رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثالث عشر 13بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثالث عشر 13بقلم سيلا وليد
الفصل الثالث عشر
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
دعني أترجم لك ملحمة عشقي
بلُغاتِ الأرض
وأخطُّها على صفحات الأساطير
وأبواب المعابد القديمة.
من عينيك انطلقت جيوش حروفي، وأعلنت الكلمات ثورتها،
فكتبتُك روايةً أبدية
لا يطالها الزيف ولا تمحوها الخرافات.
على دقات قلبي نُقش اسمك،
فأصبحتَ وطني وحدودي،
أنا التي لا تعرف انكسارًا،
ولا ترفع رايةً إلا باسمك.
رفعها مبتسمًا يرد على كلماتها
نعم ياحبيبة القلب والروح
دعيني أريك حبي في كل لغة،
وأجعلكِ الحرف الأول والقصيدة الأخيرة.
فمن عينيكِ اشتعلت معارك الحروف،
وانهارت قلاع الصمت،
فصرخت كلماتي:
هنا يولد الحب… وهنا تنكسر الأكوان.
أنا الذي لا يُهزم،
ولا ترفع رايةً إلا على قلاعُكِ.
دعيني أريكِ حبي…
كعاصفة لا تهدأ،
وكقصيدةٍ، نهايتها… أنتِ..أنتِ فقط
بمنزل أرسلان..
طرق على باب غرفة والدته، التي أذنت بالدخول:
-صباح الخير صفية خانم، إيه، قافلة على نفسك ليه؟.
قالها وهو يقترب منها يقبِّل جبينها..
ربتت على ظهره بحنان:
-كويسة حبيبي، بس ماليش نفس لحاجة.
جلس بجوارها واحتضن كفَّيها يقبِّلهم:
-حبيبتي لازم تخرجي من أوضتك، مينفعشِ من إمبارح وإنتي قافلة على نفسك.
-سيبني براحتي ياحبيبي..المهمِّ غرام قالتلي الولاد عايزين يسافروا مع ابن عمُّهم، وحياة صفية عندك خدهم وسافروا يومين، بقالكم كتير ياحبيبي مسافرتوش، والحمد لله اطَّمنت على مرات أخوك.
تنهَّد بألم وقال:
-ماما أنا مستحيل أسيبك وأسافر، وبعدين الإجازة جايَّة، مش ضروري سفر الأيام دي.
ربتت على كفِّه:
-وحياتي عندك ياأرسلان، خد الولاد وغيَّروا جو، وأنا هروح لإسحاق متقلقش عليَّا.
-طيب لو مصرَّة، هتيجي معانا.
هزَّت رأسها بالنفي سريعًا وقالت:
-لا، أروح فين، أنا خلاص كبرت حبيبي مبقاش ينفع، روح إنتَ ومراتك وغيَّروا جو ياحبيبي، وبعدين نسيت ملك؟..
توقَّف يهزُّ رأسه ومدَّ يده إليها:
-طيب قومي نفطر مع بعض، ولَّا عايزة أنزل الشغل من غير أكل؟.
ابتسمت إليه بحنان وأبعدت غطاءها..انحنى يساعدها بالنزول من فوق السرير..
بعد فترة..في النَّادي الخاص به وخاصَّةً بغرفة مكتبه..كان يتحدَّث مع إلياس:
- بعد بكرة إن شاءالله هجيبهم وننزل، المهم قابلني بعيد عن روسيا وحياتي، بلاش بلد الصقيع دي..
ضحك عليه إلياس ونظراته على ميرال المتوقَّفة على طرفِ اليخت وقال:
-شوفوا عايزين تروحوا فين، أنا جيت هنا علشان فيه حدِّ قالِّي على دكتور نفسي كويس..قولت أقابله بالمرَّة..
المهمِّ سيبك من السفر وقولِّي عملت إيه في الخزنة بتاعتنا، فيه فلوس حلوة؟..
قهقه أرسلان، وتابع حديثه الغامض:
-وحياتك مليتها على الآخر، والميَّة بقت بتنزل من كلِّ حتَّة..
-طيب خلِّي بالك لتغرَّق الفلوس قبل ماأشتري بيها مناديل تواليت.
-عيب عليك..إنتَ مأمِّن على خزنة الشافعية.
-تمام..قالها وأغلق الهاتف، بدفع إسحاق باب مكتبه..
دفع الباب بقدمه، فهبَّ يصرخ ولكنَّه توقَّف بعدما وقعت عينيهِ على إسحاق:
-أوووه، عمُّو إسحاق وأنا بقول النادي منوًَّر ليه..
جذبه من ياقته:
-إنتَ بتلعب معايا يابنِ فاروق..
-يوووه، قالها وهو يلوِّح بيده، هوَّ أنا هكتبها على جبيني، أنا أرسلان الشافعي.
-ولااا..
-دا كلُّه ولااا، طيِّب لو بلال سمعك بتقول كدا، هتبقى مبسوط وهبيتي في الأرض.
-فين مختار العوضي يلااا؟.
-ياربِّ أطفحه لو كنت شوفته.
جزَّ على أسنانه وكوَّر قبضته:
-أخوك الحلُّوف فين، مش باين ليه؟..
-أخويا الحلُّوف!!.يارب يسمعك، كنت طيِّب ياإسحاقو..
دفعه إسحاق بعدما أثار جيوش غضبه حتى هوى على المقعد، فرفع ساقيه فوق المقعد المجاور:
-عارف ياأرسلان لو ماقولتش أخدتوا مختار فين..
أومأ يلوِّح بيده:
-أيوة..كمِّل بحبِّ الموسيقى التهديديَّة دي أووي..بحسِّ بانشكاح..
سحبه من خصلاته يصرخ به:
-إنتَ بتعصَّبني ليه ياحيوان؟..
-ياعبد الرحمن..كاسة ليمونادا لإسحاق باشا..دمُّه محروق، عايز يروَّق..
اعتدل إسحاق يرمقه بنظراتٍ ناريَّة:
-تمام ياأرسلان، أنا هعرَّفك حرقان الدم على حق، كنت عامل حساب للصداقة اللي بينَّا.
-اسكت، مش الصداقة شطبوها من نقابة المهن بقت مسرح كبير ياعمُّو، والشاطر اللي يعرف يأدِّي دوره كويس، ويخلِّي الجمهور يصفق له، علشان الستارة تنزل والكلِّ سعيد..
-تقصد إيه يلااا؟.
-مقصدش، روح دوَّر على الراجل دا بعيد عنِّنا، وعلى فكرة إلياس برَّة مصر من ليلة الحفلة، بعيد عنَّك مراته تعبانة ورايح يغيَّر دمَّها الِّلي ولاد الحرام لوَّثوه..
-طيب ياأرسلان..تمام الإجابة وصلت..قالها وهمَّ بالمغادرة..أوقفه أرسلان:
-عمُّو إسحاق، استدار إليه فأشار على باب مكتبه:
-خد الباب في إيدك، التكييف شغَّال، وإنتَ كلَّك إحساس الجوِّ حر، والكهربا غالية.
ظلَّ يطالعه للحظات يومئُ برأسه:
-جاي تبيع ميَّة في حارة السقَّايين يابنِ فاروق؟.
-أه عندنا بحر، لازم الكلِّ يشرب.
-ماشي، أوعى بس تتزحلق بالميَّة..
-متخافش، أستاذي كان ذكي، وعلَّمني إزاي أمسك الهدف من غير مايحس..
هدف يلهفك ياحيوان.
-أجمعين يارب..وصل الساعي يحمل كوبًا من عصير الليمون..فأشار إليه أرسلان:
-اشرب ياعمُّو أصله لمَّا بيتركن بيمرَّر..
أمسك الكوب ووصل إليه يدفعه بوجهه:
-برَّد نفسك ياذكي، علشان الباب مفتوح.
ظلَّ يقهقه عليه..مضى إسحاق إلى الخارج يسبُّه، ولم يتوقَّف أرسلان:
-خلِّي بالك عندك سلِّمة مكسورة، والعضمة كبيرة..
مسح على وجهه يهمس لنفسه:
-آسف ياعمُّو، عارف إنَّك بتأدِّي وظيفتك، بس أنا مش قادر أتلاشى أنُّهم داسو على رجولتنا.
استمع إلى رنين هاتفه الخاص:
-أرسلان باشا..
مختار دا موعد حقتنه مش مبطَّل صراخ وقرفنا، وهنسيبه متعلَّق كدا ولَّا ننزِّله؟..
-اقفل عليه المكان، بس بقولَّك قبل ماتقفل عليه، ضيَّع شبابه ونظره ولسانه، وبعد كدا هتجيب البتِّ اللي كانت معاه، وإنتَ عارف هتعمل إيه، الصور يامالك تكون في كلِّ الجرايد والمواقع بكرة، وزي ماقولت لك بالظبط..وياريت التحاليل تخرج من مكتب الطبِّ الشرعي مفيهاش غلط..
-أمرك ياباشا، اعتبره حصل.
تذكَّر شيئًا قبل أن يغلق فقال:
-ابعد عن رؤى سبها ولا كأنَّك عرفت مكانها..بس من بعيد لبعيد، وأه إسحاق، خلِّي بالك تليفونك الخاص لو وقع في إيد حد، ديِّتك رصاصة في دماغك.
-متقلقش كلُّه تحت السيطرة.
بروسيا وخاصَّةً على اليخت الخاصِّ بإلياس..
جلست تنظر للبحر بصمت، والبحر أمامها يمتدُّ بلا نهاية، كأنَّ أمواجه تحتفظ بكلِّ أسرارها وأحزانها..صور السنوات الماضية أخذت تتسرَّب إلى ذهنها…ضحكاتهم، ليالي السهر التي كانت تنام فيها بأحضانه وهمسه الحاني، ولحظاته الغاضبة التي كانت تُطفئها بكلمة، وعناقه الذي كان يشعرها وكأنَّ العالم كلُّه يذوب بين ذراعيه..
لكن تلك الصور بدأت تتشوَّه…تحلُّ محلَّها ذكريات هروبها الأليمة، والمسافة التي باتت تفصلُ بينهم وكأنَّها هاوية..لتعود نظراته الباردة وأحضانه الغاضبة..
أغمضت عينيها بقوَّة، لعلَّها تحبس الدموع…ثم فتحتهم فجأة، تحدِّق في أمواج البحر الهادئة، وذكريات حديث فريدة تتردَّد في ذهنها..منذ بداية عودتها الأليمة..
كانت تتوسَّد ساق فريدة التي راحت تمسِّد خصلات شعرها بحنان:
حبيبتي، جوزك بيحبِّك، والِّلي بيعمله دا غصب عنُّه…صعب على أي راجل يابنتي.
- عارفة…همست بها بتقطُّع، ثم نهضت معتدلة:
– أنا صعبان عليَّا يوسف، ومضَّايقة علشانه، هوَّ مفكَّر إنِّي مبحبُّوش..
احتضنت فريدة وجهها برفق:
حبيبة ماما، مفيش حاجة من الِّلي بتقوليها دي.
هزَّت رأسها ببكاء وشهقاتها بالارتفاع:
مش قادرة أتحمِّل فكرة وجود ابني قدَّامي ومش قادرة أضمُّه ياماما… نفسي أضمُّه وأشمِّ ريحته…مش قادرة والله ياماما.
قبَّلت وجنتيها، وحاولت أن تربتَ على قلبها:
متخافيش، هيحنِّ وهيسامح…وإلياس كمان، طيِّب..أنا متأكدة إنُّه هيموت وياخدك في حضنه، بس كرامته هيَّ الِّلي وجعاه، وزي ما قلت لك…معذور.. أوعي تزعلي منُّه أو تعاتبيه مهما عمل.
طيب إنتي أكتر واحدة عارفة جوزك، تفتكري إلياس ممكن يبعد عنِّك بعد مارجعتي؟..وقبل ماتجاوبي افتكري حبُّه ليكي..
صمتت، وذكريات سنين زواجهم تمرُّ أمام عينيها…لحظاتهم معًا، ضحكاتهم، دموعهم..أغمضت عينيها، وتساءلت:
ماما فريدة إزاي اتحمِّلتي السنين دي كلَّها، من غير ماتشتكي؟!
استدارت إليها، ولمعت عينيها بدموعِ آلامِ السنين..ثم ابتسمت ابتسامةً ممزوجةً بمرارِ الماضي، واحتوت وجه ميرال بين راحتيها قائلة:
يا حبيبتي، ليه نشتكي وربِّنا ربّ القلوب، كلِّ شيء مكتوب، ومفيش منُّه هروب..
الرضا يابنتي إنِّك ترضي بنصيبك، إحنا مين علشان نقول "ليه يارب"
أه، اتحرمت من أولادي، بس ربِّنا عوَّضني بيكي وبأولاد مصطفى..
وأعطاني الأجمل والأحن..
أربِّي ابني يكبر قدَّامي، أعيش تفاصيله، حتى وأنا مش عارفة إنُّه ابني، بس رحمة ربِّنا وسعتني،
كبر قدَّامي، وذكريات طفولته محفورة جوَّا قلبي..
تمرّ السنين، ويقابل أخوه من بين آلاف البشر، وينقذه، ويتقرَّبوا من بعض، ويسندوا بعض،
من غير مايعرفوا إنِّ الدمِّ واحد،
لكن ربِّنا أراد لمَّا الوجوه تتكشف.. يكون الحبِّ مزروع في القلوب
وتكون الروح عارفة، حتى لو العقل مش مستوعب، اللي بيقرَّبنا من بعض قلوبنا ياميرال ..
فبعد دا كلُّه ياميرال، تيجي تسأليني إزاي اتحمَّلت؟!.
السؤال الحقيقي، يابنتي:
"عملتي إيه ياماما، علشان ربِّنا يكرمك بكلِّ دا؟"
ما تبصِّيش للِّي ضاع، بصِّي لنِعَم ربِّنا اللي قدَّامك، واللي لسه مش واضحة ليكي..لكنَّها هتظهر، هتظهَر.
أنا مش مع إلياس لمَّا قالِّك "دوسي على اللي يوجعك"،
إحنا بنتجازى على لين قلوبنا، مش على قسوتها..
شوفي الكفَّار كانوا قساة إزاي مع رسولنا..
وشوفي هوَّ رد بإيه لمَّا رجع وفتح مكَّة...أه إحنا مش أنبياء بس الدنيا متسابَة، وكلِّ واحد بياخد نصيبه منها..
اجري فيها زي ماإنتي عايزة،
لكن مش هتاخدي غير الِّلي مكتوب ليكي.
خلِّي حياتك عينك فيها على ربِّنا،
مالكيش دعوة بالبشر..مهما عملتي،
مش كلِّ الناس هترضى، ومش كلِّ الناس هتفهمك.
اعملي علشان ترضي ربِّنا وبس..
وعلِّمي ولادك يرضوا بالمقسوم،
لأن اللي مايرضاش من صغره،
عمره ماهيتقبَّل لمَّا يكبر...
حبيبتي مهما نعيش مصيرنا هنموت علشان دي الحقيقة الوحيدة اللي في الدنيا، فلازم تستعدِّي لربِّنا
واحمديه، غيرك مش طايل ربع اللي إنتي فيه..
خرجت من شرودها على صوتِ إلياس، استدارت إليه:
إيه دا؟!...قالتها بذهول وهي تتطلَّع للَّذي بيده..
-إيه، علبة شيكولاتة، واحد ومراته في يخت في البحر، هيكون جايبلها إيه؟..
-جمبري!!.
-لا ياشيخة، لا، شيفاني ماسك صنَّارة؟..
-لا ياظريف..لابس شورت.
-لابس شورت، همَّا الصيَّادين بيلبسوا شورت؟.
-أه علشان لمَّا يقعوا في البحر.
-أيوة صح عندك حق، الشورت بيكون سهل في الخلع..
شهقت بذهول:
-ياقليل الأدب.
-مش إنتي الِّلي بتقولي، أنا دلوقتي لازم أكون صيَّاد..
قالها وهو يدفعها بقوَّةٍ للبحر حتى سقطت تصرخ.. قفز خلفها يضحك عليها ثم سحبها
-مش كنتي لبستي علبة الشيكولاتة احسن
دارت بعينها بالبحر:
-إلياس عايزة أخرج..مش قادرة أعوم
سحبها وهو يسبح وسط المياه الهادئة، ابتسامته المتعبة تحاول أن تبثَّ الطمأنينة في قلبها:
– يلَّا حبيبتي، أنا معاكي.
كانت تحاول التملَّص من ذراعيه، تهزُّ رأسها بعناد، وعيناها تلمعُ بالخوف:
– لا، مش قادرة…
لكنَّه لم يستسلم، متذكِّرًا نصيحة الطبيب بضرورة أن تمارس بعض الأشياء التي كانت تحبُّها، علَّ ذلك ينعش روحها قليلًا..ابتسم محاولًا المزاح:
– وحشتني السباحة معاكي…مش إحنا في شهر العسل ياميرو، رجعتي في كلامك؟.
تعلَّقت بعنقه فجأة، وانهارت شهقاتها في صدره:
– مش عايزة…مش قادرة، لو سمحت خرَّجني، أنا مش عايزة أعوم ياإلياس..
ارتفع صوتها بالبكاء مع صدى الأمواج، فانطفأ إصراره أمام وجعها..أحاط جسدها بقوَّة، وسحبها متَّجهًا نحو اليخت..بعد دقائق قليلة كان يساعدها على نزع ثيابها المبتلَّة، ثم لفَّها بالغطاء حتى بدأ جسدها المرتجف يهدأ..جلس بجوارها، يراقب أنفاسها المتقطِّعة حتى غفت، ينظر إلى جفونها المتورِّمة ووجنتيها الملتهبة من البكاء.
نهض بخطواتٍ مثقلة، صعد إلى سطح اليخت، لكنَّه شعر بثقل الهواء ولم يستطع أن يستنشقه..وحديث الطبيب اقتحم ذهنه..حين جلس في عيادة الطبيب ومعه ملفَّ تحاليلها.
بعد وصوله إلى المدينة بيوم، ذهب إلى الطبيب المشهور بتلك الحالات بصحبتها..وصل إلى المشفى الخاصَّة به ثم جلس إلياس على الكرسي المقابل للطبيب، يده تمسك بملفِّ التحاليل وكلَّ مايخصُّها، رفع الدكتور نظره عن أوراقها وقال بجديَّة هادئة:
التحاليل دي من إمتى؟
– من تلات أيَّام…قبل مانيجي بيوم، أنا وقَّفت كلِّ الأدوية اللي كانت بتاخدها.
– لازم نسحب عيِّنات جديدة، وبعدها هقولَّك النتيجة.
عاد بها بعد تجوُّلهم في البلدة إلى المنزل المستأجَر، ثم قال وهو يتهيَّأ للمغادرة:
– جهِّزي نفسك…نصِّ ساعة وراجع علشان هنسافر تركيا.
– ليه تركيا؟
– أرسلان هيجيب الولاد هناك…هوَّ اختار تركيا.
– حاضر…متتأخَّرش.
بعد فترة وقف أمام الطبيب:
- للأسف…التحاليل الأخيرة بتأكِّد إنِّ الدم لسه فيه آثار مواد مخدِّرة.
شعر إلياس بقبضةٍ باردة في قلبه، لكن الطبيب أكمل:
– اسمع ياأستاذ إلياس…علاج الإدمان مش بيخلص بمجرَّد ماالمادة المخدِّرة تخرج من الجسم، المرحلة الأولى اسمها سحب السموم، ودي غالبًا خلَّصت جزء كبير منها..لكن المرحلة الأهم…إعادة التأهيل النفسي.
أمال إلياس رأسه قليلًا، فأردف الطبيب:
– إعادة التأهيل، أهمِّ من العلاج.. معناها إنِّنا نشتغل على السبب الِّلي خلَّاها تلجأ للمخدِّر من الأساس… صدمة، اكتئاب، ضغط نفسي، هنا بنستخدم العلاج المعرفي السلوكي علشان نعيد تدريب العقل على ردود أفعال صحيَّة، وفي حالات معينة بنضيف العلاج الجماعي، عشان تحسِّ إنَّها مش وحدها.
تدخَّل طبيب الإدمان الذي كان يجلس بجانب الطبيب النفسي، وقال بصوتٍ حازمٍ لكن مطمئن:
– وضروري تعرف إنِّ المخ بعد فترة الإدمان بيتعوِّد يفرز نسب أقل من هرمونات السعادة زي الدوبامين والسيروتونين، وده بيخلِّي المريض يحس بفراغ، قلق، وحتى نوبات اكتئاب..هنا بيجي دور الأدوية الداعمة، بجانب بناء روتين يومي ثابت وأنشطة بديلة زي الرياضة أو الهوايات..
رفع إلياس نظره إليهم، ونطق بصوتٍ مبحوح:
– يعني، قدَّامنا وقت طويل؟
– طويل، لكن مش مستحيل..محتاج دعمك وصبرك أكتر من أي حد.
خرج إلياس من العيادة حينها والملف بيده، وهو يدرك أنَّ المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد؛ وأنَّ كلَّ لحظة معها ستكون اختبارًا جديدًا بين حبِّه لها، وقدرته على الصبر أمام مافعلته..
خرج من شروده على رنين هاتفه:
-عرفنا مكان رانيا، المطلوب منِّنا إيه؟.
-مراقبة وبس، عايز أعرف بتروح فين ومش عايزها تحسِّ بحاجة.
-طيب، أرسلان باشا طلب منِّنا نبعد عن رؤى.
-يزن عرف مكانها؟.
-أه عرف، هيَّ كانت قاعدة في بيت صديقتها في الشغل.
-اعمل معاها زي رانيا، عايز تدولهم الأمان وبس، وبالنسبة لمختار، اعمل زي ماأرسلان قالَّك بالظبط، مش عايزه يموت..عايزه يكون عبرة للكل.
-حصل ياباشا، كان بيصرخ علشان المخدَّرات وعملت معاه الصح.
-إسحاق لاقاه ولَّا لسة؟.
-زمانه لاقاه، البتِّ اشتغلت حلو، والفيديوهات ملت السوشيال ميديا.
-برافو عليك يامالك، الدور بقى على مين اللي وراه، عايزك تفصَّص الورق اللي لقيناه في الخزنة، وزي ماقولت لك مش عايز إسحاق يشمِّ خبر، بعد ماتاخد نسخة رجَّع كلِّ حاجة لمكانها، علشان يوقع في إيد إسحاق.
-اعتبره حصل.
صباح اليوم التالي ..
وصل أرسلان إلى قصر الجارحي، توقَّف أمامه لدقائق، وشريط ذكريات ذلك القصر تمرُّ أمام عينيه كأنَّها بالأمس..لم يشعر بتلك الدموع التي انسابت رغمًا عنه، استمع إلى صوت رجل الأمن:
-أرسلان باشا نوَّرت القصر ياباشا، والله ليك وحشة..
ارتدى نظَّارته وفتح باب سيَّارته وترجَّل منها..
-إزيَّك ياحسن عامل إيه، وولادك عاملين إيه؟..
-إحنا كويسين ياياشا، شكرًا لسؤال معاليك..خطا للداخل وكلَّ خطوةٍ يشعر بأنَّها تقوده إلى الجحيم، ماذا حدث اليوم عن الماضي ليصل به الحال..فتحت الخادمة الباب ترحِّب به..
توقَّف وسأل عن أحلام:
-أحلام هانم موجودة؟..
أشارت إلى الداخل، ولكن توقَّفت الخادمة عن الحديث بوصولِ أحلام:
-إيه الِّلي جابك هنا يالا إنتَ؟..
اقترب منها وعيناه ترمقها بلهيبٍ من النيران حتى وقف أمامها:
-جاي وعندي عرض لحضرتك.
دقَّقت النظر به، ثم أشارت إليه ساخرة:
-إنتَ..بتعرض عليَّا أنا..
قوَّس فمه بابتسامةٍ لاذعة ثم قال:
-أه..أنا صاحب العزِّ دا كلُّه..
مدِّ يده بجيب بنطاله وأخرج ورقتين مطويَّتين، وفتح يدها ووضعهم بها:
-على ماأظن بتعرفي تقري كويس..
قرأت سطور أوَّل ورقة ثم رفعت نظرها إليه بذهول:
-مزوَّرة، مش حقيقي..
-تمام نشوف فاروق باشا هيقول إيه عليها..أشار بعينيه إلى الورقة الأخرى..
اقتربت منه كالمجنونة:
-أموِّتك من غير مايرفِّ لي جفن.
أشار بعينه إلى الورقة:
-دلوقتي قدَّامك ساعة واحدة، بابا يروح لماما ويرجَّعها، ويعتذر لها، وإلَّا..
طالعته بغضبٍ جحيميّ وأشارت بتهديد:
-وإلَّا هموِّتك..انحنى يهمس لها:
هطردك من القصر كلُّه، وأرميكي برَّة زي..صمت يرمقها باشمئزاز:
-متربِّي وماليش في الألفاظ البذيئة..
أمِّي وأبويا يتصالحوا..إزاي معرفش، إنتي عملتي إيه، قولتي إيه، مايلزمنيش..
ياتخسري كلِّ حاجة وأوَّلهم فاروق باشا لمَّا يعرف قذارة الستِّ الوالدة، ياأمَّا تحترمي نفسك في بيتي، أنا مش طالب كتير..
قالها واستدار بعدما أشار إلى ساعته:
-أكيد فاروق باشا عارف عنوان البيت، قدَّامك ساعة تيجي إنتي وهوَّ وتتأسِّفوا لأمِّي، وتبوسي على دماغها، وترجع بيتها..
-وإيه اللي يضمنِّي إنَّك ماتقولشِ حاجة لفاروق؟..
-هستفاد إيه لو عرف؟..
-موافقة بس بشرط..
تتنازل عن كلِّ أملاكك دي..
أومأ لها وقال:
-إنتي متتشرَّطتيش، أنا هتنازل بس لأمِّي لا ليكي ولا فاروق باشا..ودا آخر كلام..
سلام أحلام هانم.
بفيلا السيوفي..
تململت ملك بنومها، تشعر بألمٍ أسفل بطنها، اعتدلت بعدما شعرت بشيءٍ ما، نزلت دموعها بصمت، تنظر إلى زوجها وازداد بكاءها:
-إسلام قوم..إسلام الحقني بنزف..
هبَّ من نومه:
-فيه إيه حبيبتي؟!..
حاوطت بطنها تبكي:
-أنا بنزف، شكل البيبي نزل.
حاول استيعاب حديثها:
-يعني إيه مش فاهم، بيبي إيه ياملك؟..
ارتفع صوت بكائها تنظر إليه بألم:
-أنا كنت حامل.
فزع من مكانه، ينظر لتلك البقعة الحمراء التي ظهرت بكفِّها..
هرول للخارج يصيح باسم والدته:
-ماما فريدة..صرخ بها مع ارتفاع بكاء ملك..
بعد عدة ساعات وتحديدًا في غرفة إسلام، كانت فريدة تُساعد ملك على الاستلقاء فوق الفراش بعد عودتها من المستشفى..أحاطتها بالأغطية برفق، وهمست بصوتٍ حانٍ:
ارتاحي ياحبيبتي دلوقتي.
تشبَّثت ملك بكفِّها، وانهارت دموعها بغزارة، وصوتها يتقطَّع بين شهقاتِ الندم:
ماما فريدة…سامحيني، والله ماأعرف عملت كده إزاي…كنت خايفة، مقدرتش أكون أمِّ في الظروف دي.
ربتت فريدة على كفِّها بحنانٍ يختلط بالألم، وانحنت تطبع قبلةً على جبينها:
نامي يابنتي…أنا ماليش اسامحك ولَّا لأ، دلوقتي أهمِّ حاجة ترتاحي، وبعد كده نتكلِّم..
رفعت عينيها و بصوتٍ مبحوح، سألت بخوف:
- إسلام، قال إيه؟
اعتدلت فريدة، وزفرت تنهيدةً ثقيلة، وطالعتها بعينينِ تحملُ مرارة الحقيقة:
هيقول إيه، قدَّر الله وماشاء فعل..
المهمِّ دلوقتي، حاولي تبعدي عنُّه شوية لحدِّ مايروق..للأسف، غلطك كبير ومش سهل يتغفر..الدكتور أكَّد له إنِّك أخدتي دوا إجهاض، يعني قرَّرتي ونفِّذتي من غير ماترجعي له في أهمِّ حاجة بينكم..وأنا حذَّرتك ياملك.
طالعتها ملك بعينين غارقتينِ في البكاء، تحملُ رجاءً خافتًا وخوفًا دفينًا.. أومأت لها فريدة، وكأنَّها تستجمع قواها لتكمل حديثها، رغم الألم الذي تجلَّى في عيني ملك قبل عينيها هي.. قالت بصوتٍ هادئٍ لكنَّه حادَّ المعنى:
الجواز مش مجرَّد فُسح وكلام ِّحب
يابنتي…الجواز مسؤولية، رباط بين اتنين..
تنهَّدت تنهيدة طويلة، وكأنَّها تفرغ شيئًا أثقلَ صدرها، ثم تابعت:
الحياة الزوجية مشاركة يابنتي، في الفرح قبل الحزن، وفي القرارات الكبيرة قبل الصغيرة..اللي عملتيه ده…أهمِّ قرار في الحياة الزوجية، وكان لازم ترجعي لجوزك قبل ماتعمليه، موضوع إنِّك كنتي خايفة…ده مجرَّد شمَّاعة بتعلَّقي عليها غلطك.
سكتت لحظة، ثم أضافت بنبرةٍ عميقة مليئة بالتجربة:
الحياة الزوجية مش بس ضحكة وصورة حلوة قدَّام الناس، ولا خروجة تفرَّح القلب، الجواز رحلة طويلة… فيها أيَّام حلوة وأيَّام مُرَّة، مواقف بتختبر صبرنا وبتكشف معدننا..الجواز مش إنِّك تلاقي حد يفرَّحك وقت فراغك…الجواز إنِّك تلاقي حد تتسندي عليه وقت تعبك، وتتحمِّلي معاه وقت تعبه هوَّ كمان، هوَّ عهد…مش بس أمام ربِّنا، لكن أمام نفسك وأمام الِّلي معاكي، إنِّك تكوني نصُّه اللي مايتجزَّأش، وضهره اللي ماينكسرش.
اقتربت منها، ومسحت دموعها برفق وهي تختم:
القرارات الكبيرة يابنتي…لازم تتاخد بإيدين الاتنين مع بعض، الجواز زي السفينة…لو واحد شدَّها لليمين والتاني لليسار، هتغرق بين الموج.
انكمشت ملك أكثر على وسادتها، وكأنَّ الكلمات كانت سهامًا تغوص في صدرها، لكنَّها لم تجد دفاعًا، ولا حتى العذر الذي يخفِّف وقع الحقيقة، فاكتفت بهمسةٍ واهنة:
ربِّنا يسامحني وكمان إسلام يغفرلي..
مسَّدت على خصلاتها وهمست بصوتٍ حاني:
-ارتاحي يابنتي ، ربِّنا يهدِّي سرُّكم.
كان يذرع المكان ذهابًا وإيابًا، وجبينه يقطر غليانًا من الغضب..دخلت فريدة بخطواتٍ هادئة، تحدِّق فيه مليًا قبل أن ترفع عينيها نحو مصطفى، الذي اكتفى بإيماءة تحمل معنى "حاولي تهدِّيه".
اقتربت منه تمسك بذراعيه محاولة إيقافه:
إسلام، حبيبي، ممكن تهدى شوية… العصبية مش هتغيَّر حاجة..
استدار إليها، ووجهه مزيجًا من الألم والخذلان:
ليه تعمل كدا، هوَّ مش من حقِّي أعرف وبعدين أقرَّر؟
ربتت على كتفه بحنانٍ متردِّد:
حبيبي، اهدى…وإن شاء الله كلُّه هيكون كويس، هيَّ لسه صغيرة ومش مدركة، ياقلب أمَّك.
لكنه صاح بغضب:
ماما، لو سمحتي…مش عايز أسمع حاجة.
صمت للحظات، ثم تساءل فجأة:
إنتي كنتي تعرفي إنَّها كانت حامل؟
قالها مع دخول غادة وهي تلقي تحيَّة المساء:
ملك بقت كويسة،كان مالها؟
التفت إليها إسلام:
غادة، إنتي كنتي تعرفي إنِّ ملك حامل؟
قطبت حاجبيها في ذهول:
هي ملك كانت حامل؟!.
تدخَّل مصطفى، وقد بدا على ملامحه القلق:
اعمل زي مامامتك قالت…لازم تهدى، وبعد كده اسمع منها، يمكن الدكتور غلط، وهيَّ مالهاش ذنب.
أومأت فريدة تؤكِّد حديث مصطفى:
أيوه، ياحبيبي بيحصل، وممكن ماكانتش تعرف أصلاً..بلاش تتسرَّع.
لكن غضبه كان قد بلغ ذروته فصرخ:
إنتوا فاكرنِّي عيِّل أهبل؟ المدام قالت الجنين نزل…وأنا كنت نازل بيها المستشفى..
حاولت فريدة أن تكبح اندفاعه..
إسلام، حتى لو هيَّ اللي عملت كده… لازم تسمع منها وبعدين تقرَّر.
قالتها غادة في محاولةٍ لتهدئته.
ممكن تسكتي ياغادة؟ مش عايز حد يقولِّي أعمل إيه..نطق بها.
اندفع نحو الدرج، ركضت فريدة خلفه، تمسك بذراعيه بقوة:
حبيبي، البنتِ تعبانة…سبها دلوقتي، وبعدين ادخل لها.
تعالت أنفاسه، التفت مبتعدًا نحو الخارج، يغادر كالبركان
أطبقت فريدة جفنيها تحاول ضبط أنفاسها، ثم اتَّجهت نحو مصطفى، تروي له ماقصَّته ملك قبل يومين..
جلس مصطفى يطوِّق رأسه بكفَّيه، والصدمة تتَّسع في ملامحه،
أمَّا غادة فشهقت في دهشة:
بس ياماما…لو عملت كده، تستاهل الِّلي إسلام بيعمله فيها.
رفع مصطفى رأسه إليها بنظرةٍ فاحصة:
كنتي فين من إمبارح ياغادة؟
ارتبكت، تتجنَّب عينيه، ثم قالت بلهجةٍ متقطِّعة:
أنا…أنا كلِّمت ماما فريدة، وقلت لها إنِّنا هنسافر رحلة للعين السخنة يوم ونرجع على طول.
بعد يومين، وصل أرسلان بصحبة غرام والأطفال إلى اسطنبول التي كانت غارقة في صباحها البارد، حين دلفوا إلى المنزل الذي استأجره إلياس..
قابله إلياس الذي كان ينتظره بالحديقة:
-روح ارتاح ونتقابل بالليل.
ربت على كتفه، ثم قال:
-تمام..سلِّملي على ميرال لحدِّ ماأشوفها..
أشار إلى رجل الأمن وتحدَّث باللهجة التركية:
-خد الشنط دي للمنزل.
قالها وتحرَّك مع أرسلان متَّجهًا إلى منزله، بعدما أشار إلى يوسف بالتوجُّه إلى الداخل..
دلف يوسف بصحبة أخته، التي ماإن رأت والدتها حتى هرولت نحوها كالعصفورِ العائد إلى عشِّه..
ماما..
انحنت ميرال بسرعة، التقطت طفلتها بين ذراعيها، وراحت تدور بها في الهواء وهي تقبِّل وجنتيها بلهفة، كأنَّها تريد أن تُعوِّضها عن كلِّ لحظة غياب.
حبيبة ماما، وحشتيني أووووي..قدِّ البحر وسمكاته.
قبَّلت ملامحها الصغيرة مرَّةً بعد مرَّة، ثم أنزلتها برفق..رفعت عينيها تبحث عن يوسف الذي كان واقفًا عند الجدار، ظهره مسنود وكتفاه منكمشتان، وعيناه تتجنَّبُ النظر إليها مباشرة..
فتحت ذراعيها إليه، وأردفت بصوتٍ مرتجف:
-ماما، مش وحشتك يايوسف؟
تردَّد قليلًا، ثم خطا نحوها، ونظراته تحوم حولها بحذر، قبل أن يهمس:
- طبعًا وحشتيني…
لم تنتظر، وسحبته إلى حضنها بقوَّة، وضمَّت رأسه إلى صدرها، قبَّلته بجنونِ الاشتياق وكأنَّها تخشى أن يبتعد عن أحضانها..
وحشتيني أوي ياحبيبي..أوي.
لكن قطع حضنِ الاشتياق صوت إلياس كحدِّ السكين:
أيوة، مالازم يوحشك…مش الدلُّوع اللي بيعمل مقالب في أبوه.
رفعت ميرال رأسها إليه، تتوسَّله بعينيها بصمت، لكنَّه لم يلتفت إليها.. تقدَّم نحو يوسف، بملامح مشدودة كأنَّها حجارة، ونطق بصوتٍ يقطر غضبًا:
ممكن تفهِّمني إيه اللي عملته دا؟
طأطأ يوسف رأسه، وأردف بصوتٍ خافت ومرتعش:
آسف يابابا…مكنش قصدي أقلق حضرتك.
لكن اعتذاره لم يطفئ النار في صدره، كلمَّا تذكَّر مافعله..
أعمل إيه بأسفك دا؟! افترض حصل حاجة لأختك؟!
رفع يوسف عينيه بتردُّد، يواجه أباه بكلماتٍ تنزف جرحًا:
- هوَّ ليه حضرتك بتحسِّسني إنِّي عملت جريمة…أنا مكنتش أعرف.
اقترب إلياس خطوة، وصاح بصوتٍ أشبه بالعاصفة:
- اخرس…ليك عين تتبجَّح؟ إيه، عايز الرضعة، ولَّا مستنِّي نعاملك زي البنت؟!
- شهقت ميرال، وأمسكت بذراع ابنتها التي همست بخوف، تختبئ خلف والدتها، ممَّا جعل ميرال تحاول السيطرة على غضبه:
- إلياس اهدى مالوش لازمة الِّلي بتقوله دا..
التفت إليها بعينينِ تقدحُ شررًا:
هوَّ أنا طلبت منِّك تدخَّلي؟! إنتي إزاي تدخَّلي بينَّا أصلًا، إياكي…إياكي تدخَّلي بيني وبينه، أنا مش من يوم وليلة قومت لقيته راجل كدا، دا مش لسه عنده خمس سنين علشان أطبطب عليه، لازم يتعامل إنُّه راجل…لمَّا هوَّ الِّلي يضرِّ أخته علشان هيافته، يبقى سبت للغريب إيه؟!
حاولت ميرال الدفاع بصوتٍ مرتجف:
بس برضو ماتزعقلوش كدا، هوَّ لسه طفل.
ضحك إلياس ضحكةً قصيرةً مشوبةً بالسخريَّة، وصفَّق بيديه بحدَّة، قبل أن يقترب من يوسف، وصوته كنارٍ تلسع جلد ميرال:
طفل!!.هتقولي إيه غير كدا…إنتي تعرفي إيه عنُّه أصلًا..إنتي مالكيش حق فيه، أنا اللي تعبت لمَّا بقى كدا، إنتي بقى كنتي فين، في الحارة اللي كنتي عايشة فيها…وعايزة تتعاملي معاه على إنُّه لسة طفل!..
ابنك بقى راجل يامدام.
ابتلعت ميرال دموعها وهي تقول بمرارة:
عندك حق…أنا ماعرفش عنُّه حاجة، وماليش حق فيه، قالتها
ثم جذبت يد ابنتها الصغيرة، تُبعدها خلفها كأنَّها تقيها من نيرانِ الموقف..
ارتفعت أنفاس إلياس يؤنِّب نفسه بغضبٍ على ماتلفَّظه، كوَّر قبضته يسبُّ غضبه الذي تطاول عليها..
استمع إلى همس يوسف:
-ليه زعَّلتها، هيَّ مالهاش ذنب..
التفت إليه، وعيناه تتَّقدُ غضبًا:
عجبك كدا؟!.
آسف…أتمنَّى من حضرتك ماتزعلش، لو سمحت روح لها، وأنا مش هغلط تاني.
أشار إليه بالصعود إلى غرفته:
-ماتدَّخلش بيني وبين ماما مهما كان، سمعت، وحطِّ في دماغك حاجة مهمَّة، ماما خطِّ أحمر..مالكش دخل بأي حاجة تحصل بينَّا، اطلع أوضتك على الشمال فوق، وإيَّاك تغلط تاني..
قالها ثم استدار وغادر المنزل بخطواتٍ ثقيلة، وصدره يعلو ويهبط كبركانٍ فقد السيطرة على حممه..
بعد عدَّةِ ساعات وصل إلى منزله متأخِّرًا، حتى لايضعف أمامها، خطا إلى غرفتهم لم يجدها، سحب نفسه واتَّجه إلى غرفة طفلته في بداية الأمر، وجدها غافية كالملاك، تحرَّك إليها ثم انحنى وطبع قبلةً حنونة على جبينها، فتحت عينيها:
-بابا..رفع كفَّها وقبَّله ولمعت عينيه بالدموع:
-روح بابا وحياته..ابتسمت وذهبت بنومها مرَّةً أخرى، ظلَّ بجوارها يمسِّدُ على خصلاتها التي تشبه خصلات والدتها، ثم انحنى يستنشق رائحتها، يعبئُ رئتيه من رائحتها المسكرة، كأنَّه يجذب رائحة والدتها..وضع رأسه بجوار رأسها وخلَّل أنامله بخصلاتها:
-مااتصورتش أحبِّ أي واحدة تانية بعد ماما، رفع كفَّيها فوق وجنتيه وابتسم:
-طلعتي حلوة وحنيِّنة أوي ياروح بابا، بس ماما هيَّ الحبِّ الأوَّل..لمعت عينيهِ بالدموع حينما تذكَّرها فنهض من مكانه واتَّجه إليها بعدما علم أنَّها بغرفةِ طفله، دفع الباب بهدوء، ودلف بخطواتٍ بطيئة وعيناه تلتهمها وهي نائمة بجوار طفله، توقَّف يرسمها كالمبدع، من خصلاتها المتمرِّدة مرورًا بجسدها بالكامل، إلى أن وقعت عيناه على ذراعيها وهي تحتضن طفلهما بقوَّة، وكأنَّها تخفيه عن العالم، جلس بركبتيه أمام السرير ورفرف بأنامله يرفع خصلاتها من فوق وجهها، يمرِّرها على وجهها بالكامل..
آااااه حارقة تلتهم صدره وهو يراها أمامه بكامل هيأتها، فشل في كبح شعور الاشتياق، يكفي عدد السنوات التي مرَّت وهو يعيش بجحيم فراقها..
دفن رأسه بحنايا عنقها للحظات، رفرفت الجميلة أهدابها تهمس اسمه ظنًّا أنَّه يداعب أحلامها، رفع رأسه ولم تعد لديه قدرة على التظاهر بالقوَّة والنفور، ليحتضن ثغرها يسحب أنفاسها لفترةٍ ليست بالقليلة، حرَّر أنفاسها بعدما شعر باختناقها، لتنساب دموعها بقوَّةٍ تغرق وجنتيها..
تنظر لعينيهِ العاشقة حدَّ الجنون:
-زعلانة منَّك..ياريتك تموِّتني وتدفني بدل ماتدبحني بكلامك دا.
لم يفعل شيئًا سوى اعتداله يحملها، وهو يتمتم:
-فعلًا جه الوقت اللي لازم أدفنك فيه، علشان زهقت من المبرِّرات اللي بحطَّها لك، وإنتي الِّلي حكمتي..
فتح يوسف عينيه:
-بابا إنتَ هتدفن ماما فين؟..هبلَّغ عليك..
-نام يابنِ المتخلِّف..
وصل إلياس إلى غرفته وهو يحملها بين ذراعيه، وضعها برفق على الفراش، لكن الأعين ظلت معلقة ببعضها، تحمل في نظراتها ما عجز اللسان عن قوله. فجأة، انبثقت دموعها، وانفجر صوتها المرتعش:
– جايبني هنا ليه؟… مش قولت هتدفني؟
انحنى يقبّل جبينها، ثم أسند جبينه إلى جبينها، يستنشق أنفاسها الناعمة كمن يبحث عن نجاة بالقرب منها
– آسف… عارف إني غضبت وزعلتك، بس أنا معود يوسف على حاجة ما حبيتش…
قاطعت حديثه عندما اعتدلت تجلس مقابلة له، تطالعه بنظرات عتاب موجوع:
– إلياس… هفضل متهمة في نظرك. أنا عارفة إنك بتحاول بكل طاقتك تضغط على نفسك علشان تتقبلني. آه… بتحبني وأنا بحبك، بس مستحيل أخليك دايمًا في صراع مع نفسك.
رفعت كفيها لتحتوي وجهه بين راحتيها، بينما دموعها تنهمر كالشلال:
– مش زعلانة منك… بس زي ما قولتلك، بلاش قدام الولاد. أنا ما صدقت يوسف سامحني، بلاش تبعده عني لو سمحت بقسوتك دي
لم يتحمل صوتها المتهدج، ضمها إلى صدره بعنف، يريد أن يذيبها في أحضانه:
– بطّلي الكلام الأهبل دا…
تشبثت به أكثر، تبكي بشهقات وهي تدفن رأسها في صدره:
– قولي… أريحك إزاي؟ أنا حاسة بيك، ومش بإيدي أعمل حاجة.
أبعدها قليلًا، يحدق في ملامحها وكأنه يحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب:
– تقدري تبعدي.
هزت رأسها بخضوع، وصوتها يتهدج:
– لو هيريّحك…
لكن كلماتها كانت خناجر تمزق قلبه، فأخرسها بطريقته، يقبلها باندفاع وقسوة، كمن يحاول إسكات صراع داخلي يعصف بعقله. ورغم ما شعرت به من عنف مشاعره هذه المرة، إلا أنها احتملته، بل غمرته بضعف أضعاف عشقها المعتاد… حتى غدا قلبه، رغم الألم، يعزف أعذب معزوفاته، دافنًا كل ما يؤرقه في لحظة انصهار تامة.
بعد فترة غرقت بنومها بين أحضانه الدافئة وهي تهمس بصوت بين النوم واليقظة
-حضنك دا اهم مكسب في حياتي..قالتها وذهبت بنوم هادئ بينما هو ظلَّ طيلة الليل مستيقظًا، يراقب ملامحها الجميلة، ابتسم بعد كلماتها، واااه من قلب متيم بعدما انتهت وصلة عشقهم التي رُويت بنبضِ القلوب لا بالكلمات...
داعب خيوط خصلاتها المتناثرة على وجهها، ثم مرَّر أنامله برفق على ملامحها، كنحَّاتٍ يُتقن فنِّه، يُعيد تشكيل الجمال بعينيه…
وظلَّ يمرُّ بها حتى توقَّفت أصابعه على أثر قُبلاته التي وُشِمت على بشرتها كتراتيلٍ من عِشقه..
ابتسم، ولمعت عيناه بسعادةٍ صادقة، وهمس لنفسه:
– ماأصعب هذا العشق الذي يُصابُ به صاحبه بالجنون…
"كيف لعشقٍ أن يكون نارًا وحنينًا في آنٍ واحد؟ يؤلمك…ثم يُضحكك من فرطِ شوقك، ثم يملؤك بالرضا رغم كلِّ التهشُّم..
لكن رغم ألمه، ممتع…حقًّا ممتع..
دفن وجهه في عنقها، وأفلت ضحكةً رغمًا عنه، وقال ساخرًا من نفسه:
– اتجنِّنت ياإلياس…وبقيت تقول أشعار.
فتحت الجميلة عينيها بصعوبة بعدما شعرت بثقلِ رأسه، وصوت ضحكاته التي أيقظتها من نعاسها:
– إلياس؟!
قالتها بصوتٍ مبحوحٍ بالنوم، حاولت الاعتدال لكنَّها توقَّفت بعدما تذكرت حالتها
اعتدل هو، ومازال يضحك..
-تعرفي انا اللي كنت محتاج علاج مش انتي..ميرال انا بعترف لك دلوقتي بعد اللي عيشته امبارح مش عايز غير انك تحبيني وبس..صمت وتذكر شيئا ثم ارتفعت ضحكاته مرة أخرى ،
رمقته بدهشة بعدما تبسمت على كلماته التي جعلتها فراشة:
– في إيه، بتضحك على إيه،
الساعة كام دلوقتي؟
استند على مرفقيه، يتأمَّلها بعمق كأنَّ عينيه تعيدُ استيعاب ما فعله بها بالأمس:
– جنِّنتيني، يابنتِ الشافعي، مبقتش عارف بعمل إيه.
ظلَّت تحدِّق به دون أن تفهم، فتابعت:
– إنتَ مانِمتش؟.
– وأنام ليه؟!
رفعت كفَّها لجبينه، تتحسَّسه بقلق:
– إنتَ كويس؟
ضحك مجدَّدًا، وهزَّ رأسه:
– مش عارف..بس فرحان، قالها وعيناه تحدق بجسدها الذي ظهر بعضه امامه
جذبت الغطاء عليها بخجل، ثم حاولت الاعتدال اوقفها:
– إنتي بتعملي إيه ياميرال، قالها وهو يشير إلى الغطاء.
ضيَّقت عينيها، تحدِّق فيه باستغراب:
– معقول، تكون شارب حاجة؟!
إنتَ شارب حاجة بجد؟.
ابتسم بعبث وسحب الغطاء منها فجأة، وهو يهمس بنبرةٍ مفعمة بالمكر:
– هقولِّك حالًا…شارب إيه.
ظهرًا، اتَّجه إلى غرفة نجله فلم يجده، خرج إلى الشرفة بعدما التقطت أذناه أصواتَ ضجيجٍ وضحكات، فتوقَّف يراقبهم بابتسامةٍ هادئة...إلى أن وقعت عيناه على "ضي" تجلس على بُعد خطواتٍ وحيدة، منحنيةً على هاتفها، بعيدةً عن أجواء اللعب..ظلَّ يراقبها لدقائق، منتظرًا أن تنهض وتنضمَّ إليهم، لكنَّها بقيت على حالها.
تنهَّد، تراجع إلى جناحه، وفي داخله رغبةً غريبة بالهرب من تلك الفكرة.. وجد ميرال تخرج من الحمَّام، قطرات الماء تتساقط من خصلاتها وهي تجفِّفها بمنشفةٍ صغيرة..ابتسامة دافئة ارتسمت على وجهه وهو يقترب:
حمَّام الهنا، بقالك ساعتين جوَّا.
ألقت المنشفة جانبًا، وطالعتهُ بملامح تتصنَّع الغضب:
دا وعدك ليَّا…أخرج من الحمَّام ألاقي الولاد.
مدَّ ذراعيه يطوِّقها، وكأنَّ حضنه درعًا يحميها من آلامها :
ظلماني…أنا روحت أجيبهم للِّي منكِّدة عليَّا طول الليل، لقيتهم تحت بيلعبوا مع ولاد عمُّهم.
اتَّسعت عينيها بدهشة:
أنا منكِّدة عليك؟.تصدَّق إنتَ مفتري وظالم.
ضحك بصوتٍ عالٍ، ضحكة تحمل شيئًا من التحدِّي لوجعه، حتى جعلها تبتسم دون أن تشعر، رفعت يدها تحتضن وجهه:
وحشتني ضحكتك قوي.
سكت وعينيه لا تفارقها، كأنَّه يحاول أن يُرجع روحها التي ضاعت بين آلام الماضي:
فيه حاجات كتير هتلاقيها وحشتنا…وبكرة هنرجَّعها مادام فيه عزيمة إنِّنا ندوس على وجعنا.
-ربِّنا يخلِّيك ليَّا.
-ويخلِّيكي ليَّا حبيبتي..المهم كمِّلي لبسك علشان ننزل نلفِّ شوية في البلد ونتغدَّى برَّا..ناوي أكسر الروتين شوية، ودا مش علشان أي حد، علشان بس تعرفي إنِّك أهمِّ شخص عندي..
قالها واستدار ليغادر نحو الحمَّام، لكنَّها استوقفته بنداءٍ خافت:
- إلياس…
تقدَّمت إليه، رفعت نفسها تقبِّل وجنته:
- شكراً على كلِّ حاجة.
ارتعشت أنامله وهو يرفع كفِّه إلى خصلاتها، يتأمَّل عينيها بعمق:
بتشكريني على إيه؟…إنتي قدري، سواء رضيتي ولَّا لأ…خلاص، إحنا ارتبطنا ببعض..
يعني ماكانش ينفع تقول مثلاً "متشكرينش" علشان مقدرش أشوفك زعلانة أو حزينة؟
ابتسم، لكنَّها لم تكن ابتسامة كاملة، بل ظلَّ خلفها معاناة فقال:
الكلام دا أقلِّ بكتير من اللي جوَّايا… المهمِّ عندي أشوف ضحكتك، وأشوف ميرال القديمة…مش ميرال اللي وجعها مكسَّرني.
- أوعدك حبيبي.
انحنى يقبِّل جبينها، ثم تمتم:
- متأكِّد، يلَّا اجهزي…ننزل نشوف الولاد، وأشوف ابنك الحيوان لسَّه زعلان ولا خلاص.
- متغلطش فيه لو سمحت.
لا والله…من دلوقتي بتدافعي عنُّه؟
أيوه…علشان هرجع أشوف إلياس تاني وهوَّ بيكبر قدَّام عيني.
للدرجة دي هوَّ يشبهني؟
أوي…نسخة مصغَّرة منَّك، بس فيه اختلاف صغير..
انتظر منها أن تكمل، فتراجعت بخفَّة:
-حنيِّن أوي…ومش مغرور… ويتحبِّ على طول، وأنا مستحيل أخلِّي أي واحدة تقرَّب منُّه.
- لحظة واحدة…لو شوفتك قدَّامي، أقسم بالله ماهرحمك لا إنتي ولا هوَّ، يامتخلفة.
ضحكت وهربت مسرعة، وهو يراقبها بعينينٍ نصفهما حنان ونصفهما ألمًا كاد أن يشقَّ صدره..بقي في مكانه حتى غادرت الغرفة، ثم أغلق عينيه وأطلق تنهيدةً عميقة، كمن يخاطب نفسه في صمت:
وحياة ضحكتك الِّلي سرقوها..ماهسيبهمش، حتى لو حرقت الدُّنيا.
بعد قليل، كان إلياس جالسًا في الحديقة، في مواجهة يوسف الذي ظلَّ يتأمَّله بصمتٍ طويل، كأنَّه يزن كلماته قبل أن ينطق، وأخيرًا قال بنبرةٍ تجمع بين المزاح والجد:
هوَّ حضرتك ناديت عليَّا وناوي ترسمني؟ بقالنا فترة قاعدين، وحضرتك مش بتعمل حاجة غير إنَّك تبصِّ عليَّا.
زمَّ إلياس شفتيه، ثم مال يعبث بخصلاته بلمسةٍ أبويَّة:
هوَّ إنتَ كان لسانك طويل وأنا مكنتش واخد بالي، ولَّا لسانك طول لمَّا مامتك رجعت؟
لا ياحضرتك…ممكن تقول حسِّيت بالأمان أكتر لمَّا هيَّ رجعت.
توقَّف إلياس عن الحركة، ونظر إليه نظرةً أطول، كأنَّه يحاول أن يفهم
ماوراء كلماته..تابع يوسف بصوتٍ أكثر هدوءًا:
كنت خايف، حضرتك في يوم من الأيام تقول عايز تتجوِّز، ودا حقَّك طبعًا ومقدرش أقولَّك لأ، بس أنا…مكنتش عايز أي حد مهما كان ياخد مكان أمِّي.
أشار له إلياس أن يقف، ثم سحب كفِّه برفق، وأجلسه بجواره على المقعد:
إمتى كبرت كدا يايوسف؟
من زمان يابابا…من يوم ماحضرتك بدأت تربِّي ابن إلياس، وكنت عايزه يليق باسمِ إلياس، فكان لازم أكون زي ماحضرتك اتمنِّيت.
لم يتمالك إلياس نفسه، وتجمَّدت الكلمات في حلقه، والدموع تتجمَّع في عينيه كما في عيني يوسف..جذبه إلى صدره، يطوِّقه بقوَّة، وصوته يخرج مبحوحًا:
آسف ياحبيبي…مكنش قصدي أخلِّيك تكبر قبل أوانك، بس مكنتش عايزك تبقى ضعيف..الضعف للراجل وحش، بيضيَّعه، وبيخليه أضحوكة بين الناس.
ابتعد قليلًا، واحتوى وجهه بكفَّيه، يمسح دموعه بإبهاميه، ثم ابتسم رغم الرطوبة في عينيه:
بس دا مايمنعش إنِّي فخور بيك أوي… وعايزك دايمًا كدا، مادمت ماشي صح ومبتعملش غلط.
ابتسم يوسف بثقة خفيفة:
متقلقش ياإلياس باشا…أنا مش ابنِ أي حدِّ برضو، والمهمِّ عندي إنِّ حضرتك متكنشِ لسَّه زعلان من الِّلي حصل…وأهمِّ من دا كلِّه إنِّ ماما سعيدة، وبطَّلت تعيَّط زي ماشمس حكت لطنط غرام.
رمش إلياس، يبحث بعينيه عن شمس:
هيَّ فين؟
توقَّف يوسف لحظة، ثم أشار ناحية البحر:
قاعدة مع ضي هناك مع عمُّو.
أومأ إلياس وربت على ذراعه:
طيِّب خدها واطلعوا غيَّروا، علشان نخرج..وابعت لي عمَّك.
عند أرسلان ..
قبل قليل كانت تجلس بجواره، رأسها مستندًا إلى كتفه، تحدِّق في أمواج البحر المتضاربة كأنَّها تستمع لوشوشاتها:
يعني كده ماما صفية مش هترجع تاني؟
أحاط جسدها بذراعه، وأومأ بثقة:
أيوه…الحمدُ لله.
اعتدلت، تنظر إليه بعينينِ فضوليتين:
أرسلان، إيه الِّلي حصل خلَّا عمُّو فاروق وطنط أحلام يجوا يعتذروا لها؟
هزَّ كتفيه كمن يتظاهر بالجهل:
معرفش، بس أنا متأكِّد إنِّ بابا مايقدرش يعيش بعيد عنها.
تنهَّدت غرام بابتسامةِ ارتياح:
أنا سعيدة أوي علشان رجعت بيتها، لا وكمان أحلام تتنازل عن القصرِ ليها، دي حاجة كبيرة أوي.
أومأ بشرود، وعيناه تسرحُ بعيدًا:
ماما صفية تستاهل تعيش أحسن من الملكة، لأن الخير ده كلُّه بتاعها.
توقَّفت غرام فجأة، ترفعُ حاجباها :
استنَّى بس…مش القصر كان باسمِ عمُّو إسحاق، وهوَّ كتبه باسمك، إزاي رجع لأحلام؟ أنا مش فاهمة..
لكن وصول يوسف قطع حديثهم:
عمُّو…بابا منتظرك في الحديقة.
نهض أرسلان، وكأنَّه يهرب من سؤال غرام، قال وهو يبتعد:
جهِّزي الولاد، هنخرج.
راقبته غرام وهو يتحرَّك بخطواتٍ سريعة، حوَّل يوسف بصره يبحث عن شمس حتى لمحها تركض خلف بلال الذي يقود دراجة..
ارتفع صوتُ غرام:
ضي…بلال، يلَّا علشان هنخرج.
اقترب يوسف بخطواتٍ محسوبة حتى وصل إلى ضي:
عاملة إيه؟
الحمدُ لله.
قالتها وهي تتجنَّبُ النظر إلى عينيه، فاقترب خطوةً أخرى:
لسَّه زعلانة منِّي؟
رفعت كفَّيها بلا اكتراث:
وأزعل منَّك ليه؟ عادي..أوَّل مرَّة تبقى رخم، إنتَ على طول كده…المهم ماما بتنادي، وأنا مش فاضية.
ثم تجاوزته ومضت، تاركةً إيَّاه يلاحقها بنظراتهِ حتى وصلت شمس وهي تضحك:
بابا الشرِّير صحي من النوم؟.
قهقه يوسف، وانحنى يرفعها على عنقه:
آه، وهاخدك أرميكي في الغابة.
انفجرت بالصراخ والضحك وهي تلوِّحُ بقدميها، حتى أنزلها وضمَّها بين ذراعيه:
بس يابت…ليفتكروا إنِّي خاطفك ويحسبوكي عليَّا، عيَّلة صح.
ركلته بقدميها الصغيرة، ثم ركضت نحو الداخل تصرخ باسمِ والدتها، تاركةً خلفها ابتسامةُ يوسف العريضة..
بعد عدة أيام، استيقظ أرسلان على رنين هاتفه يخترق سكون الغرفة. مد يده بتثاقل، ورفع الهاتف إلى أذنه وهو بين النوم واليقظة:
– أيوة…
لم يستغرق صوت المتحدث على الجانب الآخر أكثر من دقيقة، لكنها كانت كفيلة بتهشيم كل ما بناه في سنوات عمره، وإسقاطه في هاوية لا قرار لها. جحظت عيناه، وانتصب جالسًا دفعة واحدة، قلبه يخبط في صدره بعنف، والدموع تفر من عينيه دون استئذان، بينما يكرر في صمت الكلمات التي وقعت على أذنه… كلمات لن تُمحى أبدًا.
أمام منزل في أحد الأحياء الراقية
فتحت الباب بخطوات متسارعة، متجهة إلى الخارج، لكن قدميها تجمدتا، وجسدها ارتجف برعب حين وقع بصرها عليه. كان واقفًا، يمسك نظارته بيده، يستند إلى الجدار وكأنه يعلم خروجها
همست بشفاه مرتجفة، بالكاد تسمع نفسها:
– إلـ… إلياس؟
في مكان آخر
دوّى جرس الباب في أرجاء الشقة، فقطع سكونها المترنح. نهضت من على الأريكة ببطء، تتعثر في خطواتها تحت ثقل الخمور التي ملأت جسدها خمولًا وتعبًا. تحركت مترنحة نحو الباب، فتحت نصف فتحة، وما إن رأت من يقف أمامها حتى اتسعت عيناها بالذهول.
– ميرال؟
ابتسمت القادمة ابتسامة يختلط فيها الألم بال?
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق