القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل الرابع والثلاثون 34بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)

 

رواية غناء الروح الفصل الرابع والثلاثون 34بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)






رواية غناء الروح الفصل الرابع والثلاثون 34بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)



الفصل الرابع والثلاثون.


-هو قالك كده؟


هز نوح رأسه عدة مرات، وابتسامة صغيرة جدًا ترتسم على ثغره بينما كانت نظراته أكثر حدة، لا...بل ربما كانت غامضة توحي بشيء خفي لم تتمكن من إدراكه، ولم تفهمه إطلاقًا، كانت تلك النظرة تحمل في طياتها ما يُشبه لغزًا مستترًا، وكأن عينيه تخفيان خلف ابتسامته الباهتة أسرارًا دفينة مقلقة.


سعلت مرة واحدة فقط محاولة أن تستعيد سيطرتها على نفسها، وقد نجحت بالفعل بأسلوبها الماهر وطريقتها الملتوية التي اعتادت أن تتسلح بها عند الضرورة، رفعت رأسها بثقة مشوبة بالدهاء وقالت بنبرة لا تخلو من الاتهام والسخرية:


-ده أكيد جايلك يعمل عليك حوار عشان عايز منك فلوس تاني بعد ما أنا منعته عنك.


اتسعت ابتسامته قليلاً ولكنها لم تكن تلك الابتسامة العريضة، بل كانت ابتسامة تقييم....ترقب....ونوع من التريث، ظل صامتًا لثوانٍ وكأنه يزن كلماته في رأسه أو يقيم حديثها من منظور خفي، ثم قال بصوت هادئ يحمل تفهمًا غير متوقع، تفهمًا أدهشها وأربك حساباتها:


-أنا قولت كده بردو، عشان كده طردته وبهدلته وهددته لو شوفته تاني هبلغ الشرطة....وعليا وعلى أعدائي!


اتسعت عيناها في دهشة حقيقية تساءلت في داخلها...أهو حقًا يصدقها؟ أم تتخيل ذلك؟ كانت مشاعرها في تلك اللحظة خليطًا من الارتباك والتوجس، ولكن حركته المفاجئة حين نهض من مكانه وتوجه نحوها، ثم دنا منها بجسده الطويل الذي تجاوزها طولًا وهيبة أربكتها بشدة، فاقترب وجهه من وجهها حتى أصبح الفاصل بين أنفاسهما لا يُذكر وهمست بصوتٍ مضطرب بينما كانت ملامح وجهها تبهت كصفحة بيضاء خالية من أي حياة:


-معقول يا دكتور صدقتني على طول، لو حد غيرك كان شك فيا وصدقه.


لم يبتسم ولكن عينيه أوحت لها بابتسامة ناعمة، كأنها ابتسامة صامتة لا تحتاج إلى ثغره، بل اكتفى بالنظرة العميقة...ولكن قربه منها  منح لأنفاسه الساخنة حرية التسلل إلى بشرتها، وقال بصوت خفيض ونبرة مدروسة بدقة بالغة:


-معقول يا حسناء أصدقه؟! أنتي بنت حلال ووقفتي جنبي وانتي مش عايزة أي مقابل، انتي عارفة...


صمت لثوانٍ ولكن صمته محمل بالمعاني الخفية، أما هي فقد كان صدرها يعلو ويهبط بسرعة، وأنفاسها كأنها تركض في مضمار سباق رغم أنها لم تتحرك قيد أنملة...شيء ما في نبرته...في قربه، في صوته، جعلها ترتجف داخليًا دون أن تُبدي ذلك خارجيًا.


-أنا دايمًا حاسس إنك بتحبيني، ومستعدة تعملي علشاني أي حاجة، عشان كده أنا متمسك بيكي...


لكنه توقف مرة أخرى ثم اعتدل في وقفته فجأة، ابتعد عنها قليلًا وتوجه نحو مكتبه بخطوات هادئة، فمرت أنامله فوق سطح المكتب الزجاجي بحركة سلسة، أشبه بعازف يتحقق من مفاتيح آلة موسيقية متمرس بها، ثم قال بصوت هادئ ومرتب:


-اوقات بفكر...أنا هلاقي زيك فين؟! معدنك نضيف وأنا متأكد إن كل اللي حواليا مسيرهم هيشوفوا فيكي اللي أنا شايفه، أصل الناس يا حسناء ميهمهاش إلا الظاهر...


وبتر حديثه مجددًا لكنه هذه المرة مال برأسه جانبًا ونظر إليها نظرة ملؤها الراحة والإعجاب، ثم تابع بنبرة أكثر ليونة:


-لكن أنا! بهتم بالداخل...بالنوايا يا حسناء وأنتي نيتك كلها خير.


شعرت برجفة خفيفة تمر في جسدها وبلعت ريقها ثم حمحمت بلطف، محاولة أن تستجمع شتات تركيزها الذي بدأ يتبعثر لأول مرة أمامه، فكان لكلماته أثرًا داخليًا قويًا، وقد تسببت في تصدع خفي في بنيانها النفسي، الذي كانت تحرص دائمًا على أن يبدو متماسكًا، فقالت بصوت متردد لكنه مفعم بالعاطفة:


-ربنا يعلم يا دكتور....أنا بحبك ازاي.


تعمدت أن يبح صوتها وأطلقت كلماتها كأنها تبوح بسرٍ دفين، بينما كانت عيناها تفيض بإعجاب فاجر...إعجاب ماجن لم تعد تخجل من إظهاره، واستكملت بنفس النبرة الناعمة التي اعتادت استخدامها حين ترغب في سلب إرادة من أمامها:


-من أول لحظة لفت نظري وعرفت إن أصلك طيب، عشان كده اهتميت تعرفني على حقيقتي، وصدقت إن نيتي من ناحيتك كلها خير، وحقيقي أنا أسفة اوي يا دكتور على اللي عملته فيك مكنش أبدًا حد محترم وراقي زيك يعرف واحد زي خالي، مصلحنجي ومجرم.


رن هاتفه فجأة ليقطع تلك اللحظة الخاصة التي غلفت الأجواء بوهج خاص، انتبه إلى الشاشة وظهر عليه التوتر حين لمح اسم المتصل... وما كانت سوى يسر.


أشار إليها بالصمت، ورد بسرعة ولهفة لم تملك أمامها سوى أن تلاحظها:


-أيوه يا يسر.


لكن ملامحه سرعان ما تغيرت، فقد عبس وجهه وعقد حاجبيه في قلق ظاهر، ثم صرخ بصوتٍ مرتفع حمل انفعالًا حقيقيًا:


-بتعيطي ليه؟ حد ضايقك؟! طيب انتي رايحلهم ليه يا يسر؟!! لا خليكي عندك... بقولك متتحركيش.


أنهى المكالمة بعجلة ونهض بسرعة يجمع متعلقاته، متمتمًا بجدية وعبوس جعله يبدو كأن شخصًا آخر قد استولى على جسده، غير ذاك الذي كان يهمس لها منذ لحظات:


-مفيش عيادة النهاردة، اقفلي وروحي واعتذري لكل اللي حاجز.


-بس يا دكتور...


لكنه لم يلتفت ولم يعطها أي رد، بل خرج مسرعًا كمَن يدرك تمامًا أن ثمة خطرًا داهمًا بانتظاره، فالأمر متعلق بيسر!


جلست مكانها مجددًا تحاول أن تفهم ما الذي حدث، تفكر في خروجه السريع وكأن شيئًا خطيرًا استدعى وجوده على الفور، ولكن رغم كل ذلك لم يكن خروج نوح هو ما شغل بالها حقًا، بل ما فعله خالها بها هو ما يستحق التركيز والتفكير، هو ما يستحق الانتقام!


أما أمر يسر؟ فقد قررت تأجيله قليلًا فحين تنتهي من أمر خالها وتتمكن من تمهيد الطريق بينها وبين نوح ستُفرش الورود لا لتُكرم بها، بل لتغلف بها فخًا محكمًا....فخًا من الخداع والدهاء، كي تُوقع به وتبعد الشكوك عن نفسها حين تقرر التخلص من يسر نهائيًا، فالأمر لم يعد فقط يتعلق بالتخلص من الجنين...بل من يسر نفسها! فذاك بات حلمًا جديدًا يطرق أبوابها، حلمًا شيطانيًا استقبلته بكل صدرٍ رحب وابتسامةٍ تنتمي لجحيم لا يُروى!!!


                                 ****

وصل نوح إليها بسرعة جنونية فوجدها جالسة في مكانها أمام منزل عائلته فوق مقعدٍ أسمنتي قديم تحت شجرة ضخمة تُلقي بظلالها عليها، بينما كانت تبكي في صمت تحني رأسها نحو الأسفل وكأن جبلاً من الهموم قد انكب على كتفيها الهزيلين، يثقل صدرها بأنفاسٍ مكسورة لا تكاد تُرى لكنها تؤلم مَن يراها!


أوقف سيارته على عجل ثم ترجل منها وركض نحوها بخطى مضطربة، وركع أمامها يلتقط تفاصيل وجهها بذعر وقلق يُدقق في كل إنش من جسدها كأنما يبحث عن جرح ظاهر يبرر هذا الحزن المنسكب بصمت، وهمس بحرقة ممزوجة بالقلق:


-مالك؟ حد عمل فيكي حاجة؟ اتكلمي...يا أما واقسم بالله ادخلهم اطربق البيت فوقهم.


نهضت ببطء تستقبل قلقه بابتسامة باهتة ومُحبطة، كأنها قد استسلمت لقسوة العالم ثم نظرت إليه بعينين مُمتلئتين بتعاطفٍ صادق، بعد أن شعرت بأنها بدأت تفهم شيئًا ولو بسيطًا مما عاناه خلال السنوات الماضية.


-أنا كويسة...متقلقش...بس صعبت عليا نفسي، و...وصعبت عليا العشرة.


كان وقع كلماتها على قلبه أشبه بصفعات غير متوقعة، فصرخ بها غيظًا بنبرةٍ تحمل خليطًا من الحنق والأسى:


-تهون العشرة يا يسر أنتي بتعيطي على ناس متستاهلش!!


قالها وهو يزفر بنفسٍ طويل نبرته باتت أكثر ظلمةً وحدةً، يشوبها حقد مكبوت كاد ينفجر، عضت شفتها بعتابٍ كأنها تحاول امتصاص غضبه وقالت بهدوءٍ منهك:


-لا متقولش كده هما أهلك بردو، واللي مالوش خير في أهله مالوش خير في حد.


رفع يده وضغط بها على رأسه كأنه يحاول كتم أفكاره الهائجة، وبدأ يتمتم بحدةٍ وصوتٍ مضغوط:


-انتي عايزة تجنينني؟ انتي أصلاً رايحلهم ليه؟ هو حد كان عبرك يا يسر؟ حد كان كلمك وانتي في بيت اهلك لما كنا واقفين على الطلاق؟! أو حتى لما لينا اتخطفت؟!


رمشت بأهدابها المُبتلة بالدموع وهمست بصوتٍ مخنوق، يشوبه الصدق ويغلفه الحزن:


-روحتلهم عشانك...انت السبب.


اتسعت عيناه بدهشةٍ ممزوجة باستنكار حاد، وردد خلفها بنبرة لا تخلو من الذهول:


-أنا السبب؟!


أجابته بنعومةٍ تنبع من إحساسها العميق بالذنب:


-ايوه، حسيت أنك بتعاني بسبب ذنب مالكش دعوة بيه، أهلك شايفين إن أنا السبب في البعد ما بينكم، روحت ابررلهم واقولهم....


لم يُمهلها لتكمل فصرخ بها بصوتٍ جهوري أفزعها، جعل جسدها يرتعش وتتراجع للخلف خطوةً، وقد بدا عليه مظهر الجنون غير مدرك أن صوته جذب انتباه بعض المارة من الجوار:


-تبرري إيه؟ انتي اتجننتي؟! انتي مالك أصلاً؟! بتتدخلي في حاجة زي دي ليه؟!، يعني أنا عشت حياتي كلها معاكي مابتنيلش ومابحكيش أي حاجة عشان محدش يقدر يدوسلك على طرف! وانتي رايحة بكل بساطة تكلمي ناس ما هتصدق تعلق غلطهم في حقي على شماعتك...اديتهم الفرصة يا يسر!! ليه؟ هو أنا كنت اشتكيتلك؟ 


لم تُجبه في بادئ الأمر بل انهمرت دموعها مجددًا، ثم اقتربت منه بخطى متعثرة متأثرة باضطرابها العاطفي وخوفها منه، وقالت بصوتٍ مبحوح:


-مش ضروري تشتكي، أنا لما حسيت إني مجرد طرف روحتلهم عشان ياخدوا بالهم إنهم فاهمين غلط، ويوقفوا جنبك ....وافوقهم...


قاطعها بصوتٍ عالٍ أكثر من ذي قبل وأنفاسه تتسارع بجنونٍ ينذر بانفجار:


-انتي كمان روحتي تشحتي منهم الاهتمام؟! ، ليه يا يسر؟ ليه ما في ستين داهية حتى لو مسألوش سنة؟!! ما أنا عايش حياتي كده إيه الجديد؟!


اقتربت منه تمسك بذراعيه بحنوٍ شديد، وقد ظنت أن لمستها الحانية ستهدئ من فورانه، وربما تمنحه قليلًا من السكينة التي يفتقر إليها وقالت بصوتٍ يغلفه الحنان:


-طيب بص، أنا ممكن أكون غلطت، عشان جيت من وراك، بس أنا اتصرفت كده بحكم العشرة وحكم...إن أنا زعلت من نفسي لما حسيت أنك بتعاني من حاجة أنا كنت فاكرة لما أروح اتكلم معاهم هيفهموني فيها، بس للأسف هما خيبوا ظني، وخلوني حزينة على سنين عمري اللي كنت فاكرة أنهم بيحبوني وبيقدروني فيها...أنا معرفش فين الغلط في علاقتك بأهلك أو حتى علاقتي بيهم يا نوح، بس اللي اعرفه إن والله عمري ما عصيتك عليهم زي ما قالولي ولا عمري كرهتك فيهم...


توقفت لحظات تستجمع قوتها، ودموعها تنهمر كالسيل من عينيها الكسيرتين، كأنها تساند روحها من ألم الصدمة:


-مكنتش متصورة أبدًا أنهم يكلموني بالاسلوب ده، ولا يكون كلامهم يكون كله اتهامات ليا، وهما عارفين إني معملتهاش واللي متأكدة منه إنهم عارفين كويس إيه سبب توتر العلاقة بيني وبينك!!! فجأة اخدوني في دور مرات الابن الحرباية اللي عايزة تبعد ابنهم عنهم، وإن أحسنلك ومن مصلحتك إنك تبعد عني! كلامهم كله اتهامات  غريبة وإهانات توجع....


أوقفها فجأة وملامحه تزداد شراسة، وعيناه تلتمعان بنظرةٍ غاضبة بينما صوته انخفض إلى هسيسٍ مرعبٍ يخفي خلفه بركانًا:


-إهانات!! حلو اوي كده، أنا مكنتش عايز غير اللحظة دي.


ثم التفت وانطلق نحو باب منزل عائلته بخطوات متسارعة، كأن شياطين الغضب تقوده فأثار ذلك قلقها الشديد، وركضت خلفه ممسكةً ببطنها، تحمي طفلها بداخلها:


-نوح استنى عشان خاطري...أنا كلمتك عشان نشوف حل وتفهمهم الصح، متتجننش يا نوح..نوح بقولك عشان خاطري انت كده هتثبتلهم إن كلامهم كله صح!!


لكن توسلاتها لم تجدِ نفعًا، فقد دخل المنزل وصاح بصوتٍ عالٍ هز أركان البيت، فارتجفت هي وتراجعت واقفةً عند أسفل الدرج خشية أن يزيد ظهورها الأمر سوءًا:


-يعني يسر هي السبب أنكوا متكلمنويش الا في مصلحتكم...يعني يسر هي السبب في عدم اهتمامكم بيا؟


ضحك منصور أخيه الأكبر ساخرًا وهو يوجه حديثه لوالدته:


-قومي يا حاجة شوفي ابنك الدكتور المحترم النوغة عايز اهتمام على كبر، مش قادر يلاقيه من مراته جاي يطلبه مننا!!


قالت والدته بنبرة باردة قاسية:


-اقعد ساكت...استحمل اخوك لما يكون متسخن بكلمتين، نعمل إيه؟ أدي الله وأدي حكمته!!


ثم تدخلت سهام أخته التي كانت جالسة إلى جوار والدته تبتسم بسخرية ممزوجة بعدم رضا:


-طول عمري بقول عليها مش سهلة وبتصطاد في المية العكرة، اقسم بالله أنا دلوقتي المفروض يتعمل لي تمثال شرف، الحربوووءة راحت وسخنت بكلمتين، جاية بسلامتها عاملة فيها مصلح اجتماعي وتكلمنا عشان نهتم بيك، وهي من ناحية تانية مبوظة علاقتك بينا وبتدسلك السم في العسل...تلاقيها هي اللي قعدت تزن على ودانك وتقولك محدش سأل على بنتك لما اتخطفت وجيت انت حضرتك تدينا على دماغنا بسببها!! لا وتلاقيها محروقة من الفلوس اللي بتديهلنا.


وقف نوح مذهولًا غير مصدق ما يسمعه، وأكثر ما آلمه هو صمت والدته الطويل قبل أن تنطق بجملةٍ كفيلة بإيذاء قلبه للأبد قالتها بنبرة متعالية وامتعاض ظاهر:


-وهي مالها بفلوس أخوكي ولا اللي بيعمله ليكي؟، ولو كانت فعلاً متضايقة من كده، فأخوكي قادر يقوفها عند حدها، وبعدين أخوكي راجل وبيعرف يوزن أموره ولا عمره يقطع حاجة كان بيديها لاخواته ولا لأمه...أخوكي بيخاف ربنا...وبيخاف من غضب الأم، مش صح يا نوح؟ انت مش هتسمع ليسر يا حبيبي؟!!


تجمد في مكانه ملامحه فقدت كل تعبير، إلا من القهر وكل خلية في جسده باتت تصرخ بالخذلان، خاصة حين استكملت والدته قولها بنبرة تقتلع الثقة من جذورها:


-وبعدين أنا زعلانة منك؟ جاي متسخن بكلمتين منها؟ من امتى وهي بتخاف عليك؟ دي على طول معيشاك في نكد وقرف، مش دي اللي انت كنت بتشتكيلي منها وتقولي مبتحسش بيا؟! ولا عمرها هونت عليا بكلمة؟ وكل اللي شاغل دماغها هتجوز عليها ولا لا!! يا وله ده انت ماشفتش معاها يوم حلو!!! كل حياتك معاها قرف ونكد ومشاكل، والله أنا فرحت من قلبي إنكوا هتطلقوا!!! طلقها أنت بس وأنا اجوزك ست ستها!


قهقه منصور بتهكم وقال بقسوة وحقد غريب:


-لا إزاي يطلقها ويخلصنا منها ميقدرش!! لازم يفضل تحت رجل بنت بارم ديله...يسر بنت فاضل!


وهنا انفجر نوح كأن صاعقًا كهربائيًا اخترق روحه، فاندفع نحو منصور يُسدد له اللكمات بوجهه، وهو يصرخ بنبرةٍ مجروحة...شرسة تُخرج كل ما بداخله من قهر:


-أنا مكرهتش في حياتي قدكم، بكرهكم...بكرهكم.


تعالت صرخات والدته وأخته وخرج باقي أفراد العائلة للفصل بينهما، فيما تجمدت يسر في مكانها، مذهولة...مرتجفة فاقدة القدرة على التصرف، ولم تفق إلا على صوت باب المنزل يُفتح بقوة، وخرج نوح كأنما فقد كل شيء ووالدته تصرخ خلفه:


-روح الهي النعيم اللي انت فيه يزول من وشك يا نوح يا ابن بطني....بتضرب اخوك الكبير يا ظالم يا مفتري، ان شاء الله هتفضل تايه في الدنيا كده لغاية ما تموت.


كان يتنفس بصعوبة وملامحه مكسوة بالذهول والألم، يجر قدميه نحو سيارته ثم استقلها وانطلق بها كالمجنون كأنما يبحث عن نهاية لكل هذا العذاب، لا يرى أمامه ولا يسمع نداء يسر خلفه، ولا يشعر إلا بالحاجة للهروب... الهروب من كل شيء.


أخرجت يسر هاتفها تستنجد بوالدها، ولكن قبل أن تفعل شعرت بضربات عنيفة تُوجه نحو ظهرها، فاستدارت تصرخ لتجد أخت نوح وزوجة أخيه وبعض نسوة العائلة يعتدين عليها بالضرب، والغل يتطاير من عيونهن، وهي تصرخ بجنون تحمي بطنها وتحاول الدفاع عن نفسها، وسط أصوات الغضب والشتائم:


-هموتك يا بنت فاضل...هموتك زي ما سخنتي اخونا علينا...


حاولت أن ترد أو تستعطفهن لكن الضربات كانت أوجع وأقسى من قدرتها على النطق، ثم سمعت زوجة منصور تقول بانتصارٍ غليظ:


-تستاهلي يا حرباية...خليتي جوزك يضرب جوزي.


وفي لحظةٍ من الألم والانهيار همست بصوتٍ خافت:


-هموووت...الحقوني، ابني.


ثم سقطت بين أيديهن فاقدة الوعي لا حول لها ولا قوة، جسدها بات مُلقى كضحية بريئة، تُنهشها أحقاد لا ترحم، ونفوس موبوءة بالكراهية، لم تجد في قلوبهم شفقة ولا تجد في عقولهم رجاحة تنهيهم عن تلك الجريمة!!

                              ****


مرت ساعات طويلة وهو لا يزال جالسًا في سيارته يحمل آلامه بصمت مطبق، لا يُسمع فيه سوى أنفاسه المتقطعة بين الفينة والأخرى، كانت عيناه شاردتين في الفراغ الممتد أمامه، لا يعي من العالم شيئًا وكأن الزمان توقف من حوله، ولم يبقَ في ذهنه سوى صوت دعوة والدته عليه تتردد في رأسه كضجيج لا يهدأ.


لمع بريق الدموع في عينيه بعد محاولات مريرة للصمود والكتمان، فالصمت المؤلم الناتج عن مرارة الخذلان لم يعُد يطاق، وهو الذي لطالما صبر  وتحمل فوق طاقته حتى أوشك على الانهيار في تلك اللحظة المؤلمة.


ولكي لا يسمح لنفسه بالبكاء علنًا ولا أن يفقد آخر ذرة من تماسكه التي ظل يتشبث بها حاول أن يُشغل نفسه بأي شيء، أي شيء مهما كان تافهًا...حتى لو كان اتصالاً بيزن ذلك المختفي منذ أيام، مد يده المرتجفة نحو هاتفه الذي أغلقه منذ لحظة هروبه، وضغط زر التشغيل راغبًا في التماس ما يعيد إليه القليل من الأمان أو الاتزان.


وما ساعد في تهدئة النيران المشتعلة في صدره، هو صوت يزن الذي أجابه فورًا بصوت ناعس يحمل بين طياته امتزاجًا من السخرية والضيق، وكأن نوح قد أيقظه من نومٍ ثقيل:


-يعني مفكرتش تسأل عليا وأنا مخطوف جاي تتصل وأنا بحاول اتنيل عليا وانام.


همس نوح بصوت متهدج يقطر منه الضغط النفسي:


-أنت فين؟


-في اسكندرية يا عم، ما انت ماتعرفش مش أنا اتخطفت أنا وسيرا...


بح صوته وهو يسأل بنبرة مكتومة، فلا تزال أنفاسه تعافر البكاء وتقاوم الانهيار:


-سيرا مين؟!


لقد نسي بالفعل مَن تكون كأن اسمها قد انُتزع من ذاكرته بفعل الصدمة، فصاح يزن بفوضوية وهو يعيد على مسامعه سرد بعض الأحداث السابقة والجديدة بما فيها خطفه مع سيرا وإصابة سليم، وسبب بقائه حتى الآن في الإسكندرية إلى جانب أخيه:


-وسليم عامل إيه دلوقتي؟


-الحمد لله بيتحسن، احتمال كبير نرجع القاهرة بكرة.


تمتم نوح بشرود وقد عاد إلى دوامة أفكاره المضطربة:


-على خير ان شاء الله.


ثم غاص مجددًا في صمته العميق ذلك الصمت الذي يعود ليغمره كالموج كلما حاول الإفلات،  فصدر منه أنفاس متقطعة وفي لحظة فقد السيطرة على نفسه، بعد كل تلك السنوات المزدحمة بالجفاء....لم يكن الجفاء أمرًا جديدًا عليه، لكنه هذه المرة جاء قاسيًا وموجعًا وكأنه خُتم على جبينه بوصمة عار لا تزول، بعد ما ذاقه   من أفراد عائلته المخزية!


-مالك يا نوح؟ انت كويس؟


صمت طويل يقطعه أحيانًا صوت أنفاسه المرتعشة...أنفاس تنبئ ببكاء مكتوم! ماذا؟! صاح يزن بصوت قلق مضطرب:


-نوح، في إيه يابني؟ انت كويس؟ مراتك كويس وبنتك؟ 


مسح نوح دموعه بعنف محاولًا استجماع صوته بنبرة طبيعية، لكنه فشل فخرج صوته مكسورًا وضعيفًا، يحمل ارتجافه ما بين الحزن والخذلان:


-كويسين....بس أنا مش....أنا اللي مش كويس.


-ليه؟ ما تنطق يا ابني؟ أنا أعصابي فلتت واقسم بالله! 


زفر زفرة ثقيلة وراح يضغط كفيه على وجهه، يحاول أن يمنع سيل الانهيار، ثم أخذ يُنظم أنفاسه كمَن يحاول تهدئة طفل صغير داخله:


-مفيش....النهاردة اتخانقت مع منصور أخويا الكبير وضربته، وأمي دعت عليا.


-اوبببببااااااااا


قالها يزن بصدمة وكأن وقع الأحداث المتتابعة فوق مسامعه قد أربكه، أما نوح فقد ابتسم ابتسامة حزينة تقطر منها الدموع كالشلال:


-مكنتش متصور أبدًا إنها تدعي عليا في يوم من الأيام، بعد....بعد كل اللي عملته، أنا....


قاطعه يزن بصوت هادئ رغم الهزة النفسية التي اجتاحته بسبب ما يمر به صديقه:


-اهدى يا نوح، أكيد ماتقصدش يابني، أنت في الأخر ابنها يعني، وبعدين ممكن تكون لحظة شيطان.


همس بانكسار وهو يضغط على أنفه بأصابعه في محاولة فاشلة لكبح شجنه:


-لا مكنتش لحظة شيطان، كنت دايما بشوفها في عينها لما كنت برفض أي حاجة حتى لو صغيرة هي قالتها وعشان كنت خايف من اللحظة دي كنت بوافق على أي حاجة حتى لو ضد رغبتي، بس دلوقتي قالتها ومفكرتش لحظة فيا...دعت عليا أفضل تايه في الدنيا...


ثم صمت لوهلة قبل أن يضرب المقود ضربات ضعيفة وصوته يغلفه الانكسار والعتاب يتسرب من بين دموعه:


-طيب ليه ما أنا تايه أصلاً ومش مرتاح، اللي مش فاهمه هي هتكون مرتاحة وأنا متعذب في الدنيا؟!


-يا ابني طيب اهدى كده واحكيلي إيه حصل؟


انكمش وجهه ورد بنبرة مكتومة تختلط فيها مشاعر الغضب بالحزن:


-مش فاكر...مفيش حاجة واجعني غير إنها دعت عليا، عارف أنا حاسس إن روحي لسه واقفة هناك وهي بتدعي عليا بكل جبروت.


-معلش يا نوح اصبر في الآخر هي أمك، محدش في ايده يغير أهله يا صاحبي.


قالها يزن بهدوءٍ ورزانة ولم يعلم أن كلماتُه دفعت نوح لإغماض عينيه بألم، فردد بخفوت كمَن يحاول تهدئة وحش ينهش صدره:


-صح مفيش حد في ايده يغير أمه....بس في إيدي أني ابعد...أنا تعبت.


وبينما كان يستمع لصوت همهمة يزن من الجهة الأخرى انتبه فجأة إلى اهتزاز هاتفه، يُنذر بوجود اتصال وارد عبر خاصية الانتظار، فانكمش وجهه بقلق وقال بسرعة:


-استنى يا يزن، عم فاضل عمال يتصال كتير، استنى اشوف إيه؟


-تمام لما تفضى ارجع كلمني، وأنا أول ما هرجع هجيلك.


أغلق نوح الاتصال وهو يتنهد بعمق ثم أجاب على اتصال والد يسر، ليفاجأ بصوته الغاضب يصك أذنه بحدة:


-تعالى حالاً على مستشفى ****.


انقبض قلبه وأردف بتردد ممزوج بالخوف:


-ليه؟ في إيه؟


-أخواتك يا باشا ضربوا يسر وسابوها مرمية في الشارع وهربوا، تعالى يا نوح عشان أنا واقسم بالله اللي شايلني عنهم هو أنت، وحق بنتي وربي وما أعبد لهجيبه.


تغلغلت الصدمة إلى كل أطراف جسده، فاهتز كيانه حتى إن صوته خرج مبعثرًا كمَن يتعلم الكلام لأول مرة:


-يسر....يسر فين؟ جرالها إيه؟


صرخ فاضل بصوت غاضب، تقطر نبراته بالحنق:


-قولتلك تعالى فورًا.


ثم أغلق الاتصال تاركًا نوح يواجه صدمة جديدة تُضاف إلى ركام آلامه المتزايدة، لم يعد الجفاء مجرد شعور بل صار واقعًا ماثلًا أمامه، قسوة تتجلى في أفعالهم لا في الكلمات وحدها، فها هم قد اعتدوا على زوجته الحامل، تلك المسكينة التي لا حول لها ولا قوة والتي لم ترتكب ذنبًا سوى أنها زوجته، في حين يعرفون تمام المعرفة أن كل اتهاماتهم ضدها باطلة!!!


                               *****

في إحدى المستشفيات الخاصة كانت يسر ممددة فوق الفراش الطبي بجسدٍ منهك، تحيط بها الأجهزة الطبية التي تتابع نبض جنينها، فيما تنغرز إبرة في يدها اليسرى موصولة بالمحاليل العلاجية التي تُغذي جسدها بأدوية مثبتة في محاولة للحفاظ على سلامة الجنين، ذاك الصغير الذي قاوم بشجاعة، متشبثًا برحم والدته رغم ما لاقته من عنفٍ وقسوة كادت تودي بحياتها، بعدما فقدت الوعي من شدة الخوف والضربات المتوالية التي نالت منها دون رحمة.


ما أنقذها من مصيرٍ محتوم هو صراخ بعض الجيران والأهالي وتدخل المارة الذين سارعوا إلى حملها في إحدى السيارات ونقلها إلى المشفى، وقد استردت وعيها للحظات شعرت خلالها بالأيادي التي تتلقفها ثم ما لبثت أن استسلمت مجددًا لدوامة الإغماء.


تنهدت يسر بعمقٍ وهي تستعيد تلك اللحظة المجنونة التي دفعتها لزيارة عائلة نوح رغبةً منها في إنهاء سوء الفهم، وهو القرار الذي أجلته لأيام طويلة خاصة بعد المواجهة الحادة التي وقعت بين نوح وأخيه أمام عينيها!


                              ★★


جلست أمام والدة نوح كالغريبة تحدق في الوجوه التي كانت يومًا تبث فيها الألفة، فإذا بها الآن تكتشف ملامح غريبة تنطق بالكراهية، ذلك الإحساس الثقيل الذي لم تعهده منهم طوال فترة زواجها... لم يظهر إلا في تلك الآونة التي باتت فيها العلاقة بينها وبين نوح مهددة بالانفصال!


قطعت "سهام" أخت نوح حالة الصمت الثقيل بابتسامةٍ باهتة امتزجت بنبرةٍ ظاهرها الود وباطنها السخرية:


-وانتي عاملة إيه يا يسر؟ وأخبار لينا إيه؟ صحيح واخدة بالك منها كده؟ وليه مجبتيهاش معاكي يا حبيبتي كان نفسنا نشوفها!


حمحمت يسر برزانةٍ رغم ما شعرت به من الإهانة المبطنة وقالت بهدوء:


-متخافيش واخدة بالي منها، ومجبتهاش عشان كنت عايزاكي يا طنط لو سمحتي!


خرج صوت والدة نوح برتابةٍ غير مبالية:


-خير يا حبيبتي، اتفضلي؟


فتحت يسر فمها لتبدأ حديثها لكنها فوجئت بوالدة نوح تستطرد بجفاءٍ واضح:


-لو جاية عايزاني اتوسط ما بينك وبين نوح، أنا ماليش دعوة لامؤاخذة، أنا ياما حاولت أبررلك تصرفاتك معاه واهديه من ناحيتك، بس أنتي بقى راكبة دماغك وسايقة العوج عليه، فأنا حلفت مش هتدخل أبدًا، واللي في الخير يعمله ربنا بقى.


ردت يسر سريعًا:


-لا أنا مكنتش جاية عشان كده، مشاكلي أنا ونوح نقدر نحلها كويس من غير ما حد يتدخل ما بينا، بس أنا جاية عشان أحل سوء التفاهم اللي واصلكم من ناحيتي.


بدت ملامح سهام منقبضة ورددت بتهكم لا يخلو من الحدة:


-سوء تفاهم إيه يا حبيبتي؟ خير ان شاء الله أصل دخلتك علينا مش مرتاحلها!!


-والله ولا أنا!!


قالتها والدة نوح بعدم رضا في حين لاحظت يسر ابتسامات السخرية على وجوه زوجات أخوة نوح، واللاتي جلسن في صمتٍ متشفٍ فنهضت وهي تحاول ضبط أعصابها، وقالت بنبرةٍ ضيقة:


-كنت جاية أقولك إني مش السبب في بعد نوح عنك ولا حتى زعله منك وقت ما لينا اتخطفت، وأنا ماليش دعوة بأي حاجة، وابنك زعلان منك عشان انتوا مهملين فيه وفي اللي يخصه، ففكرت بعشم للأسف إن لما أجي اتكلم معاكي يا طنط تفهميني وتاخدي بالك من نوح.


ضحكت سهام بتهكم وانطلقت من ثغرها كلمات كأنها نيران:


-تاخد بالها من إيه يا حبيبتي؟ هو عيل صغير ولا إيه؟ وبعدين طالما انتي شاطرة كده محافظتيش ليه على بيتك وجوزك!! جاية تتشطري علينا بالكلام وأنتي كلك عيوب!! أما عجايب بصحيح!


خرجت نبرات يسر فجأة بحدةٍ غير متوقعة:


-ابعدي مشاكلي مع نوح عن اللي بقوله!! أنا اللي يهمني إني....


لكنها لم تكمل إذ قاطعها أخو نوح الأكبر "منصور" وهو يخرج من إحدى الغرف والغضب يتطاير من عينيه:


-يهمك إنك تلعبي دور الملاك، وانتي أصلا شيطانة وبتدسي السم في العسل في دماغ أخويا اللي للأسف مش شايف غيرك!


نظرت إليه يسر بدهشةٍ واستنكار:


-أنا شيطانة؟


هز رأسه بتأكيد قاطع وهتف بغل:


-ايوه انتي! من أول لحظة شافك فيها وهو مش عاجبه حياته ودنيته وبينحت في الصخر عشان يعرف يناسب أبوكي، أخدتيه واتجوزتي في شقة بعيدة عننا عشان تكوني مستقلة وتنهبي زي ما انتي عايزة من ماله، شايفة نفسك علينا ومبتجيش الا زيارات تتعد على الصوابع، جاية تعملي دلوقتي نفسك واحدة مننا وبتنصحينا نقرب منه، لا وفري نصايحك لنفسك، وعالله تهدي! احنا بعدنا عنه خلاص ومحدش عايز منه حاجة.


ارتسمت على وجهها علامات الحيرة والألم وقالت بنبرةٍ مهتزة:


-إيه اللي انت بتقوله ده يا منصور؟ أنا مش كده، أنا مش وحشة كده، أنا حياتي مع نوح كانت في وادي تاني غير اللي انتوا متصورينه!!


ضحك منصور بسخريةٍ حارقة:


-يا سلام!!  ومين اتصل عليه يعيط له إن ابوها تعبان وفي المستشفى يروح يلحقها، عشان عرفتي إني عايزه يشاركني في مشروعي.


فكرت قليلاً وبدأت تستعيد ذلك الموقف البعيد منذ عامين حين اتصلت بنوح بسبب تعب والدها، لكنها لم تعلم إطلاقًا عن مشروعٍ أو شراكة!


-إيه الكلام ده؟ أنا أول مرة أسمعه، أنا معرفش والله إنك كنت عايزه يشاركك في مشروعك! وبعدين ما يشاركك وأنا مالي!!


-لا كدابة عشان بعد ما راحلك بعدها بيوم رفض واعتذرلي! سهام الوحيدة اللي فاهمكي صح؟ نوح طول عمره كان تحت رجل أمي ومبيرفضش طلب لحد فينا، أول ما جيتي انتي ...وهو اتغير وبقى بعيد عننا خالص. 


استدارت يسر إلى والدة نوح تستنجد بها:


-طنط انتي سامعة منصور بيقول إيه؟! معقول أنا هعصي نوح عليكم! طنط انتي عارفة أنا ونوح أصلاً علاقتنا ازاي؟ وإيه اللي بنمر بيه!


وضعت الأم يدًا فوق الأخرى وردت ببرودٍ وقسوة:


-والله اللي اعرفه إن ابني فجأة اتغير عليا وعلى اخواته وكل شوية يعاتب ويزعل ويدقق لاخواته على أبسط الحاجات، أنا مستغرباه الصراحة عشان كده فهمت إن في حاجة غيرته من ناحيتنا، أصل يا يسر أنا مجربة إن الزن على الودان أمر من السحر يا حبيبتي!! 


                          ★★


استفاقت يسر على صوت جلبة بالخارج، وعلمت أن نوح قد وصل بالفعل، لم تمر سوى ثوانٍ حتى دخل الغرفة بلهفة ووجهه يروي حكاية ألمٍ مكتوم وصمتٍ مرير.


اقترب منها خطوة وقد امتزج الأسى بدموعه المحبوسة، فما كان منها إلا أن رفعت يدها إليه تدعوه بصمتٍ مشحون بالحب، وكأنها تفتح له ملاذًا آمنًا من قسوة عائلته، فلبى دعوتها كطفلٍ يتيمٍ وجد أخيرًا دفء الحنان بعد بردٍ طويل، وجثا بجذعه فوقها يحتضنها دافنًا وجهه في عنقها، تاركًا لدموعه أن تحرق وجنتيه ووجنتيها معًا.


ربتت على ظهره برفقٍ بالغ وهمست بطمأنينة:


-متقلقش أنا كويسة، والبيبي الحمد لله كويس رغم العلقة اللي أخدتها.


ابتعد عنها قليلًا ونظراته تومض بألمٍ مختلط بلمحة انتقام:


-مش هسيب حقك، وإن كنت بفرط في حقي دايمًا، حقك انتي عمري ما هفرط فيه، وديني وما أعبد لاندمهم على اللحظة اللي فكروا يعملوا فيكي كده.


هزت رأسها برفضٍ قاطع:


-لا...بلاش أنا الحمد لله خرجت منها سليمة، الله اعلم ممكن توصل لإيه المرة اللي جاية، مش عايزة أكون سبب في مشاكلك مع أهلك، أنا حاولت أصلح واتفهمت غلط.


هتف بشراسة من بين أسنانه:


-لا...ده مش حقك لوحدك، ده حقي أنا كمان.


تنهدت بثقل وهي تعترف بخطأها:


-أنا كمان غلطت يا نوح لما روحت ومكنش المفروض اتدخل ما بينكم هما في النهاية أهلك وأي حاجة من ناحيتي هتبقى تقيلة وليها حساب.


-يبقى كانوا يفكروا ألف مرة قبل ما يعملوا فيكي كده يا يسر، انتي مراتي واللي يضرك يضرني، قبل ما يفكروا يطلعوا غلهم فيكي، كانوا المفروض يعملوا ألف حساب ليا، وأنا لو اتهاونت معاهم قبل كده، اللحظة اللي فكروا يمدوا إيدهم عليكي، هتعرفهم إن سكوتي كان أرحملهم مليون مرة من اللي هيشوفوه مني...


أما في الخارج...


فكانت زوجة فاضل تحاول تهدئته، وهي تقول بحنق:


-ما خلاص يا فاضل، انت مش شايف الواد جاي هيموت من الخوف عليها ازاي، أنا متأكدة إن نوح هياخد موقف معاهم.


استنكر قولها بعصبية: 


-موقف؟! دول المفروض يتسجنوا على اللي عملوه في بنتي.


-طيب اهدى بس واستغفر ربنا، ولو جوزها مجابش حقها، هنجيب حقها متقلقش... بس سيب جوزها يتصرف الاول يا فاضل، العقل بيقول كده.


رمقها بعدم رضا ثم تمتم بضيق:


-بنتك دي دماغة ناشفة ومبتسمعش الكلام، قولنا متدخلش ومالهاش دعوة ركبت دماغها، اهو كده حلو ليها يعني!


-عرفت غلطها يا ابو يسر خلاص، استهدى بالله بقى، واستنى نشوف نوح هيعمل إيه؟


                              ****

مر يومان على هذه الأحداث المؤلمة، وبدأ سليم يتعافى تدريجيًا بعد عودته إلى القاهرة، أما منال فقد استقبلت خبر إصابته في صدمةٍ كبيرة، بعدما اضطرت مليكة للكذب عليها وأخبرتها أنه خرج في نزهة قصيرة مع شمس، أما يزن فقد أخبرتها أنه اختفى في خضم سفره لأداء مهام تتعلق بعمله، لم تصدق منال الأمر كليًا لكنها كعادتها آثرت الصمت وواصلت العناية بأطفال سليم في هدوء.


بينما عادت سيرا أخيرًا إلى عائلتها التي أغدقت عليها حبًا واهتمامًا مضاعفًا، وخاصة فاطمة صديقتها المقربة التي ظلت بجوارها تراعاها طوال اليومين ترفض تركها....حتى أطفال إخوتها تجنبوا تناول الجبن الرومي المفضل لديها، كنوع من التدليل الطفولي الرقيق، ورغم أنها روت لوالدها تفاصيل ما حدث أثناء اختطافها، إلا أنها لم تلحظ أي غضب منه تجاه يزن، وكأن تأثيره الطاغي قد سيطر حتى على والدها، تمامًا كما فعل مع باقي أخواتها.


أما يسر فكانت لا تزال تتلقى العلاج في المستشفى تحت رقابة طبية دقيقة، بسبب حالة الجنين غير المستقرة فيما ظل نوح بجوارها دون أن يغمض له جفن طوال اليومين السابقين...


                             ****


أوقف يزن سيارته في المكان الذي أخبرته سيرا بالذهاب إليه في رسالة قصيرة، ورغم أنها لم تحادثه طوال اليومين السابقين إلا مرتين فقط للاطمئنان على حالة سليم، ثم تغلق في وجهه بسلاسة تستفزه وتتركه حائرًا بين رغبته في الاقتراب منها وغضبه المكتوم منها...إلا أن اتصالها المفاجئ اليوم، ونبرة صوتها المضطربة التي تسللت إلى أذنيه كرجفة برد في قلب صيف حارق، جعلت القلق يتسلل إلى صدره دون استئذان.


كانت نبضاته تتسارع على غير العادة، كأن قلبه يعلم أن ما هو مقبل عليه لن يكون عاديًا، وقد تأكد حدسه عندما رآها من خلف الزجاج الجانبي تقف إلى جوار فاطمة صديقتها المقربة، ووجهها باهت كأنه فقد لونه، بينما كانت فاطمة هي الأخرى في حالة ارتباك، تلوح بكفيها بتوتر واضح وكأنها عاجزة عن احتوائها.


أغلق باب سيارته سريعًا وتوجه نحوها بخطوات ثقيلة، كلما اقترب خطوة زاد القلق في قلبه كأنه يوشك على رؤية شيء ينهار أمامه.


اقترب منها وهو يحدق بوجهها الباكي، كانت ملامحها غارقة في الذهول وعيناها حمراوان من شدة البكاء، قال بقلق وهو يشعر بأن قلبه بدأ يدق بعنف لا يهدأ:


-مالك يا سيرا في إيه؟


رفعت وجهها إليه بتثاقل، ودموعها كانت ما تزال ساخنة، تنحدر بصمت يائس كأنها تنزف وجعًا لا يُحتمل، ثم نطقت بصوت مرتعش...ضعيف، خافت كأنها تخجل من قول ما بداخلها:


-أنا في مصيبة يا يزن....مصيبة.


عبارتهـا ضربت صدره كصفعة عنيفة، أنذرت بأن ما ستقوله قد يكون أفظع مما يتخيله، فاستدار بسرعة نحو فاطمة التي كانت تتجنب النظر إليه، وتضرب الأرض بطرف قدمها بتوتر واضح، وجهها شاحب ويداها متشابكتان أمام صدرها، فأعاد نظره إليها وكرر هذه المرة بنبرة أكثر خشونة وتحفز:


-مصيبة إيه؟ في إيه؟


بدأت سيرا تفرك أصابعها ببعضها البعض بعصبية شديدة كأنها تحاول تهدئة عاصفة من التوتر تسكن داخلها، ثم خفضت بصرها إلى الأرض وقالت بصوت مخنوق بالألم والذعر:


-النهاردة الصبح في رقم... بعتلي... صو....صور ليا وطلب مني...طلب مني لو مجتلوش في عنوان بعته ليا، هيبعت صوري لأهلي وهينزلها على النت.


أحس وكأن شيئًا ثقيلًا ارتطم بصدره بعنف، للحظة لم يستوعب تمامًا ما قيل، فبات حائرًا بين ذهوله وغضبه وبين محاولاته لربط الأمور، انعقد حاجباه بدهشة وقلق، وهو يسأل بسرعة وقد بدأ صوته يفقد هدوءه:


-صور؟ صور إيه؟


سكتت وسكوتها كان مرعبًا، أقسى من أي اعتراف، وكأنها تسقط في بئرٍ لا قرار له، وتمد يديها لتستنجد دون أن تجد من ينتشلها.


ولأن يزن لم يكن أبدًا غبيًا أدرك من ارتباكها أن الأمر يتجاوز التهديد العادي....تلك الصور بها شيء...خاص.


اقترب منها أكثر وقد ارتسمت على وجهه ملامح الجدية الصادمة، ونبرة صوته هذه المرة كانت أقرب إلى نذير خطر:


-فين الصور دي؟


لم تحتمل السؤال فانفجرت باكية، وراحت تهز رأسها بقوة كأنها تحاول أن تهرب منه ومن نظراته، ومن كل شيء حولها:


-لا لا مينفعش تشوفها....مينفعش.


مد يده وأمسك برسغها وقربها إليه بشدة، وصوته كان يحمل صلابة وجمودًا مخيفًا، لم تره بها من قبل:


-ليه هي الصور دي حقيقية؟


نظرت إليه بعينين غارقتين في الخوف، كانت تعرف أن هذه اللحظة هي الفاصلة، لا شيء بعدها سيعود كما كان، لا هي، ولا هو، ولا نظراته إليها.


 ارتعشت وكل ما استطاعت فعله أن تهز رأسها بالإيجاب ببطء قاتل، وهمست بخفوت كأن اعترافها سيفك عِقدًا يخنق روحها:


-ايوه.


في تلك اللحظة توقف كل شيء من حول يزن، أصوات السيارات تلاشت، المارة لم يعودوا موجودين ووقف الزمن عند تلك الكلمة الصغيرة التي خرجت من شفتيها كحكم بالإعدام.

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات

التنقل السريع