القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل السادس والثلاثون 36بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)

رواية غناء الروح الفصل السادس والثلاثون 36بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)





رواية غناء الروح الفصل السادس والثلاثون 36بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)




الفصل السادس والثلاثون 


حافظ يزن على ثبات تعابير وجهه أمام سليم الذي كان يقف شامخًا كعادته، وكأن الوعكة الصحية الأخيرة لم تترك أثرًا عليه، فبدا كجبل راسخ لا تهزه العواصف يقف بثبات وثقة، يُشع بهيبته المعتادة وكبريائه الذي لم يتزحزح يومًا.

لم يتحرك يزن من مكانه بل انتظر اقتراب سليم، يُراقب خطواته الوقورة ونظراته الفاحصة، حتى انطلقت كلمات سليم بصوته الأجش الرخيم:


-انت بتعمل إيه هنا؟


حمحم يزن وهو يبتسم نصف ابتسامة زائفة، لم تكن تخفي الغل الذي يشتعل في صدره، بل تؤججه كجمرة تحت الرماد:


-المفروض أنا اللي أسالك السؤال ده يا سليم؟


رفع سليم حاجبًا واحدًا باستنكار وقال بحدة:


-إجابته عندك يا يزن!


عقد يزن حاجبيه باندهاش مصطنع ممزوج بسخرية لاذعة، ثم رد بنبرة تحمل تهكمًا لاذعًا:


-الله! يبقى إجابة سؤالك الأول عندك بردو، جاي ورايا ليه؟ حد قالك إن أنا عيل صغير؟!


نبرة يزن حملت بين ثناياها تمردًا دفينًا، كالمراهق الذي يحاول التملص من عباءة أبيه، كأنما اختنق من سطوة الأخ الأكبر، لم يتفاجأ سليم برده بل تنهد بهدوء متعمد، ثم حرك رأسه بحركة بسيطة وقال ببطء وكأنه يسكب الوقود على نارٍ مشتعلة:


-اه عيل صغير.


كلمات سليم جاءت كصفعة غير متوقعة فاحتدت ملامح يزن فجأة، واحمرت عيناه بنار الغضب قبل أن ينطق بنبرة ساخطة تخفي خلفها إنذارًا وشيكًا:


-الحاجة الوحيدة اللي لا يمكن أسمح لحد إنه يتعدى حدود معايا فيها هو إنه يقلل مني، أنت أخويا الكبير واحترامك ده واجب عليا، لكن متحاولش تقلل مني أبدًا، رد فعلي مش هيعجبك.


ارتفعت نبرة سليم فجأة وتشدد صوته كمَن يُلقي أمرًا عسكريًا:


-انت اتجننت؟! مش واخد بالك أنت بتهدد مين؟


كان يزن يتنفس بصعوبة يحاول السيطرة على الغضب الذي يتفجر داخله، لكنه فشل فانفجر كبركان خامد يُنذر بدمار قادم وصرخ بعنف مكبوت:


-وانت مش واخد بالك أني كبرت وحر في تصرفاتي ومينفعش أبدًا أنت وزيدان تعملوا عليا رباطية لمجرد انكوا عايزني امشي على هواكم!


تقدم سليم منه بخطوة وأشار بوجهه نحو العصا الحديدية التي أخفاها يزن خلف ظهره، وقال بحدة:


-وهو الصح إنك تيجي وجايب معاك عصاية حديد عشان تضرب واحد قاعد في شقة مع واحد صاحبه وسكرانين ومش حاسين بنفسهم؟!


صمت يزن طويلاً ولكن ارتسمت على وجهه ملامح السخط، بينما سليم استغل لحظة الصمت ليستكمل بعنف دفين:


-هتستفاد أيه لو كنت ضربته يا حمار ومات فيها غير إنك هتلبس البدلة الحمرا وتاخد فيها إعدام، طول عمري كنت فاكر إن زيدان متهور، بس أنت طلعت أغبى منه.


لم يتحمل يزن تلك الإهانات المتتالية، فانفجرت شرارات الحنق في عينيه وهو يصيح:


-كفاية إهانات يا سليم لغاية كده!


أخذ سليم شهيقًا عميقًا يحاول فيه امتصاص الغضب، ثم قال بصوت أكثر هدوءًا ولكن نبرته حملت ما يكفي من التوبيخ المغلف بالحكمة:


-أيًا يكن الواد ده عمل إيه فيك أو في خطييتك، فاخد الحق حرفة ولازم عقلك يسبق ايدك، انت راجل ابن سوق مينفعش حد يجي يعرفك ازاي تاخد حقك!


كلمات مموهة لكنها مليئة بإهانات مبطنة، دفعت يزن لحد الغليان فصرخ بشراسة تكشف عن غيرته النازفة داخله:


-لو الزفت ده كان عمل مع شمس مراتك اللي عمله مع سيرا، كان زمانك فرمته بعربيتك.


تجمدت ملامح سليم وظهر في عينيه بريق مريب، ثم اقترب حتى كاد يلامس وجهه، وسأل بصوت منخفض لكنه مشحون بتوتر مرعب:


-عمل إيه؟!


رد يزن باقتضاب يلفظه الحنق من بين شفتيه:


-حاجة متخصش أي حد غيري.


رغم أن الجملة كانت حاسمة إلا أن الغموض فيها كان بمثابة دعوة مفتوحة للفضول، لكن سليم لم يتراجع بل زاد إصرارًا وقال بجفاء:


-خلاص طالما حاجة متخصش أي حد غيرك، يبقى تركب العربية معايا ونروح من سكات ومسمعش نفسك أبدًا أو حتى أي اعتراض منك.


زفر يزن بقوة، ويداه تغوص في خصلات شعره بعصبية ثم قال:


-هرجع واقولك أنا مش عيل صغير يا سليم!


ابتسم سليم بسخرية وكأنه يستمتع بتضييق الخناق عليه:


-لو قولتلي الواد ده عمل إيه بالظبط، هسيبك تطلعله تضربه وتشفي غليلك منه بس بشرط.


رفع يزن حاجبيه وهو يردد باستهزاء:


-كمان في شرط؟!


-ايوه شرط مهم اوي، هطلع معاك فوق متخافش مش هتدخل هقف واتفرج بس وقت لما اقولك كفاية تسمع كلامي.


وقبل أن يرد استكمل سليم بنبرة أكثر عقلانية، لكنها لم تخلُ من سيطرة خفية:


-الضرب هيكون بحدود عشان ده واحد سكران، ومتبقاش غشيم اه تاخد حقك بس تخلي فيه روح.


ثم أنهى كلامه بشرط نهائي:


-بس ده كله مش هيحصل غير لما تقولي عمل إيه؟ ووقتها أنا هحكم تطلع أو مش هتطلع، مش يمكن تكون حاجة تافهة؟!


رمقه يزن بنظرات غيظ وابتسم ابتسامة غاضبة متوترة، ثم حرك رأسه في غضب داخلي وأخبره بكل شيء....بكلمات محددة مباشرة، كأنها تخرج من فم مثقل بالغيرة القاتلة.


عبس سليم فورًا وحرك حاجبيه بتكشيرة حادة، ثم قال بهدوء مشوب بالغضب:


-تمام هنطلع بس العصاية دي حطها في العربية، واستخدم عضلاتك ولا هي ديكور!!


تنهد يزن بقهر، وابتلع الإهانة مرة أخرى دون أن ينبس بكلمة، مستجيبًا لرغبة أخيه في صمت، ثم صعدا معًا درجات السلم للبناية الجديدة، التي ما زالت تفوح منها رائحة الخرسانة حديثة الجفاف، وصلوا أمام الشقة المنشودة فتوقف سليم فجأة، ونظر لأخيه نظرة قاطعة:


-اضرب براحتك بس اوعى ضربة تعدي وتخليه يقابل رب كريم.


رسم يزن ابتسامة خبيثة وهمس بسخرية واضحة:


-حاضر يا أبيه هضربه براحة، هضربه مرة على ايده ومرة على.....


توقف فجأة وهو يرمق سليم بنظرات ماكرة ثم سقطت نظرت خلف ظهر أخيه الأكبر، فما كان من سليم إلا أن أمسك وجهه بقوة وهمس بتهديد ناري خافت:


-واقسم بالله يا يزن انت عايز تتربى من أول وجديد.


تنحى يزن جانبًا وهو يتخلى عن لهجته المشاغبة ويتحدث بجدية واضحة، ونبرة ثابتة كأنما حسم أمره:


-خبط انت يلا، عشان هو غالبًا لو شافني من العين السحرية مش هيفتح.


أطلق سليم حمحمة خفيفة وكأن صدره استعاد شيئًا من خبثه القديم، ثم وقف أمام الباب شامخًا يده اليسرى داخل جيب سرواله، واليمنى ضغط بها على الجرس بحدة، تأمله يزن للحظة ورفع حاجبيه ساخرًا من هيبته التي لا تفارقه حتى وهما على وشك ارتكاب فعل أهوج!


وبعد ثوانٍ معدودة فُتح الباب ببطء، وظهر شاب مترنح يبدو عليه عدم الاتزان، فتح فمه ببطء وتفوه بثقل فاضح:


-نعم؟ مين؟


وقبل أن يكمل جملته تلقى لكمة مباغتة من سليم سقط على إثرها أرضًا مغشيًا عليه! لم يكن هناك تمهيد أو سابق إنذار، فقط يد صارمة ووجه لا يتزحزح، ابتسم سليم بعدها بثقة وهو يشير برأسه إلى يزن كمَن أنجز المهمة بسهولة:


-مش قولتلك مش مستحملين!


تغيرت ملامح يزن فجأة وكأن الأدوار قد انقلبت في لحظة خاطفة، ثم تقدم بخطوة وهو يتحدث بخشونة تحمل نفحة رجاء:


-سليم انت خارج من عملية، متتهورش عشان خاطري الموضوع يخصني، أنا وافقت أنك تطلع معايا عشان تتطمن إن أنا مش غشيم مش زي ما أنت فاكر.


وقبل أن يتمكن سليم من الرد اخترق أذنيهما صوت فايق من الداخل، وهو يتحدث في الهاتف بنبرة ثقيلة واضحة مشحونة بالغضب والصراخ، كأنه يخوض شجارًا دون أن يدري أنه على بُعد خطوات من كارثة:


-والله ما هسيبها لا هي ولا اختها العقربة حكمت، وبعدين بنتك غبية رايحالهم برجليها وهي عارفة أنها عاملة فيها مصيبة، أنا قايلها تاخد حذرها منها.


ارتسمت نصف ابتسامة على وجه يزن فلم تكن فرحة ولا شماتة، بل كأنها ابتسامة ذئب على وشك الانقضاض، دخل بخطوات ثابتة كمَن يقترب من فريسته، عيونه تبحث عن الصوت حتى وجده، فقد كان فايق يقف أمام نافذة عريضة يتحدث عبر هاتفه يشيح بظهره عن الصالة:


-أنا في شغلي يا اما، عشان كده مش قادر اتكلم ولا اركز معاكي، لما اخلص هكلمك.


أنهى المكالمة بسرعة فقد أحس أن هناك أمرًا غريبًا، توتر يسري في أرجاء الشقة، إحساس مفاجئ لم يخنه رغم السكر، زفر بقوة ثم رفع كأسه يتجرعه بغل:


-وحياة أمك ما أنا سايبك يا سيرا يا بنت الـ ****، أنا هنشرلك صور حالاً على الفيس.


وقبل أن يكمل جملته وجد نفسه يدور بسرعة جنونية، يتلقى الضربات من كل اتجاه، لم يفهم من أين تأتي ولا كيف يردها، فكل شيء حوله أصبح ضبابيًا...قبضات يزن انهمرت عليه بلا هوادة، وكأنها تعزف مقطوعة انتقامية فوق جسده الواهن.


حاول فايق المقاومة لكن تركيزه كان في الحضيض، والخمر أسقط سلاحه الوحيد، فصار كخرقة بالية تتلقى العقاب لا حول له ولا قوة.... أما يزن، فكان يهدر بكلمات تخرج من بين أسنانه كما تخرج الحمم من فوهة بركان:


-سيرتها متتجبش على لسانك تاني يا ابن الـ****، أنا مش هسيبك في حالك يالا، أنا هكون عملك الاسود من هنا ورايح.


في تلك الأثناء كان سليم قد توجه نحو الهاتف المحمول الموضوع على الطاولة التقطه بهدوء، ثم جلس فوق أحد المقاعد واضعًا ساقًا فوق الأخرى، وبدأ يُصور بهاتفه الآخر مقطع فيديو ليزن وهو ينهال بالضرب على فايق، وللحظة بدا عليه التسلية لكنه ظل متأهبًا، لا يتخطى حدوده رغم الجنون من حوله!!


وفجأة اندفع يزن لاستكمال الضرب، لكن صوت سليم ارتفع بحدة قاطعة:


-كفاية خلاص، ضربك له بعد كده مش هتستفيد منه بحاجة، تعالى عشان في حاجة أهم.


توقف يزن يتنفس بسرعة، وشعره يتساقط فوق جبهته المشبعة بالعرق ووجهه محتقن، ويده ترتجف من فرط الغضب، اقترب من سليم فأعطاه هذا الأخير الهاتف قائلاً بمكر خبيث:


-خده وجرب تفتحه ببصمة وشه أو صابعه وامسح صور سيرا، ولو مفتحش مش مشكلة هاته وأنا هخلي حد معرفتي يفرمطه.


أخذ يزن الهاتف كأنه يحمل نارًا مشتعلة توجه نحو فايق الملقى كجثة هامدة، وبدأ يجرب بصمة الوجه لكنها فشلت، فجرب أصابعه واحدًا تلو الآخر، حتى نجح أخيرًا في فتح الجهاز.


دخل إلى المعرض بدأ في البحث عن الصور، ووجدها...للحظة توقفت أنفاسه، رغبة جامحة في النظر إلى صورها، فضول قاتل...لكنه قاوم، لم يرد أن يخونها حتى بنظرة.


وفي هذه الأثناء كان سليم قد فتح أحد أدراج الطاولة، فوجد داخله أكياسًا من الهيروين وأنواعًا أخرى من الحبوب المخدرة، فعلم أنها قضية أكبر من مجرد صور، أخرج هاتفه وأرسل لزيدان رسالة قصيرة:


"للأسف ملحقتش اخوك وضربه جامد، ولما طلعت شفت مخدرات فوق، اتصرف انت، المهم الواد ده يبات في الحجز عشان يتعلم يجي تاني على أخوك".


أنهى رسالته وأغلق الهاتف ثم التفت إلى يزن الذي كان يُعدل من ثيابه بصمت، وقد هدأت أنفاسه قليلًا، فقال له بصوت هادئ لكنه مشحون:


-أنا مسحت الصور، بس خد تليفونه وفرمطه بردو عشان أبقى مطمن.


أومأ سليم دون تعليق ثم التقط الهاتف ووضعه داخل جيبه، وقال بعجلة:


-يلا نمشي عشان زمان الشرطة جاية، في مخدرات هنا وأنا بلغت زيدان يتصرف.


ابتسم يزن ساخرًا ونظر نحو فايق، ثم بصق عليه باحتقار شديد قبل أن يتبع سليم نحو الباب، بينما هذا الأخير يتحدث بتعالٍ:


-لازم تتقفل قفلة صح ويتعلم ميجيش أبدًا جنب اللي يخص يزن الشعراوي ولا إيه يا يزن باشا؟


توقف يزن على عتبة الباب وأشار له بسخرية:


-من بعدك يا سليم باشا.


خرج سليم أولاً ثم تبعه يزن، دافعًا ساق صديق فايق الملقاة أمام الباب بكعب حذائه، ثم أغلق الباب خلفه في هدوء قاتل كأن شيئًا لم يحدث.


توقف سليم عند أول الدرج، التفت نحو أخيه بابتسامة خبيثة وقال:


-أنا بعتلك فيديو ممكن تحب توريه لسيرا، أظن هتتبسط بيه!


أخرج يزن هاتفه ليتفقد الرسالة لكن رسالة سيرا الجديدة كانت في انتظاره، أثارت غضبه أكثر مما تخيل:


"خلاص يا يزن، متتصرفش أنا أخدت حقي منه، وأمه هتتصرف معاه"


صر على أسنانه بشدة وغمغم بحنق مكتوم:


-اقسم بالله شايله راسها وحاطه مكانها جزمة.


بحث في الرسائل حتى وجد الفيديو الذي أرسله له سليم، فابتسم بفتور وقال:


-سليم فاكرها هتتبسط!، دي احتمال تمسك فيا في خناقي.


لكنه بعناده المعتاد.قرر أن يرسل الفيديو لها، وأرفق معه رسالة واحدة:


"لو انتي شايفة أنك لما تعرفي أمه يبقى كده اخدتي حقك، فأنا كده أخدت حقي"


أغلق هاتفه بعدها لا يريد مكالمات ولا نقاشات، فقط راحة داخلية استقرت فيه أخيرًا...راحة قاتلة لكنها عزيزة وكأن ثقلًا أزيح من على صدره، انتهت الليلة ولكن بقيت آثارها محفورة في جدران عقله.


                               ***

في شقة سيرا وتحديدًا داخل غرفتها التي يعبق فيها عبير العطور الهادئة، كانت فاطمة تتابع المقطع للمرة الثالثة تنظر إلى الشاشة بعينين لامعتين وقد اتسعتا إعجابًا، وصاحت وهي تصفق بحماسة كأنها تشاهد مشهدًا من فيلم أكشن مفضل لها:


-يا بنتي والله راجل، ده مشهد أسطوري بصي بصي وهو بيقع!


ثم عادت تصفق من جديد لحظة سقوط فايق، غير عابئة بصوت الهاتف المرتفع، وكأنها تعيش المشهد وكأنه انتقامها الشخصي، أما سيرا فكانت في عالم آخر تمامًا تجلس متربعة فوق السرير، مرتدية بيجامتها القطنية ذات اللون الأصفر، شاردة الذهن غارقة في كلماته التي أرفقها مع المقطع.


لم تكن تراه كما رأته فاطمة، لم تهتم للضربات أو اللقطات العنيفة، بل علقت روحها في كلمته التي أرفقها مع المقطع، أيعني هذا أنها... تخصه؟

ابتسمت تلك الابتسامة البلهاء التي لا تخرج إلا من عاشقة، ثم تنهدت بأنوثة حالمة وهي تضغط بأطراف أصابعها على وجنتيها كأنها تتذوق حلاوة الشعور بالامتلاك لا الخوف منه.


ظلت تعيد تفسير اعترافاته وتكرارها تحلل نبرته، وتعيد المشهد من رأسه كل مرة، كأنها تستخرج من كل ثانية فيه معنى خفي جديد.


ولكن قاطعتها فاطمة وهي تشيح بكفها أمام وجهها:


-سيرا وربنا انتي لو اتضايقتي من موقفه هطلع واقول لابلة حكمت تديكي علقة زي البت سهام.


نظرت إليها سيرا مبتسمة وهزت رأسها نفيًا وهي ترد بهدوء خافت، وكأنها تخشى أن تُفسد تلك اللحظة الساحرة بصوتها:


-لا خالص مش متضايقة يعني واحد بياخد حقي هزعل منه يا فاطمة؟!


تنفست فاطمة بارتياح ثم أسندت ظهرها للحائط بجانب السرير وقالت بنبرة حماسية:


-طيب كويس إنك عاقلة، المهم احنا لازم بكرة نصحى بدري نجيب هدية حلوة وورد وتروحيله للأجانص تديهاله وتشكريه.


سكتت لحظة ثم رفعت حاجبيها بفخر وأضافت:


-ومتقلقيش معايا فلوس.


ضحكت سيرا برقة وهي تمسك طرف الغطاء الملفوف حولها، وقالت:


-لا ما أنا معايا بردو، بس انتي شايفة يعني أني لازم اجيب هدية حلوة؟ مش هيبان أني بتلزق فيه.


ردت فاطمة بسرعة وثقة، وكأنها خريجة أكاديمية بروتوكولات:


-لا خالص ده من الذوق يا بنتي انتي لو مجبتيش هيقول عليكي قليلة الذوق أصلاً.


أطرقت سيرا تفكر لحظة ثم عقدت حاجبيها في حيرة لذيذة وهمست:


-لا لو كان كده يبقى لازم اجيب.


ثم نظرت إلى السقف بابتسامة حالمة جديدة، وكأنها تخطط في خيالها شكل الهدية، لون الورد، وردة واحدة؟أم باقة  زهور؟ وماذا ستكتب في البطاقة؟ كلها تفاصيل صارت فجأة أهم من أي شيء!!!


                               ***

لم تكن تتخيل يومًا أن يجلب عائلته فردًا فردًا، يقفون أمامها بوجوه يعلوها الانكسار، وأعينهم تغص بالأسف يعتذرون بكلمات خافتة ومرتجفة، كأنهم يخشون ألا تُقبل منهم، بينما هو وقف إلى جوارهم بكامل شموخه وعيناه لا تفارقها، يراقب ردة فعلها كأنما يبحث فيها عن طمأنينة تخصه هو، فبدا وكأنه هو مَن جُرح لا هي.


وحين انتهوا وغادروا جميعًا في صمتٍ مُربك، لم يتفوه أحد منهم بتبرير أو شرح لما بدر منهم ولا حتى هو، فاكتفى فقط بابتسامة دافئة مبهمة ثم لحق بهم بهدوء، تاركًا خلفه سيلًا من الأسئلة في رأسها، فهي لم تطلب منه أبدًا أن يُحضرهم، بل طلبت منه بوضوح أن تبتعد عنهم، حين رأت أن التجنب أفضل وسيلة للسلام معهم!


مر الوقت بطيئًا ومتثاقلاً وهي تنتظر منه اتصالًا، أو عودة تُفسر ما فعله ولكن يبدو أنه اكتفى فقط بتلك الابتسامة، تلك النظرة التي لم تفسر شيئًا سوى أنها تعني الكثير بالنسبة له هو.


نفد صبرها فقررت أن ترفع الهاتف وتتصل به علها تجد عنده إجابة، رغم أنها حجة لمجرد سماع صوته وعندما جاءها صوته المرهق المحمل بآثار النوم، قالت بإحراجٍ خافت:


-أنا صحيتك؟


قالت العبارة بخجل وبصوت خفيض، وكأنها تخشى أن تزعجه أو تبالغ في قلقها.


-انتي تعملي اللي انتي عايزاه.


قالها بخمولٍ صادق فتسللت نبرته إلى أعماقها، وتسلل معها رجفة لذيذة افتقدتها طويلًا، ابتسمت بخجل وحنان ثم همست بنعومة:


-شكرًا، بس يعني لو مش هضايقك كنت محتاجة أعرف ليه؟


لم تعد مهتمة الآن بسبب إحضاره لعائلته قدر ما كانت تبحث عن أي خيط تتشبث به في الحديث معه:


-هو إيه اللي ليه؟


سأل وهو يحاول أن يستجمع وعيه، لكن نبرته بقيت هادئة مستقرة:


-ليه جيبت عيلتك كلها تعتذرلي رغم إن أنا مطلبتش كده، ولو مكنتش عملت كده، مكنتش هزعل يا نوح.


ساد لحظة من الصمت قبل أن يرد بصوت ثابت ونبرة عميقة تحمل ما وراءها من قتال طويل:


-ده حقك ولازم ده كان يحصل، وعشان ميفكروش يجوا عليكي مهما حصل، أنا لو شايفك وحشة معاهم هديهم عذر، بس مفيش أبدًا اعذار اللي بيعملوه ده، دول أهانوني قبل ما يأذوكي.


أحست بكلماته تهبط عليها مثل ماء دافئ في شتاء قارس، كلمات نُطقت بصدق وبكرامة وبمحبة دفينة، ومع ذلك لم تستطع أن تمنع نبرة الندم التي خرجت منها بصوتٍ متردد:


-يمكن كانت لحظة شيطان أنا بردو غلطت إن اتدخلت في حاجة متخصنيش.


-أنا كلي على بعضي حياتي ومالي يخصوكي، يمكن مكنتش بحكيلك عشان شايف إنهم عمرهم ما هيتغيروا معايا.


قالها بصراحة لا يشوبها زيف لكنه لم يخبرها بالحقيقة كاملة، لم يقل إنه كان يشعر أنها تبتعد شيئًا فشيئًا وكأنها لم تعد تراه كما كان، وأن مراقبتها المستمرة له وتوجسها منه، جعلاه يشعر كالغريب في بيته...كالغريب في قلبها.


-هما في النهاية أهلك يا نوح واللي مالوش خير في أهله مالوش خير في حد، ويمكن انت ربنا كارماك في شغلك عشانهم، فمتحطش دي قصاد دي.


ردت برزانة رغم اختناق صوتها، وكأنها تحاول أن توازن الأمور، فقد كانت تعلم في قرارة نفسها كم جاهد من أجلها، وكم أهانهم لأجل كرامتها، ومع ذلك مشهد إذلالهم أمامها لم يرضها...بل أثار فيها الحزن، فلم تعتد يومًا أن ترى أحدًا منكس الرأس أمامها حتى لو كان يستحق.


-أيًا كان الطريقة انتي اغلى حاجة في حياتي حاليًا  ومعنديش استعداد أبدًا اخسرك بسببهم، يجوا بالتراضي بالعافية المهم أكون جيبت حقك، وهما يعرفوا حدودهم معايا كويس، أنا لو كنت زمان ب

سامح في حقي، بس دلوقتي لا...وبالذات بعد اللي عملوه معاكي.


كانت كلماته كدفعة أمان، كيد تُمسك بها بعدما أصبحت على شفا الانهيار فسألته بتردد طفولي، يحمل في طياته وجعًا:


-بصراحة كنت خايف عليا ولا على ابنك يا نوح؟


ابتسم هو رغمًا عنه ثم قال بهدوء:


-الاجابة دي انتي عارفها كويس، أوقات الكلام عمره ما يوصف حقيقة المشاعر والمواقف اللي بتبين.


-بس انت مواقفك معظهما معايا وحشة!


قالتها وهي تختنق بكلماتها، وكأنها تُفرغ ألمًا طويل الأمد دفعة واحدة.


-انتي اللي دماغك اللي فيها حاجة غلط، يعني نفهم ونكون عندنا شوية عقل، متمسك بيكي وخايف عليكي، ومستعد اعمل أي حاجة وترجعي البيت أعمل أيه تاني طيب!


-تمشي حسناء من عندك وتطردها.


قالتها فجأة وكأنها تسدد ضربة أخيرة، تطلب فيها الدليل الحاسم...الدليل الذي لا يحتمل تأويلاً.


-لا.


قالها بهدوء لكن كلمته كانت كصفعة باردة على قلب مشتعل.


ارتفعت نبرة صوتها، واهتز معها حاجز الصبر:


-هو إيه اللي لا؟ انت بتتكلم بجد؟ نوح أنت عايز تجنني؟ انت في حاجة بينك وبينها؟ 


-تصبحي على خير يا أم لينا، حاولي تنامي وترتاحي وتفصلي دماغك من التفكير شوية.


قالها وهو يختتم الحديث بصوته المتعب، كأنه يستشعر أن أي كلمة بعدها لن تُفهم كما يجب.


-تصدق بالله أنا كل ما اصفالك تيجي وتحرق دمي، أنا غلطانة أصلاً إن افتكرت إنك في يوم ممكن تتغير.


أغلقت الاتصال في وجهه دون تردد، ثم ألقت بالهاتف بعيدًا لتتناثر أنفاسها مع انفجار الغضب، وهي تردد بغضبٍ يتغذى على الألم:


-يعني إيه لا، بيقولي لا بكل بساطة، لدرجادي متمسك بيها، هو عايز إيه؟ عايز يجنني!! 


ثم انهارت على الفراش تمسك بوسادتها كما لو أنها تمسك ما تبقى من كرامتها تبكي بصمتٍ دامٍ، وتهمس بانكسار لا يُحتمل:


-عايز كل حاجة، كل حاجة.


ظلت تبكي لفترة ودموعها تسيل بصمتٍ موجع، كل شهقة كانت تُنقص من رصيد ثقتها بنفسها، لكنها في لحظةٍ خاطفة وسط سكون الغرفة وانطفاء الأمل، زفرت بقوة كما لو أنها تطرد كل هذا الضعف من صدرها دفعة واحدة.


أبعدت الوسادة عن وجهها بحدة، كأنها تُبعد فكرة الحنين له، ثم اعتدلت في جلستها ببطء تمسح دموعها بكفٍ مرتجفة لكنها عازمة، وملامحها بدأت تتماسك تدريجيًا، يتشكل على وجهها تعبير غامض بين الصدمة والعزيمة.


نظرت إلى الهاتف من بعيد لا برغبة في الاتصال، بل بنظرة حسابية باردة، وكأنها تعيد ترتيب الأمور في رأسها، فهمست لنفسها بصوت مخنوق لكنه ثابت:


-لأ مش أنا اللي يتقالي لا وأكمل عادي، مش أنا اللي كل ما أحن ألاقيه بيفوقني على صدمة.


كان واضحًا الآن أنها قررت ألا تستسلم لحنينها، وألا تنكسر أكثر بل تُكمل ما بدأته قبل دخولها المستشفى، ستؤدبه بطريقتها لا بخصام ولا بصراخ، بل بإبعاد حسناء عنه خطوة بخطوة، وبهدوء يُشبه السم البارد.


لن تتراجع عن مخططها، ولن تضعف أمام كلماته مهما كانت صادقة، ستظل قاسية بقدر ما يليق بكرامتها.


                                ****

في اليوم التالي...


سارت سيرا وحدها في الطريق المؤدي إلى معرضه تخطو بخجلٍ بالغ، وهي تحمل في يدها حقيبة صغيرة مخصصة للهدايا، تحوي بداخلها هديته التي انتقتها بعناية فائقة، فقد كانت وحدها منذ الساعات الأولى للصباح، بعدما اعتذرت فاطمة عن مرافقتها مدعيةً الإرهاق الشديد، وأنها تحتاج إلى الراحة والنوم، فلم تجد سيرا حلاً سوى خوض هذه الرحلة منفردة، رغم حيرتها وتشتتها بسبب جهلها بذوقه في الهدايا، لكن وبمحض الصدفة وقعت عيناها على شيء في أحد المتاجر الصغيرة،  شيء بسيط لكنه يحمل روحًا تعبر عنه، فشعرت أنه قد يسعده إن رآه، ثم أضافت عليه لمستها الخاصة واحتفظت به في الحقيبة.


توردت وجنتاها حتى صبغهما الحياء بلونٍ أحمر خفيف كلما اقتربت أكثر من وجهتها، قلبها يخفق كطبول صغيرة خائفة، فهي للمرة الأولى في حياتها تُهدي شابًا إذ لطالما اقتصرت علاقاتها السابقة على صديقاتها الفتيات، دون أن تتجاوز تلك الدائرة الآمنة.


اختلطت مشاعرها بين الخوف والارتباك، ترى هل سيفسر موقفها بشكلٍ خاطئ؟ هل سيراها متهافتة عليه؟ أم سيُدرك أنها فقط تحاول أن تُعرب عن امتنانها لموقفه الأخير معها؟


تملكها التوتر تمامًا حتى قالت هامسةً بصوتٍ متهكم:


-ربنا يسامحك يا فاطمة كنتي تعالي معايا.


وما لم تدركه سيرا أن فاطمة لم تكن متعبة بالفعل، بل تظاهرت بذلك عمداً لتمنحهما مساحة خاصة دون وجود طرفٍ ثالث يعكر صفو الموقف.


زفرت سيرا أنفاسًا عميقة وهي تقف أمام الباب الزجاجي للمعرض، وقد كانت الشمس تتهادى نحو المغيب، جالت بعينيها داخل المكان بحثًا عنه، حتى لمحته يقف مع إحدى الزبائن امرأة في منتصف الأربعين من عمرها، وبرفقتها فتاة تصغرها بسنوات، وكان من الواضح أنه يُحاول إقناعهما بشراء سيارة ما، إذ بدا مسترسلًا في الحديث معهما، وعيناه تلمعان بذلك البريق المعتاد عندما يتحدث مع الجنس الناعم، فيما تزينت ملامحه بابتسامة ساخرة جذابة، تعكس ثقته المفرطة بنفسه.


استجمعت سيرا شجاعتها وخطت خطوة إلى الداخل، ثم خرج صوتها ناعمًا لكنه مهزوز قليلًا:


-يزن.


أدار رأسه نحوها تاركًا الزبونتين، وعلت ملامحه لمحة دهشة خفيفة ثم استقرت عيناه عليها وهي تقف أمامه، تضم بين يديها الحقيبة الصغيرة بقوة، وكأنها تتمسك بها لتستمد منها بعضًا من الثبات، فيما ارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة تعكس ما بداخلها من اضطراب وارتباك.


ابتسم لها برفق ثم اعتذر من السيدتين، وكانت نظرات الأربعينية مليئة بالفضول وهي تحدق في سيرا نظرات متفحصة، خاصةً حين تركهما يزن وتوجه مباشرة نحو سيرا، فبادرت الأخيرة بتبرير حضورها سريعًا:


-معلش لو كنت عطلتك، بس كنت...


ابتسم لها بحنو عندما بدا مرحبًا بوجودها:


-لا أبدًا...تعالي ادخلي جوه في المكتب، وأنا هخلص واجيلك، استنيني شوية بس، ولا انتي وراكي حاجة.


حركت رأسها بنفي وهتفت بخجل واضح:


-لا ابدًا أنا فاضية.


دخلت سيرا المكتب بخطواتٍ مترددة، ثم جلست على أحد المقاعد المقابلة للزجاج بحيث يُمكنها مراقبة المشهد الخارجي دون أن تُلاحظ، فراحت تتابع تفاصيل الحديث بينه وبين السيدتين، ثم شاهدتهما تتجهان إلى أحد المكاتب الجانبية حيث اختفوا عن ناظريها.


زفرت بتنهيدة طويلة يختلط فيها الضيق بالغيرة، فأخذت تراقب عقارب الساعة في صمتٍ ثقيل يُوشك على خنقها، انتظرت كثيرًا حتى شعرت أن الوقت يمر ببطء شديد، فقررت أن تنهض وتخرج لتتظاهر بتفقد السيارات المعروضة، على أمل أن يراها فيتذكر وجودها.


تجولت بين السيارات تمرر أصابعها على مقابض الأبواب وتتفحص التفاصيل الصغيرة، حتى وجدت نفسها داخل سيارة تقع مباشرة أمام المكتب الذي يجلس فيه، فجلست بداخلها تُقلب محتوياتها وتتظاهر بالاهتمام، بينما عيناها لا تكفان عن مراقبته من خلف الزجاج.


ما أثار حنقها أكثر أن مظاهر الإعجاب والتودد لم تكن من الفتاة الصغيرة، بل من السيدة الأربعينية التي كانت تميل بجسدها وتضحك بجرأة مستفزة، فزمت شفتيها غيظًا وهمست بغيظ مكتوم:


-مش راحم لا كبيرة ولا صغيرة.


ثم في لحظة انفعالٍ حادة ضغطت على بوق السيارة بقوة أثارت انتباه جميع العاملين في المعرض وحتى هو نفسه، انطلقت الأنظار نحوها في دهشة، فحاولت استدراك الموقف بحمحمة خجولة وانكمشت أكثر في مقعدها تداري خجلها بابتسامة مهزوزة.


ويبدو أن تصرفها قد أزعج السيدة التي نهضت مغادرةً بصحبة الفتاة وانسحبت من المعرض بوجهٍ عابس:


-يا دي النيلة أنا طيرت له البيعة ولا أيه؟


بحثت عنه بعينيها مجددًا لكنه اختفى عن أنظارها، فراحت تلتفت يمينًا ويسارًا داخل السيارة، حتى فزعت فجأة عندما فُتح الباب بجوارها، فوجدته يقف مبتسمًا بسخرية قائلاً:


-لو خلصتي لعب، انزلي تعالي أنا فضيت.


تركت السيارة بسرعة تتبعه بخجل، ثم دخلت المكتب من جديد، لكنه جلس على المقعد المقابل لها، فيما وقفت هي حائرة تُصارع ترددها، إلى أن قررت إعطاءه الهدية والمغادرة مباشرة، فمدت يدها بالحقيبة الصغيرة دون أن تنطق، مما جعله يرفع حاجبًا بدهشة، ثم قال:


-إيه دي؟


-هدية.


ردت سيرا بصوتٍ خافت يخالطه توترٍ واضح:


-ايوه ما انا شايف لمين؟


رفع عينيه نحوها بسرعة ورغم أن نبرته كانت مرحة إلا أنها لم تُخفَ نظراته الفاحصة المتفحصة لملامحها المرتبكة.


-هتكون لمين يعني؟ ليك.


قالت ذلك بلهجة تنم عن محاولة يائسة لإخفاء ارتباكها، فيما كانت يدها تنقبض وتنبسط بجانبها، كأنها تبحث عن شيء تُمسك به لتستمد منه الثبات.


-بجد، بس عيد ميلادي لسه مجاش، بس هدية مقبولة.


تظاهر بالخفة لكن داخله لم يكن بنفس القدر من الهدوء؛ شيء في تلك الهدية لامس شيئًا أعمق لديه، فقالت بخجل وهي تُخفض رأسها، تُخفي نظراتها عن عينيه:


-دي عشان موقفك معايا، فاطمة قالتلي لازم اشكرك بالطريقة دي.


تجمدت ابتسامته قليلًا وظهر في عينيه بريق استنكار خافت، ثم قال بتساؤل مستنكر:


-نعم؟!


رمشت بعينيها كأنها لا تدرك سبب رد فعله:


-نعم أيه؟!


قال بجفافٍ ساخر وقد قطب جبينه:


-ومجبتيش فاطمة ليه تديهالي هي؟ انتي زي ما يكون حافظة مش فاهمة.


ارتفعت أنفاسها من الغيظ، لم تستوعب كيف تحولت نيتها الطيبة إلى سبب في السخرية، فردت بانفعالٍ مكتوم:


-بقولك ايه احترم نفسك، اشمعنا أنا اللي بتيجي عندي وبتديني كلام دبش، رغم إن أنت واقف مع كل من هب ودب وتضحك وتتكلم بأسلوب كويس.


كلماتها خرجت كدفعة واحدة، تنتظر أول لحظة غيظ ممزوجة بالغيرة لتندفع بلا هوادة، فضحك بخفة وهو يومئ برأسه مستهزئًا:


-ما أنتي مابتقدميش السبت يا حبيبتي عشان تلاقي الحد، أنتي مدمرة الاسبوع كله.


تقدمت خطوة للأمام ونبرة صوتها بدأت تعلو رغم محاولتها التماسك:


-يا سلام! والهدية دي إيه بقى؟ تصدق أنا غلطانة هات هديتي.


مدت يدها نحوه بحركة سريعة لكنها لم تجرؤ على لمس الصندوق، فقط أرادت أن تُظهر له أنها جادة في سحبها، ولكنه رفع الصندوق عاليًا وهو يبتسم كطفل انتصر في لعبة:


-لا...خلاص حقك عليا، هعتبرها عربون محبة.


ضيقت عينيها بغضب مكبوت وقالت:


-لا ده عربون شكر على موقفك وبس مفيش اكتر من كده.


تجمدت ابتسامته عندما ظهرت نظرة غريبة، تحمل مزيجًا من الحدة والتوتر، ثم قال بصوتٍ منخفض لكنه مشحون:


-شكر إيه يا معتوهة انتي؟!


رمشت عيناها مرتين ثم قالت بذهولٍ لا يخلو من حنق:


-انت بتشمني يا يزن؟


-ما انتي غريبة محسساني إن أنا واحد غريب عنك وجيتي طلبتي مساعدتي فأنا كتر خيري ساعدتك، أنتي عبيطة انتي اللي يفكر يأذيكي أعلم أمه الادب.


جملته الأخيرة انطلقت كتصريحٍ ناري حاد اللهجة، لكنه كان يفيض بحماية دفينة، رغبة مكبوتة في الدفاع عنها لم يُحسن التعبير عنها بالكلمات، فخرجت على هيئة انفعالٍ عشوائي.


هزت سيرا رأسها ببطء تائهة بين ما تسمعه وما تشعر به، ثم تمتمت دون أن ترفع نظرها إليه:


-وده كله ليه بقى؟ مش فاهمة إيه يعني اللي بينا عشان تقولي كده؟


ساد لحظة صمت مشبعة بالأسئلة، تبادل فيها كلاهما نظراتٍ خافتة، وكأنهما يتحسسان حدود العلاقة بينهما دون اعتراف صريح، ثم قال بصوتٍ منخفض لكن يحمل يقينًا:


-لا انتي فاهمة كويس بس بتعشقي تلعبي دور العبيطة.


انقبضت ملامحها من عبارته، لكنها تماسكت ورفعت رأسها بثبات فقالت بنبرة صارمة تكتم فيها رجفة مشاعرها:


-يزن لو سمحت متتعداش حدودك معايا.


قطب جبينه كأنه فوجئ بحدتها، لكنه لم يتراجع بل أكمل بنفس النبرة المستفزة:


-وانتي متعاملنيش كده!


انزعجت من غموضه وردت باستغرابٍ حقيقي:


-أنا بتعامل معاك ازاي مش فاهمة؟


-كأني واحد غريب!


رمشت عدة مرات لا تدري ما الذي يقصده تمامًا، لكنها قالت تلقائيًا:


-طيب ما انت غريب.


ارتفع حاجباه بدهشة واضحة وكأن تلك الكلمة نالت من كرامته بشكل لم يتوقعه، فاقترب قليلًا وقال بلهجة متأججة:


-وقراية الفاتحة اللي ما بينا.


شهقت بصوت مكتوم وابتلعت ريقها في ارتباك بسبب اقترابه الشديد منها، فحاولت أن تتمالك نفسها وقالت بتهكم دفاعي:


-بلها واشرب ميتها، مفيش رابط رسمي ما بينا.


وأشارت بأصابعها في وجهه لعدم وجد حلقة ذهبية في إصبعها، ورغم إدراكه لمقصدها إلا أنه مد يده وأنزل يدها بحسم وتملك، ونبرة صوته هبطت لتلامس أعماقها:


-نزلي صوابعك بس، في عرف عيلة الشعراوي قراية الفاتحة زيها زي الجواز بالظبط.


نظرت إليه شزرًا ورفعت ذقنها بكبرياء أنثوي جريح:


-في عرفكم انتم مش عرفنا احنا، وبعدين دي مش قصتي، هتاخد هديتك ولا لا؟!


لم يجبها بل اكتفى بالتحديق فيها بعمق، ثم فجأة قال بنبرة أخف ما تكون بين الجد والدعابة:


-انتي طمعتي فيها ولا ايه؟!


ثم أمسك بالحقيبة السوداء الصغيرة، يفتحها بروية كأنه يتعامل مع كنزٍ دقيق يقدره رغم كل انفعالاته السابقة معها، أخرج منها صندوقًا أسود صغيرًا مخمليًا، فتحه ببطء لتنكشف له المفاجأة.


سيارة صغيرة الحجم لكنها مشغولة بعنايةٍ بالغة، تُحاكي سيارته الحقيقية في كل تفصيلة، حتى إن الطلاء الأسود لمع تحت ضوء المكتب بانعكاس جذاب يُضفي عليها فخامة مدهشة، وكأنها ليست مجرد ميدالية، بل مجسم رائع يعبر عن روحه.


كانت السيارة معلقة بعلاقة معدنية فضية، بها قطعة فضية صغيرة على شكل حرف "الياء"، منقوشة بدقة بالغة، وإلى جانبها وُضعت وردة وردية ناعمة بكامل نضارتها، كأنها اقتُطفت لتوها من بستان ربيع.


ظل يزن يتأمل الهدية في صمت، عيناه ساكنتان وفي قلبه صخب لا يسمعه سواه، رفع بصره نحوها وقال بنبرة رصينة، لكنها تنزف سعادة:


-أحلى هدية جت لي.


ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، وفي قلبها ارتباك لذيذ، وكأن اعترافه منحها جرعة أمل مفاجئة فتقدمت خطوتين وسألته بتردد:


-بجد عجبتك؟


هز رأسه مؤكدًا وابتسامته تتسع على مهل:


-اوي ده ذوقك؟ ولا ذوق فاطمة؟


رفعت حاجبيها سريعًا وقالت مدافعة بنبرة طفولية:


-لا والله دي ذوقي أنا، أنا أصلاً مكنتش عارفة اجيبلك إيه، بس لما شوفتها حسيتها شبهك.


ابتسم لها بحبٍ وامتنان وهو يتأمل تفاصيل الهدية التي فاجأته، ثم أمسك الوردة الوردية بين أنامله بإعجابٍ خالص، لكنها أثارت داخله تساؤلًا بسيطًا، خرج على هيئة همس يغلب عليه التعجب، إذ لم يتوقع أن تختار وردة بهذا اللون، فكان من المعتاد أن يُختار الأحمر للتعبير عن الود أو الحب، لا الوردي.


-طيب والوردة شبهي بردو؟!


ارتسمت على شفتيها ابتسامة خجولة، ثم نظرت إليه بنظرة مازحة وردت بخفة طفولية ممزوجة ببعض الحرج:


-لا دي شبهي أنا، هي الهدية كلها هتكون شبهك ولا إيه؟ متبقاش نرجسي.


انفجر ضاحكًا على ردها العفوي، لكنها عبست على الفور وقد شعرت أن تعليقها أُخذ على محملٍ ساخر، فمدت يدها فجأة وجذبت الوردة منه بحنق طفولي:


-هاتها بقى طالما اتريقت.


لكنه قبض عليها بسرعة وأعاد جذب الوردة نحوه وهو يقول بحسمٍ مرح يماثل طريقتها:


-لا دي هديتي اوعي.


ثم وضعها بعناية داخل الصندوق كأنه يُعيد كل شيء إلى مكانه الثمين، وأغلقه بحرصٍ بالغ ثم رفع عينيه إليها وقد اشتدت ملامحه فجأة وتحول صوته إلى نبرة خشنة، لكنها رخيمة تحمل دفئًا خفيًا:


-صحيح، سليم كان قالي اشوف معاكي يوم مناسب ليكم عشان الخطوبة.


ارتبكت سيرا على الفور ورفعت وجهها إليه بسرعة وقد استقرت على ملامحها مزيج من الذهول والإنكار ثم تمتمت باضطراب:


-خطوبة إيه؟ لا لا...


أمال رأسه وهو يرمقها بثبات، وكأنه لم يتوقع ردها المُرتبك فرد بهدوءٍ لا يخلو من جدية واضحة:


-لا لا إيه؟ هو لعب عيال؟


تراجعت قليلاً إلى الخلف وهي تسأله بوضوح وجرأة لم يتوقعها منها:


-انت متمسك بيا ليه؟!


نظر إليها طويلًا ثم قال بصوتٍ أخف، كأنه يعترف بشيء لطالما أراد إخفاءه:


-مش يمكن أكون معجب؟


ضحكت ضحكة ساخرة مريرة ثم ردت بتلقائية خالية من التصنع:


-معجب ولهان...معلش أصل أنا عمري ما هصدقك يا يزن إنك بتحبني أو تكون معجب بيا بعد اللي عرفته عنك، اكيد كل اللي انت بتعمله ده عملته مع بنات تانية.


انكمشت ملامحه من كلامها ثم قال مستنكرًا، بنظرة حادة ونبرة تنم عن استفزاز حقيقي:


-انتي دماغك دي محطوط مكانها قلقاس؟


شهقت في استياء وقالت بحدة:


-انت لو فضلت على نفس طريقتك دي صدقني...


قاطعها بانفعال وهو يلوح بيده بحنق لم يُخفِه:


-صدقيني انتي بجد، انتي متعبة بشكل غريب وعجيب، اجيلك كده تيجيلي كده، بصي يا بنت الحلال احنا كنا داخلين البيت من بابه وبشكل رسمي، عايزة تفركشي الحوار عندك أبوكي بلغيه وهو يبلغنا، بس نصيحة فكري.


ثم نظر إليها بحدة وصوته هذه المرة حمل قرارًا لا رجعة فيه:


-وأنا من ناحيتي عمري ما هضغط عليكي، وفي الأخر لو وافقتي يبقي كسبتي كنز كل الناس هتحسدك عليه، لو رفضتي يبقى خسرتي فرصة عمرك.


صمتت للحظات تحدق فيه بعينين متسعتين، لا تدري ما الذي يُفترض أن تقوله، لكن الجملة الأخيرة أثارت ضيقها بشدة فقالت:


-أنا ماشوفتش في بجاحتك بجد؟


رفع حاجبيه متصنعًا اللامبالاة، وقال:


-هعمل نفسي كأني مش سامعك، وبالنسبة لهديتك مش هرميها في وشك بعد ما دمرتي فرحتي بيها، هي ملهاش ذنب.


ثم لمس السيارة المجسمة بأنامله برفق، بينما عيناه شردتا قليلًا كمن يُبعد عن نفسه انكسارًا بصمت.


-أنا ممكن اخدها واطلع اجري ويبقى دمرت فرحتك بيها بجد، بس أنا مش هعمل كده وهسيبلك ذكرى مني تفكرك بيا، سلام.


اتجهت بخطواتها نحو الباب فبدت وكأنها على وشك المغادرة دون رجعة، لكنها توقفت فجأة وقالت بنبرة ساخرة وهي ترفع حاجبًا في سخريةٍ طفيفة:


-مكنش له لزوم الفيديو اللي بعته ليا وانت بتضرب فايق، عرفت إن عندك عضلات.


كأن جملتها الأخيرة سكبت فوقه دلوا من الوقود على نار مشتعلة، فأغمض عينيه بغيظٍ مفرط، يتنفس ببطءٍ محاولًا السيطرة على أعصابه المتأججة، يُكبح الغضب بداخله حتى لا ينفجر.


أما هي فحين رأت الشرار يتطاير من ملامحه دون أن ينطق بكلمة، أدركت أن لحظة الانفجار وشيكة، فتحركت بسرعة وفرت من أمامه وكأنها طفلة خائفة من العقاب، تسبق صوته ونظراته ويده التي ربما في خيالها كانت على وشك أن تقذف بها أي شيء.

                           ***

وصلت أخيرًا إلى منزلها بعد وقتٍ ليس بالهين، قضته في السير شاردة الفكر، تائهة بين دهاليز قلبها وعقلها، وبين صراع المشاعر والخوف من المستقبل، فقد أغلقت هاتفها كما لو أنها تغلق على قلبها أبواب الأمل، وظلت تفكر بجدية في وسيلة تُقنع بها والدها بضرورة إنهاء أمر خطبتها من يزن، ولكنها لم تجد مهربًا سوى الصراحة، فكم من الأسرار ما زادت الأمور إلا تعقيدًا!


ورغم الحزن البادي على ملامحها، فقد أدركت أخيرًا أنها تحبه...نعم تُحبه ولكن للأسف جاءت هذه الحقيقة مع الشخص الخطأ، ولحظها العاثر أن أول دقة حب عرفها قلبها، قد خُصصت لمعشوق الفتيات، ذاك الذي تتهافت عليه القلوب وتتنافس عليه النظرات، فهل كانت دقتها مميزة بما يكفي لتصل إلى قلبه؟ أم أنها ضاعت وسط الزحام؟


تنهدت تنهيدة عميقة وهي تُخرج مفاتيحها بتثاقل لفتح باب الشقة، لكن يدها تجمدت حين وجدت الباب يُفتح من تلقاء نفسه، لتقع عيناها مباشرة على وجه أبلة حكمت، التي انطلقت من عينيها شرارات الغضب كأنها تقطر نيرانًا:


-انتي كنتي فين ده كله؟ وقافلة تليفونك ليه؟


ابتلعت ريقها بتوتر بالغ وهي تحاول تحريك لسانها للبحث عن كذبةٍ سريعة أو مبررٍ مقنع يُهدئ من عاصفة الغضب القادمة:


-كنت عند...يعني بدور...


لكن لم تلبث أن أنهت جملتها المبتورة حتى ظهرت فريال شقيقتها من خلف أبلة حكمت، وهي تقول بعجالة واضحة ونفاد صبر:


-مش وقته يا أبلة بجد، يلا بينا بسرعة يا سيرا تحت ننزل تحت عند أبلة حكمت.


ثم أطلت شاهندا من خلفهما تحمل بين ذراعيها فستانًا وردي اللون، براقًا كفستان أميرات القصص الخيالية، جعل حاجبي سيرا ينعقدان من الدهشة وعدم الفهم، وكادت تسأل عن سبب تلك الأجواء غير المفهومة لكن فاطمة قاطعتها من الخلف، وهي تلهث قليلًا وتحمل حقيبة مليئة بمستحضرات التجميل:


-الحمد لله إنك جيتي، أنا متأخرتش اهو يا أبلة.


دق قلبها بعنف لمجرد الشعور بأن هناك أمرًا جللًا يحدث، فتمتمت بارتباك وفضول حذر:


-هو في إيه؟ إيه اللي بيحصل؟


جاءها الجواب من أبلة حكمت كصفعةٍ مباغتة لا تملك لها ردًّا:


-اللي بيحصل إن يزن حب يعملك مفاجأة وجاب اهله وجاب الشقة والفستان وهنعمل الخطوبة النهاردة بس على الضيق.


قالتها بتذمر لا يخفى، فهي لا تريد مثل هذا الاحتفال الصامت لاختها الصغرى، تدخلت كريمة فكانت آخر من تحدثت، لكنها كانت الأكثر حكمةً واتزانًا حين هتفت بهدوء:


-كده احسن يا أبلة عشان الحسد والمنطقة كلها أصلاً مركزة معانا.


نظرت إليهم سيرا بذهول بينما عقلها يحاول استيعاب الصدمة، فقد كانت صدمةً قاسية ليس لقلبها الغض الذي كانت دقاته تتراقص فرحًا لإصراره عليها، بل لعقلها الذي تجمد للحظات أمام اختيارين لا ثالث لهما.

إما أن تستكين وترتضي ما تخشاه لاحقًا معه، أو أن تثور وتُعلن رفضها فتُشعل سعادتهم بنيران اعتراضها!


___________

قراءة ممتعة ♥️🥀

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close