو هل سيمنحها قلبه أم فقط ستحظى بذلك الأهتمام تحت مسمى أخر لا يمت بتاتًا لتلك المشاعر التي أصبحت تكنها له
-برافو عليك انا فخور بيكِ و بإرادتك
قالها هو لينتشلها من دوامة أفكارها التي نفضتها عنها الآن و ابتسمت بسمة صافية مفعمة بالتفاؤل قائلة:
-عارف نفسي في ايه...
لوهلة تعلقت بندقيتاه بها قبل أن يتساءل باهتمام كعادته:
-أيه؟؟
أجابته بحماس وببسمة مشرقة:
-نفسي تأكلني فول من على نفس العربية زي المرة اللي فاتت بصراحة وحشني اوي اعمل مركب زيك واغطسها في الطبق وياريت بقى لو معاها بصلتين يااااه والله جوعت على السيرة
قالت أخر جملة بإشتهاء غريب وهي تقطم شفاهها السفلية تقلد طريقته ذلك اليوم ليقهقه ضاحكًا بتلك الطريقة الخشنة المفعمة بالرجولة التي دغدغدت حواسها وجعلت بسمتها الهائمة تتسع شيء فشيء حين قال:
-لسة فاكرة...ده انا حسيت يومها من كتر أسئلتك إنك من كوكب تاني
هزت رأسها مستنكرة واجابته بتنهيدة عميقة:
-فعلًا كنت مستغربة ولما أنت اتكلمت معايا وبقيت تجاوبني الصورة وضحت قدامي، يعني مثلًا:الحاجات التافهة والبسيطة بالنسبالي؛ اكتشفت انها كبيرة اوي وليها قيمة عند ناس تانية، وعرفت إن كفاح الناس البسيطة دي وصبرهم هو قمة الرضا.
تهادت ضحكاته تدريجيًا وهو يستمع لها وكم راقه انه استطاع أن يؤثر حديثه بها، لتضيف هي بخجل وهي تلملم خصلاتها وتضعها خلف اذنها:
-أنت خلتني اشوف الدنيا من منظور تاني يا "محمد " أنا مش عارفة ازاي عرفت تأثر عليا كده بس كل اللي أعرفه إني اتعلقت بيك لدرجة إني بستنى كل يوم الصبح علشان بس اشوفك واتكلم معاك
تبًا لقناعاته ولحدود منطقه فكيف الصمود أمام عفويتها وتلميحاتها المتكررة له، حقًا كان ضائع يتمنى لو يجد قشة يتشبث بها وتنقذه من الغرق داخل بحر عينيها ولكن لم يجد سوى تلك المشاعر الطاغية التي ثقلت قلبه وجعلته يعافر كي لا يغرق بها.
فقد دام تشابك نظراتهم لعدة ثوانٍ حالمة أرادت هي لو لم تنتهي ولكنه أحبطها و أزاح رأسه بعيد عنها يغمض عينه بقوة يحاول أن يسيطر على ارادة ذلك النابض بصدره فيبدو ان البراعم النامية بقلبه، تفتحت، وأينعت وأصبحت مزدهرة رغم محاولته الشتى لوأدها.
تنهدت هي بعمق وقاطعت مداهمة أفكاره قائلة كي تخفي حرجها:
-طيب انا جعانة هتوديني ولا لأ…
اوما لها ببسمة باهتة لم تصل لعينه ثم انطلق بها ليلبي رغبتها وهو يتيقن تمامًا أن ما كان يخشاه و يظنه يستحيل حدوثه قد تخطى حدود المنطق والعقل وحدث بالفعل.
-------------------
أما عن صاحب البنيتان القاتمة فقد نال ما طمح وقد مر اسبوعين على عقد قرانه من الآخرى وها هو ينعم بقربها
بكل الطرق الممكنة، غارق حد النخاع في إرضاء ذلك الذكر بداخله، مأخوذ بكل شيء بها جرأتها، طريقتها في تدليله، جموحها معه...فهي امرأة واثقة تعلم ماذا يريد دون أن يطلب وقد أجادت التعامل معه ومع متطلباته
فبعد ليلة جامحة فاقت كل توقعاته كالمعتاد سند ظهره على جذع الفراش متمتمًا بأنفاس متهدجة:
-يخربيتك هتجيبي أجلي بالشكل ده
أطلقت هي ضحكة متغنجة وهي ترفع الغطاء على جسدها قائلة:
-انت لسة شوفت حاجة ده انا هجننك يا "سُونة"
- اكتر من كده هتعملي ايه بس ده احنا مخرجناش من باب الأوضة غير كام مرة تتعد على الصوابع
مطت فمها وسألته وهي تعبث بأناملها على صدره:
- هو انت زهقت يا "سُونة"
نفى برأسه وقال مبرراً وهو يمرر يده بخصلاتها الشقراء:
-ابدًا بالعكس انا عمري ما حسيت إني مبسوط غير معاكِ بس يعني أنتِ أخدة تليفوني ومش عطيالي فرصة حتى أطمن على الولاد ولا الشغل
تأففت هي:
-يوووووه بقى الولاد مش لوحدهم وأمهم معاهم ما انت كتير بتسافر وتسيبهم ومفيش حاجة بتحصل، والشغل في كذا حد يقدر يمشيه من غيرك، وبعدين احنا في شهر العسل ومينفعش حاجة تاخدك مني
وبعدين انا مصدقت بقيت ليا يا "سونة"
قالت أخر جملة بنبرة مثيرة للغاية وهي تطبع قبلة محمومة على شفاهه كانت بمثابة دعوة صريحة له، وحينها اقنع ذاته بحديثها و وجده منطقي لحد كبير ليقرر انه لن يفكر بأي شيء الآن سوى أن يشبع غريزته ويلبي دعوتها التي لا يعلم عددها لليوم.
-----------------------
أما عن صاحب القلب الثائر الذي خذلته تلك المتمردة، فمنذ ذلك اليوم المشؤوم وهو يلتزم بوعده لها و يذيقها مّر صنيعها، يحتبسها بالغرفة و لم يسمح لها أن تطأ قدميها خارجها قط، ورغم إلحاح والدته المستميت ليعفو عنها إلا أنه لم يقبل ولم يتهاون بتاتًا حتى أنه منع والدته أن تتدخل بلأمر مرة أخرى، وكأنه يود أن يمنحها هُدنة مع ذاتها كي تفكر بكل ما اقترفته من خطايا وتندم عليها، لا ينكر أن قلبه اللعين يعلن عصيانه عليه كل ليلة وخاصة عندما يستمع لنحيبهامن خلف باب غرفتها، ولكن كيف التهاون معها بعد كل ما اقترفته فغضبه منها مازال يطغي على كل شيء حتى ارادة قلبه.
فقد تناول صنية الطعام من والدته ككل يوم دون أن يعير نظراتها الراجية ولا الحاحها أي أهمية
ثم توجه لغرفتها يدس المفتاح بالمكان المخصص له ويديره زافرًا بقوة ما أن وطأت قدمه داخلها وهو يتوقع انه سيجدها بالفراش ككل يوم عندما يأتي إليها بالطعام وتتصنع النوم ولكنه وجد فراشها يخلو منها، لتنكمش معالم وجهه ويضع الطعام أعلى الطاولة بجانب طعام الصباح التي لم تمسسه ويلعن ذلك العند المستوطن بها وهو يبحث بناعستيه الثائرة عنها، لفت نظره شرفة حجرتها المواربة ليخطو نحوها بخطى واسعة وما أن فتح بابها كاد قلبه يهوي بين قدميه عندما وجدها باهتة بملامح منطفأة فرت منها كافة ألوان الحياة وتجلس على سور شرفتها تدلي قدميها خارجها
و رغم الخوف الذي تسلل لقلبه انه من الممكن أن يفقدها إلا انه يعلم انها تحاول تستعطفه وتستحوذ على اهتمامه ليس إلا؛
ولذلك لم يتخلى عن جموده معها و هدر بمكر وهو يستند على السور بكفوف يده ويشرد في نقطة وهمية بالفراغ :
-معتقدش أنك بالغباء ده، و بتفكري تنتحري، بس لو ده اللي وصلتيله بتفكيرك مش هعارضك بالعكس أنتِ كده هتوفري عليا كتير وتريحيني.
كونه يعلمها تمام المعرفة تعمد أن يستفزها بحديثه ويشعرها أن ما تفعله لن يؤثر به، فإن استشعرت هي عكس ذلك ستستغل الأمر لصالحها
وبالفعل كانت فِطنته بمحلها حين رفعت عيناها الغائرة له وهمست بصوت مازال يحمل بطياته حفنة من التمرد وهي تتخلى عن جلستها وتقف في مواجهته:
-لأ متقلقش انا مش غبية، ومش هخليكم ترتاحوا مني زي ما ارتحتوا من امي
رغم تلميحها المبطن الذي جعل التساؤلات تتقاذف برأسه إلا أنه أجل التفكير به وقد اعتلى جانب فمه هازئاً من نجاح حيلته وقال بلامبالاة فاجأتها و وخزت قلبها:
-واحدة بسواد قلبك لازم تفكر كده بس على العموم افهميها زي ما أنتِ عايزة مبقتش تفرق.
أبتلعت غصة بحلقها وكادت ترد ولكنه سبقها بنبرة باردة خالية من أي دفء أصابت قلبها بالصقيع:
-الأكل عندك... وبراحتك لو عايزة متكليش، أنا بس بخلص ضميري علشان لو حصلك حاجة محسش بذنبك
قالها وهو يخطوا خارج الشرفة دون أن ينظر لها نظرة واحدة تنم عن قلقه أو اهتمامه مما جعل عيناها تغيم و تنظر لآثاره بنظرات غائرة يحتلها الحسره، و تتساءل أين ذهب لين قلبه و تهاونه معها ألهذه الدرجة كانت أفعالها مخزية وجعلته يمحي تلك المشاعر التي كان يكنها لها!
هل مقتها لتلك الدرجة التي تجعله لا يطيق حتى النظر لها، مهلًا لمَ تهتم الآن! فمن المفترض أن تنقم عليه أكثر بعد أن عنفها وقسى عليها...مهلًا ايضًا لمَ تشعر بتشتت عظيم يحتل كافة كيانها ولمَ ذلك الفراغ الموحش ينخر أحشائها!
أيا ترى بسببه وبسبب حديثه السابق الموبخ لها هل من الممكن أن يكون محق وهي بذلك السوء الذي أصبح يراها به. حقًا لا تعلم هي ضائعة مشتتة بين ألم قلبها وهواجس عقلها الذي يبرئ كل أفعالها ويقنعها أنها مبررة في سبيل انتقامها وعند وصولها لتلك الفكرة وجدت ذاتها تنخرط بنوبة بكاء مرير وهي تتيقن أنها لم تؤذي أحد سوى نفسها.
--------------
أما هو فقد حاول اقناعها ان تعيد له هاتفه ولكنها رفضت ورغم أنه ود بشدة ان يطمئن على أطفاله إلا انها استطاعت بطريقتها أن تؤثر عليه وتقنعه انهم بخير وهاهو ينتظرها كي تتحضر ليصحبها لتناول العشاء فقد أشعل أحد سجائره واخذ ينفث دخانها بنفاذ صبر فقد تأخرت كثيرًا وحقًا سأم الأنتظار ولكنه لم يستطيع أن يعترض حتى لا يفسد يومه الحافل معها،
ولكن حين خرجت له تدلى فكه وهو يراها ترتدي ذلك الثوب الذي يلتصق على جسدها وكأنه جلد ثان لها وهدر قائلًا:
-ايه ده انتِ هتخرجي كده ؟؟
أعتلى حاجبيها وقالت بثقة وهي تتطلع لهيئتها بالمرآة أمامه بكل ثقة :
-اه يا "سُونة" ماله كده!
هب واقفًا وأجابها بحدة:
- ماله ايه، وزفت ايه؟ الفستان ضيق جدًا ده لبستيه ازاي بالصابونة، مستحيل اسيبك تنزلي كده روحي غيريه
زفرت حانقة واعترضت:
-بس هو عاجبني ومش هغيره وبعدين مالك يا "سُونة" ما أنا كنت بلبس زيه قبل ما نتجوز وكنت بتتهبل عليا
تأفف بغيظ وبكثير من التناقض قال وهو يطفئ سيجارته المشتعلة بكعب حذائه:
- الوضع اختلف، دلوقتي أنتِ مراتي وشايلة اسمي.
قهقهت هي بصخب وإجابته دون حياد عن رأيها:
-بس أنا مش هغيره ومتهيئلي أنت اتجوزتني كده وقبلت تشيلني أسمك؛ وانا برضو كده ومش هغير ستايلي ونمط حياتي علشان أفكار رجعية ملهاش قيمة
لم يروقه حديثها وهدر منفعل:
-"منار "مش بحب الاسلوب ده
حانت منها بسمة مغوية أثناء اقترابها منه وقالت بإثارة وبنبرة متلاعبة وهي تعبث بأناملها المطلية داخل تلك الشعيرات الظاهرة من فتحة قميصه:
-اهدى يا "سُونة" متتعصبش وتبوظ مودي وبعدين أنا هبقى معاك ومفيش حد هيقدر يرفع عينه فيا علشان معايا أجمد راجل في الدنيا وكفاية اوي أنك مالي عيني.
ختمت حديثها وهي تضع قبلة عابرة أعلى فمه كي ترضي تلك النزعة الذكورية التي حفزتها بكل براعة دون أي عناء منها وإن كاد يطالب بالمزيد دفعته برفق وببسمة ماكرة نفت بسبباتها أمام وجهه وقالت بهمس مغري للغاية:
-مش دلوقتي لما نرجع.
لتضيف بنبرة تقطر بالفتنة وهي تقرص وجنته:
-هستناك في العربية ياريت متتأخرش يا "سُونة"علشان بتوحشني
قالتها وابتعدت عنه تسحب حقيبتها كي تسبقه دون أن تعطيه أي مجال للرد وكأنها تود أن تثبت لذاتها قبل منه أنها لن تخضع وتكون نسخة ثانية من تلك الغبية التي سخط عليها.
---------------------
كانت حريصة على افتتانه بها بكل الطرق أثناء سهرتهم، تتلاعب على اوتاره بكل حرفية وتعلقه بها أكثر بتلك الطريقة التي رغم فجوجها إلا أنها كانت تجدي نفع معه فقد تعمدت أن تجعله دائمًا تواق لها مستخدمة أحد حيلها الذكية التي تأكدت من تأثيرها حين همست بأذنه بطريقة موحية بما ستفعله معه حين عودتهم...
فقد تصلب جسده وتتثاقل انفاسه وهو يشعر بنيران مستعرة تشتعل به؛ ولذلك قرر في التو أن ينهي سهرته كي ينالها.
ليؤشر للنادل ويعطيه بطاقته الائتمانية كي يسدد ثمن فاتورة الطعام
وهو يخبره أن يتم الأمر بعُجالة كونه لا يستطيع الأنتظار اكثر، وبالفعل هرول النادل كي ينفذ طلبه ولكن عاد له بعد بضع دقائق قائلًا:
-آسف يا فندم تقريبًا البطاقة الإئتمانية بتاعة حضرتك مفهاش رصيد
تفوه بها بأسف بعدما كرر المحاولة لاكثر من مرة، ليجعد "حسن" حاجبيه ويسأله بعدم استيعاب:
-نعممممممممم...أنت متأكد اكيد المشكلة عندك!
نفى النادل وهو يناوله البطاقة مرة آخرى قائلًا:
-حضرتك تقدر تتأكد بنفسك
لتتسأل هي بتهكم وببسمة صفراء دون أن تعطي صدمته أي اهمية :
-ازاي كده يا "سُونة" معقول أنت بجلالة قدرك معكش رصيد
هب واقفًا وأجابها:
-لأ... اكيد المشكلة من عندهم ياريت تسبقيني على العربية
أومأت له وغادرت بينما هو رفض عقله الاستيعاب و أصر أن يحاول بنفسه لعدة مرات ولكن دون جدوى
ليضيق بُنيتاه القاتمة بعد أن فطن للأمر الذي لم يتوقع أن يصدر منها حتى في أبعد أحلامه، وتوحشت نظراته وهسس بنبرة متوعدة شديدة الغضب:
-عملتيها يا "رهف"...
----------------
🌺🌺روايه خطايا بريئه🌺🌺
بقلم الكاتبه ♥ ريم كريم ♥
السادس عشر
التراكمات سمّ بطيء يقتل أي علاقة بصمت. لا تختبروا قوّة تحمّل الآخر، لا تعوّلوا على حبّه الكبير، وقلبه الأكبر. لا تتجاهلوا نفاذ صبره، لا تتوقّعوا أن تكون هناك صفحات جديدة دائما، فلا تدرون متى تأتي الصفحة الأخيرة. قد يبدو كلّ شيء على ما يرام بالأمس، فتصحُون على ثورة عارمة صباحا.
--------------------
-ممكن اعرف في ايه ؟
قالتها هي ما أن دلفو سويًا لغرفة الفندق بعدما ظل طوال الطريق صامت و وجهه متجهم بشكل مريب جعل الكثير من الشكوك تنتابها، فقد حاول هو السيطرة على ذاته بصعوبة بالغة ونفى برأسه وأجابها بإقتضاب:
-مفيش...
لتتسأل من جديد بريبة أكبر:
-طب ايه حكاية الرصيد دي طلع فعلًا المشكلة من عندهم
أومأ لها بنعم وأخبرها كاذبًا كي لاتزيدها عليه وتشعره بمدى غبائه:
-اه المشكلة من عندهم الجرسون حمار ومكنش عارف يتعامل
هزت رأسها وعقبت بعد أن زفرت بارتياح واقتربت بخطواتها المتغنجة منه:
-طب خلاص ايه اللي مضايقك وغير مودك كويس أنه طلع الغلط عندهم وإلا كان هيبقى الموقف بايخ اوي يا "سُونة"
اغتصب بسمة على فمه واومأ لها بمسايرة وهو يحمد ربه أنه كان يحمل بضع نقود ورقية بحوزته للاحتياط وبالكاد غطت فاتورة العشاء، ليتناول نفسٍ عميق ويزفره على مهل ثم يمرر يده بين خصلاته بأعصاب تالفة قائلًا وكأنه يتوسلها:
-هاتي التليفون يا "منار" عايز اطمن على الولاد
جعدت جبينها و تأففت من جديد:
-يووووه انت مش بتزهق قولتلك لأ... وبعدين ولادك مش لوحدهم لترفع حاجبيها وتضيف وهي تتخصر أمامه متهكمة:
- اوعى تكون "رهف" هانم وحشتك ومش قادر تقعد من غير ما تطمن عليها
كان يشعر ببراكين ثائرة برأسه من شدة الغضب ورغم ذلك تمالك نفسه وقال بنبرة آمرة بعض الشيء:
-هاتي التليفون ومش عايز زن أنا على آخري والموقف اللي حصل ضايقني بما فيه الكفاية
لوحت بيدها أمام وجهه وهدرت دون أن تعير غضبه أي اهمية:
-هو أيه اللي حصل وأنت ليه مكبر الموضوع كده ده مجرد سوء تفاهم ولا في حاجة مخبيها عليا...
زفر حانقًا من جديد وهدر منفعل:
-مفيش زفت مخبيه عليكِ وبلاش تزني أنا بكره الزن وهاتي التليفون
لم تراه غاضبًا من قبل لهذا الحد واستغربت أن موقف تافه كهذا يكون هو سبب غضبه ولثقتها بثرائه وما يملكه من نقود لم تشكك بتاتًا بصحة حديثه و عاندت بثقة:
-لأ...ده شهر عسلي ومش هخلي المملة مراتك تاخدك مني وتتسهولك لما تكلمها
احتدت بنيتاه القاتمة وهدر من بين اسنانه بنفاذ صبر وبآخر حيلة لديه:
-مش هكلمها هي ....هكلم "يامن" وهخليه يطمني على الولاد هاتي التليفون يا "منار" ومتعصبنيش اكتر من كده
زفرت بضيق من إصراره ولم تريد أن تعاند أكثر كي لا تفسد الأمر بأوله فرغم تخوفها من استعطاف "رهف" له إلا انها تثق تمامًا بأسلحة انوثتها الفتاكة التي تجعله يرضخ لها ويصبح كالخاتم بإصبعها ولذلك وافقت قائلة بخبث وهي تحتضن وجهه:
-خلاص متتعصبش يا "سُونة" انا برضو عندي قلب وعارفة أنك اب و ولادك لازم يوحشوك
لتسير بضع خطوات ثم تفتح خزانة الملابس وتدس يدها بين طياتها تخرج هاتفه وتناوله إياه قائلة بوداعة لا تليق ابدًا بها:
-كلم "يامن" ومتنساش تسلملي عليه وتقوله انا نفسي اتعرف عليه وعلى خالتك
تناوله من يدها بتلهف شديد وقام بفتحه لتميل هي على وجنته تقبلها ثم تقول بنبرة ذات مغزى مغري:
-هاخد Shower وهستناك في السرير متتأخرش عليا يا "سُونة"
هز رأسه ببسمة بالكاد اغتصبها،
لتبتسم هي وتخطو نحو المرحاض، بينما هو ما أن تأكد من إغلاقها الباب دلف للشرفة وأغلق بابها عليه ثم قام بالنقر على شاشة هاتفه يطلب رقم "رهف" وهو ينوي أن يصب جم غضبه عليها ولكن لصدمته كان هاتفها مغلق وحتى هاتف المنزل الأرضي لم تجيب عليه مما جعله يستشيط غيظًا ويتيقن أنها تتعمد أن تتجاهله، وإن تذكر أنه لم يعد معه مال كافي لسداد حساب الفندق قام بمهاتفة "يامن" وقبل أن يطلب منه العون سأله عنها وتحجج كونه اضطر للسفر وتركهم ولكن "يامن" أخبره أنه لا يعلم شيء ولم تقم هي بزيارتهم منذ وقت طويل ليستشيط هو أكثر ويكاد القلق يفتك به ولكن دائمًا ما يتدخل شيطانه مبرراً كونها تكيده ليس أكثر وتتعمد إفساد سعادته ورغم تلك الأعاصير التي تضرب برأسه إلا انه لم يخبر "يامن" بأي تفاصيل خاصة عن فعلته فقط طلب منه أن يرسل له المال بأي طريقة... و وعده انه سيشرح له فيما بعد وحين أغلق معه زفر حانقًا وأخذ يمرر يده بخصلاته بفوضوية هادرًا بغيظ:
-أنا ازاي غبي كده ونسيت موضوع الحساب ده
ليكور قبضته بقوة ويضعها بين أسنانه كي يتحكم بزمام نفسه كي لا يفتضح غبائه أمام الآخرى وتشعر به، ثم أغمض عينه وأخذ يهدأ نفسه ولكن من داخله يتوعد لها بأشد الوعيد حين عودته الذي قرر أن تكون فور إرسال "يامن" للمال في صباح الغد.
----------------------
تنهيدات مُسهدة ونظرات هائمة كانوا يتبادلونها وهم يستندون على مقدمة سيارتها في المكان ذاته أعلى تلك الهضبة العالية التي تكشف البلد من عليائها فرغم عزلة المكان إلا أنها تشعر براحة عارمة به فقد أصرت عليه أن يأتي بها إلى هنا ورغم غيوم السماء و برودة الجو وتلك اللفحات الباردة إلا أن كان دفء قلوبهم يكفي العالم أجمع فكانوا غير عابئين بشيء وكأنهم بعالم أخر يهيمون به بمشاعر تشابه غيوم السماء التي انذرت لتوها بهطول الأمطار مصطحبة معها عاصفة هوجاء من المشاعر المتأججة بينهم فشهقت هي حين شعرت ببضع قطرات الماء على وجهها وقالت بعفوية تشبه عفوية الأطفال:
-الله مطر …
مسح على وجهه وقال وهو ينظر لما حل بالجو وكأنه فاق لتوه من غفوة قلبه:
-عجبك كده مش كنت روحتك احسن من البهدلة دي
نفت برأسها واخبرته ببسمة واسعة وهي ترفع رأسها للسماء وتفرد ذراعيها ترحب بالمزيد:
-انا جيت هنا مخصوص علشان كده ...انا بحب المطر أوي يا "محمد" بحب ريحته وبحس براحة غريبة بعديه
أبتسم لتبريرها المرهف وقال :
-بس الجو برد عليكِ
نفت برأسها وظلت تدور وتدور حول نفسها ببسمة واسعة واستمتاع غريب دغدغ حواسه وجعله يتأملها بنظرات والهة يردد بداخله
كم أود أن أشاركك جموحك، وصخبك وسعادتك الآن، كم أود إطلاق العنان لنفسي وأغدق دون حُسبان، ياليتني أستطيع أن ادثرك بين طيات صدري وأناصفك أنفاسي بكل امتنان.
امنحك لحظات لا تليق سوى بكِ و أبوح لكِ بمعسول الكلام ولكن يوجد حديث يعجز عنه اللسان فأنا عاشق يعلم أن كافة أحلامه يستحيل تحقيقها ويجب أن تظل طي النسيان.
لا يعلم كم مر من الوقت وهو يتأملها ولكن ما يعلمه أن قلبه يهفو لها حد العناء
فقد تنهد بعمق ولعن تلك الحالة الغريبة التي أصبح عليها و تلك المشاعر التي لم يعد يستطيع التحكم بها وتعدت حدود عقله ومنطقه وكل ما نشأ عليه حين نزع سترته وتقدم منها يضعها على ظهرها، وقبل أن يسحب يده تراجعت هي خطوة واحدة للخلف وألصقت ظهرها بصدره وضمت يده الممسكة بالسترة حولها بحركة تلقائية للغاية أربكته و زادت من وجيب قلبه حين لفت رأسها كي تواجه وجهه وقالت ببسمة والهة متيمة تحت وطأة نظراته الحانية المفعمة بالاهتمام:
-عارف أن أنا أسعد واحدة في الدنيا اللحظة دي
غرق في بحر عينيها دون وعي وتمنى أن لن ينجو أبدًا وهي تميل برأسها لتواجه وجهه أكثر حتى تعانقت انفاسه واستأنفت بنبرة حالمة مفعمة بالسعادة غير عابئة بزخات المطر التي كانت تزف حديثها:
-علشان جمعت بين أكتر تلات حاجات بحبهم، المكان ده، والمطر، وأنت يا "محمد"
زلزلت قاع قلبه بل عصفت به وجعلت ارادته وعزيمته للصمود ذهبت ادراج الرياح من وطأة تصريحها الخطير له، ورغم ان لسانه عجز عن الرد إلا أن بندقيتاه كانت تعصاه و تهيم بها وكأنها تود أن تمتعه بتلك اللحظة الفريدة المميزة ، فكانت عيناها تدعوه دعوة صريحة للبوح؛ ولكن الأمر كان عليه ليس بيسير ابدًا فمكنون قلبه بمثابة وعد صادق وهو لم يتعود أن يصدر وعود يستحيل أن يفي بها، يأست من رده وكم شعرت بالإحباط حين تحمحم و أزاح برأسه بعيد عنها لتحل وثاق يده من حولها ويتراجع هو بضع خطوات للخلف قائلًا بجدية شديدة وبصوت مرتبك:
-لازم نمشي الوقت اتأخر و المطر بيزيد
حانت منها بسمة باهتة بعدما اندثرت لمعة عيناها وهزت رأسها بطاعة ليسبقها لداخل السيارة ، ليحتل الحزن من جديد عيناها وهي تظن انه لم يبادلها مشاعرها غافلة كونه أصبح غارق بها ولكن الأمر لا يقتصر على ذلك فنعم هي تعدت حواجز قلبه وحدود منطقه ولكن يستحيل أن يتخطى هو تلك الفجوة الطبقية بينهم.
----------------------
رغم ذلك الفراغ الموحش الذي يخيم على قلبها ويكاد يبتلع روحها إلا انها كانت تقاوم كي تصمد وتستعيد عزيمتها وتقف في مواجهة مع ذاتها لتردع ذلك التشتت المريب الذي أحتل كافة تفكيرها وجعلها تستغرب ما يحل بها، وحين أشتد الصراع بين ألم قلبها وهواجس عقلها انتصر من له سُلطة كبرى عليها فقد اسعفها بتلك الذكريات الأليمة التي يحتفظ بها بين طياته منذ زمن بعيد ودعم ظهورها ذلك اليوم الممطر الحافل بتلك الأصوات المرعبة التي طالما ذكرتها بتلك الليلة المشؤومة حين توفت والدتها، فكانت ترفع رأسها تنظر لعطاء السماء وهي تجلس على أرضية شرفتها الباردة دون أن تعير أن أطرافها تكاد تتجمد من برودة الجو بل كل ما كانت تعيره أهمية هو أن تعاند تأثير تلك الذكرى التي كلما راودتها سلبتها انفاسها وجعلت الرجفة تسيطر عليها وينتابها حالة من الهلع مثل تمامًا ما حدث معها في ذلك اليوم فكان كل شيء يمر أمام عيناها وكأنه حدث منذ قليل وليس من سنوات طويلة فإلي الأن تتذكر أدق التفاصيل بتلك الليلة الباردة التي لم تنعم بعدها بدفء ابدًا
flash back
كانت ليلة ممطرة، يلفحها الصقيع وصوت الرعد يتسلل إلى مسامعها أثناء نومها، فزت هرعة من فراشها تفرك عيناها وتسير نحو غرفة والدتها بخطوات وئيدة وهي تأمل أن تدثرها بأحضانها وتنعمها بدفئها الذي لا يضاهيه شيء ولكن عندما وصلت إلى باب الغرفة الموارب قليلًا استمعت لذلك الحوار المحتد بين أبويها:
-أنا تعبت منك ومش عارف أعمل ايه علشان اقنعك
قالها "عادل" بحدة وبنفاذ صبر جعل "غالية" ترد عليه بنبرة منفعلة شديدة الإصرار:
-عمري ما هقتنع يا "عادل" دي حياتي وانا حرة فيها
-لأ مش حرة يا "غالية" ولو مرضتيش هجبرك وهيبقى غصب عنك، ومش معنى اني وافقت على رغبتك وسمعت كلامك يبقى كده عملتي اللي عليكِ تجاهي وتجاه بنتك
نفت "غالية" برأسها بعدم اقتناع وصرخت بهستيرية:
-اللي حصل ده كان علشانك أنت وعلشان اديك فرصة تعوض كل اللي معرفتش ادهولك أنا عارفة أني قصرت معاك وأنت صبرت معايا كتير بس ياريت كان بإيدي …علشان خاطري يا "عادل" بلاش تضغط على اعصابي انا مش عايزة اتعذب أكتر من كده، صدقني مش هقدر اتحمل اللي أنت بتطلبه مني ...
-يووووووه انتِ تفكيرك غلط... وانا يأست من عنادك ولعلمك بقى لو فضلتي على إصرارك هخالف رغبتك وهقول لبنتك وساعتها بقى هخليها تعرف اد ايه امها ضعيفة وانانية ومبتفكرش غير في نفسها
قالها بنفاذ صبر وهو يغادر الغرفة ويترك المنزل بأكمله دون أن يلحظ كون "نادين" تنكمش في أحد الزوايا و وصلها كل ما دار بينهم.
نظرت نظرة معاتبة لأثر أبيها وكم شعرت بلاستياء حينها كونه يتشاجر مع والدتها ويحزنها، ثم سارت خطوتين داخل الغرفة لتجد والدتها تجثو على ركبتيها بإنهزام تام وتبكي بكاء مرير جعل الدمع يتكون بعيناها أيضًا ويتهدل من سودويتاها التي كانت مفعمة بالبراءة حين غمغمت بحزن:
-ماما…
رفعت "غالية" رأسها المنكسة بضعف وكفكفت دمعاتها وفتحت ذراعها تحث ابنتها أن تقترب، وبالفعل انصاعت لها "نادين" وارتمت بين أحضانها لتدثرها "غالية" بحب وتهمس بحنو شديد وهي تمرر يدها على ظهرها كي تكف عن بكائها التضامني معها:
-انا كويسة يا قلب ماما متعيطيش انا بس اعصابي تعبانة وبابا مُصر يفرض عليا ال...
ابتلعت باقي حديثها بمرارة وصمتت وكأن شيء اقوى منها يمنعها عن الايضاح اكثر، لتربت" نادين" على ذراعها بحركة حانية بريئة و ببكاء تشارك به بؤس والدتها حين استأنفت:
-هو مش قادر يفهم اني خايفة ...خايفة اوي ...خايفة اتعذب يا "نادين" أنا اتعذبت كتيير اوي وكل يوم بستنى قدري يخبط على بابي، كل يوم بنام وببقى خايفة مصحاش، سامحيني يا بنتي انا عارفة إنك اتظلمتي بأم زي بس أنا تعبت ....والله تعبت ومبقتش قادرة استنى اكتر من كده
كانت تتحدث ومع كل كلمة تتساقط دمعة حارقة من عيناها التي ذبلت من شدة بكائها الواهن ورغم أن "نادين" لم تتفهم حديثها وماذا تقصد به إلا أنها كانت على دراية تامة أن والدتها ليست على ما يرام بتاتًا وانها تمر بشيء يفوق قدراتها على التحمل ولذلك تشبثت اكثر بها و قائلة ببراءة وبعيون تفيض بعبراتها وهي تمسح براحتها الصغيرة وجه والدتها:
-متزعليش يا ماما أنا بحبك ومش هزعلك وبلاش تعيطي علشان انا بعيط زيك
زاد نحيب والدتها وضمتها لها ولم يصدر منها شيء بعدها سوى تلك الكلمات التي ترجوها بها أن تسامحها وتغفر لها على شيء هي تجهله و لم تذكره والدتها قط وحين استيقظت صباح اليوم التالي علمت لمَ طلبت والدتها غفرانها.
فكان جسدها مسجي على ارضية الغرفة باستسلام غريب حين هرعت "نادين" لها متلهفة:
-ماما نايمة ليه على الأرض
لم يأتيها ردها بل كانت ساكنة لم يصدر منها شيء بتاتًا، لتغمغم هي من جديد بنبرة مرتعشة للغاية مغلفة بالقلق:
-ماما مش بتردي عليا ليه أنتِ زعلانة مني
ايضًا لم يصدر منها شيء مما جعلها تهزها وتصيح بنبرة راجية:
-ماما قومي وردي عليا... أنتِ مش بتردي على" نادو" ليه...!!!!! ماااااااما...
كانت تهز بجسدها المسجي أمامها تستجدي ردها او صدور أي ردة فعل منها ولكن والدتها كانت شاحبة، جسدها كقطعة ثلج ومتيبس لحد كبير، وشفاهها تميل للزراق، فكان رؤيتها هكذا أكبر بكثير من قوة احتمال طفلة بنفس عمرها لم تستوعب بعد فكرة الموت، ولذلك اخذت تمرر كفوفها الصغيرة على وجهها تزيح خصلاتها جانبا وتربت على وجنتها وهي ترجوها بنبرة هستيرية غير متزنة بالمرة:
-انتِ نايمة شوية وهتقومي تاني انا عارفة انك بتحبي "نادو" ومش هتهون عليكِ تسبيها قاعدة لوحدها... ماما أنا بخاف اقعد لوحدي... ماما ردي عليا و قومي اتكلمي معايا وانا مش هزعلك تاني وهخاصم بابا علشان زعلك، ماما ردي على "نادو" ... مااااااما
لا شيء أيضًا وحينها شعرت بشلالات متدفقة تسيل من عيناها دون وعي و انتابتها رجفة قوية جعلت أسنانها تصطك ببعضها وكأن كافة حواسها ادركوا الأمر إلا عقلها آبى واستنكر، لتنفي برأسها مرة وراء مرة و تردد من بين أسنانها وهي ترفع رأس والدتها مستخدمة كل قوتها كي تضعه بحجرها وتظل تربت على خصلاتها قائلة بنبرة مرتعشة غير مستوعبة من هول الفاجعة:
-خلاص ... مترديش ونامي هتبقي احسن ...
ظلت تتمتم كلمات غير مرتبة وبعدم اتزان وهي تظن ان والدتها ستنهض بعد قليل وتنعم بدفها من جديد ولكن استمر الأمر لعدة ساعات مرو عليها بصعوبة بالغة على أمل حدوث معجزة من السماء.
في تلك الأثناء دلف "عادل" للمنزل وحين دخل لغرفتها وجدها تجلس على الأرض تحتضن رأس زوجته وتربت على خصلاتها بملامح شاحبة وعيون دامية تخبره بجنون وهي تضع سبابتها المرتعشة على فمها:
-ششششش ماما نايمة...شوية وهتصحى
تقلصت معالم وجه "عادل"من هول المنظر وهرول بلهفة ملتاعة يطالع هيئة زوجته ويلحظ علب الحبوب الدوائية الفارغة تغطي ارضية الغرفة، ليربت على وجنتها زاعقًا باسمها بهلع وبأعصاب تالفة يجس نبضها ولكن دون جدوى.
استغرق الأمر دقيقة واحدة كي يتيقن أن روحها فارقت جسدها لينهار باكيًا ويحاوط رأسه ينعي خسارته لزوجته ورفيقة دربه مغمغمًا:
-ليه يا "غالية" ليه حرام عليكِ ليه عملتي في نفسك كده وسبتيني
كانت تشاهد كل ما يحدث بنظرات زائغة غير مستوعبة ولكن حين تفوه ابيها تأكدت أن والدتها فارقتهم ولن تنهض بعد اليوم وحينها صرخت صرخات هستيرية ممزقة لأبعد حد قطعت نياط القلب:
-لأ... لأ......لااااااااااااا ماما مش هتسيب "نادو" .....ماما مش هتسيب "نادو" مش هتهون عليها مااااااااااااااااااااما
حاول "عادل" تهدئتها وأن يجعلها تبتعد عن جسدها ولكنها كانت تضم رأسها وترفض تركها وهي بحالة صدمة عارمة
من شدة وطأتها سقطت مغشي عليها وكأن عقلها قرر الفرار وأصر على إستنكار الأمر، فبعد تلك الفاجعة علمت أن والدتها تناولت جرعات كبيرة من حبوب دوائية مختلفة أدت إلى أرتفاع مفاجئ في ضغط الدم و تمزق في كافة الأوعية الدموية مما أدي إلى وفاتها...
لتمر هي بفترة عصيبة بعدها استدعت تدخل أخصائي نفسي كي يؤهل طفلة مثلها لتقبل الأمر، ورغم انها كانت تستجيب للعلاج إلا أن ظل عقلها لا يستسيغ الحوار الذي دار بين أبويها ولم تجد تفسير له وحين سألت ابيها ذات مرة رفض أن يوضح لها واخبرها ان تلك رغبة والدتها، ولكن عندما أحضرها والدها لمنزل" ثريا " واخبرها بزواجه منها ظنت أن ذلك ما كان يخفيه ويحاول أن يقنع والدتها به قبل تخليها عن حياتها فمن وجهة نظرها حينها أن ابيها سبب نكبت والدتها إلا أن مع كثير من خطوات التأهيل ساعدتها كثيرًا لتخطي الأمر فكان ابيها يدللها كثيرًا و يغدقها بحنانه كي يعوضها عن ما فقدته فيظل هو رغم كل شيء أبيها وكل ما لديها ولذلك لن تنقم عليه هو بل وضعت العبء على كاهل "ثريا" ومن بعدها أبنها…
End Flash Pack
عادت بذاكرتها للوقت الحالي وهي تشعر بذات الشعور الذي انتابها حينها فقد اخذت أسنانها تصطك ببعضها وتضم ركبتيها إلى صدرها ودمعاتها الملتهبة عرفت طريقها إلى وجنتها تكويها من شدة حرقتها، تحتضن جسدها بذراعيها وتظل تتحرك بحركة غير متزنة للخلف وللأمام لعلها تطمئن ذاتها وتبث بجسدها السكينة والدفء التي لم تنعم به منذ رحيل والدتها وموت أبيها سوى بقربه وعند تلك الفكرة المتناقضة تمامًا بالنسبة لها وجدت عزيمتها تخور بل وتتلاشى تمامًا فرغم انه أهانها وعنفها إلا أنها تود لو أن يكون بجانبها الأن يواسيها مثل السابق ترتمي بين يديه وتستجدي ذلك القرب المطمئن لها ولكن أين هو الآن !
فقد زادها عليها وفرض عليها عزلة جبرية جعلت الذكريات تنتهك روحها.
----------------------
بعد أن هاتفه ابن خالته قام بتدبر الأمر من أجله، وبعد عدة ساعات مضنية من التفكير الدؤب رفضت عينه أن تستسلم للنوم وقد انتابه حالة من الأرق الغريب بسبب تلك الأجواء التي بالخارج، فظل يتقلب على جانبي الفراش يتوسل قلبه أن يكف عن صرخاته المنافية لقرار عقله ولكن بلا فائدة ليزفر حانقًا ويتسطح على ظهره بالأخير ويتأمل سقف غرفته يسترجع بعقله تلك الهيئة التي كانت عليها، لا ينكر أن الخوف احتل قلبه حينها وتوجس خِيفة من ردود أفعالها ولكنه يثق انها لن تستسلم بتلك السهولة فكم تمنى أن يستشعر أي ندم من تصرفاتها او حديثها ولكنه لم يجد غير ذلك التمرد المعتاد الذي كان يقطر من كل كلمة تتفوه بها فهي مثل ما عاهدها دائمًا عنيدة يابسة الرأس و لا تعترف بخطئها؛ ولكن شعور دفين بداخله يخبره أنها عكس تلك القوة الواهية التي تدعيها دائمًا، ورغم دلاله المسبق وتهاونه معها و تغاضيه عن الكثير إلا انها تمادت كثيرًا تلك المرة وإلى الآن لم يجد مبرر منطقي لكل ما تفعله لوهلة تذكر جملتها حين ذكرت والدتها ولكن لم يستوعب ماذا تقصد فطالما جمعت علاقة طيبة بين والدته و والدتها حتى زواج والدته من ابيها كان بناءً على رغبة والدتها فكان كل شيء على مرأى ومسمع منه ومازال يتذكر كل شيء حدث حينها للآن،
زفر حانقًا عندما استمع لصوت الرعد المتكرر بالخارج ليهب من فراشه ويقف يزيح الستائر القاتمة عن نافذته ويتطلع من زجاجها المغلق إلى السماء وكأنه يرجو ربه أن يرأف بها فهو يعلم أن صوت الرعد يخيفها ويصطحب معه تلك الذكرى المريرة التي مهما ادعت انها تخطتها لم تفعل فطالما كانت تصر على أبيها أن يظل بجانبها حين تكون الأجواء مشابهة ومن بعد وفاته كانت تلتصق به دون أن تبرر خوفها ولكنه كان يستشعر ذلك من رجفتها وشحوب وجهها،
ظل صامد لكثير من الوقت ولكن قلبه اللعين ساقه إلى غرفتها وهو يوهمه أن نظرة عابرة لها لا تضر، وحين فتح باب غرفتها لفحات من الهواء الباردة استقبلته ودون أن ينظر لفراشها ويتأكد من وجودها به كان يهرول نحو تلك الشرفة المفتوحة على مصراعيها كي يغلقها ولكن لصدمته وجدها متكورة داخل زاويتها بشكل مريب ينم عن كونها ليست على ما يرام ابدًا فكانت مغمضة العينين وشاحبة شحوب الموتى، هرول إليها صارخًا بحدة من استهتارها وهو ينحني بجذعه ويقبض على ذراعيها كي ينهضها معه:
- ايه الجنان ده بتعملي في نفسك ليه كده؟
كانت حالتها يرثى لها حين حاولت دفع قبضته عنها بإيدي مرتعشة قائلة بنبرة ضعيفة بالكاد صدرت من بين اصطكاك أسنانها:
-ملكش دعوة بيا...
زفر هو حانقًا عندما تيقن ما بها وتحسس بيده جبينها فجسدها يكاد يحترق من شدة حرارته ليلعن ذلك العند المستوطن بها ثم دون أن يمهلها وقت لاستيعاب الأمر كان يضع يده خلف ساقيها ويحملها، شهقة خافته صدرت من فمها كانت أخر شيء صدر منها قبل أن تسقط رأسها على صدره فاقدة لوعيها مستسلمة لذلك الظلام الذي باد دفعاتها و وأد أي صلة لها بالواقع
----------------------
كان يشعر أن جسدها يكاد ينصهر بين يديه وهو يضعها بالفراش و يدثرها بالغطاء ثم دون أضاعة أي وقت كان يهاتف الطبيب ويطلب منه الحضور في أسرع وقت ورغم سوء الجو بالخارج إلا أنه أتى بوقت قياسي وقام بفحصها واوصى لها بعدة عقاقير طبية تفيد حالتها، وحين غادر الطبيب جلست "ثريا" بجانبها بملامح متهدلة حزينة تضع قطع القماش الباردة على جبهتها بِمحاولة بائسة منها أن تزيح تلك الحرارة الناشبة بجسدها ولكن دون جدوى، لترفع نظراتها المؤنبة له وتقول:
- الحرارة مش عايزة تنزل؟
كان يجلس هو منكس الرأس بجانب فراشها دون أي ردة فعل تذكر، لتصرخ والدته من جديد :
- بقولك أتصرف الدكتور قال الحرارة غلط عليها
رفع عينه المُرهقة التي يحتلها الحزن ولم يقوى على الحديث فقط توجه بخطواته نحو المرحاض الملحق بغرفتها وملئ حوض الاستحمام بالماء ثم عاد بخطواته وغمغم لوالدته:
- روحي يا أمي حضريلها لقمة علشان تاكل وسبيني معاها انا هتصرف
تناوبت نظراتها المتوجسة بين تلك المحمومة المُلقاه بحالة يرثى لها وبينه واعترضت:
- مش هسيبها معاك وقسم ب الله لو حصلها حاجة عمري ما هسامحك يا "يامن"
زفر بقوة وقال وهو يفرك ذقنه بتوتر:
-أمي هي غلطت بلاش تدافعي عنها وتاخدي صفها
لتجيبه "ثريا" بدفاع وحماية كأي أم:
- برضو ده ميدكش الحق تمد ايدك عليها وتحبسها وحتى لو غلطانة نقتلها يعني!! ......أنت ابني اه لكن عمري ماهسمحلك تفتري عليها دي أمانة "عادل" و"غالية" و وصوني عليها انا لو سكت؛ كنت بقول هي غلطت ومكنش ينفع تعدي اللي حصل بالساهل وكان لازم تهدى وتفكر بعقلك لكن أنت نسيت وصية أبوها وقسيت عليها
أغمض عينه بقوة يحاول أن يسيطر على عصبيته وأخبرها بتنهيدة مثقلة بالهموم:
-أمي أنتِ عارفة أنِ عمري ما كنت مفتري و إني ضدد المبدأ أصلًا بدليل إني كنت بتحمل عجرفتها وتجرحاتها وبطول بالي عليها على أمل انها تتغير …بس انا راجل جبت مراتي بعد نص الليل من القسم بعد سهرة هايلة في مخور يعني رقص وشرب وما خفي كان أعظم لأ وكمان بتستغفلني وكانت هتأذيكِ بالحبوب اللي بتخدرك بيها ... والله أعلم للمرة الكام اللي عملت فيها كده …وبعد كل ده بتقوليلي افتريت عليها … لأ انا مفترتش ولو ابوها نفسه مكاني كان هيعمل أكتر من كده
ليكوب رأسه بين كفيه ويقول بنبرة ممزقة مثقلة بالكثير من الألم :
-انا من ساعة ما ابوها وصاني عليها وانا حاسس إني شايل هم الدنيا كله فوق كتافي وانا تعبت ومش عايز حاجة غير إني ارتاح.
تنهدت "ثريا" ونهضت من جلستها تربت على ظهره بعدما فرت دمعاتها حصرتًا عليهم ثم دون أضافت المزيد توجهت للمطبخ بينما هو رفع رأسه ينظر لموقع رقدتها بتنهيدات حزينة مثقلة تنعي حظ قلبه، ثم دون إضاعة أي وقت كان يقترب منها و ينحنى بجزعه عليها يجفف بيده حبات العرق المتلألئة على جبينها و يضع يده تحت ساقيها والأخرى بظهرها، ويحملها لتسقط رأسها و تتراخى يدها تتأرجح في الهواء بين يده و تأن بخفوت وتهمهم بعدة كلمات لم يفهم منها شيء سوى منادتها لوالدتها
ليزفر مرة أخرى من صحة يقينه نحوها ويتوجه بها للمرحاض وهو يشعر أن قلبه يكاد يحترق معها.
---------------
وضعها داخل حوض الاستحمام بعناية شديدة لتشهق هي بخفوت وتأن بوهن و تتشبث بذراعه بقوة و تغمغم بضعف:
- بردانة يا يا...من
زفر أنفاسه دفعة واحدة عندما صدر أسمه من بين شفاهها بتلك الطريقة المتوسلة المحمومة ثم مال بجذعه عليها وجلس على حافة حوض الاستحمام يحاوطها بيد كي يدعم جلستها و باليد الأخرى يزيح خصلاتها القصيرة عن وجهها قائلًا بأهتمام رغم كل شيء:
- هتبقي كويسة...
ظلت تهز رأسها بضعف وتقاوم كي يخرجها من الماء ولكن لم ينصاع لها بل كان يغمر جسدها بالماء أكثر مما جعلها تتشبث به بقوة أكبر وهي تجهش ببكاء واهن إن دل على شيء دل على هشاشتها التي تتوارى دائمًا خلف رداء التمرد والقوة التي تدعيها، كوب وجنتها بكف يده وتمتم بنبرة مهزوزة بعض الشيء تأثرًا بهوانها وهو يمسح بإبهامه موضع سريان دموعها :
-بلاش بكى ...هتبقي كويسة
نظرت له نظرة ضعيفة منكسرة
لأبعد حد يقسم انها المرة الأولى التي يراها بعينها فقد ألمت قلبه وجعلته يشعر بـ أعاصير تضرب دواخله من وطأتها، فهو يعلم انه قسى عليها ولكن لن يغشم حاله هي تستحق وهو ليس نادم على ردة فعله بل مازال غاضب حد الجحيم من فعلتها ولكن سيجبر ذاته أن يضع كل هذا جانبًا الآن إلى أن تتحسن حالتها، دام تواصلهم البصري عدة ثوانٍ قبل أن تغلق عيناها ويخور جسدها وتسقط رأسها على صدره، لم يتحرك هو بل ظل مستكين على وضعيته الغير مريحة بالمرة من أجلها و لمدة عدة دقائق وحين
شعر أن حرارتها قد انخفضت بعض الشيء أنتشلها من المياه وأجلسها على ساقيه وهو يستند على سور حوض الاستحمام، تعلقت هي بعنقه وهي بين الوعي ولا وعي ليتناول هو أحد المناشف ويجفف خصلاتها ثم يخبرها :
- لازم تغيري هدومك
أومأت له بضعف وبعيون مسبلة بأرهاق جعلته يلعن تحت أنفاسه وهو يتمنى لو يتبرأ من ذلك العاصي بين أضلعه الذي يطعن به ويخبره أن يرأف بها ليزفر أنفاسه على دفعات متتالية كي يستعيد رباط جأشه ويحملها من جديد ولكن تلك المرة لم تتأرجح يدها في الهواء بل تعلقت بعنقه وأرجحته هو بين غضبه منها ومن فعلتها وبين قلقه وخوفه عليها وهي بتلك الحالة، ليجد ذاته يزفر حانقًا مرة آخرى وكأن تضيق به أنفاسه ثم نظر لأعلى وكأنه يناجي ربه أن يرأف بنكبة قلبه ويعينه عليها.
--------------------
♥
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا
تعليقات
إرسال تعليق